نؤكد بادئ ذي بدء أن الرؤية الإسلامية للعالم Islamic Weltanschauungتنبع من أصل عقيدي إيماني هو التوحيد، الذي يعنى الإقرار بوجود الله وبوحدانيته سبحانه وتعالى، وأنه هو خالق هذا الكون ومالكه الحقيقي الوحيد ولا شريك له، وهو الذي خلق الإنسان، وكرّمه، وجعله خليفة فى الأرض ليعمرها، وليتصرف فيها طبقا لأوامره عز وجل، وامتثالا لإرادته سبحانه قال تعالى: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) [الأنعام: 18]، ويتضمن الاقرار بوحدانية الله كمال العقيدة من جهة الربوبية (الخلق والتربية) والألوهية (العبادة).
الإسلام والإنسان:ثم تأتي قيمة الإنسانية مستمدة من ذلك التكريم الإلهي للإنسان، فالله تعالى قد كرم الإنسان بوصفه إنسانا بصرف النظر عن عنصره أو ديانته، وأسلوب القرآن الكريم فى تناول هذا الموضوع صريح فى هذا المعنى قال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِيَ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين: 4]، قال تعالى: (يَأَيّهَا الإِنسَانُ مَا غَرّكَ بِرَبّكَ الْكَرِيمِ [6]الّذِي خَلَقَكَ فَسَوّاكَ فَعَدَلَكَ [7]فِيَ أَىّ صُورَةٍ مّا شَآءَ رَكّبَكَ) [الانفطار: 6-8]، قال تعالى: (خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقّ وَصَوّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [التغابن: 3]، قال تعالى: (خَلَقَ الإِنسَانَ) [الرحمن: 3].
أما الأحاديث فيكفي واقعتين لهما دلالة واضحة هنا، فقد رُوى أن أبا ذر قال: ساببت رجلا فعيرته بأمه، فقال لي النبي يا أبا ذر أعيرته بأمه إنك إمرؤ فيك جاهلية..”(1)، والواقعة الثانية: حين مرت به جنازة فقام، فقيل: إنه يهودي، فقال: أليست نفسا؟”(2).
ولقد أكدت النصوص القرآنية على مظاهر التكريم التى نوجزها فيما يلي:
أولا:النواحي المادية الخاصة باعتدال قامة الإنسان، وبرقي أجهزة الجسم المختلفة ووظائفها المعقدة.
ثانيا:النواحي المعنوية الخاصة بقدراته من حيث التمييز والتذكر والتصور والتفكر وباقي وظائف العقل، ومن حيث العواطف المختلفة.
ثالثا:المرتبة التى رفع الله إليها الإنسان وميزه على المخلوقات الأخرى، من حيث جعله خليفة فى الأرض، ومن حيث تسخير ما فى السموات وما فى الأرض له.
رابعا:الأمانة التى حملها الإنسان والمتمثلة فى عنصر الاختيار المبني على حرية الإرادة والتى هي شرط التكليف والمسئولية عن تصرفات الإنسان فى هذه الحياة.
ويتصل بمبدأ تكريم الإنسان بوصفه إنسانا مبدأ آخر هو أن الناس جميعا أمة واحدة: ربهم واحد، وأصلهم واحد، قال تعالى: (يَأَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ مّن نّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَاتّقُواْ اللّهَ الّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء: 1]، واختلاف اللغات والألوان ليس مانعا من وحدة الإنسانية بل هو آية من آيات الله كي يتعارف الناس ويتعاونوا رغم تنوعهم.
قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّلْعَالَمِينَ) [الروم: 22]، قال تعالى: (يَأَيّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىَ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوَاْ إِنّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات: 13].
والتعارف والتعاون ضرورة لبقاء جنس الإنسان، لأن الله وزع أنواع الخيرات فى أقاليم الأرض ونبه إلى أنه خلقها للناس جميعا قال تعالى: (هُوَ الّذِي خَلَقَ لَكُمْ مّا فِي الأرْضِ جَمِيعاًٌ) [البقرة: 29]) وحث على البحث عنها قال تعالى: (هُوَ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النّشُورُ) [الملك: 15] مما يجعل تبادل المنافع ومنع الاحتكار أصلين من أصول نظرة الإسلام إلى الاقتصاد العالمي.
وعلى الرغم من أن الإنسان جزء من الكون، ولكن فى التفاضل القيمي يبقى الإنسان متميزا على الكون تميز استعلاء ورفعة، وهو الأمر الذي جاء القرآن الكريم يبرزه ويؤكده كلما ذكر الإنسان فى معرض الموجودات، وجماع ذلك قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطّيّبَاتِ وَفَضّلْنَاهُمْ عَلَىَ كَثِيرٍ مّمّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) [الإسراء: 70] ويبدو هذا الاستعلاء فى مظاهر عدة، ربما رجعت فى معرض كثرتها إلى ثلاثة معان أساسية، استعلاء فى أصل الوجود، واستعلاء فى التكوين، واستعلاء بالاستيعاب والتمثل(3).
ومن حقيقة الوحدة بين الإنسان والكون، وحقيقة استعلائه عليه نشأت حقيقة ثالثة فى نطاق رفعة الإنسان وهي حقيقة تسخير الكون للإنسان، فلما كان الإنسان يشترك مع الكون فى وحدة تركيب مادي، فإنه يكون بذلك مهيأ لأن يتفاعل معه تفاعل انتفاع، إذ التجانس شرط فى هذا التفاعل. ولما كان أرفع منه شأنا، وأعلى قيمة، فإنه سيكون هو المنتفع منه، وسيكون الكون مهيأ لذلك النفع، ولذلك جاءت التعاليم القرآنية تؤكد أن الكون كله مسخر للإنسان مذللا له فى سبيل استثماره، واستغلال مرافقه.
ومن أبرز مظاهر التسخير: التسخير لأجل الوجود، فالكون بني بالقدرة الإلهية على قوانين تناسب تماما الكيان الإنساني فى وجوده ابتداء قال تعالى: (وَسَخّر لَكُمُ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخّرَ لَكُمُ الْلّيْلَ وَالنّهَارَ) [إبراهيم: 33]، والتسخير لاستمرار الحياة قال تعالى: (وَسَخّرَ لَكُمْ مّا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً مّنْهُ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ) [الجاثية: 13].
وكذلك التسخير للاستيعاب المعرفي ويظهر ذلك، ببناء الكون فى مادته وحركته على قوانين وضوابط ثابتة لا يدخلها الاضطراب والفوضى قال تعالى: (وَسَخّر لَكُمُ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخّرَ لَكُمُ الْلّيْلَ وَالنّهَارَ) [إبراهيم: 33].
ومن هنا أولى الدين الإسلامي عناية فائقة لشحذ عقل وفكر الإنسان تجاه ما يحيط به من موجودات ومخلوقات، وتجاه نفسه، فالإنسان فى المفهوم الديني لا يعد كائنا سلبيا صنميا، بل هو فاعل إيجابي يتأثر بما يجري ويؤثر فيه وهكذا تتكون شخصية الإنسان، ومنها تتبلور هويته، فالهوية ليست جمودا ولا تحجرا بل العكس من ذلك، هي نظرة فاعلة مع الذات والإنسان والكون الذي أُمر بإعمال النظر فيه، ولذا لم يكن البحث فى الهوية عند الشعوب والأمم المتقدمة إلا خطوة تسبق الإنجاز ومعه تتحرك(4).
لقد عد الإسلام الناس جميعا أمة واحدة تجمعها الإنسانية وإن فرقتها الأهواء والمصالح قال تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ)، قال تعالى: (إِنّ هَـَذِهِ أُمّتُكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء: 92]، قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّلْعَالَمِينَ) [الروم: 22]، وإن اختلاف الناس شعوبا وقبائل لم يكن ليتقاتلوا ولكن ليتعارفوا ويتعاونوا قال تعالى: (يَأَيّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىَ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوَاْ إِنّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات: 13].
فليس فى الإسلام اختلاف فى المعاملة بسبب اختلاف اللون، وإن التفاوت بين الناس بالعمل لا باللون والقومية والإقليمية ليكون العدل هو السائد.
كما أن التعاون الإنساني مبدأ عام فى كل الجماعات الإنسانية كما قرر القرآن وحث عليه، ومنع التعاون على الإثم قال تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرّ وَالتّقْوَىَ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة: 2].
كما حث النبي الكريم على مساعدة الأخ لأخيه فى أي موطن أو موقع:” الله فى عون العبد ما كان العبد فى عون أخيه”، كما أن قانون الأخلاق قانون عام يشمل الأبيض والأسود ويشمل الناس جميعا فى كل الأقطار والأمصار وهم مخاطبون بأحكام الإسلام أنى وجدوا فهي الشريعة الغراء قال تعالى: (وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَآفّةً لّلنّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَـَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) [سبأ: 28]، فالشمولية الإنسانية العالمية تعين الناس على التواصل والتعاون في اقتسام الطيبات حتى يكون العالم كله سوقًا للعمل وسوقا للإنتاج، ومجالا للتبادل والتداول، فرسالة الإسلام للإنسان أن يعمر الأرض ويستثمرها ويسير فى طريق صلاحها قال تعالى: (هُوَ أَنشَأَكُمْ مّنَ الأرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) [هود: 61] أي طلب منكم عمارته، هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا فى مناكبها وكلوا من رزقه قال تعالى: (وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا) [الأعراف: 56].
فرسالة الإنسان فى الإسلام تعميرية، طالبة منه التنقل فى أرجاء الأرض للاستثمار له ولغيره، طالبة منه التعاون مع الاخرين مع استخدام أسلوب الحوار قال تعالى: (ادْعُ إِلِىَ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ) [النحل: 125].
وبناء على كل ما تقدم يمكن القول بأن الإسلام ينفصل ويتميز عن النظم الوضعية الحديثة وبذا يتعزز المستقبل فى العالم الحديث لمبادئ الإسلام وقيمه العليا السامية، لأنه يقود العالم كله بتلك القيم المطلقة والإنسانية -فى نفس الوقت- إلى الخلاص بعد فشل الرأسمالية الغربية، وفشل الشيوعية ذات النظام الشمولي المستبد، وقصور العقائد الروحية الأخرى عن تدارك أحوال المعاش، وتدبير الحلول للجماعات الإنسانية، ومشكلات الاجتماع والاقتصاد وما يتفرع عنها من مشكلات الأخلاق والآداب(5).
وسوف نبرهن كيف كانت قيم الإسلام ومبادئه العليا، قيم ومبادئ عالمية وإنسانية، ويمكن تطبيقها فى كل زمان ومكان، فهي تتجاوز الآن وتتسيد بتجذرها فى الوجدان الإنساني، وتساير الفعل فى تطوره وتطلعه إلى آفاق مستقبلية رحبة.
ومن هنا لا يكون غريبا أن نجد المؤرخ الكبير “توينبي” يقرر بأن المسار الإنساني نحو العالمية سينتفع من عطاء الإسلام فى القضاء على العرقية بجميع تفريعاتها، وفى التخلص من مظاهر الإنحطاط التى أحدثتها المجتمعات الكحولية والمنغمسة فى الجنس والملاهي، وإذا كان “ريتشارد ب. سنون” يقرر بأن مفتاح المستقبل رهن بمعرفة كيفية مجابهة العولمة أو يتعين على كل ثقافة على حدة أن تجد نقط ارتكاز لتحركها، فإن الإسلام ساهم على مر تاريخه فى إذكاء جذوة الفكر العقلاني والعلمي، وربما سيضطلع الإسلام بمسئولية حمل هذا المشعل من جديد.
ونؤيد بل نعزز السند الإقناعي بأن الإسلام هو المؤهل لحل هذا المشكل بشهادة من أهلها، فلقد صدرت صيحات تحذيرية للحضارة الغربية، لا من أقوال رجال الدين، بل من أقوال أقطاب العلم وزعماء السياسة فى تلك الدول نفسها، فنجد “روبرت ميلكان” العالم الطبيعي الأمريكي يقول: “إن أهم أمر فى الحياة هو الإيمان بحقيقة المعنويات وقيمة الأخلاق، ولقد كان زوال هذا الإيمان سببا للحرب العامة، وإذا لم نجتهد الآن لاكتسابه أو لتقويته فلن يبقى للعلم قيمة، بل يصير العلم نكبة على البشرية”(6).
كما يقول الدكتور “ولسون” أحد رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية السابقين: “وخلاصة المسألة أن حضارتنا إن لم تنقذ المعنويات، فلن تستطيع المثابرة على البقاء بماديتها وإنها لن يمكن أن تنجو إلا أذا سرى الروح الديني فى جميع مسامها، ذلك هو الأمر الذي يجب أن تتنافس فيه معابدنا ومنظماتنا السياسية وأصحاب رؤوس أموالنا، وكل فرد خائف من الله محب لبلده”(7).
إن القيم والمعايير، المستمدة من خالق الإنسان، العالم بكينونته وحاجاته ونـزواته وشهواته وأهوائه، المجسدة فى سيرة النبوة وبيانها، بعيدا عن وضع الإنسان وعبث الإنسان، واستغلال الإنسان، مؤهلة لأن تكون معايير الشهود على الذات و(الآخر)، لذلك فالقيم المستمدة من النبوة لا يمكن إلا أن تكون واقعية قابلة للتطبيق، حيث تعتبر مناط التكليف هو استطاعة الإنسان وفطرته واستعداداته.
إن قيم الشهادة والشهود والتجربة التاريخية، التى تجسدت فى حياة الناس بمختلف أحوالهم وأوضاعهم وأجناسهم، فأنتجت حضارة لبني الإنسان جميعا، هي قيم ومعايير واقعية غير خيالية أو طوباوية مثالية غير قابلة للتطبيق، لذلك فهي باستمرار مؤهلة للشهود والشهادة على الناس(8).
فالقيم التى تعتبر الخيار وعدم الاكراه مرادفا لإنسانية الإنسان وكرامته، هي قيم مؤهلة للحكم والشهادة والقيادة للناس، والقيم التى استوعبت الحركة الحضارية التاريخية، وقدمت قوانين وأسباب وسننا لسقوطها ونهوضها وانتهت إليها أصول النبوات السابقة واستصحبت الصواب من تاريخ الإنسانية وتجاربها، وحددت مواطن الخلل، وحررت المعايير فى الانحياز مؤهلة للشهادة على الذات و(الآخر).
وحسبنا أن نقول: بأن المساواة والعدالة، وحرية الاختيار، والشورى فى اختيار الحاكم وإدارة شؤون الحكم، وإيقاف تسلط الإنسان على الإنسان، وإقامة حراسة بإيقاظ الوازع من داخل النفس، ووضع تشريع ملزم من خارج النفس (ضبط المسيرة) هي قيم جديرة بالشهادة على الذات والآخر(9).
من هنا نقول: إن مصدرية هذه القيم وخصائصها، هو الذي مكنها من التعاون والاستمرار والقدرة على الإنتاج فى عصور متعددة وشعوب متعددة وجغرافيا متعددة، بحيث لا تستطيع أمة ان تدعي لنفسها هذه القيم إلا بمقدار ما تلتزم بها وتحملها (للآخر) لإنقاذه من أزماته واسترداد إنسانيته.
أزمة الثقافة الغربية المعاصرة: وفى المقابل نجد الغرب يسقط فى العصر الحديث فريسة للمادية الكاملة، لقد قام “سوركين” بتتبع الأطوار التى مرت بها الحضارة الغربية فى العصور الحديثة، وبيّن ماهية القيم المحورية التى سادت فى كل عصر من العصور، وحدد موقع كلمنها على خريطة الأنماط الثقافية ما بين الحسية / والمعنوية الزهدية / والمثالية، فأوضح أن الحضارة الأوربية فى العصور الوسطى كان المحور الذي تدور حوله من نوع الثقافة “المعنوية الزهدية” Ideationalوكانت تلك الثقافة تدور حول قيمة رئيسة، ومبدأ أول، وحقيقة مطلقة تتمثل فى وجود الله (جل وعلا).. ولكن هذا المبدأ المحوري قد بدأ فى التدهور فى نهاية القرن الثاني عشر مع بزوغ نجم القيم (الحسية).. ثم إنه من تكامل المبدأين (المادي الحسي، والمعنوي الزهدي) نشأت فى القرنين الثالث عشر مرحلة من الثقافة (المثالية) Idealistic .. ولكن هذه المرحلة القصيرة سرعان ما تهاوت بدءا من القرن السادس عشر تحت وطأة الاندفاع الشديد فى الاتجاه المادي الوليد على حساب المكون المعنوي الروحي، فدخلت الحضارة الغربية بقوة فى العصر الحديث.. عصر الثقافة المادية الحسية Sensate.. عصر يقول “سوروكين” إنه تسوده المبادئ “الدنيوية، العلمانية، النفعية “This Worldly secular and utilitarian “ (Sorokin ,1992: 17- 19).
ولقد حققت تلك الثقافة المادية على مدى خمسة قرون إنجازات علمية غير مسبوقة فى محيط العلوم الطبيعية، كما توصلت إلى عدد هائل من الابتكارات التكنولوجية الرائعة، ولكنها فى الوقت ذاته قد ضيقت نطاق رؤيتنا للوجود وللحقبة – كما يقول سوروكين – فاستبعدت كل ما ليس ماديا وكل ما هو متجاوز للحواس بما فى ذلك مفهوم الله Uبل ومفهوم العقل ذاته، بل وانتقلت من مرحلة الثقافة (المادية الإيجابية النشطة) إلى مراحل الثقافة (المادية السلبية) أو “المادية الكلبية” مما أدى إلى شيوع الاتجاهات المادية الميكانيكية المتطرفة، والتركيز على اغتنام اللذائذ والشهوات الحسية والجنسية، وشيوع الاتجاهات الإمبريقية والوضعية السطحية، كما تدنت قيمة الإنسان نفسه فى الحياة المعاصرة، فلم يعد ينظر إليه على أنه أكثر من مجرد كائن بيولوجي Organismلا قيمة خاصة له، ولا كرامة خاصة تميزه عن بقية الكائنات الحية(10).
ولقد أدى هذا كله إلى دخول الحضارة الغربية المعاصرة منذ العقود الأولى من القرن العشرين فى إسار ما أسماه سوروكين “أزمة العصر” The Crisis of our ageتلك الحالة التى جعلها عنوانا لواحد من مؤلفاته الهامة(11) والتى وضعها فى ضوء أكوام الأدلة التى تم جمعها فى دراسته الكبرى، ولقد كرس صفحات ذلك الكتاب القيم كله لدراسة المظاهر التفصيلية لتلك الأزمة التى واجهتها الحضارة الغربية فى القرن العشرين فى مختلف أوجه الحياة فيها، والتى تنبأ باستمرارها شدة وقسوة فى المستقبل. اللهم إلا إذا عادت تلك الحضارة إلى رشدها باستعادة القيم الروحية والدينية لتتكامل مع ما تعتد به اليوم من الجوانب المادية / الإمبيريقية فيما يمكن ان يؤدي بها إلى بدء حقبة جديدة رائعة من حقب”الثقافة المثالية” يتم فيها “تصحيح الأخطاء القاتلة للثقافة الحسية المادية” بالإعداد بصورة متناغمة للثورة الفكرية الأخلاقية الثقافية / الاجتماعية المحتم حدوثها فى المجتمع الغربي(12).
تلك هي الحضارة الغربية الغالبة اليوم، وتلك هي رؤيتها المائلة والمميلة للوجود والكون والحياة، وتلك هي قيمها الأخلاقية ونظمها الثقافية التى تسعى جحافل العولمة لفرضها على شعوبنا، والنفاذ بها إلى عقول وقلوب شبابنا لتشكيلهم على صورتها، مستخدمة فى ذلك كل صور الإغراء والتأثير ومستعينة فى ذلك بالآليات الفعلية لتلك الثورة الاتصالية والمعلوماتية العصرية(13).
إن كتاب سوركين السابق يعبر عن موقف الحضارة الغربية التى تعاني فى كل جوانب حياتها الأخلاقية والسياسية والاجتماعية والثقافية من حالة الاحتضار الثقافي والأخلاقي والخواء الداخلي الشامل.
ومن هنا فالتحدي الأكبر الذي يواجه مجتمعاتنا العربية والإسلامية اليوم إنما يتمثل فى كيفية المحافظة على نمطها الثقافي الأقرب بطبيعته –وكما سيتضح لنا إلى “النمط المثالي Idealist” الذي يرى الحقيقة فى صورتها التكاملية التى يطلق عليها سوركين اصطلاحIntegral Theory of Truthend Reality فتدعم فيه نصوع قيمها الروحية والدينية فى نفس الوقت الذي تدعم فيه الجانب الحسي / المادي من حضارتها التزاما بوسطية هذه الأمة وخيريتها دون إفراط أو تفريط.. فى نفس الوقت الذي تقوم فيه بمواجهة ضغوط (وإغراءات) قوى العولمة التى تسعى ولو باستخدام القوة التعسفية لتشكيل ثقافتنا وقيمنا فى اتجاهات مصابة بالمرض بل (مسمومة) بتعبير سوروكين نفسه.
ولمعرفة هذه القيم الإسلامية العالمية لابد من معرفة بعض المصطلحات الخاصة بها:
تعريف القيم: تعرف القيم فى اللغة بكونها مشتقة من الفعل (ق و م) وقد جاء فى “لسان العرب” أن القيمة هي الاستقامة، وهي اعتدال الشيء واستواؤه، فالقوام هو العدل، كما جاء ذلك أن قوام الأمر هو نظامه وعماده، وهو ما يفسر الآية: (وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً) بمعنى التى تقوم أموركم بها، ويقال قومت السلعة إذا قدرت قيمتها، وهو تحديد ثمن الشيء بالتقويم ومن جهة أخرى فإن القائم كل من ثبت على شيء وتمسك به، (مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ) وهو المواظبة على الدين والقيام به.
ومن خلال جذر الكلمة نرى أن مفهوم “القيمة” له معنى أصلي مادي يدل على المقابل والعوض المقدر ثمنا للشيء، لكن اللفظ انتقل من الدلالة المادية إلى الدلالة المعنوية المتعددة، فأصبح لكثير من جوانب الحياة قيمة – ليست بالضرورة مادية – وإنما هي مهمة وذات منفعة(14)، ويرى البعض أن مقابل مصطلح القيمة فى التراث العربي الأدبي القديم هو (الخُلق) الذي عرف بكونه حالة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال من غير حاجة إلى فكر وروية، وامتدادا لهذا الفهم فإن القيم تصبح مرادفة للأخلاق والشمائل، حيث أن القيم هي تقدير الفرد والمجتمع لصفات خاصة فى الأشياء أو الأحياء تجعلها محمودة أو مذمومة، ومرغوبة أو منبوذة(15).
وقد دخلت هذه الكلمة بقوة فى العلوم الإنسانية منذ بداية القرن الماضي، واختُلِف فيمن بدأ باستعمالها أساسا، ويرى بعض الباحثين أن للفيلسوف الألماني نيتشه المتوفى عام 1900م أثرا كبيرا فى شيوع هذا المصطلح، ذلك رغم ما تحمله فلسفته من هدم للقيم الأخلاقية والدينية(16)، ورغم قيام علم – أو نظرية على الأقل – للقيم متفرع من الفلسفة سمى بالأكسيولوجيا يبحث فى ماهية القيم وحقيقتها ودلالتها، فإن الموضوع كان وما يزال مادة خلاف عميق فى مختلف فروع العلوم الإنسانية.
فالقيم هي من أكثر المفاهيم غموضا لأنه – أي مفهوم القيم – مرتبط بالفلسفة من جهة، ويعبر عن أرض مشتركة بين مجموعة من العلوم والمعارف من جهة أخرى(17)، فقد اهتم بها الكثير من الباحثين فى مختلف المجالات كالدين والفلسفة والفن والتربية وعلوم الاجتماع والاقتصاد والنفس وغيرها، ولذلك فهي من المفاهيم المراوغة التى يكتنفها الخلط والغموض بسبب اختلاف المعنى بين تخصص وآخر(18).
وتختلف القيم باختلاف الثقافات(19)، فلا يمكن فهم قيمة معينة إلا فى إطارها الاجتماعي أو الثقافي، ولذلك يفضل عند الحديث عن القيم أن نضعها فى إطار نسق القيم التى تنتمي إليه وتتفاعل معه، فكل مجتمع يملك نسقا للقيم يلتزم به، ويتسم هذا النسق بالحيوية والتفاعل بين عناصره، فعندما تنضم قيمة جديدة إلى ذلك النسق يتطلب الأمر ترتيبا جديدا أو إعادة توزيع مجموع القيم وفقا لأولوياتها(20).
وفى الثقافة الواحدة تعتبر القيم إحدى العناصر الخفية المكونة لها، فالثقافة كل معقد يكوَّن من عدة طبقات متفاوتة من الأنظمة، وهي: العقائدية، القيمية، والأعراف والمقاييس، أي ما يكافأ وما يعاقب عليه، وما ينبغي وما لا ينبغي، ثم أنماط السلوك المشاهد، مثل طريقة القيام بعمل ما، او سلوك معين تجاه قضية ما.
وفى كل هذا تبدو القيم فى موقع متوسط فهي متأثرة بالنُسُق المفاهيمية الأكثر عمقا منها، وبالتحديد العقائد، وهي بدورها تؤثر فى نسق أسفل منها إلى أن تصل إلى السلوك المشاهد للفرد والجماعة، فهي بمعنى آخر تستقي وجودها من المعتقد والأيديولوجيا والسياسة وتتصل مباشرة بعالم الأداء والإبداع، ويكون العمران بالتالي التجسيد المباشر لها.
وتعرف القيم كذلك بكونها بنية مفاهيمية إفتراضية تشير إلى التفضيلات التى تمتلك قوة الحفز وتؤثر فى اختيار الوسائل والطرق وتمثل الحوافز التى هي أشبه ما تكون بالمثل العليا مصدرا للقيم، بينما تمثل القيم مصدرا للاتجاهات التى تضم التفضيلات والاستعدادات للعمل والسلوك الميداني.
وكما أنه ليس للقيم تعريف مُجمع عليه، فكذلك ليس هناك تصنيف موحد للقيم لعسر ذلك(21)، وقد صنفها البعض بحسب أولويتها إلى التوحيد، وتناسق الكون والتناغم بينه وبين الإنسان، والخلافة فى الأرض، ومقاصد الشريعة(22)، كما ذهب آخرون إلى تفصيل دقيق حيث وضع للقيم قائمة طويلة ترتبط مباشرة بالأداء، وهي تزيد عن الخمسين، ومن أمثلتها: الإتقان والإحسان والإخلاص والمحاسبة والتقوى والعدل والأمانة والصبر والاعتدال(23).
وفى المعجم الفلسفي: القيمة:
أ- قيمة الشيء فى اللغة قدره، وقيمة المتاع ثمنه، يقال: قيمة المرء ما يحسنه وما لفلان قيمة، أي: ما له ثبات ودوام على أمر.
ب- وقيمة الشيء من الناحية الذاتية، هي الصفة التى تجعل ذلك الشيء مطلوبا ومرغوبا فيه عند شخص واحد، أو عند طائفة معينة من الأشخاص، مثال ذلك قولنا: إن للنسب عند الأشراف قيمة عالية.
ج- ويطلق لفظ القيمة من الناحية الموضوعية، على ما يتميز به الشيء من صفات تجعله مستحقا للتقدير من أجل عرض معين، كالوثائق التاريخية، والوسائل التعليمية كانت قيمته إضافية.
د- ويطلق لفظ القيمة فى علم الأخلاق على ما يدل علي لفظ الخير، بحيث يكون قيمة الفعل تابعة لما يتضمنه من خيرية، فكلما كانت المطابقة بين الفعل والصورة الغائية للخير أكمل، كانت قيمة الفعل اكبر، وتسمى الصورة الغائية المرتسمة على صفات الذهن بالقيم المثالية Valeurs Idealesوهي الأصل الذي نبني علي أحكام القيم، أي الأحكام الإنشائية التى تأمر بالفعل أو بالترك(24).
يستفاد من هذا التعريف جملة معطيات لا يستهان بها:
أولا:معنى الثبات والدوام، وهو من الأهمية بحيث يشير إلى مدى صلاحية القيم وفعاليتها، ويكشف عن دورها الأساس فى بناء الوحدة المعنوية والخلقية للمجموعة البشرية، وتكوين مواد الحكم التقييمي للضمير.
ثانيا:عز الطلب وإلحاح الرغبة فى الشيء يضفي عليه أو يخوله قيمة ما، وهو اعتبار إنساني مشروع.
ثالثا:لا أدل على موضوعية تحديد مدرك القيم من تقدير رتبة الاستحقاق فى خلع هذا الاعتبار عليها، من انطوائها على ذاتية التقدير فيها كنها جوهريا لا من خارجها أو من متعلقاتها ما يحمل على إطلاقها، فالقيمة المطلقة لا تشوبها إذن علائق ذاتية ولا يحدها ظرف زمني أو حيز مكاني أو اعتبار جنسي أو غيره، كلا بل ينبع تقييمها أو تقديرها حقا من ذاتيتها كمونا، وخلاف ذلك بصفتها ضمن القيم بالإضافة(25).
رابعا:والذي هو ذو بال معيار الخيرية فى علم الإخلاق، إذ بقدر ما تتحقق فى الفعل تكسبه قيمة، تتفاوت بحسب نسبة التطابق مع الهدف الأسمى المختط، أو الغائية المنشودة فى الذهن، مُبتنى الأحكام التقيميية أو التقويمية على حد سواء.
وأهم القيم والمبادئ التى بني عليها الإسلام، والتى تجعل منه دينا عالميا تشتمل عقائده ومبادئه على قيم عالمية تصلح للتطبيق فى كل زمان ومكان نظرته الإنسانية لحقوق الإنسان، وتأصيله لمختلف الحريات العقائدية، وتأسيسه للشورى والعدالة الاجتماعية، ونظرته التكاملية للعلم الديني والمدني، ورؤيته الموضوعية للآخر فى إطار الحقوق والواجبات.
من منطلق هذه المفاهيم الإسلامية نستطيع أن نؤكد أن الإسلام أقر المساواة بين البشر كميزان للعلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع الواحد وفيما بين المجتمعات، حيث حث الخطاب القرآني على احترام العقود والعهود والمواثيق: (وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا) [النحل: 91]، هذا حث صريح على احترام المواثيق عامة أي المواثيق والعهود مع المسلمين وغير المسلمين، مع كافة البشر، وهذا المبدأ هو أساس المواطنة الإنسانية لأن احترام الكلمة (الإيمان) والعهد يجعل التعامل بين الناس والشعوب مبنيا على الثقة والوفاء والالتزام مما يجعل التعاون والتكافل والتعاضد مفاهيم يجب أن تسود بين الناس جميعا على ركيزة من البر المطلق، قال تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرّ وَالتّقْوَىَ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة: 2].
على هذا الأساسفإنالحوار بين الشعوب والحضارات يكون بالتعاون على الخير والابتعاد عن العدوان وذلك لصالح الإنسانية، فلا يستطيع شعب ان يعيش ولا أية دولة مستديمة إلا بالاندماج فى المجتمع الدولي لتكون عنصرا فعالا من عناصر الأسرة الدولية، تواكب التطور والتقدم فى جميع المجالات الاجتماعية والاقتصادية والصناعية والتكنولوجية والثقافية(26).
والهدف من الحوار مع الآخرين -خاصة مع الغربيين- هو التواجد الإسلامي على الساحة الدولية وخاصة فى المحافل الدولية عبر المؤتمرات العالمية التى تعقدها الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى لوضع الأسس والمعايير الحديثة للمنظور الجديد للعالم، حتى تؤثر ثقافتنا العربية الإسلامية على الثقافة الأوربية والثقافة الأمريكية مثلما تتأثر بهما.
لقد آن الأوان للتقارب والتكاتف مع الدول الأوربية بشكل متوازن، وكذلك مع دول الشرق الأقصى خاصة الصين واليابان، ومن الجدير بالذكر أنه بالرغم من أن الصينيين واليابانيين يجيدون اللغة الإنجليزية لغة الحضارة الغربية،إلا أن ذلك لم يجعلهم يعتنقون الثقافة الأمريكية، لقد تعلموا لغة الأمريكان ليتعرفوا على العلوم والتكنولوجيا الأمريكية، وبعد أن فهموا هذه العلوم جيدا وطوروها وأضافوا إليها،وقاموا باختراعاتهم، واكتشافاتهم التى فاقت التكنولوجيا الأمريكية إلا أنهم لم ينبهروا بالثقافة الأمريكية،ولم يتخذوها نهجا لحياتهم ولم يتركوها تؤثر على حياتهم الاجتماعية،ولا على عاداتهم وتقاليدهم، بل جعلوا بينهم وبين الثقافة الأمريكية سدا منيعا، ليحافظوا على خصوصياتهم الثقافية، فهل ننهج نهجهم ونحذو حذوهم لنحافظ على هويتنا وخصوصيتنا العربية والإسلامية أم نترك ثقافة الماكدونالدز والهامبورجروالعنف والشذوذ الجنسي المباح تطغى وتهيمن على خصوصيتنا الثقافية الإسلامية المرتكزة على التآخي والإيثار والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإيتاء ذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.
إن التعددية الثقافية هي الكنـز الباقي للإنسانية عبر الأجيال، فهي نتاج انصهار الحضارات التى تعاقبت على هذا الكون منذ بدء الخليقة، ومهما توحدت العلوم والمقاييس فلا يمكن أن تتوحد الثقافات واللغات فى ثقافة واحدة موحدة، أو فى لغة واحدة يتحدث بها جميع البشر، لقد جعل الله لغة لكل نوع من مخلوقاته، حتى الطيور لها لغة خاصة بها كما أخبرنا القرآن الكريم، ولا يمكن لأي قوة فى العالم أن تنجح فى القضاء على الخصوصيات الثقافية Specificites Culturellesلكل شعب من الشعوب.
إن الطريق شاق وطويل أمام المسلمين لإقناع العالم وخاصة الغرب بأهمية الخصوصيات الثقافية الإسلامية التى لا تتعارض البتة مع المواثيق والقوانين الدولية، ولكنها يمكن أن تكملها وتثريها بما فيها من مفاهيم وروحانيات لشعوب الأمة الإسلامية التى أراد الله سبحانه وتعالى أن تكون “خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ”.
* * *
الهوامش
1) صحيح مسلم: إيمان 38، البخاري: إيمان 22، عتق 15.
2) صحيح البخاري جنائز 50، صحيح مسلم جنائز 81 .
3) د. عبد المجيد عمر النجار: الإنسان والكون فى العقيدة الإسمية ص 20، 21 المسلم المعاصر العدد 77، القاهرة عام 1995م.
4) د. أحمد شهاب: نحو تناول علمي لمفهوم العولمة ص 64، 65 مجلة الكلمة العدد25 بيروت 1999م.
5) د. موسى أبو الريش: العولمة والمستقبل، الكلمة ص105، 106 العدد 25.
6) انظر د. بركات محمد مراد: ظاهرة العولمة.. رؤية نقدية كتاب الأمة العدد 89 قطر عام 2002م.
7) د. موسى ابو الريش، مرجع سابق ص106.
8) د. نعمان عبد الرزاق السامرائي: نحن والحضارة والشهود، مقدمة كتاب الأمة العدد81 قطر فى إبريل عام 2001 م.
9) السابق ص 18.
10) Sorkin Pitrim. A. (1999) Orig.1941 the Crisis of our Age, 2 nd ed.(Oxford): one world pubications pp. 252.
11) السابق ص 250.
12) السابق ص 255.
13) د. إبراهيم عبد الرحمن رجب: الشباب والقيم الروحية فى عصر العولمة، المسلم المعاصر العدد104 ص 53، 54 إبريل عام 2002م.
14) القيم بين الخصوصية والعمومية لناصر الدين الأسد، مؤتمر الثقافة والعلم ص1-10 جامعة السلطان قابوس، مسقط، عمان فى أكتوبر عام 2001م.
15) السابق ص 5.
16) صلاح الدين رسلان: القيم فى الإسلام ص 7، وانظر فوزية دياب: القيم والعادات الاجتماعية ص 15 دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة عام 19990م.
17) فوزية دياب: القيم والعادات ص 18.
18) أحمد فؤاد باشا: القيم فى عصر المعلومات ص 1 مؤتمر الثقافة والعلم، جامعة السلطان قابوس عام 2001م.
19) الموسوعة البريطانية على القرص المدمج، طبعة عام 1999م.
20) د. أحمد فؤاد باشا: القيم فى عصر المعلومات ص 1.
21) عن صعوبة التصنيف انظر فوزية دياب: القيم والعادات الاجتماعية ص 73 – 90 السابق.
22) عارف عطاري: نحو مدخل إسلامي لمعالجة صراع القيم فى الحياة التنظيمية، مؤتمر الثقافة والعلم ص2 جامعة السلطان قابوس.
23) د.مصطفى بن حموش: القيم الإسلامية فى العمران، مجلة الأحمدية العدد 12 دبي فى نوفمبر 2003 .
24) د. جميل صليبا: المعجم الفلسفى ج2 من (ط) إلى (ي) ص 212 وما بعدها، دار الكتاب اللبناني – بيروت، 1971م.
25) د. محمد البشير الهاشمي: القيم الإسلامية تكليف أخلاقي أم إلزام شرعي، مجلة المنهاج العدد9 بيروت ربيع 1998م.
26) د. فوزية العشماوي: إشكالية الحوار والصراع بين الحضارات، مجلة رؤى العدد 16 مركز الدراسات الحضارية بباريس عام2002م.