استهلال:
تمتاز المعرفة الإسلامية بالتراكم والاتصالية. ولم يفتأ علماء المسلمين يتأثر اللاحق منهم بالسابق، فيكمل ويبني عليه مما جعل التناغم والتوافق يسود مراحل هذه المعرفة، أكثر من أن يسودها مظاهر النقد والقطيعة والانفصال. نلاحظ ذلك واضحا في أن أكثر العلوم الإسلامية تبدأ بسيطة ومتواضعة ثم ما تلبث أن تتطور وتنضج في مسيرة تراكمية يضيف فيها المتأخر على المتقدم ويساعد الثاني الأول. وانطلاقا من ذلك فسأتناول في هذه السطور تأثر الإمام الشاطبي بالإمام الطوفي، ذلك التأثر الذي رغم أهميته وانتشاره لم يحظ بالاهتمام المناسب لعوامل أهمها أن الشاطبي نفسه لم يذكر الطوفي رغم أن أسماء علماء كثيرين كانت حاضرة في مؤلفاته الأصولية مثل الجويني والغزالي والقرافي وابن عبد السلام وابن رشد واللائحة طويلة(1).
ومنها أيضا التهم التي وجهت إليه كالتشيع وهي صفة غالبا ما ينبو عنها سمع أهل السنة ويتبرأون منها وممن وصف بها. رغم ذلك فإنه جدير بنا أن نتساءل قائلين ما هي وجوه التلاقي بين هذين الإمامين؟ وما مدى صحة القول بأن الشاطبي كتب صفحات طويلة من الموافقات وهو ينظر إلى كتب الطوفي المختلفة وخاصة التعيين على الأربعين والإشارات الإلهية؟ ثم إذا كان الأمر بهذه الدرجة لماذا تجاهل الشاطبي من نقل عنه بطريقة حرفية وفي موضوعات حساسة هي موضوع المقاصد الشرعية؟ ثم أخيرا وليس آخرا لماذا لم يحظ تأثر الشاطبي بالطوفي بالاهتمام، رغم الاهتمام بالشاطبي في هذا العصر، ورغم تعدد الموضوعات البحثية عنه بما فيها الحديث عن من تأثر بهم بحيث يغيب اسم هذا العالم؟
ومن أجل الإجابة على هذه الأسئلة أو أغلبها أتناول الموضوع في ثلاثة مباحث. المبحث الأول في تأثر الشاطبي بالطوفي في مبحث العموم والخصوص، والمبحث الثاني في المصلحة عندهما. والمبحث الثالث أتناول موقفهما من الاختلاف وقولهما بوحدة الشريعة، وتندرج المطالب في المباحث. هذا فضلا عن استهلال وخاتمة أنقل فيها العبارات والجمل التي تبرهن على هذه العلاقة.
وأشير أولا إلى تاريخ ميلادهما ووفاتهما لما فيه من الأهمية. فرغم أن الأستاذ الريسوني يقول عن ميلاد ووفاة الشاطبي: «والأمر لا يكتسي أية أهمية»(2) فإنه مهم في الحالة التي نتحدث عنها. وهو ما يسمح بالقول بأن المتأخر منهما أخذ من المتقدم. ويبدو أن ميلاد العالمين الكبيرين يلفها شيء من الغموض، وهو مثار الاختلاف.
أما الطوفي فاسمه نجم الدين أبو زيد أبو إسحاق سليمان ابن عبد القوي بن عبد الكريم ابن سعيد المعروف بالطوفي وهي قرية من أعمال صرصر من سواد بغداد. قال مصطفي أبو زيد: “والذي يبدو لي أن الطوفي ولد عام 657هـ”، ثم قال: “وأما عام وفاته فلعل من حقنا أن نرجح أنه كان عام 716هـ”(3).
أما الشاطبي فهو أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشاطبي وهي بلدة تقع جنوب غرب بلنسية(4)، ولم يذكر العلماء تاريخا محددًا لميلاده، وإن كان البعض يرجح أن ذلك كان قبل سنة 720هـ. أما وفاته فكانت سنة 790هـ. وهذا يعنى أنه من حيث الزمن فلا معارضة في إمكانية التأثر. فوفاة الطوفي كانت متزامنة مع ميلاد الشاطبي تقريبا على نحو ما حدث في حالات عديدة، كما قيل بأن سنة وفاة أبي حنيفة 150هـ كانت سنة ميلاد الشافعي. وهو ما يتندر به الشافعية على الحنفية فيقولون لهم ولد إمامنا سنة وفاة إمامكم. وكما وقع بين ابن رشد والغزالى فإن وفاة الغزالي تزامنت مع ميلاد ابن رشد تقريبا في نفس السنة وهي سنة 505هـ. ولا يبعد أن تكون سنة وفاة الطوفي هي سنة ميلاد الشاطبي.
المبحث الأول
العموم والخصوص
المطلب الأول: حول أهمية مبحث العموم والخصوص
يكتسب هذا الموضوع أهمية خاصة في المباحث الأصولية. وذلك ما أشار إليه بعض الباحثين المعاصرين. فالجابري علي سبيل المثال نبه إلى أهمية هذا الموضوع في المباحث الأصولية بحيث كان ينفرد فيها بنصيب الأسد. فقال: «أبواب العموم والخصوص في دلالة الألفاظ وهو أكبر أبواب الأبحاث اللغوية الأصولية»(5)، وهناك من ألفوا قديما وحديثا في هذا الموضوع. كما ذكر عن أبي داوود الظاهري انه ألف فيه كتابا. وقد ألف القرافي كتابه الشهير العقد المنظوم في الخصوص والعموم، كما أكد الطوفي على أهمية هذا الموضوع عندما جعل المواضيع الأصولية كلها تدور حوله، كما أن مواضيع أصول الدين تعود إلى القدر فقال: «إذا عرفت ذلك فاعلم أن في أصول الدين قاعدة عظيمة عامة، وهي قاعدة القدر وقد كنت أفردت فيها تأليفا. وفي أصول الفقه قاعدة كذلك وهي قاعدة العموم والخصوص، وقد كنت عزمت أن افردها بتأليف لكن رأيت إدراجها في هذا الإملاء»(6).
المطلب الثاني: موقف الطوفي والشاطبي من العموم والخصوص
في هذا الموضوع نلاحظ أن المواقف التي اشتهر بتفرد الشاطبي فيها كان قد سبقه الطوفي إليها، وإن كان الشاطبي سيبسطها ويعمقها أكثر. مثال ذلك أنهما توافقا على أن العموم من عوارض المعاني لا الألفاظ، على خلاف مع كافة الأصوليين. فقد اتفق الأصوليون -إلا من رحم ربك- بأن العموم من عوارض الألفاظ. قال الغزالي: «العموم من عوارض الألفاظ لا من عوارض المعاني»(7). وكان نتيجة ذلك إهمال تطلب المعاني والمقاصد التي تحيل إليها الألفاظ، أي إهمال القطب التجريبـي في البحث. ومثل ذلك العطالة التي عاني منها البحث الشرعي كثيرا. وبمقابل ذلك تبني كل من الطوفي والشاطبي نظرية جديدة للعموم تقوم على المعاني والمقاصد.
فقال الطوفي بأن العموم من عوارض المعاني وهي عنده الأجسام، مؤكدا أن المباني لا تنفصل عن المعاني، فحيث كان هناك عموم في اللفظ كان هناك عموم فيما يشتمل عليه هذا اللفظ من الأجسام. يقول الطوفي: «العموم من عوارض الألفاظ حقيقة لدلالتها على مسمياتها، باعتبار وجودها اللساني والذهني.. والتحقيق أنه حقيقة في الأجسام إذ العموم لغة الشمول ولابد فيه من شامل ومشمول كالكلة والعباءة لما تحتهما»(8)، نلاحظ هنا نظرة متطورة للعلاقة بين الدال والمدلول وبين اللفظ والمعنى وبين العقل والتجربة(9)، ذلك أن الألفاظ لا تستقل بالدلالة وحدها فلا بد أن يكون لها معني خارجي تشير إليه. وهو مثلها في العموم والخصوص، كما أن العباءة تحدد الجسم الذي تحويه. هذا الموقف تبناه الشاطبي عندما قال في بداية تناوله لهذا الموضوع: «ولا بد من مقدمة تبين المقصود من العموم والخصوص ههنا. والمراد العموم المعنوي كان له صيغة مخصوصة أم لا. فإذا قلنا في وجوب الصلاة أو غيرها من الواجبات وفي تحريم الظلم أو غيره انه عام، فإنما معنى ذلك أن ذلك ثابت على العموم والإطلاق، بدليل فيه صيغة عموم أو لا، بناء على أن الأدلة المستعملة هنا هي الأدلة الاستقرائية المحصلة بمجموعها القطع بالحكم»(10).
هذا الموقف سمح لهذين الرجلين من طي صفحة النقاش حول صيغ العموم. وحول ما إذا كانت تدل تلك الصيغ على العموم أو على الخصوص أو على الوقف. حيث كانت تقوم معارك طاحنة حول هذه المواضيع التي هي طويلة الذيل قليلة النيل كما يقال، وذلك حول ما إذا كان للعموم صيغا وضعية أم لا؟ فينقسم فلاسفة الإسلام إلى ثلاثة اتجاهات رئيسية وهي أرباب العموم وأرباب الخصوص وأرباب الوقف، لكن الجميع في النهاية سيقر بالعموم. بدليل أن الجميع يري بالتخصيص وهو دليل على الإقرار بالعام. وقد بدأ الشاطبي الكلام قائلا: «لا كلام في أن للعموم صيغا وضعية، والنظر هنا مخصوص بأهل العربية» وذلك لحرصه على التخصص في العلوم. فإذا احتاج علم أصول الفقه إلي مباحث لغوية فعليه أن يأخذها من علوم العربية كمسلمات ثم يبني عليها، لا أن يحاول الاستدلال عليها، فقال فيما يشبه القاعدة بأن الأصولي إذا احتاج إلى مسألة نحوية: «فالذي كان من شأنه أن يأتي بها على أنها مفروغ منها في علم النحو فيبنى عليها، فإذا أخذ يتكلم فيها وفي تصحيحها وضبطها والاستدلال عليها كما يفعله النحوي صار الإتيان بذلك فضلا زائدا غير محتاج إليه»(11).
وفي الحقيقة أن المفاهيم والمواقف التي قالها الطوفي في هذا الموضوع الحساس، قد أعاد إنتاجها الشاطبي في نفس الموضوع. فقد قال الطوفي بأن العموم يعتبر بالاستعمال أما قبل ذلك فهو مجهول. فقال: «واللفظ قبل استعماله ليس حقيقة ولا مجازا»(12)، وكرر ذلك قائلاً: واللفظ قبل استعماله ليس حقيقة ولا مجازا لعدم ركن تعريفهما وهو الاستعمال. وقد علق صاحب الشرح بأن هذه المسألة جديدة وتحتاج إلى نظر. وفي تعريف الكلمة قال: «والكلمة لفظ وضع لمعنى والأجود لفظ استعمل»(13).
وقال أيضا بأن العموم باق على عمومه فقال: «فنحن إن شاء الله عز وجل كلما مررنا بلفظ عام وجهنا عمومه إن احتاج إلى ذلك ثم بينا أنه باق على عمومه.. وفي ذلك فوائد جمة كل ذلك بحسب الإمكان إن شاء الله عز وجل وهو المستعان»(14)، ولما كانت العمومات باقية فان التخصيص هو بيان. يقول الطوفي في تعريف التخصيص: «واصطلاحا هو بيان المراد باللفظ العام، كما إذا قال أكرم الرجال؟ ثم قال: لا تكرم زيدا تبين أن مراده بالرجال من عدا زيدا»(15).
من الواضح أنه يمكن الخروج في هذا الموضوع بثلاثة أفكار جديدة: وهي أن العموم في المعاني أو الأجسام بعبارة الطوفي، وأنه باق على عمومه وأن التخصيص بيان وليس بإخراج.
هذا ما نلاحظه عند الشاطبي الذي قدم نظرية هامة في هذا الموضوع، تستمد مبادئها من ملاحظات الطوفي التي تميل إلى الاقتضاب.
ففي المسألة الأولى مر حديث الشاطبي عن أن العموم من عوارض المعاني لا الألفاظ، فقد قال الشاطبي بأن العموم يعرف بالاستعمال فقال: «للعموم الذي تدل عليه الصيغ بحسب الوضع نظرين: أحدهما باعتبار ما تدل عليه الصيغة في أصل وضعها على الإطلاق، وإلى هذا النظر قصد الأصوليون. ولذلك يقع التخصيص عندهم بالعقل والحس وسائر المخصصات المنفصلة. والثاني بحسب المقاصد الاستعمالية التي تقضي العوائد بالقصد إليها، وإن كان أصل الوضع على خلاف ذلك، وهذا الاعتبار استعمالي والأول قياسي. والقاعدة في الأصول العربية أن اللفظ الاستعمالي إذا عارض الأصل القياسي كان الحكم للاستعمالي»(16)، كما يقول: «فالحاصل أن العموم إنما يعتبر بالاستعمال ووجوه الاستعمال كثيرة وضابطها هو مقتضيات الأحوال التي هي ملاك البيان». فمعرفة الكلام سواء كان عربيا أو شرعيا إنما تكون بمعرفة سياق الاستعمال ومقاصد صاحب الخطاب. فالعمومات إنما تعم بحسب مقصد الشارع فيها وهو الوضع الشرعي. وهذا الوضع وإن كان قد جيء به متضمنا في الكلام العربي الا أن له مقاصد تختص به يفيدها المساق الحكمي أيضا.
وفي المسألة الثانية أكد الشاطبي كما أكد الطوفي من قبل على أن العموم باق على عمومه أي أنه حقيقة شرعية علمناها أم جهلناها. وذلك على خلاف الأصوليين الذين قالوا بأن العمومات ظنية وتحتاج إلي بيان خارجي من أدلة الحس أو العقل. ولهذا قال الغزالي: «لا نعرف خلافا بين القائلين بالعموم في جواز تخصيصه بالدليل، إما بدليل العقل أو السمع أو غيرهما، وكيف ينكر ذلك مع الاتفاق على تخصيص قوله تعالى: (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)»(17).
وفي دلالة هذه الصيغ ذهب الكثير من العلماء وعلى رأسهم الأشعري إلى القول بأن صيغ العموم لا تفيد خصوصا ولا عموما وهو ما يفتح باب الظن والشك على مصراعيه. قال الآمدي: «وقالوا بأن هذه الألفاظ و الصيغ قد تطلق للعموم تارة، وللخصوص تارة. والأصل في الإطلاق الحقيقة. وحقيقة الخصوص غير حقيقة العموم، فكان اللفظ المتحد الدال عليهما حقيقة مشتركا كلفظ العين والقرا ونحوه»(18)، ومن الغريب أن هذا الموقف الشكي يترأسه الأشعري.
وقال الشاطبي بان هذا الموقف يؤدي إلى توهين الأدلة الشرعية وتضعيف الاستدلال بها، لأن عامة الأدلة الشرعية عمومات. فقال: «اختلفوا في العام إذا خص هل يبقى حجة أم لا؟ وهي من المسائل الخطيرة في الدين، فإن الخلاف فيها في ظاهره شنيع، لأن غالب الأدلة الشرعية وعمدتها هي العمومات، فإذا عدت من المسائل المختلف فيها بناء على ما قالوه أيضا من أن جميع العمومات أو غالبها مخصص، صار معظم الشريعة مختلفا فيها»(19).
وعلى خلاف الموقف الأصولي التقليدي نادى الشاطبي بأن العمومات حقائق صادقة اليقين في مقصودها وفي ما استعملت فيه، كما قال الطوفي آنفا. ولا نبعد عن الصواب إذا قلنا بأن الشاطبي دشن نظرية في العموم تمثل قطيعة ابيستمولوجية مع النظرية الأصولية السابقة حول نفس المفهوم، وإذا أضفنا إلى ذلك القول بأن هذا المفهوم – نظرا لأهميته- يمثل صورة مصغرة لعلم أصول الفقه، لأنه هو أم الباب في القواعد الأصولية، التي هي بدورها الركن الأساسي لعلم أصول الفقه وتمثل جانب الاستدلال فيه، أمكننا تبعا لذلك أن نقول بأن الشاطبي يقدم علم أصول فقه جديد ينظر إلى العمومات الشرعية باعتبارها قواعد صادقة العموم، وتطلب إثبات هذا الموقف منه أن يكرس له كل المسألة الثالثة من الباب الخاص بالعموم و الخصوص.
يري الشاطبي أن العموم يعتبر بحسب الاستعمال، فقال: «فالحاصل أن العموم إنما يعتبر بالاستعمال. ووجوه الاستعمال كثيرة، لكن ضابطها هو مقتضيات الأحوال التي هي ملاك البيان. فإن قوله تعالى: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا)(20) لم يقصد به أنها تدمر السموات والأرض والجبال وغيرها، مما هو في معناها، و إنما المقصود تدمر كل شيء مرت عليه، مما قد تؤثر فيها على الجملة، ولذلك قال: (فَأَصْبَحُوا لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ)(21) وهذا يعني أنه لا وجود لعمومات ظنية. بل العمومات كلها صادقة ويقينية، لأنها تتحدد بحسب مقصود المتكلم فيها، وإذا عرفنا هذا المقصود عرفنا العموم. وليس هناك مجال للحديث عن حقيقة وعن مجاز وعن خصوص وعموم.
يقول الشاطبي: «وأيضا فطائفة من أهل الأصول نبهوا على هذا المعنى. وأن ما لا يخطر ببال المتكلم عند قصده التعميم إلا بالإخطار لا يحمل لفظه عليه، إلا مع الجمود على مجرد اللفظ، وأما المعنى فيبعد أن يكون مقصودا للمتكلم. كقوله r: “أيما إهاب دبغ فقد طهر”(22)، قال الغزالي: خروج الكلب عن ذهن المتكلم والمستمع عند التعرض للدباغ ليس ببعيد بل هو الغالب الواقع. ونقيضه هو الغريب المستبعد. و كذا قال غيره وهو موافق لقاعدة العرب وعليه يحمل كلام الشارع بلا بد»(23)، ويقول أيضا: «واطردت العمومات قواعد صادقة العموم».
العموم إذن يعتبر بالمقاصد. وهذه المقاصد على قسمين: فللفظ العربي مقاصد لغوية يعرفها أهل العربية، وهي شرع في لسانهم كما يقول. وله مقاصد شرعية هي التي يعرفها علماء الشريعة ويتفاوت الناس في إدراكها. وهذه المقاصد قد لا يصيب معرفتها بعض الصحابة وبعض العرب. كما حمل الصحابة اللفظ في قوله تعالى: (الذين آمنوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ)(24) على كل ظلم دق أو جل، وظنوا أن الآية تعنيهم، وقالوا أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ وكما وقع مع ابن الزبعري عندما فهم من قوله تعالى: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ)(25)، فاحتج بذلك على دخول الملائكة والمسيح في جهنم. وكل هذا خطأ في فهم مقاصد الشارع الثاوية وراء الألفاظ العربية. وشرح الرسول للصحابة أن الظلم هو الشرك كما يدل عليه سياق السورة وموضوعها. أما آية (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ) فالخطاب موجه إلى العرب ولم يكونوا يعبدون الملائكة والمسيح. وفي الحالتين كان حمل الآية على مطلق الوضع اللغوي العربي خطأ، وبالتالي فلا يمكن أن يستدل بالخطأ على القاعدة. أي أن حملهم ذلك ليس دليلا على سلامة الأخذ بالوضع اللغوي على الإطلاق، حتى يكون ذاك منهجا للفهم، لا يمكن الاعتماد على منهج غيره. وفهم المقاصد ليس معطى جاهزا وإنما يدركه المشتغلون بالتفكير في القرآن. يقول الشاطبي: «فالتفاوت في إدراكه حاصل إذ ليس الطارئ الإسلام من العرب كالقديم، ولا المشتغل بتفهمه وتحصيله كمن ليس في تلك الدرجة، ولا المبتدئ فيه كالمنتهي (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)(26) فلا مانع من توقف بعض الصحابة في بعض ما يُشْكِل أمره، ويغمض وجه القصد الشرعي فيه، حتى إذا تبحر في إدراك معاني الشريعة باعُه، واتسع في ميدانها نظره، زال عنه ما وقف من الإشكال واتضح له القصد الشرعي الكمال، فإذا تقرر وجه الاستعمال فما ذكر مما توقف فيه بعضهم راجع إلى هذا القبيل»(27)، أما تمرير الألفاظ على الدلالة العربية فهو وقوف على مستوى من الفهم والمعنى أقل بكثير من المعاني والمواضعات الشرعية. «ذلك أن نسبة الوضع الشرعي إلى مطلق الوضع الاستعمالي العربي كنسبة الوضع في الصناعات الخاصة إلى الوضع الجمهوري».
أما في المسألة الثالثة التي تتناول التخصيص، فإذا كان التخصيص عند الطوفي هو بيان جهة العموم، فهذا ما قاله الشاطبي بنفس العبارة. وقبل ذلك الفت النظر إلى مفهوم التخصيص عند الأصوليين. قال ولد بيه: «التخصيص لغة هو جعل الشيء خاصا أو جعل الشيء ذا خصوصية. واصطلاحا هو إخراج جزء مما يتناوله العام، أو قصر العام على بعض أفراده»(28)، وقال العلوي: «التخصيص اصطلاحا هو قصر العام على بعض أفراده، بأن لا يراد منه البعض الآخر بالحكم، وذلك كالقصر على بعض الأفراد، لا بد أن يكون مع اعتماد على غير، أي دليل يدل على التخصيص»(29)، وكل هذا يعني ويفضي إلى شيء واحد، وهو أن اللفظ غير حامل لمعناه، وإنما يتحدد المعني بصورة بعدية من خلال وسائل التخصيص.
أما الشاطبي فقد أدلى بمعنى جديد للتخصيص عبر عنه الطوفي قبلا بتوجيه العموم فقال: «إذا تقرر ما تقدم، فالتخصيص إما بالمنفصل أو بالمتصل، فإن كان بالمتصل، كالاستثناء والصفة والغاية وبدل البعض وأشباه ذلك، فليس في الحقيقة بإخراج لشيء، بل هو بيان لقصد المتكلم في عموم اللفظ، أن لا يتوهم السامع منه غير ما قصد، وهو ينظر إلى قول سيبويه: زيد الأحمر عند من لا يعرفه كزيد وحده عند من يعرفه، وبيان ذلك أن زيدا الأحمر هو الاسم المعرف به مدلول زيد بالنسبة إلى قصد المتكلم، كما كان الموصول مع صلته هو الاسم لا أحدهما، وهكذا إذا قلت الرجل الخياط فعرفه السامع فهو مرادف لزيد… وإذا كان كذلك فلا تخصيص في محصول الحكم لا لفظا ولا قصدا» وقال أيضا: «وما سوى ذلك فأما من تلك القاعدة وإما أنها بيان فقه الجزئيات من الكليات العامة لا أنه على حقيقة التخصيص عند الأصوليين».
وقد شرح الشاطبي الفرق بين التخصيص عنده والتخصيص عندهم، باعتبار أن التخصيص الذي يقترحه بيان أو استخراج جزء من كل وعند الأصوليين هو إخراج. فالتخصيص عنده بيان وعند الأصوليين هو البيان. وبين البيان وبيان ما بين السماء والأرض. يقول الشاطبي: بعد أن طرح السؤال عن الفرق بين التخصيص عنده والتخصيص عند الأصوليين: «إن الفرق بينهما ظاهر، وذلك أن ما ذكر هنا راجع إلى بيان وضع الصيغ العمومية في أصل الاستعمال العربي أو الشرعي. وما ذكره الأصوليون يرجع إلى بيان خروج الصيغة عن وضعها من العموم إلى الخصوص. فنحن بينّا أنه بيان لوضع اللفظ، وهم قالوا بأنه بيان لخروج اللفظ عن وضعه. وبينهما فرق، فالتفسير الواقع هنا نظير بيان الذي سيق عقب اللفظ المشترك ليبين المراد منه، والذي للأصوليين نظير البيان الذي سيق عقيب الحقيقة، ليبين أن المراد المجاز كقولك رأيت أسدا يفترس الأبطال»(30).
هكذا يلاحظ بوضوح أن العالمين الإمامين يقدمان رؤية جديدة للعموم والخصوص كأهم موضوع في القواعد الأصولية، فيتفقان على أنه يتناول الألفاظ والمعاني، وأن العموم باق على عمومه، وأن التخصيص هو بيان لجهة العموم أي انه إدخال وليس إخراج، وبين هذا المنهج ومنهج الأصوليين فرق وأي فرق؟ ذلك أن التخصيص بمعنى الإخراج يعنى أن العموم اشتمل على ما ليس منه، والمطلوب هو إخراج ما ليس منه. مما يعنى في نفس الوقت أنه لم يكن حقيقيا في دلالته، وهو موقف ينطلق من عدم اليقين في الأدلة باعتبار أن المعني الذي فيها غير مراد وإنما المعنى المراد هو ما يستكشفه العلماء بقوانينهم، وهذا هو السر في قولهم بان العمومات ظنية. اما عند الطوفي والشاطبي فإن العموم باق على عمومه وصادق في دلالته، والمطلوب هو التفريع عليه وذلك ببيان أن هذا يدخل فيه، وهذا لا يدخل، فالمطلوب هو التفريع على العموم وليس بمواجهته؟
المبحث الثاني
المصلحة عند الطوفي والشاطبي
المطلب الأول: حديث لا ضرر ولا ضرار
عن أبي سعيد بن مالك بن سنان الخدري tأن رسول الله rقال: “لا ضرر ولا ضرار” حديث حسن رواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهم مسندا، ورواه مالك في الموطأ عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي rمرسلا فأسقط أبا سعيد وله طرق يقوى بعضها ببعض.
والضرر إلحاق مفسدة بالغير مطلقا، والضرار إلحاق مفسدة به على جهة المقابلة أي كل منهما يقصد ضرر صاحبه(31).
وإذا كان الطوفي جعل من هذا الحديث قاعدة عامة تحكم أدلة كثيرة، فإنه ليس بدعا في هذا المنهج. إذ نلاحظ في تاريخ الدراسات الإسلامية من تبني هذا الأسلوب.
حيث نجد أن القياس كرابع الأصول الشرعية المتفق عليها، يستقى دلالته من الحديث أن النبي rقال لمعاذ: “بم تحكم؟ فقال بكتاب الله، قال فإن لم تجد؟ قال بسنة رسول الله r، قال فإن لم تجد؟ قال اجتهد رأيى”، فهذا الحديث قد تقبلته الأمة بالقبول، وجعلوه مستندا لأصل القياس.
كذلك نلاحظ أن الغزالي استند في دليل المصالح المرسلة على حديث عقوبة شارب الخمر. يقول الغزالي: «ويشهد على جنس ذلك أمر كلي وهو مثال منقول عن الصحابة، اشتهر بين أئمتهم، وتطابقوا عليه. وذلك ما روي أن الناس لما تتابعوا في شرب الخمر واستحقروا الحد المشرع فيه، جمع عمر tالصحابة واستشارهم، فضربوا فيه سهام الرأي، حتى قال علي t: من شرب سكر ومن سكر هذى ومن هذى افترى فأرى عليه حد المفتري. فأخذوا بقوله واستصوبوه، واستمروا عليه، وهذه هي المصلحة المرسلة التي يجوز اتباع مثلها»(32)، وقد انطلق الغزالي من هذا الحديث لمقاربة المصلحة استدلالا وتأصيلا وتمثيلا. وقد اعتمد الشافعي من قبل على قوله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)(33) لإثبات الإجماع.
لقد وضع الطوفي هذا الحديث في موضع خاص من الأهمية، وهو جدير بذلك ليس لأنه حديث شريف، بل أيضا لأنه يمثل قاعدة تستند إليها الأحكام الشرعية وتوزن بميزانها. يقول الطوفي: «وهذا يقتضي تقديم مقتضى هذا الحديث على جميع أدلة الشرع وتخصيصها به في نفي الضرر، وتحصيل المصلحة، لأنا لو فرضنا أن بعض أدلة الشرع تضمن ضررا فإن نفيناه بهذا الحديث كان عملا بالدليلين، وإن لم ننفيه به كان تعطيلا لأحدهما وهو هذا الحديث، ولا شك أن الجمع بين النصوص في العمل بها أولى من تعطيل بعضهما»(34)، وتكمن أهمية هذا الحديث عند الطوفي بأنه جعله دليلا على القول بالمصالح وجعل المصالح أيضا تعدل الأحكام الشرعية وتقدم على النص والإجماع في حالة اختلافهما مع المصالح. والنتيجة المباشرة هي أن هذا الحديث يقدم على النص والإجماع لأنه مقدم على المقدم، كما أن الأقوى من الأقوى أقوى حسب عبارته. يقول الطوفي: «وهذه الأدلة التسعة عشر أقواها النص والإجماع ثم هما إما أن يوافقا رعاية المصلحة أو يخالفاها، فإن وافقاها فبها ونعمت، ولا نـزاع، إذ قد اتفقت الأدلة الثلاثة على الحكم وهي النص والإجماع ورعاية المصلحة المستفادة من قوله r: لا ضرر ولا ضرار»(35).
وبدوره، تناول الشاطبي حديث الضرر في معرض حديثه عن الأدلة من حيث القطع والظن. فقسمها إلى قطعي وظني. والظني قسمه إلى ثلاثة أقسام، وهي: ظني يرجع إلى قطعي، وظني لا يوافق الأصول الشرعية ولا يعارضها وظني يعارضها. والحديث من القسم الأول من أقسام الظني أي الظني الذي يرجع إلى القطعي. وهذا موقف الطوفي من الحديث، إذ قال بأنه يقوي في روايته بروايات يقوي بعضها بعضا. يقول الشاطبي عن مثل هذا القسم: «ومنه أيضا قوله r: لا ضرر ولا ضرار، فإنه داخل تحت أصل قطعي في هذا المعنى فإن الضرر والضرار مبثوث منعه في الشريعة كلها في وقائع جزئيات وقواعد كليات. كقوله تعالى: (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا)(36)، (وَلا تُضَارُّوهُنَّ)(37)، ثم بعد ذلك يقول: «فصل واعلم أن المقصود بالرجوع إلى الأصل القطعي ليس بإقامة الدليل القطعي على صحة العمل به كالدليل على أن العمل بخبر الواحد أو بالقياس واجب مثلا، بل المراد ما هو أخص من ذلك، كما تقدم في حديث لا ضرر ولا ضرار والمسائل المذكورة معه. وهو معنى مخالف للمعنى الذى قصده الأصوليون» ومعنى ذلك في نظري أن رجوع الأصوليين إلى الأصل يوجهه البحث فيما إذا كان الأصل معتبرا أم لا؟ أما الشاطبي فيري أن الرجوع إلى الأصل للتفريع عليه لا لمعارضته بأصل آخر.
وهذا مثل ما قال الطوفي في بحثه عن المصلحة أنه ليس بمعنى المصلحة المرسلة عند مالك بل هو بمعنى أكثر خصوصية ينحصر في «التعويل على النصوص»(38) حسب عبارته أي أننا في الحالتين نعود إلى النصوص ونجدد الثقة بها.
المطلب الثاني: العلاقة الجدلية بين النص والمصلحة عند الطوفي وبين الكلي والجزئي عند الشاطبي
قبل الحديث عن موقف الطوفي من المصلحة أريد أولا أن أؤطر هذا الموقف من خلال الحديث عن توجه مصلحي عام غلب على اتجاه المذهب الحنبلي في هذا العصر مع معاصريه، وهما ابن تيمية وابن القيم الجوزية. فيمكن القول بأن المصلحة ظهرت مالكية ثم انتهت حنبلية. وكأنهم – أي هذا الثالوث الحنبلي – اتخذوها بدلا من المقاصد الشرعية.
فابن تيمية في نص له يأخذ على المقاصد قصورها عن مقاصد أخرى، ربما تكون أهم منها. فقال: «وقوم من الخائضين في أصول الفقه وتعليل الأحكام الشرعية بالأوصاف المناسبة، إذا تكلموا في المناسبة وأن ترتيب الشارع للأحكام الشرعية بالأوصاف المناسبة، يتضمن تحصيل مصالح العباد ودفع مضارهم. ورأوا أن المصلحة نوعان أخروية ودنيوية. جعلوا الأخروية ما في سياسة النفس وتهذيب الأخلاق من الحكم. وجعلوا الدنيوية ما تضمن حفظ الدماء والأموال والفروج والعقول والدين الظاهر، وأعرضوا عن العبادات الباطنة والظاهرة من أنواع المعارف بالله وملائكته ورسله وأحوال القلوب..»(39).
وهكذا لا يذكر ابن تيمية – وهو يتحدث عن المصالح- المقاصد الخمسة، بل يأخذ على أصحابها أنهم أعرضوا عن مصالح مهمة أيضا. وفي مقابل ذلك فهو ينوه بالمصلحة فيقول: «وقد أمر الله العباد بأن يبذلوا غاية وسعهم في التزام الأصلح واجتناب الأفسد فالأفسد.. وعلى أن الواجب تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فإذا تعارضت كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناهما، هو المشروع»(40).
هذا التنويه بالمصلحة نجده عند ابن القيم في مواقع كثيرة، منها على سبيل المثال قوله: «إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل. فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله أتم دلالة وأصدقها»، ويقول أيضا: «فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود العالم وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة».
هذا من جهة ومن جهة ثانية، فرغم أن الطوفي عاش في القرن السابع، أي بعد أن شاعت وذاعت نظرية المقاصد الشرعية مع الجوينى والغزالي، وقسمت إلى ذلك التقسيم الثلاثي من الضروريات والحاجيات والتحسينيات، ورغم أن من المؤكد أن الطوفي – صاحب الاطلاع الواسع- قد اطلع عليها، إلا أنه في بحثه عن المصلحة لم يذكر أبدا تلك المقاصد الشرعية، التي قيل عنها بأنها تحكم الشريعة وتمثل كلياتها، ولا جاء بها لتقوية موقفه من المصلحة، ولم يذكر كلمة القصد إلا في كلمات عابرة عندما يتحدث عن دور المصلحة في تحقيق المقصود الشرعي، ذلك المقصود الذي قسمه إلى قسميْ العبادات والمعاملات. وما يفسر ذلك هو أن الطوفي كان يتحرك في إطار الأدلة الشرعية لا خارجها. ومفهوم المصلحة عنده هي أنها جزأ من الأدلة، لا يستقل عنها. في حين أن المقاصد الشرعية يؤتى بها في الحديث عن الاستدلال المرسل وعندما يكون الدليل غير منصوص عليه، لكن يمكن إلحاقه بتلك المقاصد.
لقد لاحظ الأستاذ الريسوني بأن كلام ابن تيمية السابق وتحفظه على المقاصد وذكره لمقاصد أخرى «يثير تساؤلات عدة ويستدعي تعليقا مطولا، ولكني في هذا الفصل المدخل أعرض أكثر مما أعلق و أناقش»(41).
ورأيي في هذه المسألة، هو أن الأمر لا يتعلق باعتراض عارض، بل أميل إلى القول بأن زعماء المذهب الحنبلي أسسوا نظرية في المصلحة تغاير نظرية المقاصد، أو على الأقل تختلف معها. وربما يكون بسبب من هذه النظرة الجذرية للمصالح تعرض ابن تيمية وشريكه في المذهب الطوفي إلى ما تعرضا له، عندما كانا يعرضان مذهبهما في مصر وغيرها من البلدان. إننا هنا إزاء نظرية أصيلة وطريفة في المصالح لا تُختزل في المصلحة بالمفهوم القديم، لكن هذه النظرية الجريئة لم يمكن الإصغاء إليها والاعتماد عليها لأن النفوس عن الجديد نافرة، وللمألوف مصاقبة. وداخل هذه الرؤية للمذهب الحنبلي عن المصالح يجب تأطير نظرية المصلحة عند الطوفى.
لقد تناول الطوفي الحديث الثاني والثلاثون من الأربعين النووية، مستهدفا من خلاله بسط نظرية متكاملة ومكتملة عن المصالح الشرعية، حيث إنه قال بأن مقصود الشارع هو المصلحة وحددها لفظا وعرفا واصطلاحا تعريفا لا يخلو من ذرائعية وعقلانية تجريبية. فقال: «أما لفظها فهي مفعلة من الصلاح وهو كون الشيء على ماهيته كاملة بحسب ما يراد ذلك الشيء له كالقلم يكون على هيئته الصالحة للكتابة به والسيف على هيئته الصالحة للضرب.
وأما حدها بحسب العرف فهي السبب المؤدي إلى الصلاح والنفع، كالتجارة المؤدية إلى الربح، وبحسب الشرع السبب المؤدي إلى مقصود الشارع عبادة أو عادة. ثم هي تنقسم إلى ما يقصده الشارع لحقه كالعبادات وإلى ما يقصده لنفع المخلوقين وانتظام أحوالهم كالعادات»(42)، وهكذا يكون تعريف المصلحة لفظا هو تعريفها اصطلاحا وهو أن يؤدي الشيء المقصود منه. فصلاحية السيف في قدرته على الضرب، وصلاحية العبادات كالصلاة مثلا هو أن تؤدي المقصود منها وهو العبادة كما أن صلاح العادات كالزكاة هو أن تؤدي المقصود منها وهو مصلحة البلاد والعباد.
ويستعمل الطوفي الاستقراء في الاستدلال على المصالح فقد جاءت أدلتها مبثوثة في أدلة تفوق الحصر من القرآن والسنة والإجماع والعقل. فمن الكتاب قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ)(43)، وقوله: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا)(44)، ثم يقول وبالجملة فما من آية من كتاب الله عز وجل إلا وهي تشتمل على مصلحة أو مصالح.
وأما السنة فنحو قوله r: “لا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا يبع حاضر لباد”، وقوله r: “ولا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها”… وهذا ونحوه في السنة كثير»(45).
هذا هو ما قاله الشاطبي في تنوع أدلة المقاصد وأنها تفوق الحصر. عندما قال: «وكانت هذه الوجوه مبثوثة في أبواب الشريعة وأدلتها غير مختصة بمحل دون محل ولا بباب دون باب ولا بقاعدة دون قاعدة كان النظر الشرعي فيها عاما»، وقال: «ولم يثبت لنا ذلك بدليل معين ولا شهد لنا أصل معين يمتاز برجوعها إليه بل علمت ملاءمتها للشريعة بمجموع أدلة لا تنحصر»(46). وقال: «مقاصد الشارع في بث المصالح في التشريع أن تكون مطلقة عامة لا تختص بباب دون باب ولا بمحل دون محل ولا بمحل وفاق دون محل خلاف، وبالجملة الأمر في المصالح مطرد مطلقا في كليات الشريعة وجزئياتها».
لقد قال الطوفي بأن المصلحة تحكم وتتحكم في الأدلة التي حصرها في تسعة عشر دليلا بما فيها القرآن والسنة والإجماع. وقد تعرض الطوفي من أجل ذلك للمضايقة والهجوم عليه ونعته بمذهب الروافض، وفي الحقيقة أن هذا الموقف يقول به علماء المسلمين عن بكرة أبيهم، وبالتالي فلا يجب أن يقف عثرة للإعلاء من شأن هذا العالم الذي يتسامى مع الغزالي والجويني، ويجب أن يذكر قبل الشاطبي لما ثبت في هذا البحث بأنه كان ينقل عنه نقلا مباشرا ومنتشرا، وكان مدينا له في نفس الوقت بكثير من آرائه المقاصدية التي اشتهر بها. لقد قدم الطوفي المصلحة على الأدلة التي بلغ في إحصائها تسعة عشر دليلا. فقدمها عليها جميعا ثم كانت قاصمة الظهر العبارة التي اعتبر فيها النصوص متعارضة ومتآكلة. وهذه عباراته حول تقديم المصالح قال: «وهذه الأدلة التسعة عشر أقواها النص والإجماع ثم هما إما أن يوافقا رعاية المصلحة أو يخالفاها. فإن وافقاها فبها ونعمت، ولا نـزاع إذ قد اتفقت الأدلة الثلاثة علي الحكم وهي النص والإجماع ورعاية المصلحة المستفادة من قوله r: لا ضرر ولا ضرار. وإن خالفاها وجب تقديم رعاية المصلحة بطريق التخصيص والبيان لهما لا بطريق الافتيات عليهما والتعطيل لهما كما تقدم السنة على القرآن بطريق البيان»(47).
ويقول عن النصوص: «النصوص مختلفة متعارضة فهي سبب الخلاف في الأحكام المذموم شرعا ورعاية المصالح أمر حقيقي في نفسه ولا يختلف فيه فهو سبب الاتفاق المطلوب فكان اتباعه أولى».
وليس في الأمر غرابة إذا فهم هذا التقديم على وجه معين كما ألح الطوفي على ذلك، وهو الوجه الذي تكون المصلحة بيان للنص وهذا الموقف نجده أيضا عند الأصوليين في مفهومي البيان والتخصيص عندهم.
لم يقل الطوفي شيئا جديدا فيما يتعلق بمنهجية الأصوليين فقد استلهم واستعاد المنهج الأصولي القائل بالتخصيص والبيان، إلا أن إضافة الطوفي هو أنه اعتبر مادة التخصيص والبيان هو المصالح في حين نـزل بهما الأصوليون إلى الأدلة الظنية حيث قالوا بأنها تخصص النصوص القطعية. ومن أجل استجلاء الموضوع بجب إرجاع عقارب الساعة قليلا إلى الوراء لنرى ما هي الميكانيزمات التي يقوم عليها المنهج الأصولي.
نجد هذا المنهج عند الشافعي عندما اعتبر أن الخاص يبين العام، ويبنى عليه وأنه بهذه الطريقة يحافظ على العام والخاص. فقد قسم الشافعي الأدلة إلى عام يراد به العام وعام يراد به الخاص، وقدم الأمثلة التي تمثل السنة فيها الخاص ويمثل القرآن العام. ولا يعني الأمر أن هناك تغليب للسنة علي القرآن بل هو بيان وبهذا البيان علمنا الكثير من الأحكام الشرعية التي جاءت في القرآن عناوين ثم بينتها السنة البيان الكافي. يقول الشافعي: «ولولا الاستدلال بالسنة، وحكمنا بالظواهر، قطعنا من لزمه اسم سرقة، وضربنا مائة كل من زنا حرا ثيبا، وأعطينا سهم ذي القربى كل من بينه وبين النبي قرابة»(48)، فقول الله عز وجل: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا)(49) يعني أن نقطع كل سارق سرق تفاحة. لكن جاء في الحديث أن لا قطع في ثمر ولا كثر، وليس بين الدليلين تعارض لأن الأخذ بالعام والخاص مجتمعين هو صمام المحافظة على الدليلين، ومن يقول بوجود تعارض بين الحديث والآية هو مخطئ. يقول الشافعي في المحاورات ردا على محاوره الذي قال: «حيث وجدت القرآن ظاهرا عاما، ووجدت سنة تحتمل أن تبين عن القرآن، وتحتمل أن تكون بخلاف ظاهره، علمت أن السنة منسوخة بالقرآن؟ فقلت له لا يقول هذا عالم»(50)، تقوم منهجية الأصوليين على أن الدليلين إذا تعارضا فإن إعمالهما معا هو الخيار الأول، لأنه محافظة عليهما وذلك أولى من أخذ واحد واستبعاد الآخر. وبهذه الطريقة يحافظ على الأدلة جميعا بما في ذلك الجمع بين الأدلة القطعية والأدلة الظنية. ومثال ذلك خبر الواحد إذا عارض عموم القرآن. فقد اختلفوا فيه ولكن لم يشنع على من يقول بأنه يخصص عموم القرآن. ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ)(51) خصص بما رواه أبو هريرة عن النبي rأنه قال: “لا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها”، وقوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ)(52)، خصص بقوله r: “لا يرث القاتل، ولا يرث الكافر من المسلم، ولا المسلم من الكافر”، وقوله rفيما رواه أبو بكر الصديق عنه: “نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة”، وخصص قوله تعالى: (فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ)(53) بما روي عن النبي rأنه جعل للجدة السدس(54)، إذن تقوم الآلية البيانية للمعرفة الشرعية على التخصيص والبيان. ومعناهما عند الأصوليين أن الذهاب من دليل إلى دليل إذا كان على جهة التخصيص والبيان هو جمع للدليلين، ولا يسمى بأنه تعارض كما لا يسمى بأنه إقصاء. يقول الشاطبي موضحا معني البيان: «فإذا بينت السنة مثلا معنى الآية: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا)(55) بأن القطع من الكوع، وأن المسروق نصاب فأكثر من حرز مثله، فذلك هو المعنى المراد من الآية. لا أن نقول إن السنة أثبتت هذه الأحكام دون الكتاب، كما إذا بيَّن لنا مالك أو غيره من المفسرين معنى آية أو حديث فعملنا بمقتضاه، فلا يصح لنا أن نقول إنا عملنا بقول المفسر الفلاني دون أن نقول عملنا بقول الله وقول رسول الله r»(56).
وقد وضعوا ضوابط لكل من التخصيص والبيان وذلك في حديثهم عن المخصصات المتصلة والمنفصلة وتقييد المطلق وتأويل المجمل إلى آخر القائمة.
هذا بعينه هو ما قصده الطوفي في حديثه عن العلاقة بين النص والإجماع من جهة، وبين المصالح من جهة أخرى. فإن العلاقة بينهما بيانية تخصيصية. ولا فرق بين من يخصص النصوص بالإجماع وخبر الواحد ومن يخصصها بالمصالح، بل لعل الحق يكون أكثر مع هذا الأخير. يقول الطوفي: «وهذا يقتضي تقديم مقتضى هذا الحديث على جميع أدلة الشرع وتخصيصها به في نفي الضرر وتحصيل المصلحة. لأنا لو فرضنا أن بعض أدلة الشرع ضررا فإن نفيناه بهذا الحديث كان عملا بالدليلين، وإن لن ننفه به كان تعطيلا لأحدهما. وهو هذا الحديث ولا شك ان الجمع بين النصوص في العمل أولى من تعطيل بعضهما»(57)، ويقول أيضا: «وإن خالفاها وجب تقديم رعاية المصلحة عليهما بطريق التخصيص والبيان لهما لا بطريق الافتيات عليهما والتعطيل لهما كما تقدم السنة على القرآن بطريق البيان»(58)، ويقول أيضا: «وإن كان الضرر بعض مدلولهما فإن اقتضاه دليل خاص اتبع الدليل فيه وإن لم يقتضه دليل خاص وجب تخصيصهما بقوله عليه الصلاة والسلام لا ضرر ولا ضرار جمعا بين الأدلة»(59).
إن من ينكر على الطوفي تقديم المصلحة على النص في إطار البيان والتخصيص عليه أن ينكر على الأصوليين كل منهجهم والنتائج التي توصلوا إليها لأنها تقوم على نفس الآلية كما مر آنفا. فكما لا تناقض في تخصيص الآية بالحديث وبالإجماع لا تعارض في تخصيصها بالمصالح. ولهذا يقول الطوفي: «فإن قيل حاصل ما ذهبتم إليه تعطيل أدلة الشرع بقياس مجرد وهو كقياس إبليس فاسد الوضع والاعتبار، قلنا هذا وهم واشتباه من نائم يعيد الانتباه وإنما هو تقديم دليل شرعي على أقوى منه وهو متعين الإجماع على وجوب العمل بالراجح كما قدمتم أنتم الإجماع على النص والنص على الظاهر»(60).
لقد أخذ على الطوفي أنه لم يقدم أمثلة لهذه المصلحة التي دافع عنها، وأنه وقع في مثل ما وقع فيه هيغل بتعبير نيتشه وهو قوله بأن هيغل بني قصرا رائعا، وبقي هو يعيش في كوخ. فهل هناك تبرير لعدم التمثيل للمصلحة حتى تكون نظرية قابلة للملاحظة التجريبية وليس مجرد خيال؟
لقد تناول الدكتور مصطفي أبو زيد التعارف المختلف للمصلحة، فمنها تعريف الغزالي للمصلحة بقوله: «والمصلحة ترجع إلى جلب منفعة أو دفع مضرة والعبارة الحاوية أن المناسبة ترجع إلى رعاية أحد مقصود»(61).
وعرفها عز الدين بن عبد السلام بقوله: «ومن أراد أن يعرف المناسبات والمصالح والمفاسد راجحها ومرجوحها فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشرع لم يرد به، ثم يبن عليه الأحكام. فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك إلا ما تعبد الله به عباده، ولم يقفهم على مصلحته أو مفسدته»(62)، ويقول أيضا: «المصالح أربعة أنواع اللذات وأسبابها والأفراح وأسبابها، والمفاسد أربعة أنواع الآلام وأسبابها والغموم وأسبابها»(63).
من خلال الأمثلة السابقة هل عرف الغزالي وابن عبد السلام المصلحة أم أنهما اكتفيا بالعموميات والتجريديات؟ واضح أن عز الدين ابن عبد السلام يقسم المصالح إلى مصالح معنوية روحية وهي الأفراح ومصالح مادية محسوسة وهي اللذات من الأكل والشراب والمسكن والملبس. وكذلك المفاسد منقسمة إلى مفاسد مادية هي الآلام وأخرى روحية معنوية هي الغموم والأحزان. ولكن في جميع الحالات لا نحصل على تعريف محدد يحصر المصلحة أي التعريف الجامع المانع. وهذا أيضا وقع مع الغزالي وغيره. ولهذا يقول مصطفي أبو زيد: «فقد تكون محاولة التعريف وسيلة إلى الغموض إذ كان المعرف شديد الوضوح لا حاجة به إلى تعريف ولا خوف من تركه كما هو… وأي معنى في وضوح المصلحة؟
لن أحاول إذن أن أحد المصلحة بالجنس والفصل، لأقول هذه هي المصلحة كما يعرفها علماء المنطق»(64)، إلا أن قول مصطفى أبو زيد بأن المصلحة واضحة فهذا دليل عليه لا له، إذ ما هو واضح لا تعزو العبارة عن التعريف به. ولكن مع ذلك يظهر أنه على حق، عندما قال بأن المصلحة تند عن التعريف. ذلك أن المبرر في ذلك أن عدم التعريف هو جزأ من المصلحة، حيث قلنا بأنها تفسير النصوص بحسب الواقع الاجتماعي، وهذا الواقع متغير، وبالتالي المصلحة متغيرة. وإيجاد تعريف واحد للمصلحة هو ما قامت المصلحة على ضده، فالمقصود من المصلحة هو قراءة النصوص بحسب الواقع والتغير، وأن توزن النصوص بميزان المصلحة كما يمليها المكان والزمان. وبالتالي فإن تقديم تعريف ثابت للمصلحة يعارض المصلحة ذاتها.
إن هناك ثنائية تتشكل في النصوص وفي المصلحة وصفات أحدهما تقابل صفات الآخر، فالنصوص محدودة والمصالح غير محدودة، والنصوص متعينة جدا والمصالح غير متعينة جدا، والنصوص مطلقة والمصالح نسبية. وهذا التقابل شرط لا غنى عنه لتواكب الشريعة الحياة الإنسانية وتطوراتها. ولهذا لا يعد نقصا أن لا نجد عند الطوفي تمثيلا للمصلحة لأننا نتحدث عن شيء يتجدد ويتغير بحسب الأمكنة والأزمنة.
نرجع الآن إلى الموضوع وهو المقارنة بين الطوفي والشاطبي في نظرية المصالح. وأقول أنه إذا كان الطوفي تحدث عن العلاقة البيانية بين النص والمصلحة، فإن الشاطبي قد غير الألفاظ بما أنها تنبو على السمع لا أنها خاطئة في نفسها، مستبقيا على نفس منهجية الطوفي فصار الأمر يتعلق بالعلاقة البيانية بين الكليات، ممثلة في المصالح والجزئيات متمثلة في النصوص. فقال بأن المقاصد الشرعية باعتبارها كليات تتحكم في النصوص وتقدم عليها وذلك عند إجراء أي استدلال حسب عبارته، يقول الشاطبي: «لما انبنت الشريعة على قصد المحافظة على المراتب الثلاث من الضروريات والحاجيات والتحسينات وكانت هذه الوجوه مبثوثة في أبواب الشريعة وأدلتها غير مختصة بمحل دون محل ولا بباب دون باب ولا بقاعدة دون قاعدة، كان النظر الشرعي فيها أيضا عاما، لا يختص بجزئية دون أخرى لأنها كليات تقضى على كل جزئي تحتها وسواء علينا أكان جزئيا إضافيا أم حقيقيا إذ ليس فوق هذه الكليات كلي تنتهى إليه بل هي أصول الشريعة»(65)، ويقول أيضا: «وإذا كان كذلك وكانت الجزئيات وهي أصول الشريعة فما تحتها مستمد من تلك الأصول الكلية، شأن الجزئيات مع كلياتها فى كل نوع من أنواع الموجودات، فمن الواجب اعتبار تلك الجزئيات بهذه الكليات عند إجراء الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس. إذ محال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كلياتها. فمن أخذ بنص مثلا فى جزئي معرضا عن كليه فقد أخطأ. وكما أن من أخذ بالجزئي معرضا عن كليه فهو مخطئ كذلك من أخذ بالكلي معرضا عن جزئيه»(66).
تتمثل إشكالية البحث الشرعي في كيفية التوفيق بين المصالح والنصوص عند الطوفي، وبين الكليات والجزئيات عند الشاطبي. وكما نظر الطوفي إلى أن تحكيم المصلحة هو نوع من تخصيص العام، ذهب أيضا الشاطبي إلى ذلك في أن الكلي والجزئي يجب التوفيق بينهما بأسلوب التخصيص والبيان. يقول الشاطبي: «فإذا ثبت بالاستقراء قاعدة كلية، ثم أتى النص على جزئي يخالف القاعدة بوجه من وجوه المخالفة، فلا بد من الجمع في النظر بينهما؛ لأن الشارع لم ينص على ذلك الجزئي إلا مع الحفاظ على تلك القواعد، إذ كلية هذا معلومة ضرورة بعد الإحاطة بمقاصد الشريعة. فلا يمكن والحالة هذه أن تخرم القواعد بإلغاء ما اعتبره الشارع. وإذا ثبت هذا لم يمكن ان يعتبر الكلي ويلغى الجزئي»(67).
يرى الشاطبي أن مهمة الفقيه هي التوفيق بين هذين القطبين، وأن ذلك يمثل جملة الفقه وهو فيصل التفرقة بين الخطأ والصواب في الاجتهاد، فقال: «ويعتبر الكلي في تخصيصه للعام الجزئي أو تقييده لمطلقه وما أشبه ذلك، بحيث لا يكون إخلالا بالجزئي على الإطلاق وهذا معنى اعتبار أحدهما مع الآخر. وقد مر منه أمثلة في أثناء المسائل فلا يصح إهمال النظر في هذه الأطراف، فإن فيها جملة الفقه، ومن عدم الالتفات إليها أخطأ من أخطأ وحقيقته نظر مطلق في مقاصد الشارع وأن تتبع نصوصه مطلقة ومقيدة أمر واجب»(68)، ويرى الشاطبي أن هذا هو الموقف الذي تتقاطع فيه الاجتهادات الشرعية فقال: «فالحاصل أنه لا بد من اعتبار خصوص الجزئيات مع اعتبار كلياتها وبالعكس فهو منتهى نظر المجتهدين بإطلاق وإليه ينتهي طلقهم في مرامي الاجتهاد»(69).
من الواضح جدا أننا هنا مع الشاطبي كما لو أننا إزاء الطوفي وهو يتكلم بنبرة منطقية وهي الكلي والجزئي بدل النصوص والمصلحة. والقاسم المشترك بينهما هو اعتبار المصالح والمقاصد عند تطبيق النصوص، علما بأن تخصيص الجزئي بالكلي والنص بالمصلحة ليس أمرا بدعا، فقد سبق للعلماء أن أجازوا تخصيص العموم وكذلك الأمر هنا، وهو النظر إلى الأدلة في عمومها وخصوصها ومطلقها ومقيدها ومجملها ومبينها. فكل ذلك يتحدد بطريقة جدلية تبعا للمصالح والمقاصد.
المطلب الثالث: قولهما بأن مجال المصلحة هو المعاملات
ومما اشتهر به الطوفي وكذلك الشاطبي قولهما بتقديم المصالح في العادات، رغم أن عترة من الأصوليين أشارت إلى أن التعليل ينصب في القسط الأكبر منه على الأحكام المعقولة المعني، وفي هذا الصدد كان تقسيم الجويني للمقاصد الشرعية بحسب وضوح التعليل فيها أو عدمه إلى خمسة أقسام: الأول منها ما كانت العلة فيه ضرورية لا يحسن تخلفها عنه، أما القسم الأخير فهو ما يتعلق بالعبادات والتعليل فيها نادر فقال الجويني: «والضرب الخامس من الأصول ما لا يلوح فيه للمستنبط معنى أصلا. ولا مقتضى من ضرورة أو حاجة أو استحثاث على مكرمة وهذا يندر تصويره جدا. فإنه إن امتنع استنباط معنى جزئي فلا يمتنع تخيله كليا. ومثال هذا القسم العبادات البدنية المحضة، فإنه لا يتعلق بها أغراض دفعية ولا نفعية»، والطوفي من الذين توسعوا في هذا الموقف واستعاض عن القياس والتعليل بمفهوم المصلحة نظرا لوضوح المصلحة بخلاف غموض القياس واستصعابه، يقول: «فإن قيل لم لا يجوز أن يكون من جملة ما راعاه من مصالحهم نصب النص والإجماع دليلا لهم على معرفة الأحكام؟
قلنا هو كذلك ونحن نقول به في العبادات وحيث وافقا المصلحة في غير العبادات وإنما نحن نرجح رعاية المصالح في العبادات والمعاملات ونحوها، لأن رعايتها في ذلك هي قطب مقصود الشارع منها بخلاف العبادات فإنها حق الشارع ولا يعرف كيفية إيقاعها إلا من جهته نصا أو إجماعا»(70).
هذا الموقف نلفاه أيضا عند الشاطبي فيقول: «الأصل في العبادات بالنسبة إلى المكلف التعبد دون الالتفات إلى المعاني، وأصل العادات الالتفات إلى المعاني. أما الأول فيدل عليه أمور: منها الاستقراء فإنا وجدنا الطهارة تتعدى محل موجبها وكذلك نصت بأفعال مخصوصة على هيئات مخصوصة إن خرجت عنها لم تكن عبادات. ووجدنا الموجبات فيها تتحد مع اختلاف الموجبات وأن الذكر المخصوص فى هيئة ما مطلوب وفى هيئة أخرى غير مطلوب. وأن طهارة الحدث مخصوصة بالماء الطهور وإن أمكنت النظافة بغيره. وأن التيمم وليست فيه نظافة حسية يقوم مقام الطهارة بالماء المطهر وهكذا سائر العبادات كالصوم والحج وغيرهما. وإنما فهمنا من حكمة التعبد العامة الانقياد لأوامر الله تعالى وإفراده بالخضوع والتعظيم لجلاله والتوجه إليه.. ولذلك كان الواقف مع مجرد الاتباع فيه أولى بالصواب وأجرى على طريقة السلف الصالح وهو رأى مالك رحمه الله. إذ لم يلتفت في رفع الأحداث إلى مجرد النظافة حتى اشترط النية والماء المطلق وإن حصلت النظافة بغير ذلك. وامتنع من إقامة غير التكبير مقامه، والتسليم كذلك. ومنع من إخراج القيم في الزكاة واقتصر على مجرد العدد في الكفارات إلى غير ذلك من مبالغاته الشديدة في العبادات التي تقتضي الاقتصارعلى محض المنصوص عليه أو ما ماثله، فيجب أن يؤخذ في هذا الضرب التعبد دون الالتفات إلى المعاني أصلا يبنى عليه وركنا يلجأ إليه.
فصل وأما أن الأصل في العادات الالتفات إلى المعاني فلأمور: أولها الاستقراء فإنا وجدنا الشارع قاصدا لمصالح العباد، والأحكام العادية تدور معه حيثما دار. فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة فإذا كان فيه مصلحة جاز. كالدرهم بالدرهم إلى أجل يمتنع في المبايعة ويجوز في القرض. وبيع الرطب باليابس يمتنع حيث يكون مجرد غرر وربا من غير مصلحة ويجوز إذا كان فيه مصلحة راجحة ولم نجد هذا في باب العبادات مفهوما كما فهمناه في العادات..
والثاني أن الشارع توسع في بيان العلل والحكم في تشريع باب العادات -كما تقدم تمثيله- وأكثر ما علل فيها بالمناسب الذي إذا عرض على العقول تلقته بالقبول، ففهمنا من ذلك أن الشارع قصد فيها اتباع المعاني لا الوقوف مع النصوص، بخلاف باب العبادات فإن المعلوم فيه خلاف ذلك، وقد توسع في هذا القسم مالك رحمه الله حتى قال فيه بقاعدة المصالح المرسلة وقال فيه بالاستحسان ونقل عنه أنه قال إنه تسعة أعشار العلم حسبما يأتي إن شاء الله».
المبحث الثالث
قولهما برجوع الشريعة
إلى قول واحد
المطلب الأول: موقف الطوفي
لا نفهم ولا نستوعب موقف الطوفي من الرفع من شأن المصالح وحاكميتها، وكذلك موقف الشاطبي من أن المقاصد تحكم أصول الشريعة فما تحتها، لا يمكن معرفة ذلك إلا بالبحث عن الهاجس والدافع الحقيقي الذي يبرر هذا النوع من المواقف، ألا وهو عندهما بناء الشريعة على اليقين الذي تصوراه في المصالح، بدل بنائها على الظنون والاحتمالات، التي انجر عنها التناول الجزئي للنصوص. في هذا الصدد يمكن أن نلاحظ أن الهم الذي كان يوقظهما من المنام هو رفع واقع الاختلاف في الشريعة، مما أدى إلى تسرب الظنون إلى أصولها وفروعها وكلياتها وجزئياتها. ومن هنا يمكن القول بأن دفاع الطوفي عن المصالح ليس ضدا على النصوص إنما من أجل الدفاع عن هذه النصوص، وإعادة الثقة واليقين فيها بدل الافتيات عليها حسب عبارته. ومن يقول بأن الطوفي غلب المصالح على النصوص والإجماع يجب أن يتريث ويعرف ما هو معنى المصالح عنده؟ وما هو معنى النصوص عنده؟ وما معنى أن المصالح قطعية والنصوص مختلفة؟ وذلك داخل البنية المعرفية التي يتحرك فيها. لذلك يمكن القول بأن الشغل الشاغل للطوفي هو الدفاع عن النصوص والرجوع إلى الأدلة باعتبارها الصمام من الخلاف والاختلاف، اللذين نهي الشرع عنهما رغم أنهما صارا خاصية الأمة ألإسلامية فتفرقت شيعا وأحزابا كل حزب بما لديهم فرحون.
إن الذي يتتبع آراء كل من الطوفي والشاطبي يلاحظ أن همهما كان هو إعادة اليقين والقطع إلى الأدلة الشرعية، ومقاومة الاختلاف في الدين مصيرا منهما إلى أن المصالح هي صمام الأمان من هذا الاختلاف، والعودة بالدين إلى أصوله القطعية الاجتماعية. وانطلاقا من هذا الهم خصص الطوفي الجزء الأخير من بحثه عن المصالح للهجوم على المذاهب بما فيها مذهبه الحنبلي الذي ينتمي إليه. فما يدور بين أئمة المذاهب من الاختلاف والتناوش والتشاجر هو ما جعل أحكام الدين لعبة، فما يكون حراما عند هذا الإمام يكون حلالا عند ذلك الإمام. حتى قيل في هذا المعنى:
فاشرب ولط وازن وقامرواحتجج
في كل مسألة يقول إمام
لقد حمل الطوفي بعنف على الاختلاف الذي تكرسه المذاهب في الأحكام الشرعية فقال: «ومن تأمل ما حدث بين أتباع أئمة المذاهب من التشاجر والتنافر علم صحة ما قلنا. حتى أن المالكية استقلوا بالمغرب والحنفية بالمشرق فلا يقار أحد المذهبين أحدا من غيره في بلاده، إلا على وجه ما حتى بلغنا أن أهل جيلان من الحنابلة إذا دخل عليهم حنفي قتلوه وجعلوا ماله فيئا».
كما تناول الأحاديث التي وضعها أصحاب كل مذهب للتنويه بإمامهم بعين نقدية قائلا: بأن ما يقال في هذا الصدد إن صح فهو لا يدل وإن دل فهو لا يصح. لقد كان الطوفي في نقده اللاذع للاختلاف في المذاهب الفقهية يسلك طريق ابن حزم ولسانه اللاذع في القدح بمعارضيه فكان هو ابن حزم المشرق. ويرى الطوفي ان الخلاف ليس من الدين وأن الشريعة ترجع إلى قول واحد ليس بمختلف فقال: «وأيضا فإن بعض أهل الذمة ربما أراد الإسلام فيمنعه كثرة الخلاف وتعدد الآراء، ظنا أنهم يخبطون في عمياء لأن الخلاف منفور عنه بالطبع، ولهذا قال الله عز وجل: (اللَّهُ نـزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا)(71) أي يشبه بعضه بعضا ويصدق بعضه بعضا، لا يختلف فيه إلا من المتشابهات وهي ترجع إلى المحكمات بطريقها. ولو اعتمدت رعاية المصالح المستفادة من قوله r: “لا ضرر ولا ضرار” على ما تقرر لاتحد طريق الحكم وانتفي الخلاف»(72).
المطلب الثاني: موقف الشاطبي
هذا الموقف نلفاه عند الشاطبي الذي خصص بدوره كلاما كثيرا على خطورة الاختلاف في الدين، وما يتفرع منه من الاختلاف بين المذاهب وتتبع رخصها وما يتفرع عن المذهب الواحد من الأقاويل المختلفة، حيث يفتى المفتي بقول أحد القولين لهذا الشخص وبالقول الآخر لشخص آخر فيشدد على البعيد ويتسامح مع القريب.
في هذا السياق نجد مسألة طويلة بعنوان: «الشريعة ترجع إلى قول واحد» حيث يقول الشاطبي: «الشريعة كلها ترجع إلى قول واحد في فروعها وإن كثر الخلاف، كما أنها في أصولها كذلك ولا يصلح فيها غير ذلك. والدليل عليه أمور، أحدها: أدلة القرآن من ذلك قوله تعالى: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا)(73)، فالشريعة لا اختلاف فيها وقال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)(74) فبيَّن أن طريق الحق واحد، وذلك عام في جملة الشريعة وتفاصيلها, وقال تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنـزلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)(75)، ولا يكون حاكما بينهم إلا مع كونه قولا واحدا فصلا بين المختلفين. وقال: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) الآية إلى قوله: (وَلا تَتَفَرَّقُوا)(76)، ثم ذكر بني إسرائيل، وحذر الأمة أن يأخذوا بسنتهم فقال: (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ)(77)، وقال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نـزلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ)(78)، والآيات في ذم الاختلاف والأمر بالرجوع إلى الشريعة كثير كله قاطع في أنها لا اختلاف فيها، وإنما هي على مأخذ واحد وقول واحد. قال المزني صاحب الشافعي: ذم الله الاختلاف وأمر عنده بالرجوع إلى الكتاب والسنة.
وقد أدى إغفال هذا الأصل إلى أن صار كثير من مقلدة الفقهاء يفتى قريبه أو صديقه بما لا يفتى به غيره من الأقوال، اتباعا لغرضه وشهوته أو لغرض ذلك القريب و ذلك الصديق. ولقد وجد هذا في الأزمنة السالفة فضلا عن زماننا. كما وجد فيه تتبع رخص المذاهب اتباعا للغرض والشهوة وذلك فيما لا يتعلق به فصل قضية وفيما يتعلق به ذلك. فأما ما لا يتعلق به فصل قضية بل هو فيما بين الإنسان وبين نفسه في عبادته أو عادته ففيه من المعايب ما تقدم. وحكي عياض فى المدارك قال موسى بن معاوية: كنت عند البهلول ابن راشد إذ أتاه ابن فلان فقال له بهلول: ما أقدمك؟ قال نازلة رجل ظلمه السلطان فأخفيته، وحلفت بالطلاق ثلاثا ما أخفيته، قال له البهلول: مالك يقول إنه يحنث في زوجته، فقال السائل وأنا قد سمعته يقول وإنما أردت غير هذا، فقال ما عندي غير ما تسمع. قال فتردد إليه ثلاثا كل ذلك يقول له البهلول قوله الأول. فلما كان في الثالثة أو الرابعة قال يا ابن فلان ما أنصفتم الناس إذا أتوكم في نوازلهم قلتم قال: مالك قال: مالك فإن نـزلت بكم النوازل طلبتم لها الرخص» وإذا كان الشاطبي لم يذكر القول الواحد الذي ترجع إليه فهو لا شك المصالح الذي دل عليها حديث الضرر.
خاتمة:جدول يوضح تأثر الشاطبي بالطوفي في الجمل والعبارات
وهذا جدول يوضح توافق و/أو تقارب الطوفي والشاطبي في الألفاظ والعبارات فضلا عن التوافق في المعاني والأفكار كما سبق:
عبارة الطوفي |
عبارة الشاطبي |
المناسبة |
فأوصيك أيها الناظر فيه المجيل طرفه في أثنائه أن لا تسارع فيه إلى إنكار خلاف ما ألفه وهمك وأحاط به علمك بل أجد النظر وجدده فأنك حينئذ جدير بحصول مرادك |
فإن عارضك دون هذا الكتاب عارض الإنكار وعمي عنك وجه الاختراع فيه والابتكار وغر الظان أنه شيء ما سمع بمثله ولا ألف في العلوم الشرعية الأصلية أو الفرعية ما نسج على منواله أو شكل بشكله وحسبك من شر سماعه ومن كل بدع في الشريعة ابتداعه فلا تلتفت إلى الأشكال دون اختبار ولا ترم بمظنة الفائدة على غير اعتبار |
المقدمة(79) |
إلى غير ذلك من الفوائد التي تسنح في موضعها وتجمع القريحة إلى تقريب شاسعها كل ذلك بحسب مبلغي من العلم وما أوتيته من الفهم |
معتمدا على الاستقرآت الكلية غير مقتصر على الأفراد الجزئية ومبينا اصولها النقلية بأطراف من القضايا العقلية حسبما اعطته الاستطاعة والمنة |
|
وأن يكون كالقاعدة الكلية للدين والمرتع المري والمشرب الروي لطلبة المسلمين |
فأورد من أحاديثه الصحاح الحسان وفوائده الغريبة البرهان وبدائعه الباهرة للأذهان ما يعجز عن تفصيل بعض أسراره العقل ويقصر عن بث معشار اللسان إيرادا يميز المشهور من الشاذ ويحقق مراتب العوام والخواص والجماهير والأفذاذ ويوفي حق المقلد والمجتهد والسالك والمربي والتلميذ والأستاذ |
|
جاليا لعرائسها على الخطاب |
وخطب لك عرائس الحكمة ثم وهب لك المهر |
|
جاليا لأسرارها المودعة فيها |
ولأجل ما أودع فيه من الأسرار التكليفية |
|
والتحقيق – العموم – أنه حقيقة في الأجسام |
والمراد بالعموم العموم المعنوي |
العموم والخصوص(80) |
التخصيص هو بيان المراد باللفظ العام |
التخصيص هو بيان لجهة العموم |
|
كلما مررنا بلفظ عام وجهنا عمومه إن احتاج إلى ذلك ثم بينا أنه باق على عمومه |
واطردت العمومات الشرعية قواعد صادقة العموم |
|
كل ذلك بحسب الإمكان أن شاء الله عز وجل وهو المستعان |
وإليك النظر في التفاصيل والله المستعان |
|
واللفظ قيل استعماله ليس حقيقة ولا مجازا |
فالحاصل أن العموم إنما يعتبر بالاستعمال |
|
واعلم أن الطريقة التي قررناها مستفيدين لها من الحديث المذكور ليس هي القول بالمصالح المرسلة على ما ذهب إليه مالك بل هي أبلغ من ذلك وهي التعويل على النصوص |
وأعلم أن المقصود بالرجوع إلى الأصل القطعي ليس بإقامة الدليل القطعي على صحة العمل به كالدليل على أن العمل بخبر الواحد أو بالقياس واجب مثلا بل المراد ماهو أخص من ذلك كما تقدم فى حديث لا ضرر ولا ضرار والمسائل المذكورة معه وهو معنى مخالف للمعنى الذى قصده الأصوليون |
حديث لا ضرر ولا ضرار |
وبالجملة فما من آية من كتاب الله عز وجل إلا وهي تشتمل على مصلحة أو مصالح |
وكانت هذه الوجوه مبثوثة في أبواب الشريعة وأدلتها غير مختصة بمحل دون محل ولا بباب دون باب |
المقاصد الشرعية |
وإنما نرجح رعاية المصالح في العادات والمعاملات ونحوها لأن رعايتها في ذلك هي قطب مقصود الشارع منها بخلاف العبادات |
الأصل فى العبادات بالنسبة إلى المكلف التعبد دون الالتفات إلى المعاني وأصل العادات الالتفات إلى المعاني |
|
ولو اعتمدت رعاية المصالح المستفادة من قوله r: لا ضرر ولا ضرار على ما تقرر لاتحد طريق الحكم وانتفي الخلاف |
الشريعة ترجع إلى قول واحد |
|
فإن قيل هذه الطريقة التي سلكتها إما أن تكون خطأ فلا يلتفت إليها أو صوابا فإما أن ينحصر الصواب فيها أو لا فإن انحصر لزم أن الأمة من أول الإسلام إلى حين ظهور هذه الطريقة على خطإ إذ لم يقل بها أحد منهم وإن لم ينحصر فهي طريق جائزة من الطرق لكن طرق الأمة التي اتفقت الأمة على اتباعها أولى بالمتابعة لقوله r: اتبعوا السواد الأعظم(81) |
فإن قيل أفيكون تأصيل أهل الأصول كله باطلا أم لا فإن كان باطلا لزم أن يكون ما أجمعوا عليه من ذلك خطأ والأمة لا تجتمع على الخطأ وإن كان صوابا وهو الذى يقتضيه إجماعهم فكل ما يعارضه خطأ فإذا كل ما تقدم بيانه خطأ |
|
* * *
الهوامش
1- الريسوني نظرية المقاصد عند الشاطبي تقديم الدكتور طه جابر العلواني المعهد العالمي للفكر الإسلامي 1416هـ 1995م ص 318.
2- المرجع السابق ص 108.
3- مصطفي أبو زيد المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي ص 46 دار اليسر للطباعة والنشر جمهورية مصر العربية.
4- الريسوني نظرية المقاصد عند الشاطبي ص 108/109.
5- الجابري بنية العقل العربي ص56.
6- الطوفي الإشارات الإلهية ص 214 لاحظ أن الشاطبي سيقول بأن السور المدنية ترجع إلى سورة البقرة بينما تؤم سورة الأنعام السور المكية فكل واحدة من السورتين تعد قاعدة اشتملت على الموضوعات الأساسية التي تشتمل السور من جنسها على بعضها.
7- الغزالي المستصفى 2/33 ، 34 والعلوي نشر البنود على مراقي السعود ص 1/ 206 – 207.
8- المرجع السابق، ص 478/479.
9- يشير الدكتور محمد مزوز إلى أهمية أن تحيل المقولات الكلامية كالوجوب والإمكان والامتناع إلى أشياء محسوسة. فقال: لفهم الوجوب، باعتباره مقولة، يلزم إضافته إلى جهة ما من جهات الوجود لكي يصبح ممتلئا، وحينئذ ستسقط عنه صفة الاعتبارية. د. محمد مزوز، من أجل أنطولوجيا إسلامية: مساهمة في تجديد الوعي الإسلامي. مطبعة النجاح الطبعة الثانية 2004م، الدار البيضاء المغرب ص 15.
10- الشاطبي الموافقات 3/149.
11- الشاطبي، الموافقات ص، 86 .
12- الطوفي الاشارات اللاهية ص 217.
13- الطوفي شرح روضة الناظر ص 219.
14- الطوفي الإشارات الإلهية ص 231/232 لاحظ ان الشاطبي سيقول في ذات السياق وإليك النظر في التفاصيل والله المستعان.
15- المرجع السابق ص 228.
16- الشاطبي الموافقات ص 3/369.
17- الأنعام 103.
18- الآمدي الإحكام في أصول الأحكام 2/256.
19- الشاطبي الموافقات ص 4 / 46.
20- الأحقاف: 25.
21- نفس الآية السابقة.
22- رواه مسلم.
23- الشاطبي الموافقات ص 4 / 21 – 22.
24- الأنعام، من الآية 82.
25- الحج: 98.
26- المجادلة: 11.
27- الشاطبي الموافقات ص 4/ 26.
28- ولد بيه أمالي الدلالات ومجالي الخلافات ص 220.
29- العلوي نشر البنود ص 1/ 232.
30- الشاطبي الموافقات ص 1 / 44 – 45.
31- الطوفي التعيين على الأربعين ص 236.
32- الغزالي شفاء الغليل ص 212.
33- النساء: 115.
34- الطوفي التعيين على ألأربعين ص 237.
35- الطوفي التعيين على الأربعين ص 238.
36- البقرة: 231.
37- الطلاق: 6.
38- الطوفي التعيين على الأربعين ص 274.
39- الريسوني نظرية المقاصد عند الشاطبي ص 70.
40- المرجع السابق ص 60.
41- الريسوني نظرية المقاصد عند الشاطبي ص 71.
42- الطوفي التعيين على الأربعين ص 239.
43- البقرة: 179.
44- المائدة: 38.
45- الطوفي التعيين على الأربعين ص 234.
46- الشاطبي الموافقات ص 2/15.
47- الطوفي التعيين على الأربعين ص 238.
48- الشافعي، الرسالة ص 73.
49- المائدة: 38.
50- الشافعي، الرسالة 129.
51- النساء: 24.
52- النساء: 24.
53- النساء: 36.
54- الآمدى، الإحكام في أصول الأحكام 525.
55- المائدة: 38.
56- المائدة: 38.
57- الطوفي التعيين على الأربعين ص 238.
58- المرجع السابق ص 238.
59- المرجع السابق ص 238.
60- المرجع السابق 271.
61- الغزالي شفاء الغليل ص 195.
62- عز الدين بن عبد السلام قواعد الأحكام ص 1/9.
63- المرجع السابق ص 10.
64- مصطفى أبو زيد المصلحة ص 19.
65- الشاطبي الموافقات ص 3/ 172.
66- المرجع السابق ص 173 / 174.
67- الشاطبي الموافقات ص 3 / 176.
68- المرجع السابق ص 3 / 183.
69- المرجع السابق ص 3 / 180.
70- الطوفي التعيين على الأربعين ص 241.
71- الزمر: 23.
72- الطوفي التعيين على الأربعين ص 273.
73- النساء: 82.
74- الأنعام: 153.
75- البقرة: 213.
76- الشورى: 13.
77- الشورى: 14.
78- البقرة: 176.
79- الطوفي التعيين على الأربعين المقدمة والشاطبي الموافقات المقدمة .
80- الطوفي الإشارات الإلهية ص 478 / 479 والشاطبي الموافقات ص 3/ 149.
81- الطوفي التعيين على الربعين ص 274 / 275.
82–الشاطبي الموافقات ص 4 /44.