مقاصد الشريعة من وجهة نظر أخلاقية – قراءة في أطروحة طه عبد الرحمن
The Objectives (Maqasid) of Sharia from an Ethical Perspective - A Reading of Taha Abdel Rahman's Thought - العدد 172 /173
مقدمة:
من المعلوم أن النظر الأصولي اهتم بمبحث المقاصد مُظهراً بذلك أهميته البالغة في التشريع الإسلامي، ومع بلوغ هذا العلم ذروته مع شاطبية أبي إسحاق، حظي بمكانة متفردة في الفكر الأصولي بعدما كان مبحث الأحكام يأخذ نصيباً أوفر من التقعيد الأصولي، وعلى الرغم من نسقية علم المقاصد وإحكامه من جهة البناء المنطقي والاستدلال المنهجي، إلا أنه ظهرت اجتهادات جديدة تحاول أن تقارب هذا الموضوع من وجهات نظر مختلفة ومتباينة، من ذلك، ما قام به طه عبد الرحمن حينما اعترض على تقسيم الأصوليين للمصالح استناداً إلى طرح فلسفي أخلاقي، ليدخل بذلك مجموعة من الاجتهادات والتصورات التي يرى أنها ينبغي أن تجد لها مكاناً في الدرس المقاصدي.
لهذا جاءت هذه المحاولة لتسليط الضوء على هذا المنظور الفلسفي الذي يحاول إعادة بناء ضوابط الاجتهاد المقاصدي وتجديد علم مقاصد الشريعة، وذلك من خلال منظور مغاير لما تقرر تداوله في الفقهيات والأصوليات، قصد التحقق من جدة هذا الطرح وبحث أبعاده المنهجية والمعرفية، فضلاً عن النظر في مدى عمقه واستشرافاته المستقبلية، وهذا يدفعنا إلى الإجابة عن إشكالية رئيسية وإشكاليات فرعية نعرضها على التوالي: ما هي المحددات المفهومية والمسوغات المنهجية التي جعلت طه عبد الرحمن يقدم تصوراً جديداً لعلم المقاصد من وجهة نظر فلسفية أخلاقية؟ وهل تقبل مقاصد الشريعة أن تقرأ بغير عيون الفقهاء والأصوليين؟ وهل يمكن للتلاقح والتكامل بين العلوم أن يسهما في بناء المشترك الإنساني؟ وما هي القيمة المعرفية التي يمكن أن يضفيها هذا التصور على علم مقاصد الشريعة الإسلامية؟
وتتجلى أهمية هذا البحث في محاولة معالجة بعض الإشكالات المعرفية التي يطرحها علم أصول الفقه، وتحديداً على المستوى الأخلاقي، أي مدى حضور مركزية الأخلاق في بناء التصورات والأحكام الفقهية انطلاقاً من علم مقاصد الشريعة.
ولتحقيق هذا الغرض سيتم اعتماد المنهج التحليلي لتتبع أهم التصورات الكبرى لعلم المقاصد في فكر طه عبد الرحمن، وقد تم حصر محاور البحث فيما يأتي:
مقدمة.
المحور الأول: الأخلاق والمقاصد في فلسفة طه عبد الرحمن: المفهوم والعلاقة
المحور الثاني: بنية علم المقاصد في فكر طه عبد الرحمن: رؤية لغوية منطقية
المحور الثالث: مبررات تجديد علم المقاصد
المحور الرابع: تجديد نظرية القيم المقصدية وضوابطها
خاتمة.
المحور الأول
الأخلاق والمقاصد في فلسفة طه عبد الرحمن:
المفهوم والعلاقة
- مفهوم الأخلاق في فلسفة طه عبد الرحمن:
يرى طه عبد الرحمن أنه من المحتمل أن يكون المنقول الأخلاقي اليوناني حاضراً في تأثيره على مفهوم الأخلاق في المجال التداولي الإسلامي، حيث أصبح شائعاً أن الأخلاق عبارة عن فضائل، فالفضيلة من الفضل، والفضل ما زاد على الحاجة أو ما بقي من الشيء بعد الوفاء بالحاجة، ومقابله اليوناني “أريتي” الذي يحمل معنى الصفة التي يَكمل المرء بواسطتها، وهكذا استنتج أن التأثير اليوناني قد يكون عمل على ترسيخ معنى الزيادة أو التكملة، وهو أمر يتعارض مع مفهوم الأخلاق عنده، لأنه يعتبر أن هوية الإنسان تتحدد بالأخلاقية وليس بالعقلانية. لكن هذا الطرح الذي يعتبر الأخلاق مجرد كمالات، لا يجعل من الخُلق معياراً لتحديد هوية الإنسان أو وجوده، بل يرى أن الأخلاق عبارة عن كمالات وزيادات لا تتأثر هوية الإنسان بتركها.
وبعد أن أوضح التأثير اليوناني الذي لحق مفهوم الأخلاق، أكد على أنها ضرورات لا تقوم هوية الإنسان بدونها، بحيث إذا فُقدت هذه الضرورات فُقدت الهوية، ومتى وُجدت الأولى وجدت الثانية، واستدل على ذلك بأن الإنسان لو أتى بأخلاق سيئة لعُدّ من الأنعام لا من الأنام، بحيث اعتبرها بمثابة مقتضيات تدخل في تعريف هوية الإنسان نفسها، ولن يتأتى ذلك إلا إذا جعلنا وجود الإنسان مصاحباً لوجود الأخلاق، لا متقدماً عنها([1]).
ومن المبادئ المشكلة لنظريته الأخلاقية التي أفصح عنها في هذا المقام “أن الإنسان أصلا خليقة، وحدُّ الخليقة أن تكون في آن واحد خَلقاً وخُلقاً؛ وكما أن الخَلق يمر بأطوار، فكذلك الخُلق يتقلب في أحوال؛ وكما أن الخَلق يبدأ في غيب الأرحام قبل الخروج إلى عالم الوجود، فكذلك الخُلق يبدأ في غيب هذه الأرحام قبل الدخول في عالم السلوك؛ وكما أن الخَلق يكون قويماً عند الخروج إلى الوجود، فكذلك الخُلق يكون قويماً عند الدخول في السلوك؛ وبعد الخروج إلى الوجود والدخول في السلوك، يبقى الفعل الخَلقي غير منفك عن الفعل الخُلقي، لأن الإنسان يكون فيه مسؤولاً بوجه من الوجوه، إن في الإتيان به أو تركه أو في اختيار كيفية من كيفيات الإتيان به أو تركه أو في السعي إلى الإتيان به أو تركه أو في القصد من وراء الإتيان به أو تركه أو في استخدام نتيجة الإتيان به أو تركه… إلخ؛ يتخلص لنا من هذه الحقائق وأمثالها ضرورة الخُلُق للإنسان كضرورة خَلْقه، سواء بسواء، فلا إنسانية بغير أخلاقية”([2]).
([1]) صرح طه عبد الرحمن بأن هذا الأمر لم يتفطن إليه أحد على حد علمه، لهذا رأى أن الحاجة تدعو إلى إنشاء نظرية أخلاقية يكون من أصولها مبدأ الجمع بين شرط “الأخلاقية” وشرط “الإنسانية”، لهذا طلب من الله أن يطول عمره وتسلم مداركه حتى يتفرغ لهذا العمل، والملاحظ أنه يحمل مشاريع أخلاقية كبرى وهم فكري كبير، لهذا يشير بين= =الفينة والأخرى في كتبه ومحاضراته وفي مؤتمرات تكريمه إلى قضايا مركزية ويطلب من الله طول العمر حتى يتفرغ لتلك الأعمال. ينظر: طه، عبد الرحمن. سؤال الأخلاق مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 2000، ص53-54.