الأخلاقيات الإسلامية – جوانب علمية وطيبة وجراحية معاصرة
Islamic Ethics: Contemporary Scientific, Medical, and Surgical Aspects - العدد 172 /173
مقدمة:
ليس من شك في أن الإنسان هو “الكائن الأخلاقي الوحيد” بين مخلوقات الله تعالي. ولعل طول مدة طفولته (الطفل: هو مَن دون 18 عاماً)([1]) تتيح للقائمين على تربيته ورعايته ترسيخ الأخلاق وترتيب سلم القيم. ومن ثم يستتبع ذلك – عند بلوغه سن الرشد- شعوره “بالمسؤولية الأخلاقية” نحو حسن الاستخلاف على الأرض، وإعمارها، والتمييز بين الحلال، والحرام، وبين الخيّر والشرير من السلوك والأفعال. كما تبرز حاجته المستمرة لـ “معيار/ ميزان/ تقييم عادلٍ” لأفعاله، وإلا تفقد حياته معناها، ويصير وجوده عبثاً لا حكمة من وراءه. كما أن تميزه بالعقل الذي وهبه الله له دون سائر المخلوقات يعقله عن النزول إلى حضيض المادية، بل السمو إلى القيم الأخلاقية الدالة – وحدها- على «إنسانيته». ومن ثم قدرته على تحويل الطبيعة “الجسدية المادية” إلى “ثقافة”، ومقاصد أخلاقية ضابطة للعمل الإنساني في كافة المجالات. لذا وجب اعتبار الممارسة الأخلاقية تتويجاً للتجربة الإنسانية، فـ”الأخلاقية هي وحدها التي تجعل أفق الإنسان مستقلاً عن أفق البهيمية، والعقلانية التي تستحق أن تُنسب إليه ينبغي أن تكون تابعة لهذا الأصل الأخلاقي”([2]).
وبناءً على ذلك فإن السلوك الأخلاقي قرينٌ للمعتقد الديني، مما ينهض دليلاً على استحالة فصل الأخلاق عن الدين جملة. فإنك قد تجد مذاهب فلسفية أو فكرية لا تعير اهتماماً للضوابط الأخلاقية، لكنك لن تقع – أبداً- على “دين” يخلو من أخلاقيات يعتبرها شرطاً للانتساب إليه، والإيمان به، والوفاء بمبادئه. وفي هذا دلالة على تداخل العلاقة بين الدين والأخلاق وتبعية الأخلاق للدين. وحتى الغربيين الذين تعمدوا – مطلع العصر الحديث – فصل الأخلاق عن الدين، انتهت محاولاتهم إلى ابتداع “أخلاق” مستقاة من قيم ومفاهيم دينية سابقة، وتلبس لبوساً دينياً متنكراً، سواء صرحوا بذلك أم أخفوه؛ كما حاول ذلك كلٌّ من “رينيه ديكارت” (بالفرنسية: René Descartes) (1596–1650)، و”إيمانويل كانط (بالألمانية: Immanuel Kant) (1724- 1804)، و”أوغست كونت” (بالفرنسية: Auguste Comte) (1798- 1857) وأمثالهم من المنظِّرين الأوائل لـ “الفكر العلماني” السائد منذ قرون. وبذلك يتأكد أن “لا دين بغير أخلاق، ولا أخلاق بغير دين” و”ليس ثمة حضارة حقيقية بلا قيم يتبناها الإنسان – المتحضر- في نظرته للكون والحياة والأحياء”([3]). وبخاصة إذا علمنا أن “الدين” في جوهره لا يفصل بين الشعائر والممارسات الظاهرة وبين الثمار النفسية والآثار الْخُلقية والسلوكيات الفردية والمجتمعية المعلّقة على تلك الشعائر. وعبر التاريخ البشري تعددت الرؤى الدينية والفلسفية إلى الأخلاق. وتباينت التأويلات والمقاربات للمفاهيم المؤطرة لتطبيقاتها العملية، وتعددت الأسباب التي أوجبت “الاختلاف” حول الإجراءات “الأخلاقية” الناجعة لضبط وتقويم السلوك والفعل البشري، الفردي والجماعي. لذا كان السعي الدءوب لوجوب التزام منهجية قائمة على المقاربة الاستدلالية والمقارنة العقلية بين “الأخلاقيات الإسلامية” وبين مختلف التنظيرات الأخلاقية والطروحات الفلسفية الأخرى، واختبار منطقها واستشراف آثارها ومآلاتها في جوانب عدة منها الجوانب العلمية والطبية والجراحية المعاصرة.
لذا، ستطرح هذه الورقة “إشكاليات” عدة، قد تفتح آفاقاً أخرى لمزيد من البحث والدرس، وهي لا تزعم إنها ستجيب بشمول وحسم على هذه “الإشكاليات”، بل ستحاول الإجابة عما يلي:
- هل يمكن صياغة “نموذج أخلاقي عام وشامل” يستوعب التراكم المعرفي الإنساني، ويعد “معياراً” لتقويم المستحدث من القضايا العلمية والطبية والجراحية؟. وما هو طبيعة إطاره المرجعي الذي يبرز ملامحه؟.
- ما هي الرؤية العامة للشرع الإسلامي الحنيف (قرآناً، وسنة نبوية شريفة) للمسألة الأخلاقية المتعلقة بجوانب علمية وطبية وجراحية معاصرة؟، وكيف تشارك هذه الرؤية بصورة فعالة وحضارية في صياغة هذا “النموذج الأخلاقي العام والشامل”؟. وماذا تكسب الإنسانية عندما تتخلق بالأخلاقيات الإسلامية؟.
- كيف يمكن «تنزيل» الأخلاقيات الإسلامية وتطبيقها على نماذج علمية وطبية وجراحية معاصرة واردة ضمن إطار البحث لتعطي أنموذجاً وشهوداً حضارياً يمكن السير على منواله؟.
وتم تقسيم هذه الدراسة إلى أربعة محاور، والخلاصة.
* * *
المحور الأول
أخلاقيات العلم، مطلب إنساني مُلح
بعد انتهاء حملاتهم وحروبهم الصليبية سنة 1291م([4])، تفتحت عيون الغربيين على “أزمتهم” العلمية والثقافية التي لم يروا مثيلاً لها في المجتمعات الإسلامية حينئذ. يقول “جون غريبين”: إن كل من تسنت له زيارة مواقع الحضارة الكلاسيكية المطلة على البحر البيض المتوسط بوسعه أن يلمح لماذا كان أبناء عصور الظلام (ما بين 400-900م)، بل حتى هؤلاء من أبناء العصر الوسيط (ما بين 900-1440م) يسود بينهم هذا
———————————————————————————————-
([1]) في الجزء الأول، المادة 1 من “اتفاقية اليونسيف لحقوق الطفل” جاء ما يلي: “لأغراض هذه الاتفاقية، يعنى الطفل مَن لم يتجاوز الثامنة عشرة، ما لم يبلغ سن الرشد قبل ذلك بموجب القانون المنطبق عليه”.
([2]) طه عبد الرحمن: “سؤال الأخلاق”، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط 1، 2000، ص: 14). وكذلك: كتاب “سؤال الأخلاق في الحضارة العربية والإسلامية” لمجموعة مؤلفين وصدر عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات“، 2017، الدوحة.
([3]) طه عبد الرحمن: “سؤال الأخلاق”، ص: 38-39، وكذا، ص: 52-54. وراجع: د.”حسين مؤنس”: “الحضارة”، سلسة عالم المعرفة، العدد/237، جمادى الأولى 1419هـ، الكويت.
([4]) الحملات الصليبية أو الحروب الصليبية بصفة عامة مصطلح يطلق على مجموعة من الحملات والحروب التي قام بها أوروبيون من أواخر القرن الحادي عشر حتى الثلث الأخير من القرن الثالث عشر (1096 – 1291م).