إستراتيجية التربية الإسلامية:
تعرف الإستراتيجية عادة بأنها صياغة الاختيارات في مجموعة من الإجراءات لتحديد ما يجب عمله تبعا للحالات التي قد تعرض في المستقبل. وليس المقصود بالإستراتيجية هو مجرد الانتقال بالمبادئ إلى الصعيد العملي
حتى تصبح واقعا ملموسا، بل تقديم العناصر التي يمكن الاعتماد عليها في التخطيط لإنجاز الأهداف. والسياسة التربوية هي الخطة التي تحدد فيها الاختيارات الرئيسية للدولة في هذا المضمار، وهي تصاغ كتابة من قبلها، أو من قبل المفوضين منها للقيام بهذه المهمة، مع مشاركة أفراد الأمة في وضع تلك السياسة أو الحصول على موافقتهم الضمنية عليها، فالسياسة التربوية لا بد أن تعبر عن عقيدة الأمة، وتقاليدها، وقيمها، وأهدافها الرئيسية من الحياة، وتصورها للمستقبل، وعلى ذلك فلا بد في تحديد السياسة التربوية من التأكيد من أن أهدافها المحددة مستخلصة من الاتجاهات العامة لسياسة البلاد، ومتمشية مع كل من أهدافها العامة، والأهداف المحددة في القطاعات الأخرى، وفي ذلك كتب فور ومن معه (1974 ص 234) ما نصه: “إن السياسة التربوية لا تنحصر في رسم بعض المبادئ التوجيهية العامة، بل لا بد من أن تشتمل على مجموعة من الأهداف الخاصة المترابطة فيما بينها ترابطا قويا، ومن بينها الأهداف ذات الطابع الروحي والفلسفي والثقافي، مما يقدم فكرة واضحة عن مفهوم الإنسان، ويعمد بعد هذا إلى تحديد الأهداف السياسية المتماشية مع الاختيارات القومية الكبرى، ويمكن بعد ذلك تحديد الأهداف الاجتماعية والاقتصادية التي تتضافر فيها بينما لتحقيق الغاية المنشودة، طبقا لفلسفة المجتمع في الحياة، ولمتطلبات التنمية. وبعد هذا تحدد الخطوط العريضة للأهداف التربوية التي هي الشرط الأساسي لتحقيق الأهداف الأخرى المرسومة من أجل تنمية البلاد. وأخيرا، تحدد الأهداف المحصورة في النطاق التربوي، ويجب أن تعبر تعبيرا صادقا عن الاتجاهات السائدة في المؤسسات التربوية وفي التعليم على اختلاف مراحله”.
“وبعد تحديد الأهداف، لا يكفي إدراجها في قائمة، بل لا بد من تصنيفها بحسب الأسبقية، وتسجيلها ضمن مخطط متماسك، وعندئذ فقط يمكن أن نطلق عليه تسمية السياسة التربوية”.
أما الإستراتيجية فهي الحلقة الوسطى بين السياسة من جهة ومنهج التخطيط من جهة أخرى، ولكي تقوم الإستراتيجية التربوية بدورها كاملا: لا بد أن تكون شاملة لجميع أشكال التربية ومختلف مستوياتها، ومتكاملة مع الأهداف السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وطويلة المدى بدرجة معقولة، وعلى قدر من المرونة يسمح لها بمسايرة تطور الاختيارات السياسية، كما يجب أن تكون مضبوطة ضبطا دقيقا (حتى يمكن للتخطيط أن يقوم على أسس سليمة)، وديناميكية تأخذ بعين الاعتبار عمليات التطور المبدع والتجديد بصورة مستمرة.
أما التخطيط: فالهدف منه هو تيسير مهمة اتخاذ القرارات، وهو لا ينحصر في تحديد مجموعة الأهداف والسعي لتحقيقها فقط، بل لا بد له من انتهاج طرائق معينة مدروسة، وتوفير الوسائل اللازمة للنجاح، ومن الضروري أن يكون التخطيط عملية متواصلة وذلك لأن الواقع الاجتماعي في تغير مستمر، وكذلك وسائل التحليل والتقييم في تحسن وتطور دائمين.
وليس المقصود بالتخطيط هنا هو التحكم في العملية التربوية تحكما قيما يشل من فاعلياتها، وإنما رسم الإطار العام لضمان التوحيد، مع ترك قدر كبير من الحرية للقائمين فعلا بالعملية التربوية، وفي ذلك كتب فور ومن معه (1974، ص 236) ما ترجمته “على أن التخطيط سوف يزداد أهمية إذا ما توسع وخرج عن نطاق المدرسة ليشمل جميع ميادين التربية، شريطة ألا يقع المسئولون في نظام الإدارة التوجيهية المستبدة، وألا يخلطوا بين التخطيط الشامل المفيد، والتخطيط الكلي الاستبدادي المضر”.
من هذا العرض يتضح أنه لا يمكن للتربية الإسلامية الشاملة أن تقوم في ظل حكم غير إسلامي، وفي نفس الوقت لا يمكن لحكم إسلامي أن يقوم بغير تربية إسلامية شاملة… وعلى ذلك فلا بد من كسر هذا الطوق الذي فرض على الأمة الإسلامية، وأيسر الطرق إلى ذلك هو العمل على إقامة مؤسسات التربية الإسلامية الشاملة (من رياض الأطفال إلى الجامعات) بجهود شعبية هدفها تربية الشباب المسلم الذي يخرج للحياة رافعا راية القرآن في ذاته وفي أهله وفيمن حوله حتى يقيم شرع الله في الأرض.
ومن هذا العرض أيضا يتضح أنه لا يوجد في الوقت الحاضر سياسة تربوية إسلامية (بمعنى قيام العملية التربوية بمختلف مستوياتها، وتعدد نشاطاتها على التصور الإسلامي الصحيح للإنسان والكون والحياة، وبمعنى ألوهية الله) باستثناء بعض البادرات الخيرة التي تنشط بصورة محدودة في أجزاء متناثرة في العالم الإسلامي، وتبعا لذلك لا يوجد إستراتيجية محددة ولا تخطيط مقنن، ولكن انطلاقا من فلسفة التربية الإسلامية وأهدافها، وقياسا على نظمها الرائدة التي حققت من النجاح ما لم تستطع نظم التربية المعاصرة – بكل إمكانياتها المادية، وبكل ما تجمع لها من التجارب التربوية – تحقيقه يمكن وضع خطوط عريضة لما يجب أن تكون عليه إستراتيجية التربية الإسلامية في وقتنا الحاضر – بكل تحدياتها – في النقاط التالية:
(أ) في نطاق النظم التربوية:
1- الاهتمام بالتربية قبل المدرسة: فالتربية إسلامية لا تقصر اهتماماتها في إطار المعهد التعليمي فحسب، بل توجهها إلى الإنسان من لحظة ميلاده إلى نهاية عمره، بل تهتم به قبل مجيئه إلى هذه الدنيا، لأنها تشترط العلاقة المشروعة بين الأبوين ليخرج الطفل إلى هذه الحياة على صورة يرضاها الله والناس، كما تشترط حسن اختيار كل من الوالدين لأن للموروثات أثرا في تكوين الجنين الذي يحمل نصف صفاته عن الأب والنصف الآخر عن الأم، وهذه أحاديث رسول الله (عليه الصلاة والسلام) تنبهنا إلى ذلك “تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس”، “… فاختر ذات الدين، تربت يداك”، “اغتربوا لا تضووا”.
والتربية الإسلامية تنص على حسن اختيار اسم الوليد “أحسنوا أسماءكم فإنكم ستدعون بها يوم القيامة”، وتؤكد على ضرورة حضانة الأم لطفلها حتى يكبر، وتعتني عناية بالغة باليتيم وتؤكد على حقوقه تأكيدا مشددا، وتهتم بتأسيس المسلم على أسس إسلامية، في تخطيطه وبنائه، وفي أصوله وتقاليده، وفي عقيدته وعباداته وأخلاقه ومعاملاته، وفي نظامه وترتيبه، وفي حقوق كل فرد فيه. فهنا يتربى الطفل – منذ بدء إدراكه – بالمحاكاة والتقليد، ويتطبع بطباع أهله وعاداتهم، ويتأدب بالتلقين والموعظة والزجر والعقاب (إذ لزم)، ويقتدي بالقدوة الحسنة، ومن هنا لزم وجود الولي الذي يحسن التربية ويتقن التوجيه. فهذا رسولنا الكريم يؤكد على مسئولية الآباء تجاه الأبناء بقوله: “كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه”، وقوله “مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع”.
كما توصي التربية الإسلامية بحقوق البنوة وحسن القيام بواجباتها فلا يجوز للآباء أن يرفضوا أطفالهم أو يبالغوا في حمايتهم. أو أن يفضلوا أحدا على أحد، أو أن يغالوا في تشددهم، أو يسرفوا في تساهلهم، وذلك حتى تتربى نفوسهم تربية سوية هادئة، لا تعكرها المشاكل والعقد من الصغر فتفسد فطرتها الربانية السليمة.
2- الاهتمام بمعاهد التربية والعمل على نشرها: فالتربية الإسلامية تولي المدرسة والمعهد التعليمي عناية بالغة، عناية بالمعلم والإمكانات والبناء والإدارة، فهي تشترط حسن اختيار المعلم، دينا وخلقا وعلما؛ لأنه هو المثل الأعلى للطالب، خاصة في المراحل الأولى من التعليم. فإذا صلح المعلم صلحت العملية التربوية، وإذا فسد فسدت كلها، وتشترط الإدارة الحكيمة المدركة، وتوفير الإمكانات اللازمة، والمبنى المناسب، بغير إسراف ولا تقتير، ولا بذخ ولا تقصير، لأن كل قرش يفيض عن الحاجة الضرورية يمكن الاستفادة به في إنشاء معهد آخر، وتعليم أناس آخرين. وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى أن التعليم في الإسلام بدأ في المسجد وارتبط به. وهكذا يجب أن يكون أي نظام تربوي نؤسسه. بمعنى: أن يكون المسجد هو المركز الذي يدور عليه بناء أية مدرسة أو معهد تربوي. هو مكان الصلاة، وقاعة الاجتماعات والمحاضرات والندوات، والمكتبة مرتبطة به، والمبنى كله، يدور حواليه، ونحن في ذلك محتاجون إلى مهندسين مسلمين يبرعون في إعادة تخطيط مراكزنا التربوية بما يوفي كل احتياجات العصر، على هذا النهج الإسلامي.
كذلك تجدر الإشارة إلى أن المبالغة في البناية وفخامتها سواء في المسجد أو المعهد التربوي هو أمر مخالف لتعاليم الإسلام وأصوله، فيجب أن يكون المبنى بسيطا، نظيفا، وافيا بالاحتياجات الضرورية في غير إسراف أو مبالغة. وذلك فلأن التربية حق من حقوق كل مولود، وطلب العلم فريضة على كل مسلم بالغ عاقل، وعليه: فمن الواجب أن تتاح فرصهما لكل فرد في المجتمع، لا في فترة محددة من عمره فحسب، بل طوال حياته، وبالتالي فلا بد من زيادة عدد المؤسسات التربوية، وتسهيل عملية الانخراط فيها، وتمكين كل فرد من اختيار ما يلائمه منها. وهنا لا يجوز الإسراف ولا المبالغة في تشييد مراكز التعليم والإنفاق عليها، حتى تفتح أبوابها لنفر من الناس دون الآخرين، بل لا بد من تخفيض تكاليف إنشائها وإدارتها حتى يمكن مضاعفتها أضعافا كثيرة تستوعب كل فرد في الأمة، خاصة في المراحل التربوية الأولى. ويتم توفير التعليم الابتدائي لجميع الأطفال في السن المناسبة ما أمكن، وبطرائق أخرى متعددة إذا لزم الأمر، وكذلك تقليص أسباب الهدر التعليمي، والعمل على إعادة تأهيل الفاشلين دراسيا.
إذا كانت التربية الإسلامية تهتم بتوفير المؤسسة التعليمية الصالحة معلما، ومبنى، وإدارة، وإمكانيات، فهي تهتم أيضا بطهارة المجتمع المدرسي وتأسيسه على الأخلاق القرآنية الكريمة، وتهتم بالمجتمع الكبير خارج حدود المعهد التربوي، وبقيمه التي تنطبع في ذهن الصغير من البداية حتى تصبح جزءا من نفسه، ومن هنا فنظام التربية الإسلامية يقوم على الربط الوثيق بين البيت والمسجد والمدرسة والمجتمع، ربطا لا ينفصل ولا يتجزأ.
3- بناء النظام التربوية على أساس من الشمول والاستمرارية: الشمول الذي يهتم بتنشئة الإنسان الصالح وذلك بإنماء جسده على أسس علمية صحيحة حتى ينشأ قويا سليما معافى. وهداية روحه هداية ربانية نورانية حتى ترتبط بالله، وتأديب نفسه على الالتزام بالأخلاق القرآنية السامية، حتى يصبح ذلك جزءا لا يتجزأ من كيانها، وتنمية عقله وذلك بتدريبه على حسن التفكير ودقة الاستنتاج، وعمق النقد الهادف البناء، حتى يتسم بالحكمة في كل ما يصدر عنه من قول أو عمل، والتعرف على مختلف ملكاته ومهاراته وحسن توجيهها حتى تتم تنميتها إلى أقصى طاقاتها مما يعينه على القيام برسالته في هذه الحياة وعمرانها، والتنسيق بين كافة عناصر العملية التربوية (المعرفة، الفهم، الاتجاهات العقلية، الحوافز، الاستعدادات العلمية) وزيادة الاهتمام بالفرد وتربيته حسب قدراته. والاستمرارية هنا تعني إتاحة الفرصة لكل فرد في التزود من المعرفة باستمرار، وبغير قيود مسبقة، وتكامل المؤسسات التربوية مع مؤسسات المجتمع الأخرى، وتحديد التزامات قطاعات العمل والإنتاج تجاه تدريب العمال والفنيين وتثقيفهم باستمرار، وتوثيق الروابط بين المجتمع والتعليم، وبين الصناعات والجامعات ومراكز البحوث، فكلها من العناصر الأساسية في نظام التربية الشاملة المستمرة.
4- عدم الفصل بين المعارف وبالتالي عدم تقسيم التربية إلى دينية ودنيوية، فهذا الفصل انتقلت عدواه إلى بلاد المسلمين من النظم التربوية العلمانية، فالإسلام -على الرغم من اهتمامه الزائد بالتخصص في الدراسات الإسلامية- فإنه لا يعرف كهنوتا كما هو موجود في “الديانات” الأخرى، ولا يهمل أي جانب من جوانب المعرفة الإنسانية. وهو يهتم بتنمية المهارات اليدوية والمهنية. فهؤلاء هم أنبياء الله ورسله كلهم من أصحاب الحرف، وكل منهم كان يأكل من عمل يده.
وفصل المعارف إلى دينية ودنيوية: قد عزل العلوم الدينية عن ركب الحياة، ومشاكلها، وتطورها، مما زهد الناس فيها، ودعاهم إلى هجرها، كما عزل العلوم الدنيوية عن الحكمة، وجعلها تدور في الأطر المادية للأشياء فقط، مما أدى إلى رفض المتدينيين لها، وفقدان إحساسهم للاهتمام بها. والحل لا يمكن أن يكون في رفض هذه المعارف فهي تراث الإنسانية كلها، ووسيلتها إلى عمران الحياة على الأرض، ولا يمكن أن يكون في فرضها (وهي لا تزال تنطلق من منطلق إلحادي منكر) على المسلمين دون إعادة صياغتها حسب التصور الإسلامي الصحيح (كما حدث مع الأزهر الشريف)، لأن ذلك يعني “علمنة” مراكز التربية الإسلامية بدلا من “أسلمة” الجامعات والمراكز العلمية المختلفة والتي أسست -وتؤسس اليوم في العالم الإسلام- على أسس علمانية صرفة، فإذا كان أعداء الإسلام قد خططوا للقضاء على مراكز التربية العريقة التي عملت على حفظ الإسلام ولغة القرآن قرونا طويلة، فيعمل المسلمون لأسلمة المعارف الإنسانية كلها، وبالتالي توحيد الفكر التربوي في جميع مؤسساته في العالم الإسلامي إن لم يكن في العالم بأسره.
5- جعل المحور الحقيقي للعملية التربوية هو الإنسان بوصفه خليفة الله في الأرض، والكائن الحي العاقل المختار المكلف، صاحب الملكات والمواهب، والذي سخر الله تعالى له الكون كله.
والإنسان هنا مقصود بطرفيه في العملية التربوية: المربي والمتربي.
فكما يتشرط في المربي كمال الدين واستقامة الخلق وغزارة العلم وحسن التدريب على القيام برسالتهم التي هي في صميمها استمرار لرسالة الأنبياء. فيجب الاهتمام بهم اهتماما يعكس الشعور بخطورة رسالتهم وذلك بحسن إعدادهم أولا. ثم بمنحهم ما يستحقون من التقدير المعنوي (الاحترام والثقة)، والمادي (المرتبات، والتسهيلات في الحياة) حتى يتفرغوا لمهماتهم التربوية تفرغا كاملا، ويشعروا بثقة المجتمعات فيهم. لأن الثقة تولد الرغبة في الكمال، فيرقوا بأنفسهم إلى مستوى المسئولية الملقاة على عاتقهم، كذلك لا بد من إعطائهم الحرية الكاملة لتربية أبنائهم الطلاب بالطريقة التي يجيدون، والتي قد تتباين بتباين الفردي هذا في الحسبان لأن كل فرد كيان قام بذاته، فالطلاب يختلفون في طبائعهم، وقدراتهم، وإمكانياتهم للتعليم، ورغباتهم فيه، وتهيؤهم النفسي له، ومستوى إدراكهم بصفة عامة، وحتى في الطالب الواحد: يتباين ذلك كله بتباين مراحل النمو، وزيادة النضج واكتساب الخبرة. ومن هنا كانت ضرورة المواءمة بين مرحلة النمو والقدرة على التعليم، وهنا يجدر التنبيه إلى أهمية التعليم باللغة الأم، مع عدم إهمال تعليم لغات أخرى -خاصة اللغة العربية- إذا لم تكن هي اللغة الأم، والعمل على إكساب الطالب المعرفة على هيئة خبرة شخصية تكتسب بالممارسة، وليست تلقينا لفظيا مجردا. فالتلقين اللفظي لا يجوز إلا في حفظ كتاب الله. وذلك أملا في الاستفادة من الذاكرة الصافية التي يتمتع بها الإنسان في مراحل حياته الأولى.
والمساواة في التربية ضرورة من ضرورات قيامها برسالته على الوجه الأمثل، وهي صورة من صور العدل الاجتماعي، وبالتالي: فلا بد من نزع الأطر الإدارية المتزمتة الجامدة عن المؤسسات التربوية، وإلغاء الشروط التعسفية الجائرة في قبولها للطلاب، وجعل المقياس في ذلك هو القابليات والمؤهلات الشخصية، دون ترجيح مطلق للتقدير في امتحان ما، وذلك لأن الامتحان بصورته الراهنة لا يمكن أن يكون مقياسا عادلا لقدرات الطلاب، أو تعبيرا صادقا عن استعداداتهم الشخصية، وأن الخبرة المكتسبة عن طريق التحصيل الشخصي أو في نطاق الممارسة الفعلية في مهنة ما، قد ترجح كثيرا ما يلقن في المدرسة أو المعهد التعليمي. فالنظام التربوي الناجح يركز نشاطه كله على المتربي، ويمنحه مزيدا من الحرية كلما ازداد نضجها لكي يقرر بنفسه ما يريد أن يتعلمه، وكيف وأين يمكن أن يتعلمه؟ حسب ميوله الشخصية، وقابلياته ودوافعه، بل لا بد أن يتم ذلك في إطار من المشاركة الفعالة حيث يسهم المتعلمون أنفسهم في النهوض ببعض المسئوليات التربوية.
هذه العناية بالإنسان مربيا ومتربيا تحتم الاهتمام بمعاهد التربية ومراكز إعداد المعلمين اهتماما يعكس خطورة الرسالة التي يضطلع بها المربون، وهنا تبدو الحاجة ملحة إلى إنشاء معاهد إسلامية للتربية تعد المربين الإعداد اللائق بدورهم في الحياة، ثم متابعة ذلك بالدورات التدريبية والندوات الفكرية اللازمة لهم، ولتطوير مهنتهم باستمرار.
6- العمل على العملية التربوية وتيسير إجراءاتها: فمن الميزات التي تجمعت للتربية الإسلامية عبر القرون الاثني عشر الأولى من تاريخها المجيد هي البساطة، والتيسير، والخلو من التعقيدات التي تعاني منها نظم التعليم المعاصر. فلم تكن التربية الإسلامية تشترط أكثر من أستاذ مؤمن، عالم عامل، ذي خلق، وطلاب لديهم الإمكانية والرغبة في التعليم، تحكمهم علاقة من التفاهم، والمحبة، والثقة، وخشية الله، والشعور بقدسية العملية التربوية، وحسابها في عداد الأعمال التعبدية. وكان ذلك أكبر عون على تذليل أية صعاب واجهتها وعلى تحقيق الغاية المرجوة منها بأقل جهد وأي تكلفة!!
فلم تكن هناك أسوار بين العلم والمجتمع، بل كانت فرصة التزود منه تتاح لكل راغب فيه، دون أية شروط كالسن، أو الحصول عل مؤهلات سابقة، أو الظروف الاجتماعية والاقتصادية… إلخ، ما دام الأستاذ قد وافق على قبوله لتحصيل العلم على يديه. ولكي نعيد للعملية التربوية روحها الإسلامية فلا بد من زيادة مؤسساتها، وتسهيل إجراءات الانخراط فيها، وتمكين الفرد من اختيار ما يلائمه منها حسب قدراته وإمكاناته وميوله، بحرية كاملة، وبوسائل متعددة، في مرونة ويسر تمكن كل راغب في المعرفة أن ينهل منها، وأن يترك ذلك كلية للأستاذ والطالب، دون تدخل أية سلطة أخرى. اللهم إلا إذا كانت أعمالا إدارية تنظيمية بإرشاد الأستاذ وتوجيهه.
7- إزالة الحواجز التقليدية بين مراحل التربية المختلفة: فلم تكن هناك أية حواجز في النظام الإسلامي بين مراحل التربية المختلفة؛ فالتعليم كان له أن ينتقل رأسيا من مستوى إلى غيره، وأفقيا من تخصص إلى آخر حسب رغبته واستعداداته، وبتوجيه من أستاذه، وهذه المرونة كان تتزيد من مجالات الاختيار أمام الطلاب، ولا تضطر أيا منهم إلى الانخراط في تخصص لا يتناسب وميوله، أو الدراسة على يد أستاذ لا يستسيغ طريقته. أو الفشل والاضطرار إلى ترك التعليم كلية.
وعلى ذلك فلا بد من إزالة الحواجز المصطنعة التي تفصل بين مختلف أنواع التعليم ومراحله ومستوياته، وبين التعليم النظامي وغير النظامي، وتيسير عملية التربية المرحلية حتى يستفيد منها كل من تضطره ظروفه إلى العمل مبكرا ولا تزال لديه رغبة في مواصلة تعليمه.
كذلك لا بد من توسيع مفهوم التعليم العام بحيث يتيح للطفل فرص التربية النظرية والتقانية والتطبيقية واليدوية، والتوفيق بين تكوينه العقلي والتطبيقي واليدوي، حتى يمكن اكتشاف مواهبه وتوجيهها التوجيه الصحيح، ولا بد من تنويع التعليم الخاص وتعدد مجالاته ومؤسساته ليتمكن من تلبية احتياجات الأفراد والمجتمعات.
وهذا الانفتاح على مختلف مجالات المعرفة في التربية الإسلامية يسره في الماضي أن العلم كان يقصد لذاته، لا للوظيفة، ولا للمهنة، ولا للكسب المادي المجرد من القيم والأخلاقية، ولا للافتخار والتباهي به، ولا للتسابق على مراكز الصدارة في المجتمع. فالرسول صلوات الله وسلامه عليه يقول:
“لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء، أو لتباروا به السفهاء، ولا لتحدثوا به في المجالس فمن فعل ذلك فالنار النار”. وعلى ذلك كان العلم يقصد رغبة في المعرفة والحكمة، وحبا في الاستزادة منهما، وأملا في القدرة على تعليمهما للناس، وعلى استعمالهما في عمران الحياة على الأرض، وإقامة شريعة الله فيها. ولم يكن يحول دون ذلك أن يكون الإنسان صاحب مهنة. فأنبياء الله كانوا من أصحاب المهن. وكان كل منهم يأكل من عمل يده، وهذا عمر بن الخطاب رضوان الله تعالى عليه يقول “إني لأرى الرجل فيعجبني، فأسأل هل له مهنة؟ فإذا قيل لا، سقط من عيني”.
هذا، وقد كان العديد من المسلمين البالغين يفضلون الترحال في طلب العلم، والبعد عن الوطن والأهل، تأكيدا لتفرغهم في تحصيله، وتقليلا لما يمكن أن يصرفهم عنه.
8- العمل على جعل التعليم عملية ذاتية حرة غير مقيدة بمناهج محددة: ولقد كان ذلك من أبرز سمات التربية الإسلامية التي رفضت تكبيل الإنسان (مربيا ومتربيا) بأية قيود جامدة من مثل ما يعرف المستمدة من عقيدتها وأهدافها العامة التي تتلخص في تربية الإنسان الصالح، وأطر ذلك من سلوك وأخلاق ومعاملات وحقوق وواجبات، وتترك العملية التربوية بعد ذلك علاقة مقدسة بين المربي والمتربي، تحكمها خشية الله وتقواه، والإيمان العميق بأنها صورة من صور القربى إلى الله. ويكفي أنها نبعت من المسجد وارتبطت دوما به.
وعلى ذلك فقد ظلت العملية التربوية طوال القرون الإثني عشر الأولى (أو يزيد) من تاريخها المشرق، تربية فردية حرة بكل ما في الكلمة من معنى، لم تتبع أية مناهج محددة، خاصة في المراحل المتقدمة منها، فبينما نجد مناهج التربية اليوم تتباين في أسسها بين تركيز على الطفل فقط وما يتنازعه من عوامل داخلية (عوامل الوراثة)، أو خارجية (مؤثرات البيئة)، أو كليهما، أو تركيز على المعلومات وحدها (بين شاملة واختيارية)، أو على المجتمع بذاته (بين تحليل واقعي ورؤية مثالية)، أو على العمل وحده (كالقيمة الاجتماعية الوحيدة في الحياة)، وكلها مفاهيم جزية، لا تتناسب مع تكامل الطبيعة الإنسانية وشمولها، فضلا عن تباين الأفراد، واختلاف قدراتهم وملكاتهم: مربين ومتربين. فإننا نجد لكل مرب في النظام الإسلامي منهجيته الخاصة، وطرائفه في تنفيذها، وأسلوبه ووسائله التي تتباين بتباين الطالب وقدراته ولملكاته وميوله، وكامل ظروفه، بل بتباين مراحل نموه. مما يؤكد إنسانية كل فرد ويعمل على صيانتها.
ومن الغريب أن التربويين في العالمين الرأسمالي والليبرالي، والاشتراكي الشيوعي، قد بدءوا بعد دراسات مستفيضة يفيقون إلى أهمية هذه المبادئ الإسلامية في التربية: الإنسانية والحرية في نظام وطاعة، لا يتسمان بالتعقيد ولا بالخنوع، وفي بساطة منضبطة لا تكبلها أثقال القيود المفروضة والمعممة على كل الأفراد رغما عن تباينهم، وفي عدل اجتماعي يتيح لكل فرد – مهما كانت ظروفه، وعلى مدى حياته – فرص التعليم والترقي فيه إذا كانت له رغبة صادقة في ذلك (انظر فور ومن معه، 1974م) فالصرخة اليوم تتعالى في العالم كله طلبا لنظام تربوي متكامل، يتيح فرص التربية المستديمة على كافة المستويات ابتداء برياض الأطفال (التي يجب التوسع فيها لتستوعب كل وليد) إلى المرحلة الثانوية (التي يجب أن يعاد تنظيمها لتتسم بقدر من المرونة يتلاءم مع كل الطاقات، وبالتنوع الذي يمكن أن يجعل منها تأهيل للجامعة وللمهنة وللحياة)، وإلى التعليم العالي (الذي يجب أن تتعدد آفاقه ومؤسساته من الجامعات إلى المعاهد التقنية والفنية العامة والمتخصصة، إلى مراكز البحوث ومعاهده… إلخ، وأن يفتح أبوابه على مصاريعها لكل راغب فيه وقادر عليه) إلى التعليم غير النظامي الذي يهتم بإعداد البرامج الخاصة للشباب وتوجيههم عبر وسائل الناشط الاجتماعي والإعلامي المختلفة ويوفر البرامج الخاصة للشباب في شتى مجالات المعرفة لكل من الموظفين والمهنيين أثناء قيامهم بالعمل، أو حتى تفريغهم – بعض أو كل الوقت – للدراسة بالتناوب، (مع احتفاظهم بوظائفهم وبمرتباتهم كاملة). وبذلك يمكن تحقيق التربية الشاملة المستمرة لكل فرد في المجتمع، وامتصاص القوى البشرية العاطلة عن العمل، وتعليم أفرادها مهارات أو مهنا جديدة يطلبها المجتمع. مما يساعدهم على إيجاد فرص عمل مناسبة، وربما كانت هذه المبررات من الحوافز على إنشاء الجامعة المفتوحة التي تستخدم وسائل الإعلام الحديثة في التربية (خاصة التليفزيون، وبرامجه المطبوعة) والتي تقبل كل من يثبت الرغبة والقدرة على مواصلة السير في الدراسة دون تقيد بالسن أو الحصول على شهادات سابقة، وتمنحه كل الدرجات الجامعية التي يمكن أن يتقدم لها. وليست الجامعة المفتوحة إلا صورة عصرية لحلقات العلم التي كانت تعقد في المساجد منذ السنة الأولى للهجرة (في المسجد النبوي منذ السنة الأولى من الهجرة، وبالحرم المكي منذ عام الفتح 8 هـ، وبمسجدي الكوفة والبصرة منذ 14 هـ وبالمسجد الأموي بدمشق منذ 41هـ، وبجامع الزيتونة في تونس 79هـ، وبجامع المنصور في بغداد منذ 157هـ، وبجامع القرويين في المغرب منذ 245هـ، وبالجامع الأزهر بالقاهرة منذ 361هـ). ويؤمها من يشاء من الناس دون أية شروط إلا الالتزام بآداب الحلقة وإذن أستاذها وشيخها، وما أشبه الجلسة أمام التليفزيون لتلقي العلم عنه بالجلسة أمام الشيخ للتلقي عنه، مع فارق الوجود الفعلي للمربي، وتأثيره الروحي والنفسي على طلابه ومريديه، وما أكبره من فارق.
وانطلاقا من ذلك كله فقد قمت في ندوة عقدت بجامعة الكويت في 3/5/1975م “لتطوير تدريس العلوم بالمرحلة الجامعية الأولى” بالتحذير من خطر “المناهج المحددة” المبنية على العديد من المقررات المتنوعة المتسرعة، وغير المنسجمة، والتي يقوم الطالب بحفظها من أجل الامتحان فقط، الذي أصبح بالنسبة له شيئا يأتي في المقام الأول قبل التعليم، مما جعل دور التعليم الجامعي يتحول من التكوين العقلي للطلاب وتدريبهم على التفكير السليم، إلى مجرد ملء ذاكرتهم بأكداس المعلومات التي قد لا يفهمونها، بل يستظهرونها للامتحان الذي أصبح الوسيلة الرئيسية لتقويمهم، وبذلك انحطت عملية التقويم ذاتها إلى مجرد قياس قدرة الطلاب على أداء الامتحانات، وقدرة ذاكرتهم على الحفظ.
وللتغلب على ذلك قمت بتقديم اقتراح بالعودة بالعملية التربوية إلى أساسها الإسلامي الإنساني البسيط، وذلك بتقسيم الطلاب المتقدمين لأي قسم علمي (مثل قسم الجيولوجيا على سبيل المثال) إلى مجموعات صغيرة بعدد أعضاء هيئة التدريس الموجودين بالقسم، وحسب اختيار كل طالب ورغبته، وفي كل من هذه المجموعات يعمل الطالب من أربعة إلى سبعة أسابيع على الأقل تحت إشراف الأستاذ الذي اختاره، وبالطريقة التي يراها الأستاذ مناسبة له، مستخدما في ذلك كل البدائل المتاحة (المحاضرات، الندوات، القراءات الموجهة، الدراسات المختارة، العمل في المختبرات، أو في الحقل، أو في الصناعة… إلخ)، وفي خلال ذلك تتم عملية تقويم الطالب بصورة مستمرة، وكجزء من العملية التربوية ذاتها -وعلى أساس من ذلك التقويم المستمر- قد يسمح للطالب في الاستمرار مع نفس الأستاذ إلى دورة أو دورات أخرى، أو التحول إلى أستاذ آخر.
وبهذه الطريقة يعمل الطالب لمدة تتراوح بين التسعين والمائة وعشرين أسبوعا في المتوسط تحت إشراف أستاذ واحد أو عدد من الأساتذة، وفي تخصص واحد أو أكثر من تخصص حسب اختياره، علما بأن شرط المدة هذا غير جازم، ومتروك كلية لتقدير الأستاذ، وعلى الطالب بعد ذلك تقديم رسالة مطبوعة في أحد مجالات التخصص الذي اختاره، وأن يجلس لاختيار شفهي شامل قبل منحه الدرجة الجامعية.
هذا النظام يتيح للطالب التخصص العميق إذا أراد، والدراسة العامة على تباين درجات اتساعها حسب ميوله، كما يمكنه من اكتشاف مواهبه ومهاراته ويعينه على تنميتها وتطويرها، وعلى توجيهها إلى تقنية معينة بذاتها، أو إلى إتقان منهجية خاصة، وهذا في حقيقته هو الهدف الرئيسي من التربية الجامعية. والنظام المقترح يعطي الحرية لكل من الأستاذ والطالب، ويعين على تقدير الفروق الفردية بين الناس وأخذها في الحسبان، وعلى التعمق في الدراسة أو تعميمها حسب استعداد كل فرد وميوله وقدراته، كما يشجع على المبادرة، والإبداع، ويساعد على اكتشاف المواهب الدفينة، ويغني عن نظام الامتحانات بصورته الراهنة المضيعة للوقت والمحطمة للأعصاب، وغير المنصفة، كما يشجع على تقدم البحث العلمي، ويصون الأخلاقيات الأساسية للتربية، ويحافظ على طبيعتها الإنسانية النبيلة، ويعمل على تحقيق رسالتها السامية، ويعيد إلى الذهن صورة التقاليد الإسلامية الجميلة التي قامت منذ أمد بعيد، وأثبتت فاعليتها على مدى من الزمن طويل، ثم أقصيت عن معاهدنا التربوية رغما عنها، أو ضحينا بها في محاولات لاهثة لتبني نظم مستوردة غريبة عنا.
وهذا النظام ليس بدعة مستحدثة، إنما هو مستقى من نظام الأزهر الشريف، والذي كان إلى عهد قريب يتبع نظما إسلامية كاملة، فلقد كان الطالب فيه هو الذي يختار بنفسه الأستاذ الذي يتلقى العلم على يديه، وكان له أن يتنقل من أستاذ إلى آخر حسب رغبته، وأن يتقدم للامتحان بمحض اختياره، ومتى رأى نفسه مؤهلا لذلك، ولم يكن الامتحان هو الوسيلة الوحيدة لتقييم الطالب، بل كان رأي أستاذه (الناتج عن معرفة حقة به، واحتكاك وثيق معه) هو الفيصل في ذلك، وكانت الإجازة التي يمنحها تحمل اسم الأستاذ أو الأساتذة الذين تلقى عليهم العلم، ومما لا شك فيه أن نظاما هذا شأنه هو أمثل النظم التربوية وأكثرها إنسانية، بدليل أن تجارب العالم التربوية قد وصلت بعد بحوث عديدة طويلة إلى التوصل به والعودة إليه، وإن لم يسموه بتسميته الحقيقية، ولم يصفوه بأنه النظام الإسلامي في التربية (انظر فور ومن معه، 1974 ص 305 – ص 306). أضف إلى ذلك أن طالب العلم آنذاك كان يطلبه حثيثا لذاته، ويقطع المسافات الشاسعة من أجله، ولا يبالي بالاغتراب والحرمان من متع الحياة في سبيله، ولم يكن يلهيه عنه أي شاغل من شواغل الدنيا، وكان يعتبره نوعا من عبادة الله والجهاد في سبيله، وهذا لا يمكن أن يكون في غير الإطار الإسلامي.
وليس معنى ذلك أننا نريد العودة بالعملية التربوية إلى ما كانت عليه في الماضي تماما – فذلك مخالف لطبيعة العصر، وسنن الأيام، ولكننا نريد التأكيد على عدد من المعاني والقيم التي لازمت العملية التربوية في ماضينا المجيد، وأثبتت نجاحها وتفوقها، ونحن في دعوتنا هذه لا يفوتنا التأكيد على الاستفادة بالتجارب الإنسانية في ميدان التربية خلال القرن الماضي بصفة خاصة، فالحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أولى الناس بها، والمعرفة تراث البشرية كلها، ساهمت كل الأمم والشعوب في إثرائها وتنميتها على مدار السنين، وتتابع الحضارات. ونحن نعلم أن العملية التربوية أصبحت خاضعة في كثير من جوانبها للمنهج التجريبي، ولا نجد سببا واحدا يمكن أن يحول دون الاستفادة بكل ما تجمع لدى الإنسان من نتائج في هذا المجال، ما دام لا يتعارض مع الإسلام ونصوصه وفلسفة التربية الإسلامية وأهدافها، فسواء اشترط في معلم المرحلة الابتدائية أن يكون مدرس فصل أو مدرس مادة (بمعنى أن يعد إعدادا عاما يجعله قادرا على تدريس كل المواد المناسبة لمرحلة الطفولة المبكرة، بحيث يختص كل فصل بمدرس واحد يقوم بتدريسه جميع المواد، أم يعد إعدادا متخصصا في مادة أساسية أو في مجموعة من المواد المتجانسة التي يقوم بتدريسها لعدد من الفصول)، أو نظم التدريس في تلك المرحلة بمزج هذين الاتجاهين (حيث يعد المعلم للصفوف الأولى إعدادا عاما، وللصفوف المتأخرة إعدادا متخصصا) أو بتجميع المدرسين في فرق متعاونة تعمل على التخطيط للعملية التربوية وتنفيذها سواء أكانوا متساويين في المسئوليات، أو متدرجين فيها، أو متناوبين عليها. كل هذه تفاصيل مرهونة بنتائج تجريبها. فإذا كانت ناجحة، فنحن أولى الناس بها. ولكنها نحذر من خطورة تعريض الصغار للعديد من التجارب التربوية لأن الضرر الذي يمكن أن ينجم عن ذلك قد يكون أكبر من إمكانية تلافيه.
9- العمل على الفصل بين الجنسين في مراحل التربية المختلفة:
فإن حضارة الإسلام في إنسانيتها ونبلها وسموها قد قامت على الفصل بين الجنسين إكراما للمرأة، واعترافا بحقوقها التي تقتضيها طبيعتها، وصونا لها. وإن كان الاختلاط قد فرض علينا وعلى نظمنا التربوية المعاصرة من قبل الاستعمار وأعوانه من أبناء أمتنا الدائرين في فلكه، المفتونين بحضارته، فإن من واجب التربية الإسلامية التنبيه إلى خطر ذلك والعمل على درئه بإقامة مؤسسات تربوية لكل من الجنسين منفصلة تمام الانفصال، والدعوة إلى ذلك ما استطاعت إليه سبيلا، وفي ذلك كتب الأستاذ الدكتور محمد محمد حسين (1967) في كتابه “حصوننا مهددة من داخلها، ص 258” ما نصه: “… فإذا هذا الاختلاط يصبح حقيقة واقعة بطريق ملتو خفي لم يكد يتنبه إليه أحد، بعد أن طالت المدرسة الابتدائية إلى ست سنوات يتجاوز فيها الذكور والإناث. ومن المعروف أن الإناث في بلدنا يدخلن سن المراهقة في وقت مبكر لا يتجاوز السنة الحادية عشرة في كثير من الأحيان، بل لقد أصبحنا أمام بعض المدارس المختطة في مرحلة التعليم الإعدادي، بعد أن تكشفت تجربة الاختلاط في جامعاتنا من مآس لا يستطيع تجاهلها إلا مكابر أو مدلس، وأصبح هذا النظام ضربا من ضروب الالتزام لا يستطيع والد أن يفر منه أو يتفاداه، لأن عليه أن يختار بين أن يبعث بابنه وبابنته إلى هذا الوسط وبين أن يحرمهم من التعليم ويحجبهم في ظلمات الجهل، بل إنه لا يستطيع اختيار الطريق الثاني – على ظلمه وظلامه – لأن قوانين الدولة تجبره على أن يعلم أولاده حتى نهاية هذه المرحلة الأولى على الأقل”.
10- العمل على إقامة مؤسسات تربوية إسلامية شاملة: من المراحل الابتدائية حتى الجامعة بجهود شعبية؛ حيث إن الأمل في استجابة الحكومات لذلك النداء الخير ضعيف، والتعقيدات المحيطة بها قد لا تمكنها من الخروج مما تورطت فيه. وأول ما يجب الاهتمام به من بين تلك المؤسسات التربوية هو معاهد المعلمين والمعلمات. فهذه إذا ما أقيمت على أسس إسلامية صحيحة خرجت المعلم المسلم والمعلمة المسلمة، وبهما يمكن إحداث الكثير من التغيير، وإيحاء موات هذه الأمة التي أريد لها أن تقبر وهي حية بأيدي أعدائها، وأيدي نفر من أبنائها جهلوا عقيدتها وتراثها وضلوا طريقهم في تلك الحياة.
11- العمل على وقف جميع المدارس التبشيرية والنشاط التبشيري في العالم الإسلامي.
وذلك لأن كثيرا من المصائب التي جرت في العالم الإسلامي سببها المدارس التبشيرية، فبينما أتباع محمد صلى الله عليه وسلم يؤمنون ببعثة السيد المسيح عليه السلام، فإن ما يسمون أنفسهم بالمسيحيين لا يعترفون ببعثة سيدنا محمد، بل قد انحرفوا عن تعاليم السيد المسيح نفسه، بينما المسلمون يدعون الناس كلهم إلى الله، فإن مهمة المسيحيين في العالم الإسلامي هي صرف الناس عن طريق الله؛ لأنهم لا يطمعون في كسبهم إلى داخل أديرتهم وكنائسهم، ويكفي في ذلك الإشارة إلى ما يحدث في إندونيسيا والفلبين، والباكستان، وأفغانستان، وإيران، والعراق، وسوريا، والأردن، ولبنان، ودول الخليج وفي اليمن، ومصر والسودان، والصومال، والحبشة… إلخ.
وتكفي أيضا الإشارة إلى أن بالأردن أكثر من مائة وأربعين مدرسة تبشيرية الغالبية العظمى من طلابها (أكثر من 85%) من المسلمين.
وواجب المسلمين الغيورين على دينهم، والحريصين على تنشئة أبنائهم على أسسه وفي هداه، ألا يكتفوا فقط بإقامة البديل -وهو نظام تربوي إسلامي شامل- بل لا بد من وقف جميع المدارس التبشيرية والنشاط التبشيري في العالم الإسلامي.
12- العمل على أن يكون التعليم بمختلف مراحله في الدول العربية بلغة القرآن الكريم.
ودعم ذلك بحركة ترجمة واسعة لأمهات الكتب في مختلف مجالات المعرفة، على أن يصاحب الترجمة تعليق هامشي مبسط من المترجم على كل فكر يرى فيه انحرافا عن النهج الإسلامي الصحيح في النظر إلى الإنسان والكون والحياة وإلى معنى ألوهية الله، أما في الدول الإسلامية غير العربية فلا بد من الاهتمام البالغ بدراسة اللغة العربية في مختلف مراحل التربية.
13- الاستفادة من مختلف التجارب البشرية في مجال التربية، ومن أحدث وسائل التقنية – خاصة في مجالات الاستنساخ والتبليغ – وأنسب وسائل الإيضاح (خاصة الأفلام والشرائح)، دون مبالغة أو إسراف.
14- العمل على الاهتمام بالتدريب العسكري في تربية الذكور، وبالتمريض والتدبير المنزلي في تربية الإناث من بداية تمكنهم من ذلك.
(ب) في نطاق المجتمع:
لم تكن التربية الإسلامية في يوم من الأيام وقفا على النخبة المتميزة في المجتمع بالجاه والسلطان والمال، ولم تكن جماعية قسرية، تلغي الوجود الفردي أو تهمله… فالإسلام نزل للناس كافة، وطالب الجميع بالإيمان والعلم والعمل والالتزام بالأخلاق، وهذا لا يمكن أن يتأتى بدون تربية، ومن هنا كانت التربية حقا مشروعا لكل مولود، وفريضة على كل مسلم بالغ عاقل، ومسئولية في عنق كل متعلم أن يعمل بما علم، وأن يؤدي زكاة علمه لكل محتاج إليه، ومن هنا أيضا وجب القضاء على الأمية في المجتمع الإسلامي، بل في المجتمع الإنساني الكبير.
والأمية صنفان: “أولهما جهل بالقراءة والكتابة، وهذه بلغت نسبتها في سنة 1970م بين البالغين (أكثر من 15 سنة) في العالم 34.2%، وفي دول العالم الإسلامي حوالي 75% (فور ومن معه، 1974).
وثانيهما جهل برسالة الإنسان في هذه الحياة، وبمصيره بعدها، وهذه أخطر من أمية القراءة والكتابة. أخطر قدرا لأن الذي يقع فيها يفقد الجزء الأعظم من إنسانيته، وأخطر نسبة لأن الغالبية العظمى من الناس اليوم واقعون في براثنها. ومن واجب التربية الإسلامية محاربة كلتا الأميتين بأسلوب علمي متكامل يخطط له وتتضافر جهود المسلمين في تنفيذه على المستويين الرسمي والشعبي، الجماعي والفردي، وبإستراتيجية مبدئية مقترحة على النحو التالي:
1- تكوين هيئات متخصصة تقوم بهذه المهمة بأسلوب عصري منهجي سليم، ودعمها بالقوى البشرية الصالحة اللازمة لذلك، وبكل احتياجاتها المادية والمعنوية، وبالوسائل التي تمكنها من تحقيق غاياتها.
2- دعوة الأميين للتعامل، وإيجاد الحوافز الفردية والجماعية اللازمة لذلك، خاصة أن الأمية منافية للإسلام، ولكرامة الإنسان، ولا يجوز لمسلم أن يبقى أميا لأن ذلك يحول بينه وبين نعم كثيرة أولها تلاوة كتاب الله الكريم وسنة رسوله المطهرة، وآخرها الاطلاع على تراث الإنسانية الهائل في مختلف جوانب المعرفة مما يمكنه من القيام بدوره الحقيقي كخليفة لله في الأرض، وبمسئولياته تجاه نفسه ومن يعول، وتجاه مجتمعه وأمته، بل وتجاه الإنسانية كلها، كذلك من الواجب دعوة الإنسانية كلها إلى الإسلام بوصفه آخر الرسالات السماوية وأكملها وأتمها، خاصة أن الناس اليوم على اختلاف ألوانهم يتطلعون إلى هذا النور. والدعوة للإسلام يجب أن تكون بأسلوب عصري وحجة منطقية واضحة فالغالبية العظمى من الناس في غير ديار الإسلام لم تقرأ عن الإسلام، وربما لم تسمع به على الإطلاق، أو سمعت كلاما محرفا، ومن واجب المسلمين نقل صورة واضحة عن هذا الدين القيم إلى هؤلاء الناس إعذارا إلى الله، وتأكيدا على معنى الأخوة الإنسانية، وأملا في أن تتوقف تلك الحروب الظاهرة والمستترة، والتي تتبناها حكومات تلك الدول ضد الإسلام.
3 – دعوة المتعلمين على مختلف مستوياتهم إلى التطوع لمحو الأمية بنوعيها، وليبدأ كل منهم بأقرب الناس إليه، أهلا له. أو خدما في بيته، أو عمالا يعملون تحت إشرافه، ويمكن الاستفادة في ذلك بأئمة المساجد ووعاظها، وبموظفي الدولة في أوقات فراغهم، وبالمحالين إلى التقاعد ممن تعينهم ظروفهم الصحية على ذلك، وبالطلاب خلال العطلات المدرسية، وبوسائل الإعلام المتطورة مثل التليفزيون، وبمباني المدارس والمعاهد التعليمية المختفية في غير أوقات الدراسة، ويمكن أيضا الاستفادة بالأعداد الهائلة من المسلمين المتواجدين في بلاد غير إسلامية، وأن نشمل الأعداد الكبيرة من غير المسلمين المتواجدين في ديار الإسلام في هذا البرنامج، والتأكيد على أنها مهمة من أنبل المهمات التي يمكن أن يقوم بها المسلم، ومن أجمل ما يمكن أن يتقرب به المرء إلى الله!
4 – العمل على إحياء رسالة المسجد من جديد ليعود كما كان حتى الماضي القريب: مكانا للعبادة، ومدرسة لتعليم الناس القراءة والكتابة وتحفيظهم كتاب الله، وجامعة شعبية مفتوحة تعقد فيها حلقات العلم التي يحضرها الناس بدون أية شروط، وتدار فيها المحاضرات والمناقشات العلمية على مختلف المستويات، ومجلسا للشورى، ومنتدى إسلاميا، ودارا للقضاء، ومركزا تنطلق منه الجيوش، ودارا لضيافة الوفود، ومركزا إعلاميا للإسلام، وملجأ لمن لا ملجأ له، والمسجد بهذه الصورة يربط أفراد المجتمع الواحد برباط وثيق، ويؤكد على معنى الأخوة بين الناس، وعلى ضرورة التعاون والتكامل بينهم. ولو أن كل مسجد في الأرض اليوم قام بمسئولياته تلك لانقشعت غيوم الأمية عن العالم الإسلامي بل عن العالم كله في زمن قصير جدا.
وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى ضرورة إعادة النظر في تخطيط بناء مثل هذا المسجد الجامع تخطيطا هندسيا يمكنه من القيام برسالته الشاملة، فيحتوي على قاعة للصلاة ومركزا لتحفيظ القرآن، ومكتبة عامرة، وقاعة للمحاضرات العلمية والفكرية والاحتفالات الدينية والاجتماعية، وكذلك يحتوي على مركز للإسعاف ومستوصف وصيدلية، وكل ما يمكن أن يعين على تحقيق رسالة المسجد الكلية.
وتجدر الإشارة كذلك إلى ضرورة التأسي بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما اتبعه في بناء مسجده من البساطة والبعد عن البذخ والترف والإسراف، وهذه الأمور التي تلاحظ في كثير من المساجد التي أنشئت وتنشأ في العالم الإسلامي اليوم من المبالغات التي يرفضها الإسلام. فلو أن الملايين التي تنفق على زخرفة المساجد والمبالغة في فخامة مبانيها توجه إلى استكمال رسالة المسجد على النحو الذي أسلفناه ما بقيت أمية في العالم الإسلامي. فنظام “الكتاتيب” الذي لعب دورا رئيسيا في القضاء على الأمية ونشر العلم في مختلف ربوع العالم الإسلامي قد بدأ أساسا في المسجد ثم انتقل إلى غرفة مجاورة له توقيرا لمكان العبادة وحتى لا يكون في عملية التعليم والتعلم إزعاجا للمصلين، وتطور الأمر بعد ذلك في مراحل متعددة حتى إن مسجد سليمان القانوني في تركيا كان يضم إلى ساحته عشر مؤسسات منها كليات أربع، ومدارس، ومستشفى، ووحدات سكنية لطلاب العلم، وكان المسجد يتحول في فترات ما بين الصلاة إلى قاعة حقيقية للدرس والمحاضرات، وكذلك كان مسجد محمد الفاتح الذي ضم على جانبيه كليات، ومضيفة، ومستشفى، ومركزا لتوزيع الطعام، وبالمثل كانت مدينة البعوث الإسلامية إلى جانب الجامع الأزهر.
5 – الدعوة إلى تخصيص جزء من زكاة الأموال للإنفاق على مراكز التربية الإسلامية (من مدارس ومعاهد وجامعات) فهذا هو أحد فقهاء المسلمين المرموقين في زماننا (القرضاوي 1389هـ/ 1969م ص 668) يكتب في تفصيل المصرف السادس من مصارف الزكاة، والمعبر عنه بالنص القرآني “وفي سبيل الله” ما يدعم ذلك ويؤيده ونقطتف من ذلك قوله: “… لهذا نرى أن توجيه هذا المصرف إلى الجهاد الثقافي والتربوي والإعلامي أولى في عصرنا بشرط أن يكون جهادا إسلاميا خالصا، وإسلاميا صحيحا، فلا يكون مشوبا بلوثات القومية والوطنية، ولا يكون إسلاما مطعما بعناصر غربية أو شرقية، يقصد بها خدمة مذهب أو نظام أو بلد أو طبقة أو شخص. فلا بد إذن أن يكون الإسلام هو الأساس والمصدر، وهو الغاية والوجهة، وهو القائد والموجه، حتى تستحق تلك المؤسسات شرف الانتساب إلى الله، ويعد العمل فيها ولها جهادا في سبيل الله”.
6 – الدعوة إلى إعادة نظام الوقف الإسلامي بصفة عامة، والوقف على التربية الإسلامية ومعاهدها بصفة خاصة، ومطالبة الحكومات التي حلت هذا النظام واستولت على أمواله بالتعويض عنها، ومطالبة كل قادر بدعمه، ثم التخطيط لحسن إدارة هذه الأموال، واستخدامها لتحقيق الأغراض التي توقف من أجلها.
7 – العمل على إقامة المجتمع الإسلامي بكل سماته؛ لأنه مجتمع بطبيعته يحارب الأمية بنوعيها، ويعمل على نشر العلم، وعلى الترقي بالإنسانية في مدارج الكمال البشري، فإن مجتمعا يحكمه القرآن الكريم لا يمكن أن تبقى فيه أمية، فضلا عن جهالة. فمن واجبات المسلم قراءة القرآن وتفهم آياته، والتعرف على تشريعاته وأحكامه، وهذا لا يمكن أن يتأتى إلا بقدر من المعرفة يمكنه من ذلك، وعليه لم يكن مستغربا (كما سبق أن أشرنا) أن تنتشر مراكز التعليم الابتدائي (الكتاتيب) والعالي (المدارس ودور العلم والجامعات) في مختلف أرجاء العالم الإسلامي على هيئة نظام تعليمي حر يعتمد على تكافل أفراد المجتمع الواحد، أو على التطوع أو على الأوقاف، أو على العون المادي من ذوي الثراء، ولم يكن من المستغرب أيضا أن يقوم العديد من ميسوري المسلمين باقتطاع أجزاء من ممتلكاتهم ووقفها على التعليم أو على الدعوة الإسلامية.
وفي إقامة المجتمع الإسلامي تحقيق للنموذج الذي يحتاج الناس إلى رؤيته واقعا حيا بينهم، يمكن أن يقتدوا به، ويقتفوا أثره.
أساليب التربية الإسلامية:
إذا كانت فلسفة التربية الإسلامية تتميز بالشمول والتكامل والتوحيد والتسامي، فإن أساليبها تتميز كذلك بالتعدد والتنوع في شمول معجز، وتكامل دقيق، وتوازن محكم، وإيجابية سوية، ومثالية واقعية.
وقد يتخيل البعض أن في الدعوة إلى العودة بالتربية إلى منهجها الإسلامي يستلزم انغلاقا عن أساليب التربية الأخرى، أو عودة إلى الأساليب البدائية في التربية، وإهمال منجزات الإنسان في هذا المجال الحيوي عبر القرون الطويلة الماضية. وهذا وهم خاطئ: لأن الإسلام يعتبر الحكمة ضالة المؤمن، ويؤكد على أنه أنى وجدها فهو أولى الناس بها، ويرى أن المعرفة الصحيحة المؤكد هي تراث الإنسانية كلها، وصورة من صور الحق التي تجب صيانته والمحافظة عليه، فكل تقدم يتحقق في أساليب التربية ووسائلها: نحن أولى الناس بالمسارعة إليه والأخذ به بعد تحقيقه ودراسته، والتأكد من موافقته لفلسفة التربية الإسلامية وأهدافها.
وهذا اللقاء العرضي في الأسلوب بين التربية الإسلامية وغيرها من نظم التربية، هو لقاء في جزئية من الحق، وفي بعض جوانبه، ولكن تبقى التربية الإسلامية تربية ربانية متميزة، وفي ذلك كتب قطب (1974، ص 13) ما نصه: “… إن البشرية لم تعرف في تاريخها كله نظاما بهذه السعة وهذا الشمول وهذه الإحاطة، بحيث لا يند عنه شيء في حياة الإنسان، ولا لحظة من حياته لا تقع في محيط منهاجه الشامل الدقيق، وتظل له مزية أخرى فوق ذلك: هي أن هذه السعة وهذه الإحاطة لا تخرجان به عن وحدة الهدف ووحدة الطريق، فهو ليس طرائق قددا كل منها يؤدي إلى غاية منفصلة ويجذب النفس في اتجاه، فتتمزق بين الشد والجذب، وإنما هو طريق واحد وغاية واحدة تجمع كل شتات النفس وتوحدها، فتستقيم على النهج، وتتجمع على الغاية، فتلقي النفس من داخلها في سلام بعضها مع بعض، وفي سلام من خارجها مع الكون والناس والحياة”. وفي ذلك أيضا كتب الجمالي (1967، ص 148) موجزا رأيه في التربية القرآنية، بعد تفصيل مسهب بقوله: “… إني لا أعرف كتابا في التربية قديما كان أو حديثا، يحوي الثروة التربوية العظمى في الأهداف والمحتويات والأساليب مقرونة بالتسامي والواقعية والشمول والاتزان كالقرآن الكريم”.
ومن أساليب التربية في القرآن الكريم أسلوب التربية بالتلقين والمحاكاة، وباتباع القدوة، وبالتعليم، والممارسة والتعود، وبالعمل، وبالتكرار، وباستعمال المنطق والمحاكمة العقلية، وبالتأثير في النفس وإثارة العواطف، وأسلوب القصة والبيان المعجزة، والحوار، والمساءلة، والوعظ وضرب الحكمة، واستعراض الأمثال، وتقرير الواقع، واستخلاص العبرة، واستخدام الحس في التأمل والتفكر والتدبر، وشفافية الروح، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأسلوب الترغيب والترهيب، والبشارة والنذير والتعذير والقصاص، وقبول التوبة والغفران… إلخ.
تلك هي بعض أساليب التربية الإسلامية كما ورد في القرآن الكريم، وهي تتعاون كلها في تحقيق هدف واحد هو تربية الإنسان الصالح، ويستخدم منها ما يتلاءم مع طبيعة كل إنسان، وإمكاناته، وتهيؤه النفسي، وسنه، وقدرة إدراكه، إلا أن التعليم بالعمل يبقى من أهم أساليب تلك التربية الربانية، فتكوين الأخلاق الفاضلة لا يتم بالوعظ فقط، ولا بالحفظ وحده، ولا بالاقتناع العقلي بمفرده، بل يحتاج إلى ممارسة فعلية يقوم بها الإنسان حتى يتعود هذه الأخلاق الفاضلة فتصبح جزءا من كيانه، وطبيعة فيه، لا يطمئن قلبه بغيرها، ولا يرتاح ضميره إذا خرج عليه. فتعود المرء على النظام والأمانة، وضبط النفس، والتعاون مع غيره، والتسامح مع المخالفين له، والتضحية في سبيل المجموع يتطلب مرانا وممارسة من الإنسان طوال حياته حتى تتأصل تلك الخصال فيه، وهذا هو أسلوب الإسلام في التربية بالعبادة، فالنطق بالشهادتين، وإقامة الصلاة على ميعادها، وإيتاء الزكاة كاملة في وقتها، وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا، والجهاد في سبيل الله، في طهارة مادية ومعنوية معا هي بعض أساليب تلك التربية الإسلامية القرآنية.
هذا موجز لأسباب التربية في الإسلام، ولو اتجه المتخصصون إلى استعراض آيات القرآن الكريم وفهمها لخلصوا منها إلى صور عديدة مشرقة لأساليب هذا النهج الرباني في التربية الذي يتميز باتزان عديدة دقيق، وكيف لا وهو من الله خالق الإنسان ومبدع الوجود!!
فالإسلام حينما يهتم بتربية الجسد بالغذاء فهو يعطيه إياه بالقدر المضبوط الذي لا يضعفه ولا يتخمه، وهو حين يهتم بالرياضة يحددها في الإطار الذي لا يلهيه، ولا يغويه ولا يفسده، بالتربية العسكرية يجعله يقبل عليها حماية لدينه، لا استعلاء على الناس أو تجبرا في الأرض، وهو حينما يؤكد على القيام بالعبادات يؤكد على ذلك القدر اللازم لصالح أمره، دون رهبانية وانقطاع عن الحياة أو انشغال بأمور الدنيا عن الآخرة، وحينما يهتم بالعمل الجاد الصالح يؤكد عليه دون مبالغة مهلكة، أو كسل مفسد، وحين يهتم بالجسد إذا مرض يوصي بالعلاج الناجح، دون مبالغة أو تفريط.
والتربية الإسلامية إذ تهتم بالجوانب الروحية في الإنسان، وتربيها بالعبادة فإنها تربطه في ذلك بخالقه، فلا يترك لنفسه في الشدة حتى تقضي عليه، لأن له ربا يلجأ إليه، ولا يطغيه الرخاء فيتجبر في الأرض، لأنه يعلم أن الخير كله من الله وأن مرده إليه، وتعوده التسليم في القضاء، لأنه لا راد له، ولا فائدة من الانهيار أمامه، وتنشئه على حب الحياة، على أنها مضمار التسابق في الكمال الإنساني بالاختيار والوعي، لا دار جشع وطمع وحب في السيطرة والتملك بحق وبغير حق، وعلى أنها دار فناء ومزرعة لدار أخرى خالدة، وتنشئه كذلك على حب الناس وخفض الجناح لهم، والعمل على نفعهم. لأن الخلق عيال الله، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله، وفي نفس الوقت تعوده الاستعلاء على كل جبار في الأرض لأنه لا ألوهية لغير الله، ولا سلطان لأحد سواه. هو مالك الأنفس، لا يأخذها غيره، وواهب الأرزاق لا يبسطها إلا هو!!
ومن أساليب التربية الإسلامية للنفس البشرية تعويدها على النظام والطاعة وعلى العبادة المنتظمة وتأديبها بالوعظ والإرشاد، وبمحاسبة النفس يوما بيوم، وباستنفار الطاقات المختلفة فيها وإثارة عواطفها بالترغيب والترهيب وبالرجاء والخوف، وبالحب والكره، وبالواقع والخيال، وبالمحسوس المدرك والغيب المنبأ عنه وبالمادية والمعنوية، وبالفردية والجماعية، وبالالتزام والتطوع، وبقبول التوبة والغفران.
وسائل التربية الإسلامية:
تتعدد وسائل التربية الإسلامية بتعدد أساليبها، فهي تستخدم كل وسيلة تمكنها من غرس الإيمان في النفوس البشرية وتكوين عاطفة قوية دافعة إلى السلوك بموجبه وذلك اتباع القدوة الحسنة، وباستخدام الحكمة والموعظة، وبالتعود على العبادات، وبالاقتناع العقلي وبيان حاجة الإنسان دوما إلى الله ورعايته، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبحسن توجيه الطاقات البشرية وملء الفراغ في حياتها بالأعمال البناءة، وبسرد الأحداث والعبر، وبالتعذير والعقوبة والقصاص، وبالعلم في مختلف ميادينه خاصة القرآن الكريم وما به من إعجاز بياني وتشريعي وتربوي وعلمي وتاريخي، مما يؤكد على أنه لا يمكن أن يكون إلا من صنع الله، وكذلك استخدام نتائج العلوم الحديثة في تأكيد حاجة الإنسان والكون إلى خالق عظيم مغاير في صفاته وأحواله لهما، وتؤكد على حكمته وعلمه استنتاجا من بديع صنعه، وعلى رعايته لهذا الكون بما فيه ومن فيه، وعلى حاجة الجميع إلى تلك الرعاية في كل لحظة من لحظات الوجود، وقبل ذلك وبعده، فإن من وسائل التربية الإسلامية وصل الناس بالله، وإزالة العوائق التي يمكن أن تحول دون ذلك، بالدعوة المستمرة إلى طريقه بالحكمة والموعظة الحسنة، سيرا على درب الأنبياء واقتداء بهم، والعمل على تطهير المجتمعات الإنسانية من كل ما يمكن أن يحول دون ذلك.
ومن وسائل التربية الإسلامية للعقل الإنساني: تدريبه على طريقة الاستدلال باستخدام المنطق والمحاكمة العقلية، وعلى المنهج العلمي المبني على الملاحظة والاستنتاج أو التجربة والملاحظة والاستنتاج، واستخدام ذلك في التعرف على نواميس الكون وتسخيرها في عمران الحياة على الأرض وازدهارها.
والتربية الإسلامية في ذلك لا تترك الإنسان لحدود فكره وحسه فقط بل تعطيه قدرا من المعرفة بالغيب يعينه على فهم رسالته في الحياة ومعرفة مصيره بعدها، وهذا القدر من العلوم الغيبية محدودة بما يستطيع الإنسان تحمله، وبواسطته يتمكن الإنسان من إقامة شريعة الله في الأرض والتي تعلمه حقوقه وواجباته في تفصيل وإعجاز.
خاتمة
تتلخص أزمة التعليم المعاصر في تزايد الأمية بنوعيها: أمية الجهل بالقراءة والكتابة، وأمية الجهل برسالة الإنسان في هذه الحياة، وكلتا الأميتين آخذة في الازدياد بين الناس وسط عصر تميز بانفجار حقيقي في المعرفة. فالأولى يتزايد فيها مجموع عدد الأميين البالغين في العالم (783 مليون نسمة في سنة 1970، بنسبة 34.2% من مجموع تعداد العالم)؛ وذلك نظرا للانفجار السكاني وللأزمات الاقتصادية التي تحول دون مسايرة التوسع في التعليم للزيادة السكانية (خاصة في الدول النامية)، والثانية تكاد تجرف العالم كله نظرا لتصفية نظم التعليم الديني في العالم بصفة عامة، وفي العالم الإسلامي بصفة خاصة، وإحلالها نظم تعليمية علمانية لا دينية، أصبحت تدور بالعملية التربوية وبالمعارف الإنسانية كلها في إطار مادي صرف، وبذلك تأتي جزئية، قاصرة، منقوصة، لا يمكنها أن تقوم بدورها التربوي أو التعليمي على الوجه الأكمل. وقد زاد هذه العلمانية تعمقا عملية الفصل المتعمدة بين التعليم الديني وغيره (في الدول التي بقي لها شيء من التعليم الديني) خاصة في دول العالم الإسلامي، والتضييق على المعاهد الإسلامية حتى تم حصر نشاطها في دور تقليدي يتلخص في المحافظة على التراث، ونقله من جيل إلى جيل، وذلك درءا لتيار الفكر الإلحادي الوافد من الشرق ومن الغرب، والذي تغلغل في مختلف مجالات المعرفة الإنسانية، وأدى إلى صياغتها صياغة مادية بحتة، تنكر أو تتجاهل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، حتى في المجتمعات التي يؤمن أفرادها بذلك. ثم وقوف المسلمين -وفي مقدمتهم رجال التربية- موقف المستسلم لتلك النظم التعليمية اللادينية السائدة، وباختصار شديد: فإن أزمة التعليم المعاصر تتجسد في غياب المنهج الإسلامي للتربية، وفي غيابه من الدول الإسلامية بصفة خاصة، والتي كان في إمكانها أن تقدم للعالم النموذج التطبيقي في كيف تكون التربية.
وتتلخص العيوب الرئيسية لنظم التربية المعاصرة فيها يلي:
أولا: أن فلسفتها لا تقوم على أساس من وحدانية الله والإيمان به وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، بل تعتمد على فلسفات وضعية انحرفت بالإنسان عن المنهج الرباني وعن الصراط المستقيم.
ثانيا: أنها تقوم على أساس نظم تقليدية، وقوالب جامدة، تفرض على الطلاب فرضا في أطر زمانية ومكانية محددة، تحرم العملية التربوية من الاستمرارية والشمول.
ثالثا: اقتصار هذه النظم (بحكم طبيعة الفلسفات الوضعية التي تقوم عليها) على الجوانب المادية فقط في الإنسان، مما ساعد على نمو هذه الجوانب وضمور الجوانب الأخرى، وبالتالي خروج الإنسان عن إطار إنسانيته المتسمة بتوازن محكم بين مادة وروح.
رابعا: سيطرة المنهج المادي على الفكر التربوي المعاصر جعل المعرفة معزولة عن الحكمة وأدى إلى ضياع الجانب الأخلاقي والديني، وبضياعه انحسر دور التربية في نقل المعلومات والتدريب على قدر من المهارات، وقد أفرز ذلك النوع من التعليم إنسانا ماهرا غير ملتزم بالأخلاق كان من أبرز أسباب الأزمات العالمية الراهنة.
خامسا: افتقار المربين أنفسهم للنظرة السوية إلى الإنسان والكون والحياة ولمعنى ألوهية الله، مما أدى إلى فقدهم لدورهم كقدوة حسنة يقتدي بها الطلاب ويتمثلون سلوكها، وبذلك افتقرت العملية التربوية إلى أحد عناصرها الأساسية.
سادسا: فقدان الرغبة الحقيقية في التعليم نظرا لضياع الجانب الديني والأخلاقي، وللقدوة الحسنة مما حدد هدف الطلاب في الحصول على المؤهل لاستخدامه كوسيلة في الوصول إلى وضع اجتماعي ومالي أفضل، بينما الأصل في التعليم أنه ضرورة من ضرورات الوجود الإنساني وليس وسيلة للاستعلاء الاجتماعي.
سابعا: افتقارها إلى الجوانب الإنسانية كالعلاقة النبيلة بين الطالب والأستاذ. وبينه وبين زملائه مما أدى إلى تدهور الحياة التعليمية تدهورا ملحوظا، ومن مظاهر ذلك التدهور انصراف الطلاب عن التعليم وانشغالهم بالعديد من حركات الرفض السلبية التي أخذت تجتاح المجتمعات المعاصرة كلها. ومن مظاهره أيضا تدهور النظام التربوي ذاته، فالقبول مبني على التمييز بين الناس، ومناهج التعليم محددة جامدة تقتل روح البحث والاستقصاء والإبداع وتشل من حرية كل من الطالب والأستاذ، ونظام الامتحانات نظام موروث من القرون الوسطى وقد أثبت قصوره في قياس قدرات الطلاب وتقييم مستوياتهم، وأدى إلى فشل الكثيرين منهم.
ثامنا: هذه النظم التربوية قامت على الفصل بين المعارف، وتضييق الاختصاصات إلى درجة جعلتها (بصورتها الراهنة) لا يمكن أن تتدخل في القضايا الكلية لمجتمعاتها مثل قضايا الحرب والظلم والاستعمار والاضطهاد العنصري، ومشاكل الجهل والجوع والحرمان، والقلق، والآلام، وأخطار التلوث، وتناقص المواد الغذائية والموارد الطبيعية، واستعباد الآلة للإنسان، والتحلل الأخلاقي والبعد عن الدين، وهذه قضايا لا يمكن للمجتمع أن يعيش دون أن يهتم بها ويصل إلى وسائل لحلها، إقصاء التربية المعاصرة عن مثل هذه القضايا الكلية (مهما كانت الأعذار) سيجعلها دائما في معزل عن مشاكل المجتمع وقضاياه، وهذا -في حد ذاته- إهدار لقيمة العلم ولدور المتعلمين، كما أنه يهدد وحدة الجنس البشري ومستقبله.
تاسعا: أن هذه المناهج التربوية الوضعية القاصرة (سواء أكانت في العالم الليبرالي أو الشيوعي) قد سيطرت على الفكر التربوي في العالم بحكم سيطرة دولها (الكتلتين الكبيرتين) وقد انتقلت عدوى ذلك إلى البلاد الإسلامية، وغيرها من دول العالم الثالث مما أفسد مناهج التربية فيها لأنها تتنافى مع عقائدها وفكرها وتراثها، ومع احتياجاتها وإمكانياتها المادية، مما يؤدي غالبا إلى انفصام في شخصية متعلميها، وضعف لمردودها، وبطالة بين المتعلمين وعواقب ذلك النفسية والاجتماعية والاقتصادية الوخيمة، وهي من الأمور التي تهدد المجتمعات الإنسانية بالانهيار.
هذه بعض نقائص النظم التربوية المعاصرة التي تقف من وراء أزمة التعليم المعاصر، وهذه لن تحلها الإصلاحات الجزئية من قبيل الدعوة إلى جعلها تربية مستمرة، حرة، مفتوحة للجميع، ونزع الطابع الجامد عنها، أو القضاء على التمييز بين مراحلها (الابتدائي، المتوسط، الثانوي، والعالي)، وعقد الصلات بين التعليم والمجتمع، أو الاهتمام بالتربية قبل المدرسة، أو جعل التعليم شاملا لا يفضل بين تعليم عام وتقني، أو ربط بالعمل، أو استخدام التقنيات الحديثة بين وسائله. فهذه كلها أمور جزئية لا تستطيع حل مشاكل التربية التي تعتبر من أعقد العمليات الإنسانية وأخطرها، ولذلك فالعلاج لا بد أن يكون علاجا كليا شاملا، وهذا العلاج الكلي الشامل لا يمكن أن يكون علاجا كليا شاملا، وهذا العلاج الكلي الشامل لا يمكن أن يكون من وضع بشر، لأن البشر محكومون بحدود قدراتهم، وبقصور إمكانياتهم، ومن ثم فالعلاج لا يمكن أن يكون موجودا إلا في رسالة من السماء إلى الأرض. والرسالة السماوية الوحيدة الموجودة بين أيدي الناس، والمحفوظة بنفس اللغة التي نزلت بها دون تحريف أو تغيير أو تبديل: هي الإسلام كما يعلمه لنا القرآن الكريم. والتربية القرآنية هي قمة النظم التربوية قاطبة لأنها تربية الله الذي خلق، والذي هو أدرى بطبيعة خلائقه وبأفضل الوسائل لتربيتهم.
وتتلخص فلسفة التربية الإسلامية في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، والالتزام بالعمل الصالح، والتعاون عليه، والتعرف على الحق والتواصي به، وبناء الإنسان بناء متكاملا (يقوم على تأديب النفس، وتصفية الروح، وتثقيف العقل، وتقوية الجسد) حتى يصل إلى الكمال الإنساني المتسامي باستمرار، وصولا اختياريا واعيا، في إطار من القيم الربانية، والأخلاق القرآنية التي ينشأ من الصغر عليها، ويعود على التعامل بها حتى تصبح جزءا لا يتجزأ من كيانه.
والتربية الإسلامية تعتبر العلم النافع مكملا لإنسانية الإنسان، ومعينا له على القيام بخلافة الله في الأرض، ومن ثم تجعل لكل مولود حقا طبيعيا في التربية والتعليم، وتعتبر طلب العلم فريضة على كل مسلم، وتأخذ التربية وبشمولها للجوانب الجسدية والعقلية والنفسية والروحية في الإنسان، وتعمل على تعهد كل هذه الجوانب والنمو بها في عدل وتوازن، وهي تعتبر الخير أصيلا في الإنسان، ومن ثم فمن واجبها المحافظة على فطرته السوية وتنميتها على ذلك الخير حتى تنطبع به، وقمة الخير في الإنسان: هي العبودية لله وحده بلا شريك. لأنها تجسيد لمعنى التكريم الذي كرمه به الله. والتربية الإسلامية تعتبر حب الخير وحب الحق وحب الجمال من القيم الأصيلة في النفس البشرية، وأن من واجب التربية المحافظة على تلك القيم وتنميتها، وهي تعتبر التربية عملية مستمرة مواكبة لرحلة الحياة من المهد إلى اللحد. بل تمتد بها إلى ما قبل المهد وذلك ببناء المجتمع الصالح المتعلم المستنير الذي يقنن لحسن اختيار الوالدين في إطار من الشرعية التي وضعها الله، إعدادا لمقدم الجنين الصالح، ثم للعلاقة العائلية المستقرة، وحقوق الفرد (طفلا، وشابا، ورجلا، وكهلا) وواجباته تجاه أهله ومجتمعه وقومه، بل تجاه الإنسانية كلها. وهي من القضايا التي تهتم بها التربية الإسلامية لأنها في أساسها تربية إنسانية، غير محدودة بحدود إقليمية ضيقة، وهي تربية تتحقق فيها المساواة بين الناس على اختلاف ألوانهم وألسنتهم وأجناسهم، وبين الذكر والأنثى، وهي تأخذ في الحسبان تباين الأفراد في قدراتهم وملكاتهم ومواهبهم واستعداداتهم، فتقوم على أساس من التربية الفردية الحرة غير المقيدة بأغلال النظم العلمانية، ينهل منها الطالب بغير قيود مسبقة، ويتحرك فيها حركة أفقية ورأسية حسب ميوله وقدراته وبمشورة أستاذه، وحسب ظروف حياته وعمله، بل تيسر له خارج نطاق المعاهد التربوية بصور شتى (المسجد، الندوات، المحاضرات، الإعلام، البرامج التدريبية والتعليمية المختلفة… إلخ)، كما تدعو إلى المشاركة الفعلية من جانب الطالب، الذي يعود على التعليم الذاتي، ولا يعتمد على التلقين الحرفي.
والتربية الإسلامية إذ تحسن اختيار المربين وتشترط فيهم شروطا عالية، فإنها تهتم بهم اهتماما بالغا وتعمل على أن توفيهم حقهم وقدرهم، فهم القدوة الحسنة، والنموذج الذي يقتدى به، وذلك انطلاقا من رؤيتها: أن العلم بدون عمل صالح: علم ناقص.
ومن سمات الشمول في التربية الإسلامية شمول مصادر المعرفة فيها، فهي لا تقصر ذلك على العلم البشري المكتسب وتراث الإنسانية المتراكم فيه، بكل حسناته وأخطائه، ومزاياه وعيوبه، ولكنها تجعل بجانبه معيارا ربانيا هو الوحي السماوي المنزل الذي اكتمل في القرآن الكريم وهو المصدر الرئيسي للتربية الإسلامية، وتأتي بعده السنة النبوية المطهرة، أما في بقية الأمور فالإنسان مأمور باستخدام حواسه وعقله في عملية من الكشف المتسمرة وتحكيم العقل والاستدلال بالبرهان المنطقي ورفض التقليد الأعمى، والجمود على المفاهيم الخاطئة.
وحتى هذه المعارف الكونية (في التربية الإسلامية) ليست معزولة عن الحكمة، ولا مجرد من الإيمان، فإذا كان العلم التجريبي وتطبيقاته في مجال التقنية علما بالمادة وصفاتها وقوانينها، ومحاولة لتسخيرها، وعلما بالكون وسننه، فإن الإيمان معرفة بالله خالق المادة، ومؤسس قوانينها. ومبدع الكون، ووضع نواميسه، وخالق الإنسان، ومستخلفه في الأرض، وواهبه تلك القوى التي تعينه على تسخير الكون وسننه من أجل القيام بواجبات الخلافة، كلاهما علم لا غنى للإنسان عنه.
وفوق ذلك كله فالتربية الإسلامية تنطلق من التصور الإسلامي الصحيح للإنسان والكون والحياة ولمعنى ألوهية الله، ومن ثم فهي تعمل على تنشئة الإنسان والكون والحياة ولمعنى ألوهية الله، ومن ثم فهي تعمل على تنشئة الإنسان الصالح الذي يدرك حقيقة دوره في الحياة.
من ذلك يتضح أن علاج أزمة التعليم في العالم اليوم (بأبعادها المادية والمعنوية) هو في قيام التربية الإسلامية الشاملة واقعا حيا بين الناس، ونموذجا يقتدى به ويهتدى بهديه. ولما كان ذلك غير محقق اليوم، باستثناء بعض البادرات الطيبة التي بدأت تنشط بصورة محددة في أماكن متناثرة من العالم الإسلامي، فقد خلص البحث إلى اقتراح خطوط عريضة لما يجب أن تكون عليه إستراتيجية التربية الإسلامية اليوم. أسأل الله العلي القدير أن ينفع بها، وأن يهيئ لها أذنا صاغية تستمع إليها.