كلمة التحرير

نحو “بيو إتيقا” إسلامية

العدد 147

(1)

في غابة الأفكار التي يعيشها عالم اليوم، اتخذ البحث الأخلاقي وجهة جديدة تمثل ارتباطًا شموليًا بما هو كائن، وليس جسرًا معرفيًا نحو ما ينبغي أن يكون، وأصبحت أخلاقيات العلم – وهو مبحث يكتسب أهميته من العلم ذاته – هي قطب الرحى في هذه المعركة الدائرة بين الميتافيزيقا في جوهرها المتعالي وبين الفيزيقا في منظومتها المادية، ولم يعد يُقرأ التقدم والتحول إلا في ضوء إقصاء الدين لصالح الدنيا، وإبعاد المطلق عن كل ما له صلة بالأخلاق، بل بالأحرى بالحياة والأحياء. وهكذا احتلت الأخلاق التطبيقية – منذ العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين – مكانها الذي يحاول ألا يفسح مكانًا لفكر أخلاقي آخر، فالأمر يتعلق بالبحث والممارسة وليس بالجدل والمناظرة، أي هو واقع لا فكر، وهكذا انبثقت الأخلاق التطبيقية عن واقع جديد ومتغير، لحمته إنكار المطلق، وسداه المشكلات التي يثيرها التقدم العلمي المتسارع نحو مستقبل مجهول، وهكذا دخلت إلى الساحة مباحث جديدة ميادينها أخلاق الطب، وأخلاق البيولوجيا، وأخلاق البيئة، وأخلاق الإعلام، وأخلاق التجارة، وهلم جرا، وتدافع الخبراء، وقد أمسكوا “بالجين” الوراثي، واعتادوا التحكم في الأفكار والأجناس والأنواع، وطال ذلك البشركما طال غيرهم من الكائنات، فسعوا إلى استحداث منظومة أخلاقية جديدة تتعامل مع الإنسان باعتبار وظائفه الحيوية وليس باعتبار ماهيته الإنسانية، فما قيمة هذا التنوع اللامتناهي في كل شيء، وما قيمة كل هذه الأنشطة – كما قيل – إن لم تخدم الإنسان بما هو إنسان، أي جانب القيمة الأخلاقية فيه.

ليس أمر التطور متعلقًا بثورة العلم والبيولوجيا بما فيها من آمال، وما تحمله ولاداتها القيصرية من آلام، بل إن القضية برمتها ترتبط بعلمانية شاملة استدعيت عن قصد وسبق إصرار إلى المشهد العلمي، لتصنع على عينها أخلاقيات التطور، وتكتب بمدادها الصفحات الجديدة من تاريخ الإنسان، والعلمانية منذ بداية نشأة المصطلح على يد الإنجليزي “جورج هوليوك” سنة 1846م هي تحجيم للدين وتعظيم للحياة المادية، وعرَّف “جورج هوليوك” العلمانية بأنها: “القناعة بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية، دون التصدي لقضية الإيمان بالقبول أو الرفض، وتقدم العلم خطوة فأصبحت العلمانية – كما جاء في الموسوعة العالمية للدين – هي مجموعة الأخلاقيات الاجتماعية النفعية التي تهدف إلى الارتقاء بالإنسان دون الرجوع إلى الدين، وذلك عبر الاعتماد الكامل على ما يوفره العقل البشري والعلم من وسائل، وهذه المجموعة التي تم بلورتها في رؤية وضعية متكاملة تحظى بقبول عريض، وتهدف إلى توجيه كافة المؤسسات والأنشطة البشرية لخير الإنسان ورفاهيته في حياته الدنيا انطلاقًا من اعتبارات لا دينية”.

وهكذا أصبحت العلمانية من المنظور السياسي والفلسفي والاجتماعي تعني تحرير الإنسان من وصاية الأديان، وتعني ربط عملية التحديث حتى تصل إلى غاياتها بضرورة انحسار أو بالأدق تغييب دور الدين في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، ليبقى وجوده العاطفي مجرد لافتة رمزية لا تحرك ساكنًا، ولا تقدم معيارًا، ولا تضبط أفكارًا. وقد صدر في عام 1980م “الإعلان العلماني الإنساني” ممهورًا بتوقيعات عدد من الحاصلين على جوائز نوبل وغيرها، وقد تضمنت هذه الوثيقة المبادئ التالية بعد إيجازها:

1- حرية التفكير: والتي تعني الاعتراف بالحريات المدنية بدءًا من حرية الإعلام والاتصال، وحرية التعبير عن الرأي، مرورًا بحق تكوين الأحزاب والجمعيات، وانتهاءً بحرية نشر الإبداع الإنساني بكافة صوره الأدبية والفنية والفلسفية والعلمية، وأيضًا الاعتراف بحرية الاعتقاد، مع التأكيد على حرية الأفراد في التعبير عما آمنوا به دون خوف من المنع أو القهر قانونيًا كان أو اجتماعيًا. ويؤكد هذا المبدأ على أن التوصل إلى الحقيقة لا يتأتى إلا عبر التبادل الحر للآراء المتضادة، سواء كانت في مجال الحياة اليومية، أو العلم أو السياسة أو الأخلاق أو الدين.

2- فصل الدين عن الدولة: ورفض أي محاولة لوضع مبدأ أو نسق ديني أو تشريعي يفرض على المجتمع تصورًا دينيًا على أي نحو كان.

3- الحرية مثالاً: وينبغي أن يستوعب كل الأنشطة الفردية والاجتماعية، بل ويمتد ليشمل الحرية الإنسانية والاقتصادية.

4- الأخلاق النقدية: التي ترفض أن يكون الدين مصدرًا للأخلاق، فالعقل وحده هو الحكم على الصواب والخطأ، وهو الذي يحدد أخلاقية السلوك من عدمها.

5- التربية الأخلاقية: وتقوم على رفض حاسم لادعاء أية ملّة بأن القيم التي تدعو إليها هي القيم الحقيقية.

6- الشك الديني: الذي يرفض التفسير الحرفي للنصوص الدينية، فلا بد من نظرة عقلانية لكل ما هو فوق الطبيعة مع تجاوز الرؤية التقليدية عن الألوهية والكون والإنسان.

7- العقل: إن أدوات الإنسان هي نتاج المعرفة والتعرف على صحتها هي طرق البحث العقلانية، والشواهد الحسيّة، فلا معرفة وراء الحس، وأدوات المعرفة متجددة والمعرفة ذاتها قابلة للمراجعة والتعديل والدحض.

8- العلم والتكنولوجيا: وتعني أن المنهج العلمي بمفهومه المعاصر هو الطريقة المثلى لفهم العالم الذي نعيشه.

9- التطور: إن نظرية التطور رغم أوجه القصور فيها إلا أنها مدعومة بكم من الشواهد الإمبريقية بما يجعلها قادرة على تنحية الوجود العلمي لنظرية الخلق.

10- التعليم: وغايته بناء الإنسانية باعتبارها مجتمعات ديموقراطية حرة، وهدف التعليم تنمية العقل الناقد في كل من الفرد والجماعة.

هذا هو “إنجيل العلمانية” الذي يكاد يربط التقدم بمدى التخلي عن الدين، ومدى تنحي السماء لصالح الأرض.

(2)

وفي هذه البيئة اللا دينية وتطورات علوم الحياة وما صاحبها من تقنيات الإنجاب الصناعي، والهندسة الوراثية، والتجارب على الإنسان خاصة المرتبطة بالجهاز العصبي، والاختبار الدوائي، وما يتعلق بزرع الأعضاء، وتغيير الجنس، والموت الرحيم، والإصرار على مواصلة العلاج من خلال أجهزة الحياة الصناعية – وكما قيل – فإن هذه الثورة الطبية البيولوجية طرحت مشاكل أخلاقية لم تعرفها الإنسانية من قبل، كما وضعت أمام الإنسان معضلات شائكة يستعصى حلها على العالم أو الطبيب وحده، مما تتطلب تضافر جهود أهل الاختصاص في المجتمع من فلاسفة وعلماء الدين والبيئة والقانون والسياسة إضافة إلى الأطباء والباحثين في ميادين علوم الحياة، وترتبط هذه الإشكاليات بطبيعة الحياة والموت، واضطلاع الأطباء بواجبات ومسئوليات جديدة، تغير من طبيعة المسئولية الطبية وقواعدها، وقد أفرزت هذه التغيرات علمًا جديدًا في ميادين البحوث الأخلاقية أطلق عليه في الولايات المتحدة الأمريكية اسم “Bio ethics” ومحور هذه “البيو إتيقا” أخلاقيات جديدة تواجه تجاوزات البيوتكنولجيا(1).

وأول من استخدم هذا المصطلح هو العالِم البيولوجي المتخصص في السرطان “فان بوتر رينسلاير” في عام 1970م، وفي بحث له تحت عنوان “البيو إتيقا علم البقاء على قيد الحياة”.

لقد هال “بوتر” التفاوت الحاضر بين التقدم الكبير الذي شهدته المعارف العلمية وخاصة في ميادين الطب والبيولوجيا، وما يقابل ذلك من تأخر في الفكر الأخلاقي الموازي لاستخدامها، ولذلك أعلن تأسيس علم جديد: هو علم البقاء أو الاستمرار على قيد الحياة، وهو علم يرمي إلى إقامة تحالف بين علوم الحياة “Bio” والقيم الإنسانية والقواعد الأخلاقية (Ethics)، فإذا كانت الأجيال الحالية تسيطر عليها الرغبة في الحياة والخوف من البقاء في آن واحد، فذلك راجع للهوة التي تفصل بين ثقافتين: الثقافة العلمية التكنولوجية المعاصرة، والثقافة الأخلاقية والإنسانية الكلاسيكية، فقد نمت الثقافتان بشكل منفصل دون أن تؤثرا في بعضهما البعض، مما استدعى المسارعة إلى إقامة ذلك التحالف الذي أصبح ضروريًا بينهما (Bio-ethics) وبذلك سيتم تسييج المعرفة بسياج الحكمة، وسيشكل ذلك قنطرة أو معبرًا نحو المستقبل.. وكي يتحقق ذلك التحالف بالفعل، وبالتالي نجاة الإنسانية من الكوارث المحتملة فقد طالب “بوتر” بإعداد حقل دراسي واسع ووسط ملائم لهذا المبحث ولتطبيق الفكر الأخلاقي الجديد، بحيث يؤدي مجالات متعددة على رأسها تنظيم النسل، وتحقيق السلم، ومحاربة الفقر، والحفاظ على البيئة، والدفاع عن سعادة الأفراد، وحماية الحياة الحيوانية”.

هذا هو مفهوم “البيو إتيقا” عند “بوتر” والذي أُريد له مدخلاً إسلاميًا مقاصديًا وشموليًا، يرتقي به من نسق يدور في فلك العلمانية الشاملة، إلى نسق يجعل الأخلاق لا تتفلت من الأديان السماوية، أو تتجرد من قواعدها.

وقد حاول “أندري هيلجرز” أن يعزل معنى “البيو إتيقا” في القضايا التي يثيرها تقدم العلوم البيولوجية وتطبيقاتها الطبية، وأسس لذلك “مؤسسة كنيدي للأخلاقيات”.

والرأي عندي ان مصطلح “بوتر” هو الأقدر على جمع شتات الفكر الأخلاقي في جميع الميادين من أجل علم للبقاء يضمن للإنسان التقدم المادي والروحي معًا. إن مبحثًا جديدًا للأخلاق يكون موضوعيًا لا وضعيًا، ويرى التقدم العلمي من منظور الوظيفة الإنسانية، إضافة إلى الخصائص الجوهرية للإنسان ربما يكون مدخلاً لعلم أخلاق جديد لا تكون العلمانية محوره بل يصبح العلم لحمته، وسداه القيم الأخلاقية بمعناها المعياري لا الوصفي.

والحمد لله رب العالمين،،

* * *

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر