منذ أواخر القرن الثاني الهجري أدرك الإمام الشافعي أهمية الإلزام بقانون عام يعول عليه في تفسير النص، ويرجع إليه في معرفة مقاصد الوحي، فكانت (رسالته) الأصولية الحد الفاصل بين مرحلتين المرحلة الأولى: ويعنوَّن لها بظاهرة المقاصد، حيث تبدو الأحكام المنزلة ذات ارتباط وثيق بحِكَم وأهداف، فالأمر له غاية ومآل، والنهي له غاية ومآل، وهذا يعني أن الأحكام لها مبنى ومعنى، وأن معقولية النص هي جزء من بنيته الداخلية، يلزم بها السياق الذي تنزلت فيه، ولا يفرضها واقع خارجي. الأصل أن خطاب الشرع حاكم عليه، وليس محتكمًا إليه، وفي ضوء هذه الظاهرة يفسر الرأي في فقه الصحابة والتابعين، والذي حدَّه ابن القيم “بأنه ما يراه القلب بعد فكر وتأمل ومعرفة لوجه الصواب”، وهو وجه من وجوه التقصيد لا يأتي عفو الخاطر، وإنما له قواعده المتبعة ومرجعيته الملزمة، بل إنه تقصيد يستوعب البناء المقاصدي في عناصره الثلاثة:
أولاً- في عنصر المصلحة: والتي أصبحت في عصر الصحابة أصلاً يُبنى عليه الاستنباط، وهو أصل يتعدى حرفية النص إلى معناه، وعلى أساس هذا الفهم العميق جاءت اجتهادات الصحابة في تطبيق حد السرقة عام المجاعة، وفي تضمين الصناع، وغيرهما من الاجتهادات.
فالصحابة هنا – رضوان الله عليهم- لم يتركوا الواقع يتحرك ضد المصلحة العامة للأمة، أو المصلحة القطعية للفرد، بدعوى أنه لا نص، أو بدعوى أن النص يطبق على نوازله وقضاياه فحسب، بل اجتهدوا في توصيف الواقع، واستخدموا كل وسيلة عقلية يمكنها أن تحدد ماهيته ومآلاته، وفهموا النص في سياق لغوي وبنية لسانية لا تجعل النص مغلقاً على ألفاظه، بل محلِقاً في آفاقه، فجاء – من خلال هذا المنهج – تنزيل الحكم مطابقاً لما يرونه قصدًا للشارع يتجلى في الظاهر الإنساني بما يجلبه من منفعة، وما يمنعه من مفسدة، وعلى هذا النحو جرى فقه التنزيل عند الصحابة، “ونحن على قطع – كما يقول إمام الحرمين الجويني في (البرهان) – نعلم أنهم ما كانوا يحكمون بكل ما يعن لهم من غير ضبط وربط وقواعد متبعة عندهم”.
لنتأمل صنيع عثمان الخليفة الثالث t في ضوال الإبل، يقول الإمام مالك: سمعت ابن شهاب الزهري يقول: كانت ضوال الإبل في زمن عمر بن الخطاب إبلاً مؤبلة – أي لا يأخذها أحد- تتناتج لا يمسكها أحد، حتى إذا كان زمن عثمان، أمر بإمساكها، وبتعريفها، ثم تُباع فإذا جاء صاحبها أُعطي الثمن.
وصنيع عثمان t فيه تجاوز ظاهري للنهي الوارد عن رسول الله r، والذي يقضي بعدم الالتقاط، ولكن مقصد المحافظة على المال اقتضى زمن عثمان الإمساك، فقد طالت الأيدي، وضعفت النفوس، وقلَّ الورع في حقوق الغير، فكانت المصلحة في الالتقاط، فأفتى به عثمان اجتهاداً، وألزم به سياسة. والقراءة الأصولية والمقاصدية لصنيع عثمان t ترى فيه ما تحدث عنه الإمام القرافي في كتابه (الفروق) في قاعدة جمع الفرق، ويعرفها بأنها “المعنى المناسب الذي يناسب الإثبات والنفي”، ثم يأتي بضابطها فيقول “ضابط: كل معنى يوجب مصلحة أو مفسدة ويوجب نقيضها في محل آخر، وباعتبار ونسبة أخرى، فإنه يوجب الضدين وهو ضابط جمع الفرق”.
وهكذا انتقلنا، في ضوء المقاصد، من تطبيق عثمان t إلى تقعيد القرافي، بهدف تأصيل المنهج الاجتهادي عند الصحابة، وهو منهج طليق يسد كل منافذ الإضرار بمصالح الناس، وكل ما يفسد عليهم حياتهم ومعاملاتهم، يستوي في ذلك نوازل التسعير، ونوازل الشورى، وقواعد المنهج كما تطرد في البيوع والتجارة، فإنها تحلق في الفضاء السياسي والاجتماعي والعقائدي وتجرى في الولايات كما تجرى في المعاملات. ولعل هذه القراءة هي ما عناها الإمام الغزالي عندما رفض توظيف الخراج على أموال الناس في عصره – رغم جوازه في الفقه الشافعي- فقد طمع الحكام في …………….