كلمة التحرير

مفهوم “الحضاري” لدى الدكتور إسماعيل راجي الفاروقي

العدد 140

نسعى عبر هذه الورقة إلى استجلاء دلالات وأبعاد مفهوم “الحضاري” لدى الدكتور إسماعيل راجي الفاروقي(1) (ت1986) فأين يقع المفهوم ضمن دائرة اهتماماته المعرفية، وما هو تعريفه له، وكيف يتشابك مع غيره من المفاهيم الإسلامية، وما هي خصائصه المميزة، وما هي الجوانب التطبيقية للمفهوم كما برزت لدى الدكتور الفاروقي.

وابتداء نشير إلى أن الفاروقي يعد من المفكرين الإسلاميين البارزين في النصف الثاني من القرن العشرين، وقد ارتبط اسمه بالمحاولات الأكاديمية التي قام بها فريق من هؤلاء لنقد الأسس التي تأسست عليها المعرفة الغربية ومحاولة بلورة أسس نظرية للمعرفة الإسلامية، وهي ما باتت تعرف باسم “إسلامية المعرفة”، كما ارتبط اسمه بعدد من الأعمال الموسوعية ومنها: “Historical Atlas of the Religions of the World” “الأطلس التاريخي لديانات العالم”، و”أطلس الحضارة الإسلامية”.

وبوصفه مفكرًا موسوعيًا فإن أهم ما يميز الفاروقي معرفيًّا هو أنه يقارب خريطة واسعة من القضايا والإشكالات، وأنه يمتلك منهجًا يمكنه من تسكين القضايا الفرعية في إطار الخريطة الكلية، كما يمتلك بالضرورة قاموسًا يضم المفاهيم والمصطلحات ويقارب القضايا انطلاقًا منه، وأخيرًا يميزه أيضا الانتقال من الجوانب النظرية المنهجية إلى الجوانب العملية التطبيقية أي الانتقال من البنى الكامنة إلى التشكيلات البادية. وهي نقطة هامة وتتضح بجلاء في مقاربته لقضية إسلامية المعرفة وفيها ينتقل بسهولة -واقتدار – من صياغة الأسس النظرية ثم قام بتحويلها إجرائيا إلى عدد من التطبيقات.

حمل عمل الفاروقي الموسوعي حول الحضارة الإسلامية عنوان (The Cultural Atlas of Islam) وقد شاركته زوجته لويس الفاروقي في إعداده، وقد ترجم إلى اللغة العربية تحت عنوان (أطلس الحضارة الإسلامية)، ويسترعي الانتباه أنه رغم المركزية التي يحتلها مفهوم الحضارة في مثل هذا العمل إلا أنه قد أتى متداخلاً إلى حد بعيد مع مفهوم التوحيد، المفهوم المركزي في منظومة الفاروقي المعرفية، وهو يرد كافة المفاهيم الإسلامية إليه حتى أنها لتبدو تجليًا وانعكاسًا لهذا المفهوم الأم، وبالإضافة إلى علاقته بمفهوم التوحيد تمتد شبكة علاقات الحضاري لدى الفاروقي لتشمل أيضا مفهومي الاستخلاف والأمة، وفي منتصف تلك الشبكة المفاهيمية الملتحمة يقع مفهوم الحضاري، ويصبح من المتعذر استجلاء أبعاده إلا بتحرير علاقاته مع هذه المفاهيم الثلاثة.

أولا: مفهوم التوحيد وعلاقته بمفهوم الحضاري:

ينظر الفاروقي إلى مفهوم الحضاري بوصفه أحد المفاهيم التي تولدت عن مفهوم التوحيد، فالحضارة حسب تعريفه هي”العلاقة بين جوهر الإسلام وبين الظواهر التي رسخت وجوده في التاريخ”(2) ونتاج تلك العلاقة المنتج الحضاري الإسلامي، والتوحيد هو جوهر الإسلام مثلما هو جوهر الحضارة، ويترتب على هذا الربط المفاهيمي أنه لا يمكن لإنسان كائنا ما كان أن يساوي بين التوحيد – وما يومئ إليه من الدين- كمطلق غيبي وبين المنتج الحضاري التاريخي الموسوم بالنسبية وإمكانيات القصور(3).

ولا يعني هذا أن التوحيد يُشكل بالنسبة للفاروقي مجرد مفهوم عقدي يعكس تجربة إيمانية بل هو مفهوم له خواص تفسيرية عالية؛ فبمقدوره أن يفسر العالم والحقيقة وأن يجيب على الأسئلة الأنطولوجية الكبرى التي تواجه الإنسان أي هو رؤية متكاملة للعالم “world view”(4) ومفهوم بمثل هذا الشمول والتركيب لابد وأن يكون قابلا للوصف والتحليل، وبحسب الفاروقي فهو يشتمل على خمس مبادئ سيكون لها مفعولاتها الحضارية، وهذه المبادئ هي:

الثنائية: وهذا المبدأ يشير إلى التمايز التام بين عالمي الخالق والمخلوق أو العالم الماورائي والعالم الطبيعي وهذا التمايز يجعل من المستحيل أن يتحد الواحد بالآخر، أو يحل الخالق في المخلوق أو يتسامى المخلوق ليصبح خالقا.

الإدراكية: ويعني هذا المبدأ أن العلاقة بين الخالق والمخلوق تؤسس على العقل الذي هو قوة فطرية أودعها الخالق في المخلوق كي يدرك إرادته، والإدراك يتحقق عن طريقين هما تدبر الوحي وملاحظة الطبيعة واكتشاف قوانينها التي أودعها الله.

الغائية: خلق الله تعالى الكون لغاية محددة ولم يخلقه عبثا أو مصادفة، فهو كون منتظم ومنضبط بإرادة الله التي تتجسد في القوانين الطبيعية كما تتجسد في السنن الكونية التي ينبغي على الإنسان استنباطها والعمل وفق مقتضاها.

القدرة الإنسانية: إذا كان الكون قد خلق لأجل غاية محددة فإن تحقيق تلك الغاية يغدو أمرا ممكنا بيد الإنسان في الزمان والمكان المتعينين ويستطيع تحقيقها في نفسه وفي مجتمعه، كما يستطيع تحقيقها في الطبيعة التي هيأها الله سبحانه وتعالى لتلقي فعل الإنسان بفعل مبدأ التسخير.

المسئولية والحساب: بالنظر إلى تمتع الإنسان بالقدرة على تغيير نفسه ومجتمعه فإنه لابد أن يكون محاسبا عن أفعاله وتصرفاته، والحساب بهذا المعنى يعد شرطا لازما للمعيارية الأخلاقية التي ينبغي أن تؤطر أفعال الإنسان(5).

على ضوء تلك المبادئ يستنتج الفاروقي أن علاقة التوحيد بالفعل الحضاري تشتمل على جانبين: الأول، أثر المبادئ التوحيدية في تحفيز الفعل الحضاري، على حين يشير الثاني إلى الخصائص البنيوية التي طبع بها التوحيد الحضارة الإسلامية فتمايزت عن غيرها من الحضارات.

أ‌- أثر التوحيد في حفز الفعل الحضاري:

يتألف التوحيد –كما أسلفنا- من عدد من المبادئ كان لها أثرها في تحفيز الإنسان المسلم على الفعل الحضاري، فالقول بأن الله هو الخالق يترتب عليه نفي الصدفة والعبثية عن العالم كما يعني أيضا نفي الخرافة التي يصفها الفاروقي بأنها عدوة العلم والمانعة من التحضر وإزالتها شرط لابد منه لتطور العلم ونشوء الحضارة.

والتوحيد أيضا دعوة لاحترام العقل بل وتقديسه إذ هو الأداة الوحيدة التي يدرك بواسطتها المخلوق الخالق، ونصوص الوحي تزخر بدعوة الإنسان المسلم إلى إعمال العقل في نفسه وفي محيطه الاجتماعي- أي هي دعوة مستبطنة لتأسيس العلوم الإنسانية والاجتماعية- مثلما تدعوه للنظر في الظواهر الكونية واستنباط قوانينها أي أن يمضي قدما باتجاه تطوير العلوم الطبيعية كما يستنتج الفاروقي.

وهذه الدعوة الإلهية هي دعوة أبدية فـ”باب النظر والبحث في طبيعة الخلق أو في أي جزئية منه لايمكن أن يغلق، وذلك لأن سنن الله في خلقه غير محدودة فمهما عرفنا منها ومهما تعمقنا في هذه المعرفة فلا يزال هناك المزيد منها ليكتشف ويسخر”(6).

والتوحيد في أحد مضامينه يعني أن الإنسان لم يخلق عبثا وإنما خلق من أجل غاية محددة هي عمارة الأرض التي جعلها الخالق سبحانه وتعالى مستجيبة للفعل الإنساني بموجب مبدأ التسخير، والإنسان بهذا المعنى مخلوق يمتلك مقدرة على البناء الخلاق، والعمل على إطلاق هذه المقدرة الإنسانية شرط أساسي لتشييد الحضارة. ويذهب الفاروقي إلى أن التوحيد وحده هو الذي استطاع أن يطور حضارة تقف موقفا متوازنا من الإنسان ففي حين أن الحضارة الإغريقية قد طورت اتجاها إنسانيا قويا وصل إلى حد تأليه الإنسان فإن الحضارة المسيحية قد وقفت على النقيض منها فهبطت بمرتبة الإنسان عبر “الخطيئة الأصلية” حتى اعتبرته مخلوقًا هابطًا. أما الحضارة الإسلامية فهي وحدها التي احترمت إنسانية الإنسان دون تأليه أو تحقير.

وأخيرا يشير التوحيد إلى أن الإنسان سوف يحاسب على أعماله وأن عليه وهو يقوم بما هو مكلف به من عمارة الأرض أن يفعل ذلك في إطار من الضوابط الأخلاقية التي تكفل عدم نهب الطبيعة وحرمان الكائنات الأخرى من حقوقها المشروعة فيها، وهذا التشديد على الفعل الأخلاقي هو “الضمانة الأكيدة لإنتاج حضارة متوازنة قادرة على إصلاح ذاتها” حسبما يستنتج الفاروقي.

ب‌- الخصائص البنيوية للحضارة الإسلامية:

لقد استطاع التوحيد بوصفه المفهوم المركزي والمبدأ الإسلامي الأكثر تأثيرا أن يطبع الحضارة الإسلامية بعدد من الخصائص التي أكسبتها شكلها الخاص وميزتها عن غيرها من الحضارات، وهذه الخصائص هي:

الوحدة:

تعد الوحدة أحد السمات المميزة للحضارة الإسلامية إذ لا يمكن أن توجد حضارة من دون وحدة مثلما يذهب الفاروقي، وتعني الوحدة عملية انصهار العناصر المادية والبنيوية والعلائقية التي تتألف منها الحضارة وذلك بفعل وجود مبدأ يوحد هذه المبادئ ويكتنفها في إطاره، وهذا المبدأ هو التوحيد الذي استطاع أن يقوم بعملية هضم واستيعاب وتمثل لعدد ضخم من العناصر بعضها أصيل وبعضها وافد، بحيث استطاع أن يجمع هذه العناصر في نسق تراتبي منتظم محدد العلاقات الداخلية والمعالم الخارجية.

وبحسب الفاروقي فإنه ليس هناك حضارة استطاعت أن تحتفظ بنقائها الداخلي تماما فجميع الحضارات تقتبس من غيرها، وهذا ليس مما يعيب أي حضارة “ولكن مما يشين أي حضارة أن تكون قد جمعت عناصر أجنبية وحسب أو أن تكون فعلت ذلك بشكل متنافر من دون إعادة تشكيل واستيعاب وتمثل… ولكن إذا نجحت الحضارة في تحويل تلك العناصر وتمثلها في نظامها فإن عملية التمثل هذه تعدو دليلا على حيويتها وحركيتها وإبداعها” وعملية الاقتباس من الحضارات الأخرى ليست مطلقة تماما عند الفاروقي بل هي عملية مقيدة بقيد توافق واتساق هذه العناصر المقتبسة مع مبدأ التوحيد الذي يعد “المبدأ الأعلى ومقياس المسلم ومعياره في مواجهة الديانات والحضارات الأخرى.. فما يتفق مع هذا المبدأ يتم قبوله وتمثله وما لا يتفق يتم رفضه وإدانته”(7).

العقلانية:

هي إحدى الخصائص المميزة للحضارة الإسلامية، والقول بأن الحضارة الإسلامية هي حضارة عقلانية لا يعني بأي حال أن العقل مقدم على الوحي بل يعني أن العقل يمكن أن يقود مفسري الوحي إلى تفسيرات جديدة مدعومة بالعقل، ووفقا للفاروقي فإن العقلانية الإسلامية تستند إلى ثلاثة قوانين هي؛ رفض ما يخالف الواقع، وإنكار اجتماع النقيضين، والإنفتاح على الأدلة العقلية الجديدة، وهذه القوانين تحمي المسلم من الإنغلاق وتتيح له الانفتاح على الأدلة والأفكار الجديدة التي تنتجها الحضارات الأخرى وتمنحه الحق في قبولها في حال ثبوت صحتها.

التسامح:

التسامح، بوصفه أحد الخصائص المميزة للحضارة الإسلامية، يعني أن على المسلم أن يقف موقفا متسامحا على عدة مستويات، الأول مستوى قبول الأفكار المخالفة التي يحكم سلوك المسلم تجاهها مبدأي اليسر الأخلاقي والسعة التي تتصف بها الحضارة الإسلامية وتجعلها قادرة على تقبل الأفكار الوافدة الجديدة فتغتني بها وتزداد ثراء. والثاني مستوى تقبل الاختلاف الديني، فالتسامح يعني “القناعة بأن لدى الناس جميعا إدراكا فطريا يعينهم على معرفة الدين الحق، وتبين إرادة الله، والتسامح قناعة بأن اختلاف الأديان مرجعه التاريخ.. فوراء تنوع الأديان يوجد الدين الحنيف دين الله في البدء قبل أن يتطبعوا بما يجعلهم أتباع هذا الدين أو ذاك”(8) والثالث مستوى تقبل أرباب الديانات، حيث يحيل التسامح المواجهة والإدانات المتبادلة بين أهل الأديان إلى دراسة علمية تتناول نشوء الأديان بغرض فصل التراكمات التاريخية عن معطيات الوحي الغيبي والكشف عن جوهر الوحدة بين هذه الأديان. والرابع مستوى التقبل الأخلاقي الذي يشكل حصانة للمسلم تحول بينه وبين اعتناق أي نزعات أو فلسفات عدمية تشاؤمية تحول بينه وبين التكاسل عن أداء مهمته الأساسية في إعمار الأرض.

ثانيا: مفهوم الاستخلاف وعلاقته بمفهوم الحضاري:

تتسع علاقات مفهوم الحضاري، كما يرسم معالمها الدكتور الفاروقي، لتشمل مفهومين قرآنيين آخرين هما مفهومي الاستخلاف والأمة. والاستخلاف هو حمل الإنسان للأمانة الإلهية التي تجعله أهلا وكفؤا لكي يقوم بمقام الخلافة عن الخالق في الأرض، والاستخلاف كما يذهب الفاروقي هو جوهر إنسانية الإنسان ومعناها ومحتواها وذلك حين يؤهله لممارسة وظيفته الكونية التي مجملها السعي لتعمير الكون وتثميره حتى يصبح قادرا على الوفاء بحاجيات الإنسان المختلفة سواء حاجيات مادية أم فكرية أم جمالية، على أن يتم ذلك ضمن إطار من القيم الأخلاقية.

وتأسيسا على هذا يذهب الفاروقي إلى أن التكليف الإلهي للإنسان بعمارة الأرض – الاستخلاف- ترادف تماما دعوة الإنسان لإنشاء الحضارة التي تصبح مقتضى أمر الله تعالى للإنسان بحيث تصبح الغاية من وراء عمارة الأرض وإنشاء الحضارة هي “تمحيص الإرادة البشرية، وأن يبرهن البشر على أهليتهم من الناحية الأخلاقية على [إمكانية] القيام بهذا”(9). ويضيف الفاروقي أن التجربة الحضارية الإسلامية تفيد بأن المسلمين قد فهموا الاستخلاف عملا سياسيا في المقام الأول ولذلك أطلقوا على التنظيم السياسي الذي ضمهم اسم “الخلافة” وهذا الفهم له ما يبرره تماما فنصوص الوحي قد ربطت فعل الاستخلاف بإقامة السلطان السياسي كما في قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم) (النور:55)، ولكن هذا الفهم وإن ارتبط تاريخيا بكيان سياسي محدد المعالم إلا أنه لم ينفصل عن تجربتي المسلمين الإيمانية والحضارية بحيث أصبح من المتعذر أن يعبر المسلمون عن أنفسهم من دون خلافة(10).

ثالثا: مفهوم الأمة وعلاقته بمفهوم الحضاري:

الحلقة الأخيرة من حلقات علاقة مفهوم الحضاري هي علاقته بمفهوم الأمة، والأمة لدى الفاروقي هي نظام كوني اجتماعي نشأ بفعل التوحيد “فلا توحيد إلا بالأمة فالأمة هي مجال المعرفة ومجال الأخلاق ومجال الخلافة والإيجابية” وبهذا المعنى هي أساس قيام الحضارة وشرطها الذي لا تتحقق من دونه، وهذا ما توصل إليه حي بن يقظان باكتشاف حقيقة التوحيد وكان عليه بعد ذلك أن يرحل بحثا عن “الأمة” التي يكتمل بها معنى الحقيقة التي آمن بها(11).

والأمة في المفهوم الإسلامي كما في الخبرة التاريخية ليست كيانا عنصريا، فالإسلام يمقت العنصرية التي تقترب لدى الفاروقي من مفهوم الشرك وذلك لأنها تعني الخروج على أوامر الخالق المتعلقة بالأخوة الإنسانية وكم من دماء بشرية سفكت باسمها، وهي أيضا ليست كيانا عرقيا فهي عبارة عن تجمع من أعراق وثقافات ولهجات مختلفة، مثلما هي كيان لا تحده الجغرافيا أو التاريخ بل هي كيان كوني فضفاض يوجد أينما وجد التوحيد.

وعلى الرغم من أهمية الأمة إلا أنها ليست التشكيل الوحيد الذي يحظى بالأهمية داخل النسق الحضاري الإسلامي، فهناك الأسرة، الوحدة الأولى في التنظيم الاجتماعي الإسلامي والنواة الأولى للأمة، والتي يحرص الإسلام على دعمها ودعم كل تشكيلاتها الممتدة عبر سلسلة من تشريعات الإرث وذلك ليشير إلى أهميتها ضمن الكيانات الاجتماعية الأكبر، ووراء الأسرة توجد الدائرة الإنسانية الواسعة التي تتسع لتشمل شركاء الإنسانية جميعا، وهذه التشكيلات الثلاثة هي التي تحظى بدعم واعتراف الإسلام، أما ما عداها من تشكيلات تستند إلى العرق أو الطائفة أو الإقليم فهذه لا يعترف بها الإسلام وفق ما يعتقد الفاروقي(12).

استعمالات المفهوم: من التنظير إلى التطبيق:

تركزت اهتمامات الفاروقي المعرفية في ثلاث محاور كبرى هي: دراسة فلسفة الأديان، ونقد وتمحيص الأسس المعرفية التي تأسست عليها المعرفة الغربية، وأخيرا محاولة الإسهام في صياغة نظرية “إسلامية المعرفة”، وضمن هذه المحاور الثلاثة نجد حضورا وتوظيفا لمفهوم الحضاري إلا أنه يتجلى كأشد ما يكون في نقطتين نود التركيز عليهما في هذا الموضع. النقطة الأولى هي نقده العميق للمعرفة الغربية وإدراكه أنها تعبر عن نموذج معرفي ملحد وثيق الصلة بالحضارة الغربية، والواقع أنه لم يكن ممكنا للفاروقي القيام بهذا النقد المكثف لو لم يكن مستبطنا وواعيا أنه ينتمي إلى نموذج معرفي توحيدي تجسد عبر الحضارة الإسلامية، وهذا النموذج المعرفي التوحيدي يمتلك رؤى مغايرة حول الكون والمعرفة، وهو قادر على أن يسهم في تقويم النموذج المعرفي الغربي، وأن يقدم نموذجا معرفيا بديلا أكثر إنسانية وأكثر تعبيرًا عن الإرادة الإلهية. من جهة ثانية فإننا نلمح ذلك الاستلهام الواسع من النموذج الحضاري الإسلامي والذي برز أثناء محاولته صياغة الأسس النظرية لإسلامية المعرفة، ويكفي أن نشير إلى أن مبادئ إسلامية المعرفة وأهمها وحدة الحقيقة ورفض التعارض بين العقل والوحي هي ذاتها السمات التي ميزت الحضارة الإسلامية ومنحتها طابعها المألوف.

والنقطة الثانية هي ما يتعلق بدور المفهوم الحضاري في تصحيح النظام التعليمي في العالم الإسلامي، وهنا يفترض الدكتور الفاروقي أن إصلاح هذا النظام ينبغي أن يتم عبر دمج نظامي التعليم العلماني والديني في نظام تعليمي واحد، وغرس الرؤية الإسلامية وهذه تتحقق من خلال فرض دراسة الحضارة الإسلامية في كافة مراحل التعليم الجامعي بحيث تشمل كافة التخصصات الجامعية وجميع الطلاب حتى وإن كانوا غير مسلمين، وبحسب الفاروقي فإن مثل هذه الدراسة من أهم ما يحصن أفراد الأمة أمام العقائد الأخرى الساعية للتأثير عليهم، وهي التي تعزز الانتماء لهذه الحضارة إذ أنه لا يمكن أن يكون الفرد قادرا على إدراك ذاته دون أن يعرف أسلافه ودون أن يدرك موقعه وموقفه من الحضارات الأخرى(13).

***

الهوامش

(1) باحث ومفكر فلسطيني ولد في مدينة يافا عام (1921م) وحصل على بكالوريوس الفلسفة من الجامعة الأمريكية في بيروت عام (1941م) ورحل إلى الولايات المتحدة في أعقاب حرب فلسطين عام (1948م) وهناك حصل على درجتي الماجستير والدكتوراه، وقد عمل أستاذا لفلسفة الأديان في عدد من الجامعات الأمريكية والكندية وله عدد من المؤلفات الهامة في هذا المجال، وهو من المنظرين الأوائل لإسلامية المعرفة، وقد شغل منصب أول رئيس للمعهد العالمي للفكر الإسلامي حين تأسيسه عام (1981م).

(2) إسماعيل راجي الفاروقي ولويز الفاروقي، أطلس الحضارة الإسلامية، ص 26

(3) نفس المرجع السابق، ص 27.

(4) أبو بكر محمد أحمد إبراهيم، مفهوم التكامل المعرفي وعلاقته بإسلامية المعرفة (هيرندن: إسلامية المعرفة، ع 42-43، شتاء 2006)، ص 28.

(5) إسماعيل راجي الفاروقي ولويز الفاروقي، أطلس الحضارة الإسلامية ،ص 131،133.

(6) إسماعيل راجي الفاروقي، إسلامية المعرفة: المبادئ العامة، خطة العمل، الإنجازات (هيرندن: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1986) سلسلة إسلامية المعرفة رقم1، ص 92-93.

(7) إسماعيل راجي الفاروقي ولويز الفاروقي، أطلس الحضارة الإسلامية، ص135.

* في الواقع لا يشاطر بعض المفكرين الإسلاميين الدكتور الفاروقي الرأي في أن التسامح Tolerance يعد مبدأ للحضارة الإسلامية، فالمؤرخ قاسم عبده قاسم  يعده مفهوما كنسيا تخلق في ظل الحروب الدينية في العصور الوسطى لحقن دماء الفرقاء المسيحيين وبالتالي فهو ليس قادرا على أن يمتد ليكون أساسا لصوغ العلاقات بين أتباع الديانات المختلفة، انظر: قاسم عبده قاسم، المسلمون وأوروبا: التطور التاريخي لصورة الآخر، القاهرة: دار عين، 2008. أما رضوان السيد فيعتقد أن الحضارة الإسلامية استطاعت أن تطور منظومة إنسانية أكثر رحابة تجاه الآخر أسماها منظومة التعارف وقد استمدت اسمها من قوله تعالى: (لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) وهذه المنظومة التعارفية هي المقابل الإسلامي لمنظومة التسامح الغربية، انظر تفصيلات ذلك في: رضوان السيد، الدين والمجتمع والدولة في العلاقات والمصائر والمرجعيات، التسامح، العدد السابع عشر  (عمان، شتاء 2007) ص 18.

(8) إسماعيل راجي الفاروقي ولويز الفاروقي، أطلس الحضارة الإسلامية، ص 138.

(9) إسماعيل راجي الفاروقي، إسلامية المعرفة: المبادئ العامة، ص99.

(10) نفس المرجع السابق، ص 96 ،100.

* في الحقيقة لا يمضي الدكتور الفاروقي بعيدا في توضيح أبعاد العلاقة بين الأمة والحضارة وكيف تكون الأمة هي شرط قيام الحضارة، ولعله يقصد أنها المعين البشري والروحي الذي تستقي منه الحضارة وأنه لم توجد حضارة في التاريخ إلا وكان وراءها أمة نشطة ناهضة.

(11) إسماعيل راجي الفاروقي، جوهر الحضارة الإسلامية، المسلم المعاصر، العدد 27 – 1981.

(12) إسماعيل راجي الفاروقي، إسلامية المعرفة: المبادئ العامة، ص 105 ،111.

(13) نفس المرجع السابق، ص 47.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر