القرآن الكريم وتأصيل فلسفة “الحق” في الإسلام

تقدمة ضرورية للبحث:

هذا العمل هو بحث فكري لا فقهي.. وشتان بين هذا وذاك. إن أهم ما يميز البحث الفكري – وإن ارتكز على التعامل مع القرآن الكريم أو السنة المشرفة – هو تعاظم المكون الاجتهادي البشري أو اتساع المساحة أمام فكر ورؤية المؤلف. وترجع هذه المساحة الفكرية الى أن الاستنباط هنا لا يتعلق بحكم جزئي وإنما برؤية كلية، وأن مادة الباحث ليست آية أو حديث محدود المساحة وإنما قد تكون كامل النص القرآني أو مساحات واسعة من السنة القولية والفعلية. وأن الدليل ليس الأدلة التفصيلية بل الأدلة الكلية (القيم والأهداف والمنهج… إلخ)، ولأن العمل الفكري عمل أكثر حرية فهو لا يقف عند أدوات ومناهج استنباط الأحكام والقياس بل يتسع لكل منتوجات المنهج الفكري الإنساني. وعليه فالبحث الفكري لا يقيَّم بمسطرة الصحيح والخاطئ لأنه فكر، وإنما يُتجادل معه ببحوث نقدية ورؤى فكرية أخرى مقابلة لا تصحح بل تناطح الأفكار الواردة.

البحث الفكري لا ينطلق من النص بل من أزمة المؤلف مع الواقع ومن دوافع لجوئه للنص بحثاً عن الإجابات لأسئلته. تتحدد قدرة الباحث / المفكر على الاستقبال من النص على خبرته وأزمته في الواقع الاجتماعي والثقافي، فلسفته الخاصة وانتقاداته للسياق بأبعاده كلها بما في ذلك التراث الذي لم يقدم إجابات شافية على أسئلته ما دفعه لأن يبحث عن تلك الإجابات بنفسه. البحث الفكري لا يؤسس للحلال والحرام والجائز والمندوب، ولكنه وهذا هو الأخطر قد يصيغ الاقتراب العام للقارئ في التعامل والحياة والمجتمع والعالم والدين.. وفي بعض الأحيان يكون مسئولاً عن اعتناق أيديولوجية كاملة وخطة وحركة آلاف البشر (كما رأينا في تأثير فكرة جاهلية المجتمع على الحركات الاحتجاجية المعاصرة في العالم الإسلامي). البحث الفكري -ورغم وجوده منذ بدء تأسيس العلوم الإسلامية- لم يُؤسس ويُدرس بعد، ربما لأنه ليس علماً بل فكر، وربما لأن العقل الإسلامي قد رفض من البداية الاعتراف بمساحة البشري في المنتج التراثي العلمي بما في ذلك المنتج الفقهي ذاته. وأخيراً فلقد أصبح البحث الفكري هو الغالب على المعالجات الإسلامية المعاصرة في ظل أزمة استمرار إغلاق باب الاجتهاد الفقهي، والأزمات العاصفة بالمسلمين في عالمهم المعاصر ما بين التخلف والعولمة والغزو الثقافي… إلخ.

في ضوء كل ما سبق أضع أمام القارئ هذا البحث.. إنه بحث فكري في مفهوم ومنظومة مفاهيمية قرآنية.