توطئة:
الافتراض الفقهي والفقه الافتراضي، كلمات تتقارب ألفاظها وتتباعد معانيها، وهما كاصطلاحين فى معجم العقل التشريعي، يشتركان فى أمور، ويختلفان فى أمور أخرى .
1- مواطن الاتفاق:
أ- الافتراض الفقهي والفقه الافتراضي كلاهما من الأدوات العقلية لتطوير الفقه ونظمه والاستجابة لتحديات التنـزيل الواقعي .
ب- الافتراض الفقهي والفقه الافتراضي كلاهما من أساليب التيسير، وبهما نتجاوز صرامة الحرفية النصية للتعامل مع واقع مرن ومفتوح .
2- مواطن الاختلاف:
أ- الافتراض الفقهى مواجهة لقضية قائمة واستنفاد للجهد فى أمر “واقع”، والفقه الافتراضى يأتى احترازا لنازلة قادمة واستعدادا لأمر “متوقع”.
ب- الافتراض الفقهى هو مخالفة للحقيقة دائما، والفقه الافتراضى هو تبصير بحقائق ممكنة، والفقه الافتراضى مجاله المستقبل، والقاعدة التى تقول “لا تركة إلا بعد سداد الديون” مثال صريح على الافتراض الفقهى، فالحقيقة أن المورث قد مات، والقاعدة تخالفها بافتراض أن المورث حي وله ملكية اعتبارية على تركته .
والقاعدة التى تقول “ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب” مثال جيد على الفقه الافتراضى لأنها تؤسس لاعتبار “الممكن” واجبا لكونه مقدمة للواجب .
وهناك إشارات فى كتب الفقه تجمع بين الأمرين تحت مصطلح التقدير، يقول “العز بن عبد السلام” فى كتابه “قواعد الأحكام”: “التقدير إعطاء المعدوم حكم الموجود، أو إعطاء الموجود حكم المعدوم”.
وقد جعل الإمام “القرافى” فى كتابه “الفروق” الافتراض جزءاً من المأمور به والمنهى عنه فى الشريعة فقال: “ما من معنى مأمور به فى الشريعة، ولا منهى عنه إلا وهو منقسم إلى فعلي وحكمي”.
وعلى الرغم من أن التقدير يجرى فى مسائل المعاملات والعبادات فى كل موسوعات الفقه ومتونه، فإن الافتراض أوسع من التقدير فى التعريف الفقهى، لأن المفقود على سبيل المثال ليس بمعدوم وليس بموجود .
وفي ضوء ذلك تنقسم هذه الورقة إلى مبحثين:
المبحث الأول: في الافتراض الفقهي.
المبحث الثاني: في الفقه الافتراضي.
المبحث الأول
الافتراض الفقهي
عرفت العائلات القانونية المختلفة – ومنها الفقه الاسلامى – الافتراض باعتباره أداة تطوير للقانون، ومخرجاً من جدلية الصدام بين النص والواقع .
1– المفهوم الوضعى للافتراض الفقهى(1):
يمكننا اعتبار الفقيه الألمانى “اهرنج” رائداً فى تعريف الافتراض، خاصة فى كتابه “روح القانون الرومانى”، حيث عرّف الافتراض بأنه “كذب فنى تقتضيه الضرورة” وهو تعريف موجز ومحكم أيضًا، ولا تكاد تخرج عنه التعريفات القانونية فيما بعد، والافتراض عند “فرانسوا جينى” “وسيلة عقلية لازمة لتطور القانون، تقوم على أساس أمر مخالف للحقيقة تماماً، يترتب عليها تغيير حكم دون تغيير نصه”.
وينطوى هذا التعريف على عنصرين:
الأول: تأسيس الافتراض على فكرة اللزوم العقلى .
الثانى: اعتبار الافتراض مخالفا للحقيقة دائما .
العنصر الأول: الافتراض وفكرة اللزوم العقلى:
لا شك أن فكرة الافتراض كانت وسيلة معروفة فى التشريعات القديمة، وكما يقول أستاذنا الدكتور عمر ممدوح كانت هى الوسيلة الشائعة فى الشرائع القديمة وقد استعين بها للتغلب على شدة النصوص وضيق نطاقها؛ لأنها كانت الوسيلة الوحيدة التى تتفق تمام الاتفاق وعقلية الشعوب القديمة “فقد نشأت الشرائع لدى المجتمعات القديمة مشتقة من أصول وتقاليد دينية، وكان للأديان قوة فى النفوس وثبات على الأذهان جعلا الناس شديدي التمسك بالتقاليد والنصوص بالنظر إلى ما كانت تحتويه من عنصر دينى – فى نظرهم – رغمًا عما كان يعتورها من نقص أو غموض، لذلك عمد رجال القانون الذين يشرفون على تطبيقه وتأويله إلى الاحتيال على النصوص بتغيير حكمها دون تغيير صيغتها … فتوصلوا بذلك إلى تطبيق النصوص على حالات لم تكن لتسرى عليها من قبل، وتحميلها أحكاماً جديدة لم يتسع لها منطوقها فى الأصل، وقد كان لأسلوب الافتراض هذا أثر عظيم فى التخلص من ضيق القواعد وشدتها، وفى ارتقاء النظم القانونية والقضائية، بل وفى ظهور نظم جديدة لم تكن معروفة من قبل(2).
وقد اتخذ الافتراض عدة صور:
أ- الافتراض باعتباره أداة قضائية:
فهو وسيلة يتمسك بها الحاكم القضائى لمخالفة النص القانونى، ومثاله: أن القانون الروماني القديم لا يقضي بالميراث للابن أو الزوجة إلا إذا كان الابن خاضعًا لسلطة أبيه والزوجة خاضعة لسلطة زوجها عند وفاته، ومعنى ذلك أن الابن المحرر من سلطة أبيه لا نصيب له فى التركة، وأن الزوجة التي تزوجت بغير سيادة لا ترث هى الأخرى فى تركة زوجها المتوفى، غير أن “البريتور” كان يفترض خضوع الابن المحرر لسلطة أبيه، والزوجة لسيادة زوجها عند وفاته، حتى يمكن لكل منهما الحصول على نصيب أبيه فى التركة، وذلك من خلال إجراء خاص يسمى “التمكين من الحيازة”، فنشأ بذلك نظام “الإرث البريتوري” بجانب الإرث الشرعي.
ب- الافتراض باعتباره تصرفًا صوريًّا:
كان القانون الرومانى القديم لا يعرف إلا نظام البيع بالإشهاد، وهى طريقة من طرق اكتساب الملكية لا تتم إلا بإجراءات رسمية، فاحتال الرومان على نظام البيع بالإشهاد، واستخدموه صوريًّا للوصية والهبة والمقايضة وعارية الاستعمال والرهن الحيازى، فنشأت بذلك تصرفات وعقود جديدة لم تكن موجودة من قبل.
ج – الافتراض باعتباره تصويرًا مثاليًا:
كانت الروابط قديمًا بين الأفراد لا تتم إلا بناء على قرابة الدم وعمود النسب، فكان افتراض الصلة الدموية أساساً لنظم مختلفة سياسية واجتماعية ولنظم فى المعاملات والأحوال الشخصية(3)، ويقول العلامة “مين” فى كتابه “النظم البدائية”: “إنه بقيتْ إلى عهد حديث فى بعض الشركات التجارية الإنجليزية آثارُ هذه الصلة المفترضة بين الأقارب حيث يضاف إلى أسماء الشركاء ما يفيد تضامنهم فى الطعام والعبادة والمال”.
د – الافتراض باعتباره وسيلة لتبرير بعض النظم القانونية:
من ذلك ما يراه “بنتام” فى كتابه “نظرية التشريع” أن العلة القانونية لحق الإرث هي وحدة الشخصية بين الحي والميت، وقد بنى هذا الرأي على افتراض يقوم على فكرة استمرار شخصية الميت فى شخص الوارث، ومن ثم يجب أن يستمر الوارث فى الاستمتاع بملك الميت. ومن ذلك أيضا تبرير فقهاء الإنجليز لمبدأ مصادرة أموال المجرم فى بعض الجرائم قبل إلغائه عام 1870م، كما في جريمة الخيانة العظمى، حيث يقولون إن إقدام المجرم على ارتكابها يدل على فساد دمه العائلي، ويترتب على ذلك إيقاف سير الإرث الشرعى، فإذا أعدم المجرم فلا تؤول أمواله إلى ابنه وتصادره الدولة، بل يحرم هذا الابن البريء من إرث جده إن كان حيًّا؛ لأن السبيل الذى تعبره الأموال من الأصل إلى الفرع قد فسد بالجريمة وانقطع مجراه.
العنصر الثاني: الافتراض يخالف الحقيقة دائمًا(4):
قلنا إن جوهر الافتراض مخالفته للحقيقة، وهذا قدر متفق عليه بين فقهاء القانون، ولكنهم اختلفوا في الإجابة عن سؤال مهم هو:
ما هى الحقيقة التى خالفها الافتراض؟
انقسم الفقه فى الإجابة عن السؤال إلى اتجاهين رئيسيين:
أ- الافتراض يخالف الحقيقة الطبيعية:
طبقا لهذا الرأى فإن مخالفة الحقيقة الطبيعية هى جوهر الافتراض، وتتمثل فى مجموعة الحقائق السابقة على الحقيقة القانونية، ولها صور ثلاث: الحقيقة التاريخية، والحقيقة العلمية، والحقيقة الفلسفية .
ومثال مخالفة الافتراض للحقيقة التاريخية، ما قال به القانون الرومانى من اعتبار الأسير الرومانى قد مات قبل وقوعه فى يد الأعداء حتى تظل وصيته قبل أسره صحيحة .
ومثال مخالفة الحقائق العلمية، افتراض بقاء المورث حيًّا حتى قبول الوارث للتركة، فهو بالخيار بين القبول والرفض فى القانون الرومانى، حتى لا يظل مال المتوفى بغير مالك، وهذا يخالف الحقيقة العلمية التى تقرر أن الشخصية القانونية تبدأ بواقعة الميلاد، وتنتهى بواقعة الوفاة، وهو ما لا يرد فى الفقه الإسلامى فالميراث فيه خلافة إجبارية. ومثال مخالفة الحقائق الفلسفية، مخالفة قانون السببية عندما أخذ المشرع بفكر الأثر الرجعى للشرط بحيث إذا تحقق الشرط استند أثره إلى وقت نشوء الالتزام “م 270 قانون مدني مصري” وهذا يخالف مبدأ السببية الذى يقتضى أن الشيء لا يوجد قبل سببه .
ب- الافتراض يخالف الحقيقة القانونية:
يرى أصحاب هذا الاتجاه أن الافتراض فى أساسه مخالفة للحقيقة القانونية وتجاوز لها، ويقدم الفقيه الفرنسى “ديموج” مثالاً لذلك فى كتابه “المبادئ الأساسية للقانون الخاص” بقوله: “إن فكرة الأشخاص المعنوية – كالشركة، والمؤسسة وغيرهما – تقوم على مخالفة حقيقة قانونية مؤداها أن الانسان وحده هو الذى يكتسب الشخصية القانونية .
والرأي عندي أن الاتجاه الأول أجدر بالترجيح، لأن الافتراض ليس مجرد مخالفة لتصور قانوني، بل أساسه مخالفة الحقيقة الطبيعية فى صورها الثلاث تاريخية وعلمية وفلسفية .
2- المفهوم الشرعي للافتراض الفقهي:
يتجه الكثيرون إلى اعتبار الحيل قسيما للافتراض فى المفهوم الوضعى، وهى وجهة أراها جديرة بالتقدير، غير جاذبة للاتباع، صحيح أن الفقهاء لم يتداولوا تعريف الافتراض المجرد، إلا أن اللزوم العقلى وهو أحد عناصر الافتراض كان القاسم المشترك لحدود الفقه فى كثير من الأوصاف الاعتبارية الشرعية، فتعريف الذمة – على سبيل المثال – بأنها وصف يصير به الانسان أهلا لما له وعليه هو – كما يقول العلامة الشيخ أبو زهرة – أمر فرضى اعتبارى يفرض ليكون محلا للإلزام، والالتزام، يقول: “الحطاب” فى “مواهب الجليل”: قال “ابن عبد السلام”: والذمة أمر تقديري يفرضه الذهن، وليس ذاتًا ولا صفة لها”، وهو هنا يرفض فكرة الوصف باعتبار ذاتيتها واستبقى عنصر اللزوم العقلى، بل إن فخر الإسلام “البزدوى” أضاف للذمة وجودًا حقيقيًّا باعتبارها ذاتًا لا وصفًا، وقال: “إن الذمة نفس ورقبة لها عهد، وهذا عند المحققين من تسمية المحل باسم الحال”(5)، فالذمة عنده تعد أمرًا ذا وجود مادى، حتى لا تكون الأحكام الشرعية مبنية على افتراضات لا وجود لها فى الواقع، إلا أن هذا التأويل – كما يقول الشيخ مصطفى الزرقا – لم يخرج أصحابه عن دائرة الافتراض، لأن تعلق الديون بنفس الإنسان ليس إلا تعلقًا اعتباريًّا، وإنما تحولوا من افتراض المحل إلى افتراض التعلق.
والرأي عندي أن الذمة مثال جيد لأهمية الافتراض الفقهى وهى وسيلة فنية تقتضيها الضرورة. “فافتراض الذمة، أو وجودها فى الشخص أمر لا مندوحة عنه، وليس ذلك من قبيل بناء الأحكام على افتراض وهمي، بل هو أمر تقتضيه استقامة منطق الأحكام، ويتطلبها تخريجها وتأصيلها لتكون على نظام أتم وأضبط، فبواسطة هذا الافتراض يستطيع الإنسان أن يوسع من دائرة معاملاته إلى ما لا حد له؛ إذ الذمة تقبل أن تشغل بالديون والحقوق إلى ما لا حد له، وتكون يد الإنسان حرة يتصرف فيها كيف يشاء رغم ديونه، لأنها شغلت ذمته، ولم تتعلق بعين من أعيان ماله، ولولا افتراض الذمة لتعين أن نعتبر الديون متعلقة بعين أمواله وثروته، فتشل حركته، ولا يكون حر التصرف فى أمواله”.
والرأى عندى أن الافتراض الفقهى عرفته كل المذاهب الفقهية، عرفته فى قواعدها العامة تأسيسًا على الغايات الكلية فى نظرية المصالح والمفاسد، وفى حلولها الجزئية ليكون تنـزيل الأحكام أتم وأضبط .
مثال ذلك تقسيمهم للموت – وهو صفة وجودية مضادة للحياة- إلى أنواع ثلاثة:
الموت الحقيقي(6): ويكون بفقد الحياة بعد وجودها، ويثبت بالمشاهدة أو بإقامة البينة عليه المتصلة بالقضاء .
الموت الحكمي: ويكون فى حال المرتد الذى لحق بدار الحرب، فإذا حكم القاضي بلحوقه بها مرتدًّا، فإنه يعتبر ميتًا من حين صدور الحكم وإن كان حيًّا يرزق بدار الحرب، فَتَبِينُ منه زوجَتُهُ، ويقسَّم ماله بين ورثته، وتعتد زوجته وذلك من تاريخ لحوقه بدار الحرب، ويكون الموت الحكمى كذلك فى حال المفقود الذى لا يعلم مكانه ولا تُعلم حياته أو موته، فإن القاضى إذا حكم بموته، بناء على ما ترجح لديه من الظروف وقرائن الأحوال، فإنه يعتبر ميتًا من حين الحكم، ويرثه من ورثته من كان حيًّا فى ذلك الوقت .
الموت التقديري: ويكون فى حال الجنين الذى أسقط بجناية على أمه، فإذا ضرب انسان امرأة، فأسقطت جنينًا، فإنه يجب على الجانى أو عاقلته الغرة، وهذا ليس موتًا حقيقيًّا؛ لأنه لم يكن بعد حياة حقيقية، وليس موتا حكميًّا؛ لأنه لم يصدر به حكم قضائى، فهو كما سماه الفقهاء يعتبر موتاً تقديريًّا، فقدرت الحياة فيه وقت الجناية، وقدر الموت بسببها حتى يجب التعويض ويورث عنه .
وهذا الافتراض المحض له نظائره فى الفقه الاسلامى ومنها الوقف والمسجد، حيث صرح الفقهاء بالشخصية الاعتبارية له، جاء فى “الخرشى” على متن “خليل” وهو مالكي المذهب “يشترط لصحة الموقوف عليه أن يكون أهلا للتملك الحكمى كالمسجد أو حِسًّا كالآدمى”.
وفى كتاب “نهاية المحتاج” فى المذهب الشافعى “وتصح الوصية لعمارة نحو مسجد ورباط ومدرسة”.
والرأي عندي أن فكرة الافتراض الفقهي يسعها الفقه الاسلامي بمذاهبه المختلفة باعتبارها أداة يقتضيها النسق النظري، ووسيلة لضبط تنـزيل الأحكام في جانبها العملي، صحيح أنه وجد من الفقهاء كالإمام “البزدوي” من حاول استبدال الصفات بالذوات ليحل الوجود المادي محل الوجود المعنوي، وبالتالي الاستغناء عن الافتراض فى مجال الأحكام الشرعية، إلا أنه فى الحقيقة انتقل من افتراض إلى افتراض، وكما أشرنا فى مفهومه للذمة فقد انتقل من افتراض المحل إلى افتراض التعلق، وحاول البعض التخلص من الافتراض الفقهي باعتباره لا معنى له، ولا حاجة إليه، فالحكم الشرعي يوجبه الشارع ولا يلزم به افتراض، ولا يمنع من تطبيقه اعتراض.
والرأي عندي أن محاولة تجاوز الافتراض الفقهي، لا تمتد إلى افتراضات جاءت بها النصوص الشرعية، تأسيسًا لأنظمة وتكليفًا بأحكام، فالرضاع يوجب قرابة مفترضة، تتساوى فيها قرابة الأم بوليدها وهى قرابة طبيعية، مع قرابة المرضع بمن أرضعته وهى صلة افتراضية، فالأمومة الطبيعية تتفرد، والبنوة الرضاعية قد تتعدد، وإذا كان الشارع قد أبطل التبني باعتباره بنوة افتراضية، فقد أبقى “ولاء الموالاة” من أسباب الإرث، وقيد المعتق والمعتوق بأحكام فى النفقات والميراث، تجعل الافتراض النصي باعتباره حكمًا شرعيًّا من أسس مشروعية الافتراض الفقهى .
ومع ذلك فإن أثر الافتراض الفقهي فى تطور النسق الفقهي الاسلامى ظل محدودا لأسباب عدة أهمها:
أ- أن مصادر الأنساق الفقهية – على تنوعها وتعددها – تعود إلى مصدرين رئيسيين هما الكتاب والسنة، وفيهما أصول عامة وقواعد كلية تكفي لتوليد كم من الحلول تغني عن الافتراض فى كثير من النوازل والتفاصيل.
ب- إن المسائل الجزئية تركت فى الغالب الأعم لاجتهاد الفقهاء والقضاة، فأصبحت الفتاوى والواقعات، وما سمى بفقه العمليات، أنجع فى تفعيل الواقع من البنية المتعالية للنظريات.
المبحث الثاني
الفقه الافتراضي
1- نشأة الفقه الافتراضي:
يظن كثير من مؤرخي الفقه الإسلامي، أن الفقه الافتراضي أو “التقديري” هو سمة القائلين بالرأي، ولا يكاد يجد له نشأة حقيقية إلا فى النصف الأول من القرن الثاني الهجري على يد الإمام أبي حنيفة فقيه المدرسة العراقية، وفى هذا يقول “محمد بن الحسن الحجوى الثعالبى” فى كتابه “الفكر السامى(7) فى تاريخ الفقه الاسلامى”: كان الفقه فى الزمن النبوى هو التصريح بحكم ما وقع بالفعل، أما من بعده من الصحابة وكبار التابعين وصغارهم فكانوا يبنون حكم ما نـزل بالفعل فى زمانهم، ويحفظون أحكام ما كان نـزل فى الزمن قبلهم، فنما الفقه وزادت فروعه نوعا، أما أبو حنيفة فهو الذى تجرد لفرض المسائل وتقدير وقوعها وفرض أحكامها إما بالقياس على ما وقع وإما بإندراجها فى العموم مثلا، فزاد الفقه نموًّا وعظمة، وصار أعظم من ذى قبل بكثير، قالوا: إن له ستين ألف مسألة وقيل ثلاثمائة ألف مسألة، وقد تابع أبا حنيفة جلُّ الفقهاء بعده ففرضوا المسائل وقدَّروا وقوعها ثم بينوا أحكامها”.
وكلمات “الحجوى الثعالبى” – وهى ليست رأيه فى الموضوع – شاع مضمونها فى صفحات التاريخ الفقهى قديما وحديثا، إلا أننا نتعامل معها بتحفظ، خاصة وأن الحديث المتفق عليه والذى يرويه البخارى ومسلم يجزم بأن الفقه الافتراضى لا تثريب على أهله، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينه عن فرض مسألة لم تقع.
عن “المقداد بن الأسود” قلت: يا رسول الله أرأيت إن لقيت عدوي ثم لاذ بشجرة فقال أسلمت لله أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ فقال: لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنـزلتك قبل أن تقتله وإنك بمنـزلته قبل أن يقول كلمته التي قال”.
فالرسول – صلى الله عليه وسلم – لم ينه عن افتراض المسائل، بل أجاب السائل، وهذا دليل جواز لا منع، و”لأبى بكر بن العربى” توجيه وجيه لنهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن كثرة السؤال فى عصره، قال “ابن العربى”: كان النهى فى الزمن النبوى عن السؤال – يقصد الفقه الافتراضي – خشية أن ينـزل ما يشق عليهم، أما بعده فقد أمن ذلك”.
وقال “ابن القيم” فى “إعلام الموقعين”(8) إذا سأل المستفتي عن مسألة لم تقع فهل يستحب إجابته أو يكره أو يخير؟
قال فيه ثلاثة أقوال …. والحق التفصيل، فإن كان فى المسألة نص من كتاب الله أو سنة عن رسول الله، أو أثر من الصحابة لم يكره الكلام فيها، وإن لم يكن فيها نص أو أثر فإن كانت بعيدة الوقوع أو مقدرة لا تقع لم يستحب له الكلام فيها، وإن كان وقوعها غير نادر ولا مستبعد، وغرض السائل الإحاطة بعلمها ليكون منها على بصيرة إذا وقعت استحب له الجواب بما يعلم، لاسيما إذا كان السائل يتفقه بذلك، ويعتبر بها فى نظائرها، ويُخرِّج عليها، فحيث كانت مصلحة الجواب راجحة كان هو الأولى”.
والرأى عندى أن الفقه الافتراضى أسئلةً وإجاباتٍ، له – فى الحياة العقلية عند فقهاء الصحابة وكبار التابعين – حضورٌ قوى، وتأثير مدرستى الرأى والحديث فيه قليل، “فعبد الله بن مسعود” – مؤسس مدرسة “الكوفة” والذى نحا نحو “عمر بن الخطاب” فى البحث عن العلل والمقاصد والانفتاح على آفاقها – كان لا يستحسن الفقه الافتراضى، ولعل ذلك كان أثرًا من آثار بيئة العراق بما فيها من حراك اجتماعى عقلى لا يكاد ينتهى، وحسب فقهائها هذه الكثرة من المسائل الفقهية الواقعية التى أثقلت العقل الفقهى، والتى أصبح الفقه الافتراضى معها ترفًا يؤثر على الثقة بالفقيه وعلمه .
إن الموقف الحذر من الفقه الافتراضى والذى عبَّر عنه بعض أجلاء الصحابة منهم “عبد الله بن عمر”، و”زيد بن ثابت”، و”عبد الله ابن عباس”، وبعض كبار التابعين منهم “سعيد بن المسيب” و”إبراهيم النخعى”، وهم جميعا – عدا ما نقل عن “عبد الله بن عمر” – كانوا من أهل التوسعة فى الفتوى، والتيسير على الناس، ومراعاة المصالح، إن هذا الموقف فيه إعلام وتعليم بأن الأفق الواسع الذى تحركوا فيه أغناهم عن الفقه الافتراضى، وقلل عندهم من دواعيه، وهذه الأسباب الذاتية لموقف هؤلاء من الفقه الافتراضى، لا تحجب الأسباب الموضوعية لإنكار بعض الصحابة والتابعين أسئلة “الأرأيتيين” وفى مقدمة هذه الأسباب ما يلى:
أ- ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحاديث تنهى عن كثرة السؤال ومنها المتفق عليه، فقد أخذ الصحابة والتابعون – وورعهم مشهود به – بالأحوط رغم توجيه المتأخرين لهذه الأحاديث بما يحرر المسائل ويرفع الحرج عن المجيب والسائل.
ب- افتراض النوازل كان عند البعض نوعًا من الغلو فى الدين، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه.
جـ- أصبحت التفريعات والفروض مدخلاً لتصعيب الفقه بل وأصبحت عند المتأخرين إلغازًا يعسر فهمُهُ، أو افتراضًا لما يستحيل وقوعُه عادةً، وكأن الأمر أصبح أقرب إلى الرياضة الذهنية، منه إلى الدراسة الفقهية، وقد اعتذر البعض – كما نقل الحجوى الثعالبى – عن ذلك بأنهم فرضوا ما يقتضيه الفقه بتقدير الوقوع، ورده “المازرى” الفقيه المالكى بقوله: “إنه ليس من شأن الفقيه تقدير خوارق العادة(9).
د – ارتباط الفقه الافتراضى خطأ بالمخارج والحيل، فأصابه ما أصابها من رفض مجمل باعتبارها تحيلا لإسقاط حكم شرعى، ومن رفض جزئى بعد تقسيمها إلى مشروع وممنوع . ولعل إمام المذهب الحنفى – وهو إمام فى الفقه الافتراضى وأيضا فى المخارج والحيل – استطاع بعبقريته الفذة استخدام هذه الوسائل فى تطوير الفقه، وتوسيع مجالاته، إلا أن المتأخرين من أصحابه ومن غيرهم – كما يقول الحجوى الثعالبى – أكثروا من الفروع النادرة التى استغرقت الوقت وأوقفت النظر فى الأصول، باتساع دائرة الخيال، لا سيما فى مسائل الرقيق والطلاق والنذور والأيمان والردة، وكلها مسائل تفنى الأعمار ولا تقع واحدة منها.
قلنا إن الفقه الافتراضى ليس من الحيل فى شيء، وقد كتب الكثير عن الحيل، وحاول “شاخت” أن يربط من خلالها بين الأحكام الشرعية والعرف، وأن يجعلها جسرًا تعبر عليه المخالفات العرفية لتندمج فى النسق الفقهى الشرعى، وهو تحليل أقل ما يوصف به أنه قراءة مغتربة عما حدث فى التاريخ، والتعميم آفة البحث العلمى، وقد اختصر “شاخت” “المخارج والحيل” فى الحيل المحرمة شرعًا، ليتسنى له عزل المجتمع عن أحكام شريعته، التى هى عنده مجرد أحكام نظرية، انفصل عنها الواقع لصالح أعراف بينها وبين الأحكام الشرعية تعارض وتناقض، فالشريعة فى وادٍ والمجتمع تحت غطاء من الحيل فى وادٍ آخر، وهو قول بعيد عن الصواب فى جملته وتفاصيله. وهذا لا يعنى تبرئة من استخدم الحيل لإسقاط الأحكام الشرعية، وإنما دعمًا لنسق فقهى الحيل فيه مراتبُ وأقسامٌ فيها المشروع والممنوع، بل تداولتها الأحكام التكليفية الخمسة من وجوب وندب وحرمة وكراهة وإباحة.
إن الحيل فى التحليل الدقيق ليست جزءًا من نظرية الفرض فى الفقه الإسلامى سواء كان افتراضًا فقهيًّا، أو فقهًا افتراضيًّا، فبيع الوفاء وبيع العينة، وهبة مال الزكاة قبل مجيء الحول – وهى أمثلة على الحيل – لها مجال، وقاعدة لا تركة إلا بعد سداد الديون، وميراث الحمل، وأموال المفقود – وهى أمثلة على الافتراض الفقهى بالمعنى الدقيق- تتحرك فى مجال آخر.
إن مآلات الأفعال، والأخذ بالذرائع فتحًا وسدًّا، والأخذ بالأحوط فى الفقه الإباضي – وهو فهم ذرائعي – عبر عنه “العلامة “السالمي” “فى طلعة الشمس البهية” بقوله: “والأحوطية مطلوبة شرعًا – لقوله صلى الله عليه وسلم- دع ما يريبك إلى ما لا يريبك(10).
إن هذه القواعد الأصولية وغيرها هى ضوابط الافتراض الفقهى، والفقه الافتراضى، وهى أيضا ضوابط الحيل والمخارج. وكلها أدوات وأساليب للتطور الفقهى قد تفتح أبوابًا نظنها مستحيلة، وقد جمع بينها “الشاطبى” فى كتابه “الاعتصام” دون دمج أو فصل، واستعمل نظرية ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وجاء بافتراض كان مستحيلاً فى زمنه فأصبح جزءًا من حياتنا اليومية، قال فى الاعتصام: “لو كان ثم من يسير إلى فريضة الحج طيرانًا فى الهواء أو مشيًا على الماء لم يعد مبتدعًا بمشيه كذلك؛ لأن المقصود إنما هو التوصل إلى مكة لأداء الفرض، وقد حصل على الكمال”.
وأظنه مثالا يفضى بنا فى ختام هذه الورقة إلى حديث موجز عن وظيفة “نظرية الفرض” فى الفقه الإسلامى .
2- وظيفة “نظرية الفرض“:
على الرغم من الخلاف الذى يتعلق بالمجال بين الافتراض الفقهى، والفقه الافتراضى إلا أن لهما وظائفَ متقاربةً يمكن حصرُها فى وظيفتين:
أ- الوظيفة العملية:
الفرض بنوعيه يتحرك معالجة لأمر “واقع”، أو استعداداً لأمر “متوقع”، وهو يستنفر طاقات الفقيه العملية من خلال قاعدتين:
1- افتراض يأتى تطبيقًا لقاعدة “الأمر إذا ضاق اتسع” انطلاقًا من المرونة فى تنـزيل الحكم على وقائعه وما تقتضيه من توسعة فى الشروط بالنظر إلى المآلات، ومثالها افتراض أن المنقول عقار بالتخصيص، وافتراض أن العقار منقول بحسب المآل.
2- افتراض يأتى تطبيقًا لقاعدة “الأمور بمقاصدها” وفيه “تصبح الآثارُ المترتبة على الحكم أكثرَ امتداداً وأوسعَ نطاقًا، ومثالها انصراف آثار تصرف النائب إلى الأصيل، وكأنها صدرت منه وإلا بطلت المقاصد الشرعية من نظام النيابة .
ب- الوظيفة العلمية:
ولا نقصد بها ما يثمره الافتراض من تنشيط لذهن الفقيه، والخروج به من ضيق حرفية النص إلى مقاصده الأشمل، وغاياته الأكبر، بل المقصود بالوظيفة العلمية هنا، أهمية الافتراض فى اعتماد وسائل فنية بعضها سابقة على النص ولازمة لتفعيله، وبعضها متزامنة مع النص وضرورية فى تشغيله.
1- افتراض سابق ولازم لتفعيل النص:
ومثاله افتراض العلم بالشريعة فى ديار الاسلام، فلا يجوز قضاء الاعتذار بالجهل بها، والمسلم وغير المسلم أمام هذا الافتراض سواء، وهى قاعدة فقهية أساسية.
2- افتراض متزامن مع النص أو لاحق له وهو ضرورى فى تشغيله:
ومثاله الافتراضات الضرورية للوصول إلى أحكام المفقود، وآثار موته الحكمي، فالقضاء بموته افتراض ضروري لتشغيل نص قاعدة “لا ضرر ولا ضرار”.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات،،،
***
الهوامش
(1) د. أبو زيد عبد الباقي، الافتراض ودوره في تطور القانون، القاهرة، 1980م.
(2) أستاذنا الدكتور عمر ممدوح، أصول تاريخ القانون، ط2، الإسكندرية، 1952م، ص74 وما بعدها.
(3) لمزيد من الأمثلة والتفاصيل المرجع السابق، ص 82-85.
(4) الافتراض ودوره في القانون، مرجع سابق، ص8-13.
(5) د. المكاشفي طه المكاشفي، الذمة والحق والالتزام، مكتبة الحرمين، الرياض، ط1989م، ص 32-36، وهو هنا ينقل عن مصطفى الزرقا في كتابه “المدخل الفقهي العام”.
(6) المرجع السابق، ص 46، 47.
(7) جـ 1، ص349.
(8) إعلام الموقعين: تحقيق رائد بن صبري – دار طيبة الرياض، ط1، 2006م، ص906.
(9) الفكر السامي، مرجع سابق، 353.
(10) إن الأخذ بالأحوط من أهم المداخل المقاصدية في الفقه الإباضي، ومن فروعه ما ذهبوا إليه من أن لبن الخنثى المشكل يثبت به التحريم؛ وذلك قياسًا على من تيقن الطهارة وشك في الحدث، فإنه يتوضأ أخذًا بالأحوط فكذا كذا.