أبحاث

الحكم الصالح الرشيد من منظور إسلامي

العدد 139

مقدمة عامة:

الحكم الراشد، ضرورات الاجتهاد والتجديد:

يقدم الحكم الراشد رؤية رحبة تتعلق بنموذج الحكم وارتباطه بالأصول الشورية والعلاقة بين معايير الحكم ومعايير المساءلة والشفافية بما يؤسس لحكم صالح، يؤسس لعلاقة سياسية سوية من جانب، ويشيّد معمار العلاقات بين الدولة والمجتمع من جانب آخر، بحيث يستلهم فى صياغاته معانى المرجعية والشرعية والدافعية والجامعية والفاعلية. هذا الحكم الراشد يجد في المنظور الإسلامي الحضاري تقاليد راسخة من مداخل متنوعة يمكن الوقوف عليها ضمن سياقات مقارنة تحفز عناصر الرشادة في العمليات السياسية والإدارية وتؤكد على متطلبات المؤسسية وفاعليتها فضلاً عن ضرورة بناء الاستراتيجيات الكلية والحضارية، والعلاقة السوية بين الدولة والمجتمع، وصياغة العلاقة السياسية بين الحاكم والمحكوم، بما يحقق مقاصد الحكم الصالح، وأهم ما يرتبط به في التأكيد على حقوق الإنسان، وتحقيق فاعليات الأمن الإنساني الشامل في منظوره الحضاري والعمراني والتنموي.

إن رؤى التأسيس لم يعد يفيد فيها أن تشغل بدايةً كل عمل بحثي أو علمي أو معرفي، حيث تطغى معاني الديباجة في تفخيم الألفاظ، ومعاني الزينة، أو مقتضيات الاستكمال، بل علينا أن نترجم “رؤى التأسيس” إلى حركة بحثية دائبة تترك تأثيرها على مجالات الحياة وتنوعاتها، كما تترك بصماتها على كل مجال معرفي أو بحثي، وعلى الإطار والنسق المفاهيمي ومنظومة المنهجية. يمكن استثمار هذه الرؤية في سائر المنتوجات المعرفية، وضمن السياق المعرفي، بالبحث في كل متضمنات وفاعليات التعبير القرآني “صبغة الله”..

إن “رؤى التأسيس” لابد أن تفرض فعلاً وأشكالاً وتجلياتٍ لهذا التأسيس، تحرك أصول الوعي كما تدفع إلى مقدمات السعي. والسعي متنوع الحركات والمجالات، ومن أهم دوائره على الإطلاق، الحياة البحثية والعلمية؛ إذ يهتم أصحاب هذه التخصصات بوصل الواقع والناس بمجمل أصول فقههم الحضارى ومتطلباته ومقاصده الكلية فى عملية النهوض: تجديدًا واجتهادًا.

– أصول الفقه الحضاري بين التجديد والاجتهاد:

تحدد أصول الفقه الحضاري الهدف الذي من أجله أشرنا إلى ضرورة عمليات التشغيل. فهذا التكوين المعرفي المتمثل في علم أصول الفقه الحضاري يؤسس دوره ضمن مسارات متعددة: فيجمع بين آليات التفعيل من جانب، ويشكل لها الحاضنة بحيث يجدل بينها في منظومة تتغيّا إحداث علاقة جدلية بين الوحي والواقع، بين المعيار وتنوعات التعامل، وهو يفعّل هذه الآليات ويحتضنها في مقصد واحد يحقق التناسق بين عناصر هذه الآليات.

“أصول الفقه الحضاري” هو تأصيل المنظور الحضاري بكل سعته وامتداداته، بكل فعله وفاعلياته، كما أنه تعبير عن أحد أهم تجليات صياغة النموذج (النظام المعرفي). فبناء النموذج يجب ألا يتم مستقلاً عن أصول الفقه الحضاري، ذلك أن هذا الأخير في تكامل عناصر مفرداته ومستوياته وفي امتداداته ضمن آليات التفعيل، وفي فاعلياته ضمن مجال التشغيل هو الذي يحقق لذلك النموذج المعرفي فاعلية على أرض الواقع، بما يقدمه من نماذج اختيارية وتضمينات منهجية وأدوات بحثية متميزة، وما يؤكد من إمكانية استيعاب الأدوات الصالحة داخل المنظومة المعرفية الغربية وتسكينها ضمن بنية النموذج المعرفي في الرؤية الإسلامية خاصة ما يرتبط منها بأصول الفطرة، والقدر الإنساني المشترك.

فإن علم أصول الفقه الحضاري يجعل من أهم أهدافه تضمين أهداف علميْ الأصول والفقه ضمن منظومة أهدافه، مع الحرص على صياغتهما ضمن قواعد التفعيل والتوظيف في حقول العلوم الإنسانية والاجتماعية، وهو يسير خطوة أبعد بإضافة موضوعات نظن جدارتها بأن تنضم في كيان معرفي موحد، يمكن أن تُخرج على شاكلته قواعد أساسية لعلوم الأمة وعلوم العمران (العلوم الإنسانية والاجتماعية وتطبيقاتها) وتؤصل لهذه العلوم.

إذا كان علم أصول الفقه قد اهتم باستنباط الدليل وخدمة ذلك ضمن سياقات مهمة تتعلق بنظرية الحكم، والفقه الحكمي، فإن علم أصول الفقه الحضاري – إذ يستوعب هذا وذاك ولا يهمله ولا ينبغي له ذلك – فإنه يحرك عناصر متعددة يصل فيما بينها، حتى يمكن صياغة أصول الفقه العمراني والحضاري.

الفقه الحضاري عناصر منظومة متفاعلة من الاستيعاب الحضاري والنظر الحضاري، والإدراك الحضاري والسلوك الحضاري.

هذا إذا ما جعلنا الفقه الحضاري مفهومًا نلحقه ببادئه “الأصول”؛ “أصول الفقه الحضاري”. والأصل في اشتقاقه اللغوي هو كما يقول الطوفي: “وأما من حيث اشتقاقه اللغوي فلم أر فيه شيئًا فيما وقفت عليه، غير أنني أحسب أنه من الوصل ضد القطع، وأن همزته منقلبة عن واو لما في الأصل من معنى الوصل وهو اتصال فروعه كاتصال الغصن بالشجرة حسًا، والولد بوالده نسبًا وحكمًا، والحكم الشرعي بدليله عقلاً، وهذا من الاشتقاق الأكبر، فالأصل هو الأساس، وهو القاعدة، فأصل الجبل أسفله، وهو منشأ الشيء الذي ينبت فيه.

فبين الأساس والقاعدة والمنشأ والمبتدأ، والوصل والاتصال، وبين الفقه الحضاري تعلق يشير إلى معاني أصول الفقه الحضاري وأهميته وفائدته وثمرته وموضوعاته ومسائله ومناهجه، وهدفه وغايته ومقصده، كما أن كل ذلك يشير إلى مصادر استمداده، وأصول مرجعيته ونسبه ونسبته.

فتحدد هذه المعاني له المنطلقات، وتعين له المبادئ وتنظم له المسارات وتشكل له المناهج، إذ من الضروري النظر إلى عناصر ثلاثة نظرة تكامل وتكافل (النص/ الفعل/ الواقع)، أو (الوحي/ الإنسان الفاعل/ المكان – الزمان – الساحة الحضارية).

إن مقاصد الأمور والوظائف هي التي تحدد قيمة الفعل وإمكانية تطويره ضمن مدارج الإحسان الحضاري.

إن تأسيس رؤية كلية فيما يتعلق بالإسلام والمسلمين من اهتمامات معاصرة أو قضايا تراثية يؤدي إلى التمكين من الأصول العقدية الإسلامية والرؤية الحضارية القادرة على التواصل مع كل نتاج هذه الحضارة وما تقدمه الحضارات الأخرى من معارف متنوعة، وذلك في سياق عملية التعارف الحضاري التي تشكل جوهر التواصل الإنساني والعمراني للحضارة الإسلامية.

وهو أمر يتعلق بأهمية الفقه الحضاري وهو المنهج الأسَّد في البحث والعلم والفهم والسلوك، إذ يشكل هذا الفكر منظومة من العناصر(1):

1. الاستيعاب الحضاري للقضايا والقيم والأفكار من كل الجوانب بما يؤصل الوعي الحضاري الذى يشكل مقدمة لدقة البحث ورشد التخطيط وسلامة التصرف.

2. النظر الحضاري الذي يقوم على الجمع بين الشمولية والدقة والترتيب والانتظام والتحليل والعمق لإمداد البحث النظري والتطبيق العملي بضمانات الصحة والسداد.

3. الإدراك الحضاري وهو حصيلة التفاعل الواعي بين الاستيعاب والنظر بحيث يضع القضايا في مقامها ومرتبتها اللازمة من حيث أهميتها ومنزلتها وجدواها.

4  .  السلوك الحضاري؛ وهو إخراج الفقه الحضاري من حيث البحث النظري وتكوين الخبرة والملكة إلى حيز الممارسة والإفادة العملية فرديًّا وجماعيًّا، في إطار ينْظم بين الذاكرة الحضارية والواقع المعاصر واستشراف المستقبل، حتى يكون السلوك الحضاري في صواب وسلامة في التفكير والتدبير والتسيير والتغيير والتأثير بما يضمن سداد وجدوى العمل والتطبيق.

وتشكل هذه المنظومة أهم متطلبات الفاعلية الحضارية من خلال إرساء فكر ينهل من تعددية تراثية وفكرية ويعلي قدرة المسلمين فهمًا وممارسة على مواجهة التحديات المعاصرة، ربطًا بالعصر لا انفصامًا عنه، ملتمسًا الحكمة بما يمكنه من الإسهام الفعال في تراث الإنسانية ونهضتها وعمرانها.

المداخل المتكافلة والحكم الراشد: بين التأصيل والتفعيل والتشغيل:

سنحاول فى هذا المقام أن نشير الى خماسية المداخل التى تسـهم فى البناء التجديدى للحكم الراشد والاجتهاد فى تفعيله وتشغيله، وهى مداخل ضمن منظومة أوسع من المداخل، كما يتبين من الشكل التالى:

أولا: المدخل المفاهيمي والحكم الراشد:

مبدأ عملية التأصيل للحكم الراشد التعرف على خريطة المصادر وتوجهات المداخل المختلفة للبحث عن هذه القضية، بما يؤسس عناصر الوعي والسعي بمقتضى هذه القواعد الكلية، وكذلك الإمكانات المعرفية والتطبيقية التي تشكل إسهامًا للرؤية الإسلامية ضمن عمليات التأصيل والتفعيل والتشغيل، ليس فقط ضمن العمليات البحثية، ولكن ضرورة أن يفعل ذلك على أرض الواقع ضمن البحث في آليات تفعيل وفاعلية الحكم الصالح الرشيد.

شبكة المصادر هذه تشير كذلك إلى شبكة من المفاهيم؛ إذ تشكل هذه المصادر مادة أساسية في عملية بناء المفاهيم وتصورها. ولا شك أن الحديث عن مفهوم “الحكم الراشد” وتأصيل منظومة المفاهيم المرتبطة به عملٌ لا يمكن استقصاؤه في نطاق اهتمام هذا البحث؛ ذلك أن محاولة تأصيل هذا المفهوم سيرةً ومسيرةً وصيرورةً، بناءً وتشغيلاً وتفعيلاً، هي من الأمور التي تستحق بحثًا مستقلاً. فظهور مفهوم “الحكم الراشد” يتعلق بشكل عام بقضية كيفية الإفادة من الموارد العامة، وبناء الاستراتيجيات وصياغة السياسات العامة، وتفعيل كل الطاقات المتعلقة بالمجال العام والقيم العامة وكذا المصلحة العامة، كما أن تحقيق التنمية مرتبط ارتباطًا مباشرًا بتحقيق ما نطلق عليه “الحكم الراشد”. فكثير من جهود التنمية أُهدرت بلا عائد بسبب سوء السياسات، وكثير من الموارد ضاعت بسبب الفساد، فإرساء دعائم حكم رشيد يؤدي إلى استخدام أفضل للموارد المتاحة وتعظيم العائد منها تراكما ومساحة وتوزيعا(2).

وتتنوع عناصر الحكم الراشد(3) وإن كان في مقدمتها قدرة Capacity الدولة على إدارة الموارد العامة(4)، وكذلك الالتزام بتحقيق الصالح العام Public Good، وأيضا الشفافية Transparency(5)، وحكم القانون The Rule of Law، والمشاركة Participation، فضلا عن رأس المال الاجتماعي Social Capital(6).

إعادة الاعتبار للسياسة:

إن النظر للحكم الصالح الرشيد ضمن هذه الرؤية الشاملة والرحبة لا يمكن أن نؤسس له إلا من خلال إعادة الاعتبار للسياسة، فالسياسة لم تعد علم السلطة التي تقع في قمة الهرم، فالسياسة هي القيام على الأمر بما يصلحه، كما أن السياسة هي علم بناء العمران، والحكم الصالح الرشيد لا يعني السلطة وحسب، ولكنه يعني حالة مجتمعية وطريقة للحياة والمعاش، ومدخل لتأسيس الحضارة وبناء العمران.

بالنظر العميق في تعريف السياسة في الرؤية الإسلامية(7) نلحظ أن هذا التعريف – فضلا عن أنه يعيد الاعتبار لمفهوم السياسة ويجعل من اتساعه ورحابته حالة بنيانية لازمة أصلية في داخلية المفهوم غير طارئة عليه من خارج، بحيث تستوعب المستحدث من تحيل أو ميل أو انحراف أو توظيف أو تبرير – وجد عناصر رسوخه ضمن “صبغة” وصيغة” المقاصد.

فإذا كانت السياسة – على قول ابن القيم فيما أسند، إلى الأستاذ ابن عقيل- ما كانت معه الأمور أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، ومناقضة السياسة بمفهومها القيمي تعني أن تكون حال ممارستها أقرب إلى الفساد وأبعد عن الصلاح بمفهوم المخالفة، إنه “السوس” الذي ينخر في الكيان فيفسده ويهدمه. المقاصد – وفق هذه الرؤية- تصبغ وتصوغ مفهوم السياسة على شاكلة العشرية المقاصدية.

القيام على الأمر بما يصلحه: مقدمات ومقومات ومكونات، مجالات، وحفظ، وأولويات، وموازين، وواقع، ومناطات ومآلات، ووسائل، قيم وسياقات.

فالشريعة حكمة كلها في بنائها المعرفي، وعدل كلها في نسقها القيمي، ورحمة كلها في نسقها السلوكي، ومصلحة كلها في نموذجها المقاصدي.

والسياسة – وفق هذا التصور- ليست فنًا أو أسلوبًا أو صراعًا، بل هي رعاية متكاملة من قَبِل الدولة والفرد لكل شأن من شئون الجماعة…

والسياسة – وفق هذه الرؤية- تتصف بالعموم والشمول، فهي مفهوم يخاطب كلَّ فرد مكلَّف بأن يرعى شؤونه ويهتم بأمر المسلمين، بل يمارس عمارة الكون في سياق وظيفته الاستخلافية. وعلى ما يؤكد “الراغب”، فإن السياسة – وفق هذا التصور- تستند في تكييفها إلى حقيقة “الاستخلاف”، ذلك أن الفعل المختص بالإنسان على ثلاثة أنحاء:

1- عمارة الأرض المذكورة في قوله تعالى: (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) (هود: 61)، وذلك تحصيل ما به تزجية المعاش لنفسه ولغيره.

2- وعبادة الله تعالى المذكورة في قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذرايات: 56)، وذلك هو الامتثال للباري عز وجل بإطاعة أوامره ونواهيه.

3- وخلافته المذكورة في قوله تعالى: (وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (الأعراف: 129)، وذلك هو الاقتداء بالباري سبحانه على قدر طاقة البشر في السياسة باستعمال مكارم الشريعة.. إن الخلافة تُستحق بالسياسة، وذلك بتحري مكارم الشريعة (أصولها القيمية). والسياسة ضربان:

أحدهما – سياسة الإنسان نفسه وبدنه وما يختص به.

والثاني- سياسة غيره من رعيته وأهل بلده.

ولا يصلح لسياسة غيره من لا يصلح لسياسة نفسه “لاستحالة أن يهتدي المسوس مع كون السائس ضالا..”.

السياسة – بهذا – شرعية، عادلة، صلاح فى مواجهة فساد.

ويقول ابن القيم: ومن له ذوق في الشريعة واطلاع على كمالاتها وأنها لغايةِ مصالح العباد، في المعاش والمعاد، ومجيئها بغاية العدل الذي يفصل بين الخلائق، وأنه لا عدل فوق عدلها ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح، عرف أن السياسة العادلة جزء من أجزائها وفرع من فروعها، وأن من له معرفة بمقاصدها، ووضعها مواضعها، وحسن فهمه فيها لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتة.

فإن السياسة نوعان: سياسة ظالمة فالشريعة تحرمها، وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر بعين الشريعة، علمها من علمها وجهلها من جهلها.

وقال ابن عقيل في الفنون جرى في جواز العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية أنه هو الحزم، ولا يخلو من القول به إمام، فقال الشافعي: لا سياسة إلا ما وافق الشرع، فقال ابن عقيل السياسة ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد. (انتهى كلام ابن القيم).

الحكم الراشد محاولة للبناء التجديدي والاجتهاد المعاصر:

من المهم أن نؤكد أنه من الضرورى أن يتضمن مفهوم “الحكم الصالح الرشيد” عمليات وخطوات بنائه، والمداخل المختلفة التي تسهم في صياغته، ورؤية متسعة تشمل الإمكانات الواسعة للمقارنة بين توجهات بناء المفهوم في التراث والفكر الإسلامي المعاصر(8)، وبينها والفكر الغربي على تنوع مدارسه وتوجهاته. هذا، إضافة إلى تأثير العولمة على مضامين الحكم الراشد والتحديات التى ترتبط بذلك(9). وهذا ما نتناوله في النقاط التالية:

(1) إشكالات مفهوم الحكم الراشد بين الرؤية الغربية والرؤية الإسلامية:

من الأمور المؤكدة في هذا المقام أن مفهوم الحكم الراشد ظل سؤالا مهما ضمن الأسئلة الأساسية والأبدية للفكر السياسي بوجه عام(10)؛ ومن ثم عبَّر هذا المفهوم عن ظاهرة قديمة ارتبطت بنشأة الاجتماع الإنساني من جانب وضرورات السلطة من جانب آخر، وذلك في إطار يحدد أصول العلاقة بين الدولة والمجتمع، إلا أن المفهوم – مع قِدَمه – والتطورات التي طرأت عليه، ومحطات التحولات التي ارتبطت به تعبر وتؤشر على جملة من الدواعي المتعلقة بإعادة تجديد النظر وممارسة الاجتهاد بصدد المفهوم نفسه: “الحكم الصالح الرشيد”.

إن إشكالات الحكم الصالح ظلت جوهر محاولات المفكرين السياسيين على تتابع وتباعد أزمانهم؛ سواء كان ذلك في الفكر السياسي الغربي ضمن مسيرته، أو في الفكر السياسي الإسلامي من خلال تراكماته، ومن خلال تنوع اتجاهاته الفقهية ومداخل السياسة الشرعية وأدب النصيحة وعلوم العمران السياسي، فضلا عن توجهات أخرى أسهمت بقدر غير يسير في بنية المفهوم وفي تطور تضميناته ضمن مسيرة حضارية ممتدة.

المفهوم – وفق هذا التصور في منهج النظر إليه سيرةً ومسيرةً وسيرورةً – يعبر عن تراكمات وطبقات في داخله هو نفسه لا يمكن إغفالها أو التغاضي عنها.

ولاشك أن هذه التصورات للمفهوم على اختلافها وتنوعها للحكم الصالح الرشيد ظلت تثير قضايا تتعلق بالخصوصية والعالمية ضمن تلك الخبرات المتنوعة وضمن إسهاماتٍ لحضارات مختلفة حول هذا المفهوم، وفي القلب منها تقع الحضارة الإسلامية بمنظومة إسهاماتها الفكرية والعملية. وفي هذا السياق فإن المفهوم أشر على جملة من الإشكالات التي يجب التوقف عندها:

أولاً: الإشكالات التي تتعلق بحقيقة المفهوم وارتباطه بحضارة دون أخرى:

أو بمعنى أدق: بارتباطها بحضارة الغرب الذي ينتج عالم المفاهيم السائدة والغالبة والمهيمنة، ويوزع هذه المفاهيم على بقية المعمورة ضمن حالةٍ من الولع لدى المغلوب يقتنص مفهومًا من هنا، ومفهومًا من هناك، ضمن عمليات لا تقوم على رشد أو تعامل سديد. غاية الأمر في هذا هو ارتباط مثل هذه المفاهيم الاستراتيجية بكثير من الحضارات إلا أن الحضارة الغالبة المتمركزة حول ذاتها، وفي إنتاج عالم المفاهيم التي ترغب في تعميمه وتنميط بقية الدنيا على شاكلته إنما تشكل كل تلك المعاني التي تتعلق بالمفاهيم الحضارية الكبرى والتي تفعل فعلها في علاقة غير سوية بين الحضارات والثقافات، وتعلن سيادة الحضارة الغالبة على بقية المعمورة وتؤكد احتكارها لعالم المفاهيم.

وفي هذا المقام فإن لدينا مجموعة من المؤشرات المهمة والقرائن الكلية التي تشير إلى ما ذهبنا إليه:

أ- أن المفهوم خاصة بصفته التي تتعلق بالرشد والصلاح، هو من صميم الرؤية الإسلامية، آية ذلك في التاريخ الإسلامي اللفظة التي سادت لتعبر عن حالة الحكم باسم “الخلافة الراشدة”. الخلافة الراشدة في حقيقة الأمر ليست إلا الحكم الرشيد، والتعبير عن مجمل القواعد والسنن والخصائص والسمات التي تميزه عن غيره من تصنيفات النظم التي تتعلق بالحكم وبإدارة العلاقة بين الدولة والمجتمع.

ب- أن العِلْم الغربي ظل وقتًا طويلاً لا يستخدم في علومه الكلمات التي تحمل أية تضمينات قيمية، وضمن حركته ومسيرته العلمية التي ظل يؤكد فيها على أن العلم لابد أن يتشكل خارج نطاق دائرة القيم، سعيًا إلى مقولة “العلم الخالي من القيم”. وفي هذا المقام فإننا ندهش من عودة كلمة وَصِفَة صالح Good مرة أخرى لتصف عملية الحكم (Governance) في امتدادها وهو أمر يشير إلى أن كلمة “الخّير” و”الجيّد” قد عادت لتصف عمليات يعتبرها الغرب في صميم العِلْم في هذا المقام.

ج – ومع هذا فقد حاولت جملة الدراسات الغربية أن تعود بالمفهوم إلى محضِن المادية التي شكَل بها الغرب عالم معارِفه، ومن هنا فإن هذا المفهوم الذي تعلق بالحكم الراشد ما لبث أن تحول لذات الدائرة في إطار تضمينات مادية طافحة تربط الحكم الراشد بمجالات بعينها مثل: الاقتصاد والشركات وإدارة الأعمال، وهو أمر يدل على أن الغرب حتى حينما يستدعي الأمر أن يستخدم كلمات من طبيعة معنوية فإنه لا يلبث أن يعود أدراجه بحيث يحوِّل المفهوم إلى الدائرة المادية ويصبغه بها: Corporate Governance

(2) الإشكالات المتعلقة بترجمة المفهوم:

غالبا حينما تأتي “مفاهيم الموضة” إلى دول العالم الثالث أو المتخلف يتبناها هذا العالَم في محاولة للتأكيد على أن دُوَلَه تلحق وتلتحق بركب الحضارة ومفاهيم التقدم. وفي واقع الأمر تظل هذه المفاهيم مجرد زينة، ولا تشكل بنية يمكن الاستناد عليها في تشكيل المجتمع ومساراته وعلاقاته. وفي هذا المقام يواجه المجتمع الذي يلتقم هذه المفاهيم من غير أدنى عملية تشير إلى التبصر بمضارّه ومنافعه إشكالية الترجمة. فالكلمة تُترجم بالحوكمة كالعولمة، كما تُترجم بالحكامة، كما تُترجم بالحكمية، وتُترجم كذلك بالحاكمية، فضلا عن ترجمات أخرى تشير إلى: إدارة الدولة والمجتمع، والحكم الجيد، والحكم الراشد، والحكم الرشيد، والحكم الصالح، وفي كل هذه الكلمات تجد كل شخص أو اتجاه يتخير كلمة غير الآخر لتعبر بذلك – في إطار جغرافية الكلمة – عن أن “الكلمة” تعد من مؤشرات هيمنة ثقافة الغالب وعالم أجهزته ومنتوجاته المفاهيمية.

ومن هنا وفي مقام الاختيار فإننا نرجِّح تلك المعاني التي يعبّر عنها مفهوم “الحكم الصالح الرشيد” بأكثر من كلمة مثل: الإدارة الرشيدة للعلاقة بين الدولة والمجتمع، إذ يعبر هذا المفهوم عن اختلاف بين مفهومين Government، Governance، كما يجعل الصفة التي تتعلق بـ Good تشير إلى المعاني التي تتعلق بالرشد والصلاح والصلاحية.

(3) ثمة إشكالية ثالثة؛ وهي إشكالية من طبيعة عملية وتطبيقية تتعلق بالواقع وضرورة التعامل معه وفق سنن التغيير الماضية وعمليات الإصلاح الضرورية.

وضمن هذه الإشكالية فإننا يمكن أن نتصور أهمية الحكم الصالح الرشيد ضمن عملية “الهندسة الحضارية”، وتأثير ذلك في التشييد المكين لمشاريع النهضة والإصلاح. تبدو لنا هذه الأهمية واضحة جلية في ضرورة وضوح الرؤية حول المفهوم؛ بحيث يشير إلى صياغة سوية للعلاقة بين الدولة والمجتمع، وإلى صياغة رشيدة للعلاقة السياسية بين الحاكم والمحكوم، وذلك في مواجهة كل أشكال الاستبداد التي انتشرت وكل مظاهر الفساد التي استشرت. ومن المهم أن نؤكد على ضرورة الترجمة العملية للحكم الصالح الرشيد في ضوء الواقع الفعلي والسياقات المحيطة؛ معتبرا إيّاها غير خاضعة لكل ما أدى إلى تمكين الظلم والاستبداد والفساد، وهو أمر يتطلب أن نعرض الإسهام الإسلامي في صياغة هذا التصور الكلي الشامل للحكم الصالح الرشيد في رؤية إسلامية رصينة وبصيرة، تقدم لمجمل الرؤية الإنسانية إضافةً لا يجوز إغفالها تستحق أن تقارن بما قدمته الحضارات والثقافات الإنسانية. كما تؤكد من جانب آخر على ضرورة أن تمارس الحضارة الإسلامية – من خلال علمائها- مسارًا تجديديًّا واجتهادًا ضروريًّا تؤصل وتفعّل وتشغّل من خلاله مفهومًا عمليًا يرقى إلى أن يتنافس مع غيره ويسهم في عمليات النهوض والإصلاح.

(4) أما الإشكالية الرابعة فهي تتراوح بين العلمي والعملي؛ ومفادها أنه من الضروري إعادة تعريف “السياسي” وردّ الاعتبار لمفهوم “السياسة” الشامل من منظور إسلامي، وتأثير ذلك على التعامل مع الواقع من ناحية، وعلى القدرات المتعلقة بفهمه وتأثيره بل وتقويمه من ناحية أخرى، وهو أمر يفضي بنا في النهاية إلى ضرورة مقارنة الخبرات المتنوعة والتي تتعلق بتطبيقات يمكن أن تشكل مداخلَ الرؤية وآليات التمكين للحكم الصالح الرشيد.

(5) أما الإشكالية الخامسة فتتعلق بطبيعة النظر لهذا المفهوم باعتباره مفهومَ منظومةٍ ومفهومَ مظلةٍ في آن واحد. أما منظوميته فتشير إلى جملة من السمات والخصائص وإلى عمليات وأبنية وإلى غايات ومقاصد، وإلى آليات ومآلات.

إن هذه الرؤية الكلية هي الضامنة لتأصيل مفهومٍ يجابه تلك التحديات العميقة التي تشكل حوائط مانعة لعمليات الإصلاح والنهوض.

أما بالاعتبار الذي يؤكد على مظلية هذا المفهوم فإنه يشير -ومن كل طريق- إلى تكامل التخصصات، خاصة في علوم الأمة والعمران، وتخصصات العلوم الاجتماعية والإنسانية، ويؤكد على أن الحكم الصالح والرشيد لم يعد أمرًا تهتم به علوم السياسة فحسب، ولم يعد مقصورًا على فكره السياسي وتطوره، ولكنه يمتد إلى علوم الإدارة العامة والسياسات العامة، وعلوم الاجتماع الإنساني والعمران السياسي، وعلوم الاتصال والإعلام، وعلوم القانون والحقوق والدستور، وعلوم الاقتصاد وعلوم التنمية، وعلوم التاريخ الحاضنة للنماذج والخبرات، وعلوم العلاقات الدولية الكاشفة والدارسة للظواهر العالمية والعولمية، وعلوم النظم والمؤسسات، وعلوم الاستراتيجيات وعمليات بنائها، وعلوم المستقبل والتدبر والتدبير، … هذه العلوم كلها تتكافل فيما بينها ليسهم كل منها بسهم وافر ونصيب كبير في تشكيل وصياغة مضامين الحكم الصالح الرشيد، وفي تشكيل السلطات وبنية المجتمعات وسنن العلاقات التي تحكم الدولة والمجتمع على حد سواء.

منظومة المفاهيم: نحو بناء معجم للحكم الراشد:

يمكن أن يقدم هذا المدخل عناصر أساسية في بناء مفاهيم(11) ضمن منظومة الحكم الصالح الرشيد من مثل: (المؤسسية، المساءلة، الرقابة، الشفافية، الكفاءة والفاعلية).

ويؤدي بنا هذا إلى إمكان عمل معجم يمكن تسميته بـ “قاموس الحكم الصالح الرشيد”، وذلك للتعرف على عالم المفاهيم الذي يمكن أن يرتبط بالقضية الأساسية موضع البحث والدراسة من مثل: (السياسة، المؤسسية، المشاركة، الفاعلية، الأمة، الشفافية، المساءلة، المسئولية، الكفاءة والجدارة، الدولة، الإدارة، المجتمع الأهلي والمدني، ثقافة التطوع، الأمن الإنساني والحضاري، الشرعية، الصلاح، الفساد، التنمية(12)، العمران، وظائف الدولة، الشورى، الديمقراطية، حقوق الإنسان، التربية والتنشئة السياسية والاجتماعية، السياسة العامة، الرشادة، صنع القرار، الإنجاز، التجديد، النقد الذاتي والمراجعة،…إلخ).

ثانيا- مدخل النماذج التاريخية والخبرات:

* نحو تصور لإسهام الرؤية الإسلامية في بناء تجديدي للحكم الصالح الرشيد:

يرجع الفضل في هذه المحاولة إلى كلية الدراسات الإسلامية بمؤسسة قطر التعليمية؛ وذلك بتدشينها لقسم غاية في الأهمية اتخذ من حقل السياسات العامة مجالاً لتفعيل رؤى إسلامية حضارية تجسّر الفجوة بين العلوم الإنسانية والاجتماعية من جهة وبين العلوم الدينية والشرعية من جهة أخرى. ومن هنا كان الاسم الذي اختاره هذا القسم وهو السياسات العامة في الإسلام، وتقع على رأس مساقاته، الحكم الرشيد في الرؤية الإسلامية Good Governance in Islam

وقد شكّل هذا المساق تحديًا بجملة إشكالاته حفّزني لمحاولة بنائه خارج إطار المساحات التقليدية للاهتمام بموضوعات كالخلافة والنظام السياسي الإسلامي وفقه الدولة، وغير ذلك من موضوعات، وكان من المهم من خلال هذا النظر التجديدي والذي يتواءم مع قدرات طلبة هذا القسم باعتبارهم طلابَ دراسات عليا سيقومون بكتابة رسائل مهمة حول هذه الموضوعات أو ما يتصل بها، أن نشيّد معمار هذا المساق ضمن خطوات تأسيسية لا تسهم فحسب في تأصيل موضوع الحكم الصالح الرشيد، ولكن تحاول أن تترجم تلك العناصر إلى إمكانات لصياغة وتفعيل الحكم الصالح الرشيد، وقد حاولنا هندسة هذا المساق ضمن عناصر ومستويات متعددة ومتنوعة:

(1) تأصيل المفهوم ضمن سياق مقارن يحاول الإشارة إلى تضمينات بنائه داخل الاتجاهات الغربية العلمية والعملية من جانب، بالإضافة للتوجهات الإسلامية والوقوف على مجال إسهاماتها وإضافاتها لذلك المفهوم.

(2) الإشارة إلى منظومة المصادر التأسيسية والخادمة والفرعية على امتدادها الزمني في إطار الفكر الإسلامي التراثي، وكذا الفكر السياسي الإسلامي الحديث والمعاصر في محاولة لرسم خريطة المصادر التي يمكن العودة إليها في تأصيل هذا الموضوع المهم حول الحكم الصالح الرشيد. فخريطة المصادر تشير إلى إمكانات ممتدة يمكن استثمارها في تأصيل وتفعيل وتشغيل هذا المفهوم.

(3) ضرورة الوقوف في تلك المصادر التأسيسة والمرجعية؛ القرآن، والسنة الصحيحة، على نماذج أساسية نستطيع من خلالها الإشارة إلى ما تقدمه هذه المصادر ضمن قضية الحكم الصالح الرشيد:

1- مثّل القرآن، بما يقدّمه من نماذج، الرابطة السياسية في مواجهة العلاقة الفرعونية مصدرًا تأسيسيًّا لبناء النموذج الفرعوني بكل تضميناته وسماته وخصائصه وعلاقاته وأهم الخصائص التي يتصف بها ذلك الخطاب الفرعوني؛ إذ شكل هذا النموذج الفرعوني واحدًا من أهم النماذج المضادّة للحكم الصالح الراشد وصياغة منظومة لحكمٍ طغياني مستبد، وذلك في إطار العلاقة الاستبدادية (بنيةً وشروطًا) وقيامها على تخريب شأن العلاقات الدولة والمجتمع وضمن إدارة لا تمتّ إلى معاني الرشادة بأي نصيب.

2- تقدم السُّنة النبوية -بالإضافة للسيرة- تأشيراتٍ مهمة حول الحكم الصالح الرشيد خاصة حينما يتعلق الأمر ببناء المجتمع، وإدارة العلاقة بين الدولة والمجتمع، وتأسيس عناصر شبكة العلاقات الاجتماعية والسياسية بما يؤسس لحكم صالح رشيد ومن أهم نماذجه:

أ- شكَّل النموذج النبوي في بناء العلاقة بين الدولة والمجتمع في إطار “وثيقة المدينة” عملاً تأسيسيًّا مهما يؤكد على الصفة التعاقدية، وعلى مدخل الحقوق والواجبات، وعلى تحديد الالتزامات التي تترتب على العلاقات وعلى الانتماء السياسي لكافة العناصر التي تشكل تنوعًا وتعددًا ضمن وطن واحد، يؤسس لعناصر مواطنة حقيقية تقوم على قاعدة من التعاقد السياسي والاجتماعي الحقيقي.

ب – شكَّل الحديث النبوي (حديث السفينة) رؤية متكاملة لبناء المجتمع وأصول السلطة فيه، ورسم حقيقة العلاقات ضمن رؤية تؤصل لنموذج السفينة(13) والمترتبات عليه في صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع؛ إدارةً وتسييرًا وتدبيرًا وتأثيرًا.

ج – النماذج الراشدية ونذكر منها:

– أبا بكر وخطبة التولية.

– أبا بكر وقرار حروب الردة.

– عمر بن الخطاب وعام الرمادة(14) (معالجة الأزمة).

– عمر بن الخطاب وقرار عزل خالد بن الوليد ودلالاته (المساءلة والشفافية والمواجهة والرقابة).

– عثمان بن عفان ووحدة الأمة ودلالات جمع المصحف (الخيار والقرار)

– علي بن أبي طالب وعهده إلى مالك الأشتر(15) حينما ولاه مصر (خطاب نموذجي للحكم الرشيد الصالح).

د- الفتنة وسنن التحذير(16): رؤية سُننية ضمن الخلافة الراشدة والكتالوج (الدليل الإرشادى).

نحو بناء نماذج في الحركة السياسية(17): رؤية من منظور الحكم الراشد:كيفية النظر إلى النماذج التاريخية:

تنطوي الخبرة التاريخية للإسلام على واحدة من أكثر الصيغ مرونةً في التاريخ البشري بصدد قانون الوحدة والتنوع، أو ظاهرة التعددية في سياقاتها المختلفة(18).

إن الوحدة والتعددية (أو التنوع) قائمان في صميم العلاقات البشرية، إنهما وجهان لعملة واحدة إذا صح التعبير. والوحدة في وجوهها كافة لا تنفي التنوع، كما أن التنوع بدوره لا ينفي الوحدة، إنهما يتداخلان ويتوازيان، ويؤثر أحدهما في الآخر، بل قد يرفِده بعناصر القوة والخصب والنماء. قد تحدث حالات تقاطع تقود أحيانًا إلى النفي والتعارض، لكن الخط الأكثر عمقًا وامتدادًا هو أن التجربة البشرية، منذ لحظات تشكلها الأولى وحتى يقوم الحساب، إنما هي تجربة تتعدد فيها الانتماءات وتتغير العلاقات وتتنوع القناعات. وإن هذا التغاير في حدوده، ومن خلال تعامله مع الثوابت التوحيدية، هو الذي يمنح التاريخ البشري ليس فقط تفرُّده وخصوصيته وإنما قدرته على الفعل والصيرورة(19).

إن هذا التغاير والتدافع المركوز في جبلة بني آدم يقود إلى (تحريك) الحياة نحو الأحسن، وتخطي مواقع الركود والسكون والفساد، ومنح القدرة للقوى الإنسانية الراشدة كي تشد عزائمها قبالة التحديات(20).

ومن منطلق المنهج الإسلامي الأصيل نفسه، يمكن معالجة العصر الراشد من خلال مفاتيح: الخلافة، الردة، الفتنة، والنظم الإدارية، وفق مدخل لا يقف عند الوقائع، وإنما يتجاوزها بحثا عن الدلالة والمغزى، ولا تأسره التفاريق والجزئيات، وإنما يسعى لبذل جهد ملحوظ إلى لـمَّها في أنساقها من أجل التأثير على ملامحها الأساسية(21).

إن الاكتفاء برسم صورة زاهية سامية للمسار التاريخي في عالم المسلمين من جهة، ومداخل الاعتذار عن الأخطاء التي حطمت بنية المجتمع والحضارة الإسلامية بالتهوين من شأنها على أساس عصمة أولئك الذين ارتكبوها من جهة أخرى، والاختيار المترتب على ذلك من منهج التوقف أو التردد، أو التعتيم من جهة ثالثة، لا يعبر ذلك عن نظر حكيم وبصر سليم؛ ذلك أن الأمر قد شهد في عصور من تاريخ المسلمين (في فترة مبكرة، أو متأخرة) بعض الانحرافات الفكرية والعملية التي شهدتها عصور التخلف فأخرجت أجيالاً وقرونًا من بشريتها، ورفعتها إلى درجة من القداسة وعدم القابلية للخطأ. وانسجامًا مع هذا النهج فقد أنكرت هذه الرؤى أن تكون الحضارة الإسلامية قد أصابها أي مرض، وعَزَت كل العثرات إلى عناصر خارجية شيطانية معادية، كما اعتبرت بعض الأمراض قدرًا إلهيًّا لا يجوز الحديث عنه بما يخرج عن هذا التصور(22)، إن هذا الفريق يشبه المريض الذي يحرص أن يظهر دائمًا بمظهر الصحة الكاملة والقوة، ويرفض الاعتراف بمرضه ويستبعد فكرة زيارة الطبيب له، وعلى أساس ذلك يرفض فكرة تناول أي دواء. وانطلاقًا من فكرة النماذج التاريخية في دراسة تتابع عالم الأحداث في الخلافة الراشدة خاصة بعد ست سنين من عهد عثمان، حيث ثارت أحداث فتنة عاتية، أدت إلى مقتل سيدنا عثمان رضي الله عنه، واستمرت الفتنة بعد ذلك لتُكمِل سلسلة التحذيرات ضمن الدليل الإرشادي. لقد كان عهد الخلافة الراشدة -وحتى حدوث الفتنة- نموذجًا مكتملاً حملَ منظومةً من النماذج الفرعية، يبدو لنا اكتماله في أساليب التشغيل الصحيح التي بدت في صدر الإسلام وسنين من الخلافة الراشدة، وكذلك في التنبيه والتحذير من مظاهر إساءة استخدام الجهاز المجتمعي وشبكة علاقاته وهندسته. بين أساليب التشغيل وعمليات التحذير يمكن رؤية الخلافة الراشدة في امتدادها من دون أن نستغرب أو نندهش أو نعتذر عن حدوث الفتنة في آخر تلك الحقبة. ومن ثم يجب تسليط الأضواء على هذه الأمراض سعيا وراء إحداث اعتراف عام بها، أو بالأخطر منها، لإبراز الحاجة الماسة للعلاج، لتسعى أمتنا بجهدها إلى علاج حقيقي، يعينها على التخلص من أمراضها الخطيرة، ويضعها على أعتاب مرحلة جديدة من الثقة والنشاط والقوة تيسر لها إعادة تشييد البناء، على الأسس المبدئية التي حملها لنا وحفظها القرآن الكريم، وهدي رسول الله r.

هـ – النموذج التغلّبي(23) والاستمرارية التاريخية: الآثار والمآلات.

و- النماذج التراثية الفكرية: مثل الماوردي وصلاح الدنيا والحكم الراشد(24):

ففي أدب الدنيا والدين أكد الماوردي على ستة أمور تصلح بها الدنيا وتلتئم بها أحوال الناس ومعاشهم، وعدّدها في إطار منظومة كلية تشير في جوهرها إلى العوامل الرئيسية التي ينبني عليها الحكم الراشد والعمارة الحضارية، كما يتضح في الشكل التالي:

ز- النموذج التراثي والنصوص المكتوبة والمجتمعية والحركية (علاقة العالم بالسلطان)(25).

ح- النماذج المفاهيمية(26).

ط- النماذج المؤسسية (مثل الوقف – الحسبة) (27).

* ثالثا المدخل السُّفُني(28):

وهو يتعلق بإمكانات المصادر المرجعية التأسيسية في تأصيل مفهوم الحكم الصالح الرشيد؛ حيث تقدم هذه المصادر مدخلاً متكاملاً لبناء هذا المفهوم، وذلك في إطار تطبيق ما يمكن تسميته المدخل السُّفني والذي يشكل صياغة متكاملة لمفهوم الحكم الرشيد من حيث نسق القيم الذي يرتبط به، ونسق المفاهيم المتولدة عنه وأنساق السلوك المترتبة عليه.

المدخل السفني: نحو تأصيل ثقافة السفينة.

يأتي هذا المدخل على قاعدتين مهمتين، من الممكن أن تفيدا في مسارات البحث، ضمن موضوعات وقضايا يمكن أن تثور في حقول معرفية عدة، على رأسها الاجتماع والسياسة والتربية.

القاعدة الأولى– أن الحديث النبوي بما يمثله من “جوامع الكلم” يمكن أن يشكّل مصدرًا مهمًا للمعرفة والقدرة على صياغة مؤشراتها ومؤثراتها، في تناول كثير من قضايا العلم الإنساني والاجتماعي، وهو أمر سبق تجريبه من خلال جهد بحثي سابق، ويشكل هذا البحث مواصلة واستمرارًا له.

القاعدة الثانية– أن تأسيس رؤى منهجية على قاعدة من فكرة “الـمَثَل” وتفعيلها إنما تشكل واحدة من أهم الأدوات المنهجية المهمة، وهذا التعامل ليس “بِدْعًا” أو “خروجًا” على النشاط المنهجي للجماعة العلمية في حقول معرفية متنوعة في العلوم الإنسانية والاجتماعية. إن فكرة “البناء والوظيفة” التي حملت مدخلاً مهمًا تفاعلت معه كثير من الدراسات، كان في واحد من استناداته ليس إلا استعارة من علوم البيولوجيا وعلوم وظائف الأعضاء. وإن فكرة “النظام” لم تكن إلا تأسيسًا على قاعدة من علوم الآلة ودراسة الميكانيكا. هذا الارتحال الفكري والعلمي من الأمور المهمة التي أنتجت بدورها ممارسات بحثية لا يمكن لأحد في سياقات الجماعة العلمية أن ينكر أهميتها، فضلاً عن إنكار تأثيراتها في ارتقاء البحث، على الرغم مما طال هذه المداخل المنهاجية من نقد أو تحفّظ هنا أو هناك.

القاعدة الثالثة– من خلال هاتين القاعدتين (إحداهما معرفية والأخرى منهجية) ربما نصل إلى قاعدة ثالثة تنصرف إلى عملية تطبيق، تهدف إلى استخراج الصَّيغة من أصول الصَّبغة، والصياغة من رحم الصيغة، والتطبيق الذي يتجلى في إمكانات التوظيف والتفعيل والتشغيل ضمن قضايا بعينها.

المثل النبوي: بين وظيفة الرسالة وتوظيف الأمثال:

قد لا يكون من المناسب في هذا المقام البحث تفصيلاً في هذا المجال، فلهذا شأن آخر ومجال أرحب فيما لو أردنا الحديث عن هذا الموضوع.

إن موضوع الأمثال يكتسب أهمية من حيث ذيوع مادته وانتشارها وامتزاجها الشديد بلغتهم بلُغة الناس، وارتباطها بمختلف جوانب حياتهم؛ إذ إن الأمثال تمثل رصيدًا حضاريًا هائلاً لكل شعب من الشعوب، ويتأكد ذلك بالنسبة لأمثال الحديث النبوي الشريف، لحاجة المسلمين إلى معرفتها وإقبالهم عليها، وهي من جملة وظيفة الرسالة في البشارة والنذارة والدعوة والبلاغ والأثر المتمثل في استنارة حياة الناس في معاشهم والقضايا المرتبطة به: (السراج المنير). وكل هذه الوظائف هي من جملة متطلبات الشهود الحضاري الواجب الاضطلاع به والوقوف عليه.

ويطول بنا المقام لو تتبعنا توظيف الأمثال خاصة ما ارتبط بها من أحاديث نبوية، فالأمثال في كل أمة خلاصة تجاربها ومحصول خبرتها، وقواعدها المكنونة وصيغتها المقبولة، وإذا كانت سائر أمثال الناس بهذه المثابة، فلا غرابة في أن تكون أمثال الرسول r، أكثر أهمية، وأبلغ حكمة، وأنصع بيانًا، وأكرم معنى.

* والمثل بهذا الاعتبار مجملٌ ومفعَم بالمعاني الكثيفة، وهو على ما قال شوقي – أمير البيان العربي- واصفًا جوامع كَلِم النبي r، وهو الكلام الذي قلَّ عدد حروفه وكَثرُ عدد معانيه، وجلَّ عن الصنعة، ونزُه عن التكلُّف…، ومن ثم هو ميراث الحكمة، المقترن بالقبول الجامع بين حسن الإفهام وقلة عدد الكلام، من استغنائه عن إعادته، وقلة حاجة السامع إلى معاودته، وهو – من حيث توظيفه- الأعم نفعًا، والأعدل وزنًا، والأحسن موقعًا، والأسهل مخرجًا، والأفصح معنىً، والأبين مغزًى.

* والمثل في معانيه اللغوية قد يعين على تصور معنى “الصيغة” فيه؛ أي النموذج، والتي اشتهرت عند علماء نظريات المعرفة بمعاني “Paradigm” أي النموذج، فالمَثَل في اللغة ما يُضرب من الأمثال، وهو من المماثلة والمشابهة، ومثَّل الشيء بالشيء سواه به… وجعله مثله وعلى مثاله ومنواله: (الصيغة) (القاعدة)، والمثال وضع الشيء ليحتذى به.

وللمثل معان أخرى متقاربة نص عليها اللغويون والمفسرون منها: الشبه، والنظير، والحجة، والآية، والعبرة، والعظة، والقضية ذات الشأن… إلى غير ذلك من معانٍ.

ومن هنا نقل الميداني في (مجمع الأمثال) في مقدمة للنظَّام حيث قال: “يجتمع في المثل أربعة لا تجتمع لغيره من الكلام: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه، وجودة الكتابة..”. فالمثل -في إيماءة للجاحظ- هو المثال الذي يحذى عليه، ويقاس به، وينسب إليه. وعلى هذا فالمثَل مأخوذ من المثال، وهو قول سائر يشبَّه به حال الثاني بالأول، والأصل فيه التشبيه.

وها هو الحكيم الترمذي يتوقف عند معنى “المثال” في الأمثال حيث قال: (الأمثال: نموذجات في الحكمة، لما غاب عن الأسماع والأبصار، لتهتدي النفوس بما أدركت عيانًا).

وهذا من ألطف ما قيل في هذا الباب وأجمع، مفصلاً عن حديثه عن “النموذج”، فإنه يحدد وظائف الأمثال اجتماعيًا وتربويًا، “فالأمثال عنده بمثابة وسائل الإيضاح، في عصرنا الحاضر، تمكِّن النفوس مما خامرتها الحيرة فيه، من أمور خفية، وترسخ الأفكار في الأذهان، فالأمثال نماذج حسية لأمور معنوية”.

* غاية القول بنا في هذا المقام أن نشير إلى مجاميع الأمثال كما أشارت إليها العرب:

أ- الأقوال الموجزة السائرة، المتصلة بمناسبة من المناسبات.

ب- الحِكَم السائرة أو القائمة في العقول، والقصص ذات المغزى الأخلاقي.

ج- التشبيهات التمثيلية (التصويرية).

د- عبارات كثُرت مناسباتها، فكثر تِرْدادها، حتى صارت على ألسن الناس.

فمن هذا البيان الذي أردناه إجمالاً في هذا الباب، فإن القصد النبوي بضرب الأمثلة لم يكن إلا تعليمًا وتربية بطرائق متنوعة ومتعددة، قاصدة بذلك تحقيق مهمات الرسالة على أكمل وأبين وجه، ضمن رسائل اتصالية فاعلة تحرك الأفهام، وتؤصل للمعنى المفضي إلى المغزى، وتؤسس للوعي والسعي.

معطيات النموذج والمدخل السفني: محاولة للفهم:

إذا كان هذا هو المثل طبيعةً وتوظيفًا، فماذا عن مَثَلِ “السفينة” الذي تضمنه حديث السفينة للنبي r؟.

“مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُواْ عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصاَبَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فيِ أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المْاَءِ مَرُّواْ عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا خَرْقًا فيِ نَصِيبِنَا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ تًركُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْديِهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا” رواه البخاري.

الحديث إذن – بنصه ومشابهاته ومقايساته التي تشير إلى جملة من المعطـيات والمفاهـيم- يكوّن بحق منظومة رؤية متكاملة وشبكة من المواقف والأحكام والتقييمات لا يمكن التغاضى عنها أو التوقف عن استكناه إمكانات (التأصيل والتفعيل والتشغيل)؛ بلوغًا للمقصود البحثي، فضلاً عن بلوغ الغايات الاجتماعية والتربوية والحضارية، وفي موضوعنا هذا: الحكم الصالح الرشيد.

رابعا: المدخل المقاصدي بين ترشيد صناعة القرار وبناء الاستراتيجيات وصياغة السياسات:

وذلك بما يشمل:

1. بناء الاستراتيجيات الكلية التي تتعلق بالحكم الرشيد في ضوء المنظور المقاصدي.

2. تأصيل نظرية وظائف الدولة من خلال هذا المنظور بحيث تشكل مجالات المقاصد أصولاً للوظائف المختلفـة التي يجب أن تقوم عليهـا

الدولة بما تشكله من قواعد وأسس لعملية البناء الحضاري والعمران الاجتماعي والسياسي.

3. إمكانية إسهام المدخل المقاصدي في بناء نماذج لاتخاذ القرار الرشيد وعملية صنع القرار، بما يؤكد على قدرات هذا المدخل في بناء البدائل والخيارات والقدرة على القيام بالموازنات والتعرف على سلم الأولويات.

4. بناء رؤية تأصيلية لحقوق الإنسان من منظور مقاصدي بما يحقق لهذه الرؤية إمكانات تفعيل وتشغيل ضمن منظومة الحكم الصالح الرشيد والذي يجد أهم أدواته في صلاح أمر الإنسان (الصالح المصلِح).

5. قدرات هذا النموذج في تأصيل  البناء التنمـوي والعمراني في سياق صياغة الحكم الصالح الراشـد ضمن المنظومة العشرية للمقاصد، أمر تتأكد أهميته: تأصيلا وتأسيسا، وتفعيلا وتشغيلا وتطبيقا، بما يستحقه من جهد واجتهاد وتجديد يحقق أصول مرجعيته ومناط شرعيته وشروط جامعيته ومداخل دافعيته ومسارات فاعليته وشواهد تأثيره ومصادر تمكينه.

خامسا: مدخل تحليل النصوص التراثية وبناء الحكم الراشد:

يتعلق هذا المدخل بتحليل النصوص حيث تسهم في بناء مفهوم الحكم الصالح الرشيد في سياق كتابات تراثية يمكن أن تشكل من خلال نصوصهـا وتحليلها إمكانيـة

تأصيلية لهذا المفهوم ورصد التوجهات المختلفة التي يمكن أن ترتبط به والعمليات الناتجة عنه.

وفي هذا المقام يمكن متابعة ذلك لتمثيل خرائط المصادر التراثية(29) بحيث تشمل الخطب، والرسائل، ودراسة المؤسسات وما يصدر عنها من نصوص، وكتابات أدب النصيحة، وكتابات الفقه السياسي الدستوري، وكتابات السياسة الشرعية، فضلاً عن كتابات علم الاجتماع والعمران السياسي… إلخ.

التأكيد على ضرورة القيام بتحليل نصوص تراثية مستخدمين عناصر قراءات متعددة ومتكاملة لقراءة النص السياسي والتراثي بما يشكل وعيًا بالذاكرة التراثية والحضارية وإمكانات استثمارها في عملية تأصيل المفاهيم والقدرة على تشغيلها وتفعيلها(30).

خاتمة: المنظور الحضاري والرؤية التجديدية لبناء الحكم الراشد والصالح، خطاب إنسانى واجتهاد مطلوب:

يعد المنظور الحضارى منظورا أصيلا يمكن من خلاله إعادة الاعتبار للحضارة الإسلامية باعتبارها حقيقة تاريخية وواقعًا، وباعتبارها قابلة للتجدد ولاستعادة الفاعلية مع اسـتمرار قابلية الصيـاغة والتحقق فيها، ومن أهم هذه الصياغات صياغة الحكم الراشد بكل متطلباته ومستلزماته ومنظومة أصوله وسُننه.

والمنظور الاجتماعي الحضـاري -خلافًا للمداخل والمناهج المتداولة في الدراسات الاجتماعية والتاريخية- من شأنه إعلاء الأبعاد المعنوية والقيمية، وإعلاء دور الفعل الإنساني والمسئولية البشرية دونما إغفال لاعتبارات بنائية ووظيفية وحيوية أخرى، ذلك أن المنظور الاجتماعي الحضاري يستقي أصوله من استقراء الخبرة الحضارية للإنسان التاريخي مسترشدا بواقع النموذج الإنساني منذ بزوغ بشائر تأسيس أمة النبي الأمي r الأولى(31).

يظل الواقع الإسلامي يوجه الباحث لفعاليات واقع تاريخي مغاير أو متغير قد تغيب عن مقتربات أخرى تتسم بالإفراط والتفريط، وتغلب عليها الصبغة المادية والارتباط بالظاهر؛ أي تمعن في الأخذ بالأبعاد الدقيقة في تعاملها مع عالم الحركة والتركيب في متابعة الظواهر الاجتماعية والإنسانية، وفي مقدمة هذه الفعاليات المغيبة؛ تأتي رغبة الأمم الحية في الحفاظ على التراث وتجديد البناء في مواجهة قوى الفساد والبغي التي تقوم على التسلط والاستبداد والطغيان، ولو كان ذلك على حساب الآخرين أفرادا أو جماعات، أو في مواجهة قوى التآكل والضمور الذاتية التي تستنزف طاقة الأمة والقدرات الفاعلة التي تنتهي بها إلى الهلاك.

وهو أمر جعل جُلّ اهتمام هذا البحث ينصرف إلى المصادر المرجعية التأسيسية وإسهاماتها (القرآن والسنة وسيرة النبى r)، ودراسة خبرة الخلافة الراشدة فى خطابها وممارستها، حتى حينما وصلت هذه الخبرة الى حال الفتنة والتى أعقبت بنموذج للتغلب، والذى تواصل –بدوره- عبر فترة ممتدة، لقد شكل هذا النموذج وعاءً لخبرات معاصرة لايمكن إهمال دراستها ضمن خبرات الحكم الراشد وارتباطه بجوهر الرؤية الإسلامية، أو كتلك الخبرات السلبية المناقضة لأسس الحكم الراشد ومتطلباته بل هى نافية له فى الوعى والسعى.

فالمنظور الحضاري يوجه النظر إلى شروط النهضة بالقدر الذي يتعامل كذلك مع عوامل الهلاك والفناء، وكلا الحالتين: حالة النهضة والاقتدار من جانب، وحالة الضعف والاستنقاذ من جانب آخر، هي من الحالات التي تلازم الجماعات والأمم عبر الزمان والتي تستوقف نظر الباحث في الواقع العربي والإسلامى بشكل خاص؛ حيث يتجسد مأزق الوجود والبعث الحضاري للأمة.

ويأتي المنظور الحضاري الإسلامي، الذي هو في الواقع منظور تجدد حضاري، ليحتل موقعه كإطار ينتظم العديد من الدراسات الممكنة للواقع العربي والإسلامي والواقع التاريخي المعاصر، والتي تتخذ من جملة الظواهر والأعراض نقاط ارتكاز لإعادة القراءة المشخصة لهذا الواقع.

ومن ثم فإن المنظور الحضاري الإسلامي كمنظور تجدد حضاري من شأنه أن يصوغ فكرا جديدا مبدعا يتسم بالحيوية والإنشاء ويتسم بقابلية لتحقيق قدر من التنوع والانفتاح على منافذ متعددة ومتجددة عند تكوين الواقع الحضاري، بالإضافة إلى طبيعة هذا المنظور من حيث كونه يتجاوز إطارا للرؤى التشخيصية إلى رؤية حضارية إصلاحية تكوينية.

بعض هذه الاجتهادات المستندة إلى قواعد فكرية ضمن أنساق التجديد وإمكانات تفعيلها ( المدخل السفنى والمدخل المقاصدى… الخ) تسهم بدورها فى عمليات التغييروالإصلاح والنهوض الحضارى، وتسهم من جهة أخرى فى بناء وتأصيل وتفعيل وتشغيل منظومة الحكم الراشد وأهم مداخل الفاعلية والتمكين له فى الواقع وامتداداته وتنوع خبراته.

ومن ثم تتحول الدراسات التي تتبنى هذا المنظور إلى أن تكون نواة لمشروعات حضارية تتسم بقدرة على تحقيق زيادة فهم للواقع، وقدرة على ترشيد هذا الواقع؛ فهي تعرضه وتحلله وتفهمه وتقوم بعد ذلك بترشيده انطلاقا من ذلك الفهم من خلال تقديم البدائل والحلول التي تتفق وطبائع التكوين الحضاري عامة.

وإذا ما كانت فكرة الكيان الاجتماعي والحضاري والبيئة الحضارية من معطيات المنظور الحضاري ومن المفاهيم المؤسسة والمكونة له، فإننا يمكن أن نميز بين مجالات وظيفية للجماعة في نظمها الحياتية المختلفة وعلى رأسها الحكم الراشد وأهم متطلباته..؛ ولا يفوتنا أن نذكر أن النسق القياسي يحمل مضامين تتسق أو تتفق وتنسجم مع مصادر التنظير الإسلامي عامة، سواء أدرجنا في ذلك منظور التجدد الحضاري أو غيره من المقتربات الممكنة في دراسة الظواهر الاجتماعية والتاريخية (المنظور الاستخلافى العمرانى )، وهو فى هذا وذاك يشير إلى تطلع والتقاء لجوهر إنساني مع حقيقة كونية، واهتدى ليكون لديه تطلع إلى انتظام في هيئة تستوي على شاكلة تمكنه من الحركة المهتدية في إطار من القرار والرشاد.

ومن ثم فإن النظم التي تنشأ في خلال عمليات اتصال وتفاعل بين البشر، أو في خلال عمليات الدفع الحضاري إذا ما أردنا النزوع إلى مستوى آخر من الحركة والتحليل، لابد لها من أشكال تلبي فيها حاجة الانتظام والاتساق هذه، وهي بمعنى آخر لا تنشأ ولا تتكون كهيئات عشوائية في ضوء الاستجابة لظروف صماء مجردة، وبالتالي فإن النسق الذي يوجد عليه نظام ما وإن لم ينشأ مباشرة استجابة لروح وإرادة إنسانية إلا أنه يأتي معبرا عن قيم معنوية تقابل وتستجيب لحاجات إنسانية في سياق خطابات محكمة وإرادة كونية مشيئة ومخططة.

ومعنى ذلك أنه إذا كانت حركة الأمة ومحدثات الجماعات والأمم المختلفة من شأنها أن تتخذ مسارات محددة عبر الزمن، فإن نظمها التي تعبر عن أحد المستويات التحليلية لأعراف الجماعة وسيرتها في مجازات حياتها المختلفة من شأنها دعم الجماعة – الأمة – في عمليات الحفاظ والتجدد الذاتي.

ومن هنا تأتي فكرة إضافة النسق إلى القياسي، فإن أداء الجماعة – الأمة – مثله مثل أداء الفرد لابد وأن يقوَّم في كل مرحلة من مراحله، وعليه فلابد من وجود المعايير التي يمكن على أساسها تقييم هذا الأداء وقياسه بشكل دقيق لمعرفة مدى اقترابه وابتعاده من تطلعات الجماعة، لا يوجد عمل إلا من شأنه أن يقع على درجة من درجات الاتقان والإحسان، ويكون الإحسان بقدر ما تحقق الجماعة من ذاتها أو خصائصها الذاتية وتحقق أهدافها وإن قصر الأداء فيمكن أن يقاس بالسالب.

ومن هنا تأتي فكرة النسق القياسي بكل ما تحمله من مضامين قيمية معنوية، لتوفر للباحث الذي ينظر في الواقع مقياسًا دقيقًا وميزانًا، ليس فقط لترشيد دراسته، ولكن لتمكينه من تجاوز موقعه كناظر ومحقق في واقع معين، لأن تجاوز ذلك لابد منه للباحث ليكون المرشد والخبير الذي يستطيع أن يوجه القائم على الأمر إلى مفاتيح الرشد في أمره(32).

ومن جملة الرشد البحث تأصيلا واجتهادا وتجديدا فى مجال الحكم الراشد وتأسيس رؤية استراتيجية تتعلق به قابلة للتطبيق والتفعيل، تأخذ فى اعتبارها تفعيل أفكار منهجية من مثل الأنساق القياسية والنماذج التاريخية والمداخل الكلية التى يمكن استثمارها فى دراسة الحكم الراشد والظواهر المتعلقة به فى إدارة الدولة والمجتمع وتعظيم قدراتهما وإمكانتهما فضلا عن صياغة تلك العلاقة على نحو سوى وفعال.

أهمية الاجتهاد والتجديد ضمن رؤية تحاول صياغة خطاب اسلامي متجدد وخطاب انساني مسئول حول عمود من أهم أعمدة البناء العمرانى للدولة والمجتمع والمتمثل فى صياغة الحكم الراشد الصالح، يؤكد على الاهتمام بابراز المنظورات المتكافلة لعملية الاجتهاد ورؤى التجديد، في اطار الاهتمام بعملية الاجتهاد فيما يخص الجوانب الشرعية التي تتعلق بحياة وتحديات عالم المسلمين، وكذلك الاهتمام بزاوية مهمة وهي الزاوية الحضارية والتي تهتم بعناصر هندسة التجديد الحضاري واستئناف المسيرة التي تتعلق بالانماء والعمران. والاجابة على سؤال النهضة الذي يبرز بين آونة وأخرى ليعبر عن تلك الضرورات التي تتعلق بالربط بين عملية الاجتهاد في القضايا المستحدثة التي تتعلق بمتغيرات استجدت على الساحة الداخلية والخارجية والعالمية من جهة، وبين أسئلة النهوض الحضاري التي تشكل صياغة لمشروعات التجدد الحضاري وامكاناتها في مواجهة التحديات الحضارية التي تترى على الأمة وتتراكم عليها من جهة أخرى، تتطلب نوعًا من الاستجابات التجديدية الواعية القادرة على رسم استراتيجية تجديدية من منظور حضاري.

وكذلك الاهتمام الذى يتوج هذه العملية التجديدية والحضارية في اطار جهود تحاول الوصل وتجسير الفجوة بين العلوم الانسانية والاجتماعية التي تهتم بالتعرف على دائرة الواقع، وبين العلوم الشرعية التي تهتم بدوائر الاجتهاد الفقهي الرصين المستند إلى كليات المقاصد الكلية ومنظورات القيم الاساسية والمداخل الكلية، يستند في ذلك إلى ممارسات نظرية وعملية رصينة على قاعدة من الاجتهاد والتجديد، إذ تقدم بذلك خطابا انسانيا وحضاريا مقبولا يرشد ويعظم كل الامكانات المتاحة في صياغة هذا الخطاب الاسلامي المتجدد، من حيث مفهومه ومساراته، وكذلك التطرق إلى قضاياه وإشكالاته والتعامل مع مناهجه وأدواته بحيث تشكل عمليات الاجتهاد والتجديد مناهج رصينة ضمن عملية النهوض الحضاري والانمائي.

الاجتهاد الفقهي الفكري، والتجديد الحضاري والعمراني صنوان كلاهما يسند الآخر ويتكامل معه، والخطاب الاسلامي يعتبر مجالا وتجليا حضاريا مهما لممارسة هذا الاجتهاد وذلك التجديد ضمن تواصل وتكامل الجهود التي تتعلق بالوصل بين العلم والعمل والنظر والتطبيق لإحداث النهوض وتأسيس العمران، ولاشك أن تحديد استراتيجية لبناء هذا الخطاب الإسلامي وأهم قضاياه من أولى الأولويات كذلك، إذ يرتبط هذا الخطاب بقضايا متنوعة لا يمكن تجاهلها مثل: حقوق الإنسان، ونموذج التنمية وأصول العلاقات الشورية، تلك القضايا التي تقع فى قلب مسألة الحكم الراشد، وامكانات بناء استراتيجيات تمكن العالم الاسلامي من النهوض والاجتهاد والتجديد.

الاجتهاد والتجديد والعمران حالات لابد أن يتهيأ العقل المسلم وكذا العمل الإسلامي لاستئناف مسيرته الحضارية بها، يلتمس عناصر الحكمة ومنابع العدل ومسالك الرحمة ومداخل المصلحة لتحقيق أصول الشريعة وأهم خصائصها. ذلك أن الشريعة كما يشير ابن القيم “حكمة كلها، عدل كلها، رحمة كلها، مصلحة كلها”.

ومن ثم فإن عملية التجديد تهدف إلى إحياء ما اندرس واستثمار عناصر الذاكرة الحضارية والتراثية، إن عملية الإحياء استجابة فاعلة من الإنسان المسلم لانها لاتعني فحسب إحياء المكتوب ولكن الأمر أبعد من ذلك، إحياء النفوس والقيام بدور فعال بالنهوض بالذات والارتقاء بالأمة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ) (الأنفال: 24).

وكذلك فإن هذه العملية قاصدة إلى وصل ما انقطع مما يحفز فاعلية الأمة وعمرانها وتقويم ما انحرف من رؤى، بددت الإمكانات الحضارية والفكرية، وأوغلت في الفهم والتأويل فانحرفت في فكرها وسلوكها أو تجمدت بنفسها ووقفت تتمسك بما يحسن وما لا يحسن من دون تفعيل ذلك في حياة الإنسان المسلم والقيام بدوره في الإسهام الانساني والعطاء الحضاري.

ويتكامل في هذه العملية القدرة على مواجهة ما تجدد من حوادث وحادثات، وقضايا ونوازل وإشكالات، إن الأمر يرتبط بقدرات المسلمين البنائية لاستئناف المسيرة الحضارية ومسار الفاعلية ضمن رؤى استراتيجية فاعلة وفعالة.

مفتتح هذه العملية تشكيل الوعى الحضارى المرتبط بأهمية الحكم الراشد فى الذاكرة الحضارية، وضرورته فى عملية النهوض بما يشكله من رافعة للدولة والمجتمع على السواء، ضمن هذه الرؤية يأتى هذا البحث “الحكم الراشد فى الرؤية الإسلامية: رؤية تجديدية واجتهاد مطلوب”.

الهوامش

(1) أحمد العماري، نظرية الاستعداد في المواجهة الحضارية للاستعمار: المغرب نموذجا، الولايات المتحدة الأمريكية: هيرندن – فرجينيا، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، سلسلة الرسائل الجامعية (20)، 1996.

(2) سامح فوزي، الحكم الرشيد، الموسوعة السياسية للشباب (19)، مرجع سابق، ص 34.

(3) المرجع السابق، ص 36 – 42.

(4) سلوى شعراوي جمعة (تحرير)، عليّ الدين هلال (تقديم)، إدارة شئون الدولة والمجتمع، جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، مركز دراسات واستشارات الإدارة العامة، 2001.

(5) ممدوح مصطفى محمد إسماعيل، مساءلة الإدارة العامة بين النظرية والتطبيق: رؤية إسلامية، رسالة مقدمة لنيل درجة دكتوراه الفلسفة في الإدارة العامة، جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، قسم الإدارة العامة، 2004.

(6) انظر: ندوة مركز دراسات الوحدة العربية، الفساد والحكم الصالح في البلاد العربية: بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركزدراسات الوحدة العربية بالتعاون مع المعهد السويدي بالإسكندرية، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الاولى، 2004، سامح فوزي، المساءلة والشفافية: إشكالات تحديث الإدارة المصرية في عالم متغير، القاهرة، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 1999، سامح فوزي، الحكم الرشيد، الموسوعة السياسية للشباب (19)، القاهرة، نهضة مصر للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، يوليو 2007، سامح فوزي، الحوكمة، (سلسة شهرية بعنوان: مفاهيم..الأسس العلمية المعرفية)، العدد 10، السنة الأولى، أكتوبر 2005، القاهرة، المركز الدولي للدراسات المستقبلية والإستراتيجية، 2005.

(7) انظر: نادية مصطفى، سيف الدين عبد الفتاح (تنسيق علمي وإشراف)، مدحت ماهر (مراجعة وتحرير)، العلاقة بين الديني والسياسي مصر والعالم: رؤى متنوعة وخبرات متعددة، القاهرة، مكتبة الشروق الدولية، الطبعة الأولى، 1429هـ، 2008م.

( 8) قضية بناء المفاهيم من أهم القضايا التي تؤثر على مجمل الحياة الثقافية والفكرية خاصة في مجال العلوم السياسية انظر على سبيل المثال: د. عبد الوهاب المسيري، هاتان تفاحتان حمراوان: دراسة في التحيز وعلاقة الدال بالمدلول، ضمن ندوة إشكالية التحيز: رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد، القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فبراير 1992، ص 19 – 21، ومتابعة هذه القضية تفرض علينا أن نحدد طبيعة مفاهيم العلوم السياسية إذ أنها غالبا ما تعتبر من النوع الـمَسَامي إن صحت تلك الصفة، وهو ما يمكِّن مستخدمها فضلا عن متبنيها ومروجها استغلالها، انظر في هذا السياق جاك جارستلي، المفاهيم والنظريات وبرامج البحث، المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية، اليونسكو، العدد 122، نوفمبر 1989، ص 127 – 134.

كما أنه من الضروري التمييز بين المصطلحات والمفاهيم الجديدة بمعنى ابتكار مصطلحات للدلالة على مفاهيم وظواهر جديدة، وبين مصطلحات قديمة أضيفت لها معان جديدة: إريك دي جوولييه، من النظريات إلى المفاهيم ومن الحقائق إلى الكلمات، المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية، اليونسكو، العدد 124، مايو 1990، ص 117 – 125، وفي إطار الارتباط بين المفاهيم والمنظورات المختلفة فضلا عن الافتراضات المسبقة يمكن متابعة:

New York: John Wiely, Ivana Markana, Paradigms, Thought and Language, 1982, PP 1-9.

وفي سياق ارتباط المفاهيم بالزمن الذي نشأت فيه وطبيعته وكذلك الخبرة انظر:

Michael A. Weinstein, Meaning and Appreciation Time and Modern Political Life, West Latayette, Indiana: Purdue University Press, 1973, P3 FF. ,D.Follesdal,”Meaning and Clarendon: Experience”, in Samul Gutteuplan (ed), Mind and Language, Oxford PRESS,1975 PP. 25 – 44.

وفي سياق ما يمكن تسميته بعلم اجتماع المعاني وارتباط ذلك بالمفاهيم والمصطلحات وما تستبطنه من أيديولوجيات وخلفيات أخرى، وهو ما يجعلنا نتلمس حقائق مثل ترويج المفاهيم حسبما ترتبط بمصالح متنوعة ومتنافسة خاصة إذا ما ارتبطت تلك المفاهيم بالخطاب السياسي ولغته بصفة خاصة، انظر على سبيل المثال:

John B.O, Male, Sociology Of Meaning, London: Human Context Books, n.d., pp 8 – 13, 239 – 283, Murray Edelman, Political Language: Words That Succeed and Politics that fail, New York: Academic Press, 1977, Passim.

وربما أن متابعة عملية المفاهيم الجديدة وتكونها نشأة وتطورا أمر يحتاج إلى دراسة متأنية ويفيد في ضبط الجديد منها والذي تكاثر إلى الحد الذي لا يمكن متابعته، انظر على سبيل المثال: Donald A. Schan, Invention and the Evaluation Of Ideas. Social Sciences Paperbaks, Tanistock Publications, 1963, PP 3 ff.

(9) جوزيف س. ناي، جون د. دوناهيو، الحكم في عالم يتجه نحو العولمة، محمد شريف الطرح (ترجمة)، المملكة العربية السعودية، مكتبة العبيكان، 2002.

(10) جلين تيندر، الفكر السياسي: الأسئلة الأبدية، محمد مصطفى غنيم (ترجمة)، القاهرة، الجمعية المصرية لنشر المعرفة والثقافة العالمية، الطبعة الأولى، 1993.

(11) سيف الدين عبد الفتاح إسماعيل، بناء المفاهيم الإسلامية السياسية: ضرورة منهجية، ضمن الطيب زين العابدين (محرر) المنهجية الإسلامية في العلوم السلوكية، واشنطن: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، المجلد، 1992م، وانظر كذلك د. علي جمعة محمد، د. سيف الدين عبد الفتاح (إشراف)، بناء المفاهيم: دراسة معرفية ونماذج تطبيقية (جزآن)، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، القاهرة، 1998م.

(12) انظر: سيف الدين عبد الفتاح، الإسلام والتنمية، في محمد صفي الدين خربوش (تحرير)، المساعدات الخارجية والتنمية من منظور عربي وإسلامي، عمان، المركز العلمي للدراسات السياسية، 2001.

( 13) أحمد قائد الشعيبي، وثيقة المدينة: المضمون والدلالات، قطر، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، سلسلة كتاب الأمة (العدد: 110)، السنة الخامسة والعشرون، ذو القعدة 1426ه، ديسمبر 2005 – يناير 2006.

(   4 1 ) عبد الله إبراهيم الكيلاني، إدارة الأزمة: مقاربة التراث.. والآخر، قطر، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، سلسلة كتاب الأمة (131)، السنة التاسعة والعشرون، جمادي الأولى 1430هـ / ابريل – مايو 2009.

(15) عباس علي الموسوي، مالك الأشتر وعهد الإمام له، بيروت، دار الأضواء، 1407هـ، 1987م.

(16) محمد بن المختار الشنقيطي، الخلافات السياسية بين الصحابة رضي الله عنهم: رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ، المملكة العربية السعودية، مركز الراية المعرفية، الطبعة الثانية، 2007.

(17) انظر وقارن: حامد ربيع، مدخل في دراسة التراث السياسي الإسلامي، سيف الدين عبد الفتاح (تحرير وتقديم)، القاهرة، الشروق الدولية، 2007،

انظر أيضا: حامد عبد الله ربيع، الدعاية الصهيونية، (القاهرة: معهد البحوث والدراسات العربية، 1975)، ص 216 – 218،النموذج التاريخي والحركة السياسية: يوصف النموذج التاريخي، كأحد عناصر بناء إطار الحركة السياسية، بأنه تعبير معقد عن حقيقة معروفة. وتدور الحالة التي يعبر عنها النموذج التاريخي- منذ أقدم العصور- حول المتغيرات التالية:

(1) عملية مقارنة بين المواقف: موقف معاصر نسعى لمواجهته، مستأنسين بأقرب المواقف إليه تاريخيا التي تسمح بفهم عناصر النجاح في المواجهة ومتغيراته.

(  2)  عملية اقتطاع للموقف من حيث الواقع الحركي، وإحالته إلى متغيرات أصيلة، وأخرى تابعة، فالموقف التاريخي إطار كامل للتعامل مع جميع المدخلات والمخرجات مقيد ذلك بإمكانيات المعرفة التاريخية، أما الموقف الحركي يفترض فيه أن مخرجاته أو نتائجه لا تزال موضع التدبر والتوقع.

(3) تقنين الخبرة التاريخية انطلاقا من علاقة السببية: يعني ذلك تحديد المتغيرات التي تحكمت في النجاح ودرجاته أو الفشل ومستوياته. وعملية ضبط المتغيرات بهذا المعنى هي في حقيقتها، نوع من أنواع البحث المعملي حيث يصير التاريخ بديلا للبحث المعملي ومكملا له.

هذه العمليات الثلاث في حقيقة الأمر تتكون منها دورة كاملة للمنطق السياسي. فاكتشاف المواقف، والتأكد من مقومات التشابه، تفترض اقتطاع هذه المواقف وإخضاعها لعملية البحث التحليلي. كذلك فإن اقتطاع الموقف يفترض بدوره نوعا من المقارنة الذهنية التي وحدها تكون الخلفية الحقيقية لوحدة منطق الحركة والتي تسمح بتقنين علاقة السببية. ويمثل ذلك مقدمة لبناء نموذج الحركة بالنسبة للموقف الذي ينتهى المحلل إلى إثبات علاقة تشابه بينه وبين نموذج أو نماذج تاريخية.

وهكذا تترابط العمليات الثلاث فيما بينها لتقدم لعملية بناء نموذج الحركة الذي يعني: “مواجهة المستقبل على ضوء الدلالات المستخلصة من الماضي”.

وعلى ضوء ما سبق، يمكن البحث في الدروس المستفادة من نموذج عمر بن عبد العزيز من خلال الكشف عن واقعه التاريخي ومتغيراته، مما يخلق الترابط بين الخبرة ودلالاتها، والحركة وقواعد التحكم في مساراتها. وبذلك يمكن لنموذج عمر بن عبد العزيز أن يسهم في تقديم رؤية لمشروع الإصلاح السياسي للبلدان الإسلامية في الآونة الراهنة، والتي تحتاج لدراسات عديدة تأخذ بعين الاعتبار البنية المختلفة لكل منها (إدراك الأفراد قادة ومصلحين وسياق الأحوال والظروف المختلفة)، بالاستفادة من المقومات الأساسية للإصلاح في ضوء النموذج العمري الإصلاحي.

(18) عماد الدين خليل، الوحدة والتنوع في تاريخ المسلمين: بحوث في التاريخ والحضارة الإسلامية، دمشق، دار الفكر، 2002، ص9.

(19) المرجع السابق، ص9.

(20) المرجع السابق، ص11.

(21) المرجع السابق، ص 246.

(22) عبد الله أبو عزة، إنهيار الحضارة العربية الإسلامية وسبيل النهوض، عمان، دار الفضيلة، 2008، ص12.

(23) عبد الله أبو عزة، انهيار الحضارة العربية الإسلامية وسبل النهوض، المرجع السابق.

(24) أبو الحسن الماوردي، أدب الدنيا والدين، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، ص139 ومابعدها.

(25) سيف الدين عبد الفتاح، العالم والسلطان: نماذج تراثية وخبرة بحثية، كتاب تحت الطبع.

(26) سيف الدين عبد الفتاح إسماعيل، بناء المفاهيم الإسلامية السياسية: ضرورة منهجية، ضمن الطيب زين العابدين (محرر) المنهجية الإسلامية في العلوم السلوكية، مرجع سابق.

(27) سيف الدين عبد الفتاح، الوقف بين الرؤية الإسلامية الإنسانية وأزمة الدولة القومية، في سيف الدين عبد الفتاح وآخرين، الوقف ودوره في النهوض الحضاري، مرجع سابق.

(  28 )             سيف الدين عبد الفتاح، المدخل السُّفُنِيّ في تحليل الأسرة: دراسة في عمليات التنشئة الاجتماعية والسياسية، سيف الدين عبد الفتاح إسماعيل، الثقافة الدينية والبنيان القيمي بين مدخل المقاصد الكلية والمدخل السفني: رؤية إسلامية، بحث مقدم إلى مركز الدراسات المعرفية، القاهرة. (تحت الطبع).

( 29 )   انظر: حامد ربيع، مدخل فى دراسة التراث السياسى الإسلامى، تحرير وتعليق: سيف الدين عبد الفتاح، القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، جزءان، 2007، وكذلك: نصر محمد عارف، في مصادر التراث السياسي الإسلامي: دراسة في إشكالية التعميم قبل الاستقراء والتأصيل، الولايات المتحدة الأمريكية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، سلسلة المنهجية الإسلامية (17)، الطبعة الأولى، 1415هـ / 1994م.

(30)   انظر أمثلة عديدة لاستخدامنا لتحليل النصوص ومنها: المجتمع المدني في الفكر الإسلامي والممارسة، في دور المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديموقراطية، لبنان: بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1992م، حوار النخبة المثقفة حول العنف والإرهاب، مراجعة نقدية، ضمن: كمال المنوفي- حسنين توفيق، الثقافة السياسية في مصر بين الاستمرارية والتغير، مركز البحوث والدراسات السياسية، جامعة القاهرة، 1994م، د. الحبيب الجنحاني، د. سيف الدين عبد الفتاح إسماعيل، المجتمع المدني وأبعاده الفكرية (سلسلة حوارات لقرن جديد)، الطبعة الأولى، دار الفكر، دمشق، 2003، سيف الدين عبد الفتاح إسماعيل، النموذج الوسطي والتحرير الإسلامي للمرأة “محمد عمارة نموذجًا”.

(31) منى أبو الفضل، طه جابر العلواني، مفاهيم محورية في المنهج والمنهجية، القاهرة، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1430هـ / 2009م، ص25 – 26

(32) منى أبو الفضل، طه جابر العلواني، مفاهيم محورية في المنهج والمنهجية، مرجع سابق، ص 26 – 31.

ملحوظة : يوجد بالبحث أشكال توضيحية تعذر عرضها بالموقع

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر