هذه الدراسة مُستخلَصَةٌ بالكامل من كتب وإبداعات واجتهادات وآراء ونظرات المفكر الإسلامي المصري الكبير، أستاذنا الجليل د.محمد عمارة(1)؛ تكريماً له، وجمعاً لـ “الثمرات الناضجة” و”الاجتهادات المُبدِعة” المتناثرة في أرجاء كتبه وبحوثه؛ وضعاً لها بين أيدي الباحثين والقراء:
– لِتفعلَ فعلها في إثارة وتحفيز الإبداع والاجتهاد والتجديد في هذا الميدان.
– ولِتُدار حولها الحوارات والنقاشات؛ تأييداً وتعميقاً وتوسيعاً وتتميماً وتكميلاً لِمَا فيها من دُرر منظومة وصروح عالية ونظرات نافذة، أو نقداً وتصحيحاً لِما يُرَى أنه يستحق النقدَ أو التصحيح؛ شأنَّ كلِّ اجتهادٍ بشريٍّ إسلاميٍّ صادرٍ من أهلِه؛ إذ ليس أحدٌ من أعلام مجتهدي المسلمين بمعصومٍ.
وأما ما ليس من نص كلام د.عمارة، مما سيرد في هذه الدراسة، فقد وضعناه بين معقوفَيْن هكذا [..]؛ فهو لنا جملةً وتفصيلاً؛ إما طلباً لإحكامِ الربط بين الجُمَل والفقرات، أو لتوضيح غامض، أو لإزالة لبس، أو لدفع توهم مُتَوَقع، أو لتتميم ناقصٍ؛ أو ما شابه ذلك مما يقتضيه “الجمعُ والتوليف والربط والتركيب والتنسيق والسبك والترتيب المنطقي” لكلام د. عمارة المتناثر في أرجاء المصادر السابق ذِكرُها.
فلنبدأ باسم الله وعلى بركة الله،
***
أولاً
* إنَّ موقفَ الإسلام من علاقة الإنسان بالثروات والأموال، وحقوقه في الخيرات والكنوز التي خلقها الله سبحانه وأودعها في الطبيعة، مُؤَسَّسٌ على نظرية وفلسفة الخلافة والاستخلاف.
والاستخلاف في العربية مصدرٌ معناه اتخاذ الخليفة؛ لِيَخلفَ ويَنوبَ فيما فُوِّضَ إليه الاستخلافُ فيه.
وقد أنبأ اللهُ ملائكتَه أنه سيتخذه ويجعله في الأرض خليفةً يحمل أمانةَ العلم والاختيار والتكليف والمسئولية؛ نهوضاً برسالة عمرانها: (إِنّي جاعِلٌ فِي الأَرضِ خَليفَةً) [البقرة: 30]، (وَيَستَخلِفَكُم فِي الأَرضِ فَيَنظُرَ كَيفَ تَعمَلونَ) [الأعراف: 129]، (هُوَ أَنشَأَكُم مِنَ الأَرضِ وَاستَعمَرَكُم فيها) [هود: 61].
وهذا الاستخلافُ في الإنسان للأرض هو التعبير الأدق والأصدق: عن مكانة هذا الإنسان في هذا الوجود، وعن رسالته في هذه الحياة، وعن الإطار الإلهي الحاكم لمسيرة هذا الإنسان على هذه الأرض.
والذي يَستخلف إنساناً في أمر من الأمور لابد أن يحدد له هذا الأمر، ونطاقَ استخلافه فيه، والمعالم الأساسية التي يوصيه بالتزامها؛ كي تكون إطاراً لحريته وهو ينهض بمهام هذا الاستخلاف.
وعليه، تكون مكانةُ هذا الخليفةِ عندئذٍ وسطاً؛ لا تبلغ مكانةَ مَن استخلَفَه عُلُواً، ولا تهبط إلى درجة الذي لم يَحْظَ بالتوكيل والإنابة والاستخلاف في العجز والجبر والانخفاض.
وإنما هو الخليفةُ:
– ذو التفويض في عمارة الأرض.
– والحر المختار المُكَلَّف المسئول؛ لأن هذه هي الشروط والمقومات التي تُمَكنه من النهوض بمهام التكليف بعمارة الأرض.
– وأيضاً المحكومةُ حريتُهُ ببنود عقد وعهد الاستخلاف (أي الشريعة الإلهية التي تُمثل معالم وضوابط وحدود وآفاق هذه الإنابة وذلك الاستخلاف).
وهذا المعنى للاستخلاف يبتعد:
– عن مواقف “تأليه الإنسان” التي تجعل أبطاله آلهةً، كما يبتعد عن “أنسنة الإله” التي تَزعُمُ حلولَه وتجسُّدَه في الإنسان.
– وعن المواقف التي تنفي عن الإنسان أي حرية أو قدرة أو استطاعة فتراه “حقيراً فانياً” لا سبيل إلى خلاصه وتقدمه وارتقائه إلا بـ “الجبرية” و”الفناء في المطلق/ في ذات الله” (فهو غلو يُكَبِّلُ الإنسانَ ويُهَمشه).
وهذه النظرية الاستخلافية الإسلامية من أهم مصادر الأمن الاجتماعي لهذا الإنسان؛ لأنها تعني علاقةَ الانتماء للقدرة القاهرة والمُدَبِرة لهذا الوجود؛ وهي علاقةٌ لا تترك الإنسانَ وحدَه في مواجهة المخاطر والتحديات، على نحو ما هو حادثٌ للإنسان الذي ظنَّ أنه سيدُ الوجودِ، فافتقد الانتماءَ إلى القوة المُدَبرة الراعيةِ والمُوَجِّهةِ له أمام المجهول والغيب وما لا تستقل بإدراكه العقولُ أو تسبر أغوارَ كُنهِهِ تجاربُ الحواس.
إنَّ إيمانَ الخليفة:
– بمعالم الطريق التي حددها لمسيرته مَن استخلفه.
– وبرعايته له وتسديدِ خطواتِه.
هو انتماءٌ يُثمرُ أمناً، يَفتقر إليه ذلك الذي ظنَّ أنَّ فعلَ الخالق قد وقف عند حدود الخَلْق، وأنَّ الإنسانَ قد تُرك [وحدَه] في هذا الوجود.
كما يُثمرُ الموقفَ “الوسطَ العدلَ الحقَّ” في علاقة الإنسان بالثروات والأموال؛ فـ:
– هذه الثرواتُ والأموال هي خلقُ الله تعالى، أودَعَها في الطبيعة وأفاضها في الخليقة.
– وهو قد سَخَّرها – ضمن ما سَخَّرَ مِن قوى الطبيعة وطاقاتها- للإنسان الخليفةِ؛ ليرتفقَ بها ويستعينَ على أداء أمانة العمران والاستعمار للأرض؛ ارتفاقَ تسخيرٍ (بمعنى الأُخُوة) لا ارتفاقَ سُخرةٍ (بمعنى القهر والاستحواذ المطلق والتام).
– ووَفْقَ هذا، فإنَّ المالكَ الحقيقي (مالِك الرقبة) لهذه الأموال والثروات هو خالقُها وواهبُها ومُفضيها، اللهُ سبحانه .. وإنَّ للإنسان في هذه الأموال موقع وسلطة الخليفة؛ له فيها المِلكية المقيدة ببنود عقد وعهد الاستخلاف؛ له فيها المِلكية المجازية؛ مِلكية المنفعة وحيازة الاستثمار والتنمية والاستمتاع.
[وبعبارة أخرى، وَفْقَ هذا، فإنَّ] الإنسانَ ليس وحده مركزَ الكون، حتى يكون له (فرداً في الليبرالية الغربية، أو طبقةً في الشمولية الغربية) السلطانَ المطلقَ والحريةَ الكاملةَ في الأموال التي بحوزته؛ لأنَّ الإنسان – في الإسلام- خليفةٌ [مِن قِبَل] الله في عمارة الأرض، وجميع سلطانه وكل سلطاته مستمدةٌ من هذه الخلافة ومحكومةٌ بروح الشريعة الإلهية.
– وبما أنَّ الاستخلافَ هو للإنسان – مطلق الإنسان- ، فإنَّ هذه الحقوق الأخيرة المقررة هي لمجموع الإنسان؛ أي للأمة، وليست – فقط- لفردٍ أو لطبقةٍ أو لشريحةٍ من الناس.
– ووفق هذا كله، فإنَّ “حاملَ رسالة التقدم” ليس فرداً (فرعوناً أو قاروناً)، وليس طبقةً (برجوازيةً أو بروليتاريةً)، وإنما هو “الأمة”؛ لأنَّ الإسلامَ دينُ الجماعة؛ انطلاقاً من أنَّ الإنسانَ هو المستخلَف، وأنه مستخلَفٌ في عمارة الأرض، ومُستخلَفٌ – مِن ثم- في الثروات والأموال: (وَأَنفِقوا مِمّا جَعَلَكُم مُستَخلَفينَ فيهِ) [الحديد: 7].
– ولهذه الأبعاد الفلسفية لنظرية الاستخلاف، [وانطلاقاً منها]، جاء التعبير القرآني بمصطلح “الحق” لغير الحائزين لِمَا لدى الحائزين من أموال: (وَالَّذينَ في أَموالِهِمحقٌّ مَعْلُومٌ؛ لِلسّائِلِ وَالمَحرُومِ) [المعارج: 24- 25].
[وبعبارة أخرى]، القرآن الكريم لم يُهمل البرهنةَ على مشروعية المِلكية الفردية، وفي ذات الوقت أكد على استخلاف الجماعة/ الأمة في المال؛ فـ:
* أضاف كلمة “المال” إلى “ضمير الفرد” في سبع آيات: للتأكيد على حق ومشروعية الاختصاص والحيازة والملكية الفردية/ مِلكية المنفعة والاستثمار والاستمتاع بهذا المال، المحكوم بالطبع بفلسفة [وقيم] وضوابط الاستخلاف الإسلامي/ الشريعة الإسلامية؛ (وتلك الملكية: يَحُوزُها المرءُ بالعمل؛ تحقيقاً للكفاية، وتنميةً للثروة، وتطويراً للعمران).
* وأضافها إلى “ضمير الجمع” في سبع وأربعين آية: لِيُنَبهَ على أنَّ مال الأفراد هو في الحقيقة والنهاية مالُ الجماعة/ الأمة؛ كي لا يستأثر الإنسانُ بالمال وينفرد ويستغني، ولِيؤكدَ على أنَّ التكافلَ بين اعضاء الجسد الواحد – الأمة- هو طوقُ النجاة من تَحَوُّلِ المالِ وسلطانِه وجبروتِه إلى دُولةٍ بين قلةٍ من الاغنياء المُسْتَغْنين، فيقودهم ذلك – مع نظامهم الاجتماعي- إلى الطغيان والاستبداد، ومن ثم الهلاك.
* وأضافها إلى ذاته سبحانه في موضع واحد: للتذكير بأنه سبحانه هو الخالقُ لهذا المال والواهبُ لإياه .. بل إنَّ [التدبر] في هذه الآية تحديداً: (وَآتوهُم مِن مَالِ اللَّهِ الَّذي آتَاكُم) [النور: 33] يُجَسِّدُ لنا معنى هاماً، وهو أن المالَ مالُ الله، وهو قد آتاه حائزَه لِيُؤتِي منه أصحابَ الحقوق؛ فههنا الحائزُ “واسطةٌ”، والحيازةٌ “وظيفةٌ اجتماعية واقتصادية” لمصلحة المجموع.
فللإنسان مالٌ، ولكنه في ذات الوقتِ مالُ الأمة التي استخلفها اللهُ فيه.
– [ولهذه الأبعـاد كذلك] رأينا صورةَ الجماعةِ (= الأمة) في الرؤية الإسـلامية هي صـورة “الجسـد الواحـد”: تتعدد أعضاؤه، وتتفاوتُ فيه طاقاتُ وقدراتُ واحتياجاتُ هذه الأعضاء، ولكنْ مع وَحـدةِ الجسد وتكافلِ هذه الأعضـاء.. وعن هذه الصـورة – المتفاعلـة أعضـاؤها؛ المتكافلة أجـزاؤها- قال تعالى: (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُـم أُمَّـةً واحِـدَةً وَأَنا رَبُّكُم فَاعبُدونِ) [الأنبيـاء: 92]، (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُم أُمَّةً واحِدَةً وَأَنا رَبُّكُم فَاتَّقـونِ) [المؤمنـون: 52]، (مُحَمَّدٌ رَسـولُ اللَّهِ وَالَّذينَ مَعَـهُ أَشِدّاءُ عَلَى الكُفّـارِ رُحَماءُ بَينَهُم) [الفتح: 29] .. وقال رسوله rفي بيانٍ نبويٍّ لهذا البلاغ القرآني: “مَثَلُ المؤمنـين في توادهـم وتعاطفهـم وتراحمهم: مَثَلُ الجسـد الواحد؛ إذا اشتكـى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”(2).
وهذا “التكافل الاجتماعي الإسلامي” (الذي يمثل نظاماً، في سائر شئون المعاش، يُقيم علاقةَ “التفاعل” و”التضامن” و”الإعالـة” و”الرعاية” بين أعضاء الاجتماع الإنساني في أي مجتمع من المجتمعات) مُؤَسَّسٌ على قاعدةٍ إسلاميةٍ كليةٍ؛ قاعدةِ إرادةِ اللهِ سبحانه قيامَ التوازن والموازنة بين الأفراد والطبقات والشرائح والطوائف التي يتكون منها الاجتماعُ في الأمة؛ فكما يتحقق التوازن بين أعضاء الجسد الواحد (على تفاوتها في القَدْرِ، والقوة، والوظيفة، والحاجة) بـ “الحياة الواحدة” و”الوَحدة الحية” لهذا الجسد؛ فكذلك يتحقق التوازن بين أفراد الأمة وطبقاتها وشرائحها الاجتماعية بهذا “التكافل الاجتماعي” الذي يحقق “الوَحدة المتوازنة” بين مكونات المجتمع الإسلامي/ أعضاء الجسد الإسلامي.
إنَّ اللهَ سبحانه قد تفرد وحدَه بالوحدانية، وجميعُ مَن عداه وما سواه يقوم على التزاوج والتعددية، ولذلك كانت فلسفةُ الإسلام التي تتغيا إقامةَ العدلِ والعلاقات الصحيةِ بين الأزواج المتعددين في الميول والمصالح والأهداف والاحتياجات: هي التوازنُ والموازنةُ بين هذه الميول والمصالح والأهداف والاحتياجات، وتحقيقُ علاقة التكافل التي تقيم نسيجَ الاجتماع؛ حتى لا يسيرَ التناقضُ والتنافرُ بالأطراف مختلفةِ المصالح إلى الصراع والدمار.
فعدلُ الله هو الميزانُ الذي أنـزله سبحانه مع الكتاب؛ لتستقيمَ كلُّ شئون الاجتماع الإنساني: (اللَّهُ الَّذي أَنزَلَ الكِتابَ بِالحَقِّ وَالميزانَ) [الشورى: 17]، (وَأَنزَلنا مَعَهُمُ الكِتابَ وَالميزانَ لِيَقومَ النّاسُ بِالقِسطِ) [الحديد: 25].
و”التكافلُ الاجتماعي” في الثروات والأموال والمعاش هو “الصورةُ الاجتماعية الآمنةُ” لهذا “الميزان الإلهي” في علاقة الإنسان – الخليفة- بالثروات والأموال التي استخلفه اللهُ فيها .. وللواقع المتطور والمتغير أمرُ الاختيارِ والصياغة لـ “النُّظُم” التي تقترب بهذه الفلسفة من الحدود العليا [المستطاعة] للتحقيق والتطبيق.
* إنَّ الأرضَ جميعها (بما استَكَنَّ في باطنها، وما حَمَلت على ظاهرها) قد جعلها اللهُ سبحانه للأنام جميعاً: (وَالأَرضَ وَضَعَهـا لِلأَنامِ) [الرحمن 10]، (هُوَ الَّذي خَلَـقَ لَكُـم ما فِي الأَرضِ جَميعًا)[البقـرة: 29]، (وَسَخَّرَ لَكُم ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَرضِ جَميعًـا مِنهُ) [الجاثية: 13].
والمجموعُ (= الأمة) هم الخلفاءُ والمستخلَفون [مِن قِبَل] الله في ماله: (وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) [الحديد: 7]؛ لاحِظ ضمير الجَمْع.
واللهُ سبحانه هو الذي خَلَقَ المالَ وأفاضَه على خلقِهِ وأمدهم به ومَوَّلَهم إياه: (وَآتوهُم مِن مَالِ اللَّهِ الَّذي آتَاكُم) [النور: 33].
وكما لا يَتَصورُ إنسانٌ أن يمتلكَ الأبُ أبناءه فيتصرف فيهم كيف يشـاء، فكذلك لا يُتَصَـوَّر – وفق منطـق القـرآن الكريم- أن يمتلكَ الإنسانُ المالَ فيتصـرف فيه كيف يشاء؛ لأنَّ كُلاًّ من المال والبنين مَدَدٌ مـن الله أمَـدَّ بـه الإنسـانَ: (أَيَحسَبونَ أَنَّما نُمِدُّهُم بِهِ مِن مالٍ وَبَنينَنُسـارِعُ لَهُم فِي الخَيراتِ بَل لا يَشعُرونَ) [المؤمنون: 55- 56]، “(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً) [المدثر: 11- 13]، (ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) [الإسـراء: 6]، (يُرسـِلِ السَّماءَ عَلَيكُم مِدرارًا* وَيُمدِدكُم بِأَموالٍ وَبَنينَ)[نوح: 11- 12].
ثم يأتي النبي rليُزَكي ويُفَصل هذا الموقف القرآني، وليحدد ماذا للإنسان – كإنسان- في هذا المال الذي قرر القرآنُ الاستخلافَ العامَ للناس فيه: فيحدد أنَّ ما للإنسان هنا هو حاجته وكفايته، وفق العرف والمعروف، وفي الوسط المألوف، وليس ما فضل وزاد عن الحاجات والكفايات؛ مُمَيِّزاً بين المال على إطلاقه (والذي هو لله، استخلَفَ فيه الإنسانَ على إطلاقه) وبين المال الذي يَحُوزُهُ ويَختص به فردُ الإنسان (والذي يصح أن يقولَ عنه: هذا مالي) .. فيقول r: “يقولُ العبدُ: مالي، مالي! وإنَّ له مِن ماله ثلاثاً: ما أكلَ فأفنَى، أو لبس فأبلى، أو أعطَى فأقْنَى(3) (وفي رواية: ما تصدقَ فأمضَى)”(4).
كما أخبر النبي rأصحابه أن مالَ أحدهم هو حاجاته وكفاياته، أما ما سوى ذلك فهو مالُ وَرَثَتِهِ وليس مالَه، وإنَّ الذين يحرصون على ما زاد على الحاجات والكفايات إنما يُحِبُّون مالَ غيرِهم؛ لأنه القدر الزائد عن احتياجاتهم وكفاياتهم، يقول r: “أيكم مالُ وارِثِهِ أحب إليه من ماله؟!
قالوا: يا رسول الله، ما منا مِن أحدٍ إلا مالُهُ أحب إليه مِن مالِ وارِثِه.
فقال r: اعلموا أنه ليس منكم مِن أحدٍ إلا مال وارثِهِ أحب إليه من ماله؛ مالُكَ: ما قَدَّمْتَ، ومالُ وارِثِكَ ما أخَّرْتَ”(5)!
* إنَّ الإسلامَ عندما جعل الكفايات معياراً للحيازة، إنما كان يستهدف (مع تحقيق منفعة الأمن المعاشي للمجموع) تفاديَ ودفعَ المضارِّ والمخاطر التي تنشأ عن تركز ثروةِ اللهِ ومالِهِ (= ثروة الأمة ومالها) بيد قلةٍ من الأغنياء المستغنين؛ يتداولونها ويحتجزونها فيما بينهم؛ لأن في ذلك الفساد كل الفساد، في المادة والفكر، وفي الاجتماع والاقتصاد والسياسة، وفي الدنيا والدين.
إنَّ توزيعَ الثروات يجب أن يراعِي، أولاً وقبل كل شيء، كفايةَ الحاجات لمجموع الامة، وبعد ذلك يكونُ التفاوتُ في الحيازات؛ حتى لا يزدادَ غنى الأغنياءِ؛ فيصبحَ المالُ حكراً عليهم يتداولونه دُولةً بينهم: (مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسولِهِ مِن أَهلِ القُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسولِ وَلِذِي القُربى وَاليَتامى وَالمَساكينِ وَابنِ السَّبيلِ كَي لا يَكونَ دولَةً بَينَ الأَغنِياءِ مِنكُم وَما اتاكُمُ الرَّسولُ فَخُذوهُ وَما نَهاكُم عَنهُ فَانتَهوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَديدُ العِقابِ) [الحشر: 7].
وواحدةٌ مِن سنن الله سبحانه في الاجتماع البشري: أنَّ “الاستغناءَ والانفراد بالسلطان” (ومنه سلطان المال) إنما يُفضِي بالمُستغنِي والمُنفرِدِ إلى “الطغيان” الذي هو “بابُ انحلالِ وهلاكِ المجتمعات”: (كَلاَّ إِنَّ الإِنسانَ لَيَطْغَى* أَن رَاهُ استَغنى) [العلق: 6- 7].
وما ظاهرة “القارونية الكانـزة” و”الفرعونية الطاغية” إلا الثمرة المرة للاستغناء المنفرد بالسلطان في “المال” وفي “الدولة”.
فعندما رفضَ قارونُ أن يكون له في الكنوزِ التي آتاه اللهُ إياها مكانةَ الخليفة، واستغنى وانفرد واستبد بها، زاعماً أنه إنما امتلكها بعمله هو وحده: قاده ذلك إلى الطغيان الذي أفضى به إلى العقاب الإلهي (الهلاك): (إِنَّ قارونَ كانَ مِن قَومِ موسى فَبَغى عَلَيهِم وَاتَيناهُ مِنَ الكُنوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنوءُ بِالعُصبَةِ أُولِي القُوَّةِ إِذ قالَ لَهُ قَومُهُ لا تَفرَح إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الفَرِحينَ *وَابتَغِ فيما آتاكَ اللَّهُ الدّارَ الاخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصيبَكَ مِنَ الدُّنيا وَأَحسِن كَمَا أَحسَنَ اللَّهُ إِلَيكَ وَلا تَبغِ الفَسادَ فِي الأَرضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ المُفسِدينَ) [القصص: 76- 77].
رفض قارونُ مكانةَ الخليفة، ورفض بنودَ عقد وعهد الاستخلاف، وهي:
– (لا تَفرَح إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الفَرِحينَ)، ولكنه كان بَطِراً أشِراً بما أوتي من كنوز.
– (وَابتَغِ فيما آتاكَ اللَّهُ الدّارَ الاخِرَةَ)، حتى لا تكون [الحياة] الدنيا هي مبلغ همك من المال.
– (وَلا تَنسَ نَصيبَكَ مِنَ الدُّنيا)، فما لكَ في هذا المال هو “نصيبٌ” منه وليس جميعَه.
– (وَأَحسِن كَمَا أَحسَنَ اللَّهُ إِلَيكَ)، فاستخلافُ اللهِ لكَ في المال هو سبيلٌ، ووظيفةٌ اجتماعيةٌ، يَعْبُرُ بها المالُ إلى المستحقين فيه مِن عامةِ الخلفاء المستخلَفين [مِن قِبَلِ] اللهِ فيه.
– (وَلا تَبغِ الفَسادَ فِي الأَرضِ)، وذلك بسلطان المال؛ فهو ابتلاءٌ بالخير يَمتحنُ اللهُ به الإنسانَ: (وَنَبلوكُم بِالشَّرِّ وَالخَيرِ فِتنَةً وَإِلَينا تُرجَعونَ) [الأنبياء: 35].
سقط قارونُ في اختبار الابتلاء، ولم يُوف ببنود عهد وعقد الاستخلاف، بل ورفض مبدأ الاستخلاف؛ لِيُطلِقَ العنان للفردية والاستغناء والاحتكار، قائلاً: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي) [القصص: 78]، فكان أن استحقَّ الهلاكَ الذي هو النهايةُ الحتميةُ للمُترَفين المستبدين بما استُخلِفوا فيه من الثروات والأموال والكنوز، أفراداً كانوا أم مجتمعاتٍ: (أَوَلَم يَعلَم أَنَّ اللَّهَ قَد أَهلَكَ مِن قَبلِهِ مِنَ القُرونِ مَن هُوَ أَشَدُّ مِنهُ قُوَّةً وَأَكثَرُ جَمعًا وَلا يُسأَلُ عَن ذُنوبِهِمُ المُجرِمونَ[…] فَخَسَفنا بِهِ وَبِدارِهِ الأَرضَ فَما كانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرونَهُ مِن دونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنتَصِرينَ) [القصص: 78، 81].
ونفسُ السُّنة حكمت ظاهرة الاستبداد والاستغناء الفرعوني بسلطان الحُكم والدولة:
فلقد استبد فرعونُ بالمُلك: (وَنَادَى فِرعَونُ في قَومِهِ قالَ يا قَومِ أَلَيسَ لي مُلكُ مِصرَ وَهذِهِ الأَنهارُ تَجري مِن تَحتي أَفَلا تُبصِرونَ؟!) [الزخرف: 51].
وتمادى في هذا الاستبداد، واستبد بسلطان الرأي والقرار والسياسة: (فَاستَخَفَّ قَومَهُ فَأَطاعوهُ إِنَّهُم كانوا قَومًا فاسِقينَ) [الزخرف: 54]، (قالَ فِرعَونُ ما أُريكُم إِلاَّ ما أَرى وَما أَهديكُم إِلاَّ سَبيلَ الرَّشادِ) [غافر: 29].
فكان أن أفضَى ذلك كله به وبقومه إلى الهَلَكة: (فَانتَقَمنا مِنهُم فَأَغرَقناهُم فِي اليَمِّ بِأَنَّهُم كَذَّبوا بِاياتِنا وَكانوا عَنها غافِلينَ) [الأعراف: 136].
* ولقد استخدمَ القرآن الكريم قصص الأولين ليؤكدَ على أنَّ هذه السنة فاعلةٌ دائماً وأبداً، عبر الزمان والمكان؛ وذلك لِيُعَلِّمَ المسلمين (وهم الأمة الخاتمة) أنَّ تشريفَهم بالشريعة الخاتمة لا يُنجِيهم من عمل هذه السنة الإلهية: (لَيسَ بِأَمانِيِّكُم وَلا أَمانِيِّ أَهلِ الكِتابِ مَن يَعمَل سوءًا يُجزَ بِهِ وَلا يَجِد لَهُ مِن دونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصيرًا) [النساء: 123].
فعلى مر التاريخ، الذين احتازوا الثروات واحتكروا الأموال: أفضَى بهم ذلك إلى الطغيان الذي جعلهم المناوئين لرسل الله ورسالات السماء: (قالَ نوحٌ رَبِّ إِنَّهُم عَصَوني وَاتَّبَعوا مَن لَم يَزِدهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسارًا) [نوح: 21].
وفي قوم شعيب uكان دعاةُ الشرك هم الأثرياء المستمسكون بحريتهم المطلقة؛ فيَحتكرون ويحتازون: (قالوا يا شُعَيبُ أَصَلاتُكَ تَأمُرُكَ أَن نَترُكَ ما يَعبُدُ اباؤُنا أَو أَن نَفعَلَ في أَموالِنا ما نَشاءُ؟!) [هود 87].
وكما قاد الاستبدادُ بالمالِ قارونَ إلى الطغيان الذي جعله يتحلل – في علاقته بالمال- من بنود عقد وعهد الاستخلاف؛ فلم يَقنَع بـ “نصيبه” من الدنيا، وإنما انغمس في زينة [الحياة] الدنيا؛ فكان من المُترَفين = يعلمنا القرآنُ الكريم أنَّ هذا الترفَ (الذي يُفضي إليه – غالباً- الاستبدادُ بالثروات والأموال) هو الطريقُ المُفضِي إلى تراجع وتحلل وانهيار المجتمعات والحضارات، سنةً من سنن الله في الاجتماع الحضاري والعمران الإنساني؛ فانهيارُ وهلاك وتحلل القرى والأوطان والمجتمعات والحضارات وإبادتها: لابد مقتَرِنٌ بسيطرة المُترَفين من أبنائها: (وَإِذا أَرَدنا أَن نُهلِكَ قَريَةً أَمَرنا مُترَفيها فَفَسَقوا فيها فَحَقَّ عَلَيهَا القَولُ فَدَمَّرناها تَدميرًا) [الإسراء: 16]، وفي بعض القراءات: “أمَّرْنا” بتشديد الميم المفتوحة؛ أي جعلنا هؤلاء المُترَفين، المستبدين بسلطان المال، أمراءَ؛ أي مستبدين بسلطان الحُكم أيضاً ! .. ذلك أنَّ المُترَفين كانوا دائماً هم المناوئين لرسل الله ورسالات السماء التي تأتي [دوماً] بالتجديد والإنهاض والأمن للاجتماع الحضاري في الأمم والشعوب، بل لقد بَلَغت هذه المناوأةُ مبلغَ السنة/ القانون: (وَما أَرسَلنا في قَريَةٍ مِن نَذيرٍ إِلاَّ قالَ مُترَفوها إِنّا بِما أُرسِلتُم بِهِ كافِرونَوَقالوا نَحنُ أَكثَرُ أَموالًا وَأَولادًا وَما نَحنُ بِمُعَذَّبينَ) [سبأ: 34- 35]، (وَقالَ المَلأُ مِن قَومِهِ الَّذينَ كَفَروا وَكَذَّبوا بِلِقاءِ الاخِرَةِ وَأَترَفناهُم فِي الحَياةِ الدُّنيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثلُكُم يَأكُلُ مِمّا تَأكُلونَ مِنهُ وَيَشرَبُ مِمّا تَشرَبونَوَلَئِن أَطَعتُم بَشَرًا مِثلَكُم إِنَّكُم إِذًا لَخاسِرونَ) [المؤمنون: 33- 34].
كما أنَّ المُترَفين – عادةً- هم أعداءُ التجدد الحضاري، وأنصارُ الجمود على البالي والتقليد الذي يُكَرس الواقعَ الظالمَ: (وَكَذلِكَ ما أَرسَلنا مِن قَبلِكَ في قَريَةٍ مِن نَذيرٍ إِلّا قالَ مُترَفوها إِنّا وَجَدنا اباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنّا عَلى اثارِهِم مُقتَدونَ) [الزخرف: 23].
وعندما يَجعلُ الترفُ من أهله عائقاً أمام التجدد الحضاري والنهوض العمراني: فإنه يمثل “جريمةً” في حق “الاجتماع الإنساني”، فضلاً عن أنَّ ممارسات أهله الحياتية حافلةٌ بألوانٍ كثيرةٍ من الأفعال التي يتعدون بها الحدودَ؛ فللترف سلطانٌ وسلطةٌ على أهله؛ تجعله قوةً تَقُودُ الذين ظلموا أنفُسَهم به إلى مواقع الإجرام والمجرمين: (وَاتَّبَعَ الَّذينَ ظَلَموا ما أُترِفوا فيهِ وَكانوا مُجرِمينَ) [هود: 116].
بل إنَّ منهم مَن اعتقـد أحقيته، بعد احتكار الثروة، في احتكار النبوة والرسالة أيضاً: (وَقالـوا لَولا نُزِّلَ هـذَا القُـرانُ عَلـى رَجُـلٍ مِنَ القَريَتَينِ عَظيمٍ* أَهُم يَقسِمونَ رَحمَتَ رَبِّكَ؟!) [الزخرف: 31- 32].
كما اعتقدوا أحقيتهم، بعد احتكار المال، في احتكار المُلك؛ جمعاً للاستبداد بسلطان المال وسلطان الحُكم معاً: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَد بَعَثَ لَكُم طالوتَ مَلِكًا قالوا أَنّى يَكونُ لَهُ المُلكُ عَلَينا وَنَحنُ أَحَقُّ بِالمُلكِ مِنهُ وَلَم يُؤتَ سَعَةً مِنَ المالِ؟!) [البقرة: 247].
فالمُترَفون يُحِلُّـون الخـوفَ محلَّ الأمنِ على المعـاش، ولا تقف آثار هذا الـترف المُدَمـرةِ عـند ذوات المُترَفين، وإنما تكتسح هذه الآثار المدمرةُ أيضاً [المجتمعَ كلَّه]: (وَاتَّقوا فِتنَـةً لا تُصيبَـنَّ الَّذينَ ظَلَمـوا مِنكُم خاصَّـةً) [الأنفـال: 25]، (وَكَم قَصَمنا مِن قَريَةٍ كانَت ظالِمَةً وَأَنشَـأنا بَعدَهـا قَومًـا آخَرينَ *فَلَمّا أَحَسّوا بَأسَنا إِذا هُم مِنها يَركُضونَ *لا تَركُضوا وَارجِعـوا إِلى ما أُترِفتُم فيهِ وَمَساكِنِكُم لَعَلَّكُم تُسأَلونَ *قالوا يا وَيلَنا إِنّا كُنّا ظالِمـينَ *فَمـا زالَت تِلكَ دَعواهُم حَتّى جَعَلناهُم حَصيدًا خامِدينَ) [الأنبياء: 11- 15]، (حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ [..]قَد كانَت آياتي تُتلى عَلَيكُم فَكُنتُم عَلى أَعقابِكُم تَنكِصونَ *مُستَكبِرينَ بِهِ سامِرًا تَهجُرونَ) [المؤمنون: 64، 66- 67]، (وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ *في سَمومٍ وَحَميمٍ *وَظِلٍّ مِن يَحمومٍ * لا بارِدٍ وَلا كَريمٍ *إِنَّهُم كانوا قَبلَ ذلِكَ مُترَفينَ) [الواقعة: 41- 45]، (وَأَمّا مَن بَخِلَ وَاستَغنى *وَكَذَّبَ بِالحُسنى *فَسَنُيَسِّرُهُ لِليُسرى *وَما يُغني عَنهُ مالُهُ إِذا تَرَدّى) [الليل: 8- 11]، (أَنا أَكثَرُ مِنكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا* وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَن تَبيدَ هذِهِ أَبَدًا *وَما أَظُنُّ السّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِن رُدِدتُ إِلى رَبّي لأَجِدَنَّ خَيرًا مِنها مُنقَلَبًا) [الكهف: 34- 36]، (يا لَيتَها كانَتِ القاضِيَةَ* ما أَغنى عَنّي مالِيَه* هَلَكَ عَنّي سُلطانِيَه) [الحاقة: 27- 29]، (ما أَغنى عَنهُ مالُهُ وَما كَسَبَ* سَيَصلى نارًا ذاتَ لَهَبٍ) [المسد 2- 3]، (وَيلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ *الَّذي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ* يَحسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخلَدَهُ* كَلّا لَيُنبَذَنَّ فِي الحُطَمَةِ) [الهمزة 1- 4].
وفي السنة النبوية المشرفة وُصِفَ فرعونُ (الذي استبد بسلطان المال والحُكم) بأنه “جبارٌ مُترَفٌ”(6).
ويقول أبو ذر الغفاري t: جئتُ إلى النبي rوهو جالسٌ في ظل الكعبة، فلما رآني مُقبِلاً قال: هم الأخسرون ورب الكعبة.
قلتُ: مَن هم، فداكَ أبي وأمي؟!
فقال r: الأكثرون أموالاً، إلا مَن قال هكذا وهكذا وهكذا [مِن بين يديه ومِن خلفه وعن يمينه وعن شماله]، وقليلٌ ما هم”(7)! .. أي إلا الذين أنفقوا عن يمينهم وشمالهم ومِن أمامهم ومِن خلفهم؛ فعَمَّموا في الناسِ ما زاد عن حاجاتهم [وكفاياتهم].
وقال بعضُ الصحابة: بينما نحن في سفر مع النبي r، إذ جاء رجل على راحلةٍ له [..] فقال r: “مَن كان له فضْلُ ظَهْرٍ (أي ركوبة) فليَعُدْ به على مَن لا ظهر له، ومَن كان له فضلٌ مِن زادٍ فليَعُدْ به على مَن لا زادَ له .. وذَكَرَ رسولُ الله rمن أصناف المال ما ذَكَرَ، حتى رأينا أنه لا حقَّ لأحد منا في فَضْلٍ”(8).
* وهذا الموقفُ الإسلامي لا يعني تحبيذَ الفقر والحاجة والمسكنة، ولا حرمانَ الإنسانِ من الحيازة للمال والتملك للثروات والاختصاص بها وفيها، وإنما هو:
– يَنْهَى عن “الكنـز” الذي يَحبس المالَ عن “النفع العام” لمجموع الأمة.
– ويدعو إلى الاختصاص بما يكفل كفاية الحاجات، وإلى إنفاق ما زاد على كفاية الحاجات؛ إنفاقاً لا يقف عند الصدقات كما قد يتوهم البعضُ، وإنما هو الإنفاقُ الذي يُوَظِّفُ ما زاد عن كفاية الحاجات في “مصالح مجموع الأمة” على أي وجه من أوجه الاستثمار المشروعة.
فالكَنـز، والاستئثارُ بالمال، والاستغناء المستبد بالثروة، هو المنهي عنه.
وأما الغِنَى الذي يحقق كفايةَ الحاجات، فهو “مقصدٌ شرعي” وليس مجردَ “مباحٍ”(9).
[وأمَّا] إنفاقُ ما زاد عن الغِنَى (الذي يُغنِى عن الحاجة)، بتوظيفه واستثماره في مصالح الامة وتنمية عمران الجماعة، والانتقال بذوي الحاجة والعوز إلى مرتبة اليُسر في الضرورات، فالحاجات .. فذلك هو المعنى الإسلامي لإنفاق “العفو” (أي إنفاق ما زاد عن كفاية الحاجات) الذي تحدثت عنه الآيات الكريمة: (وَيَسأَلونَكَ ماذا يُنفِقونَ قُلِ العَفوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الاياتِ لَعَلَّكُم تَتَفَكَّرونَ) [البقرة: 219] .. أي: أنفِقُوا ما فضل عن حوائجكم، ولم تُؤذُوا فيه أنفُسَكم فتكونوا عالةً.
أمَّا الاستبدادُ والاستغناء والانفرادُ بالمال والثروة فإنه هو “الكَنـز” الذي تحدثت عنه الآية الكريمة: (وَالَّذينَ يَكنِزونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلا يُنفِقونَها في سَبيلِ اللَّهِ فَبَشِّرهُم بِعَذابٍ أَليمٍ* يَومَ يُحمى عَلَيها في نارِ جَهَنَّمَ فَتُكوى بِها جِباهُهُم وَجُنوبُهُم وَظُهورُهُم هذا ما كَنَزتُم لأَنفُسِكُم فَذوقوا ما كُنتُم تَكنِزونَ)[التوبة: 34- 35].
وكما يكون الكَنـز – المُحَرَّم والمنهي عنه- بحبسِ المال واحتجازه عن سائر وجوه الإنفاق والاستثمار، فإنه يكون كذلك مُحَرماً ومنهياً عنه إذا كان إنفاقُهُ في غير “سبيل الله” و”مصالح الأمة”، وذلك باستثماره فيما لا ينفع الأمةَ، فضلاً عن استثماره فيما يضرها، سواءٌ أكان ذلك الاستثمارُ في ديار الإسلام أم خارجها .. فإنفاقُ واستثمار “العفو” الزائد عن كفاية الحاجات لابد وأن يكون “في سبيل الله”؛ أي في عمران الأمة القائمة على سبيل الله.
* وبـ “عقد المؤاخاة”، بدأت تنظيمات الأمن الاجتماعي لأمور المعاش في دولة المسلمين عقب الهجرة النبوية إلى المدينة، وقد مَثَّلَ هذا العقدُ تعاقداً اجتماعياً واقعياً وحقيقياً بين المهاجرين والأنصار، لا عقداً وهمياً أو نظرياً أو مفترضاً وفقط.
فآخَى الرسولُ rبين المهاجرين بعضهم مع بعض، ثم آخَى بينهم وبين الأنصار.
وأشرَكَت المؤاخاةُ المهاجرين (وهم قد أُجبِروا على الخروج من ديارهم وأموالهم؛ نجاةً بعقيدتهم وحفاظاً على إيمانهم من الفتنة في الدين التي فرضها عليهم المشركون) مع الأنصار (الذين يعيشون في وطنهم وبين أموالهم)، وأقامَ هذا التنظيمُ الجديدُ حقوقاً للمهاجرين في أموال الأنصار تُساوِي حقوقَ الذين تَجمعهم معاملات الأرحام والأنساب؛ حيث كانت هذه “المؤاخاةُ” عقداً اجتماعياً “اشترك” فيه وبه “المتآخُون” في ثلاثة أشياء:
– في “الحق”: أي التناصر والتآزر في الجانب الروحي والمعنوي للبناء الجديد الذي مَثَّلته الأمة الجديدة [ومجتمعُها] ودولتها الوليدة.
– وفي “المؤاساة”: أي المساواة(10) والتوازن الاجتماعي والاشتراك والمشاركة والمساهمة في المعاش والرزق ومصادر العيش من الثروات والأموال والعقارات وما في حُكمها.
– وفي “التوارث”: كما يتوارث ذوو القربى والأرحام؛ لأن هذه المؤاخاة قد مَثَّلت نسباً وصهراً بين المتآخين.
ثم شَرَّع القرآنُ تشريعاً جديداً يُخصصُ التوارثَ في ذوي الأرحام، فبقيَ البندان [النبويان] الأولان في عقد المؤاخاة.
* كما كان الرسول rعندما يَخرج [للقتال]، ويرى حاجة الناس الماسة، [يُطَبِّق من فوره ويُفَعل مبادئ العدالة الاجتماعية]، يقول بعضُ الصحابة y: “خَرَجنا مع رسول الله rفي غزوة، فأصابنا جهد حتى هممنا أن ننحِرَ بعضَ ظَهْرِنا (أي الدواب التي تحملهم في السفر ويحاربون بها في القتال)، فأَمَرَ نبيُّ الله فَجَمَعْنا مَزاوِدَنا، فبَسَطْنا له نِطعاً، فاجتمعَ زادُ القومِ على النطع، فقال .. ونحن أربع عشرة مائة (= ألف وأربعمائة) .. فأكلنا حتى شبعنا جميعاً، ثم حشونا جُرُبَنا”(11).
* كما استنفرَ الإسلامُ في الإنسان طاقات وملكات العمل؛ لتنمية موارد الثروة والغِنَى؛ مستعيناً بحَفْزِ فطرةِ التملك والحيازة والاختصاص في هذا الإنسان؛ فـ:
– أشارت آيات القرآن الكريم إلى “العمل”، وقَرَنته بـ “الإيمان”، وتحدثت عن أنَّ للناس فقط رؤوسَ أموالهم، أما ذلك المال – الربا- الذي يُثمره المالُ دون عملٍ: فهو مُحَرَّمٌ، يجب إسقاطُهُ، وبأثر رجعي .. إنه كَسْبٌ حرامٌ؛ لأنه لم يأت ثمرةً لـ “العمل في تنمية المال”، فحَرَّمه القرآن وأسقط – كما قلنا- التزاماتِه بأثرٍ رجعي (على غير عادته في الأثر الرجعي للعقوبة)(12).
فتحريمُ الربا (وهو المالُ الناشئُ عن مالٍ دون عمل) يَقطع بأنَّ الفلسفة الاجتماعية للإسلام إنما تنحازُ إلى “العمل” معياراً يُعطِي الأشياءَ حقيقةَ ومعظمَ قيمَتِها، فـ “العمل” هو الأساس في الكسب، وعليه المعول الأكبر في التمايز والامتياز.
إن تحريمَ الإسلام للربا قائمٌ على دعامتين أساسيتين: (أولهما) منع الظلم، (والثانية) تحريم التجارة في النقود؛ والتي أفضت إلى تعميم الظلم على النطاق العالمي المعاصر بعد أن كان الظلمُ فردياً في النظام الربوي القديم.
إنَّ التجارةَ في النقد بدلاً من توظيفه ليكون بدلاً من السلع والخدمات هي “المقصلة” التي تهدد رقابَ العالَم اليوم (لأن تلك التجارة هي لازمةٌ من لوازم النظام الرأسمالي)، في حين أن الفلسفة المالية والنقدية الإسلامية قائمة على قاعدة أنَّ النقودَ ليست سلعةً يُتاجَرُ بها لِتُدِرَّ الأموال؛ لأنَّ المالَ لا يلد مالاً دون عملٍ؛ لأنَّ النقودَ ما هي إلا بدلٌ للمنافع والسلع والخدمات، ولأنَّ العملَ والإنتاجَ هما مصدر الربح، وليست التجارة في النقود.
[وبعبارة أخرى]، إنَّ النقودَ إنما جُعلت وسيلةً لتقويم (أي بدلاً لـ) السلع والمنافع والأموال، وإنَّ التجارةَ في النقود هي ككنـزها سواء بسواء؛ لأنه يُخرِجُها عن الحكمةِ منها، ويؤدي إلى كنـزها في يد المتاجرين بها؛ وهو ظُلمٌ وكفرٌ للنعمةِ وخروجٌ عن الحكمة.
[وبعبارة ثالثة]، الاتجارُ في النقود مُحَرَّمٌ؛ لأن المالَ لا يَلِد مالاً دون عملٍ، ولأنَّ وظيفةَ النقودِ هي أن تكون وسيطاً تُقَوَّمُ به المنافع، وليس أن تكون النقودُ سلعةً في ذاتها، وتلك هي فلسفة تحريم الربا في الإسلام.
– وكانت “سياسة”: “مَن أحيا أرضاً ميتةً فهي له”(13).. “واللهِ لأنْ يأخذ أحدكم حبلاً فينطلق إلى هذا الجبل، فيحتطب من الحطب، ويبيعه، ويستغني به عن الناس، خيرٌ له من أن يسأل الناسَ، أعطوه أو منعوه”(14).. فالعملُ لتنمية الثروة هو سبيلُ الحيازة وطريقُ الغِنَى.
* كما ضبط الإسلامُ آفاق الحيازة والمِلكية والاختصاص؛ حتى لا تُفضِي إلى الاحتكار والاكتناز لِمَا فوقَ كفاية الحاجات: “مَن كانت له أرضٌ فليزرعها، فإن لم يستطع أن يزرعها وعجز عنها: فليمنحها أخاه المسلم، ولا يؤجرها إياه، ولا يُكْرِها”(15).
ولهذا، عندما أراد بلالُ بن الحارث tالاحتفاظَ بأرضٍ تَزيدُ عن طاقة عمله في إحيائها (كان قد أقطَعَه إياها الرسول الحبيب): رَفَضَ ذلك عمر بن الخطاب الذي قال: “إنَّ رسولَ الله لم يُقطِعْكَ لِتَحجِزَهُ عن الناس، وإنما أقطَعَكَ لتعمل، فخذ منها ما قدرت على عمارته، ورُد الباقي”!
* كما نَبَّهَ الإسلامُ إلى وجوب “الاشتراك” في “المصادر الأساسية لثروة الأمة والمجتمع”؛ كي لا تكون دُولةً بين قلةٍ تحتجزها عن جموع الذين استخلَفَهم اللهُ فيها .. [تدبر قولَه r]: “إنَّ الناسَ شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار”(16)؛ حيث كانت هذه من أهم مصادر “ثروة المجتمع” في ذلك الحين وذلك المكان.
* كما غَدَت “الزكاةُ”، في المدينة المنورة، مؤسسةً للأمن الاجتماعي في أمور المعاش؛ فهي تُجبَى، بواسطة الدولة، من سائر ألوان الثروات الموظفة في الاستثمار (مما تُخرِجُ الأرضُ من زروعٍ، ومن عُروض التجارة، ومن النقدين الذهب والفضة، ومن الثروات المُدَّخَرة من الذهب والاحجار الكريمة والمعادن النفيسة المحبوسة لغير الاستعمال في الزينة المشروعة .. إلخ).
* و”زكاة الرِّكاز” التي تُؤخَذُ من جميع الثروات والمعادن والمواد الأولية والخام المركوزة في باطن الأرض؛ لِتُوَظَّفَ وتُستَثمَرَ في تحقيق الأمن الاجتماعي لمعايش الناس.
* و”الحِمَى”، وهو الأرضُ والعقارات ومصادر الثروة التي تصطفيها الدولةُ – المستخلَفَة عن الأمة- لتَرصُدَهُ في وجوه النفع العام ولتحققَ منه كفايةَ حاجات المحتاجين.، ومِن ثم لا تجوزُ حيازته للأفراد والمِلكية الخاصة؛ أي أنها “مؤسسةٌ عامةٌ” لتمويل وجوه “الإنفاق العام”.
* و”الوقف” الذي هو اصطفاء الفرد أو الأفراد ما يصطفون من أموالهم، فيُخرجونها من “مِلكيتهم المجازية” ويَرُدُّونها إلى “مالِكها الحقيقي”، الله سبحانه؛ لتكونَ محبوسةً وموقوفةً على الجماعة/ الأمة المُستخلَفة في الأموال، تُنفَقُ ثمراتُها في تأمين حاجات الأمة وتحقيق العدل بين أبنائها.
حتى لقد توسع الوقفُ في تاريخ وحضارة المسلمين، فشمل: المساجد .. والمدارس .. والمكتبات .. ونسخ المخطوطات .. والحفاظ على التحف والآثار .. وإقامة الخوانق لمريدي التصوف .. وإنشاء المكاتب لتحفيظ القرآن .. وإقامة البيمارستانات/ المستشفيات .. ورصف الطرق وإنشاء الجسور والقناطر والرياحات .. وتحرير الأسرى بافتدائهم بالأموال .. ورعاية أبناء السبيل حتى يعودوا إلى المنازل والديار .. والمعاونة على أداء فريضة الحج .. وتجهيز الحُلي وأدوات الزينة للعرائس الفقيرات .. ورعاية النساء الغاضبات اللائي لا أُسَرَ لهن أو مَن كانت أُسَرهن في بلاد بعيدة .. وعمارة الرباطات في الثغور للمجاهدين المقاتلين في سبيل الله .. وإعانة العميان والمُقعَدين وذوي الأمراض المزمنة والأيتام والفقراء والمحبوسين وكفالة عائلاتهم .. وتسليف المحتاجين.. وتزويج المحتاجين.. وتسديد ديون المُعسِرين.. وتطبيب الحيوانات والطيور.. وإيواء ورعاية الطيور والحيوانات الأليفة.. وتجهيز الموتى.. وبناء مقابر الصدقة.. والإنفاق على الحرمين الشريفين.. وإقامة أسواق تجارية ومؤسسات صناعية وأفران وحمامات عامة وأسبلة وعَبَّارات.. إلخ.
* و”البر والإحسان والصدقات” التي فاضت بالحض عليها والترغيب فيها آيات القرآن الكريم وأحاديث السنة المشرفة.
* فإذا صعدت المخاطرُ على الأمن الاجتماعي في أمور المعاش مِن الافتقار إلى “الحاجات” فَغَدَت افتقاراً إلى “الضرورات” بالنسبة لفردٍ من الأمة (نعم، حتى الفرد الواحد): انتفت شرعية أي حيازة أو مِلكية أو اختصاص عن أي مالِكٍ أو حائزٍ من الأمة جمعاء، فإذا جاع مسلمٌ فلا مالَ لأحدٍ: “وأيما أهل عرصة (أي قرية أو محلة أو حي) أصبح فيهم امرؤ جائعاً، فقد بَرئت منهم ذمة الله تعالى”(17)؛ وذلك لأنَّ الله فرض في أموال الأغنياء – كما قال علي بن أبي طالب- أقواتَ الفقراء؛ فما جاع فقيرٌ إلا بما مُتِّعَ به غني.
[وقد صدق] ابن حزم [حين] قال: “وفَرْضٌ على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويُجبرهم السلطانُ على ذلك إنْ لم تَقُم الزكوات بهم، ولا فَيْءُ أموال المسلمين، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لابد منه، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يُكِنهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة.. وللمسلم أن يقاتل للحصول على الطعام الذي يمنعه من أكل الميتة او لحم الخنـزير، فإن قُتِلَ: فعلى قاتِلِه القَوَد (= الدية)، وإن قُتِلَ المانعُ: فإلى لعنةِ اللهِ؛ لأنه مَنَع حقاً، وهو طائفةٌ باغيةٌ؛ ومانعُ الحقِّ باغٍ على أخيه الذي له الحق”.
فالمالُ – كما قال عمر بن عبد العزيز بحق- نَهرٌ أعظم، والناسُ شِربُهُم (= نصيبُهم) فيه سواءٌ.
وما لم يتحقق الأمنُ الاجتماعي على الضرورات والحاجيات، فلا انتظامَ لأمر الدنيا، ومن ثم لا انتظامَ لأمر الدين.
* وما كان يمكن للفكر الاجتماعي الإسلامي إلا أن يكون هكذا؛ فـ “العدل” اسمٌ من أسماء الله الحسنى، واللهُ هو الذي أنـزلَ “الميزانَ” كما أنـزل “الكتابَ”، و”العملُ” في القرآن مقترنٌ دائماً بـ “الإيمان”.
* [وبناءً على كل هذا الذي سبق بيانُهُ وبَسْطُهُ، نقول]:
– يتضح مما سبق أنَّ الإسلامَ لم يضع للاقتصاد “نظاماً تفصيلياً”، وإنما وقف عند “المبادئ” المتعلقة بالثوابت والمقاصد والفلسفات، ثم ترك لأهل كل زمان ومكان وضعَ القوانين والنظم والتنظيمات المُفَصَّلة؛ وذلك بالاجتهاد الذي يسعى لإبداع هذه القوانين والنظم كي تحقق مصلحة الأمة في إطار “المبادئ” الإسلامية وضوئها وروحها، فلا انفلاتَ من “الحاكمية الإلهية”، ولا إلغاءَ لـ “الحاكمية البشرية”، كما هو حالُ الإسلام دوماً في كل الميادين.
[وبعبارة أخرى]، على الاجتهاد الإسلامي أن يَصُوغَ القوانينَ والنُّظُمَ التي تُفَصِّل هذه المبادئ وَفقَ ظروف الواقع والمراحل التاريخية التي تتعاقب على الإنسان والثروة القومية ودرجة المجتمع في سُلَّمِ الوفرةِ والرخاء.
– [كما يتضح] أننا لا ندرس الاقتصادَ باعتباره “العلم الذي يبحث مشكلات التوفيق بين الموارد المحدودة وحاجات الإنسان غير المحدودة والمتفاوتة في الأهمية”.. وإنما ندرسه باعتباره “علم تدبير إشباع وكفاية الاحتياجات، في ضوء الموارد، وعلى ضوء وفي إطار السنن الإلهية والضوابط الشرعية والمبادئ والكليات [والقيم] الإسلامية”.. وبهذا تُقامُ دراسةُ الاقتصاد على ساقين، وتُستَقَى معارفه من مصدرين؛ كتابِ الوجودِ (الموارد والاحتياجات)، وكتابِ الوحي (الفلسفة الإسلامية في الأموال).. وبهذا تتحقق “الإسلامية” لـ “المعرفة الاقتصادية وتطبيقاتها” على النحو الذي يميزها عن نظيرتها في الفلسفات والمناهج المادية والوضعية.
وإنَّ حال نبي الله شعيب uمع قومه لهو نموذجٌ لهذا الذي نقول .. فشعيب كان [يدعو] إلى أنَّ التوحيدَ والإيمانَ والصلاةَ والشعائر يقتضي ضوابطَ للسلوك الإنساني في الاقتصاد والمعاملات المالية (مثل: توفية المكاييل والموازين بالقسط/ العدل، والامتناع عن بخس الناس أشياءهم، والحذر من الإفساد في الأرض .. إلخ) .. أما قومُهُ، الذين عَصَوه، فإنهم رفضوا [إقامةَ] الربطِ والعلاقةِ بين [التدين لله] وبين المعاملات المالية والاقتصادية .. فهو يريد اقتصاداً مضبوطاً بضوابط الدين، بينما هم يريدون الفصلَ بين الدين والاقتصاد .. هو يريد “إسلامية الاقتصاد” وهم يريدون “تحرير الاقتصاد من العلاقة بالإسلام”: (يا قَومِ اعبُدُوا اللَّهَ ما لَكُم مِن إِلهٍ غَيرُهُ وَلا تَنقُصُوا المِكيالَ وَالميزانَ إِنّي أَراكُم بِخَيرٍ وَإِنّي أَخافُ عَلَيكُم عَذابَ يَومٍ مُحيطٍ* وَيا قَومِ أَوفُوا المِكيالَ وَالميزانَ بِالقِسطِ وَلا تَبخَسُوا النّاسَ أَشياءَهُم وَلا تَعثَوا فِي الأَرضِ مُفسِدينَ* بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيرٌ لَكُم إِن كُنتُم مُؤمِنينَ وَما أَنا عَلَيكُم بِحَفيظٍ) [هود: 84- 86] .. (يا شُعَيبُ أَصَلاتُكَ تَأمُرُكَ أَن نَترُكَ ما يَعبُدُ اباؤُنا أَو أَن نَفعَلَ في أَموالِنا ما نَشاءُ إِنَّكَ لَأَنتَ الحَليمُ الرَّشيدُ) [هود: 87] .. (قالَ يا قَومِ أَرَأَيتُم إِن كُنتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبّي وَرَزَقَني مِنهُ رِزقًا حَسَنًا وَما أُريدُ أَن أُخالِفَكُم إِلى ما أَنهاكُم عَنهُ إِن أُريدُ إِلاَّ الإِصلاحَ مَا استَطَعتُ وَما تَوفيقي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيهِ تَوَكَّلتُ وَإِلَيهِ أُنيبُ* وَيا قَومِ لا يَجرِمَنَّكُم شِقاقي أَن يُصيبَكُم مِثلُ ما أَصابَ قَومَ نوحٍ أَو قَومَ هودٍ أَو قَومَ صالِحٍ وَما قَومُ لوطٍ مِنكُم بِبَعيدٍ) [هود: 88- 89].
– [وإذا تأملتَ ما سبق كذلك، اتضح لك] أنَّ العقلية الاقتصادية الإسلامية إنما تقومُ، [ضمن ما تقوم]، على عدة مبادئ/ قيم، [منها]:
* قيمة “القناعة” (أي إمكانية تناهي الاحتياجات المادية للإنسان)، وهي قيمةٌ تحقق التوازن بين [المتطلبات الروحية] والمتطلبات المادية للإنسان، وتُهَذب [غلواءَ الشهوات].
* ومبدأ “أنَّ كلَّ ما يَحتاج إليه الناسُ ينبغي أن يُنتَج” (وذلك انطلاقاً من الاقتصاد المعياري لا الوضعي)، وليس المبدأ الغربي القائل بـ “أنَّ ما يتم إنتاجه يجب أنْ يُستهلَك” (والذي أثمر ثقافةً استهلاكيةً شرهةً ومتوحشةً، يؤدي تعميمها إلى [أشياء كثيرة، منها] القضاء على التعددية في أنماط العيش، وفي الثقافة، وفي القانون).
***
ثانياً
* من سيئات الحضارة الغربية تلك الإفرازات التي رَزَأت بها الإنسانيةَ في “الفلسفة الاجتماعية وعلاقة الإنسان بالثروات والأموال”، حيث أفرزت:
1- النظامَ الإقطاعي: الذي أباح للإنسان الفرد أن يمتلكَ الأرضَ ومَن عليها، وهو النظامُ الذي تحالفت معه الكنيسة الكاثوليكية (في العصور الأوربية الوسطى) فأثمر المظالمَ الاجتماعية التي تفوقت في بشاعتها على مظالم نظام العبودية القديم، الأمر الذي أدخل اوربا إلى نفق عصر الانحطاط والظلمات، كما أثمر هذا التحالفُ الحروبَ الصليبية التي دامت قرنين.
وفي مقابل هذا الإقطاع الغربي الذي يَملك فيه الفردُ الأرضَ ومَن وما عليها، كان الإقطاعُ في الإسلام تمليكَ الأرض الموات لِمَن يُحييها، تمليكَ منفعةٍ، مع بقاء مِلكية الرقبة – المِلكية الحقيقية- لله تعالى، مع اعتبار الناس مستَخلَفين ونواباً ووكلاء في هذه الأرض وما تُخرِج من ثمرات.
2- الإمبريالية والاستعمارَ: الذي استعمر به أهلُ الشَّمال (وهم 20 % من سكان العالَم) شعوبَ الجنوب وأممه وحضاراته ودياره؛ فاحتلوا أوطانَ الجنوب، ونهبوا ثروات أهله، واستذلوا شعوبَه، وكونوا أكبرَ فوائض النهب الاستعماري الرأسمالي التي بَنَوا بها رفاهيةَ المُترَفين، وصنعوا بسببها البؤسَ والفقرَ والفاقةَ التي اعتصرت 80 % من خلق الله!
ولقد كان تحرير أوربا للرقيق مُنْبَتَّ الصلات بقيم الحرية والإنسانية؛ لأنه جاءَ استجابةً لضرورةٍ رأسماليةٍ استغلاليةٍ تريد الأيدي العاملة النشطة، ذات الحوافز، للإنتاج في المصانع الرأسمالية، بدلاً من “كسل الأرقاء” الذي لم يَعُد مناسباً لطور الاستغلال الرأسمالي الجديد.
ولقد صنعت أوربا هذا “التحرير” للأرقاء الأفراد في ذات الوقت الذي كانت “تَسْتَرِقُّ” فيه – بالاستعمار [العسكري والاقتصادي]- الأممَ والشعوبَ في الجنوب.
3- النظامَ الرأسمالي: الذي تُعَظِّمُ فلسفتُهُ: الفرديةَ الطاغيةَ ورأسَ المال على حساب الجماعة والعمل.
وفي مقابل الفلسفة الفردية الرأسمالية التي تُعَظِّم رأسَ المال على حساب العمل والجماعة والجماعية، قامت فلسفة الإسلام في الثروات والأموال على مبدأ الاستخلاف (كما سبق البيان)(18).
وفي فلسفة الاستخلاف هذه قام التوازنُ بين مكونات الإنتاج الثلاث: المواد الأولية، والعمل، ورأس المال .. مع التركيز والتأكيد على تعظيم العمل؛ لأنه هو الذي يُخرِجُ المواد الأولية، ويَجعل لها قيمةً، وهو الذي يُثمر رؤوسَ الأموال كوسائط في المعاملات .. فعلي حين عَظَّمَ الإقطاعُ الأوربي الأرضَ وحدَها دون العمل .. وعلى حين عَظَّمت الرأسمالية الغربية رأسَ المال وحدَه دون العمل .. وعلى حين انحازت الشيوعية (وهي إفراز أوربي) للعمل وحدَه دون بقية أدوات الإنتاج .. كان توازن الاستخلاف الإسلامي الذي لم يُهمل أي أداة من أدوات الإنتاج والغِنَى والسعادة والرخاء، وإنْ عَظَّمَ العملَ باعتباره هو السبب في تفعيل غيره من أدوات الإنتاج.
ولقد أقام هذا النظامُ الرأسمالي الغربي رفاهية القلة المُترَفة من أهل الشمال على:
* دماء العبيد الذين اختُطفوا من أفريقيا وسُلسِلوا بالحديد وشُحنوا في سفن الحيوانات.
* وفائض قيمة النهب الاقتصادي لآسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية على امتداد خمسة قرون(19).
حتى أصبح أهلُ الشمال (وهم 20 % من سكان العالَم) يمتلكون ويستهلكون 86% من خيرات العالَم، بينما أهلُ الجنوب (وهم 80 % من سكان العالَم) يعيشون على 14 % من ثروات العالَم .. وحتى هذه النسبة الأخيرة من ثروة الجنوب: تبتلع أغلبَها فوائدُ الديون التي كَبَّلَ بها الغربُ أهلَ الجنوب؛ والتي – مِن ثم- غَدَت استعماراً غربياً جديداً؛ الأمر الذي أفقد أهلَ الجنوب (وهم أغلب سكان العالَم) القدرةَ الشرائية للسلع والخدمات؛ فانصرفت رؤوسُ الأموالِ المالية الغربية (حوالي 97 % منها) عن ميادين الإنتاج والاقتصاد الحقيقي؛ ساعيةً إلى تحقيق الأرباح القصوى من الاقتصاد الوهمي والطفيلي والضار بالدين والدنيا (السمسرات، والمضاربات، والمقامرات، والتجارة في النقود، والسلاح والحروب، والدعارة، والمخدرات).
فالمؤسسات المالية تتاجر في النقود، ودون أن يكون لديها أرصدةٌ حقيقيةٌ لهذه التجارات؛ وهي تَقرض القروضَ على الورق دون أن يكون لها أرصدةٌ حقيقية لهذه القروض .. والمستهلكون يتسابقون إلى الاستهلاك (وأغلبه ترفي وغير ضروري) بإغراءات الإعلانات (التي يتاجر أصحابُها بالكذب والخداع)، بينما رصيدُ المستهلكين “كروتٌ” ليس لها أي رصيد!
لقد كانت رأسماليةَ “النهب” لعَرَق الفقراء، فغَدَت رأسمالية “بيع الوهم” للأمم والشعوب .. الأمر الذي أدخل العالَم في الأزمات المالية العالمية الكارثية التي صنعتها هذه الرأسمالية الطفيلية المتوحشة التي تُؤذِن بخرابٍ عامٍّ للعمران البشري لم يسبق له مثيل .. وكيف لا يكون ذلك كذلك؛ وقد تَعَدَّت هذه الرأسمالية كلَّ حدود الله واعتدت على كثير من فرائضه:
– فأهدرت فريضةَ العدل: عندما أفقرت أغلبية البشر وزادتهم فقراً على فقرهم، بينما زادت القلة المترفة غنى وكنـزاً واحتكاراً وفساداً وإفساداً.
– واعتمدت السفه والسفاهة سياسةً عامةً وسُنةً متبعةً: عندما وَظَّفَت الأغلبية الساحقةَ من رؤوس الأموال في صناعات الدمار (الأسلحة المحرمة دولياً) والسفاهة والفساد والإفساد (المخدرات، والدعارة، والترف القاتل لمكارم الاخلاق).
– ووظفت “فوائض النهب الاستعماري” و”فوائض قيمة الاستغلال الرأسمالي” في السمسرات والمقامرات والمضاربات والغرر والوهم: فحجبت الأموالَ والنقودَ عن البيع والمعاوضة في السلع والمنافع، وذَهَبت إلى التجارة في النقود؛ فحولت العالَم إلى “بورصة لمقامرات تيارات الأموال الساخنة” اللاهثة وراء الأرباح السريعة والفاحشة، متجاهِلةً بذلك ومعانِدَةً حكمةَ التشريع الإلهي في تحريم الربا.
* وإذا كانت هذه الرأسمالية المتوحشة (التي جمعت بين “طفيلية الأنشطة والصناعات والتجارات الضارة” و”احتكار الشركات العملاقة متعددة الجنسيات ومُتَعَدية القارات”) قد دخلت إلى مأزقٍ وكسادٍ وركودٍ وخرابٍ يفوقَ نظيرَه الذي حدث في أوائل القرن العشرين الميلادي (1929- 1933م)، فإنَّ هناك حقائق لابد من تسليط الأضواء عليها، ومنها:
أولاً:أنَّ هاويةَ القرن الحادي والعشرين هي أشد وأخطر من هاوية ثلاثينيات القرن العشرين؛ وذلك بسبب نقلِ العولمةِ تأثيرات هذا المأزق الحالي وكوارثه إلى [معظم] أنحاء العالَم.
وإذا كان كساد القرن العشرين قد أثمر ظهورَ النازية الألمانية، وإنعاشَ الفاشية الإيطالية، ونشوبَ الحرب الاستعمارية العالمية الثانية (1939- 1945م) وأحداثها وتداعياتها الكارثية، فإنَّ مأزق القرن الحادي والعشرين وكسادَه وانكماشَه وخرابَه مُرشحٌ لأن يُفضِي إلى كوارث عالمية وعولمية لا نظيرَ لها في تاريخ المآسي التي عرفتها الإنسانية، اللهم إلا إذا انتفضت الأمم المستضعفة وانتقلت من مكان “التابع” للمركز الغربي إلى موقع “الاستقلال” الذي يُنجيها من الهلاك.
وثانياً: أنَّ هذا المأزق إنما يعود – بالدرجة الأولى- إلى “طبيعة” النظام الرأسمالي القائم على تعظيم الربح ورأس المال على حساب العمل والإنتاج.
وبسبب حقيقة “بنيوية الخلل” هذه، اتفق علماءُ الاقتصاد والاجتماع – حتى من الليبراليين الغربيين- على “دورية” و”تكرر” هذه الأزمات للنظام الرأسمالي.
ولكنَّ الطورَ الجديد للرأسمالية يُرشحها لـ “الانهيار” وليس فقط لـ “أزمة” من الأزمات العابرة.
وثالثاً:أنَّ هذا المرض العُضوي في الرأسمالية (مرض “التجارة في النقود وفوائد القروض”، أي مرض “التجارة في الربا”) يستدعي تسليطَ الأضواء (على النحو الذي سبق أن بيناه) إلى الحل الإسلامي والعلاج القرآني لهذا المرض الوبيل والعضال.
***
ثالثاً
[وعلى ذِكرِ هذا النظام الرأسمالي، نَخُصُّ النظامَ المصرفي المعاصر بهذا البيان، فنقول في نقاط مركزة]:
النقطة الأولى:إنَّ النظامَ المصرفي السائد الآن في العالَم المعاصر هو نظامٌ غربيٌّ، نشأ مع النظام الرأسمالي الغربي، وفي إطار الحضارة المسيحية الغربية.
ولأن المسيحية – كالإسلام- تُحَرم الربا (الذي هو في جوهره: مالٌ يُثمر مالاً دون عمل)، فلقد تَحَرَّجَ المسيحيون الغربيون من إقامة المصارف الربوية، مع أنها ضرورةٌ من الضرورات اللصيقة بالنظام الرأسمالي (الذي هو في جوهره: تعظيمٌ لرأس المال على حساب العمل).
ولأنَّ اليهودَ قد حَرَّفوا موقف اليهودية من الربا، فجعلوه حراماً فيما بينهم خاصةً، وحلالاً مع غيرهم، فلقد تقدموا فأقاموا المصارف الربوية، وعملوا بها، واحترفوا صناعَتَها، وبرعوا فيها، وظلوا كذلك حتى سادت الفلسفة الوضعية العلمانية النفعية – البراجماتية- في المجتمعات الغربية، فتراجعت حاكمية المعايير المسيحية، ودخل المسيحيون الغربيون في هذا الميدان مع اليهود، ونافسوهم فيه.
النقطة الثانية: إنَّ بلادَنا الإسلامية، وكل حضارات وأمم الجنوب، لم تعرف هذا النظامَ المصرفي الربوي إلا عندما جاءنا – مع النظام الرأسمالي- في ركاب الغزوة الاستعمارية الأوروبية الحديثة لبلادنا.
ولذلك يجب التمييز بين “قِدَم الممارسات الربوية” منذ التاريخ والحضارات القديمة وبين “هذا النظام المصرفي المعاصر” الذي نشأ – كنظامٍ سائدٍ وحاكمٍ- مع سيادة الرأسمالية وتحكمها، والذي تَعَوْلَمَ مع الغزوة المشار إليها.
النقطة الثالثة:وبسبب أنَّ هذا النظام المصرفي هو ثمرةٌ من ثمار، وضرورة من ضرورات، ولازمةٌ من لوازم الرأسمالية: كان رَفْضُ الاقتصاد الاشتراكي والشيوعي له؛ لأنَّ الفلسفة الاشتراكية تُعَظِّمُ العمل بدلاً من رأس المال (على عكس الرأسمالية)، ولذلك فهي تمنع الربا.
النقطة الرابعة:إنَّ فلسفةَ الموقف الإسلامي من المال والنقد (والتي سبق بيانُها)، تُحَرم التجارةَ بالنقود.. وفي هذا الموقف تتفق الفلسفة الاشتراكية مع الفلسفة الإسلامية في النقود والأموال.
النقطة الخامسة:إنَّ تركيزَ كل [أو معظم] الجهد الفقهي الإسلامي المعاصر، إزاءَ المعاملات المصرفية، على تحديد العائد من المدخرات أو عدم تحديده (حيث يدور أغلب الجدل وينصب على مسألة الفوائد البنكية المحددة سلفاً، والتي تُعطيها المصارف لأصحاب المدخرات، والتي تأخذها من أصحاب القروض): هو ابتعادٌ عن جوهر القضية؛ فقد يكون تحديدُ العائدِ تنظيماً يفيد أصحابَ المدخرات (الذين هم الجانب الأضعف في المعادلة الادخارية)، ويحميهم من ظلمٍ قائمٍ أو محتَمَلٍ من أرباب المصارف (الذين يُمَثلون الجانب الأقوى في هذه المعادلة).
والمطلوبُ من الفقه الإسلامي أن يركزَ على جوهر فلسفة الإسلام في النقود والأموال (أي ألا تكون الأموالُ سلعةً يُتاجَر بها تأتي بأموالٍ/ فوائد دون عملٍ مُضافٍ).
ولذلك فإنَّ النظامَ المصرفي الإسلامي هو النظامُ الذي يقيمُ المصارفَ، لا لِتُتاجِرَ في المدخرات، وإنما لِتُوَظِّفَ هذه المدخرات وتُشارِكَ بها في التنمية المجتمعية الشاملة لمختلف الميادين.
فالمصارف الإنتاجية (أي التي تشارِكُ بمدخراتها في التنمية) هي المصارف الإسلامية الحقة، حتى ولو لم تُسَمِّ نفسَها إسلاميةً .. والمصارف غيرُ الإنتاجية (أي التي تعمل في إعادة إقراض مدخراتها، وتعيش على الفروق بين عوائد الإقراض والاقتراض، بصرف النظر عن الأسماء التي تُطلِقُها على هذه العمليات) هي مصارف غيرُ إسلامية، حتى ولو سَمَّت نفسَها إسلاميةً.
وفي ضوء هذه الحقيقة، نقرأ الفتوى الشهيرة للإمام محمد عبده بحِلِّ مدخرات “صناديق التوفير”؛ لأنَّ هذه الصناديق كانت مؤسسةً حكوميةً تأخذ المدخرات لِتَبنيَ بها الحكومةُ مدارسَ ومصانعَ ومستشفياتٍ؛ فكانت صورةً من المصارف الإنتاجية، ولم تكن صورةً من صور مؤسسات التجارة بالنقود والأموال.
النقطة السادسة:إنَّ رؤيةَ المأساة التي وصل إليها النظامُ الربوي المعاصر كفيلةُ بتبيان عظمة العدل الإسلامي المتجسد في فلسفة الإسلام إزاءَ النقود والأموال.
فالتضخم – الذي يمثل سرطان الرأسمالية- هو ثمرةٌ من ثمرات جنون التجارة في النقود والأموال.
والمضاربات المجنونة على أسعار الأسهم في البورصات العالمية (وهي التي تخرب الكثيرَ من التجارب التنموية، وتهدر عرق الأمم وكدح الشعوب) هي واحدةٌ من الثمرات المُرة للنظام الربوي.
وإذا علمنا، [كما سبق أن أشرنا]، أن 97 % من رأس المال العالمي (أي 100 تريليون دولار) موظفةٌ في السمسرة والمضاربات (أي في الربا والتجارة في النقود) .. وأنَّ 3 % فقط من رأس المال العالمي (أي 3.5 تريليون دولار) هي الموظفةُ في التجارة والصناعة والخدمات .. علمنا أنَّ مأساة الرأسمالية المتوحشة ونظامها الربوي أبشع وأفظع من قضية تحديد العائد على المدخرات أو عدم تحديده، تلك التي شَغَلت وتشغل أطراف الجدل الفقهي الاقتصادي !
النقطة السابعة:إذا كان النظام الربوي من الثمرات اللصيقة بالرأسمالية .. وإذا كان هذا النظام الرأسمالي – على تفاوتٍ في صور حِدته ووحشيته- هو السائد الآن في كل أنحاء العالَم .. فإننا يجب أن ننظر إلى هذا النظام الربوي نظرَتَنا إلى “التلوث” الذي عَمَّ بلاؤه سائرَ أرجاء الكوكب الذي عليه نعيش، فلقد أصبح روحاً سارية في كل المعاملات، ونحن بإزائه أمامَ ضرورةٍ وبلاءٍ عامٍّ؛ كمِثْلِ التلوث الذي أصابَ عمومَ البيئة في عصرنا.
[ومِن ثم، فإنَّ] التعامل الإسلامي مع هذا الواقع هو التعاملُ مع الضرورات .. فواجبٌ ألا نـزيِّفَ دينَنَا فنقول: إنَّ هذا النظامَ المصرفي الربوي حلالٌ .. وفي ذات الوقت: لا نغمض أعيننا عن عناصر الضرورة فيه؛ فنطلب من الناس الامتناعَ عن التعامل مع هذا الواقع الحاكم لكل الاقتصاديات.
وهنا تأتي قواعد التعامل الإسلامي مع الضرورات:
– التي تُقَدَّرُ بقدرها.
– والتي تُعامَل كضرورات يسعى الناسُ إلى الخروج من أسبابها وملابساتها وثمراتها، وليس إلى تكريسها بالزعم بأنها هي الطبيعية والقاعدة والحلالُ.
– وكذلك تأتي قاعدة تنـزيل الحاجة الشديدة والماسة منـزلة الضرورة.
وهنا أيضاً تأتي أهمية البنوك الإسلامية، التي وإن لم تستطع النجاةَ من “التلوث الربوي السائد عالمياً”، إلا أنَّ وجودَها وأدبياتها تعلن الرفضَ لقبول وتأييد هذا النظام.
مع أهمية إدراك أنَّ قيامَ عشرات – بل ومئات- البنوك الإسلامية لن يغير واقعَ “التلوث الربوي” الذي هو جزءٌ عضويٌّ من النظام الرأسمالي الحاكم للعالَم بأسره .. وستظل البلادُ الإسلامية – بما فيها البنوك الإسلامية- مضطرةً لاستنشاق هذا “التلوث الربوي” حتى ولو أطلقت عليه أسماء أخرى.
وستبقى المفارقةُ المضحكةُ في موقف دعاة البنوك الإسلامية المناصرين في ذات الوقت للنظام الرأسمالي: دون إدراك أنَّ الرأسمالية هي الأب الشرعي للربا الذي يُحارِبون !
أما السبيل للخروج من هذا “الجور المالي العالمي” فهو تحوُّلُ العالَم الإسلامي (بالتكامل الاقتصادي، والسوق الاقتصادية المشتركة، والاعتماد المتبادَل) إلى “كتلة اقتصادية متحدة”، وعندئذ يمكن أن نقول للآخرين: إنَّ لنا فلسفةً متميزةً في النقود والأموال يجب مراعاتها في التعامل معنا .. فالمطلوب أن نتجاوزَ – نحن المسلمين- النظامَ الاقتصادي الذي أثمر ويثمر النظامَ المصرفي الربوي، وأن نكون من القوة بحيث يتعامل معنا الآخرون وَفق فلسفتنا في النقود والأموال.
نعم، هو طريقٌ شاقٌّ وطويلٌ، لكنه – وحده- هو الطريق.
أما الاستسلام لطاغوت الرأسمالية المتوحشة فهو يأسٌ وقنوطٌ لا يليقان بالمؤمنين.
أما التخندق الفكري حول تحديد أو عدم تحديد سعر العائد من مدخرات البنوك فهو أشبه ما يكون باحتضان ظِلِّ فرعِ الشجرة: بحسبانه الشجرة وما فيها من فروع، وهو وَهْمٌ نتمنى أنْ يَبرأ منه أهلُهُ إن شاء الله.
***
رابعاً
أمام هذه الرؤية والفلسفة والمنهاج الإسلامي في العدالة الاجتماعية والثروات والأموال، تَبرُزُ المفارقةُ الشاذةُ بينه وبين الواقع المعاصر للمسلمين، فغيرُ النهب الاستعماري لثروات الأمة (والذي يمثل خللاً فاحشاً في عدالة العلاقات الاقتصادية بين البلاد الإسلامية وبين مراكز الهيمنة والاستغلال الغربية)، نجد الخللَ في موازين العدل داخليا وبين أبناء الأمة أيضاً، وذلك:
– عندما يتفاوت دخل الفرد عبر دار الإسلام، فيكون لدى مسلم مائة دولار، ولدى مسلم آخَر 23 ألف دولار!
– وعندما تَدفعُ الفاقةُ قطاعاتٍ من المسلمين إلى براثن التنصير، فيتخلون عن إسلامهم لقاءَ رغيف خُبزٍ أو جرعة دواء .. بينما تَدفعُ التخمة ودُولة المالِ شريحةً من المُترَفين إلى حياة يتخلون هم فيها أيضاً عن حقيقة الحياة الإسلامية!
– وعندما تتسول الأمةُ غذاءها؛ فتفقد لذلك كرامَتها واستقلالَ إرادتها، وتستورد أغلب ما تستهلك، تاركةً موادها الخامَ تُنهَب بأرخص الأسعار، مُعَطِّلَةً بذلك مَلكات الزراعة والصناعة بين أبنائها، مُشِيعةً البطالةَ في صفوفِ ملايينها .. على حين تُستَلبُ من أثريائها الفوائضُ النقديةُ – بالترغيب والترهيب- لِتُصادَرَ حيناً، وتُجمدَ حيناً آخَر، ولِتُوَظَّف في دعم الأعداء في كل الأحايين!
– وعندما يُحالُ بين الأمة وبين صناعة سلاحِها، ويُطلَبُ منها التخلي عن عقيدةِ الجهاد، بل وحتى عن مًصطَلَحِه، ثم يُفرَضُ عليها استيرادُ السلاحِ بأرقام فلكية، شريطةَ ألا تستخدمَه ضدَّ أعدائها، وأنْ يكونَ وقوداً في منازعاتها الداخلية المصنوعة والمُصطَنَعة !
وعندما تكون هذه بعضاً من جوانب الصورة الاجتماعية للأمة، فإننا نجد أنفُسَنا أمامَ فريضةٍ إسلامية مُعَطَّلة، هي فريضة “العدل الاجتماعي”، وعلى الأمة الجهاد لإقامتها؛ من خلال:
– تحرير ثروات الأمة من الاستغلال الأجنبي.
– وتحقيق التكامل للاقتصاديات الإسلامية المستقلة.
– وإحداث تنمية اقتصادية إسلامية شاملة.
– وتوزيع العائد من التنمية وَفقَ المعادلة التي تحقق التوازن بين الطبقات.
وتلك يجب أن تكون مقاصد حركة الإحياء والتجديد الإسلامي في “التحرر الاقتصادي” و”التنمية الشاملة” و”العدالة الاجتماعية”.
وعلى هذا، فإنَّ توظيفَ “الثروات الإسلامية” في “التنمية الإسلامية”، على النحو الذي يحرر الأمة من وضع العالَة على أعدائها، هو “فريضةٌ إسلامية”.
وإنَّ زكاةَ أموال المسلمين وزروعِهم وتجاراتِهم، وزكاة الثروات المستكنة والمركوزة في باطن الأرض: كفيلةٌ بأن تقيمَ “صندوقاً لتنمية دار الإسلام”؛ يحرر تنمية هذه الدار من الديون الأجنبية التي غَدَت قيوداً ونـزيفاً يستنفد صادراتنا في خدمة هذه الديون.
[وبعبارة أخرى]، يجب أن نقوم بعدة “إجراءات” و”آليات” و”مؤسسات”، بها تتحقق التنمية الاجتماعية الشاملة، من أهمها:
– صندوق التنمية بالركاز: أي وضع خُمس قيمة المُستخرَج من البترول والغاز والفوسفات والحديد والفحم والكروم والبوكسيت والمنجنيز والقصدير والنحاس والرصاص والذهب والفضة (.. إلخ) في صندوقٍ للتنمية الاقتصادية الشاملة لأوطان الأمة، على أن يُراعَى في أولويات التنمية بمختلف الأقطار البدء بتحقيق الكفاية من الضرورات فالحاجيات فالتحسينيات والكماليات.
وبهذا الصندوق: تتحقق العدالة، وتتحرر الأمة من الديون الخارجية (وهي استعمارٌ جديدٌ رَهَنَ مواردَ الأمةِ وإرادَتَها وحريةَ قرارِها وكرامَتَها لدى الدائنين)، ويزدهر عمراننا الدنيوي، ونرجو ثوابَ الله ورضوانه يومَ الدين.
– وصندوق الزكاة العامة: أي زكوات الزروع ورؤوس الأموال والتجارات والحيوانات والعقارات والحُلِي المُدَّخَرة (.. إلخ) .. ومقاديرها – كما هو معلومٌ- تتفاوت بتنوع ما هي مفروضةٌ فيه، فمنها ما هو 2.5 %، أو 5 %، أو 10 % .. إلخ.
وباستطاعة “خطة التنمية الإسلامية” أن تقيم لهذه الزكوات مؤسسةً أو مؤسسات توظف أموالَها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة للفئات والمصارف التي حددها القرآنُ للزكاة.
على أن تكون لخطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية هذه حرية توجيه قطاعات كبيرة من أموال هذه الزكوات للميادين العامة المختلفة للتنمية.
– والوقف: حيث إنَّ الوقفَ على الإنفاق في المنافع العامة (إنتاجاً واستهلاكاً) هو النموذجُ الصادقُ لِمِلكية “الجماعة/ الأمة”، بعد أن تمخضت “اشتراكيات العصر” عن مِلكيةٍ لـ “الدولة” أو “البيروقراطية” أو “الحزب”؛ لأنَّ الوقفَ هو إخراجُ المالِ من حيازةِ الفرد (المُستخلَف فيه) إلى مالِكه الحقيقي (الله تعالى)؛ أي إخراجه – في واقع الأمر- إلى الأمة والجماعة (المُستخلَف الأصلي في الثروات والأموال).
ومن الممكن إعطاء الوقف أبعاداً حديثةً، إنْ في المؤسسات والآليات، أو في الآفاق التي تنهض بتنميتها والإنفاق عليها مؤسساتُهُ .. كما أنَّ بالإمكان إدخال نظام “الأسهم” و”الحصص” في تكوين رؤوس الأموال ومصادر الدخل الموقوفة على النفع العام.
وبهذا نُرَجح كفةَ “الأمة” على كفة “الدولة” في عصرٍ غَدَت فيه الدولةُ “ديناصوراً شمولياً” يغتالُ الحريات والخصوصيات، وخاصةً عندما تسيطر على مصادر الرزق.
وبه أيضاً لا نقع في نقيض “استبداد الدولة”، وهو “الفردية” التي تقود إلى الطغيان إذا استبدت بالثروات والأموال.
– وإعلان تحريم استثمار مال [المسلمين] خارج ديارهم طالما كانت هناك ضرورةٌ أو حاجةٌ أو مصلحةٌ في استثماره بدار الإسلام؛ إذ لا يَحِلُّ في واقعٍ تَستَعْبِدُ فيه الديونُ أمةَ الإسلام وإرادتها وتستنـزف ثروات المسلمين: أنْ تُوَظفَ فيه ثرواتُ المسلمين خارج ديار الإسلام .. ويُعَظمُ هذه الضرورات والحاجات والمصالح كارثية النسبة؛ نسبة الاستثمار الداخلي إلى الخارجي، فهي (حتى آخر 1993م) 1: 56؛ أي أنه مقابل كل دولار مُستَثْمَر في الداخل الإسلامي: هناك 56 دولاراً مُستثمرة في دعم الاقتصاديات الأخرى، بل والمعادية كثيرٌ من بلدانها لنهضة المسلمين وعزة الإسلام.
وبهذا نحقق كفاية حاجات الأمة المادية في أمور المعاش، [بدل التسول الذي نحيا في ظلاله]، ونُحَوِّل “طاقات التدين” و”مخزون الاعتقاد/ الإيمان الديني” نحو إنجاز “المقاصد الكبرى والأساسية والعامة النافعة” بدلاً من استهلاكها واستنـزافها في “الأشكال” و”الجزئيات”.
***
خامساً
[بقي أن نـزيل شبهةً شهيرةً، ونُجَلي وجه الحق والصواب في أمرها]، وهي الشبهة المتعلقة بالطبقية والطبقات، وارتفاع الناس بعضَهم فوق بعضٍ درجات، واستخدام ذلك لتبرير المظالم الاجتماعية وتصويرها كما لو كانت تحقيقاً لإرادة إلهية أزلية وأبدية، فنقول:
* “التفاوت/ التمايز الاجتماعي” في نظر الإسلام حقيقةٌ من حقائق الواقع؛ نابعةٌ من تفاوت الحوافز والقدرات والجهد المبذول والذكاء الذي يَستخرج الثمرات .. والإسلامُ لا يقفز على حقائق الواقع، ولا يتجاهلها، ولا يعاديها، وإنما يهذبها ويضبطها كي تظل في إطار “المشروع” ونطاق “العدل”:
– الذي لا يعني “المساواة التامة” و”التماثل المطلق”؛ لأنَّ المساواة في أنقى صورها وأعمق تطبيقاتها لا يمكن أن تتعدى المساواة “في تكافؤ الفرص” و”أمامَ القانون”(20).
– وإنما يعني “التوازن بين فرقاء متفاوتين”؛ مُنكراً للظلم، ومُقتَرِباً بالتفاوت إلى درجة التوازن التي يكون فيها التفاوتُ مُؤَسَّساً على ما هو “ضروري” و”مشروع” و”طبيعي” من العوامل والأسباب.
فالفارق بين “العدل” و”الظلم”، و”المتوازن” و”الصارخ”، في هذا الميدان (ميدان “التفاوت/ التمايز الاجتماعي”): هو التمايز المعتدل المتوازن الذي لا يصل فيه الغِنَى إلى الاستغناء والانفراد والاستفراد بالثروات فتكون دُولةً تتداولها القلة المُحتَكِرةُ دون جمهور الأمة الذي تطحنه الحاجةُ ويقتله الحرمان.
هو الفارق بين الغِنَى الذي هو ثمرةٌ للعمل والجد والاجتهاد.. وبين الغِنَى الذي يأتي من الاستغلال والاحتيال.
وهو الفارق بن الثراء المؤسَّس على العمل المشروع.. وبين الثراء الحرام النابع من النشاط غير المشروع.
وهو الفارق بين ثراءٍ يوظفُ المالَ وَفق ضوابط الشريعة الإلهية.. وآخَر يوظفه في الحرام والطغيان والاستبداد والفساد والإفساد.
وهو الفارق بين غِنَى يؤدي صاحِبُهُ الحقوقَ الشرعية والاجتماعية المقررةَ في المال.. وآخَر يتصف صاحبه بالشح والكنـز ومنع الحقوق المفروضة في الأموال.
وهو الفارق بين ثراءٍ يسهم أصحابه في فريضة التكافل الاجتماعي المحقق للأمةِ درجةَ الكفاية في الضرورات والحاجات.. وبين ثراء يجاوره فقر مدقع يطحن جماهير الناس.
وبهذا لا يؤدي التمايز إلى “فاحش المظالم”، ولا تحلم المساواة [الخيالية المصادِمة لحقائق الاجتماع] بـ “إلغاء التمايزات”، وإنما ضبط “التمايزات الطبقية” عند حد “الوسط العدل الحق المتوازن”؛ الذي يُرَشد المسارات؛ تحقيقاً للتكافل والتساند والارتفاق.
* فإذا أحدث هذا “التفاوتُ الاجتماعي” تمايزَ الأمةِ إلى طبقات اجتماعية متميزة، فإن الإسلام لا يرى في وجود هذه الطبقات إخلالاً بالأمة (كرابطةٍ جامعةٍ لها في منهجه المرتبة العالية)، وإنما يقيمُ “علاقات الترابط” بين الفرد والطبقة والأمة، ويهذب من حدود التمايز والتفاوت الطبقي؛ برسم آفاقه وضَبْطِ جموحِه، على النحو الذي يجعل علاقات الطبقات في لحظة التوازن ودرجته ومستواه؛ لأنَّ هذا التوازنَ (الذي يَجمع الطبقات المتعددة بروابط التساند) هو العدل الوسط في منهج الإسلام.
فإذا اختل هذا “التوازن” بين الطبقات، حَلَّت محله عوامل “التناقض والصراع” بين هذه الطبقات.. وتلك – هي الأخرى- حقيقةٌ موضوعية، وواقع اجتماعي، لا ينكره ولا يستنكره ولا يتجاهله ولا يقفز عليه المنهج الإسلامي، وإنما يضع لهذا الصراع – أيضاً- الضوابط، ويحدد له الآفاق والغايات؛ ليكونَ الهدفُ منه هو العودة إلى درجة التوازن ولحظة العدل، وليس – كما هو الحال في الحضارة الغربية- أنْ يَنفيَ قطبٌ القُطبَ الآخَر تماماً، أو أن تلغي طبقةٌ الطبقةَ النقيضَ كليةً وتقتلعها من الوجود (وما حديث “الشمولية الشيوعية” – على سبيل المثال- عن المجتمع اللاطبقي إلا حديث عن المجتمع الذي تنفرد فيه طيقةٌ واحدةٌ بسلطات الفكر والحُكم والمال؛ فما ظَنُّوه اقتلاعاً للبرجوازية لم يكن أكثر من استبدالٍ للطرف الذي يتمتع بامتيازاتها؛ حيث حَلَّ الحزبُ والتكنوقراط والدولة محل المُلاك الرأسماليين؛ حيث تغيرت الأسماءُ دون الحقائق والمسميات).
* وهذا الموقف المتميز لعلاقة الطبقات بعضِها ببعضٍ، وبالأمة، مُؤَسَّسٌ على مفهومٍ متميز لمعنى “الطبقة” في المنهج الإسلامي .. فإذا كان من المتفق عليه أن الطبقةَ هي الشريحة المتميزة اجتماعياً في إطار الشعب أو الأمة، فإنَّ “العامل والمعيار” الذي يميز هذه الشريحة فيجعلها طبقةً اجتماعيةً متميزةً عن غيرها هو مَكْمَن التميز والاختلاف بين المنهج الإسلامي وغيره من المناهج.
ففي المنهج الإسلامي لا تقف تلك العوامل والمعايير عند المادي منها وحده، فـ:
– نوعُ العمل، [ودورُه] في المجتمع، [ودقته وصعوبته وتعقيده، أو بساطته وسهولته، أو خَطره وثانويته].
– وثمراتُ الكَسْب من هذا العمل، [مادياً و/ أو معنوياً].
كلها، أو بعضها، يُثمر رباطاً يميز أصحابَه عن غيرهم اجتماعياً، حتى ولو لم يتجاوز بهم مادياً ما كانوا عليه قبل ممارسة هذا العمل؛ إذ ليس بالعامل المادي والاقتصادي وحدَه تتمايز الطبقات.
كما أنَّ التمايز بين الطبقات – في المنهج الإسلامي- لا يعرف الفواصلَ الحادةَ على النحو الذي عرفته الحضارة الغربية في العلاقات بين الطبقات.
وعليه، فـ “الطبقة” في المنهج الإسلامي هي: الفئة والشريحة الاجتماعية المتميزة بطبيعة عملها، وثمرات كسبها، ومِن ثم بمركزها الاجتماعي، في إطار الأمة.
وعليه، فالمطلوبُ ليس الصراعَ الذي تنفي فيه طبقةٌ بقيةَ الطبقات، وإنما تحقيق العدل لإقامة التوازن بين الطبقات التي هي ضرورات اجتماعية [طبيعية] تحقق للمجتمع ثمراتٍ من الكسب الفكري والمادي الذي يحفظ على المجتمع [كله] قُدرَتَه وحركته ومَنَعته؛ لأن هذه الطبقات – كما قال علي بن أبي طالب t– لا يَصلُحُ بعضُها إلا ببعض، ولا يُغني بعضُها عن بعضٍ.
ولعل هذا “التساند والارتفاق الطبقي” هو التفسير الأدق لقوله تعالى: (نَحنُ قَسَمنا بَينَهُم مَعيشَتَهُم فِي الحَياةِ الدُّنيا وَرَفَعنا بَعضَهُم فَوقَ بَعضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعضُهُم بَعضًا سُخرِيًّا وَرَحمَتُ رَبِّكَ خَيرٌ مِمّا يَجمَعونَ) [الزخرف: 32] .. فليس المقصودُ بـ “سُخرياً” هنا “سُخرة الاستعباد والإذلال” (التي هي عينُ الظلمِ الذي تَنـزهَ اللهُ عن فعلِهِ وإرادتِهِ للناس) .. وإنما المقصودُ “التساند والارتفاق” بأن تكونَ كلُّ طبقةٍ للأخرى “مرفقاً وسنداً وعماداً”.
وإذا كان اللهُ تعالى قد “سَخَّرَ” الطبيعة وظواهرها للإنسان؛ ليرتفقَ ويستعينَ بها على عمارة الأرض وتزيينها .. فكذلك يجب أن يكون التمايز الطبقي في المجتمعات وسيلةً ضروريةً للتساند والارتفاق؛ لتكونَ الأمةُ كلها – بأدائها الاجتماعي- كالفريق، وكالجسد الواحد، الذي وإنْ تكون من أعضاء متمايزةٍ إلا أنَّ العلاقات والروابط الصحيحة بين أعضائه تلك تحقق له – بتنمية الحوافز وإثارة الهمم- أداءً مُوَحَّداً لجسدٍ واحدٍ؛ حتى إذا اشتكى منه عضوٌ تَداعَى له سائر الأعضاء بالسهر والحُمَّى.
فليس المراد بـ “سُخرياً” سخرة الاستعباد والإذلال (التي هي – كما قلنا- عين الظلم الذي تنـزه الله عن فعله وعن إرادته للناس) من فئةٍ لفئةٍ، أو من طبقةٍ لطبقةٍ .. [ولذلك أتى اللهُ تعالى بمبهماتٍ في الآية؛ فمَن هو البعض المرفوع ؟! ومَن هو البعض المرفوع عليه ؟! .. مبهماتٌ ببعض؛ لأن كلَّ “بعضٍ” مرفوعٌ في زاويةٍ، ومرفوعٌ عليه في أخرى .. فرِفعة البعض على البعض ليست بالمال ولا بالمنصب؛ لأنَّ كل فرد في المجتمع مرفوعٌ فيما يجيد ويحسن، ومرفوعٌ عليه فيما لا يجيده ولا يحسنه.. فكلٌ منا، كأفراد وكطبقات، فاضلٌ في جهة، ومفضولٌ في أخرى.
ومن ثم، فإنَّ كلَّ فرد، بل وكلَّ طبقة، “مُسَخرةٌ” للأخرى؛ فهذه محتاجةٌ إلى تلك، وتلك محتاجةٌ إلى هذه، وكلاهما محتاجٌ إلى غيره .. وبذلك “ينسجم” المجتمعُ ولا “يتعاند”، وإنما “يتعاون” و”يتعاضد”](21).
والله أعلى وأعلم
* * *
الهوامش
(1) انظر كتب د. عمارة: الإسلام والأمن الاجتماعي، (ص 29- 31، 33- 56، 58- 61، 62- 66، 79- 82). وإزالة الشبهات عن معاني المصطلحات، (ص 85- 86). والإسلام والثورة، (ص 56، 58- 59، 66، 69). والعطاء الحضاري للإسلام، (ص 59، 60). وفي فقه المواجهة بين الغرب والإسلام، (ص 173). والإمام محمد عبده – مجدد الدنيا بتجديد الدين، (ص 155، 156، 157، 119). ومعالم المنهج الإسلامي، (ص 167، 162- 165، 166). والحل الإسلامي لأزمة الرأسمالية العالمية، (ص 28، 29، 30، 34، ، 36، 42، 7- 10، 12، 14- 17، 21- 26، 51، 52). وأبو الأعلى المودودي والصحوة الإسلامية، (ص 243، 235- 236، 229، 239). وإسلامية المعرفة – ماذا تعني ؟، (ص 14- 17). والفلسفة السياسية، د. أحمد داوود أوغلو، تقديم: د. محمد عمارة، (ص 9- 10، وهي جزء من تقديم د. عمارة للكتاب). وهل الإسلام هو الحل؟ لماذا وكيف؟، (ص 105، 106، 109). وحقائق وشبهات حول القرآن الكريم، (ص 162- 167). والإسلام والتعددية – الاختلاف والتنوع في إطار الوحدة، (ص 147- 149). وكلها ط مكتبة الشروق، ومكتبة الشروق الدولية، ودار السلام، بالقاهرة.
(2) أخرجه البخاري ومسلم.
(3) أقْنَى: أي أغنَى.
(4) أخرجه مسلم والترمذي وأحمد.
(5) أخرجه النسائي.
(6) أخرجه أحمد.
(7) أخرجه مسلم.
(8) أخرجه ابن ماجة وأحمد.
(9) قلتُ (يحيى جاد): فعلى سبيل المثال، يقول r: “نِعمَ المالُ الصالح للمرء الصالح”. أخرجه أحمد وغيره، وصححه الألباني.
ودعا الرسولُ rلأنس t: “اللهم أكثِر مالَه وولده، وبارك له فيما اعطيتَه”. أخرجه البخاري.
وقال r: “إنك إن تذر ورثتك أغنياء خيرٌ مِن أن تذرهم عالة يتكففون الناسَ”. أخرجه البخاري.
وكله يَمتح من معين قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيكُم إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوتُ إِن تَرَكَ خَيرًا الوَصِيَّةُ) [البقرة: 180]، والخيرُ ههنا هو المالُ الكثيرُ، فسَمَّى اللهُ سبحانه المالَ الوفيرَ الذي تركه المتوفَّى: خيراً.
ولهذا قال ابن الجوزي بحق: “[وهذا كما ترى]، على خلاف ما تعتقده المتصوفةُ من أنَّ إكثارَ المال حجابٌ وعقوبةٌ، وأنَّ حبسَه [أي التوفيرَ منه] ينافي التوكل. [نعم]، لا يُنكَرُ أنه يُخافُ من فتنته [..]، وأما مَن قصد جمعَه والاستكثارَ منه، مِن الحلال، نُظر في مقصوده:
فإنْ قَصَدَ نَفْسَ المفاخرة والمباهاة: فبئسَ المقصودُ.
وإنْ:
– قصدَ إعفافَ نفسِهِ وعائلتِه.
– وادَّخَرَ لحوادث زمانِهِ وزمانهم.
– وقَصد التوسعةَ على الإخوان.
– وإغناءَ الفقراء.
– وفِعلَ المصالح:
أثيبَ على قصده، وكان جَمْعُهُ بهذه النيةِ أفضل من كثيرٍ من الطاعات” اهـ
(10) أنْ يُصبحَ القومُ أُسْوَةً في كذا: أي حالُهُم فيه واحدةٌ.
(11) أخرجه مسلم.
(12) تدبر آيات [البقرة 275- 280].
(13) أخرجه الترمذي وأبو داوود.
(14) أخرجه ابن ماجه وأحمد.
(15) أخرجه البخاري ومسلم.
(16) أخرجه أبو داوود وأحمد.
(17) أخرجه أحمد.
(18) فالنظامُ الإسلامي في الثروات والأموال ليس هو الرأسمالية [الغربية]، حتى ولو جَمَّلها البعضُ بعدد من المواعظ والمأثورات!
(19) من أهم مكامن الداء في فلسفة النظام الرأسمالي مبدأ “دَعْهُ يعمل، دعه يَمُر” الذي يتستر خلف “واجهة الحرية السياسية والقانونية” كي يجعلَ الحريةَ فقط للأقوياء؛ فالقوي، [وَفق هذا المبدأ في الواقع العملي] سيقومُ ويزداد قوةً، والضعيفُ سيسقط ويزداد انحطاطاً وسقوطاً.
(20) “العدلُ” ليس “المساواة”، وليس “المساواة الاقتصادية” على وجه الخصوص والتحديد، وإنما هو:
– مساواةٌ في الحقوق والواجبات “القانونية” و”السياسية”.
– وتكافؤ في فرص الكسب الاقتصادي والاجتماعي.
– و”توازنٌ” و”تناسُبٌ”، بالوسطية الإسلامية، في الحقوق الاقتصادية بين الناس.
فالمساواة الاقتصادية غيرُ ممكنةِ التحقيق في أي مجتمع من المجتمعات؛ لأسبابٍ كثيرةٍ، في مقدمتها: اختلاف الاحتياجات، وتمايز الضرورات، [وتباين القدرات والإمكانات، مما يُنتِجُ تباين الثمرات والمكاسب].
فالعدلُ هو “التوازن والتناسب” و”إعطاء كل ذي حقٍّ حقَّه” .. بينما “المساواة [المُطلقة]” هي الظلم والحرمان؛ لأنها “لا تُعطي كلَّ ذي حقٍّ حقه”، وإنما “تُساوِي بين المختلِفين والمتفاوتين”.
وإذا كانت [هذه] “المساواة [المُطلقة]” بين العالِم والجاهل، وبين العبقري والغبي، وبين الواعي والغافل، وبين المُجِد والكسول، [وبين المتوسط والنحيف، وبين الشاب والرضيع، وبين العجوز والصغير]، وبين مطلق المتمايزين في الضرورات والحاجات والاحتياجات بعضِهِم وبعض: مما تأباها “الفطرةُ العادلةُ” و”عدالة الفطرة”: فلابد من تأسيس هذا التمايز والتفاوت على “قاعدةٍ عادلةٍ” تتمثل في “إتاحة الفرص المتساوية أمام الجميع لتحصيل القدرات والإمكانات”، ثم ليأخذْ كلُّ واحدٍ بعدَ ذلك ثمرات جهده، مع الحرص على “التوازن والتناسب”، لا “المساواة [المطلقة]” .. فـ “المساواة في الفرص المتكافئة” هي الشرط لعدم دخول التمايز إلى “دائرة الظلم” الذي يأباه الإسلام.
(21) قلتُ (يحيى جاد): كنا قد نبهنا مِن قبلُ أنَّ أيَّ كلمةٍ توضع بين معقوفين هكذا [ ]، فهي لي، وليست لأستاذنا د. عمارة. وبخصوص هذه الفقرة التي وُضعت في المتن أعلاه بين معقوفين، فهي ليست لي، ولا للدكتور عمارة، وإنما استفَدُّتُّها مباشرةً، وبتصرف، مِن: “الفتاوى – كل ما يهم المسلم في حياته؛ يومِه وغدِه”، محمد متولي الشعراوي، أعده وعلق عليه وقدم له: د/ السيد الجميلي، (ص 579- 580).