ثورة 25 يناير بمصر ثورة غير مسبوقة بشهادة العدو قبل الصديق، وهى فى نفس الوقت ثورة يتهددها كثير من التحديات ويتربص بها كثير من الأعداء للقضاء عليها، فأمام المصريين الكثير لتحقيقه قبل أن يستقر الوطن ويهدأ تحت نظام جديد من الحرية والعدل والكرامة.
وفى محاولة لقراءة المرحلة الأولى من الثورة (من 25 يناير الى 11 فبراير) نجد أن المصريين قد استحضروا، دون تنظير واضح، منظومة فقه الحياة(1)، هذه المنظومة المكونة من خمسة عناصر هى: المقاصد والأهداف، الإيمان، القيم والأخلاق، السنن أو قوانين العمل، وأخيرا الضوابط الشرعية (والتي كانت حاضرة بطريقة مبدعة وملهمة تستحق دراسة مستقلة).
المقاصد أوالاهداف:
لقد تحرك المصريون فى 25 يناير لتحقيق هدف واضح جامع، كان يختلج فى نفوسهم منذ سنوات طويلة دون إفصاح أو إعلان، فقد اتفق الشعب المصرى على ضرورة إعادة للمصرى كرامته بعد فترة طويلة من الذل والقهر والتهميش، وإعادة لمصر مكانتها تحت الشمس لمسايرة حركة التاريخ والحضارة بعد أن عاشت عقود فى الظلام. فانفجر البركان وصمد أمام الضربات بل أخذ فى رفع سقف طلباته ليس من باب التعنت واستغلال ترنح النظام القديم ولكن لادراك الثوار لهدفهم بوضوح، ولوعيهم أن نصف ثورة هى مقبرة لها وللثوار.
إن الالتفاف حول مقاصد واحدة كانت البداية الفعلية لنجاح الثورة، فهذا هو الوعى الذى يجب أن يسبق السعى.
ثم تبنى المصريون الثوار أدوات ثلاثة فى سعيهم لتحقيق هذه المقاصد والاهداف:
أولا – الايمان:
التطلع الى هدف أسمى موحد فجر لدى المصريين سواء أكانوا مسلمين أو مسيحيين ينبوع إيمانى قوى، فاستحضر المصرى الجانب الغيبى الذى طالما كوَّن ضميره عبر التاريخ، واختفى كل ما يمكن أن يعكر فاعلية هذا السلاح فى الثورة، فوقف المسيحى والمسلم يدا واحدة دون افتعال أو تمثيل، فكان المسيحيون يحمون ظهور أخواتهم المسلمين وقت الصلاة، وكان المسلمون يرددون خلف رجل الدين المسيحى دعواتهم وقول: آمين فى القداس المقام فى الميدان.
بل أن الملفت للنظر أن الايمان البسيط التلقائى، وقد أصبح سلاح أمضى من أى سلاح فى هذا الوقت، أدى إلى مخالفة المسلم والمسيحى لتوجيهات الرموز الدينية المسلمة والمسيحية بعدم الخروج والاشتراك فى الثورة، فكان وضوح الهدف عامل كاشف لمعدن هذا الشعب الذى رفض وصايا لها كل إحترامها ولكن لم تكن معه على نفس الهدف.
وأخيرا يمكن القول أن العالم بأثره قد إستوعب درسا هاما للغاية فى مجال تدين المصريين، وهو أن الدين لديهم لا يعادل التطرف، وأن الحجاب ليس حجابا للعقل والارادة، وأن الاسلام الحق والمسيحية الحقة لا تلغى دور المرأة فى المجتمع، ولا تجعل الفرد المؤمن منسحبا من قضايا وطنه الكبرى، وأن حق المواطنة لكل مصرى بصرف النظر عن ديانته مخزون فى ضمير هذا الوطن وحقيقة على أرض الواقع لا تنتظر قانون أو مادة فى دستور.
ثانيا – الوعى بقوانين الثورات:
من أين تعلم المصرى القوانين الحاكمة لنجاح الثورات؟ هل هو المخزون الحضارى لديه وحكمة شعب صابر ومتأمل لخبرة التاريخ؟
لقد أدرك الثوار المصريون ضرورة ألا يحيدوا لحظة عن الاهداف المراد تحقيقها مهما كان الثمن، فالتنازل والضعف والحلول الوسط قاضية على الحركة الثورية لا محالة، ورغم الاصوات الكثيرة الداعية الى التعقل وحقن الدماء والدخول فى حوار إلا أن وضوح الهدف كان حاكما على أى محاولة للالتفاف على الثورة.
من أين تعلم المصريون أن الخطوط المجتمعية المحيطة بالثوار حاضنة وداعمة للثورة، وأن سقوط أى خط من الخطوط الخلفية مهدد لاستمرار الثورة؟ فتكاتف المصريون فى لجان شعبية رائعة لحماية واحتضان الثورة وإجهاض محاولة النظام السابق ضرب الثورة من الخلف.
ثالثا: أخلاق الثوار:
ظهر خلال هذه المرحلة الثورية ما يعرف بقيم وأخلاق الثورة، قيم التضحية والفداء، قيم الثبات والاصرار والتعاون ( كالبنيان المرصوص ) لتحقيق الهدف، قيمة الإيثاروإنكارالذات والتكاتف بين المتظاهرين المقيمين أيام وليال طويلة معا مما هوَّن كثيرا هذه الأيام الشاقة، قيم المشاركة والعطاء، كلُ على قدر طاقته.
وبعد 11 فبراير وبعد فرحة النجاح المبهر، كيف نقرأ أحوال مصرنا اليوم؟
لقد تقزم الهدف وأصبح مجموعة من الأهداف الفئوية والشخصية المتفرقة والمفرقة. تناسى كثيرون الهدف الأكبر وهرولوا لجنى الثمار قبل أن تنضج، ووضعوا أسلحتهم قبل نهاية المعركة، فعادت النعرات الطائفية ليس فقط بين المسلمين والمسيحيين ولكن بين التيارات الاسلامية المختلفة. وتحوَّل الايمان من قوة دافعة محققة للنصر الى قوة هدم وتفتيت.
وغفل الثوارعن قوانين نجاح الثورات وأن ذهاب نظام ليس معناه نجاح الثورة ولكن معناه فراغ قلق إن لم يُملأ بالبناء القوى السليم فالفراغ يعنى الفوضى وعودة فلول نظام يريد أن ينقض على الثورة فى أى وقت.
وتراجعت أخلاق الثورة ليحل محلها المشاحنات والتخوين والتنافس والتفاخر بمن فعل وما فعل، وغفل الثوار أن البناء إن لم يقم على أخلاقيات متينة فسيفتح الباب لمن همشتهم الثورة، وقت الفعل الثورى الكاسح، من التيارات المريضة الى كسب مكان فى هذه المرحلة الفاصلة من حياة البلد.
لذا.. علينا بالعودة إلى هذه العناصر العبقرية الجامعة لأبناء هذا الوطن: مقاصد وأهداف عليا جامعة لا مقاصد جزئية مفتتة، إيمان واع دافع ملهم، إدراك عال لقوانين نجاح الثورات والحفاظ على منجزاتها المتحققة على الارض فى كل مرحلة، وأخيرا قيم حاضنة للحركة مانعة من السقوط والتعثر.