أبحاث

أخطاء القضاء

العدد 32

أخطاتمهيد:-

إذا ذكر العدل تمثل الذهن للقضاء, وإذا ذكر القضاء  تداعى إلى الذهن معنى العدل. فالارتباط بين الأمرين وثيق, إذ ليس للقضاء من عمل سوى إحقاق الحق وإبطال الباطل, وذلك عين العدل. والخطأ في القضاء أيا ما كانت صورته لا يستقيم مع معنى العدل, لأن هذا الخطأ يفضي إلى إعطاء حق لغير صاحبه أو إلى حجب حق عن صاحبه. ولما كانت مهمة القضاء هي إعطاء كل ذي حق حقه, فإنه بكون من المتعين الحيلولة دون وقوع القضاء في الخطأ ابتداء , وكذلك  العمل  على تداركه إن وقع. وبعبارة أخرى فإن خطأ القضاء يجب دفعه, فإن تعذر دفعه وجب رفعه.

وللخطأ معنيان: أحداهما شخصي أو ذاتي, ويقصد به الانحراف عن السلوك الواجب, أما الآخر فموضوعي, ويقصد به عدم إصابة الحق أو الحقيقة. والمعنى الثاني أوسع من الأول , فهو يتسع له دائما ويتسع عنه أحياناً. ذلك أن تجنب الخطأ بمعناه الأول مقدور عليه , ولا يخلو الوقوع فيه عن أن يكون على وجه العمد أو التقصير , ومن ثم كان هذا الخطأ موجبا للوم. أما الخطأ بمعناه الآخر فقد يخلو عن العذر أو يلتبس به, وإذا خلا عنه تطابق المعنيان, وإذا التبس به افترقا, وعند الانطباق يكون المخطئ آثما أو ملوماً, ولا يكون كذلك عند الافتراق.

والخطأ بكلا المعنيين ممكن الوقوع بل كثير الوقوع فليس  في الناس من يسلم  منه وهذه القضية لا تحتمل المكابرة, لأن المنازعة فيها تعني إدعاء الكمال وهو ما لم يجهر به من قبل أحد, وما نظن أحدا يجرؤ على الجهر به. ولأمر ما حرصت الكتب السماوية على تسجيل الخطأ بل الخطيئة على الإنسان في أعقاب خلقه, فقد عصى آدم ربه فغوى , ثم لم يلبث قابيل أن قتل أخاه هابيل. وفي الحديث : كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون . والحديث صريح في أن التفاضل بين الناس ليس مناطه التنزه عن الخطأ , وإنما التوبة منه بعد الوقوع فيه.

والقاضي إنسان يفصل في خصومه, وهو بوصفه إنسانا عرضة للخطأ. وخطؤه إما أن يكون نتيجة هوى أو تقصير منه أو قصور فيه أوفي نظام الإثبات الذي يطبقه. وليس بين القضاة من هو معصوم من الخطأ في صورة أو أخرى من صوره ولو كان نبياً . وقد وري عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: إنما أنا بشر مثلكم , وأنكم تختصمون إلى, فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو أوسع منه, فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فال يأخذن منه شيئا فإنما أقطع له قطعة من النار . ولا يعنينا الخوض – في هذا المقام – فيما إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم رغم قضائه من الحق ومن المبطل, وحسبنا أن ظاهر الحديث صريح في أنه من الممكن أن يحكم أحد الخصمين بما ليس من حقه, وذلك هو الخطأ في بعض معانيه[1] .

وفي سورة الأنبياء مثل لإمكان ورود الخطأ حتى على الأنبياء حين يقضون وهو مثل واقعي لا مجرد فرض نظري . قال تعالى : (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ في الحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ) وتذكر كتب التفسير أن سليمان عليه السلام راجع أباه في حكمه وأقترح عليه حكما آخر رآه أصوب فأقره. وقال له: وفقت يا بني, لا يقطع الله فهمك.[2] وثمة واقعة أخرى روتها كتب الحديث , فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : بينما امرأتان معهما أبناهما جاء الذئب فذهب بابن أحداهما , فقالت هذا لصاحبتها : أهما ذهب بابنك أنت وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك , فتحكمتا إلى داود فقضي به للكبرى, فخرجتا على سليمان بن داود عليها السلام فأخبرتاه. فقال : أتوني بالسكين أشقه بينكما , فقالت الصغرى : لا, يرحمك الله, هو أبنها فقضي به للصغرى [3]. واكشف بذلك خطأ ما قضي به نبي الله داود.

ولما كان القضاء موضوعا إنساني الطابع فقد شغلت به كل الشرائع وعنيت بوضع الضمانات والضوابط التي تحول ون وقوع القضاء في الخطأ, كما عنيت بعلاج أو تدارك ما يقع منهم رغم ذلك من خطأ. ويلفت النظر أن الشرائع بوجه عام تتشابه مواقفها وإن تباينت في بعض التفاصيل . وعلة التشابه والتباين مفهومة فليس بين الناس من يقر الخطأ أو يرضى باختلال ميزان العدل , لأن العدل مركوز في الفكر, وهو إلى ذلك ضرورة اجتماعية لا تستقيم بدونها حياة الناس, ومن كان التشابه. لكن عقول الناس تتفاوت في استنباط الحلول وابتداع الوسائل وهذا سر التباين.

وهذا البحث وإن كان يسعى أساسا إلى إبراز موقف الفقه الشرعي من خطأ القضاء, إلا أننا نؤثر التمهيد له بعرض صورة مجملة لموقف القانون الوضعي المعاصر من الموضوع, وقد اخترنا القانون المصري الحالي نموذجاً لذلك. وسوف نعرض كذلك للقانون الوضعي في مواضع أخرى حيث يقتضي المقام ذلك.

وسائل القانون الوضعي إلى درء الخطأ:-

ينحصر عمل القضاء في أمرين : تحري حقيقة الواقع في محل الخصومة أو النزاع , ثم تحري حكم القانون في هذا المحل وإنزاله عليه وإجبار طرفي النزاع على الامتثال له, وكلا الأمرين يمكن أن يتطرق إليه الخطأ. وعلى هذا فخطأ القضاء إما أن يكون خطأ في الواقع أو في القانون.

وتحرص الشرائع الوضعية على درء الخطأ بنوعيه بوسائل شتى ضمانا لسلامة أحكام القضاء.

  • ومن هذا الوسائل ما يتصل بتأهيل القضاة, فالقاعدة أن الفصل في الدعاوي يقتصر على من تخصص في دارسة القانون وحصل على إجازة فيه من إحدى الكليات الجامعية التي تنقطع لتدريسه[4] وعلة إيجاب هذا الشرط واضحة, فالقانون ليس مجرد مجموعات من النصوص , وإنما هو علم يقوم على قواد وأصول ثابتة, وفضلا عن ذلك فإن نصوص القانون في كل دولة تبلغ من الكثرة ما يتعذر على عامة الناس الإحاطة بها. وكلا الأمرين يقتضي ألا يتصدى للفصل في الدعاوي غير من أتيح له الإلمام بأصول القانون ونصوصه.
  • ومن هذا الوسائل أيضا ما يتصل بأهلية القاضي للفصل في الدعوى المعروضة عليه. ويتضمن قانون المرافعات المدنية والتجارية وقانون الإجراءات الجنائية نصوصا تبين الأحوال التي يمتنع فيها على القاضي أن ينظر الدعوى , وكذلك الأحوال التي يجوز فيها للخصوم رده. وعلة هذا الشرط واضحة بدورها, فالقاضي مهما أمعن في التجرد ليس إلا إنساناً ينفعل بما سينفعل به غيره, فهو يحب ويبغض ويتعلق هواه بما يتعلق به هوى غيره, والهوى والحيدة لا يستقيمان , إذ هما نقيضان. ولما كانت الحيدة شرطا لازماً لسلامة حكم القاضي أصلاً, ولاطمئنان الناس إلى حكمة تبعاً, فقد حرص القانون الوضعي – سدا للذرائع – على منع القاضي من نظر الدعوى وجوبا في أحوال وعلى أجازة رده عن نظرها في أحوال . الجامع بين كل هذه الأحوال هو وجود مصلحة خاصة للقاضي – مادية أو أدبية – يحتمل معها أن ينحاز فيحكم في الدعوة على وجه معين.
  • ومن وسائل درء الخطأ تعدد القضاة واشتراط أغلبية خاصة عند إصدار الأحكام في بعض الأحيان . ويجري التشريع الوضعي على تشكيل المحاكم العرفية من قاض فرد,أ/ا المحاكم الأخرى , وهو التي يعن أمامها في أحكام الدنيا, وكذلك المحاكم التي تفصل في الدعاوي ذات الأهمية الخاصة فتشكل من عدة قضاة . والقاعدة أن يكون عددهم فردياً, ويغلب أن يكونوا ثلاثة كما هو الحال في المحكم الابتدائية ومحاكم الاستئناف والجنايات, وق يكونون خمسة كما هو الحال في محكمة النقض . وإذا تعدد القضاة فإنه يكفي لصحة الحكم أن يصدر بأغلبية الآراء, غير أن القانون يشترط الإجماع في أحوال خاصة منها حالة الحكم بالإعدام, وكذلك الحالة التي يتجه فيها الرأي عند نظر الطعن إلى تشديد العقوبة المحكوم بها أو إلى إلغاء حكم البراءة.

والعلة التي دعت المشرع الوضعي إلى تشكيل المحاكم من عدة قضاة هي حرصه الشديد على أن يكون الحك أدنى من يكون إلى الصواب لأن اشتراك جمع من القضاة في تمحيص الدعوة والحكم فيها يجعل احتمالات الخطأ محدودة لما هو معروف من أن رأي الجماعة أسد من رأي الفرد . ولذلك العلة اشترط المشروع إجماع القضاة في الأحوال الخطيرة والدقيقة سدا  لمنافذ الخطأ وتجنبا لأضعف احتمالاته .

  • ومن وسائل درء الخطأ كذلك إتاحة الفرصة لكل خصم أن يبدي ما لديه من دفاع . فهذا الدفاع كفيل بتجليه الحقيقة أمام القاضي, سواء في حقيقة الواقع أو حقيقة القانون.

(هـ)     ومن  هذه الوسائل أيضا تخويل القاضي سلطة واسعة في تحقيق الدعوى, فله أن يدعو للشاهدة من يرى لزوما لسماع شهادته إظهارا للحقيقة , وله أن يندب خبيرا أو أكثر لإبداء الرأي في مسألة فنية وله أن ينتقل لإجراء معانية وله بوجه عام أن يأمر بتقديم أي دليل يراه لازماً لظهور الحقيقة .

(و)      ولعل من أهم وسائل درء الخطأ فرض الرقابة على عمل القضاة. ولهذه الرقابة عدة صور منها التفتيش القضائي عليهم , ومنها تأديبهم إذا ما انحرفوا فأخلوا بواجبات وظيفتهم, ومنها تقرير حق الطعن في أحكامهم , ومنها كذلك مخاصمتهم إذا وقع منهم غش أو تدليس أو غدر أو خطأ مهني جسيم وتتسم الصور السابقة بأن الرقابة فيها داخلية أي يمارسها القضاء نفسه أو بعض أجهزته سواء كانت المبادرة ذاتية من جانبه أو من جانب الخصوم أنفسهم. على أن هناك نوعا آخر من الرقابة يصح وصفه بالرقابة الشعبية. وتتمثل هذا الرقابة في مبدأ العلنية وفي ضرورة تسبيب الأحكام وكلا الأمرين ضمانه فعالة لاستقامة القضاء . ولا شك في أن الرقابة على عمل القضاة في مختلف صورها تسهم إلى حد كبير في حملهم على بذل أقصى الجهد لكن يندرئ الخطأ أو ينحصر في أضيق نطاق.

وسائل القانون الوضعي إلى علاج الخطأ:

قد القانون الوضعي أن الخطأ ممكن الوقوع وغم كل ما قدره من وسائل لتوقيه , ورأي أن الاحتياط لدرء الخطأ يدب استكماله بتقرير الوسائل الكفيلة بتداركه أن وقع وعلاج آثاره إذا تعذر رفعه.

  • ومن هذا الوسائل تصحيح الخطأ المادي فقد خول قانونا المرافعات والإجراءات للمحكمة التي أصدرت الحكم سلطة تصحيح ما تقع فيه من أخطاء مادية بحتة , كتابية أو حسابية وذلك بقرار تصدره من تلقاء نفسها أو بناء على طلب الخصوم.
  • غير أن أهم تلك الوسائل ما يقرره القانون للخصوم من حق الطعن في الأحكام لتصحيحها , سواء بتعديلها أو بإلغاء ما قضت به . وهذا الحق يؤدي وظيفة مزدوجة فهو بمجرده وبغض النظر عن ممارسته كفيل بحمل القضاة على مزيد من العناية فيما يفصلون فيه من دعاوي حذرا من أن تلغي أحكامهم أو تعدل عند الطعن فيها. فتقرير حق الطعن من هذا الوجه عاصم من الخطأ إلى حد كبير, وتلك هي الوظيفة الواقية لهذا الحق . أما الوظيفة الأخرى فتبدو عندما يمارس صاحب الشأن حقه بالفعل وفي هذا الحالة يستهدف الطعن تدارك ما شاب الحكم من خطأ وتصحيحه على نحو يجعله متفقا مع حقيقة الواقع ومطابقا للقانون , وهذه هي وظيفة العلاج أو التصحيح.

وطرق الطعن في الأحكام بوجه عام هي المعارضة والاستئناف والنقض والتماس إعادة النظر. وكل طريق من هذا الطرق تقرر لعلة هي تدارك وجه معين من وجوه الخطأ , سواء كان خطأ محققا أو محتملاً فا\أما المعارضة فطريق للطعن في الأحكام الغيابية, وهي التي تصدر ضد خصم لم يمثل في الدعوة بشخصه ولا بوكيل عنه , ولم يتح له من ثم أن يرد على خصمه بما يدفع دعواه . وأما الاستئناف فطريق للطعن يقصد به إعادة طرح النزاع برمته على القضاء, توسعة على الخصوم وتحريا لمزيد من التحقيق والتمحيص وتداركا لما فات من وجوه الدفاع أملا في بلوغ أقصى ما يمكن بلوغه من ادارك الحقيقة وإمضاء العدالة . وهذا الطريق محل جدل شديد على الصعيد النظري, فمن الفقهاء من يغلو في نقده ويشتد في التحامل عليه, ومنهم من يتحمس للدفاع عنه والإبقاء عليه. وأما النقض فطريق للطعن قصد المشرع الوضعي بتقريره تدارك ما يشوب الحكم من خطأ قانوني , سواء تمثل هذا الخطأ في مخالفة القانون أو في تحصيل الواقع أو في تقديره فلا يصح سببا للطعن بالنقض. وأما التماس إعادة النظر فطريق استثنائي يقد به تدارك الأخطاء الصارخة التي تتعلق بوقائع الدعوى والتي يمتنع الطعن في الحكم من اجلها بطريق آخر من طرق الطعن. ومن أمثلة هذا الأخطاء أن يحكم بإدانة شخص في جريمة قتل ثم يظهر المدعي قتله بعد ذلك حيا, ومنها أن يحكم بإدانة شخص في واقعة ثم يحكم بإدانة غيره بارتكاب عين الواقعة ويكون بين الحكمي تناقض يستنتج منه براءة أحدهما , ومنها أن يبني الحكم على شهادة شاهد يقضي عليه بعد ذلك بالعقوبة المقررة لشاهد الزور , ومنها أن يصدر الحكم بناء على غش من أحد الخصوم.

يجرى التشريع الوضعي بجه عام على تقييد حق الطعن بقيد زمني . وقد أريد بهذا القيد تحقيق التوازن بين مصلحتين كلتاهما جدي بالرعاية , أما الأولى فهي حقيق العدالة , وأما الأخرى فهي استقرار الحقوق المراكز القانونية . فقد قدر المشرع من جهة أن فتح باب الطعن في الأحكام من شانه تحقيق العدالة, وقدر من جهة أخرى أن إغلاق هذا الباب بعد فترة معلومة لازم لكي تستقر الحقوق وتتأكد جدية الأحكام , وإلا تأبدت الخصومات واستحال على القضاء أن ينهض بمهمته ويؤدي رسالته, ولهذا أثبت الحق في العن وأورد عليه ذلك القيد.

  • وثمة وسلة أخرى قدها التشريع الوضعي في مجال خاص هو المجال الجنائي, فالدساتير الوضعية تنص عادة على تخويل رئيس الدولة سلطة العفو عن العقوبة أو تخفيضها. ومما قيل في تبرير هذه السلطة أنها وسيلة يمكن اللجوء إليها لتصحيح خطأ القضاء, وعلى وجه الحديد حين تنسد أبواب الطعن تماما وينقطع كل رجاء في طرق باب القضاء.
  • وأخيرا فهناك طريق التعويض, وهو طريق يسلكه المضرور في بعض الأحوال إذا نفذ الحكم عليه ثم استبان خطؤه وكان تصحيحه بالنسبة إلى المحكوم عليه غير مجد في إزالة ما ناله من ضرر . وهذا تطبيق لقاعدة عامة تقضى بأن كل خطأ سبب للغير ضرر يلزم من ارتكابه بالتعويض . ولهذا يلتزم الشاهد والخبير بتعويض المحكوم عليه إذا ثبت التزوير في جانبهما , ويلتزم الخصم بتعويض خصمه إذا وقع منه غش لم يفطن له القاضي فحكم لصالحه, بل إن القاضي نفسه يلتزم بتعويض الخصم إذا وقع منه غش أو تدليس أو غدر أو خطأ مهني جسيم.

ولكن التشريع الوضعي بوجه عام يقف بتعويض ضحايا القضاء عند حديد معينة لا يجاوزها فهو على سبيل المثال لا يعوض المتهم إذا قضت مصلحة التحقيق بحبسه احتياطيا ثم رئي بعد ذلك عدم تقديمه للمحاكمة أو قدم للمحاكمة – ثم قضي ببارئته, وهو كذلك لا يعوض المحكوم عليه إذا قضى ببراءته وهو كذلك لا يعوذ المحكوم عليه إذا قضي بحبسه أو بسجنه ثم طعن في حكم الإدانة بالنقض أو بالتماس إعادة النظر فقبل عنه وقضي ببراءة , بل أنه لا يعوض ورثة المحكوم عليه إذا قضي بإعدامه ونفذ الحكم فيه ثم طرأ من الأسباب ما دعا إلى الطعن بالتماس إعادة النظر فقضي بان المحكوم عليه كان بريئاً وأنه أعدم بغير حق. ويقال دفاعا عن هذا المسلك التشريعي أن القضاء كان معذورا وأنه لو تقرر الحق في التعويض في هذه الأحوال لألقي على كاهل الخزانة العامة عبء ثقيل يؤودها حمله, وربما تحرج القضاء بسبب ذلك من القضاء بالإدانة وغم قيام موجبها حذرا من تكشف الخطأ مستقبلاً وإشفاقا من إلزام الدولة بالتعويض فيما لو ألغي الحكم وقضي بالبراءة. وقيل أيضا أن الخطأ أمر لا يمكن تجنبه في بعض الأحوال , إذ هو من طبيعة القضاء ولوازمه, وإن علينا جميعا تقبل هذا الخطأ وتحمله باعتباره ثمنا للأمن الذي ننعم به وللعدالة التي نتفيأ ظلالها. ومن التشريعات الوضعية مع ذلك طائفة ترى أن حرمان المضرور من التعويض تماما يجافي العدالة ولذلك فإنها تقرر له من باب المساعدة تعويضا مناسبا ترعى فيه ظروفه وأحواله.

تلك هي الملامح العامة للسياسة التي ينتجها التشريع والوضعي في معالجة أخطاء القضاء وهي سياسية تقوم على توقي الخطأ ابتداء وعلى تداركه حين يقع وعلى التعويض عنه في حديد معينة حين لا يجدي تصحيح الخطأ. والشريعة الإسلامية باعتبارها دينا سماويا أحرص بغير شك على إمضاء العدل من التشريع الوضعي وأق اصطبارا على خطأ القضاء. ولها في درء هذا الخطأ وتداركه وسائل , منها ما ورد به النص صراحة , ومنها ما استنبطه الفقهاء من نصوصها أو من قواعدها الكلية . وتتفق وسائل التشريع الوضعي في جملتها مع الوسائل الشرعية وليس في ذلك غرابة , لأن صحيح المعقول لا يصادم صحيح المنقول. ولما كانت العدالة هي هدف القضاء في كل مجتمع سواء كان مجتمع ملحدين أو أهل دين فمن الطبيعي أن تتشابه الوسائل المؤدية إليها, ويبقى للدين بعد ذلك أو فضلاً عن ذلك سماته الخاصة ووسائله المتميزة . ولهذا قلنا أن بين الوسائل الشرعية والوضعية تشابها والتشابه غير التطابق.

وسوف نجرس على الخطة السابقة في بيان الوسائل الشرعية , فنبدأ أولا بوسائل درء الخطأ ثم نتبعها بوسائل رفعه وكذلك التعويض عنه إن عز الرفع أو بات غير مجد[5] .

أولا: الوسائل الشرعية لدرء الخطأ:

تستوعب هذا الوسائل وسائل القانون الوضعي وتزيد عليها.

  • وتأتي على رأس الوسائل الشرعية مخاطبة الوجدان الديني للقاضي, وذلك ترغيبه في العدل وتحذيره من الجور بل وتنفيره أصلا من تولي القضاء تجنبا لمظنة الجوار أو عدم الإصابة. قال تعالى ” إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ”. وقال صلى الله عليه وسلم : المقسطون عند الله على منابر من نور يوم القيامة على يمين الرحمن عز وجل وكلتا يديه يمين, الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا . وقال ابن مسعود : لأن أجلس فأقضي بين الناس بحق أحب إلى من عبادة سبعين سنة. وقد قضي صلي الله عليه وسلم وقضي من بعده الخلفاء الراشدون وكثير من صالحي الأمة . فكان القضاء بالعدل سنة فوق كونه ضرورة.

أما التحذير من الجور في القضاء فالأحاديث فيه كثيرة والعقاب فيها رهيب, فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: الله مع القاضي ما لم يجر, فإذا جار تبرأ الله عز وجل منه, وقال أيضاً : ما من حاكم يحكم بين الناس إلا يحشر ويوم القيامة وملك آخذ بقفاه حتى يقفه على جهنم ثم يرفع رأسه إلى الله تعلى , فإن قال الله تعالى : ألقه , ألقاه في مهوى أربعين خريفا . وعن عطاء : إذا هلك الحكم عرض عيه في قبره كل قضية قضى بها ,فإن كان في شيء منها خلاف ضرب بمرزبة من حديد ضربه يسعل بها قبره.

والقضاء عند فقهاء الشريعة فرض كفاية لما فيه من مصالح العباد , لكن فيها خطراً فلا ينبغي أن يقدم عليه إلا من وثق بنفسه وكان أهلاً له . ولهذا دخل فيه قوم صالحون وأمتنع عنه قوم صالحون, ويرى بعض الفقهاء أن ترك الدخول أمثل وأصلح في الدين وق أشفق بعض الصالحين على أنفسهم من تولي القضاء لورعهم وخوفهم من عدم الإصابة , ولما صح لديهم من أحاديث تنفر من توليه, فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : من جعل على القضاء فقد ذبح بغير سكين, وروي عنه أيضاً: يأتي يوم يود أن لم يقض بين أثنين في تمرة . ونهي صلى الله عليه وسلم عن طلب القضاء واشتد في نهيه فقال : ستطلبون الأمارة وتكون حسرة وندامة يوم القيامة, فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة , فمن طلب القضاء وأراده وحرص عليه وكل إليه وخيف عليه الهلاك, ومن لم يسأله وامتحن به وهو كاره له خائف على نفسه فيه أعانه الله عليه, وقال أيضاً : ومن طلب القضاء واستعان عليه وكل إليه, ومن لم يطلبه ولا استعان عليه أنزل الله ملكا يسدده.

وصنف رسول الله صلى الله عليه وسلم القضاة فجعلهم ثلاثة , اثنان في النار وواحد في الجنة , فقاض عرف الحق فقضي به فهو في الجنة, وقاض قضي بجهل فهو في النار وقاض عرف الحق فجار فهو في النار . ثم هدأ من فزع القضاة فقال, إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران, وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر, والعلاقة بين الحديثين وثيقة , فالقاضي الذي يؤجر شرعا لا تثريب عليه سواء نال أجرين أو أجراً واحداً . أما الملوم بل المذموم فهو من يتصدى للقضاء وهو لا يحسنه, وذلك هو الجاهل, وكذلك من يحسنه ولكن لا يعدل فيه, وذلك هو الجائر.

وليس أفعل في نفس المؤمن من هز وجدانه الديني, فهو أعظم صارف له على استفراغ الجهد في تحري وجه الحق, ومن ثم فهو كفيل بحصر الخطأ القضائي في أضيق نطاق. ويلاحظ أن هذه الوسيلة لا مقابل لها في التشريع الوضعي, فالقضاء فيه مهما يكن شرفة فهو مهنة يوكل صاحبها إلى القوانين التي تنظمها والتقاليد التي تحكمها, أما في الإسلام فالقضاء قربة وعبادة, وهو كذلك حقيقة لا مجازا , ولهذا لا يعطي القاضي على القضاء أجراً بل يمنح رزقاً, شأن الخليفة والجند المجاهدين. والفرق بين الأجر والرزق دقيق ولكنه عميق, فالأجر إنما يكون على قدر العمل, وهو يستحق شرعاً إلا أن يكون العمل تبرعاً, وتطوعاً, أما الرزق فبحسب الحاجة وعلى قدرها. فإذا انقطع القاضي لعمل المسلمين ولم يكن موسراً لزمتهم مئونته ومئونة من يعول , أما إن كان لديه ما يغنيه فخير له أن يحتسب[6]. ولا مرية في أن القاضي المحتسب أقل عرضة للخطأ من القاضي المستأجر, لأن الأول يتعبد بمطلق القضاء بل بالقضاء الصلب.

  • ومن الوسائل الدارئة للخطأ كذلك الاحتياط الشديد في اختيار القضاة. فقد اشترك الفقهاء فيمن يلي القضاء شروطا لا مقابل لأغلبها في التشريع الوضعي. ومن هذا الشروط ما هو شرط صحة, ومنها ما هو شرط كمال واستحباب. ويعنينا من تلك الشروط – فيما نحن بصدده – ثلاثة, هي العدالة والعلم والفطنة باعتبارها عاصمة من الخطأ إلى حد كبير.
  • اشترط الفقهاء أن يكن القاضي عدلا. ولهم في تعريف العدالة أقوال تقارب في المعنى. يقول الماوردي: العدل من يكون صادق اللهجة ظاهر الأمانة عفيفاً عن المحارم متوقيا للمآثم بعيداً من الريب مأمونا في الرضا ولغضب مستعملاً لمرؤة مثله في دينه ودنياه[7].
  • واشترط فيه كذلك أن يكون عالماً, وأرادوا بذلك العلم بالأحكام الشرعية. وهذا العلم – كما يقرر الماوردي – يشتمل على علم أصولها والارتياض بفروعها. وأصول الأحكام في الشرع أربعة : أحداهما علمه بكتابة الله عز وجل على الوجه الذي تصح به معرفة ما تضمنه من الأحكام ناسخا ومنسوخاً, ومحكما ومتشابها, وعموما وخصوصا, ومجملا مفسراً. والثاني علمه بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة من أقواله من أقواله وأفعاله وطرق مجيئها في التواتر والآحاد, والصحة والفساد, وما كان على سبب أو إطلاق. والثالث علمه بتأويل السلف فيما اجتمعوا عليه واختلفوا فيه ليتبع الإجماع ويجتهد برأيه في الاختلاف. والرابع علمه بالقياس والموجب لرد الفروع المسكوت عنها إلى الأصول المنطوق بها والمجمع عليها حتى يجد طريقا إلى العلم بأحكام النوازل وتمييز الحق من الباطل[8].
  • ويشترط في القاضي كذلك أن يكون فطناً. ويحكي أن اياسا لما ولي القضاء بالبصرة طار صيته في الآفاق حتى جاءه الناس يطلبون منه أو يعلمهم القضاء فكان يجيبهم : إن القضاء لا يعلم , إنما القضاء فهم, ولكن قولوا: علمنا العلم.[9]وهذا الشرط بالغ الأهمية, فليس القضاء مجرد بيان للحكم الشرعي , وإنما هو حكم شرعي مطبق على واقعة حال, فإذا قصر ذكاء القاضي عن فهم الواقعة أو النازلة فلا جدوى من إحاطته بالحكم الشرعي, لأنه ينزله عندئذ غير منزله ويضعه في غير موضعه. وهذا ما عناه عمر بن الخطاب حين كتب إلى أبي موسى الأشعري في كتابه المشهور: الفهم الفهم فيما أدلى إليك ويقول ابن القيم في بيان ذلك ك أن القاضي إذا لم يكن فقيه النفس في الأمارات ودلائل الحال ومعرفة شواهده , وفي القرائن الحالية والمقالية كفقهه في جزئيات وكليات الأحكام أضاع حقوقا كثيرة على أصحابها وحكم بما يعلم الناس بطلانه ولا يشكون فيه أعمادا على نوع ظاهر لم يلتفت إلى باطنه وقرائن أحواله[10]. ويقول أيضا أن القاضي لا يتمكن من الحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم , أحداهما فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيك به علما, والنوع الثاني فهم الواجب في الواقع, وهو فهم حكم الله الذي حم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع, ثم يطبق أحدهما على الآخر فيعطي حكمه من الواجب ولا يجعل الواجب مخالفا للواقع[11].وهذا القول غاية في العمق والدقة, ذلك إننا إذا استبعدنا تواطؤ القاضي فإن حكمه إنما يغمز من أحدى جهتين : جهله بحقيقة الواقع, أو بالحكم الواجب في هذا الواقع.

وبين القرافي في فروقه السند الشرعي لشرط الفطنة بقوله: يجب أن يقوم القضاء من هو أعرف بالأحكام الشرعية وأشد تفطناً لحجج الخصوم وخدعهم, وهو معنى وقله عليه الصلاة والسلام: أقضاكم على , أي أشد تفطنناً لحجج الخصوم خدع المتحاكمين, وبه يظهر الجمع بينه وبين قوله عليه الصلاة والسلام: أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل . وإذا كان معاذ أعرف بالحلال والحرام, كان أقضى الناس, غير أن القضاء لما كان يرجع إلى معرفة الحجج والتفطن لها كان أمرا زائداً إلى معرفة الحلال والحرام , فقد يكون الإنسان شديد المعرفة بالحلال والحرام وهو يخدع بأيسر الشبهات, فالقضاء عبارة عن هذا التفطن[12].

والشروط المتقدمة كفيلة بالحد من خطأ القضاء إلى أقصى مدى, فأما العدالة فمانعة من الجور وأما العلم فمانع من الخطأ في الحكم الشرعي, وأما الفطنة فمانعة من الخطأ في مسائل الواقع. والحق أن هذه الشروط لازمة في القضاء بعامة, سواء كان قضاء شرعياً أو غير شرعي.

وإذا كان التشريع الوضعي لا ينص على بعض هذه الشروط فذلك لا يعني عدم لزومها لأن القضاء فن فهم الواقع والعلم بالحكم الواجب فيه, فكان العلم والفطنة ونقاء الضمير من لوازمه وإنما ينحصر الفرق بين القانون الوضعي والفقه الشرعي في أن الأول يعتبر كل من يحوز المؤهل القانوني المطلوب فطناً بحكم اللزوم وعدلاً أيضا بشيء من الكشف والاستقصاء, إما الفقه الشرعي فيطلب كل شرط على حدته, مع اختلاف الفقهاء في طبيعة كل شرط وهل هو للصحة أو للكمال والاستحباب.

  • ويحسن التنبيه في هذا الصدد إلى أنه لا ينبغي الخلط بين صورة القضاء الشرعي وصورته الواقعية في بعض مراحل التاريخ فنحن لا ننكر أن كتب التاريخ وتراجم القضاة رسمت للقضاء في بعض العهود صورة لا تخلو من قتامه, إلا أن ذلك لا يصلح حجة على فساد النظام القضائي أو قصوره في الشريعة الإسلامية. فالقضاء في تلك العهود لم يكن إسلامياً بمعنى الكلمة لأن بعض من ولوه لم تكتمل فيهم شروطه. ولم يقتصر الخلل في تلك العهود على القضاء وحده, بل شمل الولايات كلها, وعلى رأسها الخلافة نفسها. والدليل الواضح على سلامة التنظيم الشرعي للقضاء هو تلك الصورة المشرقة التي تطلعنا في كتب التاريخ ومدونات الفقه وتراجم القضاء في صدر الإسلام. فهذه الفترة من التاريخ الإسلامي هي وحدها التي يصح الاستشهاد بها, أنا ما عداها فلا يحتج بها إلا تقدر ما يكون فيها من التزام بأحكام الشريعة الإسلامية. وهذا الظاهرة ليست وقفا على الشريعة وحدها, بل هي عامة على كل الشرائع والنظم فالعبرة إذن ليست بالأسماء بل بالمسميات وليس النظم صحة وفساد من خلال سوء الممارسة والتطبيق في بعض العهود.

ومن وسائل درء الخطأ أيضا إلزام القضاء بمشاورة العلماء. فقد استحب الفقهاء للقاضي إلا يقضي إلا في حضرة أهل العلم وبمشورتهم, فذلك أدعى إلى إحسان الحكم وإصابة وجه الحق. وغير أنهم مع ذلك أشفقوا على بعض القضاة مما قد يعروهم من حصر أو اضطراب في حضرة بعض العلماء , فأجازوا – بل استحبوا- لم يستحوذ عليه هذا الشعور ألا يدعو العلماء إلى مجلسه حتى لا يشغله وجودهم عن متابعة الدعوى ويصرفه عن تفهمها . جاء في معين الحكام وفي تبصره الحاكم : قالوا لا يقضي القاضي إلا بحضرة أهل العلم ومشورتهم, وقال البعض إلا أن يخاف المضرة في جلوسهم وينشغل قليه بهم وبالحذر منهم حتى يكون ذلك تقصانا في فهمه فأحب إلي ألا يجلسوا إليه . وقال بعض الفضلاء : لا ينبغي للقاضي أن يكون معه في مجلسه من يشغله عن النظر , كانوا أهل افقه أو غيرهم ولكن إذا أرتفع عن مجلس القضاء شاور[13] ويتضح من ذلك أن الفقهاء يحلون القاضي من دعوة أهل العلم تخفيفا عنه ورفعا للحرج, لكنهم لا يرون مسوغاً لإحلاله من الرجوع إليهم واستشارتهم فيما يعرض له أو يطرح عليه, فالمشاورة آكد من الحضور.

واستحباب المشورة لا يخص فئة بعينها من القضاة دون غيرها , بل هو عام بالنسبة للقضاة جميعا ولو كانوا من ذوي الرأي أو من طبقة المجتهدين.

ويلاحظ أن القانون الوضعي لا يعرض لهذا الموضوع صراحة ولا إيماء, وهو يأمر القضاة بالاستشارة ولا ينهاهم عنها, بل هو لا يحسنها ولا يقبحها. وقلما يعمد القضاء في واقع أمرهم إلى استشارة غيرهم , وإذا فعلوا فللضرورة ومع خاصتهم , ثم إنهم يتكتمون الأمر ظناً منهم أن استشارة الغير نقيصة تحط من قدرهم وتقدح في كفاءتهم. أما في الفقه الشرعي فإن من شروط الكمال أن يكون القاضي مستشيراً , ومما يعاب عليه أن يكون مستبداً برأيه. وكان الخلفاء يحرصون عند تولية القضاة على دعوتهم لاستشارة العلماء. كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة: أما بعد , فإن رأس القضاء إتباع ما في كتاب الله ثم القضاء بسنة رسول الله, ثم حكم الأئمة الهداة, ثم استشارة ذوي الرأي والعلم السائل عما لا يعلم أحد العالمين.

وهذا الشرط ليس غريبا على الشريعة الإسلامية, بل هو يتفق تماما مع روحها العامة ومبادئها الكلية. والأصل فيه قوله تعالى في مدح المؤمنين: وأمرهم شورى بينهم , وقوله مخاطباً بينه الكريم: وشاورهم وفي الأمر وإذا كان رسول الله قد أمر بالمشاورة وهو أفقه الناس وأفطنهم فغيره بطلب المشورة أحرى. يقول الحسن البصري: أمر صلى الله عليه وسلم بالمشاورة وإن كان عنها لغنيا, لكن المراد أن تصير المشاورة سنة للحكام من بعده[14]. وكان الصحابة يستشيرون حين يقضون ولا يجدون في ذلك حرجاً فقد سئل أبو بكر عن ميراث الجدة أم الأم فأخبر أن النبي عليه السلام أعطاها السدس , وشاور عمر في الجدة أم الأب ثم  سيبنيبس سمشبفرض لها السدس, وشاور في دية الجنين فأخبر أن النبي قضي فيه بغرة عبد أو أمه\ة. وكان عثمان بن عفان إذا جلس أحضر أربعة من الصحابة ثم استشارهم. ويقول الماوردي تأصيلا لاستحباب المشورة : أن القاضي قد يخفي عليه من أحكام الحوادث والنوازل ما يكون علمه عند غيره, فلم يجز له أن يمضي حكمه على التباس واحتمال. كذلك فإن القاضي مجتهد وعلى المجتهد التقصي في اجتهاده, ومن التقصي أن يكشف بالسؤال ويناظر في طلب الصواب.[15]

ويلفت النظر أن القانون الوضعي يجيز للمحكمة – سواء تلقاء نفسها أو بناء على طلب الخصوم- أن تعين خبيرا أو أكثر في الدعوى ليمد القاضي بالرأي الغني فيما يستغلق أو يلتبس عليه من وقائعها , ولكنه مع ذلك يمسك عن دعوته إلى طلب المشورة في المسائل القانونية. وربما كانت العلة في ذلك أن نصوص القانون اليوم في متناول يد القاضي وأن آراء الفقهاء والسوابق القضائية مدونة كلها يسهل الرجوع إليها, فلا تعن الحاجة لسؤال أو استشارة.

وقد يكون هذا في غالب الأحوال غير أن التجارب دلت على أن القضاة يوجهون في بعض الأحيان مشاكل جديدة وتشريعات مستحدثة وقد لا تسعفهم النصوص القانونية ولا يغنيهم ذلك عن طلب المشورة. وإذا كان صحيحا أن القانون الوضعي لا يحظر صراحة على القاضي استشارة غيره, إلا أن المستقر في أذهان القضاة كما أسلفنا النظر أن طلب المشورة لا يستقيم مع روح القانون وأنه إقرار ضمني بالعجز, ومن ثم فهي نقيصة يتعين على القاضي التنزه عنها.

ولما كانت المشورة في الفقه الشرعي شرط كمال فالمتفق عليه أن إغفالها لا يقدح في حكم القاضي , بل ينفذ حكمه رغم ذلك ما لم يخالف فيه نصا أو قاعدة كلية أو إجماعا أو قياسا جليا, وإن كان ذلك منه مكروها, وإذا شاور القاضي فاختلفت أقوال المستشارين نظر إلى أقرب الأقوال إلى الحق فأمضاه , ولا اعتبار عندئذ بالسن ولا بكثرة العدد , لأن الأصغر والواحد – كما يقولون- قد يوفق للصواب في حادثة ما لا يوفق الأكبر والجماعة.[16]

وإذا اجتمع المستشارون على رأي ورأي القاضي خلافه عمل برأي نفسه, لأن الصواب عنده , فال يدع رأيه برأي غيره. ولا خلاف بين المذاهب الفقهية في ذلك , لأن القاضي إذ يستشير لا يتخلى لغيره عن الفصل في الدعوى, بل يستأنس برأيهم ثم يجتهد كاجتهادهم وينظر فيما استدل به كل منهم ويناظرهم ويناظرونه, لا نصرة لقوله بل طلبا للحق, فإذا صح له الصواب بعد الكشف والنظر عمل عليه وحكم به[17] , سواء وافق رأيهم أو خالفه.

ويحرص الفقهاء على تحرير القاضي من الخوف والتردد عند الفصل في الدعوى, وعلى حثه على الحكم فيها تبعا لما يؤدي إليه اجتهاده بعد المشاورة. ويبدو ذلك بوضوح تام فيما قرره الكاساني: فإذا ظهر له الحق باجتهاده قضي بما يؤدي إليه اجتهاده, ولا يكون خائفا في اجتهاده بعد ما بذل كمجهوده لإصابة الحق, فلا يقولن أني أري وأين أخاف, لان الخوف ولاشك والظن يمنع من إصابة الحق ويمنع من الاجتهاد بعد أن لم يقصر في طلب الحق.[18]

وهكذا أتاح الفقه الشرعي للقاضي – بندبه للمشاورة- فرصة واسعة لتجنب الخطأ وإصابة الحق إذا أشكل عليه حكم الواقعة أو النازلة , لأن من شاور الرجال شاركها في عقولها, ولكن الفقه الشرعي حرص في الوقت ذاته على أن يكفل للقاضي حرية الفصل في الدعوى حسبما يؤدي إيه اجتهاده , فجعل المشاورة رأيا يهتدي به ولم يجعلها قيداً يحد من حركته وحريته.

والحديث عن استشارة العلماء يجر إلى الحديث عن تعدد القضاة, فهل أراد فقهاء الشريعة أن يتكون الاستشارة بديل عن التعدد, وهل يعني ذلك أن أصول الشريعة تأبى اجتماع أكثر من قاض على الفصل في دعوى واحدة في وقت واحد.

يبدو من استقراء المذاهب الفقهية أن الفقهاء لا يجيزون اجتماع أكثر من قاض على نظر الدعوى , فقد ذكر ابن رشد في بداية المجتهد أن من شروط القضاء أن يكون القاضي واحد,[19] وقرر الغزالي أنه لو نصب الإمام قاضيين كل واحد يختص بطرف جاز, وإن شرك اتفاقهما في كل حكم لم يجز[20] وعلل بعض الفقهاء حظر التعدد بأن الحاكم لا يكون نصف حاكم[21] , وعلله آخرون بان العدد يؤدي إلى الخلاف في تمحل الاجتهاد[22], وجرت سنه الخلفاء والولاة بوجه عام على عدم التشريك بين القضاة, فلم بجر العادة بتشكيل المحكمة من أكثر من قاض, بل كان القاضي يعلم منفردا ويستقل وحده بالفصل فيما يختص بنظره من دعاوي. غير أن العلم لم يطرد على ذلك بإطلاق, فقد ثبت أن الولاة شكلوا في بعض الفترات محاكم من عدة قضاة. من ذلك ما فعله سليمان بن على عامل الخليفة المنصور على البصرة, فقد ولي على القضاء اثنين هما عمر بن عامر السلمي وسوار بن عبد الله , فكانا يجتمعان معاً في المجلس وينظران جميعا بين الناس. ومن ذلك أيضا أن بعض الخصومات الهامة كانت تنظر – في القرن السابع الهجري – في كل من القاهرة ودمشق أمام أربعة قضاة يملون المذاهب المختلفة , فكان القضاة يجتمعون بأمر نائب السلطان وينظرون في تلك الخصومات يحكمون فيها بأجمعهم[23].

وعلى الرغم من ذيوع القول بوجوب أن يكون القاضي واحد فإن القائلين به لم يستندوا إلى نص يقرره في الكتاب أو السنة , وإنما هو محض اجتهاد ثم أنه اجتهاد يعتمد المنطق المجرد أكثر مما يعتمد الأصول الشرعية, فقد وجه بعض الفقهاء هذا الرأي بان الحاكم لا يكون نصف حام, والمعنى – في رأيهم – أنه إذا أجتمع اثنان وشرطنا اتفاقهما على الحاكم فإن كلا منهما لا يكون قاضيا بمفرده, بل يكون كذلك بغيره فكأنه بدون الآخر نصف لا واحد. وهذا القول بفرض صحته ليس بشيء , لأن تكامل القاضي أو تجزاه ليس أمرا جوهريا, وإنما الجوهري أن يأتي الحكم موافقا للشرع, سواء صدر من حاكم واحد في ذاته أو من حاكم صار واحداً باجتماع أبعاضه وأجزائه. والتعليل في رأينا منقوض لأن فيه مصادر فهو يفترض أن الحاكم لا يكون واحد إلا إذا صدر من قاض واحد, وهذا محل النزاع. أما التعليل الآخر فمعقول, وهو الخوف من أن يؤدي اختلاف القضاة عند تعددهم إلى امتناع الفصل في الدعوى وإلى تأبيد الخصومات. غير أن تفادي هذا الحظر ميسور يجعل عدد القضاة فردياً وباشتراط أغلبية خاصة عند أخلاف الآراء.[24]

وحقيقة الأمر فيما نرى أن وحدة القاضي أو تعدده هو من السياسة لا من الشرع, وأن ما ينبغي تحريه وصرف الجهد إليه هو ضمان سداد الحكم فإن رأي أن السداد يتحقق على يد قاض واحد صح الاكتفاء به, وإن رأي أن تعدد القضاة أدعى إلى إصابة الحق لزم تعددهم. ولا يقال أن العمل جرى في عصر النبي والخلفاء الراشدين من بعده ثم فيما تلا ذلك من عصور على حصر القضاء في واحد فيكون إجماعاً, فهذا الإجماع – على فرض حصوله وهو غير مسلم – مستند المصلحة المرسلة, فهو يدور عليها ولا ينفك عنها, فحيثما بقيت المصلحة قائمة ظل الجماع حجة, وإذا فاتت وجب اطراحه والاستعاضة عنه بما يحققها . وآية ذلك أن العمل – كما رأينا- لم يلتزم الرأي الفقهي بإطلاق, بل خرج عليه في بعض العصور من غير إنكار.

بل إن الفقهاء أنفسهم لم يرفضوا فكرة التعدد في كل حال, فقد ذلك صاحب مغني المحتاج أن الإمام أن شرط اجتماع القاضيين على الحكم فلا يجوز لما يقع بينهما من الخلاف, ثم أضاف : وقضية هذا التعليل أنه لو ولي مقلدين لإمام واحد – وقلنا تجوز ولاية المقلد – أنه يجوز وإن شرط اجتماعهما على الحكم, لأنه لا يؤدي إلى اختلاف لأن أمامهما واحد.[25]

وحاصل هذا القول أن التعدد غير مرفوض لذاته, بل لما يؤدي إليه من اختلاف, فإذا ارتفع الخلاف لم يكن للمنع مساغ. كذلك فإن الفقهاء يقيدون الحظر من جهة أخرى, فهم يقصرونه على القضاة دون المحكمين , ويعللون ذلك بسابقة التحكيم بين على ومعاوية فقد اختارا حكمين لا واحد.[26] كأن الفقهاء يريدون بذلك القول بأن تنصيب حكمين جاء على خلاف الأصل وهو أن يكون الحكم واحدا. ووجه الضعف ي هذا الرأي أن الأصل المدعي يفتقر إلى دليل. هذا إلى أن المحكم والقاضي كلاهما يفصل في خصومة طبقا لأحكام لشريعة, فإذا جاز أن يتعدد المحكمون وجب أن يكون تعدد القضاة جائزاً بدوره لانتفاء علة المغايرة بين الحالين.

ويذهب المحدثون من فقهاء الشريعة إلى إجازة التعدد , لان القاضي نائب السلطان, وهو نوع من الوكالة , وللموكل أن يوكل عنه أكثر من واحد مجتمعين دون أن يأذن لأحدهم بالإنفراد, فكذا في القضاء يصح إنابة ثلاثة قضاة مثلا أو خمسة ليشتكوا مجتمعين في نظر بعض الداوي التي يجعل لهم ولي الأمر حق النظر فيها. وعندئذ لا يصح لواحد منهم أن ينفرد باستماع أحدي الدعاوى أو الفصل فيها . وإذا فعل أحدهم شيئا من ذلك فلا اعتبار لما فعل , لأن مجموعهم في هذا الحالة إنما هو عبارة عن الفرد الواحد, إذ عقد الإنابة بقيد أن كل واحد منهم يعتبر معزولا عن القضاء بمفرده لأنه لم ينصب لذلك مستقلا , بل مشتركا مع الآخرين, وهذا مما يمكن فيه الاشتراك[27].

ويمكن أن نضيف إلى ما احتج به هذا الرأي حجتين أخريين:

الأولى: أن الأصل في الأشياء الإباحة, وما دام التعدد غير محظور بنص فهو يجري على حكم الأصل.

الثانية: أنه إذا ما رأي ولي الأمر رفع الخلافة فيما يحتمل الخلاف فأوجب على القضاء أن يحكموا برأي فقهي معين فإن أمره يلزمهم, وعندئذ يمتنع عليهم الاجتهاد فال يخشى الاختلاف, وهو علة المنع عند المانعين. ولهذا فقد ارتضى فقهاء الشريعة في العصر الحديث فكرة التعدد في قضاة المحاكم الشرعية قبل أن نلغي هذه المحاكم في مصر في سنة 1955.

ونلخص من كل ما سبق إلى أنه وإن كان الفقه الشرعي التقليدي لا يقر بوجه عام مبدأ تشكيل المحكمة من عدة قضاة, وكان العلم بدوره لم يطرد على تشكيل المحكمة على هذا النحو, إلا أن الأصول الشرعية لا تأبى ذلك , بل ا، صدر الشريعة يتسع لهذه الوسيلة باعتبارها من الضمانات التي تسهم في الحد من أخطاء القضاء. وربما لم تكن الحاجة ملحة للأخذ بمبدأ التعدد نظرا لندب القضاة إلى استشارة العلماء, لكن عدم الحاجة لا يقتضي الحظر , ولذلك فإنه لا يصح اعتبار الاستشارة بديل من الندب , بل أن الجميع بينهما يمكن شرعا لعدم التنافي.

  • ومن الوسائل الشرعية لدرء الخطأ منع القاضي من نظر طائفة من الدعاوى يخشى أن يغلبه الهوى عند الفصل فيها فيتخلى عن الحياد والواجب ويتنكب جادة الحق, وتلك هي الدعاوى التي تكون له مصلحة في أن يصدر الحكم فيها لأحد الخصوم أو عليه.

وجمهور الفقهاء على أنه لا يجوز للقاضي أن يحكم لنفيه ولا لم لا تقيل شهادته له, ولا يجوز له أيضا أن يحكم على من لا تقبل شهادته عليه كعدوه, وذلك لأن مبني القضاء عندهم على الشهادة, فالتهمة القادحة في الشهادة تقدح في القضاء سواء بسواء. وسندهم في المنع من الشهادة أحاديث وروايات صحت كلها أو بعضها لديهم فرتبوا المنع عليها. ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة وال ظنين في ولاء أو قرابة ولا مجلود في حد, ومنها ما أثر عن عمر بن الخطاب في كتابة إلى أبي موسى الأشعري : المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد أو مجريا عليه شهادة زور أو طنينا في ولاء أو في قرابة, ومنها ما روي عن شريح : لا تجوز شهادة الخصم ولا الشريك ولا الأجير لمن استأجره.

وعلى الرغم من اتفاق الجمهور على أصل المنع وعلته مختلفون في تحديد من يقوم به سبب المنع, وعلى الأخص حين يدور المنع على القرابة , فقد روي عن شريح وإبراهيم النخعي أنه لا تقبل شهادة الأب لأبنه ولا الابن لأبيه ولا أحد الزوجين للآخر .

وروي ذلك عن الحسن والشعبي في أحد قوليهما عن الأب والابن في القول الآخر يقبل الولد لأبيه ولا يقبل الأب لولده, ويقبل الزوج لامرأته ولا تقبل هي له, وهو قول ابن أبي ليلي وسفيان الثوري. ولم يجز الأوزاعي الثوري ,أحمد بن حنبل وأبو عبيد شهادة الأب لابنه ولا الابن لأبيه, وأجازوا شهادة الجد والجدة لأولاد بينهما وشهادة أولاد البنين لهما. ولم يجز أبو حنيفة والشافعي أجاز شهادة كل واحد من الزوجين للآخر.وروي أن عمر بن الخطاب جوز شهادة الوالد لولده والولد لوالده والأخ لأخيه[28].

وكره الملكية وبعض فقهاء الحنابلة والشافعية أن يفتي القاضي في خصومه أو فيما يمكن أن يختصم فيه لديه , كالبيع والشفعة والجنايات أما العبادات فلم يكرهوا له الإفتاء فيها. وعلة الكراهية عندهم أن الأمر قد يعرض على القاضي وقد يتغير رأيه وقت نظر الدعوى فيهديه اجتهاده إلى غير ما أفتى به أو تظهر له في مجلس القضاء قرائن حال لم تكن معلومة وقت الإفتاء, فغن أصر على فتياه وحكم بموجبها حكم بخلاف ما يعتقد صحته وإن حكم بخلافها تطرق الشك إلى نفس الخصم وانفتح باب الكلام في القاضي, بل أنه إن حكم صوابا بما يوافق فتواه فربما قيل أنه حكم لتأييدها.[29]

ولنا على أقوال الفقهاء في هذه الوسيلة ملاحظات:

الأولى: أن المنع في الأحوال السابقة ليس منعاً من نظر الدعوى بل من القضاء فيها على وجه معين , ولهذا قال الفقهاء: ليس للقاضي أن يحكم لنفسه ولا لأحد من والديه أو أولاده لكن يجوز له أن يحكم على نفسه وعليهم لانتفاء التهمة وليس له أن يحكم على عدوه لكن له أن يحكم له لذات العلة. ومقتضى ذلك أن الترافع إلى القاضي في الأحوال السابقة غير ممتنع وأن تحقيق الدعوى من جانبه جائز فإذا تهيأ القاضي للحكم برز المانع أو أنعدم تبعا لما يكون عليه القضاء . ولهذا رتبت الفقهاء على المخالفة عدم النفاذ فقالوا: إن حكم لمن لا يجوز أن يحكم له أو حكم على من لا يجوز له الحكم عليه لم ينفذ حكمه. ويختلف هذا التنظيم عما هو مقرر في القانون الوضعي فالقاعدة فيه أنه إذا قام بالقاضي سبب من أسباب عدم الصلاحية امتنع عليه نظر الدعوى أصلا, وكل عمل يباشره أو قضاء يصدره بالمخالفة لهذا الحظر يكون باطلا ولو ثم باتفاق الخصوم, وذلك لتعلق الحظر بالنظام العام. ومن الواضح أن القانون الوضعي آثر سد الذرائع فمنع القاضي من نظر الدعوى ابتداء.

والثانية: أن فقهاء الشريعة لم يستندوا في الحد من سلطة القاضي في نظر الدعوى أو بالأدق في الفصل فيها إلى نص صريح في الكتاب السنة, لكنهم اجتهدوا فقاسوا القضاء على الشهادة بجامع أن كليهما مظهر للحق وملزم شرعاً[30], فمن ردت شهادته بسبب التهمة في موضع وجب أن يرد قضاءه لذات السبب في هذا الموضع. ولما كان فقهاء الشريعة مختلفين أصلا فيمن تقبل ومن لا تقبل شهادته فقد اختلفوا فيمن يصح ومن لا يصح للقاضي أن يقضي له أو عليه, ومن الفقهاء من توسع في الحد من سلطة القاضي ومنهم من توسط ومنهم من أطلق سلطته فأجاز له نظر كل دعوى والفصل فيها ولو كان بينه وبين أتحد الخصوم مودة أو قرابة أو عداوة, وهذا قول أهل الظاهر, فهم يكتفون بشرط العدالة في كل من الشاهد والقاضي ولا يبالون بعد ذلك بالتهمة إلا إذا كان من شأنها إخراج أحدهما – لعلة تخصه- إلى ما لا يحل فتكون جرحه تتخرم بها عدالته فال تقبل شهادته ولا قضاؤه, وعندئذ يكون مبني المنع تختلف العدالة لا مظنة التهمة. يقول ابن حزم: كل عدل فهو مقبول لكل أحد أو عليه كالأب والأم لبنيهما ولأبيهما , والابن والابنة للأبوين والأجداد والجدات والجدة لبني بنيهما , والزوج لامرأته والمرأة لزوجها, وكذلك سائل الأقارب بعضهم لبعض كلأ باعد ولا فرق وكذلك الصديق الملاطف لصديقه, والأجير لمستأجره, والمكفول لكافله, والمستأجر لأجيره, والكافل لمكفوله, والوصي ليتيمه[31]. وفي جواز شهادة العدو على عدوه يستدل ابن حزم بقوله تعالى : (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [32], ويقول : أن هذا أمر بالعدل على أعدائنا, فصح أن من حكم بالعدل على عدوه أو صديقه أو لهما أو شهد وهو عدل على عدوه أو صديقه أو لهما فشاهدته مقبولة وحكمه نافذ[33].

وعلى الرغم من أن جمهور الفقهاء يديرون المنع من الحكم للخصم أو عليه في أحوال معينة على المنع من الشهادة إلا أنه يبين من أقوال بعضهم أن التلازم بين الأمرين ينفك أحياناً, يقول الماوردي: يجوز للقاضي أن يحكم على والديه ومولوديه, وفي جواز حكنه لهم ثلاثة أوجه : أحدها لا يجوز حكمه لهم كمالا تجوز شهادته لهم , الوجه الثاني يجوز أن يحكم لهم وأن لم يجز أن يشهد لهم , لأن طريق الحكم طاهر وطريق الشهادة باطن, فتوجهت إليه التهمة في الشهادة ولم تتوجه إليه في الحكم, والوجه الثالث أنه يجوز أن يحكم لهم بالإقرار – أي إقرار الخصم- ولا يجوز أن يحكم لهم بالبينة , لأنه قد يتهم بأن يعدل فيها من ليس بعدل ولا يتهم بالإقرار[34]. وفي هذا تسليم بإمكان القضاء لمن لا تجوز الشهادة له. وبالنسبة إلى العدد يقول الماوردي: ويجوز أن يحكم لعدوه وعلى عدوه وجها واحداً وإن لم يجز أن يشهد عليه بخلاف الوالدين والمولودين لوقوع الفرق بينهما من وجهين: أحدهما أن أسباب العداوة طارئة نزول بعد وجودها وتحدث بعد عدمها, وأسباب الأنساب لازمة لا تحول ولا تزول فغلظت هذه وخففت تلك والثاني أن الأنساب محصورة متعينة, والعداوة منتشرة مستبهمة يفضى ترك الحكم فيها إلى امتناع كل مطلوب – أي خصم- بما يدعيه من العداوة[35]. وعندنا إي علة التفرقة بوجهيها أن صلحت لتبرير القضاء على العدو فإنها لا تصلح بنفس الدرجة لتبرير الشهادة على العدو. وحسبنا على أي حال مما تقدم أنه يصح في الشرع القضاء على من تجوز الشهادة عليه.

وعندنا أن جمهور الفقهاء ضيقوا على أنفسهم بغير داع حين ربطوا المنع من القضاء بالمنع من الشهادة . فقد اضطر بعضهم – كما رأينا – إلى الخروج على هذه القاعدة إحساساً منهم بأن ألتلازم بين الأمرين غير حاتم. ولو أنهم تحرروا من هذا الفكرة لوسعهم أن يعالجوا الأمر في ضوء القواعد الكلية بما يحقق المقاصد الشرعية وكان لهم في قاعدة شد الذرائع مندوحة تفي الغرض كما سنرى.

والثالثة: أن حالات المنع من القضاء في الفقه الشرعي أقل عددا من نظيرتها في القانون الوضعي. فأكثر فقهاء الشريعة توسعا يحصرون المنع في الحالات التي تكون علاقة القاضي بأحد الخصوم فيها علاقة بنوة أو أبوة أو زوجية أو مشاركة أو علاقة عمل أو وكالة أو عداوة . أما سبق الفتوى في موضوع الدعوى فليس مانعاً من القضاء فيها, لأن الحظر – أو بالدق الكراهية – إنما يرد على الإفتاء لا على القضاء . فالفقهاء يكرهون للقاضي أن يفتي, لكنهم لا يمنعونه إذا أفتى من أن يقضي. أما القانون الوضعي فيقسم الموانع قسمين: قسم يجعل القاضي غير صالح أصلا لنظر الدعوى ولو ارتضاه الخصوم أنفسهم, وقسم لا ينفي صلاحيته ولكنه يجيز للخصوم رده. وقد اعتبر القانون كل الموانع الشرعية ثم زاد عليها موانع كثيرة أخرى . فهو على سبيل المثال لا يقف عند الأبوة والبنوة بل يعتد بالقرابة حتى الدرجة الرابعة, سواء كانت قرابة مباشرة أو قرابة حواش وهو من جهة أخرى لا يقتصر على علاقة الزوجية لب يسوي بين الزوجة والأصهار حتى الدرجة الرابعة ويجعل علاقة المصاهرة كعلاقة القرابة سواء بسواء. كذلك فغنه يمنع القاضي من نظر الدعوى إذا كانت له أو لأحد أصوله أو فروعه أو لزوجته أو لأحد أصولها أو فروعها مصلحة فيها.وهو يمنع القاضي من نظر الدعوة إذا كان قد سبق له الإفتاء أو الترافع فيها أو الاشتراك في نظرها أو أداء الشهادة فيها . بل أن القانون الوضعي يجيز رد القاضي إذا كانت له أو لزوجته دعوة مماثلة للدعوة التي ينظرها ويجيز رده كذلك إذا كان أحد الخصوم خادما له أو كانت بينهما علاقة مؤاكلة أو مساكنه أو تهاد. وفضلا عن ذلك فقد نص القانون بوجه عام على جواز رد القاضي إذا كان بينه وبين أحد الخصوم عداوة أو مودة يرجح معها عدم استطاعته الحكم بغير ميل. وإلى تجانب أسباب عدم الصلاحية والرد حرص المشرع الوضعي على التوسعة على القاضي تخفيفا عنه من جهة وتحريا للعدالة من جهة أخرى , فأجاز له في غير الأحوال المتقدمة أن يتنحى عن نظر الدعوة إذا استشعر الحرج من نظرها والفصل فيها.

ويعين للباحث بعد هذا العرض سؤال : لماذا كانت أحوال المنع في فقه الشريعة أقل منها في القانون الوضعي وكان العكس أليق باعتبار أن إمضاء العدل في القانون هدف اجتماعي بحت, أما في الشريعة فعبادة يتقرب بها المسلم إلى ربه كالصوم والصلاة,؟ ولماذا يحتاط القانون الوضعي هذا الاحتياط لضمان حياد القاضي وتوقي الخطأ وكان أحرى بالشريعة أن تكون أكثر منه احتياطا؟

يبدو لنا أن الإجابة عن هذا السؤال ترجع إلى أمرين , احدهما ذو طابع شرعي , والآخر ذو طابع عملي.

أما الأمر الأول فهو أن شروط القضاء في الفقه الشرعي تختلف عن شروطه في القانون الوضعي, فالأول طابعه التشدد والثاني طابعه التخفف. وقد عوض القانون تخففه في اختيار القضاة بالتوسع في أحوال المنع لكي يصل إلى أفضل ما يمكن الوصول إليه من حيده القضاء وعدالته. أما فقهاء الشريعة فتشددوا في اختيار القاضي فشرطوا فيه من الشروط ما يضمن حياده وعدله, واستغنوا بذلك عن كثير من حالات المنع القانونية. ومما اشترطه الفقهاء في هذا الخصوص أن يكون القاضي عدلا, ولهم في تعريف العدالة أقوال كثيرة لعل من أحسنها ما نقله السيوطي عن فقهاء مذهبه, فقد قال: حدها الأصحاب بأنها ملكة , أي هيئة راسخة في النفس تمنع من اقتراف كبيرة أو صغيرة دالة على الخسة أو مباح يخل بالمروءة.[36] فالعدالة المطلوبة وفقا لهذا الرأي عنصر في الكيان الأدبي أو هي طبع وسجية, وإذا توافرت بهذا المعنى في شخص كان مؤتمنا على ما يفصل فيه من دعاوى ولو كان الخصم من الوالدين والأقربين أو من الأعداء. وقد رأينا بالفعل قضاة لا يترددون في إدانة أبناءهم وفي الانتصاف لأعدائهم. وإذا وضع نظام من النظم هذا الضوابط الصارمة لاختار قضاة فمن المعقول أن يقتصد في تحديد الموانع التي تحول بينهم وبين نظر الدعاوي والفصل فيها.

وأما الأمر الثاني فهو ما جرى عليه العمل في غالب الأحوال من تحويل كل قاض سلطة الفصل وحده في كل الخصومات أو في نوع معين منا لخصومات التي تنشأ بين أهل مصر محدد أو أهل جزء من هذا المصر. فكان المتقاضون لا يجدون أمامهم غير اقض واحد يقصدونه فيما ينشأ بينهم من خصومات. ولما كان مقتضى المنع أن يحال الخصوم إلى قاض آخر هو في العادة أقرب القضاة مكاناً,[37] فقد اقتصد الفقهاء في حالات المنع تيسيراً على الناس ورفعها للمشقة عنهم. أما القانون الوضعي فقد أخذ بنظام (الدوائر), أي المحاكم المتعددة ذات الاختصاص المتماثل في النطاق المكاني الواحد, وهذا النظام يجعل من اليسير على الخصوم إذا قام بأحد القضاة سبب من أسباب المنع أن يلجئوا إلى قاض آخر في نفس المكان لقضي بينهم.[38]

رأينا الخاص : وضح لنا مما سبق أن منع القاضي من الحكم لبعض الناس أو عليهم لا يستند إلى نص صريح في الكتاب أو السنة, وإنما هو اجتهاد فقهي, ورأينا أن المنع هو مذهب الجمهور وإن اختلفوا في تحديد مداه, وشذ أهل الظاهر فلم يمنعوا القاضي من الكم لأي خصم أو عليه اعتمادا على عدالته واكتفاء بها. ورأي الجمهور عندنا أرجح وإن كان في تعليله نظر, فقد بني الفقهاء المنع من القضاء على المنع من الشهادة, وكان من نتائج ذلك أن وقع الخلاف بينهم فيمن يمتنع الحكم له أو عليه, بل لقد خلج بعضهم أحيانا على الربط بين القضاء والشهادة, وكان من نتائجه أيضاً والشهادة, وكان من نتائجه أيضا إنكار أهل الظاهر لفكرة المنع ذاتها في الشهادة وفي القضاء جميعاً.

وعندنا أن المنع من القضاء في بعض الأحوال أصل في ذاته, فليس للقضاء من آفة عير الجهل والهوى, وقد احتاط الفقهاء من آفة الجهل بما فيه الكفاءة فاشترطوا في القاضي أن يكون عالما فطنا, وكان يحسن بهم توقيا من آفة الهوة أن يجعلوا المنع من القضاء في بعض الأحوال قيدا يضاف إلى شرط العدالة, وكان هذا الاعتبار كافيا في ذاته لتبرير المنع من القضاء دون حاجة لتأسيسه على المنع من الشهادة.

ذلك أن العدل من المقاصد الضرورية في الشريعة , فكل ما يؤيده في أحسن حالته يلحقه حكمه. وقد حذر الله أنبياء من أتباع الهوى فقال مخاطباً داود عليه السلام: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً في الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ)[39] ولما كان النهي عن أمر يقتضى إمكان وقوعه من المخاطب, وكان النهي في الآية السابقة موجها إلى نبي فهذا دليل على أن للهوى سلطانا قويا يمكن أن يستجيب له في بعض المواقف أكثر الناس عدالة. ومتى كان الأمر كذلك كان سد الذريعة أليق وأوافق, وذلك بتجنيب القاضي مشقة مجاهدة النفس حين يناوشه سلطان الهوى لاحتمال عجزه عن مغالبتهم, وهذا يقتضي منعه من القضاء في هذه الأحوال. ويروى أن عمر بن الخطاب تقدم إليه خصمان فأقامهما – أي صرفهما عن مجلسه – ثم عادا فأقامهما, ثم عادا ففصل بينهما, فقيل هل في ذلك فقال : تقدما إلى فوجدت لأحدهما – أي قبولاً في نفسي- ما لم أجد لصاحبه فكرهت أن أفصل بينهما على ذلك, ثم عادا إلى فوجدت بعض ذلك, ثم عادا وقد ذهب ذلك ففصلت بينهما[40]. وإذا كان عمر بن الخطاب وهو من هو في عدله وتقواه قد تورع عن الفصل بين خصمين ليس بينه وبين أحدهما قرابة أو عداوة لمجرد أنه أحس ببعض الميل لأحدهما فصد نفسه عن القضاء بينهما حتى ذهب عنه ما أحس به, أفلا يكون هذا داعياً للتأسي به وإلزام من دونه بالتنحي عن نظر الدعوى كلما كانت له بأحد الخصوم علاقة من شانها أن تجعل هواه معه أو ضده. وفضلاً عن ذلك فثمة اعتبار آخر يقتضي المنع وحده, فلا يكفي لصحة الحكم وقبوله أن يكون القاضي عادلاً, بل يلزم كذلك أن يستقر هذا المعنى في وجدان الخصوم. ومن العسير – بحكم طبيعتنا البشرية – أن يطمأن الخصم إلى حياد قاضيه وهو يدرك سلفاً حقيقة مشاعره تجاه خصمه أو تجاهه عند نظر دعواه.

وإذا خلصنا أن المنع من القضاء عند مظنة التهمة أكثر اتفاقا مع روح الشريعة وقواعدها الكلية, فمن الأوفق في رأينا ألا ينحصر المنع في أحوال معينة لا يعدوها, بل يجب ترك ذلك لولي الأمر على أن يستهدي في تحديد أحوال المنع بالعلة التي دعت إليه. ولدينا أن حالات المنع التي حددها القانون الوضعي ممكنة القبول شرعاً لأن فيها مظنة التهمة. كذلك فإننا نعتقد أن منع القاضي في هذه الأحوال من نظر الدعوى ابتداء أولى من تخويله سلطة نظرها ونهيه في الوقت نفسه عن الفصل فيها على وجه معين, فهذا الحل أدعى إلى رفع الحرج عن القضاة من جهة وإلى توفير وقتهم وجهدهم من جهة أخرى.

ولا وجه للاعتراض بأن شرط العدالة يعنى عن كثير من حالات المنع القانونية, فهذا الشرط مهما قيل فيه أمر خفي, ثم أنه بضابطه الشرعي يتعذر توفره في كثير من المعاصرين, وإذا فرضنا إمكان توافره فسنا نرى خيراً من التحوط على أي حال مادمنا في مقام سد الذريعة. وإذا أضفانا إلى ذلك أن تعدد القضاة ذوي الاختصاص النوعي الواحد أصبح أمراً شائعاً ولازما لسرعة الفصل في الأقضية المتزايدة, فإن منع بعض القضاة لأدن شبهة من نظر بعض الدعاوي لا يلحق ضررا بمصلحة مشروعة لأحد بل هو على العكس من ذلك أدعى إلى تحقيق العدل وتجنب الخطأ.

(هـ)     ومن وسائل درئ الخطأ كذلك كفالة حق الدفاع. ويراد بهذا الحق تمكين كل خصم من بسط حججه وعرض أدلته والرد على ما يقدمه خصمه من أدلة وما يبديه من أوجه دفاع. روي عن على بن أبي طالب أنه قال: ولآني رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمن قال لي: خصم من بسط حججه وعرض أدلته والرد على ما يقدمه خصمه من أدلة من أوجه دفاع. روي عن على بن أبي طالب أنه قال : ولآني رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمن وقال لي: يا علي, إن الناس سيقاضون إليك فإذا أتاك الخصمان فلا تقضين لأحدهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول, فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء وتعلم لمن الحق, قال على: فما شككت في قضاء بعد.

ولا يقتصر حق الدفاع على خصم دون خصم, بل هو ثابت لكل خصم. والقاعدة أن المدعى هو الذي يبدأ بمباشرة هذا الحق باعتبار أنه الذي يفتتح الدعوى ثم يعقبه المدعى عليه. غير أن الأمر قد لا ينتهي عند هذا الحد, بل يكون الدفاع خلفه يتداوله الخصمان. ويقع ذلك حين يستحدث أحدهما من وجوه الدفاع ما لا يسلم به الآخر فيرى لزوم الرد عليه. وعلي القاضي أن يفسح للخصمين وأن يسوي بينهما في مباشرة هذا الحق, لا لأن العدل يوجب هذه التسوية فحسب, بل لأنها السبيل الوحيد لاستجلاء الحقيقة وهي شرط لإصابة الحق عند القضاء. فإذا أخل القاضي بهذا الأصل فقد أوصد على نفسه باباً يفضي به إلى الحقيقة, وعندئذ يكون احتمال الخطأ في حكمه أكبر من احتمال الإصابة.

وقد استقر حق الدفاع في وجدان فقهاء الشريعة فتواصوا به جميعاً. ذكر الخشني في كتابه (قضاة قرطبة) أن عقبة بن الحجاج السلولي كان واليا على الأندلس وكان صاحب جهاد ورباط, وقد وقع اختياره على مهدي بن مسلم وهو من أهل الدين والعلم والورع, فاختاره للقضاء في قرطبة وقال له: أكتب عهدك عني لنفسك فكتب مهدي عهدا جامعاً لأصول القضاء, ومما جاء فيه أن عقبه أمره (أن يواسي بين الخصوم بنظره واستفهامه ولطفه ولحطه واستماعه, وأن يفهم من كل أحد حجته وما يدلي به, ويستأنى بكل عيي اللسان ناقص البيان, فإن في استقصاء الحجة ما يكون به لحق الله تعالى عليه قاضياً وللواجب فيه راغباً.[41] وجاء في تبصرة الحاكم: وجه الحكم في القضاء إذا أدلى الخصمان بحجتيهما وفهم القاضي عنهما وأراد أن يحكم بينهما أن يقول لهما : أبقيت لكما حجة؟ فإن قالا : لا , حكم بينهما, وإن قال أحدهما : نعم, بقيت لي حجة أنظره القاضي ما لم يطهر لدده[42].

[1]        ومن الفقهاء من ينزه الرسول عن الخطأ  في قضائه استناداً إلى ما أتفق عليه الأصوليون من أنه صلى الله عليه وسلم لا يقر على خطأ. قال الزرقاني في شرحه على موطأ إمام مالك أنه لا تعارض بين الحديث وقاعدة  الأصوليين, لأن مرادهم فيما حكم فيه باجتهاده أما إذا حم فيما خالف ظاهره باطنه فإنه لا يسمي الحكم خطأ, بل الحكم صحيح بناء على ما أستقر به التكليف وهو وجوب العمل بشاهدين مثلاً, فإن كانا شاهدي زور ونحو ذلك فالتقصير منهما وممن ساعدهما وأما الحاكم فلا حيلة له في ذلك ولا عتب عليه بسببه, بخلاف ما إذا أخطأ في الاجتهاد. شرح الزرقاني ج3 ص385.

          وهذا الدفاع مقبول على شرط الزرقاني, فهو يصرف الصحة إلى مطابقة الحكم لأصول الإثبات في القضاء. وليس هذا ما نقصد إليه, فذلك هو العدل الشكلي . وإذا كان هذا العد مطلوبا فذلك لأنه يؤدي غالباً إلى إحقاق الحق وإبطال الباطل. غير أننا لا نجعل  الخطأ هنا مقابلاً للصحة بل نجعله مقابلاً للصواب وليس بمستبعد أن يكون الحكم صحيحاً في شكله ولكن غير مصيب في الحقيقة . وقد أفترض صلى الله عليه وسلم إمكان وقع ذلك منه إي إمكان تحري الحقيقة دون إصابتها وإن لم يثبت وقوعه فعلاً, ألا تراه يقول : (فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ من شيئاً ) ؟ فيكف يكون الحكم صواباً وهو ينهي المحكوم له عن تنفيذه والحق أن عصمة الرسول لا تشمل كل ما يصدر عنه من قول أو فعل وإنما تنحصر فيما يبلع عن ربه, سواء كان تكليفا أو مجرد أخبار . فيما خلا ذلك فإنه بشر يصبي ويخطئ وليس في ذلك ما ينقص من قدره . وحول هذا الحديث يقول الشيخ محمد أبو زهرة: إن القضاء ليس تشريعاً ولكنه تطبيق للمبادئ المقررة التي جاءت بها الشريعة الإسلامية . وفرق بين التطبيق والتشريع, فانبي في التطبيق يعمل عمل البشر من الاستماع للبينات وفي الشريعة المطبقة يتلقى من السماء ويبلغ أهل الأرض وفرق ما بين الأمرين عظيم. تاريخ المذاهب الفقهية ص 11 . على أنه لما كان القضاء ينطوي على إنزال حكم شرعي معين على واقعة حال معينة فإن خطأ الرسول – على فوض حصوله – لا تصور إلا بالنسبة لتحصيل الواقع, أنا الحكم الشرعي المطبق فال يمكن إن يتطرق إليه الخطأ لأنه صلى الله عليه وسلم في تقرير الأحكام إنما يبلغ عن ربه , وهو في التبليغ معصوم من الخطأ.

[2]        أحكام القرآن لقرطبي – طبعة دار الشعب ص 4348.

[3]        الجامع الصحيح لمسلم.

[4]        على أن هذه القاعدة ليست مطلقة إذ ترد عليها استثناءات محدودة, كما هو الحال بالنسبة للقضاء العسكري وكما هو الحال في بعض الدول التي تأخذ بنظام المحلفين.

[5]        ولا ندعي أننا بهذا البيان قد استوعبنا وسائل دفع الخطأ ورفعه في مجال القانون الوضعي وفي مجال الفقه الشرعي, أو بالأدق نحن لا نجزم بذلك لأن الموضوع في المجالين لم تفرد له نصوص حاصرة , كما أن كتب الفقه – الشرعي والوضعي على السواء – لمتجمع أخطاء القضاء ووسائل دفعها ورفعها في باب من أبوابها, وإنما وردت هذا الأمور في مواضع متفرقة واشتملت عليها أبوب متعددة وما نقوم به ليس إلا محاولة فقيهة لجمع شتات الموضوع , وهي لا تنفي إمكان وجود وسائل أخرى ربما غابت عنا إلا أن هذه الوسائل على فرض وجودها أقل أهمية.

[6]        جاء في المغني لابن قدامه الحنبلي: قال أبو الخطاب: يجوز أخذ الرزق مع الحاجة فأما مع عدمها فعلى وجهين. وقال الإمام أحمد : ما يعجبني أن يأخذ القضاء أجراً, وإن كان فيقدر شغله وكان ابن مسعود والحسن يكرهان الأجر على القضاء . وكان مسروق وعبد الرحمن بن القاسم بن عبت الرحمن لا يأخذان عليه أجراً , وقالا : لا نأخذ أجراً على أن نعدل بين اثنين. ويقول ابن قدامه والصحيح جواز أخذ الرزق عليه في كل حال , فأما الاستئجار عليه فلا يجو. قال عمر رضي الله عنه : لا ينبغي لقاضي المسلمين أن يأخذ على القضاء أجراً. وهذا مذهب الشافعي ولا نعلم فيه خلافاً , وذلك لأنه قربه يختص فاعله أن يكون في أهل القربة فأشبه الصلاة.

[7]        أدب القاضي للماوردي ج1 ص634. وفي الفقه خلاف حول طبيعة العدالة, فيه عند الشافعية والمالكية والحنابلة شرط لصحة التولية. (الماوردي – المرجع السابق , الخرشي ج7 ص138 , حاشية الدسوقي ج4 ص129,  المغني لابن قدامة ج11 ص381 – 832) , أما الحنفية فال يعتبرون العدالة ليجيزون تولية الفاسق وإن كانوا لا يستحبون ذلك (بدائع الصنائع ج9 ص4080 , الفتاوى الهندية ج3 ص212).

[8]        أنظر الماوردي – الأحكام السلطانية ص 65 -66, وأدب القاضي ج1 ص636 – 637, وهذا أيضاً هو مذهب الحنابلة . المغني ج11 ص382 -384. أما الحنفية فيتخففون , فعندهم أن العلم بالحلال والحرام وسائر الأحكام ليس شرطا لجواز تولي القضاء, بل هو من شروط الفضيلة والكمال أو الندب والاستحسان, فلا يلزم عندهم أن يكون القاضي قد بلغ مرتبة الاجتهاد بل يكفي أن يكون مقلداً بل ويصح عندهم تولية الجاهل لأنه يقدر على القضاء بالحق مستعيناً بعلم غيره بأن يستفتي الفقهاء . أنظر بدائع الصنائع ج9 ص4079. وفي الفقه المالكي قول يوافق مذهب الأحناف فلا يجعل العلم شرط صحة, إلا أن عامة أهل المذهب على أنه يشترط في القاضي أن يكون مجتهداً, فإن لم يوجد المجتهد ولي أمثل مقلد. الخرشي وحاشيته العدوي ج3 ص129 , حاشية الدسوقي ج4 ص129- 130.

[9]        الطرق الحكمية لابن القيم ص40.

[10]       الطرق الحكيمة ص5.

[11]       أعلام الموقعين ص 77 – 78 , الطرق الحكمية ص5.

[12]       الفروق للقرافي ج2 ص197 – 198.

[13]       معين الحاكم للطرابسي ( الحنفي) ص تبصرة الحاكم لأبن فرحون ( المالكي) ص37.

[14]       المغني ج11 ص395 – 396.

[15]       أدب القاضي ج1 ص651.

[16]       معين الحكام ص30 وكان عمر بن الخطاب يشاور ابن عباس ويقول له : غص يا غواص, وكان إذا أصاب يقول له : شنشنة أعرفها ن أخزم, وهو مثل تذكره العرب لمن يشبه أباه, وكان يأخذ بقوله وعمر أكبر سناً.

[17]       أدب القاضي ج1 ص613 -614.

[18]       بدائع الصنائع ج9 ص4084.

[19]       بداية المجتهد ج2 ص 285.

[20]       الوجيز للغزالي ج2 ص 238

[21]       الخرشي ج7 ص 144 حاشية الدسوقي ج4 ص 135.

[22]       مغني المحتاج ح4 ص 380

[23]       تاريخ القضاء في الإسلام لابن عرنوس ص92, الثغر البسام في ذكر من ولي قضاء الشام ص 187, رفع الأصر 39 ب والتلخيص ص33 نقلا عن ملحق الكندي ص598.

[24]       ويمكن إيجاب الإجماع في بعض الأحوال كحالة الحكم بالحد أو بالقصاص أو بالتعزير بالقتل, لأن هذه العقوبات تدرء بالشبه واختلاف القضاة في موجب العقوبة شبهة.

[25]       مغني المحتاج ج4 ص38.

[26]       الخرشي ج7 ص 144 حاشية الدسوقي ج4 ص134.

[27]       القضاء في الإسلام – محمد سلام مدكور ص56.

[28]       أنظر في عرض آراء الفقهاء : المحلي لابن حزم ج9 ص506-507 , وانظر في بيان آراء المذاهب. كل على حدة: معين الحكام ص34-35, الفتاوى الهندية ج3 ص29,220,249, أدب القاضي للماوردي ج2ص70-7, 413-415, والأحكام السلطانية ص76, أدب القضاء لأبن أبي الدم ص120, بداية المجتهد ج2 ص394, الخرشي ج7 ص162, حاشية الدسوقي ج4 ص152, المغني ج4 ص152, المغني ج11ص483.

[29]       حاشية الدسوقي ج4ص139. القضاء في الإسلام – المرجع السابق ص60.

[30]       فحكم القاضي يلزم الخصوم, والشهادة إذا استجمعت شروطها تلزم القاضي بأن يحكم بمقتضاها. أنظر في حكم الشهادة بدائع الصنائع ج9 ص4061, الفتاوى الهندية ج3ص301. التاج والإكليل ج6 ص150.

[31]       المحلى ج9ص506,510.

[32]       سورة المائدة الآية 8

[33]       المحلى ج9 ص512, وبهذا الرأي أخذ القرطبي في تفسير الآية المذكورة فقال أن فيها دليل على نفوذ حكم العدو على عدوه في الله تعالى ونفوذه شهادته عليه, لأنه أمر بالعدل وإن أبغضة , ولو كان حكمه عليه وشهادته لا تجوز فيها مع البغض له لما كان لأمره بالعدل فيه وجه, أحكام القرآن ص2106, 2107

[34]       أدب القاضي ج2 ص70.

[35]       أدب القاضي ج2ص70-71.

[36]       الأشباه والنظائر للسيوطي ص384.

[37]       وقد يحال الخصوم إلى قاض آخر بندبة الخليفة أو الآمر أو قاض القضاة أو قاض الجماعة لنظر الدعوى التي قام فيها موجب المنع. ويلاحظ مع ذلك أن الفقه الشرعي لم يستبعد كلية إمكان تولية أكثر من قاض عملاً واحداً في مكان واحد, فقد عرض الفقهاء لهذه المسألة واختلفوا فيها فمنعها البعض وأجازها البعض. أنظر المغني ج11 ص481- 482, وأدب القاضي للماوردي ج1ص164.

[38]       ويصح كذلك ندب قاض آخر ليحل محل القاضي الذي قام به سبب المنع وتظل الدعوى منظورة أمام نفس الدائرة.

[39]       سورة ص الآية 26.

[40]       أحكام القرآن للقرطبي ص5634.

[41]       قضاة قرطبة ص23.

[42]       تبصرة الحكام ج1 ص166.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر