أبحاث

الدين والفلسفة

العدد 62

تمهيد : مقولات شائعة :

لقد شاع بين العامة منذ قرون متطاولة مقولات عديدة حول الفلسفة ، وحول صلتها بالدين ، وترسخت هذه المقاولات فى الأذهان ولا تزال حتى الآن تعمل عملها لا فى محيط العامة فقط ، بل فى عقول البعض لا ممن ينتسبون إلى الثقافة .

وهذا ما دفع أفلاطون قديما إلى القول بأن الجمهور ميال إلى الاعتقاد بأن الفلسفة عديمة النفع .(1)

ومن بين المقولات الشائعة فى هذا الصدد أن الفلسفة سفه ، وأنها مرادفة للإلحاد ، أو أنها دين من لا دين له . ويشبه البعض عمل الفيلسوف بمن يبحث فى حجرة مظلمة عن قطة سوداء لا وجود لها .

وقيل أيضاً عن المنطق الذى هو أحد العلوم الفلسفية : من تمنطق فقد تزندق .

وعندما بدأ الشيخ محمد عبده دراسة المنطق وشى الواشن إلى والده بأن ولده يدرس علوم الضلالات التى توقع فى الشبهات وتزلزل المعتقدات . فسافر الوالد إلى ولده فور سماعه نبأ هذه الكارثة ليصل إليه فى القاهرة فى الساعة الثالثة بعد منتصف الليل محذراً منذراً بالويل والثبور وعظائم الأمور ، كما يروى الشيخ محمد عبده نفسه فى مقال له فى صحيفة الأهرام عام  م  1877. (2)

وقد شاع فى عقول العامة أيضاً أن الفلسفة تعبير عن كل شئ مبهم وغامض مما لاسبيل إلى فهمه ولا جدوى من الاشتغال به . فهذا الأشتغال بالفلسفة – فى نظرهم – يعد جهدا ضائعا وإنهاكا للفكر فيما لا طائل من ورائه . وهنا فإن العامة عندما يسمعون أحدا يقول كلاما غير مفهوم يعقلون على ذلك بقولهم : إنه يتفلسف .

وقد علق أزفلد كولبه على ذلك كله بقوله :

إن الأصوات التى نسمعها اليوم معلنة قرب انتهاء الفلسفة أو الزعم بأنها من الأمور الكمالية التى لا نفع فيها إن هى إلا أصوات تصدر عن جهل بماهية الفلسفة ومعناها ورسالتها التى اضطلعت بها فى عصورها المختلفة . (3)

ومن الملاحظ أن الكثيرين – على الرغم من نفورهم من الفلسفة والتفلسف – يستخدمون فى تعبيراتهم اليومية كلمة (فلسفة) للتعبير عن اتجاهاتهم العامة ، فيقال مثلاً : فلسفتى فى الحياة أو فلسفتى فى عملى هى كذا أو كذا . ويقنع الكثيرون بهذا الاستخدام السطحى للفظ الفلسفة إما تجملا فى الحديث ، أو تظاهرا بالثقافة أمام الغير عن طريق استخدام كلمات مبهمة مثل كلمة فلسفة ، ولا يتعدى الأمر هذا النطاق .

وسبب هذا الخلط فى عقول غالبية الناس يرجع فى نظرنا إلى عاملين :

1- انعدام التحديد الدقيق والرؤية الواضحة الواعية لمفهوم الفلسفة فى أذهان الكثيرين .

2- الميل إلى إصدار الأحكام المطلقة على المذاهب الفلسفية من حيث هى فلسفة .

الفلسفة ظاهرة إنسانية :

والحق أن الفلسفة ظاهرة إنسانية عامة . فالتفكير الفلسفى ليس – كما يتصور البعض – احتكار للفلاسفة أو للمشتغلين بالفلسفة . فالإنسان بوصفه إنسانا يتميز عن غيره من الكائنات بعقل وهبه الله إياه ليفكر به . والتفلسف فى أبسط معانيه ليس شيئا آخر غير استخدام هذا العقل :

فالحيوان يرى ويسمع ، بل ويتذكر ، ولكنه لا يستخدم هذه القوى إلا فى حاجاته الوقتية . أما الإنسان فإنه يرى ظواهر الكون على اختلاف أنواعها فيتصورها ، ويكون له فيها رأيا ، ثم يجتهد فى تعرف عللها وعلاقة حقائق الكون بظواهره ، فإن فعل هذا قلنا إنه يتفلسف (4) .

وعلى ذلك فإنه لا يوجد فى الغالب إنسان لا يتفلسف ، أو على الأقل فإن لكل منا فى حياته لحظات يكون فيها فيلسوفا ينظر ويتأمل ويحاول الوصول إلى أعماق الأمور ، وليست الفلسفة إلا نتاجا للنظرة الفاحصة للعقل البشرى إلى هذا الوجود .

والعقل الإنسانى نور من الله ، أو كما يقول الغزالى : أنموذج من نور الله (5)  ، وبهذا النور يحاول العقل أن يكشف مجاهل الوجود وشعابه فيتتبع الموجودات ويحاول أن يدرك ماهياتها وحقائقها مرتقيا من علة حتى يصل إلى الغاية القصوى التى هى العلة الأولى والتى كان كل شئ بها ومن أجلها  (6) .

ثم يعود هذا العقل مرة أخرى إلى تأمل هذا الكون ناظرا فيه من جديد ومكونا لنفسه صورة واضحة عنه ومفسرا كيفية انسجام الأشياء فى ذاته وفيما حوله مما هو خارج عن ذاته .

ومن ذلك يتضح أنه على الرغم من نفور جمهور الناس من التفلسف وتشكيكهم فى جدية الفلسفة وقيمتها ، ومحاولتهم صرف الإنسان عن البحث فى قضايا الكبرى – على الرغم من ذلك كله فإننا جميعا من عامتنا إلى خاصتنا نتفلسف ، بدرجات متفاوتة ، وإن كان البعض منا لايريد أن يسلم بأنه يتفلسف (7) .

فالفلسفة فى واقع الأمر ليست بالشئ الدخيل على الإنسان ، فحياته ،حلقات متصلة من الفكر والتأمل . وهكذا يتبين لنا أن الفلسفة ليست تبا غير طبيعى فى المجتمع ، وإنما هى ظاهرة إنسانية ملازمة لوجود الإنسان . ولن تزول هذه الظاهرة من الحياة طالما كان هناك إنسان فى هذا الوجود .

إن الذى يرفض الفلسفة أو ينكرها هو فى حقيقة الأمر يتفلسف ؛ لأنه لا ينطلق من فراغ ، فهو يحاول أن يجد له أرضا صلبة يقف عليها ويطلق منها سهامه إلى الفلسفة ، أى أنه يحاول بناء وجهة نظر مضادة يجتهد فى أن تكون منطقية ومتينة ومستندة إلى أسس قوية . وهذا معنى فى النهاية أنه يتفلسف (8) .

وليست الفلسفة مجرد دراسات نظرية منعزلة عن حياة الناس اليومية بعيدة عن التأثير فيها وإنما هى نظرة إجمالية فى الكون ، واتجاه فكرى عام نحو الحياة فى مجموعها . وهذه النظرة ، وهذا الاتجاه الفكرى يؤثر بطبيعة الحال فى تصرفاتنا اليومية ، وفى معالجتنا للحوادث التى تمر بنا ، بمقتضاها نسير فى عملنا ، ونواجه النظم الطبيعية والاجتماعية التى تحيط بنا وتحدد ميولنا نحوها ، وتصرفاتنا تجاهها (9) .

وعندما نقول إن كل إنسان يتفلسف فليس معنى ذلك أن كل الناس فلاسفة بالمعنى الاصطلاحى . فالفيلسوف ليس هو ذلك الشخص الذى يبدأ فقط بالتفلسف ليس هو ذلك الشخصى الذى يبدأ فقط بالتفلسف وإنما هو الذى يستمر فى مواصلة التفلسف حتى النهاية ، فلا يكتفى بدرجة التفكير التى يمارسها المرء فى حياته العملية وحاجاته الوقتية ، ولكنه يفحص نتائج الفكر العادى فى محاولة للبلوغ إلى وضوح تام ، فى حين تظل الحقيقة فى التفكير العادى أمرا تقريبيا معتقداً (10) .

ومن هنا يمكننا أن نقسم مراتب الفكر عند البشر إلى ثلاث مراتب المرتبة الأولى هى مرتبة الفكر العادى التى تتمثل فى انصراف الفرد إلى التدبير أمور حياته العلمية ومعالجة مشاكله اليومية الجارية : أمور معاشة ومعاملاته وعلاقاته مع الناس والإنسان – فى العادة – لا يقف عند هذه المرتبة  من الفكر العادى ، وإنما تسلمه بالضرورة إلى مرتبة ثانية يمكن أن تسعى بالفلسفة الخاصة التى تمثل مجموعة المبادئ والمعتقدات التى ينظر من خلالها الفرد إلى الحياة والأشياء ، والتى تمثل أيضاً القواعد التى يعتمدها فى سلوكة وتعامله مع الآخرين ، وفى تقييمه أو حكمه على الناس والأشياء . وتقنع الغالبية العظمى من الناس بالوقوف عند هذه الدرجة .

ولكن هناك مرتبة ثالثة من التفكير تتعدى هذا النطاق . وتلك هى المرتبة التى يحاول فيها المرء البحث عن تأصيل نظرى لهذه المبادئ والمعتقدات قصد الوصول إلى أسس ومقومات نظرية تدعمها . وفى هذه المرتبة فقط من الفكر يصبح الإنسان باحثا فى الفلسفة (11) .

3- صلة الدين بالفلسفة :

من الثابت أن الفكر الفلسفى قد نشأ وترعرع فى حضن الدين . فقد كان الارتباط بين الفلسفة والدين ارتباطا وثيقا منذ القدم حيث كان التفكير الفلسفى ممتزجاً بالتفكير الدينى . وقد قيل فى هذا الصدد تلك العبارة المشهورة التى تقول :

إن الفلسفة نبت الدين وأم العلم .

وليس هناك فى حقيقة الأمر خلاف بين الهدف الذى يسعى إليه كل من الدين والفلسفة ، فالفلسفة تهدف إلى : معرفة أصل الوجود وغايته ومعرفة سبيل السعادة الإنسانية فى العاجل والآجل ، وهذان المطلبان اللذان يشكلان موضوع الفلسفة بقسميها النظرى والعملى هما كذلك موضوعا الدين بمعناه الشامل للأصول والفروع  (12) .

ولكن هناك من ناحية أخرى فرقا بين المعرفة الفلسفية والمعرفة الدينية من حيث وسيلة هذه المعرفة ، فهذه الفلسفة والوحى فى الدين .

ويترتب على ذلك أن العقل فى الفلسفة قد يرى أحيانا جانبا واحدا من الصورة أو الحقيقة ، وهذا يفسر لنا وجود العديد من المذاهب الفلسفية لتفسير الحقيقة التى هى فى ذاتها حقيقة واحدة مطلقة .

وتعبر قصة العميان والفيل – وهى أسطورة هندية قديمة نسبت إلى أفلاطون – تعبر هذه القصة عما نحن فيه من اختلاف المذاهب الفلسفية أصدق تعبير . وقد ذكر أبو حيان التوحيدى القصة فى المقابسات على النحو التالى :

سمعت أبا سليمان يقول : قال أفلاطون : إن الحق لم يصبه الناس فى كل وجوهه ولا أخطئوه فى كل وجوهه ، بل أصاب منه كل إنسان جهة – قال : ومثال ذلك عميان انطلقوا إلى الفيل وأخذ كل واحد منهم جارحة منه فجسمها بيده ومثلها فى نفسه ، فأخبر الذى مس الرجل أن خلقة الفيل طويلة مدورة شبيهة بأصل الشجرة وجذع النخلة ، وأخبر الى مس الظهر أن خلقته شبيهة بالهضبة العالية والرابية المرتفعة ، وأخبر الذى مس أذنه أنه منبسط دقيق يطويه وينشره . فكل واحد منهم قد أدى بعض ما أدرك ، وكل يكذب صاحبه ويدعى عليه الخطأ والغلط والجهل فيما يصفه من خلق الفيل . فانظر إلى الكذب والخطأ كيف دخل عليهم حتى فرقهم !(13)  .

وقد اتخذ خصوم القول بحقيقة مطلقة هذه القصة دليلا على نسبية الحقيقة زاعمين أنه لا توجد حقيقة مطلقة . ولكن القصة فى الواقع لا تبرهن بشئ ضد طابع الحقيقة المطلق . فقد عبر هؤلاء العميان عن قضيتهم تعبيرا غير دقيق ، ولو أن كل واحد منهم قال : إن الفيل – طالما أن الأمر يدور حول العضو الذى لمسته – مثل شجرة …

الخ فإن القضية حينئذ قضية صادقة لا غبار عليها  (14) .

وفى مقابل المعرفة الفلسفية التى هى معرفة إنسانية يجوز عليها الخطأ والصواب نجد أن المعرفة الدينية المبنية على الوحى الإلهى الموثوق بصحته معرفة معصومة من الخطأ وتعطينا الحقيقة كاملة جاهزة – إن صح التعبير – ولكن يبقى مع ذلك أن أصول الاعتقاد عقلية . ومن هنا يقول الشيخ محمد عبده فى رسالة التوحيد :

لقد تقرر بين المسلمين كافة – إلا من لاثقة بدينه ولا بعقله – أن من قضايا الدين مالا يمكن الاعتقاد به إلا من طريق العقل كالعلم بوجود الله وإرسال الرسل وإدراك فحوى الرسالة والتصديق بها ، كما أجمعوا على أن الدين إذا أتى بشئ يعلو على الفهم فلا يمكن أن يأتى بما يستحيل عند العقل (15) .

وهذا يبين لنا أن هناك تكاملا بين العقيدة الدينية والمعرفة الفلسفية ، فهذه تدعم تلك . ومعارف العقل لا يمكن بحال من الأحوال أن تتناقض مع المعارف الدينية القائمة على الوحى الإلهى .

ومن أجل ذلك يقول الإمام الغزالى :

العقل كالأساس والشرع كالبناء ، ولن يفنى أساس مالم يكن بناء ، ولن يثبت بناء ما لم يكن أساس .. فالشرع عقل من خارج والعقل شرع من داخل وهما متعاضدان ، بل متحدان (16)  .

فكل منهما يكمل الآخر ولا يمكن فصلهما عن بعضهما ، تماما مثل الأساس والبناء اللذين لا يقوم أى منهما دون الآخر . ومجالات ال\ين والعقل تتمثل – فى نظر الغزالى – فى قيادتنا إلى الدين وتسليمنا إليه . وفى ذلك يقوم الغزالى فى المنقذ من الضلال : الأنبياء أطباء أمراض القلوب ، وإنما قائدة العقل وتصرفه أن عرفنا ذلك ، ويشهد للنبوة بالتصديق ولنفسه بالعجز عن إدراك ما يدرك بعين النبوة ، وأخذ بأيدينا وسلمنا إليها تسليم العميان إلى القائدين ، وتسليم المرضى إلى الأطباء المشفقين . وإلى ههنا مجرى العقل ومخطاه ، وهو معزول عما بعد ذلك إلا تفهم ما يلقيه الطبيب إليه (17)  .

وهذا يوضح لنا بجلاء علاقة العقل بالوحى ؛ فالعقل هنا له وظيفتان هامتان :

أولاً : إرشادنا إلى الوحى والتصديق بالنبوة .

ثانياً : القيام بإدراك الموحى به وتفهمه .

ومن هنا لا يجوز أن يكون هناك تناقض بين العلوم العقلية والعلوم الشرعية ، وقد أكد ذلك الغزالى فى الإحياء حيث يقول وظن من يظن أن العلوم العقلية مناقضة للعلوم الشرعية وأن الجمع بينهما غير ممكن – : ظن صادر عن عمى فى عين البصيرة نعوذ بالله منه ، بل هذا القاتل ربما يناقض عنده بعض العلوم الشرعية لبعض فيعجز عن الجمع بينهما ، فيظن أنه تناقض فى الدين ، فيتحير به فينسل من الدين انسلال الشعرة من العجين  (18) .

4- موقف الإسلام من الفكر الفلسفى :

للفلسفة فى شتى عصورها تعريفات مختلفة بعضها شامل وبعضها يركز على جانب من الجوانب ، ولكنها جميعا تتكامل فى النهاية ويمكن ردها جميعا إلى قضايا الفلسفة الرئيسية وهى : الله والعالم والإنسان . ومادام الإنسان يعيش فى هذا الكون فلابد أن يعرف مكانه فى هذا الوجود ، وعلاقته بالكون ومن فيه وما فيه ، وعلاقته بخالق الكون .

وقد اهتم الإسلام بالعقل الإنسانى اهتماما كبيرا وهيأ له الظروف المناسبة ، وأزال من طريقه العقبات حتى يستطيع ممارسة دوره كاملا فى هذا الوجود . ومن هنا رفض الإسلام التقليد الأعمى ، وقضى على الخرافات والأوهام ، وغرس العزة فى نفس المؤمن وحرره من عقدة الخوف من أى كائن مخلوق ، وقرر المسئولية الفردية ، وقد كان ذلك كله بمثابة تمهيد الطريق أمام العقل الإنسانى يمارس وظيفته التى خلق من أجلها (19)  .

وبالإضافة إلى ذلك فإن مبدأى التوحيد وختم النبوة يعدان بمثابة رفع الوصاية عن العقل الإنسانى . فليس هناك مكان لأحد بعد ذلك لادعاء الاتصال بالله وفرض تعاليمه على الناس باسم الدين . فالدين قد اكتمل والعقل قد نضج ، ولا مكان لزعزة الدين ولا للتشويش على العقل .

وقد حث القرآن الكريم على النظر والتفكر والتأمل فى هذا الكون ، ودفع العقل دفعا إلى القيام بوظيفته التى خلق من أجلها وهى التفكير الذى يعد حقا طبيعيا للإنسان وغريزة فطرية مثل حقه فى الحياة ومن هنا كان الحفاظ على العقل حتى يستطيع القيام بأداء وظائفه المشروعة من بين المقاصد الخمسة للشريعة الإسلامية ، مثل الحفاظ على الحياة نفسها . والإنسان دون تفكير ليس إنسانا على الحقيقة ، بل هو كائن تنازل عن إنسانيته وارتضى لنفسه أن يكون فى مرتبة أدنى من مرتبة الحيوان الأعجم .

ومن هنا عاب القرآن على هؤلاء الذين لا يفكرون ، أى لا يستخدمون عقولهم ، بل يصمون حواسهم وعقولهم عن طلب المعرفة ، أو الفهم  وبذلك يعطلون وسائل المعرفة لديهم من حس وعقل عن أداء وظائفها التى أرادها الله ، وفى هذا الصدد يقول القرآن الكريم :

{ لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون } (20) .

ومن أجل ذلك فإن تعطيل العقل عن أداء وظيفته يعد – فى نظر الإسلام – ذنبا من الذنوب التى يمكن أن تلقى بصاحبها فى النار يوم القيامة . وهذا ما يؤخذ من الآية الكريمة :

{ وقالوا لو كنا نسمع ونعقل ما كنا فى أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم } (21) .

ومن هنا كانت دعوة القرآن الكريم المتكررة إلى الإنسان لا ستتخدم ملكاته الفكرية حيث يقول :

{ قل انظروا ماذا فى السموات والأرض }(22) – {أولم يتفكروا فى أنفسهم }(23) – {أولم يتفكروا ما فى السموات والأرض }(24)- {وفى أنفسكم أفلا تبصرون }(25) وغيرها من الآيات العديدة فى هذا الشأن .

ولذلك قرر ابن رشد أن الشرع قد أوجب النظر بالعقل فى الموجودات واعتبارها ، وذلك أخذاً من قوله تعالى :

{ فاعتبروا ياأولى الأبصار }(26) ، وقوله تعالى : { أولم ينظروا فى ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شئ } (27) .

وإذا كانت ممارسة الوظائف العقلية تعد واجبا دينيا فى الإسلام فإنها من ناحية أخرى تعد مسئولية حتمية لا يستطيع الإنسان الفكاك منها ، وسيحاسب على مدى حسن أو إساءة استخدامه لها مثلما يسأل عن استخدامه لباقى وسائل الإدراك الحسية . وفى ذلك يقول القرآن الكريم : {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا } (28) .

وقد قدم القرآن الكريم العديد من الشواهد والأمثلة التى تساعد العقل الإنسانى على شق طريقه وأداء دوره .

ومن بين هذه الشواهد مايلى (29)  :

أولاً : يعرض القرآن بكل أمانة ودفة آراء المخالفين ثم يتبعها بالرد الحاسم القائم على المنطق السليم وقوانين الفطرة السليمة .

فقد ذكر وجهات نظر الوثنيين والدهريين والماديين والكفار والمنافقين ، وعقب عليها تعقيبا مقنعا مستخدما فى ذلك أنصع البراهين وأقوى الأدلة .

فالكفار مثلا حين ينكرون البعث بعد الموت ويقولون : { ماهى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر }

يعقب القرآن على ذلك بقوله :{ وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون }(30) وهنا يفرق القرآن الكريم بين الظن والعلم ، موجها نظرنا إلى ضرورة فحص الأحكام والتأكد من مصدرها ، وفى ذلك ما فيه من الدعوة إلى النقد الموضوعى .

ويحذر القرآن من إصدار الأحكام فى أمور لا علم للإنسان بها حتى لا يقع فى الخطأ والتناقض ، فيقول :

{ ولا تقف ماليس لك به علم }(31) .

وعندما زعم الكفار أن الملائكة إناث عقب القرآن على زعمهم بقوله :

{ أشهدوا خلقهم } (32) وهنا يريد القرآن الكريم أن يقول لهم : إن هذه الفكرة التى تزعمونها إذا كانت صحيحة فإنها لابد أن تكون مبنية على الملاحظة والمشاهدة اللتين هما وسيلتان من وسائل العلم والمعرفة الصحيحة .

ثانيا : يعرض علينا القرآن الكريم قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه والنقاش العقلى الذى دار بينه وبينهم حول الألوهية ، وما اشتمل عليه هذا النقاش من أدلة عقلية فى صورة متدرجة فى تسلسل منطقى رائع تحمل العقل على محاكاتها للوصول إلى النفس نتائجها وهى الوصول لليقين الذى تشير إليه الآية الكريمة فى بداية القصة { وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين } (33) .

وبالإضافة إلى ذلك نجد أن الإسلام قد قدم عددا من المبادئ الهامة التى كان لها أثر حاسم فى التطور الفكرى والحضارى للمسلمين . ومن بين هذه المبادئ مبدأ الاجتهاد والوسيطة ووحدة الأصل الإنسانى ، والتدقيق فى رواية الحقائق التاريخية ، والتوجيه إلى استخلاص القوانين التى تحكم الضواهر الاجتماعية التاريخية ، تلك القوانين التى يعبر عنها القرآن بأنها سنن الله .

وعلى الجملة فإننا إذا تأملنا آيات القرآن الكريم فإننا نستطيع أن نستخرج منها أصول المعرفة بالحقائق الكبرى وهى : الله والكون والإنسان والقيم ، وكذلك أصول تنظيم الحياة العملية وتشكيل الأخلاق ، ونجد فيه أيضاً منهجا لتحصيل المعرفة الحسية التجريبية

والمعرفة النظرية (34)  ولا يوجد دين من الأديان مهد الطريق أمام العقل الإنسانى على هذا النحو إلا الإسلام .

5- مجالات النشاط الفكرى فى الإسلام :

لقد فتح الإسلام مجال النشاط الفكرى أمام الإنسان على مصراعيه وأطلق الطاقات الفكرية للإنسان إطلاقاً لا حد له .

ومن هنا رأيناه يجعا الكون كله بأرضه وسمائه وما بينهما مجالا للنشاط الفكرى للإنسان .

وفى ذلك يقول القرآن الكريم :

{ وسخر لكم ما فى السموات وما فى الأرض جميعا منه إن فى ذلك لآيات لقوم يتفكرون } (35) .

والتفكير الذى تنص عليه الآية هنا أمر جوهرى لا ينبغى أن يغيب عن الأذهان .

والتفكر الذى تنص عليه الآية هنا أمر جوهرى لا ينبغى أن يغيب عن الأذهان .

فإنه إذا كان الله قد سخر للإنسان هذا الكون فلا يجوز له أن يقف منه موقف اللامبالاة ، بل ينبغى أن يتخذ لنفسه منه موقفا إيجابيا ، وإيجابيته تتمثل فى درسه والنظر فيه وصولا إلى معرفة خالقه من ناحية ، ومن ناحية أخرى للاستفادة منه بما يعود على البشرية بالخير . والإفادة من كل هذه المسخرات فى هذا الكون لا تكون إلا بالعلم والدراسة والفهم والتأمل ، باستخدام كل المملكات العقلية والحسية ، والنظر فى ملكوت السموات والأرض على هذا النحو سيؤدى إلى الرقى المادى ، وفى الوقت نفسه إلى الرقى الروحى . (36)

وقد جمع القرآن الكريم القضايا الرئيسية للفلسفة فى آية واحدة فى معرض الحث على النظر فيها وصولا إلى الحق المطلق الذى هو فى النهاية غاية كل فيلسوف جاد . وذلك واضح تمام الوضوح فى قوله تعالى :

{ سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين الحق }(37) .

والتأمل فى هذا الترتيب الوارد فى هذه الآية يجد أن هذا الترتيب هو نفس الترتيب الذى سار عليه فلاسفة اليونان بدءا بالكون الذى هو أول ما يبصره الإنسان حين يفتح عينيه ومرورا بالإنسان – الذى أصبح محوراً للتفلسف فى عصر سقراط – ثم انتهاء بقضية الألوهية التى كانوا يسمونها :

الفلسفة الأولى أو العلم الأعلى . وقد اكتملت حلقات هذه القضايا فى فلسفة كل من أفلاطون وأرسطو .

وهذا يعنى أن الترتيب الذى جاء فى الآية المشار إليها هو الترتيب الطبيعى الذى تقتضيه طبيعة هذه القضايا .

6- قضية النزاع بين الدين والفلسفة :

النزاع بين الدين والفلسفة نزاع له قصة أفراد لها الباحثون كتبا تتحدث عنها . وقد ألف الدكتور توفيق الطويل كتابا فى هذا الموضوع بعنوان : قصة النزاع بين الدين والفلسفة .

وفى هذا الكتاب يرى أنه من استقراء تاريخ العقل مع الإيمان أنه لم يحدث بينهما نزاع أدى إلى استبعاد العقل واضطهاد أهله إلا إذا اجتمع أمران :

1- أن تكون لدى رجال اللاهوت ، فإن أعوزتهم السلطة قنعوا بالغيبة وانتقموا بالنميمة .

2- أن يكون هناك عقل يجرؤ على اقتحام (( المنطقة الحرام )) التى حرمها رجال اللاهوت وارتياد آفاقها والانتهاء منها إلى اكتشاف مجهول أو إنكار مألوف .

وهكذا يجر العقل على نفسه بفضل جزأته ويقظته غضب واضطهاد خصومه .

وبغير اجتماع هذين الأمرين لا يقوم نزاع أو صدام بين العقل والإيمان  (38) .

وهذا النزاع التقليدى بين الدين والعقل أو بين الدين والفلسفة أو العلم بصفة عامة نزاع لا مكان له فى تعاليم الإسلام .

والأقرب إلى الصواب أن تقول إن التناقض بين الدين والفلسفة هو أصلا فكرة راجت فى الأوساط المسيحية بسب بسيط وهو أن العقائد المسيحية تتناقض أصلا مع العقل تناقضا واضحا .

وقد ساعد على تأجيج نار العدواة بين الدين والفلسفة ذلك الموقف الذى اتخذته الكنيسة الكاثوليكية فى أروبا فى العصر الوسيط الذى تمثل فى تعقيب المفكرين والعلماء فى كل مكان عن طريق محاكم التفتيش . وقد تعرض الكثيرون منهم للتعذيب والقتل لا لسبب إلا لأنهم كانوا يقولون بأفكار تتفق مع العقل وتتناقض مع مواقف الكنيسة التى لم تكن بالضرورة هى مواقف الدين من حيث هو دين .

وقد الرشدية اللاتنية فلسفة ابن رشد لترويج القول بما يسمى بالحقيقة المزدوجة وهو قول يؤكد التناقض بين الحقيقتين الدينية والفلسفية . وابن رشد فى الواقع برئ من هذا الزعم براءة الذئب من دم يوسف بن يعقوب (39) .

فلا يجوز من وجهة النظر الإسلامية وضع المسألة على أساس أن هناك خصومة بين الدين والعقل وأن الإنسان فى موقف الاختيار بينهما . فهما عنصران جوهريان يتلازمان ولا يتناقضان ، والإنسان فى حاجة إليهما معا . والدين الصحيح لا يمنع العقل البشرى من التفلسف ومن حقه فى الفهم والتفكير فى ملكوت السموات والأرض ، وإنما يدفعه إلى ذلك دفعا .

والإسلام يعتبر العقل مناط إنسانية الإنسان فإذا عطل بالجهل والغفلة والعمى مسخت بشرية الإنسان وهبط بذلك إلى مرتبة أدنى من مرتبة الحيوان (40)  .

والحديث عن قضية النزاع بين الدين والفلسفة يجرنا إلى الحديث عن اتهام الفلسفة بأنها مرادفة للإلحاد أو أنها دين من لا دين له .

لقد رد فرنسيس بيكون على هذا الاتهام بقوله :

(( إن القليل من الفلسفة يميل بعقل الإنسان إلى الإلحاد ، ولكن التعمق فيها ينتهى بعقول الناس إلى الإيمان … وإذا ما صادف عقل الإنسان أسبابا ثانوية مبعثرة (فى الطبيعة) فقد يقف أحيانا عندها ، ولا يتابع السير إلى ما وراءها ، ولكن إذا أنعم النظر فشهد سلسلة الأسباب كيف تتصل حلقاتها فإنه لايجد بدا من الارتاء فى أحضان العناية الإلهية والتسليم لله )) (41) .

ويتضح لنا من خلال هذا النص أن الأمر على العكس تماما : فالفلسفة تؤدى إلى الإيمان لا إلى الإلحاد . أما السطحية فى الفكر التى تقف عند الأسباب الثانوية وعند ظواهر الأشياء فإنها هى التى يمكن أن تؤدى بصاحبها إلى الإلحاد .

وماذا يمكن أن يقول المرء عن وقفة ديكارت فى نهاية التأمل الثالث من كتابه (( التأملات )) حيث راح يتأمل جلال الله وعظمته ويعبر عن مدى انبهار بنور الله الذى لا مثيل له ؟ لنقرأ هنا نص كلماته التى تعبر عن عمق الإيمان وصدق اليقين بعظمة الله جل جلاله .

يقول ديكارت :

(( يبدو لى من الملائم جدا فى هذا المقام أن أقف هنية وجيزة لكى أعاين هذا الإله ذا الكمال المطلق ، ولكى أنعم النظر فى صفاته البديعة ، ولكى أتامل بهاء نوره الذى لا مثيل له ، ولكى أتعشقه وأتعبد له ، على الأقل بقدر ما فى وسعى وما تسمح به قوة ذهنى الذى كأنما يرتد من هذا التطلع مبهورا . فكما أن الإيمان يعلمنا أن الغبطة العظمى فى الحياة الأخرى إنما تنال بهذه المعاينة للجلالة الإلهية ، كذلك تعلمنا التجربة ولاتزال بأن تأملا كهذا ، وإن يكن بعيدا كل البعد عن الكمال ، يتيح لنا أن نظفر من الرضا بأكبر قسط نستطيع أن ننعم به فى هذه الحياة )) (42) .

7- موقف فلاسفة المسلمين من الفلسفة اليونانية :

قبل أن نتحدث عن هذه النقطة نود أن نقدم لها بملاحظة أساسية فى هذا الصدد وهى أنه لا توجد فلسفة من الفلسفات منذ كان هناك تفلسف حتى الآن يمكن أن تدعى لنفسها أنها هى وحدها الفلسفة الوحيدة المطلقة . فالمذاهب الفلسفية العديدة تعد وجهات نظر قد تقترب أو تبتعد عن الحقيقة ، ولكن لا شك أن فى كل منها جانبا من جوانب الحقيقة فالبناء الفلسفى بناء تشترك فيه الأجيال ، ويضيف إليه كل جيل شيئا جديدا يمهد به السبيل لمن يجئ بعده . فالكلمة الأخيرة فى الفلسفة لم يقلها جيل بعينه ، وإلا أصيب الفكر بالجمود وحكم عليه بالعقم الأبدى . وفى هذا الصدد يقول أبو بكر الرازى .

(( اعلم أن كل متأخر من الفلاسفة إذا صرف همته إلى النظر فى الفلسفة وواظب على ذلك واجتهد فيه وبحث عن الذى اختلفوا فيه لدقته وصعوبته عَلِم عِلم من تقدمه منهم وحفظه واستدرك بفطنته وكثرة بحثه ونظره أشياء أخرى ؛ لأنه مهد بعلم من تقدمه وفطن لفوائد أخرى واستفضلها ؛ إذا كان البحث والنظر والاجتهاد يوجب الزيادة والفضل )) (43) .

وإذا كان الأمر كذلك فإن الفلسفة اليونانية التى وصلت إلى المسلمين لا يمكن أن تؤخذ على أنها الحق بعينه ، بل يجب أن توضع فى إطارها الصحيح ، وهو أنها تمثل وجهات نظر لها ظروفها وعصرها . ومن ناحية أخرى يجب أن يتم تقييمها أولا بمقياس عصرها . ولا شك فى أنها كانت فى ذلك العصر الذى ظهرت فيه تعد خطوة متقدمة وفتحا جديدا فى عالم الفكر .

وإذا كان الغزالى قد قام بنقد الاتجاهات الفلسفية اليونانية فليس معنى ذلك أنه كان يرفض التفكير الفلسفى ، بل الأمر على العكس من ذلك تماما . فقد كان طول حياته نموذجا رائدا للعقلية الفلسفية الواعية . ومعلوم أن ديكارت أيضاً قد نقد هؤلاء الذين وقفوا مقلدين لأفلاطون وأرسطو بدلا من السعى إلى الوصول إلى شئ أفضل (44) . ومعلوم أيضاً أن ((كانت )) قد نقد المذاهب الفلسفية السابقة ، ولم يقل أحد إن ديكارت أو كانت بذلك يرفض التفكير الفلسفى .

ومع أن الغزالى قد هاجم الفلسفة اليونانية هجوما عنيفا فى كتابه تهافت الفلاسفة كما ظهرت فى فلسفة كل من الفارابى وابن سينا إلا أنه قد اعترف بصحة وأهمية بعض العلوم الفلسفية ، ففى كتابه (( المنقذ من الضلال )) يقسم الغزالى علوم الفلاسفة إلى رياضيات ومنطقيات وطبيعيات وسياسيات وخلقيات وإلهيات ، ويرى أنه لا يجوز رفض أو جحد الرياضيات والمنطقيات والطبيعيات باستثناء بعض المسائل فى الطبيعيات وعلى رأسها مسألة السببية . أما السياسيات فإنه لا يرفضها ولكن يرى أن الفلاسفة أخذوها من كتب الله المنزلة على الأنبياء وأما الخلقيات فيرى أنهم أخذوها من المتصوفة ويعنى بهم المتألهين الذين وجدوا ويوجدون فى كل عصر (45) .

أما الهجوم العنيف الذى وجهه الغزالى إلى هذه الفلسفة فقد انصب على قسم الإلهيات وبخاصة مسائل قدم العالم وعلم الله بالكليات والبعث بالروح فقط .

ومعلوم أن الغزالى كان من أشد الناس تحمسا للمنطق الأرسطى وقد ألف الغزالى فيه عدة كتب هى معيار العلم ، ومحك النظر ، والقسطاس المستقيم . وكتب فضلا عن ذلك مقدمة مطولة فى المنطق لكتابه ( المستصفى من علم الأصول ) واعتبر المنطق – كما يقول فى هذه المقدمة – بمثابة مقدمة ضرورية لكل علم على الإطلاق .

وهكذا ينبغى أن نفرق بين نقد فلسفة ما من الفلسفات ورفض التفكير الفلسفى ؛ فنقد فلسفة ما أمر عادى وليس فيه بأس ، بل هو على العكس أمر مطلوب تقتضيه طبيعة الفلسفة ذاتها ، أما التفكير الفلسفى من حيث هو فهذا أمر لا فكاك للعقل الإنسانى منه لأنه جوهر طبيعة هذا العقل . والذى يرفض التفكير الفلسفى بصفة عامة مثله مثل من يحاول أن يمنع ضوء الشمس بوضع يده أمام أشعتها ، فهذا الأمر ضد طبيعة الأمر ضد الأشياء .

ولم يكن الغزالى وحده هو الذى قام بنقد الفلسفة اليونانية ففلاسفة المسلمين بصفة عامة – وإن كان البعض منهم قد بالغ فى تقدير قيمة هذه الفلسفة – كانت لهم نظرات نقدية فى هذا الصدد ، غير أن الغزالى كان أكثر تفضيلا وأكثر وضوحا .

فالكندى – وهو أول فيلسوف عربى مسلم – لم يتردد فى أن (( يخالف أرسطو فى قدم العالم – ويؤكد العناية الألهية – وصفات الإله المبدع الفعال المدبر الحكيم ، ويخرج من نظره الفلسفى بوجهة نظر عامة تقوم على فهم الدين بالعقل الفلسفى ،

وينتهى إلى مذهب دينى فلسفى معا )) (46) .

وهذا يبين لنا أنه منذ البواكير الأولى للفكر الفلسفى يتعانقان ويتجاوران فى عقول فلاسفة الإسلام . وهنا لا بد من افتراض وجود منطلق ثابت وراء التقاء الحقيقية الدينية بالحقيقية الفلسفية ، أو وجود خلقية دينية تصحح وحدة الغاية والهدف بين الدين والفلسفة عند مفكرى المسلمين ، ويتمثل هذا المنطلق الأساسى ، أو الخلقية الدينية فيما يمكن أن نسميه (( وحدة الحقيقة )) فى الإسلام .

وقد ظهر أثر هذه ((الوحدة )) فى فكر فلاسفة المسلمين بصفة عامة ، الأمر الذى جعل البعض يصف الفلسفة الإسلامية بأنها فلسفة توفيقية تنحو نحو التوفيق بين العقل والوحى .

وهكذا نجد أن الفارابى يرى أن موضوعات الفلسفة وموضوعات الدين واحدة ، وأن كلا منهما (( يعطى المبادئ القصوى للموجودات ، فإنهما يعطيان علم المبدأ الأول والسبب الأول للموجودات ، ويعطيان الغاية القصوى التى لأجلها كون الإنسان وهى السعادة القصوى )) (47).

ويرى الفارابى أن الفلسفة الصحيحة لا تتناقض مع الدين الصحيح ، فإن بدا هناك بعض النفور أو التناقض بين الطرفين فما ذلك إلا لأن النظام الفلسفى الذى تناقض مع الدين يعتبر نظاما واهيا لم تكتمل فيه البراهين المؤدية إلى اليقين . فالحقيقة واحدة لدى الفارابى ولكن الطريق إليها متعدد .

أما ابن سينا فإنه يرى (( أنه لا يوجد فى أقسام الفلسفة ما يخالف الدين أو يتعارض معه ، ويرجع ضلال أدعياء الفلسفة وانحرافهم عن منهاج الشرع إلى قصور فى تفكيرهم وعجز فى أفهامهم . وفى ذلك يقول :

(( لقد ظهر أنه ليس شئ منها – أى فلسفة – يشتمل على ما يخالف الشرع فإن الذين يدعونها ثم يزيغون عن منهاج الشرع إنما يضلون من تلقاء أنفسهم ومن عجزهم وتقصيرهم لا أن الصناعة نفسها توجبه ، فإنها بريئة منهم )) (48) .

ومن حقنا أن نطبق ما يقوله كل من الفارابى وابن سينا حول الفلسفات التى تنحرف عن منهاج الشرع على فلسفة كل منهما إذا وجدنا فيها ما يخالف الشرع أو يتناقض معه .

أما ابن رشد فإنه قد بين فى بداية كتابه ( فصل المقال ) أن النظر فى كتب القدماء أمر واجب بالشرع مادام الهدف الذى يقصدون إليه هو ذات المقصد الذى حثنا عليه الشرع وهو : النظر العقلى فى الموجودات وطلب معرفتها واعتبارها ، غير أن النظر فى كتب القدماء يتطلب عقلية ناقدة واعية لا تعتمد إلا ما يوافق الحق الذى جاء به الدين ، وهنا يقول ابن رشد :

(( ننظر فى الذى قالوه من ذلك ، وما أثبتوه فى كتبهم ، فما كان منهما موافقا للحق قبلناه منهم وسررنا به وشكرناهم عليه ، وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرناهم منه وعذرناهم )) (49) .

أما الحكمة من حيث هى حكمة ويعنى بها الفلسفة فإنها فى نظر ابن رشد (( صاحبة الشريعة والاخت الرضيعة .. وهما المصطحبتان بالطبع المتحابتان بالجوهر والغريزة )) (50) .

وبناء على ذلك فإن إثارة أى نوع من أنواع العداوة بينهما إنما يرجع – فى رأيه – إلى أصحاب الأفهام الفاسدة والاعتقادات المحرفة أو يرجع إلى الأصدقاء الجهال .

8- خاتمة :

وفى ختام هذا البحث يبقى هناك سؤال لعله يدور فى أذهان البعض : ما فائدة إثارة هذه القضية الآن ؟ أو عبارة أخرى : ماذا يعنى هذا الموضوع بالنسبة لعصرنا ؟

وإجابتنا عن ذلك تتلخص فى الأمور التالية :

أولا : يعد التفكير قيمة من القيم التى حرص الإسلام على العناية بها والاهتمام بأمرها ، وتوفير كل الظروف الملائمة لجعلها واقعا حيا بين الناس لأنها وظيفة العقل الذى من أجله استخلف الله الإنسان فى الأرض . والتفكير الفلسفى يساعدنا على الحفاظ على هذه القيمة نقية من الشوائب بالتخلص من الكثير من الأوهام والخرافات التى يرفضها الدين أيضاً ، ويساعدنا على تجنب إصدار الأحكام المطلقة فى المسائل الخلافية ، ويساعدنا على التحرر من التقليد الأعمى الذى حذر منه النبى صلى الله عليه وسلم فى حديث الشريف :

لا تكونوا إمعه ، ويساعدنا فى مهمة البحث عن اليقين فى شتى المسائل الفكرية بأدلة المنطق وبراهين العقل حتى لا نظل أسرى الظنون التى لا تغنى من الحق شيئا .

الدعوة الإسلامية فى الغرب فى حاجة ماسة إلى عقلية فلسفية تعرض الإسلام عرضا يتناسب مع المستويات الفكرية والثقافية فى عالم اليوم ، كما أن قطاعا كبيرا من المثقفين فى عالمنا الإسلامى فى حاجة أيضاً إلى مثل هذا العرض الفلسفى للإسلام .

 ثانيا :

المذاهب السياسية والتيارات الفكرية والاقتصادية والأيدولوجيات المختلفة التى يموج بها عالم اليوم لا يمكن فهمها فهما سليما إلا بالرجوع إلى أصول الفلسفية :

فكل منها يعتمد على أصول فلسفية لا بد من دراستها وفهمها لمعرفة خلفيات التيارات التى تتصارع فى عالمنا المعاصر .

ونحن المسلمين لا نعيش وحدنا فى هذا العلم الذى أصبح مثل قرية صغيرة . ومن هنا فلابد من فهم ودراسة ما يدور حولنا حتى لا نخدع أو نضلل ، وإلا فإن الطوفان سيجرفنا فى تياره . فالبث المباشر قادم فى وقت قريب جدا ، ولن نستطيع المواجهة إلا بالدراسة الواعية والفهم العميق والأفق الواسع والعقلية الفلسفية الناقدة . ومن هنا فلا مفر من التفكير الفلسفى .

ثالثا :

الفلسفات الإلحادية تعد من الفلسفات التى وقفت فى منتصف الطريق الفلسفى ، وقفت عند الأسباب الثانوية القريبة ، وعجزت عن الاستمرار فى طريق التفلسف حتى النهاية كما أشار فرنسيس بيكون ، وهى فلسفات لم تكتمل فيها البراهين الفلسفية الموصلة إلى اليقين حسب منطق فلسفة الفارابى ، وتدل على عجز فى أفهام أصحابها وقصور فى عقولهم بناء على فلسفة ابن سينا . ومن هنا فكل فلسفة إلحادية لا يمكن أن تحسب على الفلسفة من حيث هى فلسفة .

رابعاً :

لقد استبعد ديكارت –  أبو الفلسفة الحديثة – من مجال الشك الذى عرف به العقائد الدينية وقواعد الأخلاق ، وحصر منهجه الشكى فى الأمور النظرية . وهذا درس من الثقافية الغربية الأصلية ينبغى أن يتعلمه بعض أبناء المسلمين الذين يبحثون فى ((قمامة)) الثقافة الغربية عن أباطيل المستشرقين التى تشك فى أصول الإسلام ، ويقومون بترويجها بين المسلمين خدمة لأعداء الإسلام .

خامساً :

وأخيراً نود مرة أخرى أن نؤكد أن الفلسفة الصحيحة لا تعادى الدين ، والدين الحق لا يقف حجر عثرة أمام التفكير الفلسفى . ومن ناحية أخرى لم يحدث أن حورب التفكير الفلسفى بالسيف فى المجتمع الإسلامى على مدى تاريخ المسلمين الطويل . وما يحدث من هذا القبيل كانت وراءه أسباب سياسية أو غيرها من أسباب لم تكن إلى مجال الفكر بصلة .

والله يقول الحق وهو يهدى السبيل .

الهوامش

(1) تاريخ الفلسفة اليونانية ليوسف كرم ص 105 .

(2) الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده ج 3 ص 15 وما بعدها – تحقيق . د . محمد عمارة – بيروت 1980 .

(3) أزفلد كولبه : المدخل إلى الفلسفة ص 5 توجيه د . أبو العلا عفيفى – القاهرة  1942.

(4) مبادئ الفلسفة لرابوبرت – ترجمة أحمد أمين ص 5 / مكتبة النهضة المصرية 1965 .

(5) مشكاة الأنوار للغزالى ص 44 – تحقيق د . أبو العلا عفيفى – القاهرة  1966 .

(6) تاريخ الفلسفة العربية – تأليف حنا الفاخورى وخليل الجر ص7 بيروت 1966

(7) البراجماتزم ليعقوب فام ص 40 القاهرة  1936 .

(8) كتابنا : تمهيد للفلسفة ص 16 – مكتبة الأنجلو المصرية 1986.

(9) البراجماتزم  ص 33 .

(10) كتابنا : تمهيد للفلسفة ص 17 .

(11) مقدمة فى الفلسفة العامة : د .يحيى هويدى ص 11/ 12 مكتبة النهضة المصرية   1965.

(12) الدين للدكتور محمد عبدالله دراز ص 53– القاهرة  1952.

(13) المقابسات لأبى حيان التوحيدى ص 259 وما بعدها – المكتبة التجارية الكبرى – مصر  1929 .

(14) مدخل إلى الفكر الفلسفى لبوخنيسكى ، ومن ترجمتنا ص 67 – الأنجلو المصرية  1979.

(15) رسالة التوحيد للشيخ محمد عبده ص  45، 53، دار إحياء العلوم – بيروت  1979.

(16) معارج القدس للغزالى ص 46 – المكتبة التجارية الكبرى (دون التاريخ) .

(17) المنقذ من الضلال ص 146 وما بعدها – دمشق 1934 .

(18) إحياء علوم الدين ج 3 ص  17– طبع مصطفى البابى الحلبى – القاهرة  1939 .

(19) كتابنا : دور الإسلام فى تطور الفكر الفلسفى ص 13- 16 دار المنار – القاهرة .

(20) سورة الأعراف 179

(21) سورة الملك 10 ، 11 .

(22) سورة يونس 101  .

(23) سورة الروم  8.

(24) سورة الاعراف 185 .

(25)  سورة الذاريات 21 .

(26) سورة الحشر2 .

(27) سورة الاعراف 185 .

(28) سورة الإسراء 36 .

(29) كتابنا : دور الإسلام فى تطور الفكر الفلسفى ص 19 وما بعدها .

(30) سورة الجاثية 24 .

(31) سورة الإسراء 36 .

(32) سورة الزخرف 19

(33) سورة الأنعام 75

(34) كتابنا : دور الإسلام فى تطور الفكر الفلسفى ص 22، 32 .

(35) سورة الجاثية 13 .

(36) كتابنا : دور الإسلام فى تطور الفكر الفلسفى ص 10 .

(37) سورة فصلت 53 .

(38) قصة النزاع بين الدين والفلسفة للدكتور توفيق الطويل ص 11 من الطبعة الثانية .

(39) تناولنا هذا الموضوع فى بحث حول : الحقيقة الدينية والحقيقة الفلسفية لدى ابن رشد يجرى نشره حاليا فى الكتاب التذكارى لابن رشد عن طريق المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة .

(40) كتابنا : تمهيد للفلسفة ص 91 / 92 .

(41) أعلام الفلاسفة : هنزى توماس – ترجمة مترى أمين ص 210 – القاهرة  1964 .

(42) التأملات لديكارت ص 157 – ترجمة د . عثمان أمين – الأنجلو المصرية  1951 .

(أيضاً : كتابنا : دراسات فى الفلسفة الحديثة ص 111– القاهرة 1988)

(43) مناهج العلماء المسلمين فى البحث العلمى لزوزنتال ص 185 – ترجمة أنيس فريحة – بيروت 1980 .

(44) كتابنا : المنهج الفلسفى بين الغزالى وديكارت ص هامش 2 . دار القلم بالكويت  1983 .

(45) المنقد من الضلال ص 88 وما بعدها .

(46) الكندى وفلسفته للدكتور محمد عبد الهادى أبو ريدة ص 58 – دار الفكر العربى 1950 .

(47) تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية للشيخ مصطفى عبد الرازق ص ، وتأملات فى الفكر الإسلامى للدكتور محمد كمال جعفر ص 78 – القاهرة  1980.

(48) تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية ص 61

(49) فصل المقال لابن رشد ص 13 (ضمن: فلسفة ابن رشد – المكتبة المحمدودية التجارية 1968)

(50) المرجع السابق ص 35/36

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر