أبحاث

كيف نتعامل مع الموروث التربوي الإسلامي؟

العدد 104

مقدمة :

على الرغم من التحفظات العديدة على نظريات التحليل النفسي في تفسير السلوك، إلا أنها رسخت حقيقة من العسير دحضها ألا وهي أن معطيات الشخصية الإنسانية الحاضرة لا يمكن فهمها حق الفهم إلا بعد القيام بعملية فك لمعطياتها في سنواتها السابقة ، منذ أيام الطفولة الأولى وإعادة تركيبها مرة أخرى.

وعلى الرغم من أن البنية المجتمعية العامة ليست بالفعل مجرد حاصل عملية جمع حسابي بين أفراد المجتمع، وبالتالى فإن ما يصدق على الإنسان فردًا قد لا يصدق عليه جماعة وأمة ، إلا أننا بالنسبة لهذه الحقيقة التى أشرنا إليها نجد أنها مثلما تصدق على الفرد تصدق كذلك على الجماعة ، بمعنى أنه كلما تمكن السباح من الغوص محللاً وباحثًا في ماضيها كلما استطاع فهم وتفسير ما تواجهه في الحاضر من مشكلات ، وما تكون عليه من خصائص وسمات ، وما تحفل به من توجهات.

وإذا كان هذا يصدق على الجماعة بكليتها، فإنه يصدق كذلك على منظوماتها الفرعية ، والمنظومة المعنى بها هنا هي منظومة الفكر التربوي، بحيث تصبح دراسة تياراته وخصائصه ومشكلاته وقضاياه المعاصرة ، وتوجهاته المستقبلية دراسة علمية بدون التوقف بعض الشيء  أمام ما كانت عليه في قرون سابقة في جوانبها المختلفة، عملاً يجانبه البصر السليم .

وهكذا تتأكد لنا تلك الحقيقة التى تقول أن موروث كل أمة ليس أمرًا شغل فترة من حياتها مضت ولم يعد له وجود ، بل هو داخل في عناصر تكوين ذاتها الحضارية ، ويصبح من الضروري التبصر بكيفية التعامل مع هذا الموروث بحيث يخضع لعمليات فحص وتقويم ونقد وانتقاء، فلا يتحول إلى قوة جذب إلى الوراء، وإنما يصبح معينًا على تفسير الحاضر ومساهمًا قويًّا في الدفع إلى المستقبل .

ومن هنا فإن أهداف دراسة هذا الموضوع تتلخص فيما يلي :

_ التأصيل للفكر التربوي الإسلامي المعاصر في جوانبه المتسمة بالاستمرارية.

_ المساهمة في تعزيز وتحديد الهوية الفكرية للتربية الإسلامية .

_ الفحص النقدي لعدد من المضامين الفكرية للموروث التربوي .

ما الموروث؟

يجب أن ننبه بداية إلى أننا نقصد من كلمة (الموروث) نفس المقصود عند استخدام كلمة (تراث) ، ولفظ (التراث) في اللغــة العربيـة من مادة (و. ر.ث) وتجعله المعاجم القديمة مرادفًا لـ (الإرث) و(الورث) و(الميراث) وهي مصادر تدل، عندما تطلق اسمًا ، على ما يرثه الإنسان من والديه من مال أو حسب . وقد فرق بعض اللغويين القدامي بين (الورث) و(الميراث) على أساس أنهما خاصان بالمال وبين (الإرث) على أساس أنه خاص بالحسب . ولعل لفظ (تراث) هو أقل هذه المصادر استعمالاً وتداولاً عند العرب الذين جمعت بينهم اللغة[1].

وبالنسبة للقرآن الكريم ، فإن الآية الوحيدة التى وردت فيها كلمة (التراث) ، هي قوله سبحانه وتعالى : {كَلاَّ بَل لاَ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ(17)وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ(18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمًّا(19) وَتُحِبُّــونَ الْمَــالَ حُبًّا جَمًّـا} (الفجر: 17 _ 20)، أما كلمة (ميراث) فقد وردت في قوله تعالى : {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } (الحديد: 10)، واستقراء العديد من الكتابات الفقهية في قرون الحضارة الإسلامية الأولى ، تبين خلوها من كلمة (تراث) ، والتعامل مع كلمة (ميراث) على أساس أنه ينصرف إلى ما يتركه الميت من مال . أما  الكتابات الأخرى في مجالات الأدب وعلم الكلام والفلسفة فهي أيضًا تخلو من كلمة (التراث) ، حتى إذا أشار الكتاب إلى ما انتقل إليهم من إرث علمي يوناني، أطلقوا عليها اسم (علوم الأوائل) .

ويلاحظ (الجابري) بحق أنه لا كلمة (تراث) ولا كلمة (ميراث) ، ولا أيًّا من مادة (و. ر. ث) قد استعمل قديمًا في معنى الموروث الثقافي والفكري، وهو المعنى الذي يعطى لكلمة ( تراث) في خطابنا المعاصر، فالموضوع الذي تحيل إليه هذه المادة ومشتقاتها في الخطاب العربي القديم كان دائمًا : المال، وبدرجة أقل: الحسب . أما شئون الفكر والثقافة فقد كانت غائبة تمامًا عن الحقل الدلالي لكلمة (تراث) ومترادفاتها[2].

وعلى هذا يمكن القول بأن الموروث أو التراث في مفهومه البسيط هو ما ورثناه عن السلف من تراكمات ثقافية أو حضارية ، ويستوى في ذلك التراكمات التى ابتعدت عن الحياة ، والتراكمات التى لا تزال حية وقادرة على أن تدفعنا نحو هذا الاتجاه أو ذاك عند ممارستنا للحياة . ومن ثم فإن التراث يقبل في سهولة ويسر أن يكون موضع الدراسة من علماء الاجتماع والتربية . بهدف الكشف عما يمكن أن يشهد عليه من علاقة عضوية بين الفكر والواقع المعيش[3].

ومنذ قرون ، استطاع عدد من علماء الأمة العربية الإسلامية أن يقوم بمثل هذه الدراسة بصورة تمكننا من البصر بنتائج أصبحت تمثل بالفعل عددًا من الأسس الهامة اللازمة لدراسة العلاقة بين الفكر والواقع في عصرنا الراهن ، ولعل أبرز ما يمكن سوقه مثلاً لذلك ، دراسة ابن خلدون للتراث التاريخي في مقدمته الشهيرة ، حيث خرج بمجموعة من القواعد والمبادئ جعلته مؤسسًا لعلم الاجتماع .

وبالمثل نجد جهودًا لعدد من علماء التفسير في توقفهم أمام أسباب النزول، مما يشير إلينا أن آيات القرآن الكريم نزلت لتواجه مواقف عملية ، ومشكلات واقعية[4] .

وإذا كان لفظ (التراث) لم يرد كثيرًا على ألسنة وأقلام الكتاب من السلف، فلابد أن نلاحظ أنه قليلاً ما يرد كذلك على ألسنة وأقلام المتحمسين المعاصرين للتراث؛ ذلك لأن هؤلاء وهؤلاء إنما يقفون على أرض التراث ، فلا تتخلق أمامهم مشكلة من حيث ماذا يأخذون منه وماذا يتركون ، ويتركز جهدهم في الذود عنه أو إصلاح بعض شأنه ، وهم في عدم استخدام لفظ التراث يدركون وجوه الانقطاع بين ما يقفون عنده وما وفد وشاع من أصول وكليات غريبة عنه، وهم يؤثرون الاسم الدال على الهوية وما ينتمون إليه وهو (الإسلام)، يواجهون به تلك المحاولات الضارية لاجتثاثهم من أرضهم وجذورهم الحضارية[5] .

والأمر على العكس بالنسبة لمن يقفون على أرض مغايرة فيتشيعون للوافد، وينظرون إلى التراث على أنه حقبة من حقب التاريخ ولت، وبالتالي فحتى يمكن الأخذ بأسباب النهوض الحضاري، فلابد من الانخلاع من هذا الموروث الذي يشكل قيودًا وأغلالاً تشد الأمة إلى الوراء.

والحق ، فإن هذا المجمل الذي نسميه (تراث) لا ينبغي أن نراه أمرًا خارجًا عن ذاتنا ، وليس أمرنا معه في كلياته وأصوله ومجمله أمر اختيار، دون إغفال حقنا في الاجتهاد في فروعه واختيار البدائل من داخله وبمادته وإدخال ما يتلاءم ولا يتنافر مع أصوله مما هو نافع بمراعاة ظروف الزمان والمكان، وإن أمرنا مع كلياته وأصوله أمر هوية وانتماء، لا ترد عليه وقفة المختار، ففي الاختيار وجه تحرر ، وفي التحرر وجه تنافر مع الانتماء ، وعلى سبيل المثال، فإننا عرب، وعروبتنا مضروبة علينا على وجه اللزوم، ومن هنا ترد قوتها كمورد للخضوع والامتثال ، وكمشرع للنظر ومعيار للاحتكام . فنحن لا نختار بينها وبين غيرها حسبما ينفعنا ، وإلا فمن نكون ؟! إنما يرد الاختيار بمراعاة ما يصلح لها وما تصلح به . وهو اختيار يرد في مجال الفروع[6] .

لكن هناك من يوجهون سهام نقد إلى معنى أكثر شيوعًا للتراث بعيد عن المعنى الذي نتناوله في الدراسة الحالية ، كما أشرنا في الفقرة السابقة ، وكما سيتضح أكثر في أجزاء تالية ، هذا المعنى موضع النقد يطمس التعاقب الزمنى والتمايز الاجتماعي ويحشد كل الإنجازات على مستوى واحد دون تمييز بين فاعل وآخر أو بين جزء وآخر . وفي ضوء هذا التصور يطرح ناقدي هذا التصور بعض التساؤلات مثل[7] : لماذا نحدد بداية التراث بالرسالة المحمدية ، ولم لا نضع ما قبلها في الحسبان؟ ولماذا نعادى الحضارات الأخرى في المنطقة نفسها التى انتشر فيها الإسلام ، أو على الأقل نتغافلها كالحضارة الفرعونية مثلاً؟ لم تعتبر الأممية الإسلامية هي الأفضل ، ونتجاوز ، وأحيانًا نرفض، أنماطًا وركائز أخرى من الأممية ؟ لم نستبدل كثيرًا من مفهومات العلم الاجتماعي، كالمجتمع والطبقة ، وتحل محلها : الأمة والخليفة ؟

والإجابة عن مثل هذه التساؤلات إنما يحددها المنطلق العقائدى الذي ينطلق منه الباحث، فما دام هذا المنطلق هو الإسلام والعروبة تتضح الصورة . علما بأن من القواعد التى أقرها علماء الإسلام أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد نص بتحريمه ، وبالتالى فلا مفارقة لحضارة ولا لفكر إلا بقدر ما يكون بينها وبين العقيدة من تنافر وتضاد . ومن المعروف كذلك في السنة النبوية التأكيد على أن الحكمة ضالة المؤمن ، أنى وجدها فهو أحق بها ، لا يبالى من أي وعاء خرجت!

وإذا كان التراث هو ما آل إلى مجتمع راهن عن الأجيال الغابرة له من قيم ونظم وأفكار ، ومن عادات وأخلاق وآداب ، يصبح معنى الموروث التربوى هو ما آل إلى المجتمع العربي الراهن من قيم ونظم وأفكار تربوية، وأخلاق وآداب .

وهنا لابد لنا من التفرقة بين فئتين من مصادر الموروث، الفئة الأولى تلك التى مصدرها وحي إلهي ، كما نراها في القرآن الكريم والسنة النبوية ، والثانية تلك الجهود الفكرية والعملية التى تمت على أيدي المسلمين والعرب في المجال التربوي . ومجالنا في الدراسة الحالية معنى بالدرجة الأولى بالفئة الثانية ، وإن كنا يمكن أن نستند أحيانًا إلى نصوص قرآنية ونبوية لتعضيد بعض ما سوف نسوقه من مضامين.

الوظيفة التربوية للموروث الحضاري في حاضر التعليم :

البحث عن الوظيفة التربوية للموروث الحضاري في التعليم هو بحث عن قيمة الدراسة التاريخية في التنشئة والتكوين بالنسبة للشخصية الإنسانية .

ومن هنا نجد أنه من الصعب إبداع حضارة واحدة ذات نسيج واحد بذوات متنافرة لا تجمعها روح منسابة واحدة ، وإنه مهما اختلفت الإيقاعات في الحضارة ، فيجب أن يكون الإيقاع الأقوى هو الإيقاع الذاتي الذي يمثل الروح العامة للأمة[8] .

ويمكن القول: إن التاريخ البشرى _ طوال حقبه _ يتكون عادة من شريحتين : شريحة تميزت وصنعت حضارة نسبت إليها وأخذت بها موقعًا من التاريخ، وشريحة مرت بالتاريخ كما تمر شتى الأمواج الساكنة في الكون ، فهي تابعة لأية ذات ، وهي مؤهلة لعبور جسر الحياة تحت أي مظلة وبأي لون ، وهي مطية للزمان والمكان ، يشكلانها كيفما اتفق ، وليس الزمان والمكان مطية لها تشكلهما هي وفق ذاتها وبوعيها وإرادتها .

وتحدد الأمة _ أية أمة _ انتماءها لأية شريحة من الشريحيتين منذ البداية ، أي في مرحلة التكون والانطلاق . وإذا تركنا الشريحة الثانية حيث تمضى بغير معنى في التاريخ ، فهى لا تحتاج إلى وقفة ، ومسيرتها شبيهة بكل الكائنات التى تنتمى إلى عالم الغريزة ، ذلك أنها توجه خطواتها إلى المسالك التى تحقق بها غرائزها الدنيوية وأهـــدافها المحدودة[9] .

وعلى العكس من ذلك نجد الشريحة الأولى ، شريحة صانعى الحضارة الذين يتميزون بذات خاصة ، والذين تركوا بصماتهم على الزمان والمكان ، فهذه الشريحة التى تصنع الحضارة ، هي التى انطلقت وفق فقه خاص للحضارة ، واشتبكت مع الزمان والمكان في معركة إثبات الذات ، فهي تستثمر كل ثانية من الوقت ، وهي تسخر كل ذرة من الأرض ، وهي تصارع الزمان والمكان بسلاحين قويين : سلاح الإسلام ، وسلاح العروبة .

ومن المعروف أن قضية البحث عن الذات الحضارية قد استولت على اهتمام شعوب كثيرة إبان معاناتها لما عرف (بصدمة الغرب) . وإزاء الشعور بخطر إفناء الذات الذي يمثله الآخر الغازي أو المعتدى تباينت سبل الشعوب في مواجهتها لهذا الخطر دفاعًا عن الذات حسب الرؤية الإيديولوجية لمعنى الذات عند هذا الشعب أو ذاك : ذات دينية أو قبلية أو قومية . ولقد أخطأت الشعوب الإسلامية والعربية في اعتبار السبب واحدًا ، وهو الغزو الخارجي ، مقترنًا بأسباب القوة العلمية والتقنية والأطماع الاستعمارية التى تستهدف سحق إرادتها وتاريخ ذاتيتها ، ولكن تباينت سبل مواجهة هذا التحدى[10] .

لقد غرق الباحثون العرب والمسلمون بعامة في مشكلة البحث عن الذات في التراث ، واطرد البحث على نحو فردي أو على أيدي جماعات متناثرة ، بل ومتنافرة، واتصل البحث عقودًا دون أن يهتدى الباحثون إلى الذات المفقودة في بطون كتب التراث، ومن أسباب ذلك، الغموض الشديد بشأن الإطار العام الذي يجب أن تكون عليه رؤيتنا للتراث وصورة مجتمع المستقبل … لماذا نبحث عن ذاتنا؟ هل لمجرد أن استهوتنا المشكلة نظريًّا؟ ولماذا نبحث عنها في صفحات كتب بعضها لا يزال بحاجة إلى أن تخضع  للبحث والدراسة على هدى منهج علمى؟ وقل من الباحثين من يملك المنهج أو الرؤية المستقبلية التى تحدد معايير النظر[11] .

ومن هنا فإن الخطوة الأولى التى لابد منها في بناء الإنسان _ الوحدة الأساسية في أمتنا _ تصبح هي الوعي بتراثه على وجه العموم والتربوي على وجه الخصوص ، وعيًا تحكمه جملة من المباديء الأساسية التى لابد من إبرازها حتى لا يقع تصورنا للتراث تحت مظلة هذه الصورة التى يشبعها كثيرون نقدًا وذمًّا على اعتبار أنها مجرد نظرة ماضوية تريد شدنا إلى الوراء ، ومن هذه المباديء:

_ الكف عن النظر إلى التراث على أنه غاية في ذاته ، فهو وسيلة ويمكن أن يخضع للنقد والتمحيص أو التغيير ، وعدم الخلط بين ثوابــت الأمة الموروثة (القرآن الكريم والسنة النبوية ) وبين متغيرات التراث التى هي من صنع البشر، حتى لا تنتفى عن التراث صفة الإبداع الإنساني، وبالتالي لا يشمل التراث الكتب المقدسة والمؤلفات الصوفية والفقهية والعقائدية ، مثلما لا يضم ضريح الولى وكل صاحب عمامة وبائع عطور[12] !

_ لا ينبغي اعتبار التراث مستقلاًّ عن الواقع ، فهو جزء منه ، فلا يستبدل بالواقع الحالي الواقع التراثي ، فيصير الخلط بين ما هو كائن وبين ما ينبغي أن يكون ، بحيث لا تصبح القضية التى تحتل المقدمة هي الكيفية التى يطوع بها الحاضر نفسه للتراثي، ومن ثم يظل النظر إلى التراث وكأنه ذات وموضوع، وأنا وآخر، وروحًا ومادة ، وبالتالى سورًا مغلقًا لا يمكن ولا يجب النفاذ إليه.

_ التراث ليس كلاًّ لا يتجزأ ، يؤخذ كله أو يرفض كله ، البدء منه والمنتهى إليه . إذ يترتب على النظر إليه باعتباره كلاًّ لا يتجزأ ، محاولة تأكيد أن التراث لا يقبل التفاعل مع تراث آخر . وكذلك تحول جماعات تراثية إلى جماعات مغلقة على نفسها في الفكر والسلوك والممارسات الاجتماعية .

_ التراث ليس خارج التاريخ والزمان والمكان ، وهو ليس بذاته حقيقة أبدية لا تتطور ولا تتغير، لا فرق فيها بين ماض وحاضر ومستقبل ، ومن ثم فلابد من الاعتراف بوجود خصوصيات للمجتمعات والشعوب .

_ ضرورة حضور الإنسان ، إرادته وعقله وروحه ، وحاجاته الأساسية ، فالغاية ليست مجرد الدفاع عن التراث وتأكيد حاكميته .

_ ضرورة البعد عن التعصب والحرص على إقامة حوار مع الآخر، حى لاننغلق على الذات ، ونسهم في التخاصــم والتصارع مع الحاضر ونظامه[13].

وبعد أن أثبتنا هذه المنطلقات يمكن لنا أن نؤكد أن مثلنا مع تراث أمتنا كمثل الإنسان مع القوانين الطبيعية التى تحكم هذا الكون وتسيطر فيه ، فقبل أن (يعي) الإنسان قوانين ظاهرة ما ، لا يستطيع اكتشافها ومن ثم لا يستطيع توجيهها ولا التحكم فيها والسيطرة عليها، ومن هنا فإن تسخير الظواهر الطبيعية وتحويل الظواهر الاجتماعية ، والتأثير والتعديل في الظواهر الفكرية هو أمر لاحق (لوعي) الإنسان بقوانينها وفهمه لمكوناتها .

هكذا الأمر بالنسبة لموروثنا العربي الإسلامي كظاهرة فكرية وحضارية متنوعة المناحي ومتعددة الجنبات، لابد لنا أن (نعي) مكونات هذه الظاهرة ، ونفهم تياراتها ، ومنشأ هذه التيارات، وكيف تحركت ونمت ، أو انتكست وذبلت ، وماذا يصلح من كل ذلك كي يكون طاقات إبداعية وخالقة تذكي حركتنا الزاحفة نحو أهدافنا المعاصرة والمستقبلة ، وماذا من صفحاته يدرس لمجرد الدرس الأكاديمي التاريخي ، وماذا من أجزائه يفحص لمجرد إدراك النقيض..إلخ[14] .

إننا إذا وعينا ما في موروثنا الحضاري والتربوي من قيم إيجابية فأقبلنا عليه وأحييناه ، ووعينا ما قد يكون فيه عكس ذلك فأدرنا له ظهورنا واستبعدناه ، عندئذ سيبرز التراث العربي الإسلامي : ظاهرة فكرية حضارية ، ولكنها متعددة الجنبات ، متنوعة القسمات ، وفيها ما يصلح قيودًا على تقدمنا ، وما يمثل طاقات إبداعية وخلاقة تدفع هذا التقدم إلى الأمام ، ومن ثم تنتقل هذه القضية من دائرة (العماء والغموض) إلى ساحات الصراع الاجتماعي والفكري الواضح والمحدد، فتعرف جماهير هذه الأمة ومثقفوها الذين ربطوا مصيرهم بقضية تقدمها وتحررها ، كيف تجعل هذا التراث العربي الإسلامي كتيبة من كتائب حربها ضد التخلف والجمود، وتيارًا ساريًا في ضمير هذه الأمة يربطها بأمجد صفحات تاريخها وحضارتها، يذكي فيها إحساس الأصالة والمجد، بقدر ما يدفع خطواتها على الطريق إلى الأمام، كما يعرف أعداء تقدم هذه الأمة أن قوى التقدم قد اقتحمت عليهم الحصن الذي توهموا أنهم وحدهم المتحصنون فيه[15] .

ولعلنا بعد هذا يمكن أن نشير باختصار شديد إلى عدد من الوظائف التربوية التى يمكن أن تقوم بها دراسة الموروث التربوي[16] :

_ فهم المشكلات التربوية التى واجهت الإنسان في سياق تطوره الاجتماعي .

_ بعض العلم بالطرق التى واجه بها هذه المشكلات في عصور مختلفة وفي أماكن مختلفة .

_ اتجاه موضوعي نحو كل الأفكار التربوية ، والنظم ، وطرق التعليم، على أنها وسائل لا غايات في حد ذاتها، فنكون على استعداد لتقديرها ، لا على أساس الولاء الأعمى ، ولكن على أساس صلاحها لتحقيق الغايات التى من أجلها وضعت .

_ تذوق حقيقة أن أي حركة في التطور التاريخي للتعليم لا يمكن أن تفهم فهمًا صحيحًا ، وتقدر تقديرًا دقيقًا من غير الرجوع إلى الدوافع القريبة والبعيدة التى أوجدتها في أول الأمر .

_ تذوق حقيقة أن الجماعة التربوية هي في حركة دائمة ولا تستقر أبدًا ، وأن مفهوم التغير المستمر أساسي لفهم أي كائن اجتماعي بدرجة ما هو أساس لفهم أي كائن بيولوجي .

– تذوق حقيقة أنه ما دام التغير هو أساس الجماعة البشرية ، فإن النظام التربوي يجب أن يكيف دائمًا ليوجه الحاجات الاجتماعية المتغيرة لعالم اجتماعي متغير .

_ اتجاه واع نحو كل الآراء الموجهة جديًّا نحو تحسين النظام التربوي ، يرافقه شك ناقد لكل الأدوية التربوية التى تركب وتوصف بدون علم كاف بطبيعة المرض أو تاريخ المريض .

_ تذوق حقيقة أن أحوال الحضارة المختلفة ومستويات التعليم المتعددة وأنواعه ودرجاته ومجالاته ، تولد طرقًا مختلفة لمواجهة المشكلات التربوية ، وتقبل اختلاف الثقافات كأمر من طبيعة الأشياء ، لا على أنها شيء غير مرغوب فيه ، وقدرة تتجاوز مجرد النظر الموضوعي للثقافات والحضارات التى تختلف عن حضارتنا وثقافتنا إلى المشاركة الواعية في طرق الفكر وطرق العمل في هذه الحضارات والثقافات .

_ إحساس بالمسئولية الاجتماعية يتضمن ، بالإضافة إلى المشاركة الذكية في عمل الآلية التربوية والآلية الاجتماعية كما هما ، إلى التعاون الذكي في إحداث التغيرات اللازم إحداثها في هاتين الآليتين حتى تبقيا متكيفتين أبدًا للحاجات الاجتماعية المتغيرة .

_ إن الموروث التربوى ، إذا علم جيدًا ، يجب أن ينمى اتجاهات محددة خاصة تنفع في معالجة المواقف التربوية والاجتماعية من كل نوع ، ويجب أن يهيئ فرصة مناسبة لتدريب الباحثين على : أين وكيف يحصلون على المعلومات _ كيف يزنون الأدلة ويستبعدون التحيز _ كيف يحصلون نتائج منطقية _ كيف يختارون ويرتبون ويعرضون الحقائق التربوية كمقدمة لتكوين رأى سليم عن أي موقف تربوى، ماض أو حاضر[17] .

لكن مثل هذه الوظائف لا تحدث في التو واللحظة عند الشروع في الوعي بالموروث التربوي، ما لم يستند هذا الوعي إلى أرض صلبة من العمل المنهجي العلمي .

الأسس المنهجية للتعامل النقدي مع الموروث التربوي:

في الوقت الذي تعاني فيه أمتنا من اكتساح واضح لما يصعب حصره من مفردات الفكر التربوي الغربي مما ساعد على تغييب الذاتية التربوية الإسلامية، نرى العديد ممن هربوا من هذا الاكتساح بالاختباء في عباءة التراث التربوي، يأخذونه كما هو دون أن يعوا بأن الفكر له أبعاده الزمانية والمكانية ، وأن إغفال هذه الحقيقة إنما يعنى ردة إلى الوراء . وإذا كان التقهقر التاريخي أمرًا غير وارد ، فإن المأساة تصبح خطيرة ؛ لأن هذا المنهج في التفكير يجعل أصحابه وقد انعزلوا عن مجرى التطور ، في الوقت الذي استحال فيه عليهم أن يكونوا مثل أسلافهم الذين يتغذون بفكرهم كما هو .

من هنا فإننا نؤكد على ضرورة التعامل المنهجي مع الموروث التربوي، بحيث تتحول عملية استقرائه ومحاولة الإفادة منه إلى قوة تطوير وطاقة تجديد، لا إلى قيود تعوق حركة الفكر التربوي عن أن يقوم بدوره المأمول من حيث المساهمة في بناء شخصية المواطن بالصورة والدرجة التى تفعّل قدراته في عمليات البناء المجتمعى .

وفيما يلي بعض المؤشرات التى يمكن اقتراحها لتحقيق هذا المطلب :

1_ لعل الخطوة الأولى التى تفرض نفسها هنا هي اصطناع المنهجية العلمية في التعامل البحثي مع التراث . ولسنا هنا في مجال يسمح لنا بتفصيل مثل هذه المنهجية ، فأصولها وقواعدها وأسسها مبثوثة في العديد من المراجع ، وفضلاً عن ذلك فإن ما سوف يلي من نقاط هو كشف لبعض قواعد وأصول هذه المنهجية ، وغاية  ما نود أن نؤكد عليه في النقطة الحالية هو أن الأمر لم يعد يحتمل السير العشوائي ، وإلا ظللنا ندور في طريق دائرى لا يخطو بنا إلى الأمام ، وهو الأمر الذي غلب على الكثير من خطواتنا السابقة ، وأساء إلى الموروث التربوى نفسه ، إذ ترك الأمر للنزعات الشخصية ، والخطوات غير المحسوبة ، فغلبت اللفظية وتحكم أسلوب الوعظ والإرشاد الذي يصبح عديم الجدوى ما دام في غير موضعه ، وترسخت نزعات غرور كاذب ، حيث تنطق معطيات الواقع بما يتناقض تمامًا مع المزعوم على صفحات الورق، وتصور كثيرون أنه بإبرازه صفحات مشرقة من الموروث، وأن العالم والمفكر العربي المسلم (س) قد سبق العالم والمفكر (ص) من مفكري الغرب في القول بكذا وكذا ، أنه قد أبرأ ذمته في الدفع بالأمة إلى الأمام ، وحل مشكلات الحاضر ، واستشرف المستقبل.

2_ أما الخطوة الثانية فهي الوعي بأن الفكر يخضع في ظهوره وفي تطوره إلى نفس السنة الإلهية التى تحكم ظهور ونمو مختلف الكائنـات الحية ؛ لأنـه هو نفسه (أي الفكر) نتاج أشرف وأعقد وأعظم الكائنات الحية ، ألا وهو الإنسان .

ولو نظرنا إلى أبسط الكائنات الحية، إلى النبات مثلاً، فسوف نجد أنه لا يظهر إلا في ضوء معطيات البذور التى أنبتته بخصائصها المعروفة، ويتحدد بنوع التربة التى ينبت فيها، ولا يستمر إلا في مناخ بعينه، فضلاً عن نوعية الغذاء الذي يتغذى به .

كذلك الفكر، هو نبت بيئة ثقافية لها خصائصها ومحدداتها وعوامل نموها وعوامل انحدارها ، حتى وهو ينسب عادة إلى هذا الفرد أو ذاك من المفكرين والعلماء والباحثين، يحمل خصائصه التى ينفرد بها عن غيرها ، إلا أنه يظل منتميًا إلى سياق حضاري يمده بمقومات الوجود، ويغذيه بعوامل النمو، قوة أو ضعفًا ، وهو ما عبرنا عنه بأن لكل فكر أبعاده الزمانية والمكانية .

ومن ثم فإننا عندما نتوقف أمام فكرة تربوية ما مما هو موروث، يجب أن نضعها في سياقها المجتمعى الحضاري، ذلك أن مثل هذا الأمر يعتبر أمرًا ذا قدرة حاسمة فيما نأخذ ونترك من الموروث، فقد يكون الفكر نتاج فترة ضعف وتخلف، مما ينعكس على نوعيته وتوجهاته، فيصبح من المؤكد أنه غير مرغوب فيه في حاضرنا فضلاً عن مستقلبنا .

ومن العجيب حقًّا تلك العبارات التى تشير إلى عبقرية ابن خلدون ، فهو يعبر عن هـذا الذي نقـــول بعبارات دالة[18] :

(حقيقة التاريخ أنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات، وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال) .

فكأن ابن خلدون قد سمع تلك الصيحات التى تعالت منذ عقود ، ناقدة هؤلاء الذين يتصورون أن حركة التاريخ مجرد تسلسل في الحوادث يمكن رصدها وتسجيلها بغير البصــر بعلاقتها بما سماه (الاجتماع الإنساني) ، وهو (العمران)، وهو التعبير الخلدوني لما نعبر عنه بالسياق الحضاري .

3_ ولعل من أبرز الأخطاء التى تشيع في التعامل مع الموروث هو اعتباره من الناحية الزمنية كتلة واحدة ، وهو خطأ يترتب على ما يكون من قصور في النظر إلى السياق المجتمعى لحركة الفكر التربوي ، فما توافر لدينا من موروث تربوي هو نتاج قرون عدة قد لا تقل عن سبعة قرون ، وعلى مساحة تمتد من بلدان المغرب والأندلس على شاطئ الأطلنطي إلى تخوم الصين والهند، ووفقًا لسنن التطور، يستحيل افتراض التماثل التام بين مكونات هذا الكم الكبير من الإنتاج الفكري التربوي، صحيح أن الجميع سعى إلى أن يستقى ما يكتب وما يقول من مصدرى الإسلام الأساسيين : القرآن الكريم والسنة  النبوية، وصحيح أن الحدود بين البلدان العربية والإسلامية لم تكن قائمة، وهذا وذاك مما يوفر فرص التماثل والتشابه في ظروف النشأة والنمو ، لكن يظل الأمر قائمًا ، وهو الاختلاف بين منطقة وأخرى، وبين زمن وغيره، حتى لقد أثر عن القرافي تأكيده على كل من يفتى ألا يفتى من يسأله الفتوى إلا وفق العرف السائد في بلد المفتى ، بعد استقراء القرآن والسنة .

إن التعامل مع الموروث التربوى في جملة قرون الحضارة الإسلامية، وجملة البلدان الإسلامية يبعدنا عن النهج العلمي، إذ يوقع الباحث في تعميمات خاطئة، فقد تكون العينة التى يفحصها لمفكر أو عالم من منطقة تزدهر بأسباب الحضارة والنمو ، فيؤكد على ما يترتب على هذا من أحكام ، مستنتجًا بأن الحضارة الإسلامية قد وعت كذا وكذا من الاتجاهات التربوية الجيدة ، بينما تكون هناك مناطق أخرى، وربما تكون هي الأكثر مساحة جغرافية ، والأطول مساحة زمانية ، على غير ذلك . وقد يحدث العكس، أي أن تكون العينة من مناطق متخلفة ، جامدة ، فيكون الحكم على الموروث التربوي ظالمًا، وهذا ما يحدث بالفعل بين الخصوم والأنصار للاستعانة بالموروث، فالخصوم بالفعل يجدون أمثلة وشواهد تؤكد رأيهم ، والأنصار يجدون كذلك أمثلة وشواهد في صالحهم .

4_ كذلك فإن من أهم القواعد التى ينبغي الالتزام بها في التعامل مع الموروث، أن يتحلى الباحث بروح النقد، فلا تقديس إلا لكلام الله المتضمن في القرآن الكريم، والأحاديث النبوية نفسها كثيرًا ما خضعت للنقد من حيث التأكد من صدق صدورها عن الرسول (ص) ، ومن هنا كان قيام علم الحديث، وما عرف باسم الجرح والتعديل الذي قوامه النزعة النقدية .

إن عمل الباحث في الموروث التربوي يجب أن يكون أشبه بعمل المستنطق في الدوائر القضائية الذي يأتى بالشهود والرواة فيستنطقهم ويدقق في شهاداتهم ويحقق في إفاداتهم ويقدم تدقيقاته وتحقيقاته ليستند إليها في الحكم على ما جرى ، ولكن الباحث الناقد في الموروث التربوي لا يقف عند عمل المستنطق ، بل يتجاوزه إلى عمل المدعى العام ، وإلى عمل المحامي _ متخذًا وجهة الادعاء تارة ووجهة الدفاع أخرى _ ثم يصل أخيرًا إلى عمل القاضي الذي يثبت واقع الحادث قبل أن يقدم على الحكم فيه[19] .

حقًّا إن اكتساب هذا الحس النقدي وضبط قواعده وتطبيقها بروية واتزان لمن أهم ثمار الثقافة، ومن أبرز مميزات الحضارة الناهضة النامية ، ولكنها ثمرة لا تحصل إلا بفعل جهود وافرة شاقة تبذل في اقتلاع الأشواك ونسف الصخور وتمهيد الأرض وحرثها ورعايتها رعاية مستمرة ، فإذا قل تقدير مجتمع من المجتمعات لهذه الثمرة أو ضعف اهتمامه بها أو تراخى سعيه في سبيلها ، جفت أسرع جفاف وسقطت وضاعت وضاع معها الكثير من نتاج الحضارة ومفاخر المدنية . هذا ما نراه في سير الأمم المتعاقبة وفي أدوار الرقي والانحطاط في سيرة الأمة الواحدة . فعندما يكون حس الأمة النقدي نافذًا جريئًا ، ويكون في الوقت نفسه عارفًا حدوده ضابطًا ذاته كما يضبط سواه ، تتقدم الأمة في مجالات النهوض وتحقق خيرات ثقافية ومآثر حضارية ، ويصبح لها فعلها الإيجابي وذكرها الباقي[20] .

5_ ولقد سبق الفيلسوف الإنجليزي الشهير فرنسيس بيكون أن حذر الباحثين من الوقوع في براثن مصدرين من مصادر الأوهام التى تميل بالبحث بعيدًا عن جادة الحقيقة والحق، أحدهما ما سماه بأوهام الكهف، والثاني، أوهام القبيلة ، ذلك أن في الإنسان ميلاً فطريًّا لأن يتأثر لا إراديًّا بما يكون عليه من تربية وشخصية وميول واتجاهات، وكذلك أن يتحيز إلى الجماعة أو المذهب الذي ينتمى إليه ، فكأنه يضع على عينيه نظارة ملونة ترى الأمور بلونها .

إن هذا هو ما يسمى (بالتعصب) و(التحيز) وهو أخطر ما يكون على عملية البحث العلمي ، وخاصة بالنسبة للموروث ، وذلك لارتباط الموروث بالتاريخ القومي والوطنى، وبالعقيدة الدينية والنزعة المذهبية ، سواء بالسلب أو الإيجاب ، وخاصة بالنسبة للعقيدة والمذهبية ، ولو تأملنا جيدًا فيما يثار من مناقشات حول الموروثات فسوف نجد أن الموقف المذهبي يطل بوضوح برأسه ويوجه المناقشة .

ونحن هنا لا نتصور إمكان أن (ينخلع) الباحث من مثل هذه المؤثرات، ولكننا ننشد الوعي بتأثيرها، سواء من الباحث نفسه ، أو من السامع أو القارئ للكتابة والمناقشة ، ومن هنا فإن البعض يرى أن الموضوعية إذا كانت مستحيلة ، فإن أضعف الإيمان أن يعلن الكاتب أو الباحث عن هويته الفكرية حتى يكون القارئ على بينة من توجهات ما يقرأ .

لقد خسر التاريخ الفكري العربي والإسلامي الكثير نتيجة خضوع البعض لهوى النزعات العرقية والمذهبية والسياسية، حتى لقد أدى هذا بالبعض إلى الكذب على رسول الله (ص) فعرفنا ما سمى (بالوضع) في الأحاديث، أي اختلاق أحاديث نبوية لتأييد هذا أو ذاك أو الهجوم على هذا وتجريحه أو ذاك ، فما بالنا بما كتب في التربية والتعليم؟

6_ وإذا كان التجرد من النزعات التعصبية يصور الجانب السلبي، فإن هناك جانبًا إيجابيًّا نتطلبه من الباحث في الموروث التربوي، ويتمثل ذلك في محاولة النفاذ إلى أعماق الأفراد والجماعات في الماضى فيحس أحاسيسهم ، ويتلمس أهواءهم، ويختبر ميولهم ورغباتهم ، وآمالهم وأمانيهم، والظروف التى كانت تحيط بهم، وتأثرهم بهذه الظروف وتأثيرهم فيها ، وبذلك يصبح كأنه واحد منهم، ينطق بلغتهم، بل بلغاتهم جميعًا ، لا يلتزم أي فرد منهم أو أية شيعة أو أمة دون سواها، فالماضي حصيلة ميول وإرادات، ومطامع ومعتقدات، وتفاعلات حية دائمًا بين الفرد والمجتمع وبين المجتمعات المختلفة .

ولابد للباحث في الموروث التربوي من أن ينفذ إلى كل هذا إذا أراد أن يفهم هذا الموروث على حقيقته، وهو يجد فيها ما يحب وما يكره، ما يقر وما ينكر، ما يثير في نفسه الرضى والإعجاب وما يبعث الأسى والازدراء، وواجبه أن يسعى دومًا إلى إثبات هذا وذاك كما تجليا له بالضبط ودون أن يجعل لحبه أو كرهه أثرًا في هذا الإثبات، واجبه أن يصور الأهواء دون هوى ، ويمثل الميول دون ميل، ويستخرج العوامل المحيطة والتفاعلات البشرية ولا يفرضها _ كل ذلك لأنه يعيش الماضي ويختبره في نفسه وينطق بروحه ، دون أن يذوب فيه[21] .

معايير الانتقاء والاختيار لمضامين الموروث التربوي:

من المسلم به بالنسبة للباحثين في العلوم الطبيعية أن ليس من الضروري، عند دراسة ظاهرة ما ، أن يستقرئ كل مفردات هذه الظاهرة ، وإنما يكفيه عينة منها؛ ذلك لأن التباين والاختلاف بين جملة المفردات قد يكون نادرًا ، وبالتالي فإن ما يجده في العينة ، يمكن الاطمئنان إلى حد كبير بوجوده أيضًا فيما لم يتوفر له من مفردات أخرى .

لكن ، ليس الأمر هكذا بالنسبة لمفردات الظاهرة الإنسانية إلى حد كبير، وإن استطاع علماء مناهج البحث العلمي أن يتوافروا على محاولة التغلب على هذه العقبة الكؤود ، فأحرزوا نجاحًا ملحوظًا .

وعلى أية حال ، فمن الناحية العملية، يستحيل على الباحث أن يدرس (كل) المفردات، وبالتالى فإن الدارس للموروث التربوى يجد نفسه أمام مهمة الاختيار والانتقاء ، وما دمنا أمام اختيار وانتقاء ، تبرز المشكلة : على أي أساس يتم اختيار هذا واستبعاد ذاك ؟

هنا يمكن لنا أن نتقدم بعدد من المعايير المقترحة التى قد تحتاج إلى مزيد من المناقشة والمراجعة، وبالتالى فما نقدمه إنما هو على سبيل المثال :

1_ نحن أمة عربية ، والعروبة ثقافة وحضارة وليست عروبة عرق ..

كذلك فإن الجمهرة الكبرى من العرب مسلمو الديانة …

والدارس لتطور الحضارة العربية الإسلامية يستطيع أن يجد الاقتران الكبير بين العروبة والإسلام ، ومن ثم فإن هاتين الصفتين ينبغي أن تحددا مجموعة من الثوابت التى يصح أن تكون (مصفاة) لما ننتقى ونختار من الموروث التربوى، فما يتعارض مع العقيدة الدينية وينحرف بها عن الطريق المستقيم ، ننحيه جانبًا ، لا بمجرد إصدار حكم بالإقصاء والاستبعاد له، ولكن ببينة وبدليل وبعد مناقشة وبيان أوجه الخطر التى يمثلها بالنسبة لعقيدة الأمة .

وهكذا الشأن بالنسبة للعروبة ، من حيث التاريخ، والمصلحة، والحاجة ..

وإذا كان هذا مما يمكن الاتفاق عليه بقليل من الاختلاف ، لكن مساحة الاختلاف يمكن أن تتسع إذا تطرقنا إلى التفسير والتفصيل فيما يتصل بالعقيدة الدينية ، وفيما يتصل بالعروبة، فكل له رؤاه ، وكل له اجتهاداته وتأويلاته ، فأيها نتبع ؟

من الصعب حقيقة تقديم جواب شاف، وأقصى ما يمكن قوله هنا هو تمنى أن تتفق المجامع العلمية والفقهية والمراكز السياسية على خطوط عامة رئيسية يمكن الاتفاق حولها، بحيث يصبح الاجتهاد اجتهادًا جماعيًّا لا فرديًّا.

ومما يقرب المسألة مما هو علمي ، أن نترسم خطى المنهجية العلمية التى أشرنا إلى بعض معالمها في الجزء السابق، وأن تتسع الصدور لاختلافات الرؤى بغير تخوين وتكفير، وأن يكون الشعار الحاكم هو تلك المقولة التى تنسب للإمام الشافعي : رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأى غيرنا خطأ يحتمل الصواب، وكلما استند الحديث والبحث إلى قواعد المنطق السليم والتفكير الناقد، كلما قربت المسافات بين المختلفين ، أو على أقل تقدير، كلما حكمت الاختلافات في الرؤى : الروح العلمية ونزعات التسامح وقبول الآخر وسعة الصدر، والمرونة .

2_ ودراسة الموروث التربوي ليست مجرد زيارة لمتحف يضم على أرففه كتابات ووثائق لكتاب ومفكرين وعلماء من عصور مضت حتى نتغنى بما أنجزوه ، ونفاخر به الدنيا ، ونعوض مشاعر الأسى التى تكاد تحطمنا وتدفع بنا في مهاوى الإحباط واليأس مما تردى إليه حالنا المعاصر، وإنما هي وسيلة لفهم الحاضر التربوي والوعي بقضاياه ومشكلاته .

إن التاريخ بالفعل تيار متصل الجريان، واليوم لابد أن يكون مختلفًا عن الأمس، والغد لابد أن يغاير اليوم، لكن تظل هناك قضايا ومشكلات، قد تتغير أشكالها ، وقد تتبدل أسبابها ، ولكنها تتجدد من زمن إلى آخر ، وعلى سبيل المثال فالقضية الخاصة بديمرقراطية التعليم قضية يرجع تاريخها إلى قرون عدة، وسوف تظل هي القضية المحورية في بناء الإنسان مهما مرت عصور وعهود، لكن مضمونها ، وكيفية تنفيذها، وأشكالها ، ووسائلها .. كل هذا وغيره، هو الذي يخضع لمتغيرات الزمان والمكان ، وبالتالي فإننا عندما ننتقى ونختار من موروثنا التربوي لابد أن نضع مثل هذه القضية نصب أعيننا حتى يكون لهذا الموروث جدوى في دراسته في الوقت الحاضر .

ومن أخطر القضايا التى يواجهها تعليمنا المعاصر هي القضية الخاصة بالتمويل، فمن الذي يتحمل تكلفة الخدمة التعليمية : الطالب أم الدولة؟ أم أن الأمر شركة بين الاثنين ؟ هناك العديد من الاجتهادات والآراء والأفكار والنظريات التى تصدت ، وما تزال لهذه القضية ، ومن هنا فإننا ونحن نفتش في أوراق الماضي بحثًا عن موروثنا التربوي يعنينا أن نعثر ونفحص الموقف الذي كان إزاء هذه القضية …

وهكذا ، يصبح مدى اتصال الموروث التربوى بحاضر التعليم في قضاياه ومشكلاته معيارًا مهمًّا، أما إذا كانت القضية قد زال الاهتمام بها بانقضاء عهدها فلا داعي لبحثها هنا إلا في مجال التأريخ .

3_ ولسنا في حاجة إلى التأكيد على مدى ما أحرزه البحث  العلمي في مجالات التربية وعلم النفس من صور من التقدم إلى درجة تحطمت معها عديد من الأفكار التى سبق أن تصور البعض قديمًا ضرورتها التربوية ، ومن ثم فعندما ننتقى ونختار من موروثنا التربوي يجب أن نراعي عدم تعارضه وتناقضه مع ما كشف عنه العلم الحديث .

وعلى سبيل المثال فكم من كتابات أنفق فيها علماؤنا وقتًا طويلاً وجهدًا كبيرًا اهتمامًا منهم (بالحفظ) ، بحكم العديد من العوامل التى كانت قائمة قبل اختراع الطباعة وانتشار المطبوعات، بينما لا نجد في عصرنا الحاضر ضرورة في الاستعانة كثيرًا بمثل هذه الجهود إلا في بعض المجالات التى ما تزال بحاجة إلى الحفظ، بل إن الأجهزة التكنولوجية المعاصرة أصبحت تحمل عن الإنسان مؤنة الحفظ وتقوم بتخزين أضعاف ما يستطيع الإنسان أن يختزنه في ذاكرته .

وعلى الرغم من التقدير النظري الذي حظى به جسم المتعلم من بعض العلماء والمفكرين ، إلا أن الممارسات التعليمية في معاهد التعليم الإسلامي قلما ضمت في مناهجها أوقاتًا مخصصة للأنشطة العملية المصاحبة للدروس المختلفة ، وقلما حرصت على ممارسة التربية الرياضية … وهكذا ، كشفت لنا الدراسات التربوية النفسية الحديثة عن خطر إهمال هذا الجانب .

وهناك مظاهر متعددة نجدها في موروثنا التربوي تركز على النظرة المثالية تأثرًا ربما بما كان عليه الفكر التربوي لدى الإغريق ، بينما أثبتت الدراسات المعاصرة أن المسألة ليست إلا انحيازًا إما إلى النظرية المثالية وإما إلى النظريات الواقعية. فالمتعلم وحدة متكاملة لها جوانبها الروحية والعقلية ، كما أن لها جوانبها المادية الجسمية . وعندما نفتش في موروثنا التربوى فسوف نجد بعضًا يؤكد على هذا الجانب وبعضًا يؤكد على الآخر ، وبعض ثالث يبصر ضرورة النظرة التكاملية ، بالتالى فعندما ننتقى ونختار نسعى إلى إبراز هذا الذي لا يتناقض مع ما كشفت عنه الدراسات العلمية الحديثة .

4_ وإذا كنا قد نبهنا إلى ضرورة ألا ننظر إلى الموروث التربوى في كافة البلدان الإسلامية ، وفي كافة العهود على أنه كتلة واحدة ، فإن هذا يفرض معيارًا على درجة كبيرة من الأهمية عند الانتقاء الاختيار ، ألا وهو ألا تحكم هذه العملية روح (الصياد) بحيث يتحـول الانتقــاء والاختيــار إلى عملية (اصطياد) التى تحكمها المقولة التى يعبر عنها قول القائل :

وعين الرضا عن كل عيب كليلة          وعين السخط تبدى المساوئ !!

إن الباحث هنا ، مثله مثل القاضي، لا ينبغى له أن يكتفى بسماع شهادة شهود النفى أو شهود الإثبات ، وإلا فإن الحكم الذي سوف يصدره لابد أن يجانب العدالة . إن واجبه أن يسمع هؤلاء وهؤلاء ، وبالتالى فإن الباحث في الموروث التربوى ، لابد أن يجد صفحات مشرقة مشرفة لنا حقًّا ، كما أنه سوف يجد صفحات أخرى غير ذلك.

وعادة ما يندفع أنصار الموروث ، بدافع من الحماس المبالغ فيه إلى التركيز فقط على تلك الصور المشرقة وغض النظر عن الأخرى حتى يظهر فكرنا التربوى الماضى بصورة زاهية بديعة تسر الناظرين ، أما هؤلاء الذين لا يحملون تقديرًا للتراث، ويودون أن يهيلوا عليه التراب بقضه وقضيضه ، قد يعمدون إلى التركيز على تلك الصفحات غير المشرقة ليقنعوا أنفسهم قبل أن يقنعوا الآخرين بأن موقفهم موقف يلتزم الصواب .

وكلا الموقفين بعيدان عن المنهجية العلمية الصحيحة ؛ ذلك لأنهما يجانبان الموضوعية ، فالموضوعية ليست مجرد الوقوف موقفًا حياديًّا ، فهذا شبه مستحيل، ولكنها تقتضى أن يعطى الباحث لنفسه فرصة الاطلاع والبحث في الأمثلة المؤيدة وكذلك الأمثلة النافية لما يؤمن ويعتقد ، وله بعد ذلك أن يصدر الحكم الذي يريد، ما دام يسند ما يرى بالبراهين والأدلة .

5- وإذا كان من معايير الاختيار والانتقاء أن يتسق الموضوع المختار مع اهتمامات الفكر التربوي المعاصر ، فإن مما يكمل هذا هو مدى ما يمكن أن يكون من دور للقضية المختارة بالنسبة لسد احتياجات المجتمع المعاصر؛ ذلك أننا لا نتعامل مع الفكر التربوى، سواء الماضي منه أو المعاصر على اعتبار أنه جسم قائم بذاته منعزل عن تيار الحياة المجتمعية ، كما سبق أن أوضحنا ، وبالتالى فقد كان للمجتمع العربي الإسلامي قديمًا مشكلاته وقضاياه، التى قد يكون لها ما يماثلها اليوم وقد لا يكون، وعلى سبيل المثال، فقد كان هناك مستوى معين من المهن والحرف التى كان يلائمها نوع معين من التعليم، وما يرتبط به من فكر، الأمر الذي اختلف تمامًا في عصرنا الحاضر، ولذلك فقد لا نجد زخمًا في الموروث التربوي خاصًّا بالتربية المهنية والحرفية بدرجة كافية، حيث غلب على العمل المهنى والحرفي في كثير من الأحيان التقليد والمحاكاة ، وحكم الخبرة والسن، بينما نرى هذا اليوم ينبني على النظريات العلمية والتطبيقات التكنولوجية .

والمجتمع العربي المسلم يواجه اليوم مشكلات تترتب على موقعه المتدنى من قوى الهيمنة والسيطرة الكبرى، مما يترتب عليه الاعتماد كثيرًا على استيراد الأفكار والنظم التربوية ، بينما كان هذا المجتمع في عصور الازدهار الحضاري هو الذي يتولى أمر القيادة في النظام العالمي مما كان لا يضطره إلى كثير استعارة واقتباس ، ومثل هذا التباين والاختلاف في الموقع القيادي في تسيير النظام العالمي لابد أن يفرض نفسه على نوعية الفكر التربوى المراد .

6- وإذا كنا نتعامل حتى الآن مع بعدين من أبعاد الزمان ، الماضى والحاضر ، وإذا كانت القضية تتعلق بالموروث التربوى ، فإن هذا لا يعنى بأى حال من الأحوال أننا نقف بعيدًا عن البعد المستقبلي ، ذلك أن المستقبل هو موطن الرجاء ، وعليه تتعلق الآمال المجتمعية ، فقد يكون الحاضر متخمًا بالمشكلات والعقبات وأوجه الإحباط واليأس ، ولكن يظل الأمل في المستقبل دافعًا إلى عدم الاستسلام لهذا الإحباط وذاك اليأس ، وهنا تبرز مهمة المفكرين والعلماء من حيث العكوف على بحوث ودراسات ونظرات تسعى إلى استشراف المستقبل والعمل على أن يجىء متغلبًا على مشكلات اليوم والأمس .

فهل يعنى هذا ازدراء الموروث التربوى، ما دام هو قطعة من الماضي؟

كلا، فهناك دائمًا في الموروث من الطاقات والقيم ما يمكن أن يعين في استشراف المستقبل التربوي ، ولعل ما أشرنا إليه ، وما سوف نفصل بعض الشيء فيه فيما بعد خاصًّا بقضية تمويل التعليم خير مثال لذلك ، فهي قضية تشكل ضغطًا كبيرًا على حاضرنا ، ويبذل كثيرون جهودًا متعددة سعيًا نحو حل لها يجعل مستقبل التعليم أفضل مما هو عليه الآن ، وفي رأينا أن الخبرة العربية الإسلامية في تمويل التعليم، على الرغم من مرور قرون عدة عليها يمكن أن توحي إلينا بحل جذري ، لا يثقل كاهل الأفراد ، ولا يشكل عبئًا على موارد الدولة ، وليس من الضروري أن يعود الشكل القديم كما هو ، وإنما يمكن بعث فلسفته وأهدافه ، وتطوير سبله وكيفياته وأشكاله بما يتفق ومتغيرات العصر ، وما قد يسفر عنه المستقبل .

نماذج لعناصر من موروثنا التربوي :

ولعلنا بعد هذا يمكن أن نتوقف بعض الشيء أمام بعض النماذج من موروثنا التربوي محاولين أن نستنبط منها مضامين فكرية يمكن أن تفيدنا في حياتنا التربوية المعاصرة ، منبهين إلى ما قد يكون هناك من أمثلة أخرى مضادة يجب العمل على تجنبها والوعي بخطورتها لو حاولنا أن نتمثلها في حياتنا المعاصرة :

1- التوجه بالعقيدة الدينية :

فمن المؤسف حقًّا أن تشهد أمتنا في حياتها المعاصرة نماذج من توجهات فكرية ونظم تربوية ترفع شعار الاستناد إلى العقيدة الدينية ، لكنها في التطبيق والممارسة تقدم صورًا لا تعكس صحيح الدين ، مما يتيح الفرصة لمن لا يؤمنون بالتوجه الديني لأن يؤكدوا مقولاتهم بضرورة إبعاد التوجه الديني عن نظم المجتمع .

إننا هنا لابد أن نتذكر تلك القاعدة المنهجية التى تؤكد على ضرورة أن يقاس الرجال بالحق ، ولا يقاس الحق بالرجال ، أي أن نتحاكم إلى نصوص القرآن الكريم ، وأحاديث الرسول (ص)، لا إلى مجرد الممارسات التى قد تكون نتجت من فهم خاطئ أو من ظروف ضاغطة ، وبالتالي فلابد أن نوجه الأنظار إلى أمثلة يصعب حصرها في القرآن الكريم والسنة النبوية ، مما يشكل طاقة مذهلة يمكن أن تدفع التعليم قفزات إلى الأمام .

فقد نوه القرآن بشأن أهل العلم، ويعبر عنهم بـ (الذين أوتوا العلم) ويضفى عليهم جملة من الفضائل والمزايا الفكرية والإيمانية والأخلاقية هم أحق بها، فهؤلاء الذين أوتوا العلم هم الذين ينكشف لهم الحق الذي أنزله الله على محمد فيرونه واضحًا هاديًا إلى صراط الله[22] ، يقول تعالى : {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}( سبأ :6) .

ومثله ، قوله تعالى : {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِلَـى صِــرَاطٍ مُسـْـتَقِيم} (الحج: 54). فهنا نجد العلم أثمر الإيمان..

ومن فضل العلم الذي أشار إليه القرآن أنه اعتبر (العلم) مؤهلاً لابد منه لكل قيادي في المجتمع، فلا يجوز أن يقود الأمة جهالها ، وإنما يقودها علماؤها، والأمة التى توسد مناصبها القيادية إلى الجهلة إنما تحفر قبرها بيدها؛ لأنهم يسوقونها إلى الضلال والوبال، وقد قال الشاعر:

إذا كان الغراب دليل قوم                             سيهديهم إلى جيف الكلاب[23]

لهذا نجد في قصة طالوت كيف كان العلم أحد مؤهلاته الأساسية للقيادة العسكرية ، نقرأ ذلك في قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ }  إلى أن قال تعالى : {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْـــطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْــم} (البقرة: 246، 247) .

ووجدنا في قصة يوسف عليه السلام كيف جعل العلم أحد وصفين رئيسيين يؤهلانه للمنصب الذي طلبه من الملك، بعد أن ظهرت براءته، وعلت درجته، وظهر علمه في تأويل رؤيا الملك بما لم يكن في الحسبان : {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ(54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيم} (يوسف: 54، 55).

ومن فضل العلم في القرآن أنه أنكر أبلغ الإنكار ، وذم أشد الذم كل أمر من قول أو عمل ، قام على غير علم، فمن ذلك الجدال بغير علم ، وخصوصًا في شأن العقيدة ، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيد} (الحج: 3) ، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْــمٍ وَلاَ هُـــــدًى وَلاَ كِتَابٍ مُنِير} (لقمان :20) .

وأمر القرآن الكريم بالتعلم ، منذ أول آيات أنزلها الله من وحيه على رسوله (ص) : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1)خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2)اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ(3)الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4) عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 1_ 5) .

فقد أمرت الآيات الكريمة بالقراءة مرتين ، والأمر لرسول الله بالأصالة ، ولكل من يأتى بالتبع . والقراءة هي وسيلة التعلم ، ومفتاح العلم ، سواء فسرنا القراءة بالمعنى الحقيقي ، وهي القراءة للكتاب المسطور ، أم فسرناها بالمعنى المجازي ، وهي القراءة لكتاب الكون المشهود[24] .

ومن أدب التعلم ، كما يهدى إليه القرآن ، ألا يقف المتعلم عند حد معين من المعرفة ، ثم يقول : حسبي هذا لا أزيد عليه ، فإن العلم بحر لا ساحل له، ولا قرار له ، ومهما اغترف الإنسان منه فسيظل في حاجة إلى المزيد ، ولا يمكن أن يصل إلى درجة (التشبع) المطلق، وفي هذا قال سبحانه تعالى لرسوله (ص): {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (طه :114)، ولم يرد في القرآن كله أمر آخر للرسول الكريم بطلب الزيادة منه غير العلم ، وهذا دليل على فضيلة العــلم ومزيته عـلى ما سواه[25] .

وأشار العديد من الأحاديث النبوية إلى رسول الله (ص) باعتباره معلمًا يمارس مهمة التعليم ، ويحض على التزود من العلم . فمن ذلك ما رواه ابن ماجه في (سننه) والدارمي في (سننه) ، واللفظ لابن ماجه ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال : ( خرج رسول الله (ص) ذات يوم فدخل المسجد ، فإذا بحلقتين : إحدهما يقرؤون القرآن ويدعون الله تعالى ، والأخرى يتعلمون ويعلمون ، فقال النبي (ص) : كل على خير ، هؤلاء يقرؤون القرآن ، ويدعون الله ، فإن شاء أعطاهم ، وإن شاء منعهم ، وهؤلاء يعلمون ويتعلمون، وإنما بعثت معلمًا ، فجلس معهم )[26] .

وروى مسلم في (صحيحه) عن معاوية بن الحكم السلمي ، قال : (بينا أنا أصلى مع رسول الله (ص) ، إذ عطس رجل من القوم ، فقلت : يرحمك الله ، فرماني القوم بأبصارهم!

فقلت : وا ثكل أمياه (أي : ما أعظم مصاب أمي بي فإني هلكت)! ما شأنكم تنظرون إلى ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني سكت!

فلما صلى رسول الله (ص) دعاني ، فبأبي هو وأمى ، ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه ، فو الله ما كهرني (نهرني) ، ولا ضربني ، ولا شتمني، قال : إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هو التسبيح ، والتكبير ، وقراءة القرآن)[27].

وكان رسول الله (ص) يختار في تعليمه من الأساليب أحسنها وأفضلها، وأوقعها في نفس المخاطب وأقربها إلى فهمه وعقله، وأشدها تثبيتًا للعلم في ذهن المخاطب، وأكثرها مساعدة على إيضاحه له ، ومن درس كتب السنة وقرأها بإمعان رأى أن رسول الله كان يلون الحديث لأصحابه ألوانًا كثيرة ، فكان تارة يكون سائلاً ، وتارة يكون مجيبًا ، وتارة يجيب السائل بقدر سؤاله، وتارة يزيده على ما سأل ، وتارة يضرب المثل لما يريد تعليمه ، وتارة يصحب كلامه القسم بالله تعالى ، وتارة يلفت السائل عن سؤاله لحكمة بالغة منه (ص) ، وتارة يعلم بطريق الكتابة ، وتارة بطريق الرسم ، وتارة بطريق التشبيه أو التصريح ، وتارة بطريق الإبهام أو التلويح[28] .

لكن ، هل معنى هذا أن المسلمين ساروا على هذا الطريق المستقيم لا يحيدون عنه؟

يمكن القول بأنهم فعلوا ذلك في صدر الإسلام ، وبدأ البعض ، بعد هذا، تدريجيًّا يحيد عن هذا الصراط ، واستمر بعض آخر ، بحكم عوامل ومتغيرات لا يتسع المقام لبيانها .

ومما نود التأكيد عليه أن المشكلة تكمن في أن النصوص الدينية لا تنطق بذاتها في كل الأحوال ، ولكنها تقرأ من خلال عقل هذا وذاك ، وتفهم من خلال ثقافة هذا وذاك ، فتتعدد القراءات، وتختلف الدلالات والمضامين من عقل لآخر، وكل قارئ يؤكد رأيه بنصوص من القرآن والسنة ، على أساس أن فهمه هو الصحيح ، حتى رأينا في بعض الأحوال رأيين متعارضين، وكل منهم يستند إلى نصوص من القرآن أو السنة أو منهما معًا .

ومن هنا كان وجوب الحذر والحيطة عند قراءة الموروث التربوي ، وخاصة عندما يستند إلى نصوص قرآنية ونبوية ، فلا نأخذ ما يساق من تفسير على أنه الحق الذي لا يأتيه الشك من بين يديه ولا من خلفه ، وإنما هو الفهم القابل لأن يكون صوابًا أو خطأ ، مما يوجب تعديد القراءات والتفاسير والتأويلات.

2_ قيمة المعرفة التربوية:

كان العرب ، مثلهم في هذا مثل الكثرة الغالبة من شعوب العالم تعتمد في تربيتهم أبناءهم على التقليد والمحاكاة ونتائج الخبرة، فضلاً عما يوحي به التراث الشعبي العام المتمثل في العادات والتقاليد والأمثال الشعبية وما ينصح به الحكماء والشعراء والزعماء . فلما نزلت الرسالة الإسلامية بكتاب الله عز وجل كي يكون دستورًا لحياة المسلمين، وجدوا فيه كمًّا كبيرًا من القواعد والتوجيهات والأساليب التى تشكل في جملتها معرفة تربوية على قدر منشئها ، الخالق سبحانه وتعالى .

وجدوا فيه دعوة إلى التعلم والتعليم، وإعلاء من شأن العلم والعلماء كما مر بنا ، وكثرت في آياته تلك الكلمات التى تنتمي إلى عالم القراءة والكتابة ، مثل المداد ، والقلم ، والصحف، والكتاب، والتسطير ، والقراءة ، والكتابة .. وهكذا . ووجدوا فيه تصورًا متكاملاً لطبيعة الإنسان ، موضوع التربية ، وتأكيدًا وأمثلة متعددة لوسائل وطرق تعليم ، مثل القصة ، والمثل، والعرض العملي، والتجريب، والموعظة ، والتشبيه ، والقياس، والاستنباط ، وممارسة التساؤل ، والنقد، على اعتبار أن تلك الوسائل والطرق يؤدى حسن استخدامها إلى تنمية التفكير ، وإثراء شخصية المتعلم، والدفع بحركة المجتمع قدمًا على طريق التقدم .

أما بالنسبة للقيم الخلقية ، فالحديث فيها يطول ، فالقرآن الكريم كله يدعو في كل آية ، بل في كل كلمة إلى مكارم الأخلاق ، مما كان لابد معه أن يشكل زادًا للمعرفة التربوية توفرت بين يدى معتنقى العقيدة الإسلامية من العرب وغيرهم .

وعلى هدى القرآن الكريم ، سارت السنة النبوية …

وقد بلغ من وعي العرب والمسلمين بتكوين المربي إلى الدرجة التى عرفوا عندها أن العلم وحده لا يكفى ليكون سلاح المعلم ، وعرفوا أنه لابد أن يضاف إلى العلم فن التربية ، ليتمكن المدرس من دراسة نفسية الطفل ، والنزول إلى مستواه والاتصال العاطفى به ، ليكون بذلك جسرًا يوصل من خلاله العلم إلى عقل التلاميذ[29] ، قال ابن عبدون : (والتعليم صناعة تحتاج إلى معرفة ودربة ولطف . فإنه كالرياضة للمهر الصعب الذي يحتاج إلى سياسة ولطف وتأنيس حتى يرتاض ويقبل التعليم) .

وقد عقد ابن خلدون فصلاً شرح فيه هذه النظرية وجعل عنوانه : (في أن التعليم للعلم من جملة الصنائع)[30] ، جاء فيه : ( … مما يدل على أن تعليم العلم صناعة ، اختلاف الاصطلاحات فيه ، فلكل إمام من الأئمة المشاهير اصطلاح في التعليم يختص به شأن الصنائع كلها ، فدل ذلك على أن الاصطلاح ليس من العلم ، وإلا لكان واحدًا عند جميعهم). وقال : (ملازمة المجالس العلمية وكثرة الحفظ بتحصيل العلم ليست جميعها بمانحة ملكة التصرف في العلم وتعليمه..) وقال : ( .. ومن أهم ما يلزم في المعلم فتق اللسان بالمحاورة والمناظرة ، والعمل على تحصيل الملكة التى هي صناعة التعليم ) .

وقد غلب على كثير من الكتابات العربية الإسلامية في التربية أن تجيء في كتابات المفكرين ضمن أبواب وموضوعات أخرى متعددة، امتدادًا لذلك الطابع الموسوعي للفكر الإنساني حتى ذلك الوقت ، مثالنا في ذلك ، الكتاب الشهير للغزالي المعنون بـ ( إحياء علوم الدين) ففي جزئه الأول نجده يتناول موضوعات بعنوان : (اكتساب العلم) ، وفيه سبعة أبواب : الباب الأول في فضل العلم والتعليم والتعلم ، وشاهده من النقل والعقل ، والباب الثاني، في العلم المحمود والمذموم وأقسامهما وأحكامهما ، وفيه بيان ما هو فرض عين وما هو فرض كفاية . والباب الثالث فيما يعده العامة من العلوم المحمودة وليس منها ، وبيان ما يدل من ألفاظ العلوم، والباب الرابع في سبب إقبال الخلق على علم الخلاف. والباب الخامس في آداب المتعلم والمعلم . والباب السادس في آفات العلم وبيان علامات الآخرة وعلماء السوء . والباب السابع في العقل وشرفه وحقيقته وأقسامه[31] .

ونستطيع أن نلمس مدى إعلاء الغزالي لشأن العملية التربوية في قوله[32]: ( اعلم أن الطريق في رياضة الصبيان من أهم الأمور وأوكدها ، والصبي أمانة عند والديه ، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية عن كل نقش وصورة ، وهو قابل لكل ما نقش ، ومائل إلى كل ما يمال به إليه ، فإن عُوِّد الخير وعُلّمه نشأ عليه ، وسعد في الدنيا والآخرة ، وشاركه في ثوابه أبواه، وكل معلم له ومؤدب، وإن عود الشر ، أهمل إهمال البهائم شقى وهلك ، وكان الوزر في رقبة القيم عليه والوالي له) .

لكننا بدأنا لأول مرة نشهد كتبًا ورسائل ومقالات متخصصة في التربية ، نســوق منهـا على سبيل المثال لا الحصر[33]:

_ رسالة المعلمين ، للجاحظ .

_ منهاج المتعلم ، لمؤلف مجهول .

_ آداب المعلمين ، لابن سحنون .

_ تقييد العلم ، للخطيب البغدادي .

_ آداب المتعلمين ، لمؤلف مجهول، من القرن الحادي عشر الهجري .

_ تعليم المتعلم ، للزرنوجي.

_ رسالة في التربية والتسليك ، لبرهان الدين الأقصرائي .

_ اللؤلؤ النظيم في روم التعلم والتعليم، للأنصاري.

_ الرسالة المفصلة لأحوال المتعلمين وأحكام المعلمين والمتعلمين ، للقابسي.

_ جامع بيان العلم وفضله ، لابن عبد البر .

وللغزالي رسالة صغيرة معروفة بعنوان (أيها الولد) ، وهي كما يشير عنوانها ، كتبها مباشرة لعدد من تلاميذه يرشدهم من خلالها إلى بعض السبل القويمة في التعلم ، وهي بهذا تنهج نهجًا مختلفًا عن الجمهرة الكبرى من الكتابات التربوية لدى كثيرين . فالعادة قد جرت على أن توجه هذه الكتابات إلى الآباء والمعلمين لترشدهم إلى كيفية تربية الأبناء ، لكن هذه الرسالة تتجه إلى أبنائنا مباشرة .

ويستوقفنا كتاب الزرنوجي (تعليم المتعلم .. ) على أساس أنه بالفعل من الكتب الرائدة التى خصصت لمسألة التعليم والتعلم ، وكان الزرنوجي شديد الحرص على ألا يتشعب به الحديث بعيدًا عن القصد الذي رسمه في فاتحة كتابه عندما قال[34] :

( فلما رأيت كثيرًا من طلاب العلم في زماننا يجدون إلى العلم ولا يصلون، ومن منافعه وثمراته يحرمون ، لما أنهم أخطئوا طرائقه ، وتاركوا شرائطه، أردت وأحببت أن أبين لهم طريق التعلم).

فهو قد أفرد حديثه تمامًا عن التعلم وطرائقه وشرائطه ولم يحد عن هذا ، وكان شأن المؤلفين القدامي الاسترسال وراء كل شاردة أو الميل إلى كل باب يفتح أمامهم فيستوفون فيه القول ، أما الزرنوجي فقد ألزم نفسه بموضـوع واحد والتزم اتجاهًا بعينه ، ولا شك في أن هذا الإلزام الذاتي منه إنما كان من تقدير سليم لخطورة شأن التعلم واستحقاقه إفراد دراسة مستقلة[35].

وربما كانت الرسالة التى كتبها ابن جماعة المولود بحماة بسوريا عام 639هـ بعنوان : (تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم ) من أوفى الكتابات التربوية العربية الإسلامية المتخصصة ، ويؤكد هذا تأمل سريع في محتوياتها ، فهي تتناول الموضوعات التالية : فضل العلم والعلماء _ أدب العالم مع نفسه _ مراعاة طالبه ودرسه _ طريقة التدريس _ آداب العالم مع طلبته _ آداب المتعلم مع نفسه _ آدابه مع شيخه _ آداب المتعلم في دروسه _ آداب المتعلم مع الكتب _ آداب سكنى المدارس .

ولا شك أن هناك موضوعات مكررة، تحدث في مثلها مربون ومفكرون غير ابن جماعة ، لكن فضل الرجل يظهر من خلال قراءة ما تحت هذه العناوين من ثاقب النظر وعمق التحليل ، ودقة التفاصيل ، أما حديثه عن آداب سكنى المدارس ، فهي نقطة جديدة تمامًا لم يسبقه إليها أحد، بل إننا لم نلمس أحدًا آخر بعده بقرون عدة أشار إليها[36] .

لكن السؤال هو : هل عرفت هذه الكتابات طريقها إلى المعلمين في المساجد والمدارس حتى يفيدوا منها في تعليمهم؟

لسنا نملك ما يؤكد لنا هذا أو ينفيه، وإن كنا نميل إلى النفى إلى حد كبير اعتمادًا على المتغيرات التى كانت قائمة، حيث لم يكن الأمر قد تطور وتقدم بحيث تكون هناك مؤسسة لإعداد المعلم يحتاج فيها طلابها إلى مثل هذه الكتابات ، ولا يمكن أن نلوم الناس على ذلك ، إذ لم يكن التفكير التربوي قد بلغ درجة من التطور تسمح له بهذا .

وفضلاً عن ذلك ، فلابد أن نضع في الاعتبار أيضًا أن وسائل الطباعة لم تكن قد عرفت طريقها بعد بحيث تنتشر هذه الكتابات ، وكذلك لا نستطيع أن ندعى بأن وعي الناس بلغ درجة الاعتماد الكبير على ما يسطره علماء التربية من أفكار وأساليب وطرق .

3_ نظام تمويل التعليم :

من المشكلات الملحة التى تثقل كاهل الكثرة الغالبة من الدول النامية، هذا الطلب الاجتماعي المستمر على التعليم بدرجة جعلت مواردها المالية تعجز عن الوفاء بمتطلبات التعليم خاصة وأنها التزمت بتقديم الخدمة التعليمية مجانًا لمن يطلبها .

وفي ظل الضغوط المستمرة في عصرنا الحالي من حيث الاتجاه إلى (خصخصة) الاقتصاد ، بجعل القطاع الخاص هو الفارس الأساسي في النشاط الاقتصادي، بدأ التعليم يفسح الطريق للنشاط الاستثماري ، وأصبحت الخدمة التعليمية تقدم بأسعار مرتفعة لا يقدر عليها إلا أصحاب الدخول العالية، في الوقت الذي بدأت فيه جهود الدولة في تقديم الخدمة التعليمية المجانية تتراجع من حيث المستوى، وبدأ كثيرون يشككون في جدوى الاستمرار في مجانية التعليم، وأصبح التساؤل ملحًّا : من الذي يدفع تكلفة التعليم؟ الفرد أم الدولة؟ ولكل وجهة نظر إيجابياتها وسلبياتها مما يضيق المجال عن التطرق إليه ، ومن ثم أصبح طلب التعليم وكأنه بين المطرقة والسندان : مطرقة تقديمه مجانًا لكن بمستوى رديء لا يكاد يثمر أو يغنى من جوع ، وسندان استغلال أصحاب رءوس الأموال الذين حولوا التعليم إلى تجارة الأهم فيها هو المزيد من الكسب، حتى ولو أدى هذا إلى استغلال متوحش.

هنا نجد من الأهمية بمكان السعى للاستفادة من تجربة الحضارة العربية الإسلامية في نظام الوقف . فلقد كان الأغنياء يوقفون جزءًا من ثروتهم للإنفاق منها على أوجه خير يحددونها ، كان في مقدمتها التعليم ، بحيث يدفعون تكلفته ، وما يحتاجه التلاميذ من أدوات وملابس وطعام وإقامة ، وكذلك بالنسبة للمعلمين الذين يتلقون رواتبهم من الوقف، فضلاً عن مصروفات أخرى قد تشمل مأكلهم وملبسهم .

هنا نجد أن الدولة لا تتكلف شيئًا، ولا أهل التلميذ، فتنتفي المشكلة القائمة.. ومن الأمثلة على ذلك ، أن أبا القاسم جعفر بن محمد بن حمدان الموصلى الفقيه الشافعي (توفي عام 323هـ _ 935م) أسس دارًا للعلم في بلده ، وجعل فيها خزانة كتب من جميع العلوم وقفًا على كل طالب علم ، لا يَمْنَعُ أحدًا من دخولها، وإذا جاءها غريب يطلب الأدب، وكان معسرًا أعطاه وَرَقًا ووَرِقًا، وكان ابن حمدان يجلس فيها ويجتمع إليه الناس، بالإضافة إلى تسييرها، فيجلى عليهم من شعره وشعر غيره ، ثم يملي حكايات مستطابة، وطرفًا من الفقــه وما يتعلق به[37] .

وقد عمل القاضي ابن حبان ( توفى 354هـ _ 965م) في مدينة نيسابور دارًا للعلم وخزانة كتب ، ومساكن للغرباء الذين يطلبون العلم ، وأجرى لهم الأرزاق ، ولم تكن الكتب تعار خارج الخزانة .

وقد أنشأ أبو على بن سوار الكاتب أحد رجال حاشية عضد الدولة (توفى 372 هـ _ 982م) دار كتب في مدينة (رام هرمز) على شاطئ بحر فارس، كما بنى دارًا أخرى بالبصرة وجعل فيها أجراء لمن قصدهما ، ولزوم القراءة والنسخ فيهما ، وكان في الأولى منهما شيخ يدرس علم الكلام على مذهب المعتزلة[38] .

ومن أهم الأدوار التى قام بها نظام الوقف بالنسبة للعلماء والمثقفين ، عندما رتب لهم الرواتب والأرزاق، أنهم تحرروا من قيود الرواتب الرسمية التى تقدمها الدولة ، وهذا كان بدوره مؤديًّا إلى تحرير إرادة العالم والمثقف من أن يكون تابعًا ذليلاً للحاكم ، كما رأينا ونرى في كثير من البلدان حيث أصبح العلماء والمثقفون لسان حال الدولة يبررون ويسوغون أكثر مما ينصحون وينتقدون .

لكن وجود هذا النظام وفاعليته كان مرتبطًا بمدى شيوع روح التدين عامة في الأمة ، فقد كان حديث الرسول (ص) ماثلاً في الأذهان في قوله : (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث …) كان منها (صدقة جارية) ، حيث أصبح الوقف هو التنفيذ العملي لمبدأ (الصدقة الجارية) وفضلاً عن ذلك فإن الأمر بالمعروف كان يشمل كل ما يضيف خيرًا لأبناء الأمة ، والتعليم أظهر وأبرز مظاهر الخير والأمر بالمعروف .

فلما غابت هذه الروح ، بدأت الأوقاف تفقد فاعليتها …

ولعل من أبرز الأدلة على ذلك أنه في ظل عهود سميت بالإسلامية ، نهبت الأوقاف ، وأصبحت مجالاً متسعًا للعديد من صور الفساد، مما ترتب عليه تدهور واضمحلال لحركة التعليم في البلدان العربية والإسلامية وخاصة في عهود التخلف والتراجع .

وليس من الضروري بطبيعة الحال أن يعود الشكل القديم للأوقاف ، ولكن فلسفتها يمكن أن تفيد في مواجهة مشكلة تمويل التعليم، على أن يجتمع عدد من علماء الاقتصاد والدين لوضع شكل وآليات عصرية ، تتبنى الهدف والفلسفة ، وتبتكر من الأشكال والآليات ما يتطلبه التطور والتقدم المعاصر.

4_ موقع الحرية في الفكر التربوي الإسلامي :

فإذا كانت المنفعة الاجتماعية تقتضى أن تلتزم الدولة العدل في توزيع الدخل، فإنها تقتضى أيضًا وحتمًا أن تلتزم الدولة العدل في توزيع المسئولية، وإذا حملت الدولة وحدها تبعات المجتمع ومسئوليات مصيره، فإنها على الرغم مما ستبذله من جهد وتضحية، تكون قد أخلت بمقتضيات العدل والنفع الاجتماعي . وإذا كانت الدولة لكي تباشر مسئولياتها تفكر في حرية وتعلن رأيها في حرية وتقول في أمن، فإن المجتمع لكي يباشر مسئولياته لابد أن يظفر بنفس الفرصة فيفكر حرًّا ، ويقول رأيه وكلمته في غير خوف[39] .

وإذا كانت الحرية بمثل هذه الضرورة بالنسبة للمجتمع عامة، فإنها أكثر ضرورة بالنسبة لمجتمع العلماء، فالعلم الذي يتم بحثه والتفكير في مسائله في ظل إرهاب السلطة وتدخل الدولة ، ثمراته فقيرة ، بطيء النمو، فالحرية بالنسبة للباحثين والمعلمين والمتعلمين تكاد أن تكون شرط حياة .

ومما لاشك فيه أن حركة التقدم على مستوى العالم إذا كانت قد أنجزت ما لا حصر له من نظريات علمية واجتماعية وأجهزة ومعدات تكنولوجية، فإن مما لا يقل عن ذلك أهمية حقًّا ، هو هذا الزخم الواضح حديثًا وتنظيرًا وسعيًا نحو ممارسة الديمرقراطية ، وحق الإنسان في أن يفكر حرًّا ، وبالتالي فإن لنا أن نمسك بما نجد في موروثنا التربوي من أفكار ودعوات وممارسات على طريق الحرية والتحرر والتحرير .

لكننا في الوقت الذي نثبت فيه آيات ونماذج لكتابات تؤكد على حرية المتعلم، وحث المعلم على أن يمكن المتعلم ويدربه على حرية التفكير، فلا ينبغي أن نغض الطرف عن صور ونماذج أخرى سارت على العكس من ذلك ، فكم من مفكرين وعلماء سلسلوا بالقيود ورموا في غياهب السجون ، ونالوا من العذاب ما لا يكاد يصدقه عقل، ويكفى الإشارة هنا إلى محنة ابن حنبل، لا لشيء إلا أنه رفض أن يتبنى الرأى الذي تبناه المأمون، خليفة المسلمين ورئيس الدولة . ويكفى أن نشير إلى ما تم بالنسبة لكتب ابن رشد… إلى غير هذا وذاك من أمثلة سلبية .

لكن هكذا البحر عندما نغوص فيه بحثًا عما هو ثمين ، ففي الوقت الذي نجده حافلاً بما هو ثمين من لآلئ وكائنات حية تفيد ، فهو أيضًا يحوى في أعماقه ما هو عكس ذلك ، فهل يدفعنا الصنف الأخير أن ننصرف عن الغوص في أعماق البحر بحثًا عما هو ثمين ومفيد؟

لقد كان نظام التعليم في كل الدول العربية والإسلامية يتيح الفرصة لكل طالب أن يجلس إلى من يريد أن يتعلم على يديه ، العلم الذي يريد، ولم يكن هذا النظام يعرف ما هو سائد اليوم من حيث تقرير مقررات بعينها على الطالب يتحتم عليه دراستها في وقت معين على يد معلم بعينه ، وما نظام الساعات المعتمدة إلا صورة عصرية متقدمة لهذا النظام الذي كان .

ومن هنا نجد دعوات في موروثنا التربوي تنصح الطالب بأن يتوقف طويلاً قبل أن يختار المعلم الذي يدرس على يديه، فهذا هو الزرنوجي ينصح الطالب بقوله : ( لا تعجل في الاختلاف إلى الأئمة ، وامكث شهرين حتى تتأمل وتختار أستاذًا ، فإنك إذا ذهبت إلى عالم وبدأت بالسبق عنده فربما لا يعجبك درسه فتتركه وتذهب إلى آخر، فلا يبارك لك في التعلم) ، فإذا تأمل واختار فعليه (أن يثبت ويصبر على الأستاذ)[40] .

ولهذا كان الطلبة عندما يأتون إلى المدن يقضون فترة قد تقصر أو تطول بحسب الأحوال ينتقلون فيها بين الحلقات العلمية ، يستمعون إلى الشيوخ في دروسهم ، ويقارنون بينهم ويفحصون على الطبيعة أو في جو العمل وعلى أرض الواقع، كفاءات الأساتذة وطرائق تعليمهم ، وبلاغة تعليقاتهم . وقد تكون نية أحدهم في انتقاله من بلده أن يرحل للقاء شيخ معين يتلقى عليه، فإذا به يجد من هو أكفأ في نظره. أو من هو أشد جذبًا له من غيره من الأساتذة فينصرف عن الأول ويلتحق عند الثاني، ويكون للأستاذ في شخصيته وعلمه العامل الأول في اختيار الطالب لمادته التى يدرسها[41] .

وهاجم الشوكاني (التعصب) و(التقليد) ، وهما آفتان خطيرتان على حياة الحرية ، لقد كان الرجل يدعو إلى العقيدة السلفية في بساطتها أيام الرسول (ص) ، ويدعو إلى الاجتهاد ونبذ التقليد ، وذلك بأخذ الأدلة الشرعية من مواطنها، من الكتاب والسنة ، بحيث يفترض المرء نفسه موجودًا في زمن النبوة، وعند نزول الوحي ، وإن كان في آخر الزمان ، وكأنه لم يسبقه عالم، ولا تقدمه مجتهد، فإن الخطابات الشرعية تتناوله كما تناولت الصحابة من غير فرق . إن الأقوام متساوية ، ليس لواحد منهم أن يدعى أنه غير متعبد بما تبعد الله به عباده، أو خارج عن التكليف ، أو أنه غير محكوم عليه بأحكام الشرع، ومطلوب منه ما طلبه الله من سائر الناس، وليس لواحد أن يرتقى إلى درجة التشريع، وإثبات الأحكام الشرعية ، وتكليف العباد بما يصدر عنه من الرأي ، إلا فيما فوضه إلى رسله[42] .

ثم يوجه الشوكاني خطابه إلى طلاب المعرفة : إن من أهم ما يجب عليك : أن تكون منصفًا لا أن تكون متعصبًا في شيء من هذه الشريعة ، فلا تمحق بركتها بالتعصب لعالم من علماء الإسلام ، إنه ، وإن فضلك بنوع من أنواع العلم ، فهو لم يخرج بذلك عن كونه محكومًا عليه ، متعبدًا بما أنت متعبد، فضلاً عن أن يرتفع عن هذه الدرجة إلى درجة أن يكون رأيه فيها حجة على العباد واجتهاده لديها لازمًا لهم[43] .

وكان العلماء يشجعون طلبتهم على المناقشة والمناظرة ، ويوجبون عليهم التمرن عليها، وكان الطالب يخالف أستاذه في الرأى أحيانًا مع مراعاة التأدب والاحترام .

ورأى الزرنوجي أن قضاء ساعة واحدة في المناقشة والمناظرة أجدى على المتعلم من مكث شهر كامل في الحفظ والتكرار .

وقد كان للعناية بالمناقشة والمناظرة والحوار بالأسئلة والأجوبة أثر حيوي كبير في طالب العلم، جعله يشترك في أن يعلم نفسه بنفسه ، ويعتاد حسن التفكير، وجودة التعبير ، والقدرة على النقد، والقوة في الإقناع والاعتماد على النفس ، وحرية الفكر[44] .

5_ العدل التربوي :

ونقصد به إلى حد كبير المضمون نفسه الذي ينصرف إليه المصطلح الشهير (تكافؤ الفرص التعليمية) ، وكذلك أن ينال كل طالب علم حقه في التعليم ، وألا يكون هناك تمييز بين المتعلمين إلا بقدر ما يبذلون من جهد للتعلم ، وبالتالى يمكن أن يكون العدل التربوي كذلك مرادفًا من حيث المعنى لمصطلح (ديموقراطية التعليم) .

ومن المؤكد أن العديد من الأسس والقواعد التى ألح الإسلام عليها ، من خلال آيات القرآن الكريم وسنة النبي (ص) من أجل إقامة العدل بين الناس، وتحكيم قاعدة (المساواة) ، والحرب الشعواء على كل مظاهر الظلم ، إلى غير هذا وذاك مما يصعب حصره في هذا المجال في القضايا السياسية والاجتماعية، هي جميعًا توفر للعدل التربوي ما يمكن تسميته (البنية الأساسية) ، والتى بدونها يصبح العدل التربوي بناء هشًّا قابلاً للسقوط والتحلل .

ولا شك أن ما بسطناه من إشارات موجزة لوظيفة الوقف في مجال التعليم إنما هو مظهر من مظاهر توفير العدل التربوي .

فلقد قامت المدارس بتوفير الرعاية الاجتماعية الشاملة لطلابها ، بل إن بعض الباحثين يجعل هذه الوظيفة سببًا مباشرًا لقيامها ، والواقع أن طلاب العلم أكثرهم من الفقراء، كانوا يجدون كثيرًا من العنت والإرهاق في سبيل تحصيل العلم والاشتغال به ، ومنهم من انقطع به سبيل التعلم ولم يكمل مسيرته، فالرحلة العلمية، وكلفة السكن والمعيشة وغير ذلك من متطلبات الحياة الطلابية كانت تشق على أمثال هؤلاء الدارسين الذين يطول بهم زمن التعلم لسنوات متعاقبة[45] .

كيف يجارى إذن الطلاب الفقراء إخوانهم ممن تملكوا وأنفقوا الكثير من الثروات؟ لقد كانوا في حالة بائسة يرثى لها ، واضطر بعضهم إلى الاشتغال بأعمال حقيرة وأجور زهيدة، وبعضهم عرف الجوع والحرمان ، وكان منهم من يأكل أوراق الكرنب التالفة ، ومنهم من باع سرواله!! ومن هنا كتب ابن الجوزي تحت عنوان (حاجة طالب العلم إلى المعاش) متأسفًا لما يتعرض له الطلاب من إذلال لأن (طلب العلم يشغلهم عن المعاش في زمن الصبا ، وقد لا يصلهم شيء من بيت المال ولا من صلات الإخوان ما يكفي) ، وهذا ما دفع ابن تيمية أن يكتب مفتيًا : ( رزق الكفاية لطلبة العلم من الواجبات الشرعية هو من المصالح الكلية التى لا قيام للخلق بدونها)[46] .

وتطبيقًا لهذا كانت المدارس، بأوقافها المحبوسة توفر لطلبة العلم المسكن والمأكل والملبس، كما أشرنا، وتمنع عنهم مشقة العمل لكي يتفرغوا للعلم والتحصيل، ولم يكن لكثير منهم مورد خارجي غير ما تقدمه المدرسة، وهذا ما شهد به الرحالة من أمثال ابن جبير وابن بطوطة. وقد جرت هذه السنة الخيرة منذ عصر مبكر ، وقبل قيام المدارس. فلقد كتب الخليفة الأموى عمر بن عبد العزيز إلى عماله أن (أجروا على طلبة العمل الرزق وفرغوهم للطلب). وكان يعطى كل منقطع للعلم مائة دينار من بيت المال كل عام[47] .

وطالب ابن جماعة المعلم أن يحب لطلبته (ما يحب لنفسه .. ويكره ما يكره لنفسه). كذلك أوجب عليه أن (يعتنى بمصالح الطالب ويعامله بما يعامل به أعز أولاده من الحنو والشفقة عليه والإحسان إليه ، والصبر على جفاء ربما وقع منه ، ونقص لا يكاد يخلو الإنسان منه ، وسوء أدب في بعض الأحيان ، ويبسط عذره بحسب الإمكان ، ويوقفه مع ذلك على ما صدر منه بنصح وتلطف لا بتعنيف وتعسف، قاصدًا بذلك حسن تربيته ، وتحسين خلقه ، وإصلاح شانه)[48].

وبعبارات صريحة ألح ابن جماعة على المعلم ، (أن لا يظهر للطلبة تفضيل بعضهم على بعض عنده في مودة أو اعتناء مع تساويهم في الصفات من سن، أو فضيلة، أو تحصيل أو ديانة ، فإن ذلك ربما يوحش منه الصدر، وينفر القلب) ، لكن ماذا عما يمكن أن يكون هناك من تفاوت في بذل الجهد التعليمي؟ هنا يؤكد ابن جماعة : (فإن كان بعضهم أكثر تحصيلاً، وأشد اجتهادًا ، أو أبلغ اجتهادًا ، أو أحسن أدبًا ، فأظهر إكرامه وتفضيله وبين أن زيادة إكرامه لتلك الأسباب، فلا بأس بذلك ؛ لأنه ينشط ويبعث على الاتصاف بتلك الصفات)[49] .

وكانت حلقات التعليم في المسجد تقوم على نظام لابد فيه من ترك مكان ليجلس فيه أولئك الذين يحبون أن ينضموا حديثًا للحلقة للاستماع والاستفادة ، وكان على المدرس ألا يكون في مجلسه مكان مميز لآحاد الناس، بل أن يكون الجميع عنده سواء ، ومن سبق من الطلاب إلى موضع -من المكان المخصص لهم- جلس فيه ، وليست المسألة مسألة الجلوس فحسب، وإنما كان على المعلم أن يعامل الفقير معاملة الغنى ، وقد روى أن ياقوت بن أحمد بن كيسان كانت له حلقة كبيرة بالمسجد ، وكان يجتمع على باب المسجد نحو مائة رأس من الدواب للرؤساء والكتاب والأشراف والأعيان الذين قصدوه، وكان إقباله على صاحب الرقعة الممزقة ، والعباءة الخلق، والطمى البالي، كإقباله على صاحب القصب، والوشى والديباج، والركب والحاشية الغاشية[50] .

وهناك من علماء التربية الإسلامية من أحرز تقدمًا فكريًّا ديموقراطيًّا هائلاً ، وذلك بتقريره لفكرة الإلزام في التعليم، كما أكـد لنا د. الأهوانـي عن القـابسي[51]. وأدلة القابسي قوية أخاذة تنقلك من فكرة إلى أخرى حتى ينتهى بك إلى أن تعليم جميع الصبيان ضروري وواجب وأن هذا الوجوب هو الوجوب الشرعي على طريقة الفقهاء . وذلك أن معرفة العبادات واجبة بنص القرآن ، ومعرفة القرآن واجبة أيضًا لضرورتها في الصلاة، وأن الوالد مكلف بتعليم ابنه القرآن والصلاة ؛ لأن حكم الولد في الدين حكم أبيه ، فإذا لم يتيسر للوالد أن يعلم أبناءه بنفسه فعليه أن يرسلهم إلى الكتاتيب لتلقى العلم بالأجر ، فإذا لم يكن الوالد قادرًا على نفقة التعليم فأقرباؤه مكلفون بذلك . فإذا عجز أهله عن نفقة التعليم ، فالمحسنون مرغبون في ذلك ، أو معلم الكتاب يعلم الفقير احتسابًا أو من بيت المال .

ومن مظاهر العدل التربوي، المساواة في الحقوق بين الإناث وبين الذكور. ذلك لأن الله وحده هو الذي يهبنا الإناث والذكور، كما في قوله عز وجل: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُور} (الشورى: 49) وما دام الله وحده هو الخالق لهذا وذاك، فما الذنب الذي تحمله الأنثى لأنها أنثى ؟

هنا يتوقف ابن قيم الجوزية أمام هذه الآية ملاحظًا تقديم الإناث على الذكور، وبعد أن ذكر أقاويل عدة تفسيرًا لذلك ، أدلى بدلوه هو مؤكدًا أن الله تعالى قدم ما كانت تؤخره الجاهلية من أمر البنات حتى كانوا يئدوهن، أي أن هذا النوع المؤخر الحقير عندكم _ مقدم عندى في الذكر . تأمل كيف نكر سبحانه الإناث وعرف الذكور، فجبر نقص الأنوثة بالتقديم ، وجبر نقص التأخير بالتعريف ، وبالتالى يريد ابن القيم أن يلفت الأنظار إلى أن الآية تتضمن المساواة بين الجنسين ، واستهجان التسخط بالإناث .

وقد أورد ابن قيم الجوزية من الأحاديث النبوية ما يثبت أن من وهب ثلاث بنات أو اثنتين أو حتى واحدة ، وأحسن تربيتهن ، دخل الجنة[52] .

ولعلنا نستعيد إلى الأذهان الحديث النبوي الذي جعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ، وتضيف بعض الروايات (ومسلمة) . وحتى لو لم تضف فإن التعبير المقصود في اللغة العربية بكل مسلم . هو جميع المسلمين، ذكورًا كانوا أو إناثًا .

لكننا مع ذلك لابد أن نضع في الاعتبار جملة الأوضاع المجتمعية والثقافية التى لم تكن تدفع إلى بذل الجهد لتعليم المرأة بالكثرة والكفاءة التى كانت بالنسبة للذكور ، وبالتالى فلم يكن ذلك خضوعًا لنصوص قرآنية ونبوية بقدر ما كان اتساقًا مع حاجات اجتماعية ، ومن هنا لم نر مدارس لتعليم البنات، ولم نر اهتمامًا لدى بعض المفكرين والعلماء مثل ابن سينا بأي جانب يتصل بتعليم البنات.

والصورة التي شاعت هي الاقتصار على تعليم البعض من البنات والنساء في بيوتهن ، حيث حفظت كتب التاريخ أسماء ووقائع عدد لا بأس به من النساء تعلمن، بل ومارسن مهمة تعليم الآخرين، ومنهن من علمن رجالاً .

ولو أخذنا مثالاً مما كان في بلاد الأندلس في مجال تعليم الإناث فسوف نجد بعض المصادر تشير إلى أن البنات كن يتلقين العلم على أيدي بعض المعلمين الرجال أو النساء، وأن النساء كن يذهبن إلى المسجد للتعلم، فيقال عن محمد بن على بن محمد الفخار المتوفى سنة 723هـ – 1323م: إنه استوطن مالقة ، وتصدر للإقراء بها فكان يدرس من صلاة الصبح إلى الزوال، ويقرأ القرآن ، ويفتى النساء بالمسجد إلى ما بعد العصر[53] .

6_ أخلاقية العمل التربوي :

فبتحليل معنى التربية عند العرب من قبل ظهور الإسلام نجد أن الكلمة التى كانت معروفة هي (الأدب) ، والتى كانوا يعنون بها (حسن الأخلاق) على أساس أن التربية معنية بالدرجة الأولى بإقامة السلوك على أسس أخلاقية .

ولقد زاد الاهتمام بالجوانب الأخلاقية بعد ظهور الإسلام على أساس المقولة النبوية الشهيرة: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، وعلى أساس أن الله عز وجل عندما مدح رسوله (ص) قال : {وَإِنَّــكَ لَعَلـــى خُلُـــقٍ عَظِيـــم} (القلم:4)، بل إننا نستطيع أن نقول بغير تردد أن الغرض الأساس من الدين كله هو أن تستقيم حياة الناس على الصراط المستقيم، وما فضيلة التقوى إلا أن يعمل الإنسان وكأن الله يراه في السر والعلن.

ومن هنا فقد كان من الطبيعى أن تحتل القضية الأخلاقية مرتبة الصدارة في الموروث التربوي العربي الإسلامي ، ولذلك فنحن نسجل دهشتنا من زعم البعض بأن القضية الأخلاقية لم تحظ بالاهتمام الواجب في الفكر العربي الإسلامي ، ويبدو أن أصحاب هذا الزعم قد تمثلوا القضية الأخلاقية بنفس الهيكل والمنحى الذي بحثها من خلاله فلاسفة الإغريق ، ألا وهي الأخلاق النظرية ، وهذا انحراف عن الموضوعية العلمية ، فالقضايا التي تحظى باهتمام الباحثين في العلوم الاجتماعية والإنسانية، ليس من الضروري أن تدور حول المحاور نفسها ، والاهتمامات ذاتها التى تكون عليها في ثقافات أخرى ماضية أو حاضرة .

لقد بحثها إخوان الصفا والفارابي وابن سينا والغزالي وابن رشد ومسكويه وابن خلدون ، كل منهم بطريقة ومنهج ومحتوى ومفاهيم تختلف عما عند الآخرين جميعًا . وفي إمكاننا أن نزعم أن كتاب (الإحياء) للغزالي ، مثلاً ، ليس كتابًا في الفقه بقدر ما هو كتاب في الأخلاق ، بل نستطيع أن نعتبره أجل كتاب إسلامي ألف في الأخلاق ؛ لأنه على الأقل تحرر من التقاليد اليونانية في الفلسفة ، وإن لم يتحرر من الترهات الإسرائيلية والهندية وغيرها في التصوف والزهد ، فكانت مادته من أغزر وأنفذ وأوضح ما كتب بعد أرسطو، ولكنه كان في اتجاهه من أخطر وأعمق ما حاد بالمسلمين عن منهج المثل العليا الإيجابية التى جاءهم بها الإسلام[54]  .

ويحدثنا المؤرخون الذين عاشوا في القرن الرابع الهجري عن التدهور الأخلاقي الذي كان سائدًا ، حتى أن عالمًا مثل (مسكويه) ( المتوفى عام 421هـ) ضاق بأخلاق عامة الناس في زمانه ، وأعلن أن أكثرهم قد صار (وبالاً عظيمًا، وضررًا على المحرمات بينهم ، وأظهروا ضروب العصبية ، وأثاروا الفتن، وأقدم بعضهم على بعض بالقتل واستباحة الأموال ، والهجوم على الحرم والفروج، وتفاقم الأمر بينهم وبلغ كل المبلغ من الشر، وعجز السلطان عن إصلاحهم ، وإطفاء ما أثاروه من ثائرتهم حتى صار ذلك سببًا لخراب بغداد)[55].

نتيجة لذلك كان من الطبيعى أن يشمر مسكويه عن ساعديه مساهمة منه في إصلاح الفساد الخلقي الذي ساءه أن يسود زمانه ، وبالتالى فقد احتلت التربية الأخلاقية المكانة الأولى عنده ، فكان أكثر فلاسفة ومفكري الإسلام اهتمامًا بإرساء أسس فلسفية للتربية الأخلاقية ، التى استهدف بها القائمين بتربية الأبناء، وخصص لها كتابه الشهير (تهذيب الأخلاق) كما قدم للنشء أنفسهم مجموعة كبيرة من الحكم والوصايا والآداب والنماذج العملية للأخلاق الفاضلـة ، وقد خصص لها معظم كتابه (جاويدان خرد) الذي يذكر في مطلعه أنه جمع في هذا الكتاب الحكم والوصايا والآداب حتى يهتدى بها أبناؤنا ، وفي الوقت نفسه يتذكر بها العلماء ما تقدم من الحكم والعلوم[56]  .

وعندما قام ابن جماعة بوضع أسس السلوك التى يجب أن يتبعها العلماء مع أنفسهم ، نلاحظ أن المسألة الأخلاقية تأتى في الصدارة ، وأن محورها الأساسي هو (دوام مراقبة الله تعالى في السر والعلانية )[57] . وفي الخطوة التالية نصح ابن جماعة العالم بأن يصون العلم الذي يحمله ويعمل على تعليمه للآخرين ، وصيانته تكون بأن يحيطه بما يستحقه من العزة والشرف ، ويعنى بذلك ألا يتصاغر أمام ذوى السلطة اتقاء لشرهم أو ابتغاء لعطاياهم[58] .

ثم ينصح مفكرنا المعلمين والعلماء بأن يتخلقوا بأخلاق الزهد في الدنيا والتقلل منها بقدر الإمكان الذي لا يضر بنفسه أو بعياله. وبالتالي فليست تلك دعوى للانعزال عن الدنيا، ولكن هي دعوة للتقليل من المطالب الدنيوية التى تدفع كثيرين إلى أن يكونوا نهمين في طلب المال والقرب من ذوى السلطة والنفوذ، مما يذهب بالكثير من الفضائل التى يجب أن يتحلوا بها، وبالتالى يفقدهم قوة التأثير على التلاميذ والناس، ويفقدوا اعتبارهم بوصفهم قدوة يحتذى بها.

ومن أبرز ما قال به ابن سينا حقًّا هو إقراره بأن الأخلاق أمر مكتسب، فهو بذلك يعطى ثقة كبيرة في التربية، وهو يرى أن الإنسان يستطيع أن ينتقل من خلق إلى خلق ويكتسب من الفضائل ما لم يكن له، ومرد ذلك كله إلى عقله ومقدار سيطرة قواه الفطرية على قوتيه الشهوية والغضبية، يقول في ذلك : (إن كل إنسان مفطور على قوة بها يفعل الأفعال الجميلة وتلك القوة بعينها تفعل الأفعال القبيحة، والأخلاق كلها، الجميل منها والقبيح، هي مكتسبة ، ويمكن للإنسان متى لم يكن له خلق حاصل جاز أن ينتقل بإرادته إلى ضد ذلك الخلق، والذي يحصل به الإنسان نفسه الخلق يكتسب به متى لم يكن له خلق أو ينقل نفسه عن خلق صادف نفسه عليه هو العادة، وأعنى بالعادة تكرار فعل الشيء الواحد مرارًا كثيرة أزمانًا طويلة في أوقات متقاربة)[59]  .

وكتابات الغزالي مليئة بالتوجيهات الأخلاقية ، وعلى سبيل المثال ، ما جاء في الإحياء[60] تأكيدًا على ضرورة استعمال وسائل التشجيع والمدح حيث يقول ما معناه : إذا ظهر من الصبي خلق جميل ، وفعل محمود فإنه ينبغي أن يكرم عليه ، يجازى عليه بما يفرح به ، ويمدح أمام الناس لتشجيعه على الأخلاق الكريمة ، والأفعال الحميدة ، وإذا حدث منه ما يخالف ذلك، وستره الصبي، واجتهد في إخفائه ، تغافل عنه المربي ، وتظاهر بأنه لا يعرف شيئًا عما فعل حتى لا يخجله ، فإن عاد ثانية إلى الخطأ عوتب سرًّا . وبين له نتيجة خطئه، وأرشد إلى الصواب ، وحذر من العودة إلى مثل هذا الخطأ ، خوفًا من أن يفتضح أمره بين الناس .

7_ التعلم للعمل :

فعلى الرغم من غلبة الهدف الديني على الموروث التربوي العربي الإسلامي، إلا أننا يمكن أن نجد مظاهر متعددة للوعي النفعي للعلم ، ولا غرابة في ذلك فقد كان رسول الله (ص) نفسه يستعيذ من علم (لا ينفع) . وفي إشارته التى سبق أن ذكرناها عما يبقى من عمل ابن آدم بعد موته ، كان أحد الأمور الثلاثة (علم ينتفع به) .

ثم إننا إذا تذكرنا أن الله عندما اختار الإنسان كي يكون خليفته على الأرض، لوعينا أن ذلك كان مقرونًا بضرورة قيامه بتعمير هذه الأرض التى استخلف عليها، ولا يكون الإعمار بغير العمل.

بل إننا مع هذا الذي ذكرناه من غلبة الطابع الديني على التربية العربية الإسلامية في عصورها الأولى ، إلا أننا لا نستطيع أن ننسى أن هذا الطابع نفسه يحتم على الإنسان الحرص على العمل وكسب الرزق ، وبالتالى فلم يكن غريبًا أن يعنى بعض علماء الأمة بهذا الغرض النفعى للتعليم والتعلم .

ولعل ما بينه (الشاطبي) يعزز هذا الذي نقول ويوضحه ، فهو يقول : (كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لا يدل على استحسانه دليل شرعي ، وأعنى بالعمل عمل القلب وعمل الجوارح من حيث هو مطلوب شرعًا)، ويسوق الشاطبي أمثلة ما ذكرها القرآن إلا لما لها من دلالة عملية ، مثل قوله عز جل : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَج}، {يَسْألُونَكَ عَنِ الشهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِير}، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاس} وهكذا، ويزيد على ذلك بتأكيد أن الشرع لم ير فضلاً للعلم إلا باعتباره وسيلة إلى عمل : (ولم يثبت فضل العلم مطلقًا ، بل من حيث التوسل به إلى العمل)[61].

كذلك أكد الجاحظ أهمية العمل الذي توجهه المعرفة ولا يوجهه التقليد ، فقال : (المعرفة لا تكون كعدمها؛ لأنها لو كانت موجودة غير عاملة لكانت المعرفة كعدمها، فالمعرفة لابد لها من عمل، ولابد للعمل من أن يكون قولاً أو فعلاً)[62] . ومن أجل هذا عاب على هؤلاء الذين يكتفون بالتنظير . ولا ينتقلون إلى التطبيق والعمل ، وأبرز هؤلاء: اليونانيون ، فقال : (كانوا أصحاب حكمة ولم يكونوا فعلة، يصورون الآلة ولا يخرطون الأداة ، ويصوغون المثال ولا يحسنون العمل به. ويرغبون في العلم ويرغبون عن العمل).

وقد عقد ابن خلدون في مقدمته بابًا كاملاً ، هو الباب الخامس من الكتاب الأول ، بعنوان ( في المعاش ووجوبه من الكسب والصنائع ما يعرض في ذلك كله من الأحوال ) والفصل الأول منه جعل موضوعه (في حقيقة الرزق والكسب وشرحهما، وأن الكسب هو قيمة الأعمال البشرية ) وقد بنى الموضوع على المسلمة الآتية ( أن الإنسان مفتقر بالطبع إلى ما يقوته ويمونه في حالاته وأطواره من لدن نشوئه إلى أشده)[63] .

وإذا كان الإنسان مضطرًا إلى تحصيل الرزق لاستمرار حياته، وأن ذلك لا يتم إلا بالاشتغال بالمهن، فإن الهدف من المهن هنا يكون إشباع الضرورات، وفي ذلك يقول ابن خلدون : (اعلم أن المعاش هو عبارة عن ابتغاء الرزق والسعى في تحصيله، وهو مفعل من العيش، كأنه لما كان العيش الذي هو الحياة لا يحصل إلا بهذه جعلت موضوعًا له على طريق المبالغة )[64]  .

لكن ، لما كان الكثير من المهن والحرف في عصور الحضارة الإسلامية يقف عند حدود مستوى التقدم التقنى الحادث، والذي لم يحتج في بعض منه إلى معرفة متقدمة ، فإن تعليم كثير من المهن والحرف لم يكن يعتمد كثيرًا على دراسة منتظمة تستغرق سنوات أو شهور في مؤسسات متخصصة ، بل قام تعليم هذه المجالات في الغالب والأعم على التقليد والمحاكاة.

لكن هذا بطبيعة الحال لم يكن مانعًا من وجود بعض الأعمال التي كانت تحتاج إلى تعلم ما تقوم عليه من معرفة؛ ولذلك نجد ابن سينا بعد أن يذكر وجوب تعلم الصبي ما يمكن تسميته بالتعليم الأساسي (نظر إلى ما يراد أن تكون صناعته فيوجهه لطريقه، بعد أن يعلم مربي الصبي أن ليس كل صناعة يرومها الصبي ممكنة له مواتية، لكن ما شاكل طبعه وناسبه، فإن أراد الكتابة أضاف إلى دراسة اللغة دراسة الرسائل والخطب، ومناقلات الناس، ومحاوراتهم وما أشبه، وطورح الحساب، ودُخل به الديوان، وعُني بخطه، وإن أريد أخرى أخذ به فيها)[65] .

يريد ابن سينا أن يثقف الصبي في المرحلة الأولى بحيث يتعلم القرآن، بأن يقرأه ويفهم المراد مما يحفظ، وفي الوقت نفسه يدرس أصول اللغة العربية من نحو وصرف وإملاء وخط، ويتمرن على التعبير الشفوي والتعبير الكتابي؛ كي يستطيع أن يقرأ قراءة صحيحة ويتكلم بلغة صحيحة، ويكتب لغة خالية من الخطأ.

فإذا وصل إلى هذه الدرجة من الدراسة الثقافية الدينية اللغوية نظر في أمر المتعلم وميوله ورغباته التي يميل إليها، فإن كانت ميوله متجهة نحو الناحية العملية وجه نحو الصناعة التي يريدها، والفن الذي يرغبه، وإن كانت ميوله الطبيعية أدبية، يسرت له الوسائل ليكون أديبًا[66] .

ولعلنا بعد هذا عندما نفتش في الآراء المختلفة التي ساقها المفكرون الإسلاميون لبيان ما ينبغي للتلميذ أن يتعلمه، ثم نجد أن المواد الدينية هي التي تمثل مكان الصدارة، لا نبادر إلى الحكم بأن هذا دليل واضح لغياب النواحي العملية في تقديرهم، خاصة إذا أضفنا إلى ذلك أن ممارسة الشعائر الدينية لم تكن هدفًا في حد ذاتها وإنما هي وسيلـــة يبتغي منها (السلوك) الذي من شأنه أن يسعد الفرد ويسعد الجماعة حسب التصورات الإسلامية؛ ومن ثم تأتي دراسة القرآن في المقدمة؛ لأنه مرجع المسلمين في معرفة العبادات والمعاملات، وسبيل إلى معرفة الحدود الشرعية الصحيحة للديانة ولا يكون ذلك إلا بمعرفة الأصل الأول من أصول الدين وهو القرآن ثم سائر العلوم الدينية[67] .

أما بالنسبة لبعض المواد الأخرى فيكفي أن نشير هنا إلى (الحساب)، فقد كان يعد ضروريًّا في المعاملات وقسمة الوصايا والمواريث وغيرها، وهذا ما يؤكده ابن رجب البغدادي (كذلك الحساب يحتاج منه إلى ما يعرف به قسمة الفرائض والوصايا والأموال التي تقسم بين المستحقـين لها)[68].

وإذا كان هذا مما يدخل في المصلحة الدينية، إلا أن الجاحظ يضيف إلى هذا قيمته النفعية الاجتماعية وضرورته في ضبط الحضارة والعمران، وفي ذلك يقول: (فالدليل على فضيلته وعظم قدر الانتفاع به قول الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَاب} (يونس: 5) . والحساب يشتمل على معانٍ كثيرة ومنافع جليلة، ولولا معرفة العباد بمعنى الحساب في الدنيا لما فهموا عن الله عز وجل معنى الحساب في الآخرة، وفي عدم اللفظ وفساد الحظ والجهل بالعقد، فساد جل النعم واختلال كل ما جعله الله عز وجل لنا قوامًا ومصلحة ونظامًا)[69].

8- الانفتاح الحضاري :

وتثور في أيامنا الحالية أصوات تطالب بالانفتاح إلى أقصى حد ممكن على البلدان المتقدمة نعب من منجزاتها الحضارية بكل ما نستطيع من جهد، مستشهدين على ذلك بأن أسلافنا العرب والمسلمين مدوا أيديهم إلى ما سبقهم من حضارات في بلدان اليونان والهند وفارس واستفادوا أيما إفادة من منجزاتها الحضارية.

لكن التأمل في هذا القياس يمكن أن يوقفنا على جانب مهم، وهو أن أسلافنا عندما كانوا يطلعون ويقتبسون ويستفيدون مما كان لدى الحضارات السابقة كانوا ينتمون إلى حضارة متقدمة، ودولة أو دول تحتل موقع صدارة في القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية، أما نحن في وقتنا الراهن فنقف موقف ضعف وتبعية، بحيث تقل قدرتنا على الاختيار والانتقاء.

ومع ذلك فلابد من الإفادة من التجربة العربية الإسلامية، حيث نلاحظ أن أسلافنا كانوا يحرصون على الانتقاء والاختيار ولا يتركون الأمر بلا ضابط ، وعلى سبيل المثال ، فقد أفادوا من فلسفة اليونان ؛ لأن البلدان العربية ، وخاصة في الجزيرة ، لم يكن لها سابق إنجاز في هذا الشأن ، ولما وجدوا بعض ما نقلوه من الفلسفة قد يشوش على العقيدة الدينية ، قاموا بما أصبح معروفًا بعمليات توفيق وتكييف ، كما أنهم لم ينقلوا شيئًا من أدب الإغريق؛ لأنه كان مغرقًا في الوثنية والشرك ، يدور معظمه على صراعات بين الآلهة ، فضلاً على أن العرب كان لهم باع سابق في مجال الشعر خاصة ، بينما استفادوا من الأدبين الهندي والفارسي لما كان فيهما من عناية بالبعد الأخلاقي ….. وهكذا.

وكان الانفتاح الحضاري يسير في بعدين ، أولهما هو الانفتاح على الحضارات الأخرى السابقة ، وثانيهما : الانفتاح بين البلدان العربية الإسلامية نفسها بحيث لا تكون هناك قيود وحواجز في انتقال الأفكار والآراء والمذاهب والنظريات والعلماء .

فإذا جئنا إلى السبيل الأول للانفتاح الحضاري ، فسوف نجد أن العرب عندما بدأوا يخرجون من نطاق الجزيرة العربية ، كانت تجاورهم حضارتان عظيمتان ، وهما الحضارة الفارسية ، والحضارة الرومانية ، وعلى الرغم من التباين المعروف بين العقيدة التي حملها العرب إلى البلدان المفتوحة وبين ما كان قائمًا في هذه البلدان من توجهات فكرية، إلا أن العرب كانوا على قدر من الوعي جعلهم ينتبهون إلى أن المفروض ألا يعادوا (كل) ما جاءت به هذه الحضارة وتلك، ففي كل منها بالضرورة عناصر خير يمكن الإفادة منها، وقد تمثلت حركة الإفادة من الحضارات السابقة في تلك الحركة الضخمة التي عرفت بحركة الترجمة من اللغات غير العربية إلى العربية .

وقد أشار ابن خلدون في مقدمته إلى أن المسلمين أرادوا دراسة العلوم الفلسفية ، فقد سمعوا القساوسة والرهبان يتحدثون عنها إلى رعاياهم المسيحيين ، والعقل البشري يميل بالطبع إلى التعلم ؛ لذلك طلب الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور إلى إمبراطور بيزنطة أن يرسل إليه كتب الرياضيات ، فأرسل الإمبراطور إليه مؤلفات إقليدس وبعض كتب الفيزياء ، فقرأ المسلمون ودرسوا كل هذا مما منحهم الرغبة في معرفة أكثر، وحين تولى الخليفة المأمون الحكم كان لديه بعض المعرفة والرغبة في التعلم فانطلق إذن إلى العمل وأرسل بعثة إلى أباطرة بيزنطة ، وقد كلف رسله بالبحث عن المؤلفات العلمية اليونانية ونقلها إلى العربية ؛ ولذلك فقد ألحق بهم تراجمة ، وهكذا تمت المحافظة على جزء كبير من هذه العلوم وجمعها[70] .

ثم توالت جهود الترجمة ، واتسع نطاقها لتشمل بلدانًا عدة وعلومًا شتى ، وكان من جراء ذلك أن تم تلقيح الحضارة العربية الإسلامية بالعديد من الجينات الحضارية التي أثرتها وساعدتها على أن تفتح آفاقًا جديدة، وتضيف إلى الجهود السابقة اعتمادًا على المقولة التي تؤكد على فكرة التراكم في النمو الحضاري ، إذ لا تبدأ حضارة من نقطة الصفر بطبيعة الحال ، ولابد لها من أن تستوعب وتلم بما سبق قيامها من جهود.

وأدت حركة الترجمة إلى اتساع اللغة العربية بالمصطلحات العلمية والتعابير الفلسفية ، مما دل أيضًا على قدرة اللغة العربية على مجاراة الحركة العلمية كما جارت الحركات الأدبية والدينية والاجتماعية .

كذلك ساعد هذا في تطوير الأدب العربي من ناحيتين ، بما زاد فيه من الفنون والخصائص والمعاني بالاطلاع على الحياة والفكر عند الأمم ، ثم بتسرب عدد من المدارك والتعابير الفلسفية تسربًا طبيعيًّا أو تملحًا من الأدباء أنفسهم ( في النثر والشعر ) .

وأيضًا الاستفادة من المقاييس والمدارك الأجنبية في معالجة عدد من العلوم الشرعية واللغوية في التعريف والتقسيم والمنهج المنطقي والبراهين[71] .

وبالنسبة للسبيل الثاني فهو حرية الحركة التي عرفها العلماء بين مختلف البقاع العربية الإسلامية ، حتى بعد أن تعددت الدول الإسلامية ، وعلى الرغم مما كان بين بعضها من صراع وتناحر ، فقد ظلت الحدود على اختفائها ، وظل علماء المشرق يذهبون إلى المغرب والعكس.

وهكذا كانت العاصمة أو المدينة العلمية سوقًا ثقافية كبيرة ، يلتقي فيها طلاب من أقاليم متباعدة ، وثقافات متباينة ، وأحيانًا من ديانات مختلفة ، وعند الشيخ الواحد يختلط العجمي بالعربي ، والمغربي بالشامي ، والمسلم بالذمي ، ويصبح هذا الاختلاط تلقيحًا ثقافيًّا مخصبًا لكل فرد [72] .

ولقد كان من الأوربيين أفراد وفدوا للتعليم في كبريات المدن العربية كطليطلة وقرطبة وبغداد ، وكانوا يعيشون ويتعاملون مع زملائهم من العرب والمسلمين ، فيحدث احتكاك ثقافي واسع النطاق ، عميق الأثر ، على النحو الذي يحدث اليوم عندما يسافر الشباب للتعلم في بيئات وبلاد أجنبية ويتأثرون كثيرًا بثقافاتها ، ناقلين إليها كذلك بعض العناصر من ثقافاتهم الوطنية أو الأهلية  [73].

غروب واضمحلال :

مثلما يبدأ الإنسان طفلاً ، فصبيًّا فشابًّا ، فكهلاً ، ثم تنطفئ شمعة الحياة ، كذلك الحضارات …

والتعليم إنما هو منظومة فرعية من تلك المنظومة الأكبر .. الأمة ، ذات الحضارة ، وبالتالي فعندما بدأت الدولة الإسلامية والحضارة العربية الإسلامية تتداعى وتضمحل ، ثم تنهار ، كان لابد لكل هذه الثمرات الرائعة التي عرضنا لنماذج منها ، أن تذبل وتسقط ليحل محلها جمود وتخلف وانزواء ، وربما تراجع وارتداد .

ولأن الدولة هي بمثابة الرأس للجسم الاجتماعي ، إن خيرًا فخيرًا وإن شرًّا فشرًّا ، فإن عوامل التحلل التي كانت قد بدأت تتسرب إلى هذا الرأس ، تسربت هي الأخرى إلى جسم التعليم ، والتفكير التربوي ..

ولا يتسع المقام لتحليل عوامل التحلل والانهيار في الجسم الاجتماعي العام ، إذ يأتي في مقدمتها البعد عن صحيح الدين الذي مكن المسلمين الأوائل من أن يبنوا هذه الحضارة العريقة، ومنها ما تمت ممارسته من قهر وبطش واستبداد وطغيان ، ومنها ما قام من صراعات سياسية وعسكرية ، وفتن اجتماعية ، كثير منها لأسباب شخصية وثأرية … ويطول بنا المقام لو حاولنا تتبع كل أو معظم هذه الأسباب والعوامل .

ولكننا لو أردنا التوقف عند أحد هذه العوامل التي ألح عليها ابن خلدون ألا وهو الترف ، فسوف نجد أن الترف إذا كان مشكلة قد عرفتها جميع الحضارات وعانت منها الأمرين ، وكانت سببًا في انحلالها لكنه بالنسبة للدولة العربية نجده أسرع تأثيرًا فيها منه في غيرها ، أو بعبارة أخرى نجد الدولة الإسلامية من ضعف البناء وتهافت المتانة ، ما جعلها معرضة لهذا العاصف الكاسح تعرضًا قوض أسسها بسرعة تدعو إلى الدهشة ، دهشة تجعلنا نتسـاءل[74]:

هل هذه الظاهرة راجعة إلى أن الدولة الإسلامية تنبع عادة من طبقة غير متعودة على الترف بل بالعكس متعودة على نقيض الترف ، وهو الشظف والقحط بحيث عندما تقع في حمأة الحكم، فإنها تنتقل مباشرة، أو بما يقرب من صفة المباشرة إلى التهام ثمرته المحرمة بشراهة الجائع المحروم فتصيبه التخمة التي لم يتعودها ، وتقعد به رجلاه عن السعي وتترهل حميته ويفقد إرادته في التحكم في شهواته ، فتتضافر عليه العلل الداخلية من كل نوع، ولا يملك لها علاجًا ولا وعيًا ، ولا يبقى له إلا الاستسلام لجراثيمها المدمرة ، حتى يسري في جسمه الموت وهو ينظر بعينه لا يقاوم الدمار كما لم يقاوم ، من قبله، أصله وسببه وهو التهافت على الترف؟

أم يكون السبب هو أن الدولة الإسلامية فشلت في تحصين بنيتها الداخلية ، بنظم ومؤسسات محكمة تحفظها من عدوان نفسها على نفسها ، وتضمن لها الاستمرار في طريق الرقي المستمر والتطور البعيد المدى ، والسير في طريق الحضارة بمنجاة من كل أسباب الوهن قبل الأوان ، فعاشت الدولة العربية على هامش البناء التطوري الحقيقي لأنها عبثت بالمبادئ الأخلاقية التي جاء بها الإسلام ؟ [75] .

ومن هنا بدأنا نرى بعض المظاهر الحضارية تنقلب لتؤتي عكس ما هو مفروض منها ، وأبرز الأمثلة على هذا ، تلك التعددية المذهلة في المذاهب والمدارس الفكرية ، وخاصة في العصر العباسي ، من تسنن وتشيع ، ومن حنابلة وشافعية ومالكية وحنفية ، ومن محدثين وفقهاء ومتكلمين ومتصوفة وفلاسفة وزنادقة ، وأصحاب ديانات من مسلمين ويهود ونصارى ، وغير ذلك، كانت كلها حركات تغلي في جسم الدولة الإسلامية ، يتعاون بعضها حينًا ، وتتفاعل حينًا ، وتتصارع حينًا آخر ، وتؤثر في السياسة ، وتؤثر فيها السياسة غالبًا ، فيتأثر الفكر الديني والعلمي ، وتنشأ عن ذلك المؤامرات السرية أحيانًا والخلافات العلمية ، وحتى القتال الواضح الصريح ، الذي كان له الأثر في نواح متعددة في الدولة، وطبيعي أن تنعكس كل هذه الأوضاع في المجتمع على العلماء؛ مما أدى إلى خروج بعضهم بالعلم عن مساره الحقيقي ، وهو البحث عن الحقائق ، فانحط مستوى تفكير بعض العلماء ، وأضاعوا أوقاتهم في الخصومات ، وشاعت بينهم العصبيــــة ، وضيق الأفق[76].

ويبدو أن من المظاهر السلبية للترف، شيوع بعض الأخلاقيات غير السوية بين عدد من المشتغلين بالعلم ، مثل الولع بالغلمان ، فمن ذلك ما يروى عن أبي بكر الوراق التميمي الذي كان يقرأ في حلقة في الجامع الرقائق والمواعظ ، ويذكر أخبار السلف الصالحين ، ومن بعدهم من التابعين ، ويبدو خشوعه وتترقرق دموعه، وتجده عشية في بيته وفي يده طنبور وعن يمينه غلام مليح ، وقد سئل : ما أبعد ما بين حاليك في مجلسيك، فقال : ذاك بيت الله ، وهذا بيتي، أضع في كل واحد منهم ما يليق به وبصاحبه[77] .

ولعل هذا ما جعل عالمًا مثل ابن حجر الهيثمي ( المتوفى عام 973 هـ / 1565 م ) يفرد جزءًا من رسالتــــه : (تحرير المقال في آداب وأحكام يحتاج إليها مؤدب الأطفال) ، وهو المقصد السادس من الرسالة بعنوان : ( في تحذير المعلم من نظر المرد الذين يعلمهم في بيان حد نظر المعلم إلى الأمرد المتعلم لحاجة التعليم من غير شهوة ولا خوف فتنة ) ، ولا يتصـــور أن يبـــرز هذا الاهتمام بهذه القضية ما لم يكـن لها ظـل من واقع أفزع عالمنا فهـرع إلى إبرازها في رسالـته [78] .

وإذا كانت التربية الإسلامية قد أثمرت هذه الثمرات التي أشرنا أليها ، فلم يكن ذلك إلا بفضل صور من الحرية أتيحت لأصحابها ، لكن الأمر  لم يستمر على هذا النهج إلى ما شاء الله، فقد رزئ العالم العربي والإسلامي بنوعيات من الحكام لا تستطيع أن تتحمل ضريبة الحرية ، فالحاكم الظالم لا يرضى بعالم يسلك طريقًا لا يساير أهواءه وميوله ، لا يجلس مجلسه ولا يستمع إلى قوله ، ولا يسبح بحمده ، ويحاسبه على أخطائه ، فإذا كان من هؤلاء العلماء فلا شك أن عذاب المحن سيحل به ، وخاصة حين تبدر منه بعض المواقف في ميدان التعليم [79] .

وإذا كان الموروث التربوي قد حفظ لنا مظاهر تبرز علماء رفضوا أن يكونوا مطية للحكام ، فقد كثرت نوعيات أخرى ، وخاصة في عهود الانحطاط تسير على العكس من ذلك ، وظهر ما عرف باسم (علماء السلاطين) لم يكونوا كغيرهم (يتعبدون بعلمهم) كما قال الذهبـي ، وإنما اغتنوا بعلمهم ولم يجعلوه  في خدمة الدين … جروا إلى أبواب الأمراء ، وكانوا شر العلماء ، والمكروهين بين الزملاء ، يقول عنهم المقري : (اعلم أن شر العلماء علماء السلاطين، وللعلماء معهم أحوال ، فكان الصدر الأول يفرون منهم ، وهم يطلبونهم ، فإذا حضر الواحد منهم أفرغوا عليه الدنيا ليقتنصوا بذلك غيره ، ثم جاء العصر الثاني فطمحت أنفسهم إلى دنيا من حصل لهم ، ومنعهم قرب العهد بالخير عن إتيانهم ، فكانوا لا يأتونهم ، فإن دعوهم أجابوهم إلا القليل ، فانتقصوا مما كان لغيرهم بقدر ما نقصوا من منابذتهم ، ثم كان فيمن ( بعدهم ) من يأتيهم بلا دعوة ، وأكثرهم إن دعي أجاب ، فانتقصوا بقدر ذلك أيضًا ، ثم تطارح جمهور من بعدهم فاستغنوا بهم عن دعاء غيرهم … وصرفوهم في أنواع السخر والخدم إلا القليل … وهم ينتظرون صرفهم ، والتصريح بالاستغناء عنهم ، وعدم الحاجة إليهم ، مع قبول النزر اليسير[80] ، وهؤلاء كانوا سياط السلاطين يلهبون بها ظهور العباد!!

وهناك من وجه سهام النقد إلى موروثنا الحضاري على أساس أنه كان مستسلمًا لعقلية غيبية ، والعقلية الغيبية لا تعتمد النهج النقدي التحليلي في معالجة الأمور ، وهي عقلية إيمانية تمرست على الإيمان بما خفي عن الحس وعزت معرفته على العقل ، ولهذا أيضًا لا تعرف الشك الذي هو أساس التحليل النقدي في حوار العقل والطبيعة ، ويترسخ لديها نهج الاستسلام دون إيمان بالفعالية الذاتية ، ولهذا نجد الموقف من المشكلات الطارئة استعانة بالغيب ، واستعانة بالسحر والرقي والتعاويذ ، واعتمادًا على رفض أو قبول مطلق للحدث دون وعي نقدي[81] .

والحق أن هذا النقد ناتج مما حدث من خلط بين عالم الغيب وعالم الخرافة ، فالقرآن الكريم ، وفي الآية الثالثة من سورة البقرة نص على أن من أهم سمات وخصائص المؤمنين {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْب} على أساس أن الغيب هو ما يتصل بالله وملائكته والروح والبعث والعالم الآخر . وهناك نصوص متعددة تنهي الإنسان عن البحث في مثل هذه الأمور على أساس أن الإنسان غير مزود بوسائل الإدراك التي تمكنه من ذلك ، وضرورة الالتزام بحصر دائرة التفكير في هذا العالم الذي نعيشه ونحياه .

وفي هذا العالم الذي نحياه سنن وقوانين تحكم ظواهره المختلفة ، والإنسان ملزم بأن يأخذها دائمًا في اعتباره ، ويرتب حياته على أساس ما يحكم الظواهر الكونية من سنن ، ونحن نعرف من سيرة الرسول (ص) أن تصادف أن خسفت الشمس أو كسف القمر وقت أن مات ابنه إبراهيم الذي حزن عليه حزنًا شديدًا فظن المسلمون أن ما حدث في الظاهرة الطبيعية إنما هو لموت إبراهيم ، فإذا  بالرسول ينكر ذلك ، ويؤكد أن مثل هذه الظواهر من سنن الله لا يفعلان شيئًا لموت أحد !!

أما عالم الخرافة فهو مسألة أخرى ، فيها يربط المؤمنون به بين ظاهرتين ليس بينهما علاقة سببية ، كالاعتقاد ـ مثلاً ـ بأن (حجابًا) يمكن أن يجعل العاقر تحمل! فمثل هذه النزعات نهى عنها الدين تمامًا وإنما هي انحرافات في الدين ألصقت به جهلاً وظلمًا .

وبعد …

إن الأمم التي تريد أن يكون لها في المسيرة الحضارية دور فاعل ، لا ينبغي لها أن تتخلى عن موروثها الحضاري كلية، ولا ينبغي كذلك أن تغرق فيه كلية، فكلا الموقفين انحراف عن التفكير السليم، الذي يشير إلينا بأن نقف من موروثنا التربوي موقفًا نقديًّا : نفحصه ونختبره ، وننقده ، ونقيسه على معطيات حاضرنا وتطلعات مستقبلنا ، ما أفادنا في ذلك قبلناه واخترناه ، وما تناقض واختلف نظرنا إليه على أنه مجرد أثر من آثار الماضي ، وربما كان له دوره فيما سبق ، لكنه الآن قد فقد فاعليته .

الهوامش

 


[1]محمد عابد الجابري: التراث والحداثة، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1999م، ط2. ص22

[2]محمد عابد الجابري، ص22

[3]محمد أحمد خلف الله: إشكالية التراث والعلوم الاجتماعية، في: (أحمد خليفة وآخرون: إشكالية العلوم الاجتماعية في الوطن العربي، القاهرة، المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، 1983م)، ص347

[4]المرجع السابق، ص348

[5]طارق البشري: نحن … بين الموروث والوافد، في المرجع السابق، ص359

[6]المرجع السابق، ص360

[7]عبد الباسط عبد المعطي: التدين والإبداع، الوعي الشعبي في مصر، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2001م، ص46

[8]عبد الحليم عويس: فقه التاريخ في ضوء أزمة المسلمين الحضارية، القاهرة، دار الصحوة، 1994م، ص120

[9]المرجع السابق، ص121

[10]شوقي جلال : التراث والتاريخ ، القاهرة ، سينا للنشر ، 1995 ، ص 5

[11]المرجع السابق ، ص 9

[12]عبد الباسط عبد المعطي ، ص 48

[13]المرجع السابق ، ص 49

[14]محمد عمارة : نظرة جديدة إلى التراث ، القاهرة ، دار قتيبة ، 1988م ، ط2 ،ص 6

[15]المرجع السابق ،ص 8

[16]سعيد إسماعيل علي : مقدمة في التأريخ للتربية ، القاهرة ، عالم الكتب ، 1999م ، ص 155

[17]المرجع السابق ، ص 156

[18]مقدمة ابن خلدون ، القاهرة ، دار الشعب ، د.ت ، ص 570

[19]قسطنطين زريق : نحن والتاريخ، بيروت ، دار العلم للملايين ، 1963م ، ط2 ، ص 73

[20]المرجع السابق ، ص 92

[21]المرجع السابق ص 100

[22]يوسف القرضاوي : العقل والعلم في القرآن الكريم ، القاهرة ، مكتبة وهبة ، 1996م ، ص 89

[23]يوسف القرضاوي : ص 122

[24]يوسف القرضاوي ، ص 207

[25]يوسف القرضاوي ص 210

[26]عبد الفتاح أبو غدة : الرسول المعلم ، وأساليبه في التعليم ، حلب ، مكتب المطبوعات الإسلامية ، 1997م، ط2 ، ص 10

[27]المرجع السابق ، ص 12

[28]المرجع السابق ، ص 63

[29]أحمد شلبي : تاريخ التربية الإسلامية، القاهرة ، النهضة المصرية ، 1966م ، ص 210

[30]مقدمة ابن خلدون ، ص 369

[31]أبو حامد الغزالي : إحياء علوم الدين ، القاهرة ، المكتبة التجارية الكبرى ، د.ت

[32]المرجع السابق ، ج 3 ، ص 62

[33]سعيد إسماعيل علي : فقه التربية ، القاهرة ، دار الفكر العربي ، 2001م ، ص 70

[34]سيد أحمد عثمان : التعلم عند برهان الإسلام الزرنوجي ، القاهرة ، الأنجلو المصرية، 1989م، ط 2 ص 95

[35]المرجع السابق ، ص 96

[36]سعيد إسماعيل علي : فقه التربية ، ص 72

[37]محمد بن عبد العزيز بن عبد الله : الوقف في الفكر الإسلامي ، وزارة الاوقاف والشئون الإسلامية ، المحمدية ( المغرب)، 1996م، ج1 ، ص 217

[38]المرجع السابق، ص 218

[39]خالد محمد خالد : في البدء كان الكلمة ، القاهرة ، الأنجلو المصرية ، 1961م ، ص 72

[40]محمود قمبر : دراسات تراثية في التربية الإسلامية ، الدوحة ، دار الثقافة ، 1992م ، ج 3، ص 94

[41]المرجع السابق ، الصفحة نفسها

[42]الشوكاني : أدب الطلب ، تحقيق عبد الله الحبشي ، صنعاء ، مركز الدراسات والبحوث اليمنية ، 1979م ، ص 122

[43]عبد الفتاح أحمد فؤاد : في الأصول الفلسفية للتربية عند مفكري الإسلام ، الإسكندرية ، منشأة المعارف ، 1983م ، ص 217

[44]محمد عطية الإبراشي : التربية الإسلامية وفلاسفتها ، القاهرة ، عيسي البابي الحلبي وشركاه ، 1969م ، ط2، ص 210

[45]محمود قمبر : دراسات تراثية في التربية الإسلامية ، الدوحة ، دار الثقافة ، 1985م ، ص 62

[46]المرجع السابق ، ص 63

[47]المرجع السابق ، ص 64

[48]ابن جماعة: تذكرة السامع والمتكلم وأدب العالم والمتعلم ، في : هشام نشابة ( محقق ) : التراث التربوي الإسلامي في خمس مخطوطات ، بيروت ، دار العلم للملايين ، 1988م ، ص 130

[49]المرجع السابق ، ص 134

[50]سعيد إسماعيل علي : ديموقراطية التربية الإسلامية ، القاهرة ، عالم الكتب، 1982م ، ص 201

[51]أحمد فؤاد الأهواني : التربية في الإسلام ، القاهرة ، دار إحياء الكتب العربية ، 1955م ، ص 91

[52]عبد الفتاح أحمد فؤاد : في الأصول الفلسفية للتربية عند مفكري الإسلام ، ص 93

[53]محمد عبد الحميد عيسى : تاريخ التعليم في الأندلس ، القاهرة ، دار الفكر العربي ، 1982م، ص 268

[54]مقدمة ابن خلدون ، ص 153

[55]مسكويه ، أبو علي : تجارب الأمم ، تحقيق آمدروز ، القاهرة ، مطبعة شركة التمدن الصناعية ، 1915م ، ج6 ، ص 305

[56]عبد الفتاح أحمد فؤاد ، ص 345

[57]ابن جماعة : تذكرة السامع والمتكلم ، ص 107

[58]المرجع السابق ، ص 108

[59]عبد الرحمن النقيب : الفكر التربوي عند ابن سينا ، القاهرة ، دار الفكر العربي ، 2001م ، ص109

[60]محمد عطية الإبراشي : التربية الإسلامية ، ص 72

[61]الشاطبي ، أبو إسحاق : الموافقات في أصول الشريعة ، أخرجه عبد الله دراز ، القاهرة ، المكتبة التجارية الكبرى ، د.ت، ج1، ص 46

[62]الجاحظ : كتاب الحيوان ، تحقيق عبد السلام هارون ، بيروت ، دار الكتاب العربي ، 1969م، ط 3 ، ج2 ، ص 97

[63]مقدمة ابن خلدون ، ص 340

[64]المرجع السابق ، ص 345

[65]محمد عطية الإبراشي ، ص 221

[66]المرجع السابق ، ص 222

[67]سعيد إسماعيل علي : دراسات في التربية الإسلامية ، ص 56

[68]أحمد فؤاد الأهواني : التربية في الإسلام ، القاهرة ، دار المعارف ، 1968م ، ص 175

[69]الجاحظ : البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام هارون ، القاهرة ، الخانجي ، 1975م، ج1 ، ص 80

[70]مريم سلامة ـ كار : الترجمة في العصر العباسي ، ترجمة نجيب عزاوي ، دمشق ، وزارة الثقافة ، 1998م ، ص 12

[71]عمر فروخ : تاريخ العلوم عند العرب ، بيروت ، دار العلم للملايين ، 1970م ، ص 120

[72]محمود قمبر : دراسات تراثية في التربية الإسلامية ، ج 3 ، ص 278

[73]المرجع السابق ، ص 279

[74]عبد الله شريط : الفكر الأخلاقي عند ابن خلدون ، الجزائر ، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع ، 1975م ، ص 351

[75]المرجع السابق ، ص 352

[76]محمد منير سعد الدين : العلماء عند المسلمين ، بيروت ، دار المناهل : 1992م ، ص 68

[77]ابن خلكان : وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان ، تحقيق إحسان عباس ، بيروت ، د.ت ، ج2 ، ص 436

[78]ابن حجر الهيثمي / تحرير المقال في آداب وأحكام يحتاج اليها مؤدب الأطفال، في : التراث التربوي الإسلامي في خمس مخطوطات، ص 241

[79]محمد منير سعد الدين : العلماء عند المسلمين، ص 144

[80]المقري : نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب ، بيروت ، دار صادر ، 1968م،  م 5، ص 277

[81]شوقي جلال: التراث والتاريخ، ص 45

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر