أبحاث

المشهد الليبرالي في إندونيسيا السياسي والثقافي والاقتصادي

العدد 144

تمهيد:

حصلت إندونيسيا على شهرتها في مؤتمر باندونغ، ولمع نجمها في عهد سوكارنو البطل القومي الذي وقف إلى جانب جمال عبد الناصر في خندق دول عدم الانحياز؛ ولكن ضخامتها السكانية وعلو كعب المسلمين فيها، رفع من رصيد شهرتها لدى عامة العرب والمسلمين. في الوقت الذي كان فيه الغرب يطمع في استغلال مواردها الطبيعية النادرة، والإفادة من رخص مواردها البشرية الهادرة. وكان الغرب قد تحيَّن فرصة الانقلاب الداخلي على سوكارنو، ليفرض استراتيجيته العملية في أرض ورثها سوهارتو من غير مؤسسات اقتصادية فاعلة، ناهيك عن الفساد بشقيه السياسي والقضائي.

في مثل هذه الحالات، التي تتكاثر فيها الهزائم الاقتصادية الاشتراكية وتظهر فيها الانقلابات السياسية والعسكرية، وتبحث الدولة لنفسها عن مخارج آمنة، تنشط الليبرالية وتقترح سياساتها العملية، لا سيما إذا كانت سياساتها مغرية وذات فوائد مادية، مثل: الاستثمار الذي يزيد من حصة التوظيف، ويوهم بالقضاء النهائي على البطالة. فضلاً عن الديموقراطية التي تقترحها الليبرالية بوصفها بديلاً لتجنب الانقسامات الحاصلة بين أبناء الوطن، ومن ثم البحث عن بدائل غير محلية لحصول التوافق ولو على حساب القيم التاريخية الجامعة. والأهم في اقتراحات الليبرالية هو تحصيل العالمية التي ترغب فيها كل دولة ظلت سجينة المحلية، مما يدفع بهذه الدولة الراغبة في العالمية إلى الإسراع في عملية الاستثمار الأجنبي المباشر، وإدخال الديمقراطية بوصفها عنصرًا حاسمًا في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، من غير وعي بالمخاطر التي تلحق بالإنسان والتنمية والأرض والأجيال القادمة. وهذا ما يبدو جليًا في المشاهد السياسية والثقافية والاقتصادية في بلد ما زال يتنظر من الليبرالية الكثير من العمل لحفظ الحقوق التي يراها آخرون أنها ضائعة، ولابد من تحصيلها بالواجب الليبرالي.

أولاً: المشهد السياسي

1. نظام الحكومة:

لا يمكن الحديث عن الفكر الليبرالي الإندونيسي في عصر الاستقلال من غير الإشارة إلى النظام الجديد الذي تولَّى دفة الحكم بعد سوكارنو، ونعني سوهارتو (1921-2008م)، الذي يعد عهده الانطلاقة الأولى للديمقراطية أو بدايتها إن شئنا الدقة. وهو عهد تصحيح الأخطاء التي ارتكبت في عصر سلفه سوكارنو. لقد أدار سوكارنو البلاد بطريقة فيها الكثير من الغموض الإيديولوجي، مستعملاً ما يسمى بالديمقراطية الموجَّهة. وقد أتاح سوكارنو للحزب الشيوعي فرصًا عديدة للتمدد والتوسُّع؛ إذ تبوَّأ بعض أفراده مناصب وزارية، ثم زاد نفوذهم بعد تدبيرهم لانقلاب عسكري؛ مما نتج عنه تصادم عنيف مع الجماهير، واندلعت المظاهرات في أنحاء إندونيسيا يحركها الشباب وطلاب الجامعات، الذين كانوا ينادون بحل الحزب الشيوعي وسجن قادته، وكان لهم ما تمنوا؛ إذ منع هذا الحزب من المشاركة السياسية. وتم في أول أكتوبر 1966، حل الحزب الشيوعي، ومنع نشاطاته على جميع المستويات. وفي هذه الظروف لمع نجم سوهارتو بوصفه بطلاً ساعد في القضاء على الانقلاب الشيوعي المدعوم من الصين(1).

ولقد لقى سوهارتو قبولاً من جميع أفراد الشعب بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو السياسية، فقد رأوا أن الالتفاف حوله يفضي إلى استقرار البلاد، واستئصال الوجود الشيوعي. ووجد سوهارتو دعمًا من الطلاب الذين ساعدوا على تصفية جيوب الحزب الشيوعي، فعمل العامة من الشعب على معاقبة قادة هذا الحزب وإعدامهم بعد أن أذن لهم القادة المسلمون بذلك.

وعلى العموم وجد سوهارتو قبولاً حسنًا من عامة الشعب؛ لأنه قضى على الحركة الشيوعية الثورية. غير أن بعض المصادر ذكرت أنه استخدم سياسة الترقب والانتظار، فقد كان يترقب ما يسفر عنه الوضع، فلما رأى أن الانقلاب لا محالة فاشل، تظاهر بمساندة الإسلاميين؛ مما يدل على أن نواياه تجاه الإسلام لم تكن صادقة؛ إذ سرعان ما قام بتهميش المبادئ الإسلامية، والاعتماد على مبادئ العلمانية التي كان يؤمن بها، ويظن أنها الأمثل لإدارة دفة النظام. ويلاحَظ أن الفرق بين سوكارنو وسوهارتو، أن الأول اعتمد على الشيوعية مرجعًا في إدارة الدولة، وذلك بإبعاد الإسلام علانية؛ أما سوهارتو فاعتمد العلمانية في إدارة الدولة، وهي لا تختلف عن الشيوعية في شيء، إلا أن الفارق هو أن سوهارتو عمل على ضرب الدين الإسلامي بصورة خفية. فما يجمع بين الزعيمين هو العمل على تهميش المبادئ الإسلامية وتشويهها تمهيدًا للقضاء عليها. ويجب أن نشير هنا بأن سوهارتو في بداية حكمه عمل على توحيد السياسة، وصهر جميع الإيديولوجيات في بوتقة واحدة، وقد وجد قبولاً شعبيًا لا مثيل له. وكانت العلاقة بينه وبين الشعب تتسم بالهدوء والارتياح الشديدين، بل كان شهر عسل على رأي بعض المحللين(2).

وقد نادى رئيس الوزراء محمد ناصر، أبناء الوطن بالالتفاف حول القائد سوهارتو، ومناصرة سياسة الدولة للخروج من الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ ولبَّى الشعب بجميع طبقاته نداء الحكومة، وقد كانوا متفائلين بنظام حكم تحت قيادة رشيدة؛ إذ حققت تلك الفترة نوعًا من الاستقرار، فاستعد الشعب لمواجهة التحديات(3)، ولكن سرعان ما ساءت الأمور، وتمزق حبل الثقة بين النظام والمسلمين ذوي الأغلبية الساحقة. ويجمع المحللون والخبراء على أن وصول سوهارتو إلى دفَّة الحكم ما كان له أن يتحقق لولا نصرة المسلمين ومساندتهم له من الذين رأوا فيه خلاصًا من الشيوعية الملحدة؛ فقدر لهذا التقارب أن ينهار، ولهذا الحب الذي كان في قلوب المسلمين أن تخفت ناره، وقد حدث كل ذلك بعد ظهور النوايا السيئة تجاه الإسلاميين من قبل سوهارتو، فانفكت صلات القربى – كما وصف الخبير الهولندي – بين الحكومة والمسلمين(4).

2. حظر الإسلام من الخوض في السياسة:

كما ذكرنا سابقًا أن شهرة سوهارتو ترجع إلى قدرته على حلِّ الحزب الشيوعي ومحاربته؛ مما أدى إلى التفاف جميع الإسلاميين حوله، وظنوا أنه المخلِّص من كل المشكلات، وأن عهده سيشهد نظامًا ديمقراطيًا جديدًا، يتيح العدل والمساواة للجميع، ولهذا كوفئ (حزب ماشومي)(*) بالاشتراك في إدارة الدولة في الفترة الانتقالية، وقد جاءت هذه المكافأة مقابل ما بذله هذا الحزب من جهد في الكفاح ضد الشيوعيين. هذا وقد كان حزب ماشومي محرومًا من المشاركة السياسية منذ 6 أكتوبر 1966. ورأى رئيس الحزب فراووتو مانكوسسميتو (1910-1970) (P. Mangkusasmito)، ضرورة مشاركة حزبه في السياسة وإدارة الدولة بصورة فاعلة، فكتب إلى سوهارتو خطابًا في هذا الشأن، فكان ردُّ سوهارتو غريبًا ومخيبًا لآمال المسلمين؛ إذ قال: إن حزب ماشومي لا يختلف عن الحزب الشيوعي؛ لأنه يعمل على تغيير فلسفة الدولة وتشكيلها وفق الإيديولوجية الإسلامية. وكان هذا الرد بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، فبدأ التنافر بين سوهارتو وعامة الناس من المسلمين؛ إذ رأوا في عدم الاختلاف بينهم وبين الحزب الشيوعي إهانة. ولم يسكت حزب ماشومي على هذه الإهانة، بل أرسل خطابًا للسلطة عبَّر فيه عن غضبه وسخطه، مستندًا إلى مذكرة اتحاد المحامين التي تقول بعدم شرعية حل حزب ماشومي، والحزب الاشتراكي(5).

وبناء على ذلك طالب حزب ماشومي من رئيس الدولة إعادة النظر في القرار، والسماح لحزب ماشومي بالمشاركة السياسية؛ لأن مشاركة هذا الحزب ستزيد من شعبية الرئيس، فضلاً عن أنها ستقود إلى المحافظة على الوحدة الوطنية، وانتعاش الحالة الاقتصادية، وجلب الأمن والاستقرار للبلاد(6)، وكان ردُّ الرئيس سوهارتو صارمًا بعدم منح أية فرصة للحزب بالمشاركة السياسية، وذلك بناء على مذكرة تلقاها من رئيس أركان الجيش(7)، ولكن الإشارة إلى رئيس أركان الجيش كانت حيلة لجأ إليها سوهارتو ليظهر بأن القرار ليس قراره وحده، بل يشاركه الجيش في اتخاذ هذا القرار، وهي الجهة المنوط بها حفظ الأمن. وعندما شعر زعماء حزب ماشومي بصلابة موقفه، اتجهوا إلى تأسيس حزب جديد أطلقوا عليه حزب مسلمي إندونيسيا (Partai Muslimin Indonesia, Parmusi)، وجاءت فكرة إنشاء هذا الحزب بعد سلسلة من اللقاءات بين مجموعة من الهيئات الإسلامية، ومن ثمَّ أرسلوا خطابًا جديدًا إلى سوهارتو في 24 أغسطس 1967م، أعلموه بقيام حزب جديد وفقًا للقوانين واللوائح، وتم عقد سلسلة من اللقاءات بين الزعماء والسلطة؛ ولكن فشلت في النهاية كل محاولات إنشاء الحزب الجديد؛ لأن سوهارتو أبدى رفضًا شديدًا لتولي أي زعيم من حزب ماشومي منصبًا قياديًا في الدولة(8).

لقد علَّل سوهارتو رفضه إنشاء حزب جديد وإقصاء زعماء ماشومي عن قيادته، بأن حظره لنشاط حزب ماشومي هو أمر مؤقت، فقد يتوقف الحظر في وقت لاحق، لذا كان يرى أنه ليس من الضروري إنشاء حزب جديد. وننقل من أقواله ما يأتي: إن قادة حزب ماشومي ليسوا بحاجة لتولي مناصب قيادية في هذه الفترة، وعليهم أن يؤدوا أدوارهم من خلف الكواليس، وأن يتحلوا بالصبر إلى حين عقد مؤتمر الحزب الأول، وإجراء الانتخابات، وأكد بأنه لن يتدخل وقتها، بل سيترك للشعب اختيار ما يراه مناسبًا. وتم عقد المؤتمر في نوفمبر 1968م، وأسفرت الانتخابات عن اختيار محمد روم (1908-1983م) (M. Roem) رئيسًا نظرًا إلى ما عرف عنه من اعتدال، فضلاً عن إسهاماته الوطنية والسياسية، فقد تولى منصب وزير الخارجية في عهد سوكارنو، وكان يتوقع أن يحترم سوهارتو قراراته، وذلك بعدم التدخل في أعمال المؤتمر؛ ولكنه قلب لهم ظهر المجن، وأبدى علانية نواياه السيئة؛ إذ أرسل إلى المؤتمرين تعليمات خلاصتها أن الحكومة لن تقبل ترشيح أي زعيم من زعماء ماشومي لتولي رئاسة الحزب(9).

لم يقف زعماء الحزب مكتوفي الأيدي، بل سعوا إلى مقابلة سوهارتو عن طريق زعيمهم فراووتو، وسأل الأخير سوهارتو عن أسباب رفضه، فأكَّد له الرئيس أن سبب الرفض يرجع إلى ما جاء في مذكرة قائد الجيش، فهو نفسه متخوف من خطط الحزب الرامية إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، وفي ذلك تعارض مع ما تمَّ الاتفاق عليه مع الزعماء الوطنيين ما قبل الاستقلال، ورأى أن مبادئ حزب ماشومي تتعارض مع دستور عام 1945م. والغريب في الأمر أن ماشومي لم يكن الحزب الإسلامي الوحيد، فهناك حزب إسلامي آخر تحت قيادة محمد حتا (1902-1980م) (M. Hatta)، مؤسس الحزب الديمقراطي الإسلامي. ويلاحظ أن سوهارتو بدأ يتصرف منذ البداية، وكأنه رئيس منتخب من الشعب، وتناسى أنه نصِّب رئيسًا للجمهورية بصفة مؤقتة عام 1968م، إلى حين إجراء الانتخابات العامة لاختيار الرئيس الرسمي عام 1971م(10).

لقد كان الهدف من الفترة الانتقالية هو معالجة بعض الأمور السياسية والاقتصادية الطارئة، ومعالجة جميع السلبيات التي خلَّفها نظام سوكارنو(11)، ويلاحَظ أن الحكومة الجديدة كان همها الأول هو أمن البلاد واستقراره، لذا طالبت الجماهير الالتزام بقانون 1945م، والتمسك بفلسفة الدولة المعلنة. وقد تمسك النظام الجديد بمبادئ الدولة المسماة الـ: بنتشاسيلا(12).(Pancasila)

و”بانتشا” تعني خمسة، و”سيلا” تعني مبادئ، وهي لغة سنسكريتية؛ أما المبادئ الخمسة فهي على النحو الآتي:

1. الألوهية الربانية المتفردة.

2. الإنسانية العادلة المتمدنة.

3. إندونيسيا المتحدة.

4. الشعبية الحكيمة.

5. العدالة الاجتماعية (لجميع شعب إندونيسيا).

الألوهية المتفردة هي الحرية التامة لجميع الأديان؛ والإنسانية المتمدنة تعني إبعاد العقوبات الواردة في الشريعة الإسلامية، لأنها تخالف التمدن في زعمهم؛ والشعبية الحكيمة تعني الديمقراطية. وقد اتضح للجميع بعد تولي سوهارتو السلطة بأن الديمقراطية التي وعد بها لا وجود لها، ولم يحصل المواطنون على حقوقهم التي وعدهم بها(13).

وقد قام سوهارتو بدءًا من عام 1971م، بتقليص عدد الأحزاب، فقد قلصها من عشرة أحزاب إلى سبعة فقط، ثم اختزلت الأحزاب السبعة إلى ثلاثة أحزاب إسلامية، والحزب الديمقراطي الإندونيسيي (Partai Demokrasi Indonesia, PDI) الذي يضم جميع العناصر النصرانية، وحزب العمال (Golongan Karya, Golkar)، المدعوم ماديًا ومعنويًا من قبل الحكومة. وقد عملت الدولة -كما أشرنا سابقًا- على السير على هدى المبادئ المعروفة بالـ: بنتشاسيلا في جميع النشاطات السياسية والاجتماعية. وغير خافٍ أن الدولة كانت قلقة من المجموعات التي كانت تعمل سرًا من أجل جعل دستور الدولة مستلهمًا من الشريعة الإسلامية. ولكسر شوكة هذه المجموعات، رأت الدولة ضرورة استخدام مبادئ الـ: بنتشاسيلا عند ممارسة الأعمال الدينية، وهي مبادئ غامضة وغير واضحة. هذا وقد قامت الدولة ببناء المساجد المعروفة من حيث المنارة والقبة؛ ولكن في شكلها تعبر عن مبادئ فلسفة الدولة. فضلاً عن ذلك فإن بعض العبادات، مثل: الزكاة، والصدقات أطلق عليها اسم زكاة الـ: بنتشاسيلا؛ إذ أنشأ سوهارتو مؤسسة الزكاة تحت الـ: بنتشاسيلا، وهي زكاة تخصم من مرتبات موظفي الدولة شهريًا. كما نلاحظ اختفاء رمز الكعبة من شعار الحزب الإسلامي “اتحاد” (Partai Persatuan Pembangunan, PPP)، الذي كان معمولاً به حتى عام 1977م، وذلك نظرًا إلى خوف أعضائه من الطرد من البرلمان. كانت الحكومة تتدخل أيضًا في ترشيح بعض القيادات لتولي المناصب القيادية العليا. ويلاحظ أن كل ما له علاقة بالإسلام بدا مرفوضًا من قبل السلطة؛ حتى الأحزاب التي غيرت أسماءها لم تسلم من الحظر والتهميش(14).

وعندما حان موعد المؤتمر السنوي نشطت الحكومة لوضع العقوبات، ولم تسمح بمرور الأجندة إلا ما كان يتمشى مع سياستها، وظلت عين الحكومة ساهرة تراقب نشاطات الأحزاب، ولا سيما الحزب الإسلامي؛ بل تم حظر جميع النشاطات والمؤتمرات الدينية التي لم تكن متوافقة مع برامج الدولة وسياستها. فأحزاب المعارضة صارت لا حول لها ولا قوة، وحزب العمال كان لا يمت للسياسة بشيء؛ إلا أنه كان يمارسها بمباركة السلطة. فالديمقراطية كانت مزيفة وغير صادقة. وقد لوحظ أن حزب العمال المدعوم حكوميًا هو صاحب الأغلبية في البرلمان، وهذا وحده دليل واضح على عدم نزاهة رجالات السلطة. وعملت الحكومة على تغيير رمز الحزب الإسلامي، فأزالت “الكعبة”، ووضعت مكانها نجمة؛ حتى لا يجد مناصرة من أفراد الشعب في الريف، وهم فئة تجهل القراءة والكتابة. وكل هذه الأفعال كان الهدف من ورائها إقصاء الإسلاميين عن السلطة، وعن اتخاذ القرار(15).

كان سوهارتو في إدارته للدولة يعوِّل كثيرًا على المخابرات، والنظام البوليسي، والعمل على إبعاد الإسلام عن السياسة، ولتنفيذ هذه الخطط عيَّن علي مورتوفو (1924-1984م) (A. Murtopo)، مستشارًا شخصيًا له للشؤون السياسية. وقد قام هذا الرجل بتنشيط التنمية مستعينًا بمجموعة من الليبراليين. كما تقرب سوهارتو من داود يوسف (1926-للآن) (D. Jusuf) العلماني، وعيَّنه وزيرًا للتربية والتعليم. كما وجد تأييدًا ومباركة من طائفة اليهود بقيادة بيتر بيك الهولندي (P. Beeck)، وهو أحد زعماء الكنائس، ومن المدربين للطلاب في يوغياكارتا(16) (Yogyakarta)، وقد عرِف بيتر بتعصبه للنصرانية، وعمل على إنشاء خلية من الشباب المسيحيين هدفها إعانة المخابرات في جميع المؤسسات الحكومية بهدف مراقبة الحركات الإسلامية ونشاطاتها(17)، وقد قام علي مورتوفو بتعيين معاون له اسمه بفيتوت سوهارتو ( P. Suharto)، ومن واجباته القضاء على التيارات المناوئة لفلسفة الدولة، ولا سيما الأحزاب الإسلامية، مثل: حزب الاتحاد للتنمية (Partai Persatuan Pembangunan, PPP)، وجمعية نهضة العلماء (Nahdatul Ulama, NU)، وغيرهما(18).

واضح أن الحكومة كانت تسعى من وراء إبعاد التيارات الإسلامية عن السلطة إلى علمنة الدولة، وبث الأفكار المعادية للدين الإسلامي الذي تبتغيه الأغلبية في إندونيسيا. وقد نجحت الدولة إلى حد ما في تطبيق سياستها المتعلقة بالـ: بنتشاسيلا ؛ ولكن نظرًا إلى غموض المبادئ كما ذكرنا سابقًا، فإنها لم تحقق نجاحًا كاملاً.

3. تهميش الإسلام:

كانت سياسة الحكومة في بدايتها قد خاطبت جميع الهيئات الاجتماعية بغض النظر عن نزعاتها الدينية؛ إلا أنها ركزت على الإسلام دين الأغلبية في الدولة، ساعية إلى منع أتباع هذه الديانة من ممارسة السياسة، وذلك خوفًا من سعيهم لتطبيق الشريعة الإسلامية. فالمراحل التي مرت بها الحكومة في اتخاذ الـ: بنتشاسيلا مصدرًا أساسيًا في جميع الأنشطة الدينية والسياسية، ظهرت منذ إلقاء سوهارتو كلمته أمام القادة العسكريين في مدينة فاكن بارو (Pakan Baru) عام 1980م. وفي أثناء كلمته تلك عبَّر عن مخاوفه من ظهور بعض العناصر التي ترغب في تغيير القانون الدستوري الصادر عام 1945م(19)، وقد كرَّر سوهارتو مثل هذا الادعاء أمام أعضاء البرلمان في 6 أغسطس 1983م؛ مما يعبر عن رغبته في الإبقاء على فلسفة الدولة ومبادئها ومحاولة تطبيقها، وبعد فترة مصيرية من العام نفسه، وافق البرلمان على مشروع سياسي يلزم جميع الهيئات الإسلامية أو غيرها باتباع مبادئ فلسفة الدولة، وقد لاقى هذا القرار معارضة من قبل طلاب الجامعات(20).

لقد كانت الدولة تعد دستور البلاد أمرًا مقدسًا لا يجوز المساس به، وكل من يحاول المساس بذلك فهو في موضع اتهام. وقد رأى أحد زعماء المسلمين، وهو عبد القادر جيلاني، أن تطبيق فلسفة الدولة في جميع النشاطات الدينية وغيرها، يعد شركًا صريحًا، ونشرًا للأفكار العلمانية في الدولة(21)، والسؤال الذي يفرض نفسه: لماذا ظل النظام الجديد تحت قيادة سوهارتو في عداء دائم للهيئات الإسلامية، واتهامها بأنها تعمل ضد مبادئ الدولة وفلسفتها؟ والحق أن عداء الحكومات للهيئات الإسلامية ليس مقتصرًا على إندونيسيا، بل هو ظاهرة عامة في معظم دول العالم الإسلامي؛ ولعل توجه النظام في إندونيسيا نحو استخدام الـ: بنتشاسيلا لمنع النشاطات الإسلامية، مرده الخوف من حدوث بعض الصراعات الدموية ضد النظام كما حدث في عقود سابقة.

ويرى بعض المحللين بأن فرض فلسفة الدولة على الأنشطة الدينية، أدَّى إلى حصول توتر واختلاف بين الحكومة والمعارضة. وقد بذلت الحكومة أموالاً باهظة لكي يتقبل أفراد الشعب هذه السياسة التي تتعارض مع العقيدة الإسلامية. ولم يجد المعارضون متنفسًا لإبداء آرائهم نظرًا إلى ما تمارسه الحكومة من رقابة شديدة على الصحف ووسائل الإعلام العامة. وفي النهاية قاد الاضطهاد الحكومي إلى توحيد كلمة زعماء المعارضة، فاجتمعوا على اختلاف طوائفهم وانتماءاتهم الدينية والعرقية، فرفعوا مذكرة طالبوا فيها بسحب الثقة من سوهارتو بوصفه زعيمًا للأمة؛ لأن ما يقوم به فعلاً على أرض الواقع، يتعارض تمامًا مع ما أعلنه أمام أعضاء البرلمان لحظة توليه السلطة.

وعلى الرغم من المعارضة الشديدة التي أبدتها الهيئات الإسلامية ضد اعتماد مبادئ الـ: بنتشاسيلا بوصفها مصدرًا للنشاطات السياسية والدينية، نجد عبد الرحيم وحيد (1940-2009م) (A. Wahid)، زعيم أكبر جمعية يطلق عليها اسم نهضة العلماء المسلمين، يبدي موافقته الصريحة على الالتزام بهذه المبادئ، وقد صرح بذلك عام 1973م، ورأى أن الأخذ بهذه المبادئ ييسر العمل مع الحكومة. ويبدو أن الليونة التي أبدتها نهضة علماء المسلمين نابعة من اعتقادها أن مهادنة الحكومة والعمل معها، سيساعد على دفع عجلة التنمية إلى الأمام(22).

لقد ساند سوهارتو مجموعة من الجمعيات، منها: مجلس الدعوة الإسلامية الإندونيسي، وهذا المجلس تأييده لم يكن غريبًا، لأنه مؤسسة تابعة للدولة، وكذلك كان مجلس العلماء الإندونيسي من المؤيدين لذلك؛ أما الجمعية المحمدية، فقد وقفت موقفًا معارضًا منذ البداية، وتبعها كثير من الهيئات الإسلامية التي أخذت على عاتقها نشر الدعوة الإسلامية الخالية من الشوائب. وهذه الهيئات الرافضة وجدت في مبادئ الدولة الـ: بنتشاسيلا كفرًا وإلحادًا يناقض ما كانوا يدعون إليه من مبادئ إسلامية سامية.

على العموم، إن مبادئ الـ: بنتشاسيلا في رأي هذه الهيئات الإسلامية ما هي إلا علمنة للدولة، ونشر للكفر والإلحاد(23)، وليس بغريب أن يصدر وزير الداخلية في ذلك الوقت مرسومًا يمنع فيه نشاط هذه الهيئات داخل المجتمع الإندونيسي؛ أما الطلاب فقد عارضوا مبادئ الـ: بنتشاسيلا معارضة صريحة ممثلين في جمعية الطلبة الإندونسيين؛ بينما الشق الآخر من الطلاب المسمى اتحاد الطلبة الإندونيسي، فقد انقسم إلى قسمين: القسم الأول سار مع ركب الحكومة نظرًا إلى الضغوط التي فرضت عليه من قبل الحكومة، أما القسم الثاني فأعلن رفضه ومعارضته. ونشير هنا إلى أن الجمعيات الإسلامية أدت دورًا كبيرًا في محاربة الشيوعية في عهد سوكارنو، وكان لها الفضل في تنصيب سوهارتو رئيسًا للدولة؛ ولكن تنكَّر لها فيما بعد.

وقد أدى كل من عبد الغفور وأكبر تانجونج (1945-للآن) (A. Tanjung) وغيرهم دورًا عظيمًا في الضغط على فئات الشعب المختلفة لقبول مبادئ الـ: بنتشاسيلا. كان عبد الغفور وزيرًا للشباب، وكان بمثابة المتحدث الرسمي باسم نظام سوهارتو؛ أما أكبر تانجونج فكان يتولى مجلس قيادة الحزب الحاكم، وظل في هذا المنصب حتى بعد سقوط نظام سوهارتو، وتنحى عن منصبه بعد فشله أمام يوسف كالا (J. Kalla) نائب الرئيس(24).

ظلت الهيئات الإسلامية تكرر رفضها القبول بمثل هذه المبادئ، لكونها سوف تقود إلى زعزعة العقيدة الإسلامية عقيدة الأغلبية الإندونيسية. وتوالت اجتماعاتهم إلى أن هجم عليهم العسكر بعد أن تلقوا الأوامر العسكرية من القائد المسيحي الجنرال بيني مورداني (1932-2004م) (B. Murdani)، وهو جنرال معروف بإجرامه، وحبه لإراقة الدماء(25)، وتربطه صلات مشبوهة بأعداء الأمة الإسلامية. وقد أصدر تلك الأوامر ردًا على محاضرة ألقيت في جمع من الناس في 12 سبتمبر 1984م. أعقب تلك المحاضرة مظاهرة تطالب بفك أسر أربعة من أعضاء جماعة المسجد الذين تم اعتقالهم من قبل جهاز أمن الدولة. لقد كانت المظاهرة سلمية؛ ولكن لما اقترب المتظاهرون من مركز الشرطة قام رجال الأمن بإطلاق الرصاص عليهم دون رحمة، فتساقطوا كأوراق الشجر في يوم عاصف، ولم يكتفوا بذلك، بل أخذوا يسبون ويشتمون الموتى، وداسوا على جثثهم بالسيارات الضخمة، فسالت الدماء أنهارًا، وحاول العسكر إخفاء معالم الجريمة، فطلبوا من رجال المطافئ، سحب الجثث ومسح أثار الدماء بالماء(26).

4. فلسفة الدولة وسياسة تنفيذها:

ظل نظام سوهارتو يقاتل من أجل إرساء دعائم الـ: بنتشاسيلا، والعمل على غرسها في نفوس الشباب والجيل الصاعد، بحيث تصير إيديولوجية ثابتة وراسخة في النفوس؛ فأخذت الحكومة تبذل جهدها لشرح المبادئ الخمسة شرحًا تفصيليًا، بل ذهبت أبعد من ذلك فأدخلتها ضمن المناهج التربوية في جميع المستويات التعليمية، بدءًا من المرحلة الابتدائية وانتهاء بالمرحلة الجامعية. وأدرجت مادة الأخلاق، وهي مادة بديلة عن المواد الدينية. وواضح أن الحكومة كانت تسعى لنزع بذرة الإيمان من قلوب المؤمنين، وزعزعة عقائدهم، ونشر الأفكار الهدامة الباطلة المنافية لتعاليم الإسلام. فالحكومة جريًا وراء الحفاظ على القومية، كانت تضحي بالدين؛ ولعل هذا الاتجاه هو الذي قاد إلى ثورة شديدة ضد الدولة ليس من المسلمين فقط، بل شاركهم في العداء والثورة غيرهم من أهل الديانات النصرانية والبوذية والهندوسية؛ لأنهم رأوا استحالة أخذ الأخلاق من مبادئ غامضة ومبهمة، مثل مبادئ الـ: بنتشاسيلا. فمثل هذه السياسة الغامضة كانت تتجه نحو تشكيك الشعب في دينه. لذا توحدت جميع الديانات على عدائها للدولة، ورأى أصحابها أن تلك المبادئ غايتها نشر الفكر الليبرالي، ومحاربة كل شيء يدور في فلك الأديان.

فنَّد محمد ناصر رئيس الوزراء الأسبق تلك السياسة الخرفاء التي انتهجها نظام سوهارتو في تطبيق مبادئ الـ: بنتشاسيلا، ونقدها نقدًا شديدًا، ورأى فيها عدوانًا ظاهرًا على الدين ومبادئه؛ مما حدا به إلى توجيه خطاب إلى رئيس البرلمان يطالب فيه بإلغاء مادة الأخلاق؛ لأنها تخالف أصول العقيدة، وتسعى لتدميرها، وهذه المبادئ هي مبادئ إلحادية بعيدة عن الدين والروحانيات(27)، وهي أيضا مبادئ تدعو إلى توحيد الأديان بغض النظر عن كونها سماوية أو غير سماوية، ولا شك أن مثل هذا المفهوم له خطره على الشباب المسلم الذي يدين بدين سماوي يعد آخر الأديان السماوية، وهو ناسخ لغيره من الأديان، وفاتهم قول المولى عزَّ وجل: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ) (سورة آل عمران: 19).

ثانيًا: المشهد الثقافي

1. نور خالص مجيد وأفكاره الليبرالية:

ولد نور خالص مجيد في 17 مارس 1939م، وكان والده عبد المجيد أحد أهم زعماء المسلمين التقليديين ولقبه كياهي. لقد تربى نور خالص مجيد في معهد التعليم الديني الذي أسسه الحاج هاشم الأشعري (1871-1947) (H. Asj’ari)، وهو جدٌّ لعبد الرحمن وحيد الملقب بـ: غوس دور (Gus Dur). جمع نور خالص مجيد منذ طفولته بين نظامي التعليم الحكومي، والديني؛ فكان في الصباح يلتحق بالفصول الحكومية، أما في المساء فيلتحق بالمدرسة الدينية؛ مما أتاح له الإلمام بالمواد الدينية. فضلاً عن ذلك فإن والده كان من علماء “نهضة العلماء”، ومن أنصار حزب ماشومي الإسلامي. ويلاحظ أن ثقافة نور خالص مجيد الدينية، ظهرت في حي جومبانج (Jombang)، ثم جاء أمر ابتعاثه إلى معهد في جونتور، وهو معهد ينتمي لحزب ماشومي سياسيًا(28)، ثم التحق بعد تخرجه بذلك المعهد بالجامعة الإسلامية الحكومية بجاكرتا لدراسة اللغة العربية وآدابها. وكان من أسباب اختياره لقسم اللغة العربية، تأثره بمعظم المفكرين الذين تخرجوا في كلية اللغة العربية، أمثال: فضل الرحمن، ومحمد إقبال، وعبد الرحمن وحيد. وكان يرى أيضًا أن اللغة العربية هي مفتاح لفهم الدين الإسلامي الذي نزل بلسان عربي مبين. وقد تحصل على البكالوريوس عام 1968م. كما كان نشطًا خلال فترة دراسته الجامعية؛ إذ كان عضوًا في اتحاد الطلبة المسلمين، وظل نشطًا حتى أصبح قائدًا في الفترة ما بين 1966 -1969م، و1969-1971م(29).

في فترة رئاسته استطاع أن يرسم مبادئ الجمعية وأهدافها، لتكون نبراسًا ومرجعًا أساسيًا لأعضاء الجمعية، وبدأ نجمه يسطع ليس محليًا وحسب، بل تعدى حدود وطنه؛ إذ عيِّن رئيسا لجمعية طلاب جنوب شرق آسيا ما بين 1967-1969م، وشغل في الوقت نفسه منصب نائب الأمين العام للمنظمات الطلابية الإسلامية، ومركزها الكويت(30)، وقد عمل محاضرًا بعد تخرجه ما بين 1978-1982م، وعمل كذلك في مركز البحوث العلمية التابع للحكومة الإندونيسية (Lembaga Ilmu Pengetahuan Indonesia, LIPI). ثم سافر بعد ذلك إلى الولايات المتحدة الأمريكية لنيل درجة الدكتوراه، والتحق بجامعة شيكاغو تحت إشراف المستشرق المسلم فضل الرحمن. ثم عاد بعد تخرجه بتلك الجامعة إلى الجامعة الإسلامية الحكومية، وتولى منصب رئيس مركز الدراسات العليا(31)، ثم التحق عام 1990 بجامعة ماكجيل الكندية ((McGill University بوصفه أستاذًا زائرًا. وفي عام 1986م، وبالتعاون مع بعض زملائه، قام بتأسيس الهيئة التربوية التي صارت فيما بعد تعرف بجامعة دراسة العلوم الدينية من منظور غربي(32).

2. علمنة الدولة:

تمشيًا مع سياسة الحكومة تحت قيادة الجنرال سوهارتو الرامية إلى إيقاف ضغوط تيارات الحركة الإسلامية التي صارت محل اهتمام الحكومة؛ لأنها تمثل أكبر العقبات أمام برنامج علمنة الدولة، قام نور خالص بإثارة آراء متناقضة تهدف إلى اتخاذ مبادئ القيم العلمانية لدفع عجلة التنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. ولقد لقيت آراؤه ردود فعل سيئة من مختلف زعماء المسلمين في إندونيسيا. كما اشتهرت مقولته في ذلك الوقت: “نقبل الإسلام ونرفض السياسة”، وهي شبيهة بقول رئيس مصر الأسبق أنور السادات: “لا دين في السياسة، ولا سياسة في الدين”(33).

واضح أن دعوة نور خالص كانت دعوة علمانية سافرة هدفها خدمة نظام سوهارتو. ويرى بعض المحللين السياسيين أن أفكار نور خالص لم يكن هدفها مساندة نظام سوهارتو، بل كانت تعبيرًا عن مشاعر اليأس التي نزلت بالأحزاب الإسلامية بعد أن حرمها النظام من النشاطات السياسية، ولا سيما حزب ماشومي(34)، ويرى نور خالص بأن إثارة مثل هذه الأفكار ينفي عن الإسلام صفة الرجعية والتخلف، وهي صفات يرددها المثقفون الجاهلون بأمر الدين. فهو يرى أن الخلاص من كل ذلك يكمن في الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة. وقد تعرض نور خالص لنقد شديد بسبب آرائه، ولم تنفعه المبررات التي ذكرها، وقد زاد الطين بلة نقده لبعض القضايا الفقهية، وتعرضه لـ: (الهيئة المحمدية)(*) مبينًا بأن ما تقوم به من نشاطات داخل المجتمع لا يعد إصلاحًا. وكرَّر الدعوة إلى فتح باب الاجتهاد، والتعامل مع النصوص القرآنية بعيدًا عن شروط الفقهاء، والعلماء القدامى، ظنًا منه أن هناك أحكامًا فقهية لا تتناسب مع العصر(35).

نستطيع أن نقول إن نور خالص قد أفاد النظام بدعوته إلى فصل الدين عن الدولة، وهي فكرة تتمشى مع المبادئ التي تروِّج لها الدولة(36)، وهذا الذى ذهبنا إليه هو ما أكده وزير الشؤون الدينية الأسبق منور شاذلي (1925-2004م) (M. Sadzali)؛ إذ لخص القول بأن آراء نور خالص كانت بمثابة ضخ دماء جديدة في الـ: بنتشاسيلا فلسفة الدولة(37).

3. تجديد الفكر الديني:

ظن نور خالص مجيد بتجديده للفكر الديني أنه سيسد فجوة بين العالم الإسلامي والدول الصناعية المتقدمة، وهو ظن خاطئ في اعتقادنا؛ إذ جاءت ردة الفعل عظيمة من قبل معظم علماء المسلمين الإندونيسيين، بل امتد أثر ذلك إلى خارج البلاد، حيث تم إقصاء اتحاد الطلاب الإندونيسيين من عضوية الاتحاد العالمي للطلاب الإسلاميين ومقره الكويت. وقد دافع نور خالص عن فكره التجديدي العلماني بأنه فكر لا علاقة له بالعلمانية السائدة في الغرب، بل هو اجتهاد مستنبط من نصوص الرسالة الإسلامية، بمعنى إخضاع الإسلام لواقع الحياة المعاصرة، وهو يرى أن النصوص تسمح له بذلك(38).

معنى ذلك أنه لم يكن يرى داعيًا للتعامل مع النصوص حرفيًا، بل كان ينظر فيما وراء هذه النصوص، إلى روح النص وما يحمله النص من آراء وأفكار. وذكر صراحة أن تخلف الأمة مرده إلى تمسكهم بالفهم الحرفي للنصوص القرآنية والحديثية، وكأنه يريد أن يحمِّل الإسلام أسباب تخلف الدولة؛ ولعل مثل هذه الأفكار العلمانية هي التي شجعت سوهارتو وأعوانه على إبعاد الدين عن الدولة. وقد حاول نور خالص نفي تهمة العلمانية الغربية عن نفسه، وأن ما ينادي به هو تجديد لفهم النصوص في ضوء الواقع الإندونيسي، والسعي لتسخير كل ما خلقه الله سبحانه وتعالى لخدمة المجتمع، ويرى أن هذا هو الفرق بين ما يدعو إليه، وما تدعو إليه العلمانية الغربية؛ ولكن ما يكشف عن علمانيته، قوله: والشخص الذي يقر بشهادة أن لا إله إلا الله يكون تعامله مع الأشياء بظاهرها فقط. والتعامل مع الأمور الدنيوية ليس له علاقة أصلاً بالنشاطات التعبدية، وإن نجاح الشخص في الدنيا لا يحدد بجديته في العبادة، وإنما يعتمد على جهده وقوة عقله(39).

ومما يدعو إلى الدهشة أن نور خالص يؤمن بأن الإسلام دين لا يختلف عن غيره من الأديان السماوية وغير السماوية؛ كل الأديان تدعو أتباعها إلى فعل الخيرات. وظل يدعو وينادي بضرورة التعايش السلمي بين الأديان. استمع إليه وهو يقول: هناك فكرة غير صحيحة سائدة في أوساط المسلمين، وهو أن الإسلام أفضل الأديان السماوية وغير السماوية، والرأي عندي بأنه لا فرق بين الأديان، فهي في درجة واحدة؛ أما أن يكون بعضها أكثر شمولاً، فهذا شيء آخر(40).

وهذا القول يفضي إلى الكفر، فهو إنكار صريح لنصوص قرآنية: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ) (آل عمران: 19)، وقوله تعالى جل جلاله في آية أخرى: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85). فهذان النصان يفهم منهما صراحة أن الإسلام هو الدين الحق المقبول عند الله دون سواه، وأنه خاتم الرسالات والديانات. لقد نسخ الإسلام ما قبله من الأديان السماوية، فضلاً عن إبطاله لعبادة الأوثان والناس. فلا ندري من أين جاء نور خالص بهذا الفهم الغريب. هذا وقد استمرَّ نور خالص في فهمه الخاص للنصوص بناء على شيء في نفسه، فنظر في آية الخلافة: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 30)، ففهِم نور خالص أن المراد من ذلك أن الإنسان حر على الأرض في إدارة نشاطاته الدنيوية، واستخدام عقله وذكائه، وأن الله لا يتدخل في مثل هذه الأشياء، فالله وضع التوجيهات، ثم ترك للإنسان حرية التصرف مستخدمًا عقله للاستفادة من الغير، فالعقل الممنوح للإنسان يعد من أكبر نعم الله عليه، وهو الذي ميزه على غيره من المخلوقات، وهو السبب الذي جعل الملائكة تسجد لآدم عليه السلام بأمر من الله(41).

واضح أن فهمه للنصوص فهم غريب، وأغلب الظن أن مرد ذلك يرجع إلى عدم فهمه لمرامي بعض ألفاظ اللغة العربية وأساليبها، أو قد يكون مدركًا لذلك؛ ولكنه يريد أن يدس السم في الدسم. كما كان نور خالص يدعو إلى تحرير العقل البشري، وهو عنده يتضمن ثلاثة عناصر: تحرير الفكر، والدعوة إلى العلمنة، والرؤية المستقبلية.

ومن العجب أن يلقي نور خالص اللوم على معظم المسلمين بسبب انعزالهم، وعدم رغبتهم في التعامل مع غير المسلمين، فلا ندري أي اختلاط يدعو إليه هذا الرجل؟ فإذا كان أمرًا يرتبط بالدنيا، وهو لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالاً؛ فلا أظن أن عاقلاً يقف ضد ذلك؛ أما الدعوة إلى اتباع الأديان الفاسدة وأداء طقوسها، فالانعزالية في هذا الموقف تعد محمودة. ولا قيمة لقوله أن الإسلام يدعو لتقفي أثر الخير بغض النظر عن مصدره؛ ففي هذا القول كلمة حق أريد بها باطل. إن المسلمين لا يرفضون الخير؛ ولكنهم ينظرون في شرف الوسيلة وجمالها؛ لأنهم لا يؤمنون بنظرية الغاية تبرر الوسيلة. فنور خالص غاية ما يسعى له هو تفسير النصوص في ضوء المتغيرات التي تجتاح المجتمعات من وقت لآخر دون مراعاة للقيود والضوابط التي تقيد مثل هذه الاجتهادات، فهو يريد إعمال الهوى، ومن هنا يأتي الشر من أوسع أبوابه.

4. الانتقادات وردود الفعل:

بعد أن ذاعت أفكار نور خالص في المجتمع الإندونيسي، تصدى لها جماعة من العلماء والأكاديميين المتخصصين في الدراسات الإسلامية، ومن هؤلاء محمد رشيدي (1915-2001م) (H.M. Rasjidi) الذي قال: أن ما ذكره نور خالص لا يعدو أن يكون من باب الإعجاب بالنهضة التقنية في الغرب، وأن نور خالص رأى أن الغرب ساعده على ذلك انفكاكه عن الدين، والتعامل مع الدين على أنه أمر شخصي لا علاقة له بالسياسة، وأنظمة الدولة. وهذا الإعجاب هو الذي حمله على وصف إندونيسيا وغيرها من البلاد الإسلامية بأنها دول متخلفة بسبب ارتباطها بالدين الإسلامي؛ فالإسلام برئ من هذه التهمة. إن الذي دفع نور خالص إلى الظهور بأفكاره التجديدية إيمانه بأن ذلك هو أساس الحل لكل المشكلات الراهنة(42)، ولا ندري هل كان يعلم نور خالص ما تعيش فيه بعض الدول الأوربية من فقر وتخلف، مثل: البرتغال، وإسبانيا، وبعض دول أمريكا اللاتينية إلى يومنا هذا؟

هذا وقد دعا نور خالص إلى علمنة كل ما في الكون من أجل إسعاد البشرية من غير التفات إلى الدين، فالروح عنده شيء يتغذى على المستوى الشخصي، أما استخدام العقل والانتفاع من الأشياء الموجودة في الكون فذاك هو ما يجتمع عليه الجميع باختلاف الأديان والأعراق. واضح أنها دعوة –كما سبق القول– ملحدة هدفها فصل الدين عن الدولة. وقد أبان محمد رشيدي أن الدعوة إلى استخدام العقل من أجل كشف أسرار الكون، أمر لا يساوي شيئًا مقارنة بعلم الله الواسع، والله نفسه قرر ذلك، وأكده في قوله: (وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) (الإسراء: 85). فالإسلام جاء هاديًا وساعيًا إلى إسعاد الناس في الدنيا والآخرة؛ فالدين الإسلامي دين الوسطية لا إفراط ولا تفريط(43).

أما دعوته إلى إعادة النظر في الفكر الديني، والتي تتلخص في أن الإنسان مأمور باستخدام عقله للاستفادة القصوى من التسهيلات الموجودة على ظهر الأرض فأمر لا جدال فيه؛ ولكن السؤال الذي يثار، هل استخدام العقل وإجراء البحوث لا يحتاج إلى توجيهات ربانية؟ لو أطلق للعقل العنان لخرج لنا بمشكلات لا أول لها ولا آخر، فالعقل يحتاج إلى ضابط، وإلى آداب وأخلاق يراعيها، فانظر ماذا أصاب الحضارة الغربية عندما تخلت عن الدين والأخلاق؟ فكل عمل يقوم به الإنسان على الأرض لابد أن يراعي فيه التوجيهات الربانية، ويجب أن يظل العبد على ارتباط بربه حتى تتحقق أهداف الآية الكريمة: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَ لِيَعْبُدُونِ) (الذريات: 56). وهذا التوجه يوضح كيف أن النظرة العلمانية الغربية بعيدة كل البعد عن الدين الإسلامي وشرائعه(44).

وأوضح رشيدي أن نور خالص يحاول دائمًا تفسير النصوص القرآنية بناء على فهمه لها، وبعيدًا عن الضوابط التي وضعها العلماء لتفسير النصوص. فنور خالص فهم من احتجاج الملائكة على خلق الإنسان، وجعله خليفة في الأرض، أن هذه الأفضلية مردها إلى قوة العقل فقط، ووضح رشيدي كيف أن الله أخبرهم بأنه يعلم ما لا يعلمون: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 30). فهذا الخليفة قد يبدر منه فساد في الأرض؛ ولكن من هؤلاء البشر من يدعو إلى نشر الفضيلة والخير، ويعبد الله وحده لا شريك له(45).

كما تناول نور خالص تفسير “البسملة”، وذكر أنها تفرق بين عالمين، الحياة الدنيوية والأخروية. وفسَّر نور خالص كلمة “الرحمن” من منظوره العلماني بأنها تعني الاستفادة من الأشياء التي أوجدها الله في الكون باستخدام الفكر في محاولة للارتقاء بالإنسان إلى المستوى المعيشي المناسب، وهذه الاستفادة غير مقتصرة على دين بعينه، بل هي عامة تشمل كل الأديان. ويرى أن كلمة “رحيم” يقصد بها الثواب، أو الجزاء الذي يمنحه الله لمن قام بهذه المهمة على الوجه الأكمل، وذلك يكون يوم القيامة(46)، واضح أنه أخرج الألفاظ عن نطاقها، وأضاف إليها دلالات من عنده، فكل مسلم يعلم علم اليقين بأن عملية الثواب والعقاب يحددها عمل الإنسان على ظهر الأرض؛ فإن كان خيرًا فهو خير، وإن اقترف شرًا فجزاؤه من جنس عمله.

والمتأمل في أقوال نور خالص يرى أنه يرمي إلى الفصل بين الدنيا والآخرة، وما هذا بالذي أقره الإسلام. فالإسلام يرى أنهما شيئان متحدان لا انفصال بينهما، فالدنيا مزرعة الآخرة، فما تقوم به من عمل في دنياك ستجني ثماره في الآخرة، والجزاء -كما سبق القول -يكون من جنس العمل. ولا شك أن كل أفكار نور خالص هدفها الأخير هو فصل الدين عن الدولة، فإعجابه بالنموذج الغربي الليبرالي أصمه وأعماه، فصار لا يرى الخير إلا في هذا النموذج المادي المنكر للروحانيات. وكما ذكر رشيدي مهما بالغ نور خالص في تبرير أفكاره والتماس حجج لها، فإن أفكاره تظل هدامة تعمل على تمزيق كيان الأمة(47).

لقد ظل نور خالص يدافع عن أفكاره الليبرالية الغريبة عن البيئة الإندونيسية ولم يتراجع عنها، وزاد تمسكه بها بعد نيله شهادة الدكتوراه من جامعة شيكاغو؛ إذ عاد وهو متشبع بالأفكار الغربية، فأنشأ مركزًا للأبحاث والتعليم أطلق عليه اسم برامدينا (Paramadina)، ثم تطور فيما بعد إلى جامعة وظيفتها تدريس الأديان من منظور غربي.

5. تأثير الفكر الليبرالي:

إن الأفكار التجديدية التي أخذ يدعو إليها نور خالص مجيد، هي في حقيقتها أفكار إلحادية تتعارض مع المبادئ الإسلامية، وهذا ما يفسر سر الهجمة الشرسة التي تعرض لها هذا الفكر من قبل كثير من الأفراد والمنظمات الإسلامية. والمتتبع لتاريخ الفكر في إندونيسيا، يرى أن أفكار نور خالص ما هي إلا ترديد لما كان ينادي به حين كان رئيسًا لاتحاد الطلبة المسلمين عام 1979م؛ فقد نص دستور ذلك الاتحاد على القيم الأساسية للحركة الطلابية ((Nilai-Nilai Dasar Perjuangan، وذلك حين ترأس اتحاد الطلبة المسلمين عام 1969م(48)، فهي قيم ومبادئ تتطابق تمامًا مع فكره الليبرالي.

ودعوة نور خالص إلى المساواة بين الأديان كان لها صداها في المجتمع الإندونيسي، ولا شك أن أية دعوة صالحة أو منحرفة لها أنصارها، فدعوة نور خالص وجدت تأييدًا وقبولاً من أحمد واهب (1942-1973م) (A. Wahib) الذي وصفه بأنه المخلِّص للمجتمع من التخلف. ورأى أحمد واهب أن فكر نور خالص فكرٌ متقدم نظرًا إلى تأثره بالغرب، ولا سيما بعد عودته من بعثته الدراسية، فقد تأثر بالنموذج الغربي كثيرًا، وأعجب بتقدم الغرب -على رأي واهب- في فصل الدين عن الدولة، وإن كان نور خالص ينفي عن نفسه تهمة التأثر بالآخرين(49).

كل القرائن تشير إلى أن أفكار نور خالص هي صنيعة غربية، فأمريكا هي الممول لبعثته العلمية، وبعض دول الغرب أيضًا. كل ذلك ليس من أجل نور خالص؛ ولكن لأهداف كنسية غربية هدفها تشويه الإسلام في البيئة الإندونيسية، لذا هم يعملون جاهدين لإبعاد الدين الإسلامي عن السياسة والاقتصاد. إن ارتباط الإسلام بالسياسة يزيد من قوة المسلمين وهذا ما لا يريده الغرب وأعوانه. هذا وقد أحسن الغربيون تدريب نور خالص أثناء زيارته للغرب؛ إذ عقدوا له ندوات ومقابلات مع شخصيات أكاديمية بارزة خاصة في مقارنة الأديان، فقد استطاع الوقوف على نقاط الاختلاف والتوافق بين الإسلام والديانة السميتية (Semitic Religion). وقد أدى أحمد سوجاتموكو (1917-2001) A. Sudjatmoko)) دورًا بارزًا في تسهيل مهمة نور خالص في أمريكا؛ لأنه كان يعمل سفيرًا لإندونيسيا(50).

خلاصة القول، أفلحت الجامعات الغربية في تكوين نور خالص تكوينًا يتناقض مع ما يؤمن به أغلبية الإندونيسيين، حتى توهم أن الشر كله يكمن في ربط الدين بالدولة. وكان شارليس كورزمان (C. Kurzman) على حق، عندما قال: إن أفكار نور خالص لا يمكن فصلها عن البيئة التربوية الني كان يدرس فيها بالمعهد الديني المعروف في جاوة الشرقية بمعهد دار السلام في حي جونتور فونوروغو (Gontor Ponorogo). فهي أفكار نابعة من تلك البيئة؛ لأن هذا المعهد كان ينادي بممارسة الفكر الحر (berfikiran bebas)، ومتابعة الأخلاق الراقية (berbudi tinggi)، وحفظ صحة الجسم (berbadan sehat)، والتبحر في العلم(51) (berpengetahuan luas) ولعل هذه الفكرة ترجع إلى أن الإنسان ابن بيئته يتأثر بها. والناظر في أحداث تلك الفترة يلاحظ كثرة الكتب التي صدرت باللغة الإنجليزية حول الفكر الغربي. ونور خالص بوصفه مثقفًا ملمًا بالإنجليزية، لا شك أنه قد اطلع على تلك الكتب وتأثر بها. وكان يردد مقولات الكتاب الإنجليز، ولا سيما أفكار المستشرقين منهم فيما يتعلق بفصل الدين عن الدولة. لقد قال نور خالص: الفكر الإسلامي الصحيح هو كما يفهمه الغربيون أمثال هـ. أ. ر. جيب (H.A.R. Gibb)، وتوماس أرنولد (T. Arnold)، وليفرد كانتويل سميث (W.C. Smith)، وهم مدركون بأن الإسلام ليس مجرد طقوس دينية؛ وإنما هو أكثر من ذلك، فضلاً عن أنه سياسة، وحضارة، وفلسفة، وعلم، وعقيدة(52).

6. ابتعاث نور خالص إلى الولايات المتحدة الأمريكية:

مما لا شكَّ فيه أن ظهور الفكر الليبرالي كان يرمي إلى خدمة النظام القائم -نظام سوهارتو- ذلك النظام الذي كان يسعى للنهوض بإندونيسيا اقتصاديًا، وقد زيَّن بعض أعوان الغواية لسوهارتو أن العائق الذي يقف أمام النهضة هو الدين، لذا لما ظهرت أفكار ليبرالية، مثل أفكار نور خالص، وجد النظام أن نور خالص قدم له هدية على طبق من ذهب. فقد أراد نور خالص -كما سبق القول- إبعاد الدين عن الدولة، فهو يرى أن الدولة تستخدم العقل والفكر لإصلاح حال الأمة؛ أما الدين فهو أمر فردي لا علاقة له بالدولة، لذا يجب الفصل بينهما(53).

إن فكر نور خالص فكر غربي خالص يرمي إلى فصل الدين عن الدولة، ولعل ذلك ما شجع أمريكا على تمويل دراسته؛ لأنها رأت فيه بذرة غربية يمكن أن تنمو في إندونيسيا، وتحوِّلها عن الإسلام، لتصير دولة ليبرالية تخدم الغرب وأهدافه. على العموم فإن أفكاره التي لا تتوافق مع أساسيات الإسلام، منذ توليه منصب اتحاد الطلبة المسلمين، هي التي لفتت أنظار الغرب إليه، وجعلت دولة في مرتبة أمريكا تهتم به وبدراسته، وتفرغ لونارد بندر (L. Binder) لدعوة نور خالص، فحصل على الدكتوراه في شيكاغو التي سافر إليها عام 1973م. كما التقى هناك بالعالم الباكستاني فضل الرحمن المعروف بآرائه المختلفة وغير الجامعة، تلك الآراء التي قادت إلى نفيه من باكستان. أخذ فضل الرحمن بيد نور خالص، وزين له طريق الشر، وقد نجح نجاحًا باهرًا في تسميم عقل تلميذه، فتخرَّج في الجامعة يحمل درجة الدكتوراه مع فكر فيه الكثير من التشكيك في تعاليم الإسلام. كان المستشرقون أنفسهم يستحيون من نشره، فجاء هذا الرجل المسلم يدعو إليه من غير حياء في الجامعة الإسلامية الحكومية بجاكرتا، وقد وجد تعاونًا من بعض الأساتذة الذين تخرجوا من الجامعة الكندية، مثل هارون ناسوتيون(54) (1919-1998م) (H. Nasution).

7. آراء نور خالص بين التأييد والمعارضة:

أشرنا فيما سبق إلى أن آراء نور خالص التجديدية تصدى لها محمد رشيدي بالنقد، وأبان ما فيها من اعوجاج. وقد سعى زملاء نور خالص من قبل في اتحاد الطلبة لعقد حوار مفتوح بين الرجلين نور خالص ومحمد رشيدي، وسارت الترتيبات حسب ما هو مخطط لها؛ ولكن فاجأ نور خالص اللجنة باعتذاره عن اللقاء بسبب ظروف عائلية طارئة. ولم يكن رشيدي وحده في الميدان، بل شاركه أمين رايس (1944- للآن) ((A. Rais في النقد والهجوم على نور خالص، فأظهر فساد الدعوة التي يروِّج لها نور خالص، وخطَّأ استخدامه لمصطلح العلمانية السائد في الأدب الغربي، وأوضح رايس ضرورة أن يفهم المسلم رسالته الإسلامية على المستوى الفردي والجماعي، تلك الرسالة الداعية إلى الجمع بين الدين والدنيا. والعلمنة التي يدعو إليها نور خالص هي في حقيقتها خروج عن الدين، وسوء فهم واضح لرسالة الإسلام الداعية إلى نشر الفضيلة والأخلاق في المجتمع(55).

وأكد أمين رايس أن الدعوة إلى العلمانية لن تحقق النمو الاقتصادي كما زعم نور خالص. فالفصل بين الروحانيات والماديات ترفضه الدعوة الإسلامية؛ لأن الإنسان سيحاسب يوم القيامة على ما قدمت يداه في الدنيا، والإنسان إذا سار في دنياه على غير هدي رباني لا شك أنه سيضل الطريق(56).

لم يخل الميدان من مؤيدين لأفكار نور خالص، فقد أيده محمد دوام راهارجو (1942-للآن) ((D. Raharjo، وجوهان أفندي (J. Effendi)، وأوتومو دامنجايا (U. Damanjaya)، وغيرهم ممن نعدهم ليبراليين حاليًا.

ومن الوسائل التي لجأ إليها نور خالص لزعزعة الثوابت لدى المسلمين قوله إن كلمة “الله” لا ضرورة لذكرها باللغة العربية، بل يجوز التلفظ بترجمتها والاكتفاء بها بـ: (tidak ada tuhan selain Tuhan)؛ مما أدّى إلى ثورة وغضب المسلمين في إندونيسيا. وقد رد نور خالص بأنه ليس بدعًا في هذا الأمر، فقد سبق أن ترجم محمد يوسف علي الشهادتين إلى اللغة الإنجليزية(57).

8. تأسيس معهد فرامادينا:

تمَّ تأسيس هذا المعهد بهدف نشر قيم الإسلام العالمية التي لا تتعارض مع المحلية. وبهذا حاول نور خالص دمج الثقافة الإسلامية بالثقافة المحلية؛ حتى لا يحدث تنافر بينهما. وهذه الفكرة تعتمد على أن تعاليم الرسالة المحمدية المنصوص عليها في القرآن والسنة، تدعو إلى القيم الحضارية لا لنبذها، والتخلي عنها(58).

واحتجَّ أنصار هذه الفكرة بأن مجتمع المدينة الذي أنشأه الرسول صلى الله عليه وسلم كان فيه نوع من المرونة التي وافقت البيئة الجديدة التي نشأ فيها هذا المجتمع الجديد. فنور خالص كان هدفه نشر الفكر الليبرالي بإندونيسيا من غير مراعاة للعرق أو الدين. وصار هذا المعهد مقرًا للنشاطات الليبرالية؛ ولعل نور خالص أراد أن يحذو حذو الجمعية المحمدية ونهضة العلماء الذين عملوا جادين لنشر الإسلام؛ ولكن نور خالص يختلف عنهم؛ إذ سلك طريق المدارس المدنية التي تعمل على تعليم الأطفال منذ الصغر تعاليم الأديان على اختلافها، الأمر الذي يغرس في نفوس هؤلاء الناشئة على المدى البعيد بأنه لا فرق بين الأديان، فيعيش المجتمع – على حد زعمهم- في الإسلام. واستطاعت الدولة الاستفادة القصوى من هذه السياسة التربوية، وأخذت توضح للناس خطورة أفكار بعض زعماء المسلمين الرامية إلى تغيير دستور الدولة إلى دستور إسلامي؛ أما عن السياسة التي اتبعتها الدولة فتمثلت في تشجيع أطفال النصارى على المشاركة في الاحتفالات الدينية الخاصة بالمسلمين، مثل عيد الفطر، وفي الوقت نفسه يشارك أطفال المسلمين النصارى في الاحتفال بعيد رأس السنة الميلادية، وحسب خططهم سيقود هذا التقارب إلى التراحم بين الأديان، وتبادل الاحترام بين معتنقيها، كما زعم قمر الدين هداية (K. Hidayat) في خطبة خطبها أمام الناس(59).

ويرى قمر الدين هداية بأن المواد الدينية يجب سحبها من المدارس الحكومية لتقوم المؤسسات التعليمية بتدريسها. ويرى أن تعليم الأديان يحتاج إلى مهارة خاصَّة لا تتوافر إلا في خبراء التربية(60)، ويرى ضرورة إجراء نقاشات شهرية تشترك فيها فئات المجتمع المختلفة لمناقشة الأمور الاجتماعية والدينية؛ لكن الهدف من هذا النوع من الحلقات يتجه نحو إقصاء المسجد عن دوره؛ لأن هناك فئة من المثقفين تتأفَّف من حضور الحلقات التي تدار في المساجد، لأنها تجمع بين الأغنياء والفقراء، فهم يريدون نشاطات قائمة على الوضع الاجتماعي؛ نشاطات يؤمها الأغنياء، وعِلية المجتمع، ويكون مقرها أحد الفنادق الفاخرة؛ حتى إقامة الشعائر الدينية يريدون إقامتها في تلك الفنادق، مثل: صلاة الجمعة، وصلاة التراويح(61)، وفات هؤلاء أن الإسلام يهدف من إقامة الصلوات في المساجد إلى تعميم المساواة، وإزالة الفوارق الاجتماعية.

نعود إلى أنشطة المؤسسة التعليمية التي أنشأها نور خالص، لنرى أنها مؤسسة لا تهدف إلى نشر مبادئ الإسلام الداعية إلى إزالة الفقر أو تقليصه عبر الزكاة، والداعية إلى التكافل والمؤاخاة بالوقوف مع المنكوبين من أبناء الأمة المسلمة في فلسطين وأفغانستان لا نجد ذلك، بل نجد نقدًا للنصوص الدينية التي يرى نور خالص تصادمها بالواقع، ويعمل جاهدًا على مناصرة آرائه بدعوة من يشابهه في فكره، أمثال: سيد حسين نصر الإيراني، ونصر حامد أبو زيد، ومحمد أركون، ومحمد حسن حنفي؛ بل قام بدعوتهم لإلقاء محاضرات في إندونيسيا، ومد الحبل الليبرالي معهم.

ثالثًا: المشهد الاقتصادي

تأسيسًا على ما سبق نجد الليبرالية في إندونيسيا قد غدت مكسبًا قوميًا، لما اتخذتها الـ: بنتشاسيلا حليفًا استراتيجيًا لها في عملية إعادة البناء. كما أسهم حزب الجولكور –الحزب الحاكم – إلى جانب المؤسسة العسكرية في إضفاء الشرعية الوطنية على إنجازات الليبرالية العالمية تحت مسمى (النظام الجديد) المحلي، الذي هو نسف للنظام الاشتراكي بقيادة سوكارنو، وهو نظام جديد لأنه يبشر بعهد ليبرالي جديد ينسخ عهد سوكارنو الاشتراكي القديم؛ مما جعل النظام الجديد أقرب إلى نسخ الاشتراكية الغربية مقابل استنساخ الليبرالية الغربية. ونعني بالاستنساخ الاعتماد على الآخر في صورته التي تكون باهتة على المدى الطويل، ولا تكشف إلا على السلبيات التي تؤدي إلى بخس المجهود (=المتاعب) ونكس الموجود (=المكاسب)، إذا تعرض البلد إلى نكسة إنمائية باسم الليبرالية، كما حصل في الأزمة المالية الآسيوية في أواخر التسعينيات من القرن الماضي.

ألفت الليبرالية في عهد سوهارتو أرضًا إندونيسية خصبة، لم تستفد منها الليبرالية الهولندية والاشتراكية السوفياتية في عهد سوكارنو. فقد قَدِِمت الليبرالية الغربية إلى إندونيسيا مصحوبة بمنظومة عملية قابلة للتطبيق والنجاح الذاتي. إن الشركات الكبرى، والديموقراطية، والعالمية، كانت أبرز آليات الليبرالية العملية التي لها القابلية للتعاون والاختراق والانتشار؛ فالأرض بحاجة إلى الاستثمار، والمجتمع يريد أن يتنفس الديموقراطية، والدولة تتطلع إلى العالمية.

لقد جسدت الليبرالية العالمية -عبر النظام الجديد المحلي- هذه الوعود الإيديولوجية والعملية التي لا يتحقق منها إلى الجانب الربحي في غالب الأحيان، وهذا واقع الحال في الدول ما بعد الاستعمار التي اتخذت من الليبرالية قبلتها الإنمائية وفلسفتها النهائية؛ قد يتحقق الجزء المقبول من استثمار الأرض ولكن ليس بالشكل الذي يرضي الدولة والمجتمع؛ أما الديمقراطية التي تبشر بها الليبرالية العالمية فهي مرهونة بمدى التعامل السلبي مع القيم التاريخية المسؤولة التي تقف حجر عثرة أمام تفعيل الحرية المفتوحة والمفضوحة؛ بينما العالمية –التي هي المشاركة في صناعة القرار العالمي وإدارة العولمة- فلن تتحقق أبدًا في بلدان ما بعد الاستعمار التي تغرق في تنمية التبعية، مثل إندونيسيا كما سنرى.

لقد ساعد عاملان مهمان على انتشار الليبرالية بالشكل السريع في إندونيسيا سوهارتو، وهما: الانقلاب العسكري على النظام الشيوعي الذي كان من المفترض أن تعقبه الليبرالية الجاهزة في غياب -أو التضييق- على أي بديل وطني أو إسلامي أو إنساني؛ العامل الثاني، وهو الـ: بنتشاسيلا فلسفة الدولة التي بها مبادئ تتسع لكل التأويلات الإيديولوجية، وتتكيف مع كل البدائل العملية المثارة.

لا تتجسد الخطورة وحدها في الليبرالية؛ لأنها عامل خارجي ويعد الأكثر انتشارًا في العالم، علاوة على أنه نتيجة من نتائج الحرب الباردة، وتسويق لإيديولوجية نهاية التاريخ؛ حيث باتت الليبرالية هي الشكل النهائي للحكم الرشيد والتنمية المستدامة. إن الخطورة تأتي من العامل الثاني الداخلي (=الـ: بنتشاسيلا) الذي يفتقر إلى الوعي بخطورة النماذج الإنمائية الجاهزة وأثرها في تشويه التنمية المحلية. فالتدمير الذاتي لن يكون في خدمة التنمية حتى ولو كان في نيتها الإفادة من تجارب الآخرين الناجحة. وهذا ما يحدث غالبًا في دول ما بعد الاستعمار، التي تدمر قدراتها الذاتية من أجل التمهيد للبناء بقيم طارئة على المجتمع. وأحيانًا، وهذا هو الشائع، يكون التدمير بالقيم المحلية نفسها، فهي، عبر الدولة أو النخبة، تؤوِّل لنفسها تقبُّل غيرها لتحقيق شرط العالمية، كما نلاحظ ما فعلته الـ: بنتشاسيلا -التي بها قيم إسلامية ووطنية وإنسانية- في مستقبل إندونيسيا الإنمائي.

من هذا المنطلق هل يمكن اعتبار الـ: بنتشاسيلا لعنة إندونيسيا، كونها دمرت مستقبل سوكارنو الشيوعي، وشاركت بقوة في تدمير مستقبل سوهارتو الليبرالي؟ فالرجلان خرجا من الحكم من غير إنجاز تاريخي، غير تحصيل الاستقلال، والتضييق على العمل الإسلامي. وإن حققا شيئًا فإن الفساد في عهديهما ينسخ كل فعل حسن وعمل صالح.

وعليه إذا كانت الليبرالية في إندونيسيا قد خطت خطوة إلى الأمام وهذا مكسب يزيد من رصيد صناع العولمة؛ فإن الـ: بنتشاسيلا قد تراجعت خطوتين إلى الوراء، وهذه خسارة تزيد من ألم الإندونيسيين.

1. الليبرالية في إندونيسيا خطوة إلى الأمام؛ ولكن بأي ثمن؟

لقد واجهت الليبرالية في إندونيسيا تحديات، في الوقت الذي عدَّت فيه أن التأقلم مع هذه البيئة غير المناسبة للانتشار على مدى واسع، يبعث على الانتصار في كل الأحوال؛ إذ تعاملت مع هذا الوضع الجديد على أنه خطوة كبرى إلى الأمام. وأهم هذه التحديات التي واجهتها الليبرالية في إندونيسيا، هي:

أ. الفساد الناجم عن غياب المؤسسات، التي لا ينفع معها حضور العقلية الإصلاحية مهما تكن؛ فالغياب المؤسسي والحضور الإصلاحي يفرزان وضعًا إنمائيًا مشوَّهًا وفاسدًا، فضلاً عن ذلك “لا يستطيع القادة ذوو العقلية الإصلاحية أن يترجموا أهدافهم إلى واقع؛ لأن الآلية التي تربط بين التصريحات السياسية والأفعال قد توقفت عن العمل، وكنتيجة لذلك نشأت فجوة بين ما تقوله الدولة وما تفعله”(62).

ب. يتواجد حوالي 80% من أعضاء المؤسسة العسكرية في البرلمان، ويمثل حوالي 60% من صناع القرار الاقتصادي العقلية العسكرية. ومثل هذا الوضع الاقتصادي الحربي يشكِّل تهديدًا واضحًا لاقتصاد يبحث عن الانتقال السلمي من وضع سيء إلى وضع أحسن. إن المؤسسة العسكرية في إندونيسيا تقف عائقًا أمام حصول التعاون بين الدولة والتنمية، لاسيما وأن “التنمية تتطلب دولة فعالة تستطيع أن تؤدي دورًا حافزًا، وأن تشجع وتستكمل أنشطة الأفراد وأنشطة دوائر الأعمال الخاصة”(63).

جـ. انتهاج سياسة ليبرالية غير حقيقية في إندونيسيا، نظرًا إلى تعاظم الفساد وتأثر القرارات الاقتصادية بسياسات المؤسسة العسكرية. كما يرجع هذا الانتقاء الليبرالي في إندونيسيا إلى تخوفها من الأفكار الوافدة؛ ما أدى “إلى النهل بحذر شديد وبشكل انتقائي من الفكر الليبرالي بما يتناسب مع الأوضاع في إندونيسيا، بل إنه في كثير من الأحيان تم الإعلان صراحة من قبل بعض القيادات عن نبذ العديد من الأفكار الديموقراطية”(64).

تكشف هذه التحديات الثلاثة، على أن من استجلب الليبرالية إلى إندونيسيا كان وراء فشلها في معركة الأزمة المالية الآسيوية؛ ولعل هذا الصراع بين الدولة والمعارضة الذي جعل الليبرالية مسألة وطنية ومحل نقاش لرسم معالم إنمائية لحاضر الليبرالية في إندونيسيا، قد دفع بها إلى الأمام بعدما أصبحت موضع جذب بين الطرفين، وهذا بدوره يجعلها محل للنقاش حول مستقبلها في إندونيسيا. فالدولة تفكر كيف تجعل الليبرالية أكثر فعالية وتزيد من رصيدها الإنمائي، كما تفكر المعارضة في التكيف مع الليبرالية حتى تكسب الشارع الإندونيسي، وحتى لا تتهم بالرجعية كل من لا يسير في تيار العولمة التي هي صنيعة لبيرالية بامتياز.

كما هو معلوم، بدأ التحرير الاقتصادي في إندونيسيا عام 1966م، استندت فيه الحكومة إلى جماعة التكنوقراط الذين تلقوا تعليمهم في الغرب، وكان على رأسهم ويدجوجو نتيساترو (Widjojo Nitisatro) الذي ترأس المجلس الوطني للتنمية والتخطيط ما بين (1967-1983م)، وهو واحد من جماعة يطلق عليها عصابة بركلي(65) Berkeley Mafia) ) نسبة إلى تخرجهم في بركلي الأمريكية. وقد هدفت هذه العصابة إلى تأهيل إندونيسيا للتعاطي مع اقتصاد مفتوح، يتخذ من الاستثمار علامة ليبرالية تميز النظام الجديد من غيره. وقد كانت هذه العصابة الليبرالية ناجحة فيما يتعلق بالسياسة المالية والضريبية، فقد أسهمت في تحفيض التضخم من 636% عام 1966م إلى 9% عام 1970م؛ مما جعل حكومة سوهارتو تثق بالحلول الليبرالية في القضايا الاقتصادية. ولا شك أن النجاح الكمي أضفى على الليبرالية بعدًا وطنيًا؛ لأن القادة الإندونيسيين شعروا بأن السياسات الليبرالية، لاسيما السياسات الاقتصادية الكلية قد أتت أكلها، فشرعوا في تكثيف عملية الاستثمار الأجنبي الذي بلغ 83 مليون دولار خلال سنتين، وارتفع إلى 271 مليون دولار أمريكي عام 1972م؛ إذ عدَّ صناع القرار الاقتصادي أن الاستثمار الأجنبي المباشر يعزز من هذه السياسات الليبرالية وينعكس بالإيجاب على النمو الاقتصادي في البلاد الذي بلغ 10.9% عام 1968م(66)، وقد حدث هذا النجاح الليبرالي في إندونيسيا في المرحلة (1966-1971م) حيث شكل النفط سندًا ماديًا لاستمرار نجاح مسيرة السياسات الليبرالية في أرض إندونيسيا؛ إلى جانب وفرة عنصر العمل الرخيص، والادخار، وإحلال الواردات، والاقتراض.

بعد الأزمة النفطية عام 1986م، زادت وتيرة التحرير الاقتصادي، ومن ثم اتخذها التكنوقراط فرصة لتحرير التجارة ونظام الاستيراد وإطلاق القروض، وقد عدُّوا هذه الأزمة النفطية بمثابة نعمة، فرفعوا شعارهم العملي: “أوقات عصيبة لصنع سياسات جيدة”(67)، هؤلاء التكنوقراط هم خريجو جامعة هارفارد، حيث اطلق عليهم “جماعة هارفارد”. وقد اعتمدت هذه الجماعة على خبراء أجانب عملوا مباشرة مع وزارتي المالية والتجارة لإعادة هيكلة الاقتصاد. وقد أفضى هذا التعاون الليبرالي المحلي والعالمي إلى تقدم اقتصاد إندونيسيا وإصلاح الاقتصاد الجزئي، وحدث تطور في القطاع الصناعي، والتكنولوجيا العالية، ونمو القطاع الخاص؛ إذ بلغ متوسط النمو السنوي 6.7% في الفترة (1987-1992م)(68)، وفي هذه الفترة أيضًا باتت سياسة “توافق واشنطن” الليبرالية – أو الليبرالية الجديدة- تطبق بحذافيرها في إندونيسيا، فعملت الأسواق بلا قيود من غير مراقبة من الدولة، لاسيما مع إقبال الشركات الكبرى على الاستثمار في إندونيسيا بطرق ليبرالية غير مشروعة، فبعد “الاجتماع الذي جرى سنة 1994م، بين رؤساء دول ورؤساء حكومات الآبيك (التعاون الاقتصادي الآسيوي-الباسيفيكي) في جاكرتا، شجع الرئيس كلينتون الشركات الأمريكية على المجيء إلى إندونيسيا، واستجابت شركات كثيرة، وفي الغالب بشروط مواتية للغاية (مما يحمل على الظن أن الرشوة زيَّتت التروس على حساب المواطنين الإندونسيين)”(69).

لقد اعتمد عهد سوهارتو على الاستثمار الخارجي المباشر بشكل مفرط، ووفَّر حماية خاصة للصناعات المنتجة، وقد استفادت هذه الصناعات التي يديرها القطاع الخاص من اليد العاملة الرخيصة، في الوقت الذي ظلت فيه حكومة سوهارتو تعتمد على عائدات النفط في تمويل البنية التحتية لجلب الاستثمار الخارجي؛ لكن انهيار سوق النفط في منتصف الثمانينيات كشف عن ضعف الاقتصاد الإندونيسي الذي يعتمد على الاستثمار الأجنبي بشكل مفرط وغير صحي، فضلاً عن التسهيلات التي يلقاها هذا الاستثمار وعلى رأسها الإعفاء من الضرائب لا سيما في الصناعات الاستراتيجية؛ مما فرض على الحكومة تقييم سياستها الاقتصادية وإدخال إصلاحات جديدة، وعدَّت وجودها المكثف في إدارة الاقتصاد ليس عملاً اقتصاديًا، ورأت أن السوق -وليس الحكومة- بإمكانه أن يزيد من تعزيز الصادرات التي تجلب العملة الصعبة للبلاد. وكانت الإصلاحات الاقتصادية تشمل تغييرات في السياسات تعزز النمو الاقتصادي ويمكن التنبؤ بها في أوضاع الاقتصاد الكلي، وهذه الإصلاحات تكون عبر زيادة كفاية تخصيص الموارد، وزيادة الادخار والاستثمار. لقد باتت سياسة الاقتصاد الكلي واحدة من العوامل القوية في النظام الجديد لسوهارتو، لكن أفاد الصينيون الإندونيسيون -إلى جانب عائلة سوهارتو- من معظم العائدات التي جلبها النمو الاقتصادي؛ مما زاد من التفاوت في توزيع الدخل، وتفشت اللامساواة، وانتشر الفقر، لا سيما وأن الغالبية العظمى من الإندونيسيين يعتمدون على الزراعة أو على القطاع غير الرسمي من التجارة الصغيرة، وذلك لأن برامج الحكومة وعائداتها من النفط لم تكن كافية لمساعدة الإندونيسيين أصحاب الأرض، مما جعل إندونيسيا تحتل المرتبة الأولى عام 1990م في تلقي المعونات الرسمية. فبعد إعادة الجدولة تدفقت على إندونيسيا مساعدات كبرى بناء على نية حسنة تجاه الحكومة الإندونيسية الجديدة. وقد أثارت هذه المساعدات قلق الإندونيسيين من هيمنة المؤسسات الأجنبية والأقلية الصينية على ثروات البلاد الطبيعية، فقد ظهرت أنها سياسات ليبرالية مفضوحة غطَّى عليها الفساد، فكانت بذلك تتجه باقتصاد إندونيسيا نحو مستقبل غامض.

بعد الأزمة المالية الآسيوية، تبيَّن أن الليبرالية بقيادة التكنوقراط كانت تعتمد على القروض وتتحالف مع الفساد لتمويل مشروعاتها الاستثمارية، بينما حكومة سوهارتو قد قضت على الجانب الإيجابي في الإنجازات التي حققتها الليبرالية وذلك نظرًا إلى الفساد الذي أخذ بخناق هذه الحكومة، فلم تكد تتنفس في الأزمة المالية الآسيوية حتى وقعت صريعة فعلها السيء. لقد “حررت إندونيسيا التدفقات إلى الخارج في وقت مبكر نسبيًا، وفي عام 1989م ألغت أوجه الرقابة على الاقتراض الخارجي من جانب البنوك ولكن أعادتها بعد عامين بسبب المخاوف الناشئة عن الإفراط في الاقتراض. ولكنها استمرت في تحرير التدفقات إلى الشركات، وسمحت بالاقتراض من أجل تمويل التجارة وبيع الأوراق المالية لغير المقيمين، والاستثمار الأجنبي في البورصة المحلية”(70).

ما من شك في أن الفساد أسهم في كبح جماح الليبرالية فلم تحقق الليبرالية نجاحًا أكبر؛ ولكن بالنسبة إلى اليبراليين يعد هذا النجاح خطوة إلى الأمام تعززه الليبرالية الثقافية والسياسية في البلاد. وذلك على الرغم من أن الليبرالية التي تطمح إلى تحقيق فوائد تتقاسمها مع البلد المضيف، عجزت عمليًا في إندونيسيا عن تحسين إنتاجية العمل ورأس المال، وتطوير الفعالية الاقتصادية والاجتماعية، وتحسين شروط العمل، ورفع متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، وتطوير الاقتصاد وتنويع هياكله، وبناء المؤسسات المستقلة. لقد حققت الليبرالية نجاحات في معقلها وبيئتها، بينما عجزت في معاقل أخرى مثل البيئة الإندونيسية؛ وهذا طبعًا يرجع إلى أن التنمية المستديمة ميزة من صنع الإنسان المحلي تعضده متطلبات بيئته وتسنده رسالته في الحياة؛ فضلاً عن أن الليبرالية لا تحقق أهدافها النبيلة في ظل تحالف الدولة صانعة القرارات الاقتصادية مع الفساد منفِّذ هذه القرارات بأساليب عشوائية وانتقائية لا تخدم إلا فئة تحتكر الاقتصاد والوطن، لا سيما وأن “النظام القضائي فاسد وغير جدير بالثقة. لقد ترك سوهارتو ميراثًا أسوأ ما فيه جانبان أولهما الفساد الذي نَفَذ إلى جميع قطاعات الحياة الإندونيسية، وقد يستغرق الأمر جيلاً من الجهود الشاقة للتغلب عليه؛ وثانيهما عدم وجود خلف صالح قادر على حكم البلد. لقد كان سوهارتو يرغب في السيطرة الأبدية على السلطة، ولذا كان يضع العراقيل دائمًا أمام كل من يمتلك القدرة على القيادة، ونتيجة لذلك فإن البلد يواجهه صعوبة في إيجاد قادة قادرين على الاضطلاع بالمسؤولية على المستوى الوطني”(71).

لقد خلَّفت الليبرالية وراءها بلدًا فقيرًا لاسيما وأن قبل الأزمة الآسيوية كان لدى إندونيسيا عدد أكبر من الفقراء تجاوز عددهم 22 مليون. فحسب اتجاهات الفقر وعدم المساواة خلال الفترات الثلاث من الليبرالية، نجد “في فترة التحرير الأولى (1984-1990) قد انخفض معدل الفقر بنسبة 6% (من 29.5% في 1984 إلى 23.4% في 1990)، بينما اللامساواة أو التفاوت فقد انخفض قليلاً جدًا من 0.330 إلى 0.321؛ في مرحلة التحرير الثانية انخفض الفقر بنسبة 6%، على الرغم من زيادة التفاوت بشكل ملحوظ إلى 0.355 عام 1996؛ لكن في فترة الأزمة المالية زاد معدل الفقر من 17.6% إلى 23.4%، ثم شهد انخفاضًا ولكن التفاوت ما زال مستمرًا”(72)، فضلاً عن حصول انخفاض حاد في أسعار الصرف، وانهيار القطاع المالي، وإفلاس الشركات، وإلحاق الضرر بالأسر ذات الدخل المنخفض، وفقدان الوظائف نتيجة هروب الاستثمار، وزيادة الأسعار بسبب الانخفاضات الكبرى في أسعار الصرف والزيادة في التعريفات الجمركية العامة والضرائب غير المباشرة. وقد أعقبت هذه الأزمة إصلاحات اقتصادية ليبرالية فرضها صندوق النقد الدولي لم تكن ملائمة للبيئة الاقتصادية المأزومة؛ إذ أن هذه الإصلاحات ستفضي إلى زيادة عجز الصادرات والاعتماد على الاستثمار الأجنبي المباشر، وتهميش بعض الصناعات المهمة للمجتمع الفقير، وسوء توزيع الدخل، وغياب العدالة المالية والضريبية.

خلاصة القول أن القبول بالليبرالية بوصفها حلاً بيئيًا هو إفساد لهذه البيئة. يقول جوزيف ستيغليتز الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد: “إن البلدان التي تقبل مساعدة الصندوق كانت في الواقع تتنازل عن قسط كبير من سيادتها الاقتصادية”(73).

2- الـ: بنشاسيلا خطوتان إلى إلوراء؛ فما الثمن؟

تعامل سوهارتو مع الليبرالية بوصفها نموذجًا إنمائيًا جاهزًا يمتلك المقدرة على الانتقال بإندونيسيا من وضع أسوأ إلى واقع أحسن، لاسيما وأن الليبرالية ليس هدفها -في كل الأحوال- البناء خارج بيئتها الغربية؛ ولكن استهدفت في ذلك الوقت تغيير وجهة الآسيويين الاشتراكيين تجاه المعسكر الغربي لأسباب تتعلق بتوازن القوى في المنطقة لصالح المنظومة الغربية. من جهة أخرى يمكن القول أن نوايا الليبرالية السيئة لم تصمد أمام اليابان إلى حد بعيد كونها اصطدمت بمنظومة حضارية أصيلة وقادة فاعلين وناس طامحين، احتضنوا الليبرالية –فلم تحتضنهم بخلاف الإندونيسيين- واستفادوا منها، بينما ظلوا محافظين على شخصيتهم القومية؛ فلم يصبهم التغريب الكامل الذي هو أحد النوايا السيئة لليبرالية.

لقد واجه سوهارتو الليبرالية بالـ: بنتشاسيلا التي هي عبارة عن مبادئ مقدسة ترجع فلسفة جذورها(74) إلى ما قبل الإسلام. لقد واجه سوهارتو الليبرالية بقيم هندية منسوخة لا تزيد البيئة الإندونيسية إلا احتواء ومسخًا وترسيخًا لإيديولوجيا وافدة وغير مرغوب فيها. من جهة أخرى واجه سوهارتو الليبرالية بإنسان مسلم وقيم جاوية هندونسية؛ إنسان مجرد من قيمه الإسلامية الفاعلة، -لأن القيم هي التي تعمل- وقيم جاوية تجاوزها الزمن والبيئة ولا تجد من يمتثلها ويعمل بها. كما واجه الليبرالية بقيم غير عملية وإنسان مسلم قيمه في إجازة، فكان من الطبيعي أن تؤدي الليبرالية وظيفتها في ظل هذا الفراغ.

مهما كان اختلاف الإندونيسيين حول الـ: بنتشاسيلا، الذي قد يصل إلى درجة الرفض والازدراء؛ فإن الدولة قد أوَّلتها وجعلت مبادئها الخمسة في خدمة المبادئ الليبرالية التي تتمثل في السوق والديمقراطية. فالسوق أصبحت تدار من داخل منظومة “توافق واشنطن” الذي ينص على التحرير والخصخصة، وليس توافق الـ: بنتشاسيلا الذي ينص على الحفاظ على موارد الأمة؛ كما جاء في اقتصاد الـ: بنتشاسيلا المستوحاة من المادة (33) من الدستور، التي تقول(75):

1- ينظم الاقتصاد بوصفه عملاً مشتركًا يقوم على النظام العائلي.

2- فروع الإنتاج مهمة وتؤثر في حياة معظم الناس، وسوف تكون تحت مراقبة الدولة.

3- الأرض والماء والثروة الطبيعية ستكون تحت مراقبة الدولة، وسوف تستخدمها الدولة في خدمة الشعب.

يبدو أن المستثمرين الأجانب قد سطوا على هذه القطعة من الدستور، بعدما تم خصخصة الموارد الطبيعية وإبعاد الدولة حسب خطة توافق واشنطن؛ فبعد “إيقاف احتكار شركة النفط والغاز الحكومية بنهاية عام 2005م، فإن قانون مصادر المياه لعام 2004م يضع خطوطًا عامة لكثير من النقاط التي تفتح الباب أمام خصخصة المياه، مما ينقل المياه فعليًا من ملكية عامة إلى سلعة تجارية”(76)، كما أن الديمقراطية التي جاءت بها الليبرالية كان الهدف من ورائها زيادة في انقسام المجتمع الإندونيسي المسلم الذي خلط بين الإسلام والليبرالية وعدهما وجهين لعملة واحدة، ويزيد هذا الخلط غموضًا ويجعل مستقبل الإسلام في إندونيسيا مبهمًا، وغير واضح للأجيال القادمة. فضلاً عن أن هذه الديمقراطية جعلت الإيمان بالله الذي هو المبدأ الأول في الـ: بنتشاسيلا موضع تنازع وتنوع؛ أما العدالة الاجتماعية التي هي المبدأ الخامس لم تتحقق في ظل التفاوت الصارخ في الدخول ليس على مستوى الأفراد بل على مستوى الأقاليم، أيضًا الديمقراطية استغلها البعض لتعميق الانقسام وتحصيل الحكم الذاتي، فكلما زاد العنف تدخلت آلة الديمقراطية لرد الحقوق بطريقة تفقد البلد سيادته القانونية إن وجدت.

ويبدو أن حكومة سوهارتو التي اتخذت الـ: بنتشاسيلا فلسفة نهائية للدولة، قد راهنت على الحل الليبرالي، فسعت إلى إقصاء حزب ماشومي الإسلامي الذي – بحكم خبرته وذكاء رجاله ونزاهتهم- كان يحمل برنامجًا حضاريًا للأمة الإندونيسية بعد انهيار نظام سوكارنو. فلو تحقق الحضور النسبي لـ: ماشومي –ولم يتعمد سوهارتو إلى إقصائه(77)– فإنه كان سيعمل على كبح جماح ليبرالية التكنوقراط وفساد الحكومة. فضلاً عن أن الـ: بنتشاسيلا لم تقف أمام طموح الليبرالية غير المشروع، بل نسجت معها علاقة متينة فيما يتعلق بإطلاق الحريات الدينية. لاسيما وأن الليبرالية مشروع حضاري طموح، في حين لم تكن مبادئ الـ: بنتشاسيلا مشروع دولة بقدر ما كانت مشروع تجميع كلمات لتحصيل تهدئة مؤقتة، وليس توافقًا حضاريًا بين الإندونيسيين على اختلاف ديانتهم. يقول محمد ناصر: “إننا نعتقد أن الذي دفع هؤلاء إلى عرض (المبادئ الخمسة) كأساس للدولة هو الاعتقاد بأنها يمكن أن تكون أساسًا للتوفيق بين جميع المبادئ والأفكار. غير أنني أتساءل الآن ما هو ذلك الذي يسمونه (أساس التوفيق) بالضبط؟ لأننا لا ننوي وضع أسس لحياة دولة لفترة محدودة، بل يجب أن تكون بناءً راسخًا تدرج في رحابه الأجيال القادمة […] إن هذه المبادئ الخمسة التي وصفتها لكم لا تصلح لأن تكون أساسًا لبناء دولة من شأنها أن تسد حاجات ومطالب الحياة بأندونيسيا”(78).

لقد تراجعت الـ: بنتشاسيلا خطوتين إلى الوراء؛ لأنها عجزت في عهد سوكارنو في التوافق بين الديمقراطية الموجهة والديكتاتورية المسلطة، حيث يستحيل تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية كما في المبدأ الخامس من مبادئها. كما عجز فساد الـ: بنتشاسيلا عن الإجابة عن سؤال سوهارتو للأمة الإندونيسية في قوله:”جوهر المشكلة في التنمية الوطنية هو كيف يمكننا تعزيز الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاقتصادية وفق مبادئ الـ: بنتشاسيلا”(79)، إلا أن الأزمة المالية الآسيوية كان قد سبقت في الإجابة عن السؤال الذي شغل الـ: بنتشاسيلا والإندونيسيين طوال ثلاثين سنة؛ فانتهى مشهد القرن العشرين إلى إعلان إندونيسيا دولة شبه فاشلة، بعد أن كانت تقارير الأمم المتحدة الإنمائية تعدها من الدول الاقتصادية الكبرى التي بإمكان القرن الواحد والعشرين الإفادة منها نظرًا لمساحتها الكبرى، وحجم مواردها الطبيعية والبشرية وتنوعها.

خاتمة:

نجد أن الذي ذكرناه آنفًا، قد تجسَّد على أرض إندونيسيا؛ فالعالمية التي كانت تبشِّر بها الليبرالية، جعلت من نظام سوهارتو نظامًا أحادي المذهب السياسي، يعمل على نسف القيم التاريخية والحضارية، بعدما احتكره حزب الجولكار – الحزب الحاكم- وساندته فلسفة الدولة الرسمية المتمثلة في الـ: بتشاسيلا، وبذلك أضاع سوهارتو العالمية التي تبشِّر بها الليبرالية، وهو يستخدم حزب الجولكار كأداة عنيفة، فجاء المشهد السياسي عنيفًا وانتهى بطريقة عنيفة هو الآخر، بعد خروج الشعب الإندونيسي إلى الشارع في 13 ماي 1998م، ومن ثم خروج إندونيسيا من العالمية إلى دولة تستشرف الفشل.

أما الديمقراطية التي تبشِّر بها العولمة، غالبًا ما نجدها في إندونيسيا والدول المتخلفة، تستغَل لتشويه المشهد الثقافي، وليس لتحسين المشهد السياسي؛ حيث يتحول المثقف المسلم إلى مثقف ديمقراطي يزدري القيم التاريخية والحضارية، لا سيما الذين تشربوا الثقافة الليبرالية من المنبع، كما رأينا في المشهد الثقافي الذي كان بطله نور خالص بأدوات ليبرالية فجَّة.

وأخيرًا، الاستثمار الذي يعد القيمة المادية العملية التي تبشِّر بها الليبرالية، فإنه غالبًا ما يجلب الكوارث البيئية والاجتماعية والاقتصادية جرَّاء المنافسة على ثروات البلاد، بشكل يسرق من الأجيال القادمة حصتهم من مخزون الأرض. فلا شك أن زيادة الاستثمار وتنامي الفساد، يزيد من معاناة الأجيال الصاعدة والقادمة. ولهذا فإن المشهد الاقتصادي في إندونيسيا يبدو مشهدًا مأسويًا بالمقارنة مع حجم إندونيسيا وأهمية مواردها الطبيعية والبشرية بين اقتصاديات العالم. والمشهد بدا مأسويًا وأكثر قتامة بعد هروب المستثمرين الأجانب أيام الأزمة المالية الآسيوية، الذين استنزفوا الثروات الطبيعية وأفقروا الموارد البشرية بمساندة أقلية غير مسؤولة تتطلع إلى الربح السريع الذي يجلب الأزمات السريعة.

وعليه فإن المشاهد السياسية والثقافية يمكن معالجتها بالتربية والدعوة وتوظيف القيم الإسلامية وتجريم الفساد، وعن طريقها أيضًا يمكن تحول المشهد الاقتصادي المأسوي إلى مشهد أقل حدة وذلك بتفعيل الواجب الوطني والآسيوي والإسلامي.

***

الهوامش

(1) Andree Feillard. NU vis-a-vis Negara: Pencarian Isi, Bentuk, and Makna, (Jakarta: The Asia Foundation, 1999), p.73, Abdul Halim. Peradilan Agama dalam Politik Hukum Indonesia: Dari Otoriter Konservatif Menuju Konfigurasi Demokrasi-Responsif, (Jakarta: Rajawali Press, 2000), pp.80-81, M. Natsir. Islam di Persimpangan Jalan, (Jakarta: Media Da’wah, 1984), p.4, and Soemarso Soemarsono (ed.). Mohammad Roem 70 Tahun: Pejuang-Perunding, (Jakarta: Penerbit Bulan Bintang, 1398H/1978), p.85, Rizal Sukma. Indonesia and China: The Politics of the Troubled Relationship, (London: Routledge, 1999), p.27.

(2) J. Boland. Islam di tengah Pergumulan, (Jakarta: Grafiti Press, 1993), p.23.

(3) M. Natsir. Islam di Persimpangan Jalan, (Jakarta: Media Dakwah, 2002), p.3.

(4) المرجع السابق، ص12.

(*) حزب ماشومي هو عبارة عن مجلس شورى المسلمين الإندونيسي، وهو أول حزب إسلامي ظهر في الساحة السياسية الإندونيسية. وقد أنشئ في 7 نوفمبر 1945م- ثلاثة أشهر بعد استقلال الدولة من قبضة الاستعمار الهولندي- في مدينة يوغياكرتا التي ترأسها السيد محمد ناصر الذي تولى منصب رئيس الوزراء وقتذاك.

(5) Lukman Hakiem (ed). Perjalanan Mencari Keadilan dan Persatuan: Bigorafi Dr. Anwar Harjono, (Jakarta: Media Da’wah, 1993), pp.220-221, Hartono Mardjono S.H. Politik Indonesia 91966-2003), (Jakarta: Gema Insani Press, 1417H/1966M), pp.31-32.

(6) المرجع السابق، ص221.

(7) المرجع نفسه، ص222.

(8) نفسه، ص 222.

(9) S.U. Bajasut. Alam Fikiran dan Djedjak Perjuangan Prawoto Mangkusasmito, (Surabaya: Penerbit Dokumenta, 1972), pp.220-222.

(10) Mohammad Natsir. Agama dan Negara dalam Perspektif Islam, (Jakarta: Media Dakwah, 1422H/2001M), p.348.

(11) M. Syafii Anwar. Pemikiran dan Aksi Islam Indonesia: Sebuah Kajian Politik Tentang Cendekiawan Muslim Orde Baru, (Jakarta: Paramadina, 1995), p.17.

(12) Ali Said Damanik. Fenomena Partai Keadilan: Transformasi 20 Tahun Gerakan Tarbiyyah di Indonesia, (Jakarta: Teraju, 2002), p.49.

(13) Yusril Ihza Mahendera (ann.). Tanjung Priok Berdarah Tanggung Jawab Siapa: Kumpulan Fakta dan Data, (Jakarta: Gema Insani Press, 1998), pp.20-21.

(14) Ali Said Danamik. Partai Keadilan: Transformasi 20 Tahun Gerakan Tarbiyyah di Indonesia, p.50.

(15) Mohammad Natsir. Agama dan Negara dalam Perspektif Islam, p.353

(16) Heru Cahyono. Pangkopkamtib Jenderal Soemitro dan Peristiwa 15 Januari, 1974, (Jakarta: Pustaka Sinar Harapan, 1998, p.30-33.

(17) المرجع السابق، ص 48.

(18) المرجع نفسه، ص 49.

(19) M. Syafii Anwar. Pemikiran dan Aksi Islam Indonesia: Sebuah Kajian Politik Tentang Cendekiawan Muslim Orde Baru, (Jakarta: Paramadina, 1995), p.110-111.

(20) Yunan Yusuf (ed.). Ensiklopedi Muhammadiyyah, (Jakarta: Rawalai Press Divisi Buku Pergurun Tinggi, 2005), p.36. Arbi Sanit. Ormas dan Politik, (Jakarta: Lembaga Studi Informasi Pembangunan, 1987), pp.166-167.

(21) Abdul Qadir Djaelani. Menelusuri Kekeliruan Pembaharuan Pemikiran Islam Nurcholis Madjid, (Bandung: Penerbit Yadia, 1414H/1994M), pp. 36-38.

(22) Hartono Ahmad Jaiz. Bayang-Bayang Suharto and Sukarno: Perjalanan Pemerintah Orde Baru, (Jakarta: Darul Falah, 2002), pp.12-14.

(23) Suharsono. HMI: Pemikiran dan Masa Depan, (Yogyakarta: Centre for International Islamic Studies Press, 1417H/1997M), pp.27-35.

(24) Sohirin Mohammad Solihin. Islam and Politic: Emergence of Reformative Movement in Indonesia, (Kuala Lumpur: IIUM Research Center, 2005), p. 281. Ghayaduddin. Indonesia: Muslims on Trial, (London: Indonesian Right Campaign, 1987), p.14. Irfan Awwas. Fakta Diskriminasi Rezim Soeharto terhadap ummat Islam: Dari Tanjung Priok, Usrah sampai Negara Islam, (Yogyakarta: Wihadah Press, 1998, pp.23-24

(25) Hartono Ahmad Jaiz. Di Bawah Bayang-Bayang Soekarno-Soeharto: Tragedi Politik Islam Indonesia dari Orde Lama hingga Orde Baru, (Jakarta: Darul Falah, 1419H/1999M), p.18.

(26) Yusril Ihza Mahendar (ed.). Tanjung Priok Berdarah Tangung Jawab Siapa: Kumpulan Fakta dan Data, p.24.

(27) M. Natsir. Gagasan Pedoman Penghayatan dan Pengamalan Pancasila dan Aliran Kepercayaan in Suara Masjid, No.44, May, 1978.

(28) Ahmad Sofyan and Royhan Majid. Gagasan Cak Nur tentang Negara dan Islam (Yogyakarta: Titian Ilahi Press, 2004), p.72, Abuddin Nata. Tokoh-Tokoh Pembaruan Pendidikan Islam di Indonesia, (Jakarta: Rajawali Press, 2004), p.322, Charles Kurzman. Wacana Islam Liberal: Pemikiran Islam Kontemporer tentang Isu-Isu Global, (Jakarta: Paramadina, 2001), p.484, Nicholas Teguh Budi Harjanto. Islam and Liberalism in Contemporary Indonesia: The Political Ideas of jaringan Islam Liberal (The Liberal Islam Network), (Ohio: Master Thesis Presented at College of Arts and Sciences of Ohio University, 2003), pp.47-48. Also compare with Harian Pelita, 17 October, 1986, and Sidarta Gautama & Aris Boediono. Moralitas Politik dan Pemerintahan yang Bersih, (Jakarta: Rajawali Press, 1999), p13-15.

(29) Ahmad A. Sofyan & M. Rochan Madjid. Gagasan Cak Nur tentang Negara dan Islam, (Jakarta: Titian Ilahi Press, 2003), pp.73-74.

(30) Abuddin Nata. Tokoh-Tokoh Pembaruan Pendidikan Islam di Indonesia, (Jakarta: Rajawali Press, 2005), p.323. Fuad Jabali and Jamhari. IAIN dan Modernisasi Islam di Indonesia, (Jakarta: Logos, 2002), pp.140-141.

(31) Charles Kurzman. Wacana Islam Liberal: Pemikiran Islam Kontemporer tentang Isu-Isu Global, (Jakarta: Paramadina, 2003), p.485.

(32) المرجع السابق، ص485.

(33) Anwar Sadat. al-Bahth ‘an al-Dhat, (Cairo: Maktabah Madbuli, 1983), p.123.

(34) Abdul Munir Mulkhan. Teologi Kiri: Landasan Gerakan membela Kaum Mustad’afin, (Jakarta: Kreasi Wacana, 2002), p.152.

(*) الجمعية المحمدية هي من أكبر الجمعيات الإسلامية في إندونيسيا بعد جمعية نهضة العلماء. وقد أسست هذه الجمعية في مدينة جوكياكرتا عام 1912م، وكان مؤسسها كياهي الجاج محمد دحلان متأثرًا بالأفكار التجديدية والإصلاحية التي أثارها السيد جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده. وتقوم هذه الجمعية بتقديم خدمات محمودة في مجال: التربية، والخدمات الاجتماعية، وتأسيس المستشفيات، وأماكن العلاج الطبية في أنحاء المدن والقرى في إندونيسيا لمساعدة الفقراء والمساكين. كما تدير الجمعية مئات الجامعات الإسلامية وآلاف المدارس في إندونيسيا.

(35) Lukman Hakim (ed.). Menggugat Gerakan Pembaruan Keagamaan, pp.8-9.

(36) Fransiskus Paulus Paskalis Abi. ICMI dan Pluralisme Kehidupan Keagamaan di Indonesia. In: Zuli Qodir (ed.), ICMI, Negara dan Demokrasi: Catatan Kritis Kaum Muda, (Yogyakarta: Kelompok Lingkaran, 1995), pp.58-59.

(37) M. Syafii Anwar. Pemikiran dan Aksi Islam Indonesia: Sebuah Kajian Politiak tentang Cendikiawan Muslim Orde Baru (Jakarta: Paramadina, 1995), pp.78-79.

(38) المرجع السابق، ص79.

(39) المرجع نفسه، ص 37.

(40) نفسه، ص 39.

(41) نفسه، ص 39.

(42) لمزيد التفاصيل حول ضعف أفكار نور خالص مجيد، انظر ما كتبه محمد رشيدي: Koreksi terhadap Drs. Nurcholis Madjid) tentang Sekularisasi, (Jakarta: Bulan Bintang, 1972).

(43) المرجع السابق، ص 15.

(44) المرجع نفسه، ص 19.

(45) نفسه، ص 23.

(46) Muhammad Kamal Hassan. Muslim Intellectual Responses to “New Order” Modernization in Indonesia, (Kuala Lumpur: Dewan Bahasa dan Pustaka, 1992), p.110.

(47) Pradoyo. Sekularisasi Dalam Polemik, (Jakarta: Grafiti, 1993), p.97.

(48) لقد أرسى نور خالص اللوائح الدستورية لاتحاد الطلبة المسلمين بعد انتخابه في المؤتمر المنعقد في مدينة مالانج عام 1969م، التي ما تزال قائمة إلى وقتنا الحالي في تدريب الأعضاء الجدد. ولمزيد من التوضيح، انظر: (Sekapur Sirih dalam kata pengantar, Sekularisasi Dalam Polemik, oleh Pradoyo (Jakarta: Grafiti Press, 1993), p.xv.

(49) Ahmad Wahib. Pergolakan Pemikiran Islam, (Jakarta: LP3ES, 1973).

(50) Sjafii Anwar. Aksi dan Reaksi terhadap pemikiran keagamaan di Indonesia, p.42.

(51) Charles Kurzman. Wacana Islam Liberal: Pemikiran Islam Kontemporer tentang Isu-Isu Global, p.489.

(52) Abuddin Nata. Tokoh-Tokoh Pembaruan Pendidikan Islam di Indonesia, p.327.

(53) Ahmad Sofyan & Royan Madjid. Gagasan Cak Nur tentang Negara dan Islam, p.59.

(54) المرجع السابق، ص 74.

(55) Amien Rais. Cakrawala Islam: Antara Cita dan Fakta, p.103.

(56) المرجع السابق، ص 106.

(57) Pelita daily News paper 17, 18, 19, and 20 October, 1986.

(58) المرجع السابق، ص.181-182.

(59) Komaruddin Hidayat in an interview with Jaringan Islam Liberal (Network of Liberal Islam, 2002).

(60) المرجع السابق، ص3.

(61) المرجع نفسه، ص4-5.

(62) سانجاي برادان، “تحسين قدرة الدولة المؤسسية”، مجلة التمويل والتنمية (صندوق النقد الدولي)، العدد3، المجلد34، سبتمر1997، ص25.

(63) أجاي شهيبر، “الدولة في عالم متغير”، مجلة التمويل والتنمية (صندوق النقد الدولي)، العدد3، المجلد34، سبتمر1997، ص17.

(64) هدى ميتكيس، “الإسلام والتنمية في إندونيسيا”، في: ماجدة علي صالح (محررة)، الإسلام والتنمية في آسيا (القاهرة: مركز الدراسات الآسيوية، جامعة القاهرة، 1999م)، ص108.

(65) Michael R.J. Vatikiotis, Indonesia Politics under Suharto: The rise and fall of the New Order (London: Routledge, 3ed, 1998), p47.

(66) Hal Hill, The Indonesia Economy Since 1966: Southast Asia’s Emergency Giant (Cambridge: Cambridge University Press, 1966), p15.

(67) Michael R.J. Vatikiotis, Indonesia Politics under Suharto, p40.

(68) Hal Hill, The Indonesia Economy Since 1966, p15.

(69) جوزيف إ. ستيغليتز، خيبات العولمة، ترجمة: ميشال كرم (بيروت: دار الفارابي، ط1، 2003م)، ص109.

(70) مانويل جويتيان، “كيف تدار التدفقات العالمية لرؤوس الأموال”، مجلة التمويل والتنمية (صندوق النقد الدولي)، بونيه 1998، المجلد35، العدد2، ص16.

(71) يوسف واناندي، “إندونيسيا: هل هي دولة فاشلة”، الثقافة العالمية (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، العدد 117، س22، مارس-أفريل 2003م)، ص69.

(72) Riyana Miranti, “Poverty In Indonesia 1984-2002: the Impact of Growth and Changes in Inequality” Bulletin of Indonesian Economics Studies, (The Australian National University), Volume 46, Number 1, April 2010, pp 87-88.

(73) ستيغليتز، خيبات العولمة، ص140.

(74) See: Kamla Jain, the Concept of Pancasila in India Thought (Varanasi-India: Parshvanath Vidyashram Research Institute, 1983).

(75) Soemardjan, Indonesia: A Socio-Economic Profile (New Delhi: Sterling Publishers Private Ltd, 1988), p 107.

(76) محمد إسماعيل يوسانتو، “النهضة الإسلامية والحملة السياسية لحزب تحرير إندونيسيا: تحدٍّ مباشر للتحديث والعولمة”، في: سمير عبد الحميد نوح (محرِّر)، التحديث والهوية القومية في شرق آسيا: العولمة وإحياء الدين، برنامج المراكز المتميِّزة للقرن الواحد والعشرين- السجل العلمي لندوة سيسمور (CISMOR) الدولية، 5-6 نوفمبر 2005م، كيوتو- اليابان، ص 103-104.

(77) لمزيد التفصيل، ينظر:

Bahtiar Effendy, Islam and the State in Indonesia (Singapore: Institute of Southeast Asian Studies, 2003), p45.

(78) محمد ناصر، اختاروا إحدى السبيلين: الدين أو اللادينية (جدة: الدار السعودية للنشر والتوزيع، ط5، 1405هـ/1985م)، ص26-27، وص85.

(79) Taufik Abdullah, Indonesia Towards Democracy (Singapore: Institute of Southeast Asian Studies, 2009), p 392.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر