مقدمة:
لا تزال المصنفات تترى تقدم رؤى متعددة لمفهوم الدولة، بعضها تكرار لما سبق أن صنف فيه، وبعضها مستجد نسبيًا، وكلا النمطين من المصنفات يكشف الحقيقة المستبطة في هذا المفهوم، من حيث إنه مفهوم سياسي يأتي ضمن منظومة المفاهيم التي لم يسقط اهتمام الدارسين بها – ويبدو أنه لن يسقط- وإن تقادم الزمان بهم، واتسعت بينهم فروق الثقافات، والمناهج، والمقاصد، وبؤر التحليل، حال نظرهم إلى المفهوم، والمتضمن فيه، والداخل في سياقه وبنيانه.
ولا شك أن أسباب إيلاء مفهوم الدولة هذا الاهتمام يمكن الاجتهاد بشأنها، فالدولة من ناحية هي التنظيم السياسي الأسمى في المجتمع السياسي، والمعبِّر عن مصالحه وأهدافه، والضابط لعلاقاته وتفاعلاته داخليًّا وخارجيًّا، كما أنها من ناحية أخرى قاسم مشترك – بأبعادها المختلفة- في تناول أكثر من حقل من حقول المعرفة السياسية، فثمة موقع لها في دراسات النظم السياسية، والنظرية السياسية، والفكر السياسي، والعلاقات الدولية، والسياسة الخارجية، والقانون الدولي، هذا بالإضافة إلى الحقول الفرعية الأخرى، وإن تباينت – بحكم تخصص كل منها- في تحديد ما تدرسه في المفهوم.
وقد ضاعف من الاهتمام أيضًا أن تطور المجتمع الإنساني، وتطور العلاقات الخارجية بين وحداته ما زالا يُعليان من مكانة الدولة ودورها على حساب مكانة غيرها من الوحدات الفاعلة في كليهما وأدوارها، بشكل ملحوظ، خاصة وأنهما يقدمان نماذج لها ربما لم تكن موجودة من قبل في أنحاء متعددة من قارات الكرة الأرضية، الأمر الذي يفرض التساؤل عن مساهمة الفكر الإسلامي بين الاجتهادات المختلفة حول هذه النماذج، وموقفه منها، والبديل الذي يمكنه تقديمه انطلاقًا من إطاره المرجعي الإسلامي. وواقع الحال ينبئ أنه موجود؛ لكن ما قدمه ويقدمه دون المأمول بكثير قياسًا بما قدمه ويقدمه الفكر غير الإسلامي، فضلاً عن أنه مازال أسير تنظيرات سابقة – في أغلبه- كثر الحديث فيها عن قضايا تقليدية في الدولة عامة، والدولة الإسلامية خاصة، مثل قضايا تعريف هذه الدولة، وسلطاتها، ووظائفها، وأشكال الحكم فيها خلافةً أو ملكًا، وطرق إسناد السلطة فيها، ومؤسساتها المختلفة، إلى آخره من قضايا تتعلق أساسًا بالشئون الداخلية في الدولة، مما يدخل غالبًا في نطاق اهتمام النظرية السياسية والنظم السياسية، أكثر من تعلقها بالقضايا التي تعبر عن الدولة كوحدة فاعلة في العلاقات الخارجية، ولعل هذا هو وجه القصور الأساسي في تنظير الدولة من منظور إسلامي، ورغم اجتهادات معاصرة فيه، إلا أنها ما زالت في الأغلب الأعم حبيسة إما المنطلقات الغربية في المضمون والمنهج، وإما المنطلقات الفقهية في التقسيم والتأصيل.
ولعل ذلك يفرض الحاجة إلى منظور إسلامي – وربما مناظير إسلامية- يعتمد على المصادر الإسلامية الأساسية في التأسيس، بحيث يكون له واقعية التطبيق، وفاعلية التجدد الحضاري، وهو ما لا ينهض به إلا عمل اجتهادي واعٍ، وربما كانت الجماعية الاجتهادية هي الأنسب في القيام به، أو بها، ولكن إلى حين أن توجد هذه الجماعية فلا غضاضة في الاجتهادات الفردية، وهذه الدراسة هي محاولة للاقتراب من هذا الاجتهاد الفردي علها تقدم مساهمة في هذا السبيل، أخذًا في الاعتبار أنها انطلقت من الضوابط المنهاجية التالية:
1- أن المقولة الأساسية لها مبنية على اعتبار أن الأصول المنـزّلة (مؤازرةً بخبرة السيرة النبوية وعصر الخلافة الراشدة) تستطيع أن تقدم عطاءً متميزًا في تأصيل مفهوم “الدولة” كوحدة فاعلة في علاقات المسلمين الخارجية بغيرهم، وأن لهذه الفعالية مؤشرات ومتطلبات ومبررات، واختصاصات متعددة ومتكاملة.
2- وأن الرجوع إلى اللغة العربية بمصادرها المتنوعة لمعرفة دلالات المفاهيم في هذه الدراسة لا يعني الإغراق في شكلية الاستدلال أو الرغبة في تقعير التنظير وتعقيده، بقدر ما يعني العودة بالمفاهيم إلى مظانها ومفاتيحها، وليس أنسب من اللغة في الحديث عن ذلك.
3- إذا كان تنظير الدولة كظاهرة سياسية وكفاعل رئيس في العلاقات الخارجية قد استدعى التعريج إلى بعض التفصيلات الفقهية، وهو ما برر العودة إلى مصادر الفقه المتنوعة أحيانًا، فإن ذلك لم يكن على حساب التحليل السياسي في النهاية.
4- يقف الإطار الزماني لهذه الدراسة عند صدر الإسلام في عصري النبوة والخلافة الراشدة بالأساس، باعتبارهما العصرَ النموذجَ في التأصيل والاقتداء، (وأخذًا في الاعتبار أن الفترة التالية لهما هي مناط أبحاث أخرى ضمن مشروع العلاقات الدولية في الإسلام).
5- أما ما يتعلق بالأدوات المنهاجية المستخدمة فقد أمكن التوظيف المتكامل قدر الإمكان للعطاء المنهاجي في مجالات تحليل النصوص، والمقارنة، والمسلك التاريخي، وبناء النماذج السياسية، والتحليل الوظيفي.
6- وبالنسبة إلى مفهوم “وحدة العلاقات الخارجية” فيعني أن الدولة وحدة فعالة تكون نسيجًا متميزًا وفريدًا يؤثر ويتأثر ويفعل وينفعل بمجريات ما يحدث بينها وبين غيرها، من مسارات متعددة متوترة أو مستقرة، أزمة صراعية، تكاملية أو تنافسية أما مفهوم “الإسلام” فمقصود به على المستوى المعرفي مصادر الوحي قرآنًا وسنة وما يخدمهما من مصادر فرعية، وعلى المستوى الحركي خبرة عصري النبوة والخلافة الراشدة، وثمة تفصيلات أخرى بخصوص هذه المفاهيم في أجزاء الدراسة.
المحور الأول: دلالات مفهوم الدولة وسند حركتها الخارجية في الإسلام
كثيرة هي تلك الدراسات التي تصدت لمفهوم الدولة بالتحليل والدراسة، وكثيرة هي مناهج الباحثين في هذا التحليل وتلك الدراسة، ورغم ذلك لا تزال المصنفات تترى تقدم رؤى متعددة في نفس السياق، ويبدو أن الاجتهاد في تقديم هذه الرؤى وأشباهها سيستمر ويتصاعد، خاصة أن تطور المجتمع الإنساني المعاصر مازال يقدم الجديد من نماذج الدولة – إضافة إلى النماذج القديمة- مما لم يحفل به حقل معرفي، سياسي أو غير سياسي، من قبل، أو ربما اهتم، ولكن اختلاف الواقع قدم علامات استفهام جديدة، ومشكلات مستحدثة لم يُتطرق إليها سابقًا ولم يُنظر فيها، وهي بمثابة تحديات لكل من يزعم التصدي لها، بصرف النظر عن انتمائه الثقافي والأيديولوجي.
والواقع أن حال الاجتهاد في تصور نماذج للدولة من المنظور الإسلامي لا يختلف عن ذلك في كثير من تفصيلاته، فمازال الاختلاف سيدَ الموقف في بناء هذا التصور، ومداخله المنهاجية، ومفاهيمه، وقضاياه، وتطوراته، وإشكالياته، إذا ما أُخذ في الاعتبار عدة أمور مهمة.
وأول ذلك: أن بعض الباحثين –من المسلمين ومن غيرهم- مازال يرفض أية محاولة للاقتراب من الإسلام من أية زاوية سياسية، سواء تعلقت بالدولة، أو بغيرها من المفاهيم، انطلاقًَا من إنكارهم وجود أية علاقة بين الإسلام كدين وبين السياسة كواقع وتصور. ويقابلهم في الناحية الأخرى باحثون لا يسلّمون بأي اجتهاد جديد في فقه الدولة الإسلامية، انطلاقًا من إيمانهم بأنه لا حديث بعد حديث الوحي – قرآنًا وسُنة- ولا إضافة بعد إضافة الفقهاء الأقدمين حول المفاهيم السياسية. وبين تفريط الفريق الأول وإفراط الفريق الثاني قد يصعب على فريق ثالث التزامُ جادة الوسطية بينهما والخروج من آفات مواقفهما، ولذلك تداعياته في تأخير – إن لم يكن في منع- اتباع فقه جديد لتأصيل مفهوم الدولة الإسلامية.
والأمر الثاني: أن أحدًا ممن تصدوا للحديث عن المفهوم الإسلامي للدولة كظاهرة سياسية، أو كوحدة للعلاقات الخارجية لا يستطيع الزعم بأن ثمة اتفاقًا عامًا حول المفهوم، فثمة غموض والتباس لا يزالان يغلفان المفهوم في معناه ومبناه، ويجعلان من عملية ضبطه منهاجيًا أمرًا بالغ الصعوبة والتعقيد. ومن هنا اختلفت مذاهب الأقدمين والمعاصرين بشأنه، يستوى في ذلك الذين توقفوا عند مفهوم “الدولة” بصفة عامة، والذين توقفوا عند مفهوم “الدولة الإسلامية” بصفة خاصة.
وثالث الأمور: أنه رغم تعدد اقترابات التنظير السياسي والإسلامي من مفهوم الدولة تعويلاً على القرآن والسُّنة، والإبداعات الفقهية، وتصنيفات مفكري المسلمين الشوامخ، وكتابات الحكمة السياسية، والسياسة الشرعية، وإضافات بعض المعاصرين، إلا أنه –ودون مبالغة في القول- ما تراكم من هذا التنظير حول فقه الخلافة كنظام سياسي للدولة الإسلامية دونه بكثير من تراكم حول هذه الدولة ذاتها، خاصة في حركتها الخارجية، وهذا قد يفسر – ولو جزئيًا- لماذا يصعب الحديث عن نظرية عامة للدولة الإسلامية – رغم كل ما كتب عنها- في الوقت الذي قد يسهل فيه الحديث عن تصورات جزئية-متعلقة ببعض أبعادها- لا ترقى إلى مستويات النظريات بالمعنى العلمي الدقيق.
وآخر الأمور: أنه لم يعد مجديًا –في ظل التطورات المعاصرة في حركة المجتمع الإنساني، وإزاء الوهن الإسلامي- الوقوف بتنظير الدولة الإسلامية عند مفهومي دار السِّلْم ودار الحرب، وما تفرع عنهما من تصنيفات أخرى للدور، وصحيح أنهما قد يشكلان مدخلاً مهمًا في هذا التنظير، إلا أنهما لا ينهضان وحدهما لاستكمال كل مقوماته، ليس لأنهما وليدا ظروف حضارية تختلف كثيرًا عن ظروف علاقات المسلمين المعاصرة بغيرهم، وإنما لأنهما بالأساس من اجتهادات الفقهاء، واجتهادات الفقهاء – وفق شروط الاجتهاد- مبنيّة على فقه الواقع – في ظلال الأصول المنزلة- يتناسب معها وتتناسب معه، وتغيّر هذا الواقع وتطوره من مقدمات التغيير في الاجتهاد والتجديد فيه.
أولاً: في دلالات مفهوم الدولة في اللغة العربية
يقتضي الحديث عن هذه الدلالات التعرض لمعاني الدولة في اللغة، وبيان أهم ما يلاحظ عليها، وتحليل الأبعاد اللغوية للمفهوم على النحو التالي:
أ- معاني الدولة لغويًّا:
تشير مادة “دَوَلَ” في العربية إلى أكثر من معنى، فالدولة العُقبة في المال والحرب، وقيل الدُول – بضم الدال- في المال، بينما الدَولة – بفتحها- في الحرب، وذُكر أنها بالضم اسم للشيء الذي يُتداول به بعينه، في حين أنها بالفتح الفعل، ونُقل أن الدولة بالضم تكون في الملك والسنن التي تتغير وتتبدل عن الدهر، والدولة أيضًا الانتقال من حال إلى حال، والغلبة، والنصر، والدوران، والعودة إلى الموضع الذي بدأ منه، والاسترخاء والقرب من الأرض، والتعلق بالشيء والداهية، والمعاورة، والمبادلة، والتداول.
ب- ما يلاحظ على هذه المعاني:
ويمكن إجماله فيما يلي:
1- رغم أن هذا التعدد يعبر عن قدر من التنوع والتمايز، إلا أنه لا ينفي وجود رابط أساسي بين معاني الدولة، بحكم اشتراكها جميعًا في مادة لغوية واحدة، وهذا الذي يجمع بينها يسمح بردها إلى معنى واحد – جريًا على عادة بعض اللغويين- يؤلف بينها، هو التحول من حال إلى حال بما يستتبعه من تغير وعدم استقرار على وضع بذاته، ولو عرضت جميع المعاني السابقة على هذا المعنى الجامع لوجدناها تعبر عنه بشكل أو بآخر.
2- أن معاني الدولة والمعنى الجامع لها لا تعبر مباشرة عن المفهوم الاصطلاحي السياسي للدولة، وإن تعددت تعريفاته، بيد أن الملاحظة الأولى تمكّن من القول بأن أصل الاشتقاق اللغوي لمفهوم الدولة يفترض أنه ينسحب بشكل ما على المضمون السياسي، ولذلك كان ابن خلدون يصدر عن رؤية ثاقبة حين ربط بينها بقوله: “إن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة، وانتقال من حال إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات، والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق، والأقطار، والأزمنة، والدول، سنة الله التي خلت في عباده”.
3- أن أصل المعاني اللغوية للدولة إذ يتضمن التغير والتحول والتبدل، ويرفض أن تظل على وتيرة واحدة، يختلف في نواحٍ كثيرة عن الاستخدام اللغوي غير العربي للمفهوم، الذي يشير عمومًا إلى أن أمر الدولة في الغالب لا يتبدل ولا ينبغي أن يتغير، بقدر ثباته ودوامه، انطلاقًا من فلسفة سياسية واجتماعية، لا يسلّم بها كثير من الدارسين العرب.
4- كذلك فإن أيًّا من هذه المعاني لا يعبر عن الدولة مباشرة كحقيقة مادية، وإن انطوى تجسيدها عن ممارسات في الواقع الحضاري الذي تنبع منه، ذلك أن الحقيقة المعنوية وراء هذه المعاني، وفي الأصل الجامعة لها، هي الغالبة، وهذا يفترض أمرين، أولهما: أن الاكتفاء بالمدخل الواقعي في الحديث عن الدولة لا ينبغي أن يكون على حساب المدخل المعنوي، فالأول يعبر عن عناصر تكوينها ووجودها، والثاني يكشف عن حقيقتها والتصور الذي ينبني عليه هذا الوجود، والثاني أن علماء اللغة كانوا على بينة من أمرهم إذا استخدموا بعض المفاهيم – دون مفهوم الدولة- في التعبير عن الحقيقة الإقليمية في الدولة دون بقية مقوماتها، مثل مفاهيم الإقليم، والقطر، والأرض، والبلدة، والدار، وغيرها.
5- غالبًا ما يختلط مفهوم الدولة بمفهومي البلد والدار، عند بعض الدارسين في بعض المعاني اللغوية، خاصة أن ثمة التقاءً في بعض هذه المعاني بينها، وهذا قد يكون بابًا من أبواب الخلط بين دلالاتها السياسية، بيد أن وشيجة القربى هذه يجب أن لا تسقط أسس التفرقة بينها، فالتقاء الدولة والدار، وفي معنى التغير من حال إلى حال، يقيده ضرورة فهم التغير في الدولة كعملية دائمة، ولا يحكمه اتجاه واحد، في حين أنه في الدار محكوم بمسار واحد، حيث البدء من وضع ثم العودة إليه مرة أخرى، وقد لا يكون دائمًا، فقد تقتضي العودة الإقامة الإرادية أو الإلزام بها، أو التحول عنها.
كذلك الحال بين الدولة والبلد، فقد يجتمعان في بعض معنيهما على الحقيقة الإقليمية غير أن مادة “بلد” عكس مادة دول لا تحمل إلا معنى لزوم الشيء بعد التحول إليه، والسكون عليه، ولذلك يقال على كل مأوى يستقر به دون حراك بلد.
جـ – تحليل الأبعاد اللغوية لمفهوم الدولة:
العرض السابق يؤكد أن فعل التداول المستبطن في أصل معنى مفهوم الدولة هو حقيقة كلية معقدة التركيب، مكونة من التفاعل بين عناصر أو أبعاد خمسة، المداول، الذي يأتي فعل التداول وفق إرادته ومشيئته، والمداول له، الذي تجيئ عاقبة فعل التداول لصالحه ولمقاصده، والمداول عليه الذي يحيد عنه فعل التداول وتكون آثاره لغير ما يريد ويرغب، والمداول فيه وهو النطاقين الزماني والمكاني وما يحيط بهما من مؤثرات تمارس دورها في تكوين فعل التداول، والمداول به وهو مادة فعل التداول وأداته.
وهذا التفاعل تترتب عليه نتائج ثلاث: الأولى: أن أيًا من العناصر السابقة إنما يكتسب أهميته في تكوين فعل التداول من وجود بقية العناصر بجواره، ومن ثم فوجودها مجتمعة هو المحك الرئيس لقياس هذا الفعل وآثاره، والثانية: أن الدولة بهذا المعنى هي حقيقة كلية في التحليل اللغوي، ومن ثم فاستخدام منطق التحليل الجزئي لأحد عناصر فعل التداول ينبغي أن يكون ترجمة صادقة لهذه الحقيقة، وليس على حسابها، ولن يحدث ذلك إلا إذا ساد منطق التكامل بين كلا المستويين – الجزئي والكلي- في التحليل، وتبقى النتيجة الثالثة: وهي أن القول بغموض مفهوم الدولة، وصعوبة الإحاطة بكل أبعاده على مستويي التحليل السياسي – الجزئي والكلي، سواء نظر إليها كظاهرة سياسية، أو كوحدة فاعلة في العلاقات الخارجية، أو كشخص من أشخاص القانون الدولي، هذا القول إنما هو امتداد طبيعي لغموض المفهوم في الاستخدام اللغوي.
ثانيًا: دلالات مفهوم الدولة في الأصول المنـزَّلة
تعد مادة دول من المواد نادرة الورود في الأصول – قرآنًا وسنة- إذا ما قورنت بمواد أخرى كثيرة الورود مثل حكم، سلط، خلف، ملك، أو غيرها من المواد التي تتضمن دلالات سياسية وكثر الحديث عنها في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة، وهو ما سيتضح في التناول التالي:
أ- معاني مادة دول في القرآن والسنة:
يدخل ضمن هذه المعاني:
1- ما استخلصه علماء التفسير من الفعل المضارع – نداولها- في سورة آل عمران: آية 140، في قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾، فذهب بعضهم أن المقصود تصريف أيام النصر والهزيمة وتقليبها بين المسلمين والكافرين كما حدث في يومي بدر وأُحد، ورأى آخرون أن التداول هو تغير الدنيا وأحوالها بين الناس فلا يستقر أثر من آثارها، وعند البعض الثالث هو المداورة والكَرَّة، بحيث تكون الدولة مَرَّة للمبطِل وأخرى للمحِق، ومال فريق رابع إلى أن التداول هو الشهرة والملازمة؛ إذ يداوله بمعنى يلزمه حتى يشتهر به.
2- وما استُنبط من الاسم دُولة – بضم الدال- مفردًا في بعض النصوص، وعلى هيئة الجمع في بعضها الآخر. أما المفرد ففي قوله تعالى: ﴿كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً﴾ (سورة الأحزب: آية 37) والمقصود الفيء وضرورة تصريفه في وجوهه الشرعية، بعيدًا عن تبادله وانتقاله من يد إلى أخرى بين الأغنياء، كي يصرفه هذا مرة في حاجات نفسه، وهذا مرة في أبواب البر وسبيل الخير، وقيل إن الله أنزل حكمه في الفيء، كي لا يقسمه الرؤساء الأغنياء والأقوياء فيما بينهم دون الفقراء والضعفاء. وأما على هيئة الجمع فكما جاء في الحديث النبوي: “إذا كان المغنم دُوَلاً، والأمانة مغرمًا….”، وقد ذكر ابن الأثير أن دُوَلاً جمع دُولة بضم الدال، ما يداول من المال فيكون لقوم دون قوم.
3- وكذلك ما فهم من لفظ الدَوْلة، بالفتح – في الحديث النبوي: “إذا ظُلم أهل الذمة كانت الدوْلة دولة العدو….”، إذ ذكر أن المراد من الدولة الغلبة والنصر على المسلمين عاقبة لهم على ظلمهم، وقريبًا من ذلك الحديث الذي ذكر بابًا من أبواب هذا الظلم، والذي جاء فيه: “كيف أنتم إذا لم تجتبوا دينارًا ولا درهمًا، فقيل: وكيف ترى ذلك يا أبا هريرة – راوى الحديث…. قال: تنتهك ذمة الله، وذمة رسوله، فيشد الله عز وجل قلوب أهل الذمة، فيمنعون ما في أيديهم….”.
4- وأخيرًا ما نقل من أن معنى أُديلَ: الغلبة والنصر للكافرين في الحديث النبوي: “السلطان ظل الله في الأرض يأوى إليه كل مظلوم من عباده، فإن عدل كان له الأجر، وكان على الرعية الشكر،…. وإذا أُخفرت الذمة أُديل الكفار”.
ب- أصل المعاني العامة السابقة:
إذا ما ُتبع مسلك اللغويين في رد معاني مادة دول إلى أصل جامع لها يمكن القول: إن الدولة في الأصول المنـَزَّلة لا تعدو أن تكون “سنة من سنن الله في الاجتماع الإنساني، إذ يصرف أحوال الناس ويقلبها وفق أعمالهم ابتلاء وتمحيصًا”، وهذا المفهوم ينطوي على عدة عناصر:
1- أن الدولة سنة إلهية يجريها الله وفق قوانينها، ولأسباب يعلمها، وهذا ما ذكره الألوسي في تفسيره، ووافقه الشيخ محمد عبده إذ ذكر في تفسير المنار: “إن تدول الأيام سنة من سنن الله في الاجتماع البشري، فلا غرو أن تكون الدولة مرة للمبطِل ومرة للمحِق، وإنما المضمون أن تكون العاقبة له، وإنما الأعمال بالخواتيم”.
2- وأن هذه السُّنة مجالها الاجتماع البشري، فهو وجهتها، ويتوقف سريانها على التقاء مجموعة من الناس تربطهم وشائج اجتماعية وعلاقات متعددة، هي مناط التصريف والتقلب اللذين تفرضهما السُّنة الإلهية فيهم، فإذا بها لهم حينًا، وإذا بها لغيرهم حينًا آخر.
3- وأن الاجتماع البشري – محل سريان فعل التداول- لا يثبت على حال واحد، وإنما تتقلب به الأيام، شدةً ورخاء، وفقرًا وغنًى، وهزيمة ونصرًا، وسقوطًا ونهوضًا، حسب التعانق مع سنة الله في التداول، أو الصدام معها.
4- وأن تقلب أحوال الاجتماع إنما هو نتاج أعمال أفراده، فلا تكون الدولة لفريق دون آخر جُزافًا، وإنما تكون لمن عَرَف أسبابها، ورعاها حق رعايتها، فلكل دولة سبب، وإذا كانت الدولة منوطة بالأعمال التي تفضي إليها، كالاجتماع والثبات، وصحة النظر، وقوة العزيمة، وأخذ الأهبة، وإعداد ما يستطاع من القوة، فيجب القيام بهذه الأعمال وإحكامها أتم إحكام، كما ذكر الشيخ محمد عبده في تفسيره.
5- أن الابتلاء بصوره كافة هو في المحصلة الأخيرة غاية الدولة، وتقليبها بين الناس، مؤمنهم وكافرهم، حتى يحدث التوازن، وليبقى الهاجس دائمًا ليحدث التجدد، وتحدث عملية الفرز الإيماني، باستمرار ويظهر المسلمون من خلال التجربة ليكونوا شهداء على الناس.
جـ – عناصر فعل التداول في الأصول المنـَزَّلة:
تكاد هذه العناصر تتطابق ومثيلتها في فعل التداول في اللغة، وإن كانت الأصول تخلع عليها طبيعتها الخاصة، ومضامينها المميزة:
– فالمداوِل هو الله سبحانه وتعالى، بموجب تفرده، ووحدانيته في تصريف أمر مخلوقاته للتمحيص والابتلاء، بحيث يكون حُسن العاقبة في النهاية للذين يتوافقون مع سُننه، ويقفون عند أحكامه في أوامرها ونواهيها، ويكون سوء العاقبة لمن تعداها، أو اعتدى عليها، وذلك بعض ما يتبادر فهمُه من قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ (سورة آل عمران: آية 140).
– والمداوَل له هم البشر الذين تستحكم لهم عوامل الدولة وأسبابها، ويمتلكون زمام بقائها، وسبل الله في استدامتها لهم، فلا غرو أن يرثوا الغلبة والظهور في الأرض، ولو حتى حين، ما دامت تستقيم طريقتهم، ويعتدل نهجهم على هدى المنهج الإلهي: ﴿إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (سورة الأعراف: آية 128).
– والمداوَل عليه هم من دارت عليهم الأيام، فلم تستحكم لهم عوامل الدولة وأسبابها ولم يمتلكوا ناصية أمورها، أو امتلكوها ولكنهم فرطوا فيها فذهبت إلى غيرهم. وهنا يجب ملاحظة أن تبادل الأدوار والموانع بين المداوَل له والمداوَل عليه كسُنّة إلهية محكومٌ بدوره بسنن أخرى مثل: التدافع الإلهي، والصراع بين الحق والباطل، والتمكين في الأرض، والابتلاء والفتنة، وكذلك ملاحظة أن إبطاء التعجيل بتداول الأيام بينهما لا تحكمه مدة معلومة، وإنما تسيّره سنن ثابتة، وحيثما تحقق لها محل يحدث التبادل، وإلا انتفى وسقطَ.
– أما المداوَل به فيشمل كل إمكانات التداول المتاحة، وهذه راجعة في الابتداء والانتهاء، والاختيار والمشيئة والأشكال إلى المداوِل سبحانه، مع ملاحظة أن المداوَل به يربط بين المداوَل له وبين المداوَل عليه من حيث ينقلب بينهما، مرة لهذا، ومرة لذاك، فحقيقته تظل كما هي، وإنما التغير يصيب أسبابه وأطرافه، فالذي يؤثر الحفاظ عليها لصالحه تكون الدولة له، والذي يختار تبديدها تكون الدولة عليه.
– وأخيرًا فإن المداوَل فيه هو المجال الذي تُمضي فيه الإرادة الإلهية سُننها في تصريف أسباب الدولة بين المداوَل له والمداوَل عليه، من خلال أحداث التفاعل مع عنصر المداوَل به، وذلك في بيئة زمنية ومكانية محددة، ما دامت ظروف الدولة مهيئة، وأسبابها قائمة، وأطرافها موجودة.
هذه الأبعاد الخمسة تقود إلى مجموعة من الاستنتاجات أبرزها ما يلي:
1- أن محاولة البحث عن مفهوم للدولة في النصوص المنـَزَّلة من منطلق التنظير السياسي المعاصر بإشكالاته وإسقاطاته وتأويلاته غير المنهجية، تظل محاولة مستهجنة، ووضعًا للأمور في غير نصابها، وذلك أن المفهوم له خصوصيته في هذه النصوص، وله طرق تأويله التي لا تحتمل أن تقحم عليها تأويلات لا تقبلها، خاصة إذا كان باب الدخول بها – أي التأويلات – على غير نهج ما أصله علماء المسلمين في فهم القرآن والسنة.
2- أن البدهية السابقة لا تنفي أن يكون ثمة التقاء في بعض المعاني بين دلالات المفهوم في الأصول وبين دلالاته السياسية، خاصة تلك التي اجتهد فيها الفقه السياسي الإسلامي، معتمدًا على مسالك بعض علماء السلف في إسقاط البعد السياسي على مادة “دول” في بعض النصوص كما فعل الطبري في تفسيره لآية: ﴿وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ (آل عمران: 140).
3- أن إضافة خبرة السيرة النبوية إلى ما قدمه القرآن والسنة في تأصيل مفهوم “الدولة” مما لا غنى عنه في هذا السياق، ليس فقط لأن خبرة السيرة هي مجال التطبيق العملي لكثير من أحكام التشريع الإسلامي في السياسة والحكم وفي غيرها، ومجال الإضافة التشريعية وفق ما فصّل علماء المسلمين في علاقة السُّنة بالقرآن، وإنما لأن السيرة هي أيضًا التي تخلع على مفهوم الدولة الكثيرَ من الأبعاد السياسية التي لم تظهر حقيقتها كاملة في الأصول المنـزلة.
4- أن إطلاق التعميمات المشوهة حول حديث القرآن والسنة عن مفهوم “الدولة” من قبيل ادعاء أنه ليس ثمة مجال لهذا الحديث أصلاً، أو ادعاء صعوبة ذلك وعدم إدراك خطوط واضحة تزيل غموض المفهوم وتحقيق مناطه، أو اختزال المفهوم القرآني للدولة ليرادف معنى الثروة، أو ما تنوقل من السلع، مثل هذه التعميمات وأشباهها – ودون دخول في تفاصيل للردّ على كل منها – تغفل عن فهم طبيعة رسالة الإسلام الحضارية في توجيهاتها إلى البشر كافة لتضبط – ضمن ما تضبط – جانب حياتهم السياسية، تمامًا كما تضبط بقية الجوانب، وتغفل في الوقت ذاته عن فهم طبيعة النظرة السياسية في الإسلام.
ثالثًا- الدلالات السياسية لمفهوم الدولة الإسلامية
إذا ما أُخذ في الاعتبار الضابط المنهجي الخاص بضرورة الانطلاق من الربط بين الدلالات اللغوية، والدلالات الأصولية، وتوظيفها جميعًا في استنباط الدلالات السياسية لمفهوم الدولة، يمكن القول إن المفهوم السياسي للدولة الإسلامية لا يعدو في حقيقة الأمر أن يكون:
“الإطار النظامي الذي تجسِّد من خلاله الجماعةُ المسلمة استخلافَها السياسي لتحقيق شهودها الإيماني في حراسة الدين وسياسة الدنيا به، بين أعضائها، وبين غيرها من الجماعات الأخرى”.
وبنظرة عامة إلى هذا التعريف الاجتهادي يمكن استخلاص أهم عناصره على النحو التالي:
أ- أن الدولة الإسلامية هي إطار نظامي:
بكل ما يحويه لفظ “نظام” من معاني التأليف، والترتيب، والاتساق، وقوام الأمر وعماده، والطريقة، والسيرة، والانسجام وغيرها من معان يجمعها معنى عام هو الترتيب والترابط، ليصير من خلالها الإطار النظامي هو: كل ما من شأنه تحقيق التوافق والتعاضد من مبادئ وقوانين وعادات ومؤسسات تقوم عليها الحياة في جماعة معينة، بهذا المعنى يتضمن الإطار النظامي خمس دقائق:
1- أنه ذريعة الجماعة المسلمة في التعبير عن استخلافها السياسي، بشكل منظم يربط بين ما تعلمه عن مقاصد الشرع وبين المتاح لديها من وسائل لتفعليها، بما لا يتعارض وهذه المقاصد؛ لأن شرعية الوسائل ينبغي أن تكون من شرعية المقاصد.
2- أن هذا الإطار ما دام نتاج الجماعة في النهاية فهو اجتهادي، وعلى قدر توظيفها في معرفة المقاصد وإرادتها في العمل على مقتضاها يكون توفيقها في بناء إطارها النظامي، والاجتهاد بطبيعته يرتبط من حيث الإمكانات بحدود ما في الوسع حيث “عليكم بالأعمال ما تطيقون”، ويرتبط من حيث الحيوية بالتجديد الحضاري المستمر له، ليضبط حركة الفاعلية في الواقع المعيش.
3- أن صفة النظامية في الإطار تنفي أن يكون الاستخلاف السياسي خبط عشواء، أو ارتجالاً، وهذا يضمن للجماعة المسلمة أن تكون على بينة من أمرها ومن خطوات حركتها، وأن تبعد بالتالي عن التخبط والتردد في هذه الحركة، وهذا يكفل لها الشجاعة في مواقفها المختلفة، والقدرة على اتخاذ القرارات فيها وتحمل تبعاتها، ويوجد لها معايير واضحة لتقويم الحركة ومراجعة نفسها.
4- أن الإطار النظامي هو التعبير الرسمي أو القانوني لاستخلاف الجماعة المسلمة، وقد تبلور في حقيقة مجردة، لا ترتبط بزمان ومكان محدديْن، ولا تتقيد بإقليم أو حدود بذاتها، وإنما ترتبط بالزمان والمكان اللذين يتمخض فيهما وجود إرادة سياسية للجماعة المسلمة، وتوافر القدرة لديها عن إيجاد الأدوات النظامية – بما فيها الدولة- المعبرة عن هذه الإرادة.
ب- الجماعة المسلمة هي المسئولة عن بناء الدولة:
فهي حلقة الوصل بين الإطار النظامي وبين الاستخلاف السياسي، وأداة إيجاد الفاعلية بينهما والحفاظ عليهما، ومع أن الحديث عن الجماعة المسلمة يثير قضية الاختصاص البشري للدولة الإسلامية – وهو ما سيرد لاحقًا- إلا أن ما يقتضيه المقام هو إبراز موقع هذه الجماعة من تعريف الدولة، وهنا تبرز الأمور التالية:
1- أن اصطباغ الجماعة بالإسلام هو الذي يميزها عما عداها من الجماعات الأخرى، فالإسلام هو الحد الفاصل الذي يقدر من يستحق أن ينتمي إليها (الجماعة)، أو بالأحرى ينتمي إلى منهاجها الإلهي الذي تقيس من خلاله حركتها في الحياة، فيكون له حق التمتع بأُخوتها ورعايتها وعصمة دمه وماله وعرضه: “من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته” – الحديث.
2- أن لفظ الجماعة يفترض قدرًا من التجمع أو التوحد بين أعضائها، التوحد الذي لا يعني المماثلة أو الانصهار الكامل الذي يلغي فوارق اللغة، والعرق، واللون، والجنس، والسِّن وما عداها، بل الذي يقفز فوق كل هذه ليربطها برباط الأُخوة والتراحم والتوادّ: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ (سورة الحجرات: آية 10)، والتعاضد والتناصر: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى” – الحديث، وينفي الظلم والتضييع “المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يسلمه….” – الحديث.
3- أن الجماعة المسلمة تقوم من حيث تتوحد على تنوع وظيفي في أداء الواجبات، واكتساب الحقوق، بحكم تعدد مهام الاستخلاف السياسي الذي ينبني على طرفيه الحاكم والمحكوم، دون تفرقة في تحمل التكاليف إلا بقدر مقام الأمانة في كل تكليف “ألا كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته….” – الحديث.
4- كما أنها تقوم على أصل الحياة في الكون، الذكر والأنثى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ (سورة الحجرات: آية 13) لتحقيق التناغم والتواصل والعطاء المتبادل بينهما على أسس من السكينة والمودة والتراحم والبر، واعتبار النساء شقائق الرجال، وأن مجالات العطاء مفتوحة لكل منهما وفق ضوابط شرعية تحفظ له نوعه وكرامته، فمن أحسن فله الحسنى، ومن أساء فعليها: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ. وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (سورة الروم: الآيتين 20-21).
5- كذلك فالجماعة المسلمة تقبل أن يتعايش معها وبينها أفراد وجماعات أخرى غير مسلمة، شريطة أن يظل لها تميزها الإيماني غير العنصري، ويظل لهؤلاء وأولئك شرعية المقام بين ظهراني أبنائها، ولذلك تفصيل لاحق.
جـ – الاستخلاف السياسي هو الغاية الوسيطة للدولة:
وهذا يعني أن الاستخلاف يجمع بين وصفي الغاية والوسيلة معًا، فهو غاية الجماعة المسلمة من بناء إطارها النظامي، وهو وسيلتها في تحقيق شهودها الإيماني، لذلك يتصف الاستخلاف بالآتي:
– أنه جزء من سنة الله تعالى في الاستخلاف العام، الذي اختَصَّ به الإنسان وحده:
﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً﴾ (سورة الأحزاب: آية 72)، ليستعمر الأرض بالحق: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ (سورة هود: آية 61) بيد أن للاستخلاف السياسي شروطه وأسسه، ولا يتحقق إلا لمن ملك إمكانات وراثة الأرض من الأفراد والحكومات والدول، وهو في نظر الإسلام ضرورة شرعية وعقلية.
– وهو كحقيقة كلية ينهض على عناصر ستة: المستخلَف – بفتح اللام- وهو من ارتضته الجماعة خليفة عليها، والمستخلِف – بكسرها- وهو الرعية أو المحكومون، والمستخلف فيه وهو مجال الاستخلاف ونطاقه الزمني والمكاني، والمستخلف له وهو المنوط به تلقى عوائد الاستخلاف، وهو الجماعة المسلمة حاكمًا ومحكومًا، والمستخلف به وهو وسائل الاستخلاف وأدواته وسلطاته، فكأن الاستخلاف السياسي راجع في النهاية إلى جماعة المسلمين، لتظل الرقيب الدائم لشرعية الاستخلاف وشرعية ممارسة السلطة، وشرعية إنجازها.
– وأن مجرد القيام به لا يعني انفراد الجماعة المسلمة به مطلقًا دون غيرها؛ لأنه له سننه كما سبق، وهي التي تفصل بين الشرعي من الاستخلاف الذي يقوم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعمل الصالح: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾ (سورة الأنبياء: آية 73)، وبين غير الشرعي من الاستخلاف الذي ينهض على الفساد والظلم والأمر بالمنكر: ﴿فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتًا وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَارًا﴾ (سورة فاطر: آية 39).
ثم إن الاستخلاف السياسي وكالة عن الجماعة المسلمة، التي لا يعدو أن يكون استخلافها ذاته وكالة عن الله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: 30) فكأن الخليفة نائب عن كل فرد فيها، وتظل له هذه النيابة ما توافرت فيه أركان الرضا والبيعة والطاعة في المعروف، وإلا فللجماعة أن تسحب منه وكالتها إن خرج على شرائط هذه الأركان.
د- ضرورة الإطار الإقليمي للدولة:
فلابد للإطار النظامي القانوني من قاعدة مكانية ينطلق منها، وتعلن الجماعة المسلمة عليها وفيها هويتها الحضارية، وتحدد لغيرها من الجماعات من أين تبدأ حركتها في التعامل معها، وما نصيبها من خريطة الأرض الذي لا تستطيع أن تفرط في أي جزء منه، بكل ما يشمله من يابسة، وماء، وهواء، وكيف يكون الاستقرار على هذا الحيز الإقليمي أحد شروطها في اكتساب جنسية الدولة، خاصة بالنسبة لغير المسلمين، ولكل ذلك تفصيلاته اللاحقة.
هـ – غاية الدولة هي تحقيق الشهود الإيماني:
إنه الهدف الذي يجب أن تحشد من أجله الجماعة المسلمة طاقاتها لتكون الأمة الوسط، الشاهدة بإيمانها على الناس كافة، شهادة العدل والخير والقدوة الحسنة، وشهادة الإبلاغ والدعوة إلى الله والجهاد في سبيلها، وشهادة إعلامٍ بأن دين الإسلام هو دين التوحيد الخاتم: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ (سورة البقرة: آية 143) وشهادة إقرار بأن كل ذلك جهاد ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ﴾ (سورة الحج: آية 78)، فكان للشهود مقتضاياته في:
– التجرد من الغرض والهوى حتى تكون الشهادة صحيحة عادلة لله، بصرف النظر عن آثارها، فأداؤها واجب في كل حال، سواء وقع الحق لصاحبها أو صادف غيره ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ (سورة النساء: آية 135).
– القيام بالشهادة على وجه العدل والقسط، فالعدل قرين الحق وأدائه، ولو كانت وجهته ذاهبة إلى ظالم: ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ﴾ (سورة المائدة: آية 2) ذلك أن العدل هو الأليق بالمسلم والأوجب ﴿اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ (سورة المائدة: آية 8).
– الحضور لا الغياب عن الفاعلية التي تشارك فيها الجماعة المسلمة غيرها في الفعل الحضاري. إنه الحضور الذي يثبت أحقيتها في إقامة الحجة الإيمانية على غيرها، وفي الحديث النبوي: “يجيئ النبي يوم القيامة ومعه الرجلان وأكثر من ذلك، فيدعى قومه فيقال لهم: هل بلغكم هذا؟ فيقولون: لا، فيقال له: هل بلغت قومك؟ نعم، فيقال: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيدعى محمد وأمته، فيقال لهم: هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون: نعم. فيقال: ما عملكم؟، فيقولون: جاءنا نبينا فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا، فذلك قول الله عز وجل: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ (سورة البقرة: آية 143).
– العلانية والظهور بعيدًا عن السرية والكتمان، ولا مجال معهما للتراجع أو النكوص أو التهرب من الشهود، في القول والعمل، وفي العقيدة والعبادات، وفي الرأي والتفكير، وفي المنهج والسلوك، ومع المسلم وغير المسلم؛ إنها الإيجابية التي يفرضها إعلام الناس جميعًا أن رسالة الإسلام إليهم جميعًا: ﴿إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ (سورة الأعراف: آية 158)، وفي الحديث: “وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون” – الحديث.
– الأمانة في الشهادة، بالبعد عن الزور: ﴿وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾ (سورة الفرقان: آية 72) والنأي عن الريبة والاتهام بالباطل “دع ما يريبك إلى ما لا يريبك” – الحديث، وتجنب خصال النفاق، والتي منها الكذب في الحديث، والغدر في العهد، والخلف في الوعد، والفجور في الخصام، فضلاً على التوقف عند الحلال والحرام واتقاء الشبهات “…. ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي حول الحمى يوشك أن يوقعه”.
و- جوهر الشهود الإيماني ومضمونه هو حراسة الدين وسياسة الدنيا به:
فمن حراسة الدين أن تساس الدنيا به، ومن سياسة الدنيا أن تحرس الدين؛ لأن السياسة بالدين تضمن لها منهجًا تؤسس عليه صلاحها، وتربط به بين الإيمان وبين العمل الصالح، والدين بالسياسة تبقى له واقعيته ومعايشته للحياة وتحفظ له قواعده.
1- وحراسة الدين لا تقف عند مجرد الوجه المادي للحراسة بالقوة والجهاد، بل تتسع لأكثر من ذلك، فمن الحراسة أن تعي الجماعة المسلمة أن التزام دولتها بالدين قد يجلب عليها حفيظة العدوان، ومحاولات التحرش الدائم لفتنتها عن دينها: ﴿وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ﴾ (سورة البقرة: آية 217)، ومن الحراسة أن يدرك كل فرد مسلم أنه يقف مع إخوانه – بصرف النظر عن موقعه- على ثغر من ثغور الإسلام الواجب حراسته، والذود عنه، والمهم الاستقامة على هذا الثغر في النهاية: ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ﴾ (سورة الشورى: آية 15)، ومن الحراسة أخذ الحذر الدائم من منطلق اليقظة والاستعداد للظروف الطارئة وبعيدًا عن الخوف والقلق: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ…. ﴾ (سورة النساء: آية 71)، وفي الحديث: “لا يُلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين” – الحديث، ومن الحراسة عدم الانغلاق والانكفاء على الذات: “لا يمنعن أحدكم رهبة الناس أن يقول بحقٍّ إذا رآه، ويذكر بعظيم، فإنه لا يقرّب من أجل، ولا يباعد من رزق”، ومن الحراسة أخيرًا النـزول عند تشريع الله في استمرار حقيقة الجهاد فرضًا دائمًا على الكفاية أو العين، حسب ما فصَّل الفقهاء، ما لزم الجماعة المسلمة الأمر بإعداد القوة: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ…. ﴾ (الأنفال: 60) وما وجد دائمًا من يتربص بها الدوائر “وإذا استنفرتم فانفروا”.
2- أما سياسة الدنيا بالدين فتعني أن يدار التعامل السياسي في وجهتيه الداخلية والخارجية على نهج الدين قيما ومقاصدَ وهذا يفترض:
– أن تعطى الوظيفة السياسية للدين في الدولة الإسلامية الحق له في أن تكون له الكلمة الأولى في كل ما له صلة بالنشاط السياسي، فلا مجال لتحييده، أو تحجيمه، أو قصره على مجرد الأمور التعبدية التي تحكم علاقة الفرد بخالقه من صلاة، وصيام وزكاة، وحج وغير ذلك من العبادات.
– وأن يكون جماع معنى السياسة التي تصب في إطار القيام بما يصلحه هو جوهر رسالة الإسلام؛ ومن ثم فأية سياسة داخلية أو خارجية – بصرف النظر عن محتواها- توافق قيم الدين وتسعى إلى تحقيق مقاصده ومصالح العباد في المعاش والمعاد فهي سياسة شرعية وإن لم ينطق بها الشرع، على ما فصّل ابن قيم الجوزية في “إعلام الموقعين….”.
– وأن المسوس بالدين – وهو الدنيا- يجب فهمه على ضربين، أحدهما تصير الدنيا فيه مرادفة للحياة القصيرة التي تنتهي بانتهاء الآجال، وهنا يتأكد الوجه الزمني للحياة، والثاني تصير فيه الدنيا هي المعمورة، وهنا يتأكد الوجه المكاني للحياة، وكأنه مطلوب من الجماعة المسلمة أن تسعى لجعل الحياة مهما كان الآجل فيها، وأينما وجدت مقوماتها، مسوسة بالإسلام، وأن تعي أنه على قدر سعيها هذا يكون شهودها الإيماني على الخلائق، وسيكون حسابها عليه في الآخرة.
أخيرًا: إن للشهود الإيماني وجهتين بشريتين:
الوجهة الأولى: خاصة بالمسلمين، الذين يقيمون على إقليم الدولة الإسلامية، والذين يقيمون خارجه، وهذان الضربان يستويان. وإن اختلف الموقع بينهما مكانًا ومكانةً – في المخاطبة بالتعاون والاجتهاد والتضامن لاكتساب أهلية الأمة الوسط، ولتحقيق شرائط الشهود، ووظائفه بينهم كمقدمة لتهيئتها بين غيرهم، وكل مجال يجسد فيه المسلمون فيما بينهم حقيقة العبادة لله والعبودية هو من هذه الشرائط، أيا كان مجال العبادة ومقامها، ومتطلباتها، وعندها يتحقق الوعد الإلهي: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ (سورة النور: آية 55).
أما الوجهة الأخرى: فيجسدها غير المسلمين الذين يريد الإسلام أن يكونوا مادة دعوته والمخاطبين بها، وهؤلاء أيضًا على ضربين: الذين يقيمون بين المسلمين يتمتعون بحماية الدولة بموجب ذمتهم أو أمانهم، وهؤلاء يُدعون إلى الإسلام، فإما قبلوه، وإلا بقوا على ما هم عليه من دين وفق الضوابط الشرعية، والضرب الآخر، الذين تفصل بينهم وبين المسلمين ديار يسكنونها غير ديار المسلمين، وفي معاملة الضربين معًا قوله تعالى: ﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (سورة الممتحنة:الآيتين: 8-9).
رابعًا: أسس وجود حركة خارجية للدولة في الإسلام
العرض السابق لدلالات مفهوم الدولة بأبعادها المختلفة يوحي بأن حركتها الخارجية لا تنطلق من فراغ، وإنما وراءها أسس كثيرة، فما هي أهم هذه الأسس؟ وكيف تسند وجود هذه الحركة الخارجية؟
1- الاستجابة لنداء الفطرة في الوجود السياسي:
فحقيقة الدين مغروسة في طبائع الفطرة الإنسانية، كما أن الحاجة إلى الأعلى الذي تؤول إليه المرجعية النهائية في تفسير حقائق الوجود وتدبير أمور العيش والارتزاق والأمن تسوق الإنسان غالبًا إلى البحث عن نموذج لهذا الأعلى لاتخاذه ملجأً في الحياة، هذه النظرة تحدث عنها الفكر السياسي منذ القدم، ولذلك قيل إن الإنسان مدني بطبعه، لحاجته الدائمة إلى الاجتماع، وأن تنظيم علاقته بالمحيطين به يستتبع بدوره وجود وازع سياسي يحفظه من نوازع الاختلاف والصراع والأنانية والخوف، من هنا يبدأ تكوين المجتمع السياسي، وانقسامه بالتالي إلى طرفين تقوم عليهما حركة الوجود السياسي.
فالفطرة إذن هي التي تربط الحاجة إلى الدين بالحاجة إلى الاجتماع بالحاجة إلى السلطة، ولهذا دلالته في تبرير وجود حركة خارجية للدول بما فيها الدول الإسلامية من وجوه:
– أحدها: أن الدين الإسلامي إذ يلبي نداء الفطرة في الحاجة إلى الأعلى يؤسس الاجتماع الإنساني والكيان السياسي الذي ينتظمه – الدولة- في التوجه العقيدي والسياسي، بل والحضاري كله، على التوحيد من حيث المصدر، ومن حيث المآل.
– والثاني: أن الأمور كما تؤول إلى الفوضى إذا لم يكن لها نظام محدد، ونهج واضح، فكذلك الاجتماع مفضٍ إلى الفوضى الشاملة ما لم يجد الوازع السياسي الذي يقوده ويوجهه، ويقيم تفاعلاته الداخلية والخارجية على أسس ثلاثة: كتابٍ يبين هذه التفاعلات وتلك العلاقات، وميزانٍ يقيس العدل والحق فيها، وحديدٍ – أي قوة- يحمى الكتاب والميزان بما فيه من بأس شديد، ومنافع كثيرة للقائمين على كليهما: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ (سورة الحديد: آية 25).
– والثالث: أن الدين إذ يتوافق مع الفطرة البشرية وميلها إلى الاجتماع لا يقبل أن يفضى ذلك إلى تخاصم وتدابر وقطيعة بين الناس، أو بين ما يقيمون من أطر نظامية –دول- وإنما ينشد من الاجتماع وصوره التعارف والتقارب: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (سورة الحجرات: آية 13)، ولا يتحقق التعارف إلا بالتواصل وتبادل المنافع (لا المضارّ) والمصالح (لا المفاسد) وإتاحة الفرصة لكل البشر –على قدم المساواة- ليقدموا مساهماتهم، فإذا بدرت بادرة خلاف بينهم عادوا إلى كلمة سواء الحق ورفع الظلم: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ….﴾ (سورة البقرة: آية 213).
– والرابع: أن الدولة محصلة الاجتماع الإنساني لا يريدها الدين أن تكون مجرد مخزن إشباع للحاجات المادية وغير المادية داخليًّا، إن ذلك جزء من رسالتها في أداء الأمانات إلى أهلها وتصريفها بالعدل، أما الجزء الآخر الأسمى والأعلى فيكمن في أداء أمانة تبليغ الدعوة إلى غيرها من الأمم والدول، وكأنما يريد الدين أن تكون الإنسانية كلها على قدم المساواة في العودة إلى الأصل السويّ في الخلقة والنشأة والطريق، ويرفض من المؤمنين به أن يكون موقفهم من محاولات طمس هذا الأصل أو الخروج عليه موقفَ التراجع أو الانسحاب.
2- نظرة الإسلام إلى واجب المسلم في الحياة:
فالمسلم في نظر الإسلام ذو تكليف ومسئولية وصاحب رسالة يلزمه الإسلام أن يستعد لها بتوازن يحصنه من مرضين: الاستغراق في ماديات الحياة، والغلو في زهدها واحتقارها، فكلا المرضين يأخذ المسلم بعيدًا عما يريده الإسلام منه في:
– أن يكون على بصيرة بالفعل المختص بالإنسان في عمارة الأرض وبالعدل وعبادة الله وخلافته فيها، وذلك – كما يقول الأصفهاني- هو “الاقتداء بالباري سبحانه على قدر طاقة البشر في السياسة باستعمال مكارم الشريعة التي هي الحكم والقيام بالعدالة بين الناس والحلم والإحسان والفضل….”.
– وأن يفقه أن سعيه لنشر نموذجه القيمي داخل في سعيه الشامل في الحياة وانبثاق منه، في تعانق وتكامل وتواصل، إنه سعى لا حظ فيه لعجز أو تعطيل، مهما صغر السعي وضعف، لأنه يعلم وينبغي أن يعلم أنه مطالب بالعمل الصالح، والنظر إليه على إنه من قبيل الصدقات الدائمة والواجبة الأداء في كل حين انطلاقًا مما جاء في الحديث: “على كل مسلم صدقة….” (رواه مسلم عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده).
– وأن يحرص على أن يكون مع أخيه المسلم جبهة قوية متماسكة تتمخض عنها أمة الدعوة: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ﴾ (سورة التوبة: آية 71)، ولعل من مقدمات بناء هذه الجبهة رفع الظلم بين الإخوة سواء وقع منهم أو وقع عليهم: “انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا….” (البخاري عن أنس رضي الله عنه).
– وأن يعلى قيمة النصح دائمًا، مراعيًا أنه يتسع لكل ما فيه نصح لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، وأنه ليس عليه في بذل النصح أن يقع في دائرة الحرج: ﴿لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ﴾ (سورة التوبة: آية 91).
– وأن يحسن فقه التعامل مع غير المسلمين، وأسس العدل في السيرة معهم، والنظر إليهم، ونهج الدعوة فيهم، والمسلك حال قبولهم منطقها، وحال رفضهم إياه وقيم علاقات السلم بينهم وبين المسلمين، وكذلك قيم علاقات الحرب، وحدود الحسنى، والتسامح، وكف الأذى، ورد العدوان عنهم ومنهم، وغير ذلك مما ينبغي معرفته في هذا المجال.
3- عالمية الوجه السياسي للدعوة:
وعالمية الدعوة ليست في حاجة إلى مزيد من البراهين وقد سبق التعرض لذلك، ويكفى هنا تسليط الضوء على بعض دلالات هذه العالمية التي تؤكد وجود واجب خارجي على الدولة الإسلامية ومن ذلك:
– أن إنزال الدعوة بين العرب وبلغتهم لا يعد حاجبًا يمنع امتدادها إلى غيرهم من أمم الأرض، وشعوبها، ودولها، وإلا لاتهمت في عالميتها، ولذلك تبدو بلاغة بعض علماء المسلمين حين يقول أحدهم: “إن الوحي كله متلوًا وغير متلو إنما أنزل بلسان العرب، ولا يرد على هذا كونه r بعث إلى الناس كافة، عربًا أو عجمًا وغيرهم، لأن اللسان الذي نزل عليه به الوحي عربي، وهو يبلغه إلى طوائف العرب، وهم يترجمون لغير العرب بألسنتهم”.
– أن العالمية تمنع أن يحتكر جدارة الإيمان دولة بعينها، إلا نقدر سبقها ومسارعتها في توكيد حقيقة هذا الإيمان، وإلا سقطت معايير العدل في الثواب والعقاب، والجنة والنار، بين المؤمن بالدعوة وبين الكافر بها، ولضاقت حدود الإيمان، وجمدت عند طائفة من البشر، ولكتب على طائفة منهم خلود الإيمان واستحقاقه، وعلى بعضهم الآخر خلود الكفر واستقراره، وإنما يتفاوت الداخلون في الدعوة بتفاوت عطائهم لها، وجهادهم في سبيلها، ﴿لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ﴾ (سورة النساء: آية 95).﴿لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا﴾ (سورة الحديد: آية 10).
– أن هناك تلازمًا بين العالمية والأبدية في الدعوة: إنها عالمية فوق المكان، وعالمية فوق الزمان، تخاطب البشر حيثما حلوا، وإن تباعدت بهم الحدود، وتخاطبهم في أي عصر عاشوه، وإن قدمت بهم العصور، إنها عالمية مستمدة من حفظ الله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (سورة الحجر: آية 9)، ومن وعده بوجود أمة دائمة تزود عنها: “لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك”.
– ثم أنها عالمية محكومة بأصل واحد فيما تريده من الناس كافة، وما تلزمهم به، وإن تعددت لغة الخطاب عنه، وما تريده أن يدينوا لرب واحد، وما تلزمهم به أن ينتهوا عند أوامره ونواهيه، بلا إكراه أو إرغام وهذا المنطق الواحد هو الذي غلف كل رسائل الدعوة التي وجهها النبي r إلى ملوك الأرض في عصره، أمثال هرقل، وكسرى والنجاشي، والمقوقس، وغيرهم.
4- مقتضى أداء الأمانات السياسية وغير السياسية:
فالإسلام يطلب من المسلمين أن يتحملوا تبعة أمانات الدين وأمانات الدنيا على وجه يُقيم الكفاءة وعدم الخيانة: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ (سورة النساء: آية 58). ويمكن – في ضوء ما ذكره المفسرون عن مفهوم الأمانة- القول بأن مقتضى أدائها يستلزم وجود حركة خارجية للدولة الإسلامية من وجوه:
أحدها: أن الآية رغم أنها تخاطب جماعة المسلمين إلا أن المعنيّ بالخطاب مباشرة – كما ذهب كثير من المفسرين- هم ولاة الأمور مناط المسئولية الأولى في الدولة الإسلامية، وهذا يعني أن كل ما يقومون به من سياسة أو تدبير قوامه حفظ الدين والدنيا، في الداخل، وفي الخارج، يدخلهم في زمرة رعاة الأمانات وحفاظها، وإلا أدخلوا في زمرة خائنيها ومضيعيها.
والثاني: أن التكليف الإلهي بأداء الأمانات ليس له من وجهة محددة إلا التي حددتها الآية بلفظ “أهلها” وهو يتسع لكل من يستحق هذا الأداء مسلمًا، أو غير مسلم، داخل الدولة، أو خارجها، دون تضييع، أو خيانة، ولقد كان ابن تيمية سباقًا في تقسيم هذه الأمانات بين أمانات الولايات، وأمانات الأموال، ومواقف الولاة منها، وعدَّ ذلك من مقومات السياسة الشرعية.
والثالث: أن القرآن الكريم ربط أداء الأمانات إلى أهلها بالعدل في الحكم، وقرنهما بترغيبه وترهيبه، ولهذا مغزاه في أن الأداء يلزمه العدل، وأن خير من يضمن العدل أهلُ الحكم به، كما أن العدل في الحكم رهن أداء الأمانات، وأن كلا التكليفين الشرعيين لا تنفصل عُراهما في إقامة شرع الله وطاعة رسوله r وأولي الأمر من المسلمين، وأن مردود هذين التكليفين معًا سواء أصاب علاقة المسلمين ببعضهم، أو علاقتهم بغيرهم مستوجب الجزاء الأوفى، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فسوء العاقبة.
والرابع: أن أداء الأمانات لا ينعزل بحال عن الجو العام الذي تُؤدى فيه، وتؤدى له، وهذا يثير عدة قضايا جانبية عن الأداء، من بينها مضمون الأداء، وشكله، وطبيعته، ووجهته، وأدواته، وزمانه، ومكانه، والأمن له في السلم والحرب، وغير ذلك مما تعرض له أو لبعضه المفسرون القدامى والمحدثون.
5- الطبيعة النظامية للتشريع السياسي الإسلامي:
فالشريعة الإسلامية تتأسس على نظام محكم، وكل ما يتفرع عنها هو امتداد لنظاميتها، ونتاج لها، فالعقيدة نظام، والعبادات كل عبادة نظام، والمعاملات كل معاملة نظام، والعقوبات كل عقوبة نظام، والمقصود النهائي الهيمنة على ما يستقيم به أمر الحياة من قيم وتراتيب، وأبنية، وإجراءات، ومؤسسات، وفعاليات، لأجل الخير العام للحياة، والإصلاح للبشر، غير أن ذلك لا يلغي إرادة الإنسان في مواجهة المستجد من واقع حياته ومعاشه، على ما فصل الشاطبي في “الاعتصام” وإن كان الإسلام قد نظم هذه الإرادة حتى لا يقع الإنسان في قصور الإدراك والتنفيذ.
ولعله من منطلق انسياح الروح النظامية في كل ما يخرج من الإسلام، وتوكيدًا لها تعددت تصنيفات الفكر السياسي الإسلامي في مجال النظم الإسلامية، والخراج، والسير، والذمة، والجهاد، والحسبة، والقضاء، والمظالم، والسفارة، وولاية الأقاليم، وغير ذلك مما يتأسس عليه وجود الحركة السياسية، والسؤال: أين هذه الروح النظامية من وجود حركة خارجية للدولة الإسلامية؟ والواقع إن للإجابة أبعادًا أربعة:
– البعد الأول: ينطلق من أن الدولة نتاج الاجتماع الإنساني ما دام منوطًا بها تنظيم هذا الاجتماع على نحو يكفل الاستقرار والأمن، ولا يمكن تصور أن تقوم بواجباتها هذه إلا بالانخراط في علاقات وتفاعلات مع الأمم والدول الأخرى، لأن ذلك من طبائع العمران، واستمرارًا لقوة الدفع فيه، غير أنه لا ينبغي أن يكون اعتباطيًّا، وإنما لابد من قواعد نظامية تحدد للدولة ماذا تريد من حركة علاقاتها؟ وماذا تستطيع أن تقدم من خلالها؟
– والثاني: أن تأسيس العلاقة بين الدولة الإسلامية وبين غيرها من الدول على الدعوة، (وقد صاغ المقصد الأساسي والنهائي في كل ما يربطها في علاقاتها الخارجية بغيرها)، إنما أريدَ منه بناء هذا المقصد على نظام متكامل في مضمون المدعو إليه، والداعي، والمدعو، والمدعو فيه، والمدعو به، وما شاكل ذلك من عناصر تجسد منطق الدعوة.
– والبعد الثالث: يؤكده أن الإسلام، ما كان ليرتب علاقات المسلمين داخليًّا على مجموعة من النظم والإجراءات في تدبير السياسة الشرعية، ثم يترك علاقاتهم بغيرهم هملاً، إلا إذا استحال وجود مثل هذه العلاقات وهو غير صحيح، بيد أن ما تجدر ملاحظته هنا هو أن الحد الفاصل بين ما يمكن اعتباره من التراتيب النظامية ذا وجهة داخلية وبين ما يعتبر ذا وجهة خارجية من الصعب رسمه بدقة، إذ إن كثيرًا من هذه التراتيب مقصود به تغطية ما في الوجهتين معًا، في تكامل وتساند يشهدان على تكامل الدور الحضاري المرجو منها.
– والبعد الرابع: أن علاقات السلم وعلاقات الحرب بين الدولة الإسلامية وبين غيرها هي استمرار للروح النظامية في منهج الدعوة، وموضوعها، وأدوات تنفيذها، ولذلك حدثنا الفقهاء عن تعريفات نظامية لكلا النمطين من العلاقات، ورتبوا عليها أحكامًا فقهية كثيرة، مثل: متى يبدأ السلم أو الحرب؟ وكيف ينتهيان؟ وأحكام المعاهدات فيهما، والمنظومة القيمية الواجب الالتزام بها في ممارساتهما، وما يجوز – وما لا يجوز- الدخول فيه من العلاقات حال توافر مواقفهما، وأحكام ما ينتج عن هذه المواقف.
خامسًا: سمات الحركة الخارجية للدولة الإسلامية:
والحديث عن هذه السمات هو في الحقيقة حديث عن الملامح العامة لحركة الشهود الإيماني للدولة الإسلامية في بُعديه السابق تناولهما – حراسة الدين وسياسة الدنيا به- وقد اتخذت الجماعة المسلمة من تماسكها الداخلي منطلقًا لتوكيد وجودها بين الجماعات الأخرى، وتوكيد إيجابية هذا الوجود.
وأولى السمات: عقائدية الحركة الخارجية:
وهي انبثاق طبيعي من عقائدية الدولة الإسلامية، فالغايات التي تبنى عليها والمسالك التي ترتادها لا انفصام بينها وبين الدين الذي يؤمن به أبناؤها. إن التوحيد جوهر هذا الدين يجب أن يتبوأ مقام الصدارة في إعلان هويتها بين غيرها: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾ (سورة الحجرات: آية 15) وفي إعلان الاحتكام إليه في كل شؤون الحياة، بافتقار وخضوع، وليس باستظهار وادعاء: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا….﴾ (سورة النور: آية 51)، وتفاصيل ذلك كله مداره الحديث عن الاختصاص العقيدي، وهو ما سيرد لاحقًا.
والثانية: أنها حركة مبتلاة:
وابتلاؤها يعني دورانها وتقلبها بين النصر والهزيمة، وارتقاء دعوتها وانتكاساتها، والظهور بين الدول وتداعي هذه الدول عليها، وهكذا، صور تتنوع في أشكالها، وتتفاوت في شدتها، وتختلف في أسبابها، وتتعدد في آثارها تبعًا للموقف الابتلائي الذي تتعرض له حركة الدولة، وكل ذلك من سنن الله: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ….﴾ (سورة العنكبوت: آية 2)، وليس الغرض من الابتلاء التعجيز أو إصابة الحركة بالعطب والعطل، إن الابتلاء تدفق وحيوية وتجديد وإحلال وتثبيت، وحتى في حالات الابتلاء بارتداد الحركة وتراجعها، لا يصير الارتداد نكوصًا بل التقاطًا للأنفاس، وإعادة النظر من جديد إلى الذات، وللتمحيص والتطهير ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾ (سورة آل عمران: آية 155)، كما أن الابتلاء لا يكون بالضرورة تعبيرًا عن الغضب الإلهي، بقدر ما قد تحركه محبة إلهية، وحرص على نقاء الصف وتماسكه “إذا أحب الله قومًا ابتلاهم، فمن صبر فله الصبر، ومن جزع فله الجزع”، ولقد نال الدولة الإسلامية في صدر الإسلام من ضروب الابتلاء الكثير والكثير، فلم يزدها ذلك إلا قوة في التحدي، ومضاء في الحركة، واستمرارًا في الشهود الحضاري، إلا ما كان في أواخر أيام الخلافة الراشدة، ابتداء من نهاية عصر الخليفة الثالث، ولذلك تفاصيله في مبحث آخر:
والثالثة: أنها حركة دعوة واتصال فعال:
فلا تنفصل الدعوة عن الدولة، ولا تستغنى الدولة عن الدعوة ولا تملك ذلك، بل لا تنفصم العلاقة بين فاعلية الدولة وفاعلية الدعوة، وهذا يعني أن حركة الدولة كحركة دعوة تتطلب عدة أمور:
– إظهار حقيقة الدعوة لتفاصل بينها وبين غيرها من دعاوي الباطل، من حيث إنها دعوة الحق: ﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ﴾ (سورة الرعد: آية 14)، ودعوة الخير: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ (سورة المائدة: آية 104)، ودعوة الاستقامة ﴿وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (سورة المؤمنون: آية 73).
– التزام الداعين لها بما تفرضه من إذعان مطلق: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ (سورة الأحزاب: آية 36)، والبراء من كل دعوة تخالفها ﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءنِيَ الْبَيِّنَاتُ﴾ (سورة غافر: آية 66)، ورفض تلبيسها بأية دعوة أخرى ﴿وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ﴾ (سورة يونس: آية 106).
– قيام أسلوب تبليغها على أسس واضحة: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (سورة النحل: آية 125)، مع إدراك أن هذه الأسس ليست جامدة، ولا تقف عند حدٍّ؛ وصولاً بالدعوة إلى غاياتها، بعيدًا عن الذلة والهوان، أو إعطاء الدنية في الدين.
– فهم أن انخراط الدولة في سلك الدعوة لا يجعل منها دولة الكسالى أو العاطلين الذين يختصرون حركة الحياة بينهم، أو بينهم وبين غيرهم في حركات وطقوس ليست من الإسلام في شيء. إن دولة الدعوة دولةُ العالِمين بحقيقتها وحقها في أن تنشر قيمها ومقاصدها، واقتصادها، وثقافتها، وسياستها، وكل ما يتفرع عن ذلك، بين المسلمين، وبين غيرهم، دون تردد أو انغلاق، وإنما بالتواصل وتبادل التأثير والتأثر، من موقع العدل والكرامة والاستعلاء.
– معرفة موقف المخاطب بالدعوة فردًا أو جماعة لاتباع الأسلوب الأنسب معه، والأصل في ذلك حديث: “وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك، فأقبل منهم، وكُفَّ عنهم، فإن هم أبوا، فاستعن بالله وقاتلهم” (مسلم عن سليمان بن بريدة عن أبيه).
والرابعة: أنها حركة استعلاء إيماني وحضاري:
ويتأكد الاستعلاء بالحق بثبوت حقيقة الإيمان: ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ (سورة آل عمران: آية 139) واقتران الاستعلاء بالإيمان له نتائجه في:
1- اعتبار أن الاستعلاء بالإيمان هو مدخل العزة، والعزة كما هي منعة وحصانة فهي أيضًا تنفي المذلة والتبديد والاختراق والضعة، شريطة أن لا يسبق تشريع الإسلام أو يعلوه أي تشريع آخر، مهما كان مصدره ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا﴾ (سورة فاطر: آية 10).
2- النظر إلى استعلاء الإيمان على أنه قوة العدل والرحمة والاعتدال والتواضع والإصلاح، وأن استعلاء غير الإيمان هو قوة الجور والتجبر والاستطالة والظلم والإفساد، بيد أنها قوة مآلها الوهن في النهاية: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ (سورة العنكبوت: آية 41).
3- إدراك أن جعل الاستعلاء للإيمان وحده يضبط غايته، ويحدد مقاصده، وأهدافه، ومن ثم فهو – أي الإيمان- أصل في الفصل بين نموذجين للاستعلاء عرض لهما القرآن الكريم: نموذج الاستعلاء الإيماني الإصلاحي مع “ذي القرنين” كما ذكر في سورة الكهف، ونموذج الاستعلاء غير الإيماني الإفسادي مع فرعون وملئه، كما تحدث عنه القرآن في أكثر من سورة.
4- رفض أي استعلاء من شأنه الاعتداء على الاستعلاء الإيماني أيًا كان مصدره، ذلك أن أي تشريع، أو سلطة، أو هيئة، أو قرار، أو إنفاق، أو تنظيم، أو دولة، أو وضع، أو ماعدا ذلك مما قد يؤول في النهاية إلى إنزال المسلمين منزلة الذلة والهوان، لا مجال لقبوله أو التسليم به، وفي الحديث: “من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن اشترط مائة شرط، شرط الله أحق، وأوثق”.
5- العض على الاستعلاء الإيماني بالنواجز مهما أصاب الجماعة المسلمة من استضعاف، ذلك أنها إن فقدت استعلاء المكان – أيًا كانت أسبابه – لا يجب أن تفقد استعلاء المكانة، بالحفاظ على قوة الدفع الإيماني لديها، والتمسك بالأمل في استعادة المكان، وأن لا تدع روح الهزيمة تسري بين أبنائها: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ (سورة آل عمران: آية 175)، وتقطع الطريق أمام تبادل الاتهامات والسباب بينهم: “لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث”
والسمة الأخيرة: أنها حركة تجديدية مرنة:
فما دامت سنة الله في الكون والخلق والوجود التبديل والتصريف، وما دام نمط تفاعلات الدول وحركاتها يتغير بتغير ظروفها وأحوالها ومصالحها، وما دام الواقع الذي يعيش فيه غير متناه، وما دام التجديد في أمر دين الإسلام فقهًا وعلمًا حقيقة مؤكدة في حديث: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها” فمن الطبيعي أن تكون الحركة الخارجية للدولة الإسلامية – كالحركة الداخلية- متجددة، وهذا يعني:
– ضرورة أن تُراجع الحركة ما يخرج من رحمها تقويمًا وإصلاحًا، وتغييرًا إن لزم الأمر، دون تعد على أصل من أصول عقيدتها وشريعتها وفق قاعدة “لا ضرر ولا ضرار” وقاعدة “تغير الأحكام بتغير الأزمان”.
– تحقيق التواصل الدائم بين عناصر الحركة وأجيالها في إطار من الحرية والانطلاق الاجتهادي، والمرونة في التعامل، والحفاظ على الثوابت، وتبادل الأخذ والعطاء بين الأجيال بالقدوة الصالحة، والإضافة الخلاقة إلى جهود السابقين، وعدم التشكيك فيها، وإخضاعها للنظر والتقويم، والبدء من حيث انتهوا توفيرًا للجهد والطاقة والإمكانات.
– تجريد التجديد في الحركة من التشخيص، وعدم ربطه بمن يتولاه، حتى لا يصبح عملية آنية أو مؤقتة تسقط بسقوط القائم بها، وذلك لا يتحقق إلا بالنظر إلى التجديد كاجتهاد يستمد أصوله من لغة النصوص المنزلة مناط التصدي لقضايا الواقع وتساؤلاته، ولغة الواقع مناط القضايا المراد الاجتهاد بشأنها، على أن تتولى عملية الربط بين اللغتين طائفة مؤمنة، توجد – كإحدى سنن الله في التجديد والاجتهاد- في كل عصر، لتكون المحصلة تجديد مستمر للعطاء الحضاري الإسلامي، بفضل علماء هذه الطائفة الذين “لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك”، كما جاء في الحديث النبوي.
– الاتصال الحضارى وهو مقتضى منطقى لواجب الدولة ورسالتها الحضارية فليست الأمم على نهج واحد في ثقافاتها وحضاراتها، وبالتالي لا يتوقع أن تأتي مواقفها أو سياساتها في حركة واحدة، ولا يتوقع أن يكون التعامل – مع تباين المواقف والسياسات – على نهج واحد في الحركة الخارجية المقابلة، بيد أن هذا التعامل مهما كان نهجه- ومهما كان مدى الاتصال الخارجي المترتب عليه- يفترض من الدولة القدرة على ضبط تفاعلاته، وقيمه ومقاصده، والتحكم فيما يؤخذ من ورائه وما يرد، وبعبارة أدق يفترض قدرًا من الاستقلال الحضاري في حركة التعامل الخارجي، بعيدًا عن الخضوع أو التبعية أو التوجيه، وبعيدًا عن مثالب الجمود والتوقف والعيش خارج نطاق الزمن المعاش والدفاع عن الحال الراهن.
المحور الثاني
تطور حركة الدولة الإسلامية الخارجية في الخبرة السياسية
تأتي خبرة عصري النبوة والخلافة الراشدة لتؤكد أن المسلمين إبان هذين العصرين ما كانوا ليقبلوا أن تظل النظرة الأصولية لمفهوم الدولة وحركتها مجرد خيال مبني على مسلمات تجريدية، خاصة وأن قدرة أي نموذج حضاري (مبني على الوحي) على أن يجد لوعوده ومبشراته صدى إنما تأتي – بعد منطقية بنائه- من كفاءته في الاقتراب من الواقع المعيش للذين يخاطبهم، وينشد الإصلاح فيهم، والاستجابة لما يتطلبه، وأن القيم الإيمانية – أيًا كانت واجهاتها ووجهاتها- لابد وأن تتحول إلى حياة يتفاعل الإنسان بها وينفعل، ويتشكل بها ويشكل فيها، فإذا بها مستوعبة كل مناشطه، ومساعيه، وإذا به يجد فيها ضالته في الاهتداء إلى أقوم السبل في شأنه الخاص وعلاقاته بغيره، وشأن مجتمعه عامة وعلاقاته أيضًا بغيره.
من هنا كان التحام المسلمين في العصرين السالفين مع المبادئ الأصولية في تنظيم الدولة وضبط حركتها داخليًّا وخارجيًّا، الحلقة الأولى في سلسلة تطورات الدولة الإسلامية، والنواة التي سرعان ما أسست عليها نماذج للدولة تفاوتت في مدى اقترابها ومدى ابتعادها من الدولة الأنموذج، في عصر النبوة والخلافة الراشدة، والتي جاءت حركتها الخارجية مرتبطة إلى حد كبير بتطوراتها الفرعية، وما اعتمل فيها من أحداث وتفاعلات على النحو التالي:
التطور الأول: تأسيس بناء الدولة ومقدمات الحركة الخارجية
هذا التطور هو نتاج لجهاد الجماعة المؤمنة تحت القيادة النبوية في سعيها إلى نقل تعاليم الوحي الإلهي إلى واقع – في مكة- أبى إلا أن يعيش الجاهلية بكل ما كان فيها من مفاسد إلا ما ندر، حتى إذا ما صدر الأمر بالهجرة إلى المدينة كان الفصل بين دعوة ناشئة واجهت صعوبات جمة لتعبر هذه الجاهلية وبين دعوة ترسخت على دولة سرعان ما بدأت تثبت أقدامها، لتبرز أهم ملامحها في:
1- التدرج بالدعوة لتأسيس نواة قاعدة الدولة:
وقاعدة الدولة هنا هي الجماعة التي ما كان وجودها ليتمخض، وشملها ليتوحد لولا توافر مادة ذلك كله وحيًا منزلاً، ورسولاً قائدًا يقوم عليها بقيامه على الوحي رعاية وتنفيذًا وإصلاحًا، وذلك رغم صعوبة التعامل مع مجتمع استمرأ الكفر والجهل، ولذلك كان البدء بإسرار الدعوة له حكمته، إذ كيف يتوقع من مجتمع هذا طبعه أن ينقلب رأسًا على عقب ليقيم أسسًا جديدة له في الهوية والانتماء والسيرة، وكيف كان يتوقع من قياداته التي خرجت منه أن تتبدل مكانتها وتتصدع، وقد اعتادت السطوة والرئاسة، وقد جاء الجهر بالدعوة بعد ذلك كاشفًا لهذه الطبائع، ولرد فعلها العنيف، في تعذيب الصحابة، وفتنتهم عن دينهم، وتجويعهم والتضييق عليهم في المعايش والأرزاق، ولم يكن الرسول r أقل منهم تعرضًا للعنت، إذ مارست قريش معه صنوف الكذب والإيذاء والرمى بالشعر والكهانة والسحر والجنون، وإزاء اشتداد الموقف، وحماية للمسلمين من هذا البلاء كان الإذن بالهجرة إلى الحبشة “لأن ملكها لا يبتغي الظلم لأحد، كما أن أرضها كانت أرض صدق”.
2- الصدود المكي وإبعاد بناء الدولة عن مكة:
فواقع الحال بها لم يكن ليبشر بأن تكون هي مهد الدولة التي كان الرسول r يرمي بناءها كي تستعلى راية التوحيد، وبدا ذلك جليًا في رد قريش على رسالته التي نقلها عنه عمه أبو طالب “ادعوهم إلى أن يتكلموا بكلمة – أي كلمة التوحيد- تدين لهم بها العرب، ويملكون بها العجم، وفي رواية “وتؤدي لهم بها العجم الجزية” بل دعمت هذا الرفض بمسالك عدائية أخرى منها:
1- فتنة الذين هاجروا إلى الحبشة لما تبعتهم إلى حيث هاجروا بقصد ردهم وإيذائهم، لولا موقف النجاشي ملك الحبشة، الذي كان عند حسن الظن به، فحماهم ومنعهم من قريش.
2- ممارسة المزيد من الضغوط على عمه أبى طالب لأجل صرفه عن إيواء النبي r، وحمايته، بعد أن أعيتهم الحيل في صرفه عما كان يدعو إليه، ويريدهم إليه.
3- تعريض الذين لم يهاجروا من الصحابة إلى الحبشة للمحن الشديدة، خاصة بعد أن فرضت عليهم قريش الحصار الاقتصادي في الوقت الذي كانت تتفنن فيه في إذاقتهم لباس الخوف والتعذيب.
4- الوقوف للقيادة النبوية بالمرصاد في كل موقف كانت تدعو فيه، خاصة بعد تداعى الخطوب عام الحزن بوفاة أبي طالب، وأم المؤمنين خديجة، وموقف ثقيف بالطائف، وبعض القبائل الأخرى التي كانت تقدم مكة في بعض المواسم، إلا ما كان من الأنصار.
3- بيعتا العقبة وتأسيس الدولة على العقد:
فقد كان لقاء النبي r بالأنصار إيذانًا بتأسيس الدولة تأسيسًا تعاقديًا قائمًا على المبايعة بينه وبين ممثليهم على خطوات ثلاث:
الأولى: اتخذ العقد فيها شكل الاتفاق على نقل الدعوة إلى المدينة – مقر الأنصار- ونشرها بين أهلها، لما التقى وفد الخزرج بالقيادة النبوية في السنة الحادية عشرة من البعثة، فدعاهم إلى الإسلام، فأجابوا على أن يدعوا أقوامهم إلى ما دعاهم إليه، وأن يلقاهم العام التالي.جأجابوا على أن يدعوا أقوالهم إلى ما دعاهم إليه، وأن يلقاهم العام التالي.والثانية: اتخذ العقد فيها شكل البيعة على مقتضيات الإسلام لما التقى اثنا عشر رجلاً من الأنصار في العام التالي بالقيادة النبوية عند العقبة فبايعهم –دون الحرب أو القتال
والثانية: اتخذ العقد فيها شكل البيعة على مقتضيات الإسلام لما التقى اثنا عشر رجلاً من الأنصار في العام التالي بالقيادة النبوية عند العقبة فبايعهم – دون الحرب أو القتال على أساس ما روى عن عبادة بن الصامت: “بايعنا رسول الله r ليلة العقبة الأولى ألا نشرك بالله شيئًا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتري به بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف”.
والثالثة: اتخذ العقبة فيها شكل البيعة على الحرب والقتال ضد كل من صد عن الدعوة، وذلك لما قدم العقبة العام التالي لبيعة العقبة الأولى سبعون رجلاً وامرأتان من الأنصار، عاهدوا النبي r أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم ويكونوا سلمًا لمن سالم، وحربًا لمن حارب، فاختار منهم اثنى عشر نقيبًا ليكونوا قادة الدعوة في المدينة والقائمين على تثبيت أركانها فيها.
4- الهجرة والانتقال إلى مركز الدولة:
فما أن مهدت قاعدة الدولة على أساس من الالتزام العقيدي في الإطار الإقليمي – المدينة- حتى شرع الرسول r ينطلق منها إلى نقلة حضارية كانت بمثابة اختيار حقيقي لصدق أهل المدينة وثباتهم على ما عاهدوا الله ورسوله عليه، فإذا به وقد أمّل فيهم أن يكونوا للدعوة ركيزة، وللدولة أساسًا يأمر أصحابه – قاعدة الجماعة في مكة- بالهجرة إلى المدينة، وكان أمره القاطع “إن الله قد جعل لكم إخوانًا، ودارًا تأمنون بها” فخرجوا إليها إرسالاً.
ولكم يكن الخروج سهل المنال، ذلك أن قريشًا ومشركي مكة عمومًا عز عليهم أن يخرج الصحابة آمنين في أنفسهم وأموالهم وأولادهم وأمتعتهم فساموا، من استطاعوا النيل منه، سوء العذاب والتفرقة بينهم وبين الأهل، والمنع من اصطحاب المال والمتاع، فضلاً عن التضييق والمطاردة، ولكن قريشًا لم تطق ما كان ينتظر قيادة النبوة من الأمر بالهجرة، وكان اشتغالها بمنع هذا الخروج واستعجال تدبير وسائل ذلك أكثر ما أهمها، فإذا بها تعقد ما يشبه المؤتمر العاجل في دار الندوة، ولتنتهي قياداتها فيه إلى قرار بتصفية الرسول r جسديًا، وقد بالغت قريش في هذا الشطط، وأوغلت فيه، لما كانت تعلمه وتنتظره من تداعيات الهجرة فيما لو تمت، بيد أن ذلك ما كان ليحول دون إرادة الله تعالى في هجرة رسوله، وإخراجه من قرار قريش السابق سليمًا، بعد أن جعل من بين أيديهم ومن خلفهم سدًا فإذا هم لا يبصرونه ولا يدركون فيه ما أرادوا.
5- فعاليات تأسيس الدولة بعد الهجرة:
فبعد أن هيأت القيادة النبوية قاعدة المجتمع المسلم بمهاجرين وأنصار لتبعات الدعوة بدأت في بناء فعاليات الدولة ببناء المسجد، والمؤاخاة بين هذين القطبين، وإعلان وثيقة المدينة في تنظيم العلاقة بين المسلمين وغيرهم، فضلاً عن تأسيس بعض التراتيب الإدارية، مما صنفت فيه المصادر المختلفة، وهنا يجب ملاحظة:
1- أن الهجرة لم تكن مجرد نقلة مكانية بدافع الهروب أو اليأس من إسلام أهل مكة، بل كانت تتويجًا لجولات من جهاد الجماعة المسلمة لإنشاء دولة الدعوة، ودأبها في البحث عن مركز مناسب لتحصينها، والفيضان بها على غيرها من الجماعات.
2- أن تنويع فعاليات تأسيس الدولة لتؤدي أكثر من واجب قِبل المجتمع الجديد في المدينة كان من مراميه إثبات أن مقاصد الدعوة فيها من السعة والتنوع والشمول بحيث يستطيع القائم بها وعليها أن يجد فيها ما يسد حاجة أمته، ويدبر أمور معاشها في مناحي حياتها كافة.
3- أن البدء بالمسجد لتأسيس الدولة كان إشهارًا عامًا داخل المدينة، وإعلامًا شاملاً لأهلها ولغيرهم ممن يلحق بهم من المسلمين أن هوية الدولة تبدأ بتسليم الوجهة لله، والاعتصام بمنهجه في التوحيد الذي ما جاءت الصلاة – مهمة المسجد الأولى- إلا توكيدًا له، وتذكيرًا بحقيقته، فالقبلة واحدة، والأذان واحد، والإمام واحد، والصفوف واحدًا واحدًا، وهيئة الصلاة واحدة، وأركانها وفرائضها من نهج واحد، وفي ذلك ما يشيع الوحدانية والتماسك والتآلف والتعاون في المجتمع الواحد.
4- كذلك كانت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، بعد تصفية الخلافات بين فصائل الأنصار، دليلاً على حرص القيادة النبوية على إسقاط كل اعتبارات التمايز والتفرقة العصبية والقبلية بين أصحاب الدين الواحد، ومن ثم على إسقاط كل عوامل الحقد والعداوة والافتراق.
5- ثم إن وثيقة المدينة أو الصحيفة كانت بمثابة عهد التزام واضح لمن أقر بما فيها من المسلمين ومن غيرهم، ليكون أطرافها أمام مسئوليات محددة، ولتنتهي بها أوضاع وعلاقات وتحالفات وتحركات كانت تموج بها المدينة غداة الهجرة إليها، لتبدأ صورة جديدة للعقود بين المسلمين وبين غيرهم، ينظمها الإسلام، ويبينها ويضمنها، ويضبطها.
6- الدولة وإرهاصات الحركة الخارجية:
فلم تقف واجبات الجماعة عند حدود المدينة عاصمة الدولة بل تعدتها – إبلاغًا وإنذارًا- إلى من حولها، كمقدمة للتعامل الخارجي مع غير المسلمين، ومن صور ذلك وإرهاصاته:
1- التعامل القتالي مع قريش وغيرها من المشركين، عبر سلسلة من الغزوات والسرايا، التي بدأت أولى انطلاقاتها مع غزو “بدر” ثم تلتها غزوات وسرايا كان من أشهرها أحد، والخندق، وبنى قريظة، وبنى المصطلق، وخيبر، ومؤتة، وحنين، والطائف وتبوك، وغيرها من جولات قتالية كانت مدخلاً لإرساء قواعد شرعية في القتال ومقاصده.
2- إرسال الرسل والسفراء إلى ملوك الدول وزعماء الأمم لدعوتهم إلى الإسلام، وقد استنهض الرسول r نفرًا من أصحابه بعد أن حذرهم الاختلاف عليه كما اختلف الحواريون على عيسى بن مريم، فاستجابوا له حتى “خرج منهم ستة نفر في يوم واحد، وذلك في المحرم سنة سبع من الهجرة، وأصبح كل رجل منهم يتكلم بلسان القوم الذين بعث إليهم”.
3- أخذ المواثيق على القبائل التي دخلت في الإسلام، وكتابة العهود والمواثيق التي تحقق لهم الحصانة الإسلامية الكاملة، من حقن الدماء، وحفظ الدين والأموال والأعراض، وإقرارهم على ما كان تحت أيديهم بالعدل، مقابل الاستقامة على الإسلام، كذلك أخذت المواثيق وكتبت العهود لأهل الكتاب من غير المسلمين الذين قبلوا إعطاء الجزية والانتهاء عند الشروط الأخرى في هذه العهود، مقابل إقرارهم على ما كانوا يدينون، وحمايتهم والدفاع عنه.
4- استقبال الوفود من قبائل العرب التي قدمت المدينة تعلن انقيادها لطاعة الله وطاعة رسوله والإقامة على الإسلام، وهي القبائل التي تأخرت في إسلامهم بعد فتح مكة، وغزوة تبوك، وإسلام ثقيف بعد أن عرفوا أن لا طاقة لهم بحرب رسول الله r، ولا عداوته، فدخلوا في دين الله أفواجًا، يضربون إليه من كل وجه.
التطور الثاني: تثبيت أسس الدولة وحركتها
فقد كانت المدينة إبان قيادة النبوة تموج ببعض الحركات والدعاوي التي حاول متزعموها النيل من وحدة الدولة، وقد تزعم ذلك طوائف من المنافقين واليهود، ورؤوس الفتنة الذين ادعوا النبوة، غير أن الوحي كان يخبر النبي r بأحوال هؤلاء المفسدين وأخبارهم، ويحدد له منهج السلوك القويم في التعامل معهم، ولم يزل الأمر كذلك حتى انقضى الوحي وانتقل الرسول r إلى جوار ربه، فإذا برؤوس الفتنة تطل مرة أخرى، لتنتهز فرصة خلو الجماعة والدولة من القيادة، ولتفرض تحدياتها، التي كانت في الحقيقة تحديات لقوة بناء الدولة ومدى ثباتها أمام قواصم هذه التحديات، وقد مثل اجتماع المسلمين على سد ثغرة القيادة باختيار الخليفة الأول أبى بكر الصديق، بداية العواصم من هذه القواصم على النحو التالي:
1- قاصمة الاختلاف على القيادة وعاصمة الاتفاق على إسنادها إلى أبى بكر:
فالبحث عن من يشغل فراغ القيادة فرض نفسه كمقدمة لأولويات الحركة السياسية بعد انقضاء النبوة – وحيًّا وقيادة- بيد أن المسلمين واجهوا في سبيل البحث عن مخرج شرعي وعقلي لذلك مجموعة من الصعوبات، بعضها تعلق بغياب إجراءات محددة لاختيار الخليفة، وبعضها ارتبط بموقع الاختيار ذاته من بين أهل المدينة عاصمة الدولة، وفي اجتهادات متعددة لفهم النصوص الشرعية في إجراء الاختيار والأجدر به، كان حرج شديد، ولذلك كان اجتماع سقيفة بنى ساعدة مليئًا باختلاف الآراء والمواقف حول من تكون له أهلية الخلافة من المهاجرين والأنصار، وقد قدم كل طرف حججه وأسانيده، وبين الحجة ونقيضها ظل الأمر سجالاً حتى بدت نذر الفتنة تطل برأسها لولا انتهاء المجتمعين في السقيفة إلى عاصمة الاتفاق على رأي غالب باختيار أبي بكر الصديق ليكون خليفة المسلمين.
2- قاصمة الارتداد الجماعي وعاصمة إعادة الهيبة إلى الدولة:
فقد جاءت النذر من حول العاصمة تفيد بأن داء الردة قد استشرى في كل مكان، وقدمت كتب إلى الخليفة الجديد تعلمه بانتفاض العرب عامة وخاصة وتسلطهم على المسلمين، كما يذكر ابن الأثير، وأيا كانت ملامح الردة كحركة رفض للالتزام الديني والسياسي – في تعدد أشكالها ودعاواها، والتوافق الزمني في الارتداد، ولا مركزية الانتشار إلى أن هذه الحركة جاءت لتؤكد مجموعة من الدلالات:
1- عدم تمكن الإسلام من قلوب وعقول كثير من القبائل العربية التي أظهرت ولاءها له، بعد أن استطاع نفر أمثال الأسود العنسى، ومسيلمة، وطلحية وغيرهم، إزكاء روح القبلية والتمرد ورفض السلطان المركزي للمدينة.
2- أن متابعة القبائل المرتدة لرؤسائها في التحول من الإيمان إلى الردة أظهر مدى سلطان هذه الزعامات وقدرتها على التأثير فيمن كانوا تحت أيديهم من أتباع، ولم يكن قبولهم الإسلام إلا نوعًا من مجاراة الواقع بحثًا لفرصة لنقض عراه.
3- لم يجد قادة الارتداد بابًا يدخلون منه على القبائل التي شايعتهم في الردة، إلا باب الدين فزينوا للناس الأكاذيب لتبدو من الدين، وتفننوا في ذلك ما بين الزعم بنزول الوحي على بعضهم، ورجز فاسد القول وابتداع ما لا معنى له ونسبته إلى الدين، وارتكاب المعاصي باسمه.
4- يلفت النظر كذلك سرعة استجابة القبائل لدعوى الارتداد، الأمر الذي يؤكد أمرين: الأمر الأول، أن هذه القبائل كانت تقلد بعضها، رغم أن هناك من كان يتريث – حسب بعض الروايات- ليعرف عاقبة ارتداد من سبقه قبل أن يقدم على ردته، والأمر الثاني، أن طواعية الدخول في الإسلام واكبها طواعية الخروج منه، بصرف النظر عن قائد الخروج من الإسلام، رجلاً كان، أم امرأة.
وعمومًا كانت القاصمة تحرك الخليفة الأول بتجهيز جيوشه وتفريقها في النواحي التي ارتدت لإعادتها إلى الإسلام دون تراجع أو قبول لأية حلول وسطية.
3- قاصمة الاعتداء على مركز الدولة وعاصمة الرد عليه:
وذلك أن أبا بكر الصديق قبل أن يقرر تحريك الجيوش لضرب المرتدين كان قد توقع أن تُغير بعض فلولهم على العاصمة، فأعد لذلك عدته حتى لا يؤخذ على غرة، فجعل على أنقاب المدينة نفرًا من الصحابة، وألزم أهليها المسجد خوفًا من أن يغير عليهم المرتدون، فما لبثوا إلا ثلاثة أيام حتى جاءت هذه الفلول ليلاً للإغارة على العاصمة، فردوا على أعقابهم، وخرج المسلمون يقودهم الخليفة يتابعون الفارين منهم، ثم عقد الألوية لمتابعة القضاء على الردة في مكامنها محملاً قائد كل لواء برسالتين، إحداهما دعوة إعذار وإنذار للمرتدين الذين وجهت الرسالة إليهم، والثانية عهد التزام من قبل كل قائد ينزل فيه عند منهج الحركة والتعامل مع المرتدين كما فصله الخليفة سواء عادوا إلى الإسلام، أم تنكبوا طريقه وظلوا على ردتهم.
4- قاصمة الاختلاف على مواصلة الكفاحية الخارجية وعاصمة الاتفاق عليها:
وكان مبعث الاختلاف الموقف من استمرار الاتجاه إلى حدود الروم بالجيش الذي أنفذه الرسول r بقيادة أسامة بن زيد، فبعض المسلمين أصر على عودة الجيش حتى يفرغ المسلمون من تصفية الردة، وبعضهم الآخر – يقودهم الخليفة- أبى إلا إنفاذ الجيش لمواصلة سيره ووجهته، ولم يزل الخليفة يتبادل الرأي مع المخالفين حتى غلبت حجته، فاجتمعت الكلمة على رأي الخليفة، فواصل الجيش مهمته وعاد بعض أربعين يومًا ظافرًا.
وهكذا قُدر للخليفة الأول أن يتحمل مهام مسئوليات ثلاث في آن واحد، الحفاظ على قوة الدفع التي سرت في أوصال الدولة منذ قيام النبوة، وانتشال الجماعة المسلمة مما أصابها من وهن بفعل الردة، والقضاء على نار الفتنة لتمهيد السبيل لمن بعده لينقل الدعوة بالدولة، والدولة بالدعوة إلى طور جديد.
التطور الثالث: اتساع نطاق الحركة الخارجية ومواجهة تحدياتها
فرغم شدة القواصم في عصر الخليفة الأول ورغم أن التطور السياسي بعد انقضاء عصر النبوة قد فرض عليه أن يتجه إلى داخل الدولة ليعيد ترتيب أوضاعه بتطهير أركانه وتثبيتها، على ما سبق، إلا أنه أكمل ذلك بعملين رائدين، جمع القرآن الكريم حفاظًا عليه خاصة بعد استشهاد الكثير من حفاظه في حروب الردة، وكفاية المسلمين عناء البحث عن خليفة بعده، وهكذا جاء اختياره الخليفة الثاني ليكون بداية تطور لاحق بدت ملامحه في الآتي:
1- تجاوز مشكلة اختيار قيادة الدولة:
وذلك ما فعله الخليفة الأول حين أوصى بولاية عهد الخلافة من بعده لعمر بن الخطاب، وصاية ترشيح لا وصاية بيعة لازمة عن غير رضى المؤمنين، هذا العهد الذي كان فاتحة طريقة جديدة في إسناد السلطة في الفقه السياسي الإسلامي أكد عدة حقائق منها، عدم توريث السلطة، وضرورة الشورى في ولاية العهد، وإسناد السلطة إليها بالرضا، وأن لا تسند لمن حرص عليها، وأن يكون قرشيًا، وقد جاء في نص العهد لعمر ابن الخطاب: “إني استخلف عليكم عمر بن الخطاب، فإن بر وعدل فذلك علمي به، ورأيى فيه، وإن جار، وبدل، فلا علم لي بالغيب، والخير أردت….”.
2- اتساع حركة الفيضان الخارجي وسلطان الدولة:
فقد اتسعت حركة الفتوحات الإسلامية في خلافة الخليفة الثاني وتعددت أطراف الدولة بشكل ملحوظ، بعد أن شملت العراق كله، والسواد والجبال وأذربيجان، وكور البصرة، وأرضها، وكور الأهواز، وفارس، وكور الشام، عدا أجنادين التي فتحها الخليفة الأول، وكور الجزيرة، والموصل، ومصر، والإسكندرية، ويستوقف الناظر في هذه الفعالية الخارجية:
– أن الدعوة التي بدأت حركة نقلها إلى غير المسلمين في عصر النبوة لم تتوقف وظيفتها الحضارية بعد انقضاء هذا العصر، بل ظلت – وكذلك حالها دائمًا- واجبًا ملزمًا للخلافة من بعده، ولكل سلطة شرعية، ولا تسقط بسقوط من يتولى هذه السلطة وانقضائه.
– أن منطق الدعوة مع حركة الفتح كان منطق عزة بالقوة والعدل والحق، ولم يعبأ بسطوة وجهة التبليغ بها، أو سلطانها وجبروتها، وهذا خالد بن الوليد يقيم الحجة على باهان أمير الروم إعذارًا وإنذارًا بعد أن أخبره بما يريده الإسلام منهم، ليختم الحوار معه بقوله: “فإن فعلتم فأنتم إخواننا في الإسلام، لكم مالنا وعليكم ما علينا، وإن أبيتم فإنما نفرض عليكم أن تعطوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، فإن فعلتم قبلنا منكم وكففنا عنكم وإن أبيتم، فقد والله جاءكم قوم هم أحرص على الموت منكم على الحياة”.
– أن العقيدة وليس شيئًا قبلها كانت أساس التحرك الخارجي لإعلاء كلمة التوحيد وليس الحرص بدايةً على مكاسب الفتح المادية من أراض وغنائم وما شاكلها، ورغم ذلك لا يمكن القول إن هذه المكاسب لم تحرك نفوس فريق من المسلمين الفاتحين، ولا ضير في ذلك، إن إحدى الحسنيين التي وعدهم الله بها بفعل الجهاد وهي النصر لا تقف عند حد هزيمة العدو وإنما يلحق بها كل أوجه النصر الأخرى من وراثة الأرض، والديار والأموال والأصل: “من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله”.
– إن حركة الفتح لم تكن حركة استطالة على الناس وبغى وإفساد وخراب، بل كانت حركة إعمار واستخلاف للنظم والمؤسسات والسلطات، والنفوس والأراضي والأموال والقيم والأخلاق، ولم تكن حركة اضطهاد ديني، أو نهب ثروات، أو إبادة للشعوب، أو استغلالها واسترقاقها، أو فرض نظم مستبدة عليها، أو ما شاكل ذلك مما قاست منه دول وشعوب الحركة الاستعمارية الغربية التقليدية.
– كما أن حركة الفتح التي أبرزت براعة المسلمين في أعمال القتال البري دون القتال البحري، عبرت عن تفاعل بين مركز الدولة وأطرافها، بين الخليفة والقواد، الأمر الذي أحدث فاعلية في أنحاء الدولة في مواطن كثيرة، وجعل الخليفة على إحاطة دائمة بأهم الأحداث التي كانت تجري من حوله، خاصة تلك التي استدعت اتخاذ القرارات رأسًا منه.
3- تحديات الفيضان الخارجي لإدارة الدولة:
فقد تضخمت حدود الدولة واتسعت أطرافها كما سبق، ودخلت في رعويتها أعداد كبيرة من المسلمين وغير المسلمين، وكل ذلك ألقى بظلال تحديات كثيرة:
أوله: التغير في تركيبة الأمة ومكوناتها، فلم تعد أمة الإسلام المهاجرين والأنصار واليهود، وقبائل العرب، بل لحقت بهؤلاء جميعًا أمم وشعوب من الشرق والغرب، والشمال والجنوب، والروم والفرس والبربر والأحباش، وغيرهم، وهذه التركيبة كانت في حاجة شديدة إلى نموذج جديد للممارسة يستوعب هذه التمايزات لتخرج في النهاية الأمة الوسط التي لا تمايز فيها إلا بسبق في الدين والالتزام به.
والثاني: التغير في روافد ثقافة الدولة، فالجموع الجديدة التي ضمتها الدولة على تنوعها كميًّا كانت أكثر تنوعًا على المستوى الكيفي، في اللغات، والأجناس، والعادات والتقاليد، والثقافات، والمعتقدات، والأعراف، والميول والأهواء، وغيرها من المؤثرات بشكل يستوعب التنوع، ويوظفه بما يخدم وحدة الدولة ويحول دون ترهل جسدها، وتفتتها إلى كيانات عرقية، أو طائفية، أو دينية تعصف بتماسكها، وتفجرها من داخلها.
والثالث: التغير في طبيعة واجب سلطة مركز الدولة، وكيف يظل واجبها على ما كان عليه قبل الخليفة الثاني وقد تغيرت طبيعة الدولة، فامتداد أطرافها أضاف واجبات أخرى، مثل ضبط العلاقة مع ولاة الأطراف، واختيار الأنسب للولاية عليها، وفرض الرقابة عليهم ومحاسبتهم، ومتابعة ما يجري حول العاصمة، ومراعاة حقوق وواجبات غير المسلمين، والدفاع عنهم، والرقابة على الحركة في الأطراف، وضرب بادرة التمرد الداخلي إن ظهرت في أي منها، وكفالة الترتيبات الإدارية والنظامية اللازمة لكل ذلك.
والرابع: التغير في جوهر أمن الدولة داخليًّا وخارجيًّا، فأطراف الدولة تعددت، وبؤر التهديد الداخلي والخارجي المحتملة اتسعت، وثغور المسلمين للرباط ومهام الجهاد زادت أعباؤها وتكاليف الإنفاق عليها، وهذه التحديات كانت تستلزم تغييرًا في نمط القوة الواجب إعداده لتحقيق الأمن والحفاظ عليه، وضرب محاولات الاعتداء عليه، وإزالة مصادر الخوف والاضطراب، وهو ما كان يستشعره الخليفة تجاه الإنسان والحيوان “والذي بعث محمد بالحق لو أن جملاً هلك ضياعًا بشط الفرات لخشيت أن يسألني الله عنه”.
والخامس: التغير في كيفية التصرف في الأراضي التي فتحها المسلمون، وهو التصرف الذي لم يجد اتفاقًا عليه بادئ الأمر، فثمة فريق من المسلمين كان يرى تقسيمها لاعتبارها داخلة في أحكام الغنائم والفيئ حسب فتحها عنوة أو صلحًا، وتوزيعها على الفاتحين، والفريق الآخر كان يرى عدم تقسيمها، وتركها على ما كانت عليه قبل ظهور الإسلام عليها في أيدي أهلها.
4- الخليفة الثاني والتعامل مع تغيرات الحركة الخارجية:
فقد استطاع الخليفة عمر بن الخطاب بما أوتى من فراسة الحكم وتدبير السياسة أن يقود الدولة في عصره على نحو متوازن في إدارة حركة معاملاتها، الأمر الذي استطاع معه استيعاب تحديات التغيرات الخمسة السالفة، بمجموعة من الممارسات التي درج بعض مؤرخي المسلمين على اعتبار بعضها من أوليات هذا الخليفة وسبقه في النموذج الإسلامي للممارسة السياسية، وقد دللت هذه الأوليات وأشباهها على:
1- سعة الملكة الاجتهادية التي تمتع بها الخليفة وقدرته على قراءة واقع الحركة وعصرها وقراءة أصول التشريع الإسلامي التي كان يقود بها الدولة بلغة واعية ربطت بامتياز بين القراءتين.
2- الوعي بمتطلبات مجتمعه، والاستجابة لذلك بتغيير أو تطوير أو تعديل أو ابتداع بعض الفعاليات اللازمة لذلك، في إطار من سد حاجات ثلاث، حاجة أمته، وحاجة عصره، وحاجة استعلاء الأمة والعصر بالإسلام.
3- اعتبار المصلحة الشرعية رائدًا فيما لا نص قاطعًا فيه كأساس لتغيير أمور السياسة الشرعية، ولاتخاذ القرار السياسي فيما استجد من مشكلات، مع الاستعداد لمراجعة الذات والنزول عند الحق ما استبانت علاماته، مما ساعده على تصفية المواقف، والحفاظ على التماسك الداخلي، خلال التنقل من موقف إلى آخر، والبعد عن العنف في استيعاب تغيرات الحركة السياسية.
التطور الرابع والأخير: وهــن الدولة وانحسار حركتها داخليًّا وخارجيًّا
فكأنما كان المسلمون على موعد كي يصيب جسد الدولة بعد الخليفة الثاني تصدعات كبيرة أمسكت بتلابيب بعضها، فإذا بالفتنة تنتشر في الداخل لتعتلي زمام الوجود السياسي وتبسط أدواءها، وإذا بها تطبق على فيضان الدولة في الخارج، وتصيب وظيفتها الحضارية بالتوقف.
وهكذا تكاملت أدواء الداخل مع مثالب الخارج ليحل الوهن بالدولة، ولما لم تجد من يمنع استشراءه بدت تداعياته – حتى آخر الخلفاء الأربعة- وكان كل واحد منها بمثابة القاصمة التي لم تكن ثمة عاصمة لها، وبرز في سلسلة هذه القواصم:
1- قاصمة انتشار الاختلاف في عاصمة الدولة:
ورغم أن الخليفة قبل مقتله حرص على قطع طريق الاختلاف بوضع تصور لمخرج أزمة الخلافة بعده، إلا أن أمرها استهل بالاختلاف في العاصمة لتسري شراراته بالعدوى والفتنة إلى الأطراف، وبرز من مظاهر ذلك:
– الاختلاف حول من يلي أمر المسلمين بعد عمر بن الخطاب من بين الذين رشحهم للخلافة، ولم يحسم الاختلاف الاتفاق على عثمان ابن عفان، بل ظلت أبوابه مفتوحة، خاصة بعد تصور بعض المسلمين أن الأمر انطوى على ميكدة لبنى هاشم، وحتى لما قتل الخليفة الثالث وجد المسلمون أنفسهم أمام مشكلة من يخلفه، فلما استقر أغلبهم على مبايعة علي بن أبي طالب، وسط أجواء من الانقسامات والنـزاعات، وبدل أن يتجاوز المسلمون المحنة تفرقوا أوزاعًا وشيعًا، بين مؤيد لبيعته، ومعتزل لها، ورافض أن يدخل فيها، مما ترك بصماته لاحقًا.
– الاختلاف حول تصفية بعض مواقف الأزمة عقب مقتل الخليفتين الثاني والثالث، فبالنسبة إلى الأول ثأر ابنه لمقتله من قتلته من غير المسلمين، فلما آثر الخليفة الثالث العفو عنه ودفع الدية عارضه البعض وجاهروا بذلك، أما الثاني فقد اختلف المسلمون حول من له حق القصاص وولايته من قتلته، ومدى أولوية ذلك في واجبات السلطة مع الخليفة الرابع، وتزعم بنو أمية الاختلاف وأصروا على أحقيتهم بالقصاص دون إبطاء، ورفض الخليفة هذا الرأي، ورأي فريق ثالث –أصحاب الجمل من الصحابة- المناداة بالقصاص والتحرك له وبين الآراء الثلاثة كان ثمة رأي اعتزل أصحابه الأمر كله، واعتبروه فتنة لا يجب الخوض فيه.
– الاختلاف حول أعوان السلطة في عصر الخليفة الثالث، خاصة بعد تزايد نفوذ بنى أمية، وجعلهم في المقدمة في الولاية على أهم المناصب، مما ساعد على انتشار المؤاخذات عليه، وإثارة النزعات القبلية، ورفض تبريراته لهذا المسلك في استعلاء بنى أمية، وإذا كان ذلك من مقدمات الفتنة في خلافته، فسرعان ما بدت آثاره السلبية عقب مقتله وولاية علي بن أبي طالب، لما رفض ولاة بنى أمية قراره بإقالتهم، ورفض مبايعته، بل ومواجهته والصدام معه.
2- قاصمة نشر الإشاعات الهدامة في أنحاء الدولة:
أنها أحد أساليب الحرب النفسية التي أججت نار الفتنة، وزادتها اضطرامًا، فقد انتشرت في الآفاق واستعلت دعاوي العصبية، والتحيز القبلي، وروجت دعاوى التزوير وتدليس الكتب والرسائل التي كانت تطعن في الخلافة وقيادتها، خاصة مع الخليفة الرابع، وتعميم البلبلة والاضطراب خاصة تلك الكتب والرسائل التي زورت على ألسنة كبار الصحابة، كذلك استشرت شائعات الوقيعة، وإفساد الصلح بين المسلمين والعفو والصفح المتبادلين، خاصة في المواقف التي تحولت إلى إراقة للدماء وكانت لحقنها أقرب، في وقعة الجمل، ووقعة صفين، ووقعة النهروان، وتقدم ركب مؤججي الشائعات ومروجيها السبئية ومن تبعهم من اليهود والموالي، وبعض الذين حملوا الرغبة في الثأر من المسلمين بعد ضرباتهم الموجعة في أيام الفتوحات، وقبلها مع تصفية الردة.
3- قاصمة الحروب والدماء بين عناصر الجسد السياسي:
فقد تتباعت حلقات الفتنة وأودت باتفاق الكلمة في العاصمة، ومع استمرار مادة تطايرها في الأطراف بدت إمكانات المواجهة أوهي بكثير مما كان مطلوبًا، لذلك تصاعدت أسباب الانهيار العام وبلغ أوج شدته مع إفساح الطريق لمنطق السيف والدماء خاصة بين الصحابة، ولقد أفاضت المصادر التاريخية وفصلت في جولات القتال، وأطرافه، ومساره، وأسلحته، ونتائجه، وقتلاه، وهنا ينبغي ملاحظة الآتي لمعرفة الحال الذي وصلت إليه الدولة في آخر عهدها بالخلافة الراشدة:
– لقد أنهكت الخلافة في أواخر أيامها في نزيف مستمر من الدماء خاصة بفعل ما حدث في وقعة الجمل، ووقعة صفين، ووقعة النهروان، وإذا كان كل فريق من المتقاتلين سواء ممن كان مع الخليفة الرابع أم ممن كان ضده قد خرج متأولاً – على اختلاف التأويل وبقطع النظر عن مدى التسليم به أو رفضه- فذلك يعني أن كلا منهم كانت لديه الحجة في تبرير تفضيل بديل الحرب كبديل آخر، وبيد أن ذلك كان في ذات الوقت أحد مداخل توسيع هوة الشقاق.
– أوهنت الحروب – مع تعدد جولاتها وعظم خسائرها- موقع السلطة المركزية، واستنزفت قواها أكثر من مرة، دون فائدة حقيقية، وزاد الوهن، وهنا اضطرار الخليفة إلى التحرك في أكثر من جبهة والانتقال بنفسه لمتابعة القتال في أكثر من طرف في نفس الوقت، وكل ذلك كان لحساب تضخم سلطة بعض أطرافه، خاصة في الشام مع معاوية بن أبي سفيان.
جاءت المحاولات لحقن الدماء بالصلح والاتفاق على كلمة سواء دون المطلوب ولم يقدر لها أن تأتي بما كان مرجوًا منها، وبصرف النظر عن الأسباب، فإن اغتيال الخليفة الرابع أكد أن هذا النزيف الدموي لما لم يجد من يوقفه، بلغ مداه وعظم ولم يستثنِ حتى رأس الدولة، ونتيجة لكل ما سبق أصيبت إدارة الدولة بخلل كبير، بدت أهم مظاهره في عدم التفرغ لأداء واجبات السلطة، وتضاؤل مكانة العاصمة، وخروج بعض الأطراف عليها وانتقاص سيادتها، وتحرك هذه الأطراف للإغارة على بعضها، والعودة من جديد إلى مشكلة الفراغ القيادي.
4- قاصمة انتكاسة الفاعلية الخارجية:
وكيف تحدث أية فاعلية داخلية أو خارجية مع هذا الانهيار العام، فلم يكن ثمة بديل إلا القطيعة بين المسلمين وبين الحركة الخارجية، وتعطل الوظيفة الحضارية للجهاد، الذي أخذ معنى مختلفًا في سلبية توظيفه في علاقات المسلمين ببعضهم، وقصر دوره على صد بعض محاولات الاعتداء التي قامت بها بعض العناصر الخارجية، سواء تجاه عاصمة الخلافة، أو تجاه بعض أطرافها، ولقد جاءت التصفية الجسدية للخليفة الرابع لإكمال الطريق نحو إصابة الفاعلية الخارجية بالتوقف، وظهر أن المسلمين بمقتله لم يعوا الدرس جيدًا في أن وجود من لا سابقة لهم في دين أو خلق داخل الدولة شجعهم على التجرؤ على الدولة وعلى هيبة خلافتها، وتحدي اتفاق الأمة عليها، وأن نظام الخلافة حين لم يتخذ أية إجراءات للحفاظ على قيادتها من محاولات التصفية بعد أن تكررت مرتين مع الخليفتين الثاني والثالث، مهد السبيل إلى تجديدها مرة ثالثة مع غيرهما، وأن سياسة المسالمة وحقن الدماء، وتفضيل مثالية التضحية بالذات من جانب قيادة الدولة مع الخليفة الثالث على الضرب على أيدي الخارجين على شرعيتها، وكبح العصبية القبلية، وإجراء الإصلاحات اللازمة، لم تكن البديل الأنسب في تدارك الخلل من البداية، وتثبت بعدها أنها كانت في حاجة إلى المراجعة والتعديل.
المحور الثالث
اختصاصات الدولة الإسلامية في التعامل الخارجي
لا تنبع حركة الدولة في علاقاتها من فراغ، ولا يستقيم لهذه الحركة منطق أو حجة ما لم ترتكز على مجموعة من الفعاليات التي تمد الدولة بمقومات الوجود الحضاري، وشرعية الاعتبار والمكانة، وتكسب حركتها قوة في الدفع نحو تحقيق قيمها ومقاصدها وأهدافها، كغيرها من بقية أعضاء النسق الدولي الذي تعيش في إطاره، بصرف النظر عن موقعها فيه، وتأثيرهم فيه، وتأثرها به.
واختصاصات الدولة هي التي تربط مقومات وجودها وضروريات الفعل الحضاري المبنى عليها، ذلك أن الفعل الحضاري لا يقف بالمقومات عند مرحلة الوجود – بأية كيفية كانت عليها- وإنما يصهرها ويؤلف بينها، فإذا بها طاقة وحركة مستمرين ونشاط دائب، يتخذ من الداخل انطلاقته للخارج، ويفئ بثمرات الخارج على الداخل، بلا انقطاع بينهما أو ازدواج، إن الاختصاصات هنا تصير بمثابة التزام وإلزام بالنسبة إلى الدولة، فما تختص به تلتزم بالقيام بتبعاته إنماءً، واستخلافًا، وأمنًا وإصلاحًا، ولا تقف منه مجرد حارس أو رقيب، كما أن ما تختص به من ناحية أخرى تلزم الآخرين به وتكيفه معهم إن أرادوا إلزامًا مقابلاً عليها، وفقًا لقاعدة المعاملة بالمثل، إحدى القواعد المهمة في تأسيس علاقات الدول، ما لم يكن ثمة اتفاق متبادل يضع قواعد – مكتوبة أو غير مكتوبة- للإلزام والالتزام بينها وبين غيرها من الدول.
ومما لاشك فيه أن الدول تتفاوت في ممارسة اختصاصاتها تبعًا لعوامل عدة منها اختلاف فعالية ما تمتلكه وما يتأسس عليه وجودها، ومدى قدرتها على حشد هذه الفعاليات – كمًا وكيفًا- ومدى قدرتها كذلك على التوليف بينها وتحقيق التكامل بين عناصرها في عملية الحشد هذه، ومدى قدرتها أيضًا على الحفاظ عليها من التبديد والإهدار، ومدى قدرتها أخيرًا على توظيفها بشكل يسند مقاصدها ومصالحها.
والواقع أن الدولة الإسلامية تمارس في أداء المنوط بها من واجبات مجموعة من الاختصاصات التي تعلن من خلالها عن وجودها الحضاري بما لا يقبل التجاهل أو التشكيك، سواء من الدول التي تعترف لها بهذا الوجود، أم من تلك التي لا تعترف بها وتأبى القطيعة معها، وربما الصدام بها، معنى ذلك أن اختصاصاتها هي التي تمنحها أهلية الخطاب لما تدعو إليه، إنْ في مضمون كليهما، أو ولايته، أو طرائقه، أو وجهاته، أو توقيته، أو أشكاله، أو المواقف من ردود الفعل المقابلة، وأهلية الخطاب بدورها هي التي تضفى على الدولة الإسلامية شخصيتها القانونية، غير أن النظام القانوني الذي تستقى منه شخصيتها هو نظام قانوني مبني على الوحي، في أصوله وتفريعاته، والاجتهادات في إطاره، ومن ثم فهو النظام الوحيد الذي يعلوها، ويقودها من حيث يُشكل تشريعاتها المستمدة منه مباشرة، أو المبنية عليه، والمشتقة منه، وهذا يفرض عليها أن تبرأ من كل نظام آخر يخالفه، أو يخرج على قواعده، وقيمه.
واختصاصات الدولة الإسلامية التي يظللها نظامها القانوني المميز، يمكن إجمالها في أربعة: الاختصاص العقيدي، واختصاص ممارسة السلطة، والاختصاص البشرى، والاختصاص الإقليمي، وسيتم التعرض لكل منها بإيجاز، بعيدًا عن الإغراق في الجوانب الفقهية التفصيلية، ومع التركيز في كل اختصاص منها على أهم ما يتضمنه من قضايا ذات صلة وثيقة بالتعامل الخارجي.
أولاً: الاختصاص العقيدي
ربما تنفرد الدولة الإسلامية بأن وعاءها العقيدي يستوعب اختصاصاتها كافة، استيعاب وجود وتأسيس، واستيعاب نشاط ومسار، وكلاهما لا يدع مجالاً آخر للاختيار سوى التعانق معه، والتوافق، والتسليم باستعلائه وأولويته إن أرادت الدولة أن تعبر إسلاميتها عن حق يصادف حقيقة واقعة، والبون شاسع بين ممارسة الدولة الإسلامية لاختصاصها العقيدي وبين ممارسات دول أخرى لها منطلقات عقيدية مغايرة، كالدولة الروسية، والدولة العبرية والفاتيكان وغيرها، ودون دخول في تفاصيل لا يتسع لها المقام يكفي القول بأن الدول الإسلامية تأتي في هويتها نتاجًا للوعاء العقيدي الموحى به من السماء، ولا تفصل دينها عن سياستها، وتفرض عليها عقيدتها التعامل من منطلق حضاري منبثق من التوحيد الذي هو أصل قيم العدل، والقوة، والتسامح، واحترام العهود، وعدم الاعتداء، ورد العدوان، ونصرة المظلومين، وليس من منطلق عنصري، ولا يحتكر العمل السياسي فيها طبقة اقتصادية أو كهنوتية.
إن اختصاصها العقيدي وسطية لا ميل فيها، ولا اعوجاج، ولا غلو، ولا تطرف: ﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (سورة الأنعام: آية 161)، ولذلك تتعدد أبعاده في كونه مصدر الإذعان والالتزام في الدولة، ومنطلقًا للسلوك بموجبه، والتصرف بمقتضاه، والانتهاء عند حدوده، وأنه محور بناء السلطة السياسية، ويفرض وحده قيم التعامل داخليًّا وخارجيًّا، ويأبى إلا التواصل الحضاري والانفتاح على الآخرين.
وسوف يتم التوقف عند القضايا التالية في هذا الاختصاص.
أ- ضرورة إعلان الالتزام العقيدي كمناط للحركة الخارجية:
فكل ما يعتمل في الحركة الخارجية يجب أن لا يصطدم وحقائق التوحيد كقيمة عليا تحكم هذه الحركة، ولذلك يتطلب الالتزام العقيدي مقتضيات عدة منها:
1- جعل الالتزام ميثاقًا لا يقبل النقض، وعقدًا مرعيًّا من كل أبناء الدولة المسلمين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾ (سورة المائدة: آية 1). ومن صفات المسلمين أنهم: ﴿يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ﴾ (سورة الرعد: آية 20) وورد في الحديث “قضاء الله حق وشرط الله أوثق”.
2- الثبات على المبدأ العقيدي، بإتباع ما فيه: ﴿اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء﴾ (سورة الأعراف: آية 3) والاستقامة عليه: ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ﴾ (سورة الشورى: آية 15)، والاستمساك به ﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ﴾ (سورة الزخرف: آية 43).
3- إخلاص الوجهة فيه، بعيدًا عن إشراك أية مذاهب أخرى أو أيديولوجيات مخالفة ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ (سورة يوسف: آية 40) إنه وحده الذي يفاصل بين هوية الدولة الإسلامية داخليًّا وخارجيًّا وبين هويات غيرها، من حيث يوجب استعلاء ألوهيتها على ألوهيات غيرها، بعيدًا عن التخبط العقيدي، الذي يعد من أعظم آفاته “أن تجعل لله ندًا”.
4- تحصينه من البغي والظلم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾ (سورة النساء: آية 135) وصيغة المبالغة في لفظ “قوامين” توحي بضرورة الاجتهاد في مداومة إقامة العدل، دون ضعف أو ضجر على إطلاقه، في كل حال ومجال، بما يمنع الظلم، ويعطي كل ذي حق حقه، مسلمًا كان، أو غير مسلم، وثبت في الحديث “….فأعط كل ذي حق حقه” (البخاري عن أبي الدرداء رضي الله عنه).
5- التمكين الإصلاحي لتوكيد الوجه الإعماري للدولة: ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ﴾ (سورة الحج: آية 41)، ولو اقتضى التمكين إزالة البغي والعدوان أحيانًا: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ﴾ (سورة الشورى: آية 39).
ب- الالتزام العقيدي وإتباع الدولة في حركتها الخارجية:
والإتباع تحدث عنه القرآن الكريم أحيانًا بلغة النفع: ﴿فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا﴾ (سورة يونس: آية 98) وأحيانًا بلغة الفلاح: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (سورة الأعراف: آية 157)، والنفع والفلاح لا يتأن على صورة واحدة.
– فمن صورهما إرساء القيادة بالاستخلاف الصالح: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ (سورة النور: آية 55) ووراثة الأرض: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ….﴾ (سورة القصص: آية 5).
– ومن صورهما الأمن في الدنيا والآخرة: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ (سورة الأنعام: آية 82) وجماع معنى الأمن وردت في حديث ابن عباس: “أحفظ الله يحفظك، أحفظ الله تجده تجاهك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة….”.
– ومن صورهما الحصانة من الفقر والحاجة: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ﴾ (سورة الأعراف: آية 96)، ويفترض ذلك مداومة مراجعة الذات: ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا….﴾ (سورة هود: آية 3)، والعمل الصالح لأنه: “ما أكل أحد طعامًا قط خير من أن يأكل من عمل يده” وإحياء الموات واستزراع الأرض. “من كانت له فضل أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه. فإن أبى فليمسك أرضه” وعدم الاحتكار لأنه “لا يحتكر إلا خاطئ” والتكافل “من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان معه فضل زاد فليعد به على من لا زاد له”.
– ومن صور النفع والفلاح كذلك القوة في المواقف ووضوح الرؤية: ﴿يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾ (سورة إبراهيم: آية 27)، ذلك أن القوة لله جميعًا، وأنه سبحانه لا يعجزه شيء في تثبيت المؤمنين والدفاع عنهم: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ﴾ (سورة المدثر: آية 31) ويبقى من صورهما النصر في المواقف الجهادية: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (سورة الروم: آية 47) شريطة الاعتصام بالالتزام العقيدي: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ (سورة الحج: آية 78)، ونصرة الالتزام ذاته: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ﴾ (سورة الحج: آية 40)، والتسليم بأنه لا نصر إلا به ﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا﴾ (سورة الفرقان: آية 31).
جـ- الانفلات من العقيدة وإفساد حركة الدولة:
فكما أن للالتزام العقيدي مبشراته في النفع والفلاح على ما سبق، فإن للإنفلات منه نذره في إفساد حركة الدولة والإضرار بها، ومن ذلك:
– الإهلاك بالظلم: ﴿وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾ (سورة القصص: آية 59)، وقد يتأخر الإهلاك بفعل الإمهال والإستدراج: ﴿فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ (سورة الحج: آية 44)، ومن بعدهما يكون الأخذ الشديد: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ (سورة هود: آية 102).
– وضيق المعايش وشدتها ﴿وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ (سورة النحل: آية 112)، خاصة إذا صاحب التفلت العقيدي الشح والبخل “اتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم”، والبطر: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ﴾ (سورة القصص: آية 58).
– والتردي في التخبط التشريعي ﴿فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (سورة القصص: آية 50).
– وإبطاء النصر والإبتلاء بالهزيمة ﴿وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ﴾، حيث لا ناصر: ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾ (سورة البقرة: آية 270)، ولا جدوى للاغترار بالذات: ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ. فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنصَرُونَ﴾ (سورة فصلت: آية 15)، ولا لوم إلا للذات: ﴿مَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ (سورة الشورى: آية 30).
– وإذهاب الأمن وتكريس الخوف، بفعل ما يسود الوجود السياسي من اضطراب الحياة، وفساد أساس الالتزام السياسي، والاعتماد على القوة كسند لشرعية الحكم وطغيان التشريع البشري، وإتاحة الفرصة للوسيط المفسد بين الحاكم وبين المحكوم، وكل ذلك يؤول إلى الاستضعاف والوهن.
ثانيًا: اختصاص ممارسة السلطة
وهو اختصاص يتعلق بمناط قيادة الدولة الإسلامية ومن له شرعية هذه القيادة ليكون واجهة الحركة السياسية داخليًّا وخارجيًّا، ويستوقف البحث في هذا الاختصاص القضايا التالية:
(1) شرعية السلطة:
وجوهر الشرعية جدارة القيام على أمر المسلمين بما يصلحها على هدى من حراسة الدين وسياسة الدنيا به وهو مقام الشهود الإيماني على ما سبق في تعريف الدولة، بهذا المعنى تصير للشرعية سماتها، وأبعادها، فأما سماتها فإنها عقيدية من حيث تتأسس على عقيدة التوحيد التزامًا ومنهجًا في الحركة، وقيمية تبتغي مقاصد الشريعة وقيمها، وشاملة يناط بها كل ما يحقق حفظ الدين وصلاح الدنيا، ودينية يتعانق فيها الدين بالسياسة، والسياسة بالدين، دون ازدواج، وتكليفية تقوم على أمانة الاستخلاف والمسئولية عن ذلك ولا تتجرأ من حيث تلازم السلطة منذ قيامها وحتى استمرارها.
وأما أبعادها فإنها شرعية ترشيح وأهلية للولاية، وشرعية إسناد وبيعة، وشرعية ممارسة وأداء، فشرعية الترشيح تعني أن تتوافر فيمن يبغي السلطة أهلية القيام بأعبائها من العدالة الجامعة لشروطها، والعلم المؤدي إلى الاجتهاد، وسلامة الحواس، وسلامة الأعضاء، والرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح، والشجاعة والنجدة والنسب القرشي، وغير ذلك مما فصل فيه الفقهاء القدماء والمحدثون.
وشرعية الإسناد بالبيعة تعني أن يكون العقد بين الحاكم والمحكوم أساس الولاية، الذي بموجبه – أي العقد- يلتزم الأول بشرع الله في نهج السلطة وممارساتها، ويلتزم الثاني بتسليم أمره طاعة ونصحًا للأول، ما دام قائمًا على العقد، وللفقه مداخل كثيرة هنا لا يتسع المقام للخوض فيها.
وتبقى شرعية الممارسة والأداء، ومضمونها أن يظل الحاكم في السلطة ما دام مستجمعًا لشرائطها في الترشيح والإسناد، وقادرًا على القيام بأعبائها والواجبات الملقاة على عاتقه، والتي حصرها الماوردي في عشرة منها حفظ الدين، وتنفيذ الأحكام إلى آخره، ويتعلق بشرعية الممارسة مسائل فقهية لعل أبرزها، ثلاث، الأولى خاصة بواجبات الرعية قبل الحاكم، والثانية ترتبط بتغير شروط الترشيح بتغير في البدن، لخلل في الأعضاء أو الحواس، أو التصرف، أو التغير في العدالة بفسق الشهوات، وفسق الشبهات، والثالثة تتعلق بالخروج على السلطة، حال شرعيتها، وحال عدم انخلاعها طواعية رغم فسادها، وللفقهاء تفصيلات كثيرة في ذلك، يمكن الرجوع إليها في مكانها من المصادر الفقهية، ومصنفات الأحكام السلطانية، والسياسة الشرعية.
(2) الاعتراف بالسلطة الشرعية خارجيًّا:
ومبدأ الاعتراف بالدولة وبالسلطة الشرعية فيها ينطوي على مسائل فرعية كثيرة في القانون الدولي، فإذا ما أثير بخصوص الدولة الإسلامية، فثمة مبادئ يمكن مراعاتها في الحديث عنه:
– وأول ذلك: أن السلطة الشرعية في الدولة الإسلامية إذا سعت إلى الاعتراف بغيرها، أو إلى اعتراف الغير بها، وصار ذلك لازمًا وضروريًّا لتحقيق مقاصدها فيجب عليها أن تراجع كثيرًا من مقولات مبدأ الاعتراف في القانون الدولي، خاصة المقولات التي لا تتفق وطبيعتها، وما تدين به، وما تسعى إليه من الاعتراف بها، أو اعترافها بغيرها، مثل الخضوع لنظام قانوني دولي وضعي، وسريان الاعتراف بينها وبين دول قومية، وتأسيسه على المصالح القومية.
– والمبدأ الثاني: أن قاعدة المعاملة بالمثل في شأن الاعتراف بالسلطة مبدأ أصيل في علاقة الدولة الإسلامية بغيرها سلمًا أو قتالاً، فإذا ما أقيم الاعتراف المتبادل بينها وبين غيرها على هذه القاعدة فلا غضاضة، ما دامت المماثلة في المعاملة محكومة بقيم العدل وشرعية الغايات والوسائل في جلب المصالح للمسلمين ودرء المفاسد عنهم، والأصل في المعاملة بالمثل قوله تعالى: ﴿فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ﴾ (سورة التوبة: آية 7)، وقوله: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ﴾ (سورة النحل: آية 126).
– والمبدأ الثالث: لا مجال للاعتراف بأية سلطة أمر الشرع بقطع الصلة مع أمثالها لموقفها العدائي أو الإفسادي من المسلمين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ﴾ (سورة الممتحنة: آية 1). وبالمقابل إذا دخلت السلطة الشرعية في تعاقد يوجب الاعتراف المتبادل يلزمها الوفاء به، ما لم تسقط أركانه: ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً﴾ (سورة النحل: آية 91)، وإذا كان إدراك مصالح المسلمين، أو درء المفاسد عنهم ليس له من مخرج سوى الاعتراف بسلطة دولة أخرى، فذلك يدخل في إطار: “ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”، على أن تقدر ضرورة هذا الواجب بقدرها، دون ضرر أو إضرار.
– والمبدأ الرابع: أن عدم الاعتراف بأية سلطة أخرى غير إسلامية، أو العكس لا ينبغي أن يكون عائقًا أمام الدخول معها في علاقات سلمية، ما دامت إمكانات ذلك شرعًا متوافرة والأصل في ذلك قوله تعالى: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ….﴾ (سورة الممتحنة: آية 8)، ولقد صالح النبي r قريشًا في الحديبية رغم عدم الاعتراف المتبادل بينهما، والقانون الدولي المعاصر يسلم – في بعض اتجاهاته- بذلك.
(3) مدى شرعية تعدد السلطة في الدولة الإسلامية:
والحديث عن شرعية هذا التعدد له شقان، أحدهما يتعلق بمدى شرعية إسناد السلطة إلى أكثر من قيادة، حال توحد إقليم الدولة الإسلامية، والثاني يرتبط بمدى شرعية إسناد السلطة إلى أكثر من قيادة حال انقسام هذا الإقليم، والحديث عن الشق الثاني له موضع لاحق في تناول الاختصاص الإقليمي، أما الشق الأول، فالذي لا شك فيه أن ظلال التوحيد الذي يغلف وجود الجماعة المسلمة في عقيدتها وشريعتها، ورسولها يجب أن يترك بصماته في أن تكون ولاية السلطة فيها لقيادة واحدة، لما ورد في الحديث “وفوا ببيعه الأول، فالأول” وحديث “ومن بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر”، وقد انعقد رأي غالبية الفقهاء على أنه لا يجوز أن يكون للمسلمين إمامان شرعيان، وشذ قوم – بتعبير الماوردي- فجوزوه، وقد ذكر الجويني وجوها متعددة – شرعية وعقلية- لرفض التعدد، وانتهى إلى – نصب إمامين مدعاة للفساد، وسبب حسم الرشاد، وهو نفس ما قال به النووي في “شرح صحيح مسلم” إذ ذكر “أن العلماء اتفقوا على أنه لا يجوز أن يعقد لخليفتين في عصر واحد، سواء اتسعت دار الإسلام أم لا”.
(4) السلطة وانتزاع الشرعية بالقوة:
هناك من حالات الاختيار السياسي ما يكون للغة الإجبار والقوة منطق السيادة فيها، وبدلاً من مجيئ الاختيار مبنيًا على الرضاء والطواعية يأتي في هذه الحالات مؤسسًا على الإكراه والغضب، مع التسليم بأن لكل حالة ظروفها، ومن هذه الحالات في الفقه السياسي الإسلامي:
أ- حالة اغتصاب السلطة من قيادة شرعية، وهي حالة تسقط معها حجة الساعي إلى اغتصاب السلطة، بل تتطلب الحجة عليه، ليصبح من حق السلطة الشرعية مقاومته ولو بالقوة، لحديث: “بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا، وآثره علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله…. إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان” (مسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه)، وحديث: “من بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر”. قال النووي: “فإن لم يندفع إلا بحرب وقتال فقاتلوه، فإن دعت المقاتلة إلى قتله جاز قتله، ولا ضمان فيه لأنه ظالم متعد في قتاله”.
ب- حالة إسناد السلطة بالإكراه والغصب، وتأتي حين يحاول القائد السابق جعل السلطة بعده بالإكراه لمن يختاره كي يخلفه، وأول من اتبع هذا النهج معاوية بن أبي سفيان، لأجل حصر السلطان والجبروت في أسرته، وجعله حقًا شرعيًّا، أصلاً مرعيًّا لذاته، ولذلك عارضه أبناء الصحابة في صدر الإسلام، مما اضطر معاوية إلى انتزاع بيعتهم لابنه يزيد بالقوة.
جـ- حالة التغلب بالقوة الجبرية لقيادة الدولة، وهذه الحالة كسابقتها لا تركن إلى بيعة شرعية، وإنما إكراه وجبرية، لكنها تختلف عنها في أن الإكراه والجبرية مبنيان على انتزاع السلطة من قيادة قائمة، أو في غيبتها، ومن ثم ينتزع حق الأمة في أن تقول رأيها في التغلب، وهنا ثمة تفرقة بين مواقف في ذلك:
– موقف ما إذا جاء التغلب وأمر المسلمين بلا قيادة تجمعهم، هنا يرى ابن جماعة أنه تنعقد بيعته، ما دام أهلاً للسلطة، لينتظم شمل المسلمين وتجتمع كلمتهم، ولا يقدح في ذلك كونه جاهلاً أو فاسقًا على الأرجح.
– وموقف ما إذا كانت هناك قيادة شرعية، ولكن تغلبت عليها قيادة أخرى، هذا الموقف عَدّه الفقهاء من حالات الضرورة، سواء أدى التغلب إلى الحجر على القيادة القائمة، أم أزالها، والواجب مبايعة المتغلب إذا كان مستجمعًا لأكثر الشرائط من أهلها، مع الاجتهاد والسعي لاستجماعها كلها.
– وموقف ما إذا كانت القيادة المغتصبة قد استولت على السلطة من قيادة فاسدة، هنا يرى الجويني أن المتغلب يصير شرعيًّا إن كان ذا أتباع وأشياع، آمرًا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، راعيًا للمصالح، ناظرًا في المناجح، وموازنة ما يندفع، ويرتفع بما يتوقع.
– وموقف ما إذا كانت هناك قيادة متغلبة فأزالتها قيادة مثلها، هنا يصير الأمر – عند كثير من الفقهاء- لمن غلب، ما دام خروج الغاصب من أجل شهوة السلطة والحكم، فالغرض الحقيقي للسلطة إقامة الخلافة الصحيحة، فإذا كان الغرض وهو الاستيلاء بالقوة، فإن الإسلام لا مصلحة له في أن يحل غاصب مستبد مكان آخر.
ثالثًا: الاختصاص البشري
يشكل البشر مادة وجود الدولة في بعده الإنساني، سواء من كان منهم – وهم الأغلبية عادة- يقيم على إقليمها بصفة مستقرة، وإن اقتضت ظروف بعضهم مغادرته أحيانًا ولو لفترة – أو فترات- محدودة، طالت أم قصرت، أم من كان منهم – وهم الأقلية غالبًا- يقيم على إقليمها بصفة مؤقتة طارئة، الأولون ينتمون إلى الدولة انتماء مواطنة، ويتجنسون بجنسيتها، أما الآخرون فهم أجانب، يتجنسون بجنسية – أو جنسيات- أخرى، وكلا الفريقين مخاطب بالنظام القانوني للدولة، وما يفرضه من التزامات، وتناول الاختصاص البشري للدولة الإسلامية يفترض التوقف أمام بعض القضايا.
(1) أقسام المخاطبين بالاختصاص البشري:
وهؤلاء على فئات ثلاث، اثنتان منهما لهما حق الرعوية – الجنسية- وحق الرعاية، والثالثة لها حق الرعاية دون حق الرعوية.
فأما من له حق الرعوية وحق الرعاية فالمسلمون، والذميون، المسلمون بحكم انتمائهم العقيدي إلى نفس ما تدين به الدولة، وتجنسهم بجنسيتها، وإقامتهم المستقرة على إقليمها، والذميون لهم الحقان أيضًا بحكم التجنس وارتضائهم الإقامة المستقرة على هذا الإقليم بموجب عقد الذمة وإن اختلف انتماؤهم الديني عما يدين به المسلمون.
وأما من له حق الرعاية فهم المستأمنون لأنهم لا يستقرون على إقليم الدولة بصفة مستقرة دائمة، ولا يتجنسون بجنسيتها، وإنما يتوقف وجودهم بين المسلمين على ظروف طارئة سرعان ما تزول أسبابها، فيزول عنهم حق الإقامة المؤقتة، وإن كان هذا لا يحرمهم حق الرعاية حتى يعودوا من حيث جاءوا بموجب عقود الأمان التي يبرمونها مع المسلمين فور دخولهم دار الإسلام، وبدهي أن حق الرعاية مقصود به بالنسبة إلى الفئات الثلاث إعمال مقاصد الشرع فيهم بحفظ ما يؤمن استقرارهم وبقاءهم في الدين والنفس، والعقل، والعرض، والمال، حسب ما فصَّل الشرع واجتهد الفقه من أحكام تخص كل فئة، وتفاصيل ذلك مبسوطة في كتب الفقه ومصادر الأحكام السلطانية، لكن تجدر ملاحظة الآتي:
– أن وثيقة المدينة أو دستورها – كما سبق- تعد أول عهد مكتوب في الخبرة الإسلامية وضع لبنة مهمة في صياغة الأحكام العامة لعلاقة المسلمين بغيرهم خاصة داخل دار الإسلام.
– أن الذمة عقد وليست وضعًا لغير المسلمين من اليهود والنصارى ومن لهم شبهة كتاب موحي به، فهي تلزم الطرفين التزامًا تعاهديًا بحقوق وواجبات لا يجب العدوان عليها، كما أنها تنزه الإسلام من إرادة الدونية والوضاعة بغير المسلمين لمجرد المخالفة في الدين، وحين تأخذ الذمة حقيقة العقد فذلك أدعى للحفاظ عليها من كونها وضعًا يتغير بتغير النظر إليهم، ما لم تسقط شرائط العقد، ولذلك اعتبره الشرع عقدًا مؤبدًا لا مؤقتًا كالأمان.
– ينطوي فهم الذمة بالجزية، من حيث إسقاط الأولى إذا لم توف الثانية، على خطأ كبير، ذلك أن الجزية بدل حماية ودفاع عن الذمى، وعدم مشاركته في أعمال القتال التي يتكفل بها المسلمون، فإذا ما قصر المسلمون في الحماية أو عجزوا أسقطت الجزية دون الذمة، فضلاً على أن الجزية تؤدَى في حدود المتاح والطاقة على ذلك، ولا تُفرض على الأطفال والنساء والشيوخ، وتسقط عن غير القادر على أدائها، بل وتلزم نفقته المسلمون، الذين يؤدون كالذميين واجبات مالية للدولة من زكاة وصدقات، وربما فاقت في مقدارها ما يدفعه الذميون.
– لا ينظر الإسلام إلى غير المسلمين في دار الإسلام كأقلية أو أكثرية، وإنما شرع لهم أحكامًا على أنهم بشر لهم كرامتهم وإنسانيتهم بصرف النظر عن أعدادهم، فالعبرة لدى توافر ما يوجب الذمة أو الأمان لغير المسلمين، فردًا كان أو جماعة، والأصل أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وهذا لا يعني المساواة المطلقة في الحقوق والواجبات، وإلا ما كان ثمة داع أصلاً للتفرقة بين الفئات الثلاث، ذلك أن الوصف الديني يفرض تمييزًا في بعض الحقوق وبعض الواجبات، بعيدًا عن الاستطالة أو العنصرية في النظر إلى غير المسلمين.
(2) جنسية المخاطبين بالاختصاص البشري:
لا شك أن تحديد جنسية المخاطبين بالاختصاص البشري في الدولة الإسلامية يبين الوجهة البشرية التي تتجه إليها مقاصد السياسة الشرعية داخليًّا وخارجيًّا، ويكشف عمن يتعين على الدولة اعتبارهم من رعاياها لحمايتهم ورعايتهم على إقليمها وخارجه، والدفاع عنهم والتدخل لنصرتهم إذا ما هدد أمنهم، وانتهكت حقوقهم، بل والواجب مخاطبة هذه الدولة بشأنهم بصرف النظر عن مضمون الخطاب وموضوعه، وأداته.
وأصل الجنسية “رابطة قانونية وسياسية قائمة بين الدولة ومجموعة الأشخاص المكونين لعنصرها السكاني، مستندة في أساسها إلى واقع الارتباط الاجتماعي بين طرفيها، القائم على المزيج من المشاعر العاطفية والمصالح المادية والاعتبارات التاريخية، والمنعكسة في مجال القانون في صورة التزامات معينة على عاتق والطرفين”.
فهناك ثلاثة عناصر للجنسية – سواء كانت أصلية أم مكتسبة- الدولة، والفرد، والعلاقة متعددة الأبعاد بينهما.
وقد استنبط الفقهاء – خاصة المحدثين- من مفهوم دار الإسلام وجود رابطة بين طرفي الدار، وأهلها، فالدار هي الكيان الحضاري الذي ينتظم وجودهم من خلاله وقد عبر عن نفسه في حقيقة عقيدية سياسية وإقليمية، والأهل الذين ينتسبون إليها ويقيمون على إقليمها، ويدينون بالولاء لها، والرابطة هي حدود ما بين الدار وبين أهلها من ضوابط تشريعية وسياسية، وهنا يصير لزامًا توضيح بعض النقاط:
– الأولى: لا يعني تمتع المسلمين والذميين بجنسية الدولة على قدم سواء كقاعدة عامة أن الذميين داخلون في النسيج العقيدي العام المكون لجماعة المسلمين فصاروا منهم، إن المعتقد الديني لكل منهم يجعل الذميين أمة من دون المسلمين، وبذلك نطقت وثيقة المدينة في العصر النبوي، وإن كان ذلك لا يشكك في اعتبار كليهما معًا أساس تكوين الجسد الاجتماعي ولا يقطع وشائج التعاون، والتناصر، والتراحم، والعدل، والبر، وما شاكل ذلك من قيم ضابطة.
– والثانية: ثمة اختلاف بين العلماء في سند الجنسية لغير المسلمين، فمنهم من ذهب إلى أن السند هو الإقامة غير المؤقتة في دار السلام عن طريق القرائن الدالة على رضاه أو بالتبعية لغيره، أو بالغلبة والفتح، ومنهم من رأى أن السند هو عقد الذمة الصريح، وليس ثمة اختلاف بين الرأيين، فكلاهما يعتمد العقد كأساس للجنسية، غير أنه ضمني في الرأي الأول، وصريح في الثاني.
– والثالثة: أن جنسية المسلم تصبح بلا محل إذا خلع ربقة الإسلام من عنقه طواعية، وإن كان ذلك قد يفقده إضافة إلى جنسيته وجوده من الحياة، إذ “من بدل دينه فاقتلوه”، أما الذمي فإن جنسيته تدور مع أساس اكتسابه لها، أي عقد الذمة، فإن خرج منه أو أخل بشروطه فقد أخرج نفسه من جنسيته، أما المستأمن الأجنبي، فقد يكتسب الجنسية لاحقًا بالدخول في الإسلام أو ارتضاء الذمة بالعقد أو القرائن، وهنا تصير جنسيته مكتسبة وليست أصلية، وإن مال بعض العلماء إلى غير ذلك، عكس الذمي الذي قد تكون جنسيته أصلية لحظة ولادته في دار الإسلام وكان أبوه ذميًا، أو مكتسبة بعد ولاته قبل أن يدخل أبوه في الذمة.
(3) نطاق ممارسة الاختصاص البشري وقضية السيادة:
وهذه من القضايا الشائكة في الفقه السياسي الإسلامي، وذلك أن نطاق ممارسة الاختصاص البشري داخليًّا وخارجيًّا يرتبط بحدود سلطات الدولة الإسلامية على إقليمها وأهلها عليه، ويتعلق بمدى شرعيتها في اتخاذ تدابير الأمن تجاه أية محاولة للخروج على سلطاتها، أو للوقاية من حدوث ذلك، أو شرعية اتخاذ تدابير مقابلة لمساءلتها عما قد يحدث من تجاوز لنطاق ممارستها لاختصاصها البشري، بشكل يمس السلطان المقابل للدول الأخرى، خاصة المجاورة لها، وثمة اختلاف في هذه القضية.
فهناك من جعل السيادة المطلقة لله وحده، أو للشريعة الحاكمة للدولة، وهناك من انتصر للقول بأن السيادة للدولة في مظهريها الداخلي والخارجي – قياسًا على سيادة الدولة القومية المعاصرة، وهناك ثالثًا من عد الأمة هي صاحبة السيادة، وهناك رابعًا من جعل السيادة للأمة والشريعة معًا، الشريعة بحكم أوامرها ونواهيها فيما يجب الالتزام به وما لا يجب، والأمة المخاطبة بالشريعة والتي لها حق التشريع فيما لا نص فيه في الشريعة دون مخالفة أصولها، وهناك أخيرًا من أنكر أن تثار المسألة برمتها في الفقه الإسلامي فهي نظرية فرنسية، لا محل لها في خبرة المسلمين ولم يتعرض لها علماؤهم القدامى، وهنا يجب ملاحظة الآتي على هذه الآراء:
1- أن كل هذه الآراء متفقة على مكانة الشريعة ودورها المحوري في تأسيس قواعد السلوك السياسي للدولة الإسلامية، وأن مرد الاختلاف هو عدم التفرقة عند أصحابها بين مصدر السيادة وبين مستقرها، فالكل مجمع على أن المصدر هو المشرع الواحد سبحانه، لكنهم مختلفون حول مستقر السيادة، أي من يتولاها، ما بين الدولة، والأمة، والسلطة.
2- ليس ثمة فارق بين من رأى الأمة مستقرًا للسيادة، وبين من رأى الدولة هي المستقر، ذلك أن الأمة لا تتحرك في وجودها السياسي وعلاقاتها الخارجية من فراغ، أو بكلتيهما، وإنما تختار من ينوب عنها في ذلك، أو قد يفرض عليها، والذين قالوا باستقرار السيادة في الدولة لم يقصدوا إلا دولة إسلامية، ولم يفصموا عراها عن الأمة التي تمنح السلطة فيها حق الولاية عليها.
3- لا يجب أن يتمحور الخلاف حول استخدام مفهوم السيادة بين قبوله وبين رفضه، إذ يمكن التحفظ على هذا الاستخدام بحيث يمكن قبوله، ويمكن رفضه، قبوله لأن للمفهوم أصلاً عربيًّا مادته سواء في اللغة التي تعني السبق، والسؤدد، والمجد، والشرف، والغلبة، والولاية، والرئاسة، ولأنه لا ينطوي على أي معنى للاستبداد، لأن السلطة التي تمارس السيادة ليست مطلقة من أية قيود، على ما سبق في الحديث عن الشرعية، أما رفض المفهوم فيمكن الدفع به إذا كان المقصود إطلاق سلطان الدولة من أية قيود شرعية، أو إذا كان توكيدًا لنقل خبرة الصراع بين الدين والدولة، استمرارًا لتقاليد العصور الوسطى، وهي خبرة لنزاع لا محل له في الإسلام.
أن سلطان الدولة الإسلامية أو سيادتها على رعاياها الذين يقيمون بها كاملة، أما من يقيمون خارجها فليس ثمة ولاية سياسية لها عليهم في أرجح الأقوال، أما الذميون فالسيادة عليهم كاملة كالسيادة على المسلمين المقيمين إلا فيما يختص أمور عقيدتهم ودينهم، حين أن المستأمنين بمنزلة الذميين إلا أنهم يختلفون عندهم في بعض الواجبات التي هي أساس التزام الذمي بها كونه من أهل دار الإسلام.
4- الاختصاص البشري والعلاقة بين الدولة وبين كل من الأمة والجماعة:
هذه المفاهيم الثلاثة يستخدمها البعض في الحديث عن مناط الاختصاص البشري في التعامل الخارجي، ويستلزم ضبط العلاقة بينها القول بصفة عامة:
– إن هذه المفاهيم الثلاثة تتفق في كون الإسلام هو الوجه الحضاري لتأسيسها والتزامها، وأن المحتوى العقيدي فيها يتقدم على أي محتوى آخر، غير أن الرابط العقيدي هو أساس الأمة الأول فكل من يعتقد الإسلام يصبح من الأمة أينما حل وأقام، أما الدولة فيلزم –رغم استعلاء العقيدة- وجود روابط أخرى بجوارها بشرية وإقليمية وسياسية، حيث أن الجماعة المسلمة كالأمة في تكوينها العقيدي لكنها أقل عددًا، ونطاقها الإقليمي محدود، والعضو فيها يجمع بين الانتماء إلى الأمة وإلى الجماعة، إلى الكل والجزء.
– إن العنصر البشري كمادة يستقيم عليها بناء الأمة والدولة والجماعة تختلف طبيعته ومحتواه أحيانًا، فهو في الأمة قد يندرج من الفرد إلى الفئة إلى كل المسلمين الفرد كنبي الله إبراهيم ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾ (سورة النحل: آية 120)، والفئة ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾ (سورة آل عمران: آية 104)، والمسلمون كلهم ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ (سورة آل عمران: آية 110)، أما العنصر البشري في الدولة فلا ينهض به فرد واحد ليقيم الدولة إلا إذا اختصر سكانها وقال أنا الدولة، بل لابد من جماعة هي الجماعة المسلمة وبجانبها الجماعات الأخرى من الذميين مواطنيها، وهذا يعنى أنه داخل الدولة لا حرج بتعددية الجماعات، ولكن الجماعة المسلمة يظل لها تميزها كأمة من دون الناس ذوى الانتماء الديني المغاير.
– أن الإسلام الذي تحمل صفته الأمة والدولة والجماعة يفرض سريان النظام القيمي الذي تنبع من هذه الصفة في كل منها، بحيث يقابل الأمة الوسط الدولة الوسط، والجماعة الوسط ويقابل الأمة العادلة الدولة العادلة والجماعة العادلة. ويبقى التساؤل: هل يلزم أن يقابل الأمة الواحدة الدولة الواحدة ومن ثم الجماعة الواحدة؟ والإجابة تؤكد أن الأصل في الإسلام أن تتطابق صفة التفرد في المفاهيم الثلاثة، كما كان الحال إبان عصر النبوة، غير أن هذا الأصل قد يطرأ عليه ما يغيره، ولذلك تفصيله في الاختصاص الإقليمي.
رابعًا وأخيرًا: الاختصاص الإقليمي
وهو الاختصاص الذي يحتضن بقية الاختصاصات الأخرى ويؤكد فعالياتها، فالدولة لا تستطيع أن تمارس أيًا منها ما لم يتهيأ لها النطاق المكاني الذي تنطلق منه كقاعدة راسخة تعلن من خلاله عن هويتها ورسالتها الحضارية، وكركيزة قوية تستمد منها مصادر إنمائها ومعايشها وروافد أنشطتها، وكوعاء أرضي يستوعب من ينتمون إلى جنسيتها والأجانب فيها، ويثير الاختصاص الإقليمي من القضايا ما يلي:
(أ) الاختصاص الإقليمي ومشتملات أراضي المسلمين:
فقد تحدث الفقهاء عن امتداد أراضي المسلمين أو بلادهم – على ما يذكر الكثير منهم – بغض النظر عن توحيد الإقليم الذي يحتويها أو انقسامه، وقد رتبوا لكل قسم من أقسامها بعض الأحكام الشرعية التي توقف عندها رواد الأحكام السلطانية، خاصة الماوردي وأبي يعلى، ومما يستلفت النظر في دلالات هذه الأقسام:
1- أنها وما يندرج تحتها من أقسام فرعية دليل صدق على فاعلية الوظيفة العقدية للدولة الإسلامية وما واكبها زمن فتوحات أثمرها التوظيف الحضاري للجهاد خاصة في عصر النبوة، أما الأحكام المتعلقة بكل قسم – أصلي أو فرعي- فتشهد على ما بلغه الفقهاء من شأن عظيم في فقه واقع هذا الاتساع الإقليمي وفقه تنزيل الشرع عليه وتحدياته.
2- إن توقف العمل بكثير من أحكام إقليم دار الإسلام بفعل حالة الوهن الذي أصاب الجسد الإسلامي، وما صاحبه من انتكاس لحركة الجهاد ووظيفته الحضارية، فضلاً على ما زامنه من انتقاص لبعض أطراف المسلمين، لا يعني أن هذه الأحكام قد أضحت ملغاة أو لا محل تشريعيًّا لها، وإنما المتبادر أن علة كل منها هي التي تعطلت، والحكم يدور مع علته، مهما كانت المصالح التي يتضمنها أو المفاسد التي يدرأها، ومن البدهي في أصول الفقه أن حركة الحاكم في التعامل الإقليمي لإدراك المصالح أو تفويت المفاسد أحد مداخل شرعيته، إذ التصرف على الرعية منوط بالمصلحة.
3- حرى بالفقه السياسي الحديث أن يكمل مسيرة من سبقه من حيث التصدي لما استجد من قضايا معاصرة تتعلق بدار الإسلام بعد انقسامها إلى دول متعددة مثل قضايا الصلح الأبدي مع المحتل الغاصب، وعدم نصرة المسلمين المستضعفين بفعل مبدأ عدم التدخل في شؤون الدول، ونزاعات الحدود الإقليمية، والعدوان من دولة مسلمة على دولة أخرى مسلمة واحتلال أراضيها، والاستنصار بدول غير مسلمة، وعلاقة الجهاد بالإرهاب والتطرف الديني، والحرب المقدسة، وقطع العلاقات بين المسلمين، وفرض الحصار – الكلي أو الجزئي- على بعض الدول المسلمة.
(ب) الاختصاص الإقليمي بين داري الإسلام والكفر:
لا يزال الحديث عن هذا الاختصاص يرتبط مباشرة بما صنف عن أقسام النطاق الإقليمي الذي يمكن أن ينتظم المعمورة – من الوجهة الفقهية الإسلامية- ما بين دار الإسلام وما رادفها من دور العدل، والتوحيد، والسلم، وبين الدار المغايرة لها وما رادفها من دور الكفر، والشرك والحرب، والظلم، والردة، فضلاً عن دار العهد، ودار الهدنة.
وثمة اتجاهات ثلاثة في تعريف دار الإسلام والدار المغايرة لها:
– أحدها: يزعم أصحابه أنه إنما تضاف الدار إلى الإسلام أو إلى الكفر لظهور الإسلام أو الكفر فيها، وظهور الإسلام أو الكفر بظهور أحكامها، فكل دار غلبت فيها أحكام الإسلام دون أحكام الكفر فهي دار الإسلام، والعكس صحيح.
– والثاني: يرى أنصاره أن دار الإسلام لا تصير دار حرب إلا بإجراء أحكام أهل الشرك فيها، واتصالها بدار الحرب، وأن لا يبقى فيها مسلم أو ذمى آمنًا بالأمان الأول على نفسه، ودار الحرب تصير دار إسلام بإجراء أحكام أهل الإسلام فيها، وإن بقى فيها كافر أصلي، وإن لم تتصل بدار الإسلام.
– والثالث: يذهب مؤيدوه إلى أن دار الإسلام هي التي لا يخشى عدوان منها ولا تقصر في تحقيق الأمان لكل من يريده، ودار الشرك أو الكفر هي دار الحرب والعدوان، لأن الكفار والمشركين لا يهدأ لهم بال إلا بالقضاء على دار الإسلام وعلى من يريد اللجوء إليها طالبًا الأمان.
والناظر في هذه الاتجاهات يمكنه استنتاج بعض النتائج والتي منها:
1- أن اتفاقها على ضرورة مغايرة دار الإسلام لغيرها يؤكد حقيقة استعلاء الاختصاص العقيدي على ما عداه من اختصاصات. وفي حين أن اختلافها على اسم الدار المغايرة، لم يمنع من اتفاقها كذلك في أن مناط الاختلاف هو الظهور والغلبة ونفاذ السلطان للأحكام المطبقة في كل منهما، فإن كانت للإسلام والمسلمين فهي دار سلام، وإلا فهي دار كفر أو شرك، أو حرب على ما فضل أصحاب كل اتجاه من اسم للدار المغايرة لها.
2- لا ينهض ما ذكره البعض أو نقلوه من أن مناط التمييز بين الدارين هو الأمان في دار الإسلام، وعدمه في دار الكفر، ذلك أن المسلمين قد يأمنون في دار الحرب وهنا لا يعني أنها قد صارت دار إسلام إن كانت أحكام الكفر هي المرعية والنافذة عليهم، كما أن الأمان يتحقق للذمي والمستأمن في دار الإسلام ولا يعني ذلك أن أمانهم قد حولها إلى دار حرب، فما حكم الدار الواحدة إن جمعت بين أمان المسلمين وبين أمان غيرهم، هل تكون دار حرب ودار إسلام في نفس الوقت فيتحقق فيها النقيضان معًا؟ وما الداعي والحال كذلك – إلى التفرقة أصلاً؟
3- تصدى بعض العلماء لحكم الإقامة في دار الكفر مستندين في ذلك إلى بعض النصوص المنزلة – قرآنًا وسنة- منها ما ذكره ابن حجر في تعليقه على حديث: لا هجرة بعد الفتح “من أنه لا تجب الهجرة من بلد قد فتحه المسلمون، أما قبل الفتح فمن به – أي مقيم بهذه البلد- من المسلمين أحد ثلاثة، قادر على الهجرة منها، ولا يمكنه إظهار دينه بها، ولا أداء واجباته فالهجرة منه واجبة. وقادر ولكنه يمكن إظهار دينه وأداء واجباته، فالهجرة مستحبة لتكثير المسلمين ومعونتهم وجهاد الكفار، وأمن غدرهم، والراحة من رؤية المنكر بينهم. وعاجز لعذر من أسر أو مرض أو غير ذلك، فيجوز له الإقامة، فإن حمل على نفسه، وتكلف الخروج منها أُجر، ونقل عن بعض العلماء قولهم: “إن الهجرة عن دار الكفر واجبة إجماعًا، حيث حمل على معصية فعل أو ترك أو طلبها الإمام بقوته لسلطانه”.
– لم يتفق الفقهاء حول حكم الدار إذا انحسرت عنها أحكام الإسلام إن اغتصبها مغتصب، فمنهم من عدها دار حرب، ومنهم من قال أنها لا تصير كذلك إلا بغلبة الكفر، ومجاورتها دار الحرب، وضياع الأمن عليها، ومنهم من اعتبرها دار إسلام، واختار ابن تيمية أنها وسط، فلا هي دار حرب ولا هي دار إسلام، يعامل المسلم بما يستحق ويُقاتل الخارج على الشريعة بما يستحق.
– ويبقى أن اجتهادات تقسيم الدور هي اجتهادات فقهية وليست تشريعات صريحة في الأصول المنزلة، ورغم ذلك فإن الفقهاء لم يبنوها من فراغ أو بعيدًا عن بعض نصوص هذه الأصول، أو ممارسات حكام المسلمين في صدر الإسلام، فضلاً على أنها أسست على عاملين مهمين دار إسلام على الحقيقة، وعزة ومنعة للمسلمين داخلها، فهي اجتهادات واقع ساد فيه المسلمون، وكان لهم فيه دور في إدارة مساره واتخاذ القرار فيه، أما وقد تحول الحال إلى واقع الوهن والتبعية فالأحرى البحث عن اجتهادات تناسب المرحلة الجديدة بدل التشكيك في اجتهادات السابقين.
(جـ) السلطة في إقليم الدولة بين الوحدة والتعدد:
فالأصل كما سبق أن وحدة الدار من وحدة السلطة فيها، بيد أن هذا الأصل قد يرد عليه استثناء، بموجبه قد ينشطر إقليم دار الإسلام إلى أكثر من إقليم فرعي، وتصير دولاً داخل دولة الواحدة، تستعلى فيها سلطات متباينة على حدود إقليمية متجاورة أو متباعدة.
وقد تنفرج العلاقات بينها، وقد تتأزم، وهذا الاستثناء الذي عده الفقهاء من حالات الضرورة لم يقبله بعضهم كالماوردي وأبي يعلى، أما الإمام الجويني فهو أشهر من تصدى لبيان أوجه الضرورة من التسليم بتعدد السلطة، ولكنه حرص مقدمًا على توكيد الأصل في وحدتها، وقد ذكر من هذه الأوجه أنه إذا ظهر أن إمام المسلمين لا يبلغ نظره وتدبيره جميع أقطار دار الإسلام، لسبب أو لآخر، فلا ينبغي أن يترك الذين لم يبلغهم النظر والتدبير مهملين، وإنما ينصِّبون أميرًا يرجعون إليه، ويصدرون عن أمره على منهج الشرع، حتى يشملهم الإمام برعايته فيذعن الأمير لسلطانه، كذلك إذا خلا الدهر في زمن ضعف المسلمين وصعب نصب إمام واحد يشمل البلاد وانفصل شطر منها عن شطر، بحيث كان لكلٍ أمير، لم يصر أي منهما إمامًا، فذلك جائز أيضًا، على أن يقود الأميران بموجب الشرع، وأن يسلما السلطة إذا اتفق المسلمون على نصب إمام على هذا الدار، وقد اعتبر بعض المعاصرين –كالشيخ رشيد رضا- التعدد كتعدد الجمعة في البلد الواحد، وأن ذلك من المناسب للقواعد الشرعية، والمطابق لما تدل عليه الأدلة، وهو اجتهاد يحتاج إلى مراجعة فشتان بين المقيس وبين المقيس به.
(د) الدفاع عن إقليم الدولة الإسلامية:
وقد تناول الباحث هذه القضية في رسالته للدكتوراه بتفصيل ويكفي هنا القول بخصوص هذا الدفاع:
– أنه دفاع لا يثار فقط حال تعرض إقليم الدولة لأي عدوان إنما يرتبط بأية محاولة للعدوان مهما كان صورته، ما دامت تهدد أمنه وأمن المقيمين عليه مسلمين وغير مسلمين.
– كذلك فهو دفاع يسير مع حراسة الدين وسياسة الدنيا به، فإذا حاد عن حراسة الدين وسياسة الدنيا، فهو دفاع في أي سبيل آخر غير سبيل الله.
– ثم إنه دفاع يمتد ليشمل كل ما يتعلق بإقليم الدولة من يابس وماء وجو، وإذا كان الفقهاء الأوائل لم يتعرضوا لذلك تفصيلاً خاصة فيما يخص الشق الجوي، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب
– كما أنه
– دفاع يستند على إعداد القوة قدر الطاقة، على أن لا يكون في الإعداد ما يعطي الدنية في الدين، وأن تتم متابعته وتجديده وتقويمه، وأن يأتي منظمًا مخططًا، ويشمل كل أصناف القوة المسلحة وغير المسلحة.
– وأخيرًا فهو دفاع قد يكون فرضًا على الكفاية إن أداه بعض المسلمين سقط عن بعضهم، أو على العين، بحيث لا يسقط إلا على من أعذرهم الشرع، لكنه في كليهما – ومع التسليم باختلاف الحالات التي تجعل من أيهما كفاية والآخر عينًا- يقع على عاتق المسلمين يؤدونه عن أنفسهم وعن أهل الذمة، ذلك أن الجزية كما سبق بدل دفاع عنهم، فلو عجز المسلمون عن حمايتهم والزود عنهم حل لهم الإعفاء من الجزية، وإذا شاركوا المسلمين الدفاع عن دار الإسلام تسقط عنه الجزية كما ذهب بعض المعاصرين.
خاتمة:
حاولت هذه الدراسة أن تسد بعض النقص فيما كتب عن أبعاد الحركة الخارجية للدولة الإسلامية في علاقاتها بغيرها من الدول، وذلك بالبحث عما في الأصول المنزلة – قرآنًا وسنة- من حديث حول هذه الأبعاد، وعما في الخبرة السياسية النموذج – في عصري النبوة والخلافة الراشدة- من خبر عنها وتفعيل لها، وقد ركزت الدراسة في هدفها هذا على أربع مسائل، مسألة المفهوم العام للدولة الإسلامية، وما يندرج تحته من معان وما يتضمنه من عناصر، وما يحتويه من دلالات سياسية، ومسألة الحركة الخارجية للدولة الإسلامية في أسس وجودها ومبادئها وملامحها العامة، ومسألة أبعاد هذه الحركة في تطوراتها الأربعة منذ عصر النبوة وانتهاء بآخر عصر الخلافة الراشدة، ثم مسألة اختصاصات الدولة الإسلامية في علاقاتها الخارجية والتي تجعل منها واحدة فاعلة في محيطها، سواء في بعدها العقيدي، أو في مجال ممارسة السلطة، أو في بعدها البشري، وأخيرًا في بعدها الإقليمي، الأمر الذي يؤكد صدق المقولة الأساسية لهذه الدراسة.
ولقد تبين أن الدولة الإسلامية دولة لها تميزها واستقلالها – إن في أسس وجودها، أو في بنائها، أو في حركتها الداخلية والخارجية، وهي تظل كذلك ما حفظت سنن الله في إبقاء أسس الوجود وعوامل البناء، وطاقات الحركة، غير أن ذلك لا يعني أن يكون الإبقاء بالمعنى السالف مرادفًا للتمسك بالجمود والسكون أو الحفاظ عليها، ذلك أن التمسك بهما أو الحفاظ عليهما في الحركة بجانبيها، مهما شهدت الدولة من تطورات أو واكب محيطها من تغييرات، أو طرأ عليها من وقائع وأحداث هو الانتحار بعينه إن جاز على الدول، فالدولة بهذا السلوك إنما تكون قد اصطدمت ببعض السنن الإلهية التي تربط استمرار التمكين في الأرض والشهود على الأمم والدول بعمليات التجديد والتغيير وتطهير الذات، والقدرة على تدبير إمكانات التدافع والدفع للمستجد من المحن والأزمات، وحفظ السنن ليس من الجمود في شيء.
ومن ناحية أخرى فإن التفلت والجنوح والإصرار عليهما، مهما كان للدولة من ثوابت لا يجب أن تحيد عنها، ومرتكزات لابد من الارتكاز عليها، وأصول لا يستعاض عنها، هو التفريط بعينه، سواء وقع في الحركة – داخليًّا وخارجيًّا- بوعي أو بدونه، والتفريط في إسلاميتها، ومن ثم الدخول في سنن الله القاضية بإذهاب التمكن والشهود الحضاريين إلى حيث تداول الأيام في تعاملاتها وعلاقاتها عليها، جزاءً وفاقًا، رغم ما قد تظهره من إسلام في الاسم والمظهر.
ولعل سقوط الدولة في أكثر من بقعة من ديار المسلمين بين هذين الداءين قديمًا ومعاصرًا وانجذابها إلى الداء الأول مرة وإلى الثاني مرة أخرى، ومن ثم وقوعها في أي منهما يشكل مدخلاً مهمًا في تفسير كثير من الأمراض التي فتكت قديمًا وتفتك معاصرًا بجسدها، الأمر الذي قادها إلى الشيخوخة المبكرة، والوهن المستمر، والهزيمة المتكررة، والنماذج كثيرة، والمظاهر أكثر في كل الاختصاصات، ولعل ذلك يحتاج وقفات كثيرة قبل البحث عن دواء يسترجع عبر الماضي ويقضي على علل الحاضر.
والوقفة الأولى: تقتضي تتبع الخبرة السياسية لرصد مسارات التأزم، ومحاولات تجاوزه، وليس الاكتفاء بالصورة الراهنة له، وذلك أن الافتئات على الماضي والقفز على أحداثه هو في الوقت ذاته قفز على الطبيعة الحضارية للدولة في عالمنا العربي والإسلامي حيث ينـزعها من سياقها، ويستأصلها من جذورها، والوقفة الثانية: تفرض البحث في مصادر التأزم الداخلية والخارجية على قدم المساواة دون تفريط أو إفراط، فلا عقلية التآمر تكفي في هذا السبيل، ولا عقلية الوهن التي تنتصر للداخل تكفي في أسباب التأزم؛ أى أنه لابد من نظرة شاملة، قد يكون الداخل منطلقها ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ﴾ ولكنه ليس وحده ورائها، والوقفة الثالثة: يتعين من خلالها العودة إلى الأصول عودة واعية لقياس الخلل من خلالها، ولتصويب المعوج في دائرتها، والعودة الواعية لا تكون إلا بعقلية اجتهادية جماعية، والوقفة الرابعة: تتطلب أن يتكاتف الجميع في إزالة الغمة ورفع التداعي، وأولى خطوات التكاتف رفع التأزم المتكلف بين الحكماء والعلماء، بين السلطة والثقافة، بين الحكم والمعرفة، والوقفة الخامسة: تفترض تزامن محاولات إيقاف الخلل بشتى السبل مع محاولات البحث العلمي في جذوره – أي الخلل- وكيفية رأب الصدع الناتج عنه، وليس الانتظار إلى ما بعد صياغة الحلول والمخارج حتى لا يتسع التردي ويصبح خرقًا لا راتق له، والوقفة الأخيرة: تنبني على الحذر من الارتكان إلى أحادية التفسير لظاهرة الخلل في الاختصاصات المختلفة للدولة في عالمنا الإسلامي، ومن ثم الارتكان إلى أحادية المخرج والحل، فلا طبيعة التأزم تقبل ذلك لتعدد أبعاده، ولا الواقعية في التصدي له تقبله، لأنها تفترض معايشة هذه الأبعاد والاقتراب منها، ولا تداعياته منذ حقب طويلة تقبله؛ لأن فيها تراكمات كثيرة، فهل تستطيع الدولة في ديار المسلمين أن تتجاوز أزماتها بوقفات من قبيل ما سبق ذكره؟ أم أريد أن تظل مسدودة بين الأزمات تارة وبين التحديات تارة أخرى، بصرف النظر عن المتسبب في هذه وتلك من داخلها أو من خارجها؟ والإجابة ليست من السهولة بمكان، ولكن تطورات الأيام وتعاقب السنين كفيلة بالكشف عنها دون مدارة أو مواربة، مهما كان محتواها، وإن كان ثمة أمل في أن يخرج من رحم المحن جيل من العلماء يدفع عن أمته ويدافع عنها لتظل بحق خير أمة أخرجت للناس، ولتتجسد فيها حقيقة الأمة الوسط.
قائمة ببعض المراجع المختارة من واقع الدراسة الأصلية:
1- ابن القيم الجوزية، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية أو الفراسة المرضية في أحكام السياسة الشرعية، تحقيق: محمد حامد الفقي (القاهرة: مطبعة السنة المحمدية، 1953).
2- ابن تيمية، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، تحقيق: محمد إبراهيم البنا، محمد أحمد عاشور (القاهرة: دار الشعب، 1971).
3- ابن خلدون، المقدمة (بيروت: دار احياء التراثالعربية، ط4، د.ت).
4- ابن منظور، لسان العرب، تحقيق: عبد الله الكبير (القاهرة: دار المعارف، 1979).
5- الجويني، غياث الأمم في التياث الظلم، تحقيق: مصطفى حلمي، فؤاد عبد المنعم (الأسكندرية: دار الدعوة، 1979).
6- حامد عبد الماجد، الوظيفة العقدية للدولة الإسلامية (القاهرة: دار التوزيع والنشر الإسلامية، ط1،1993).
7- سيف الدين عبد الفتاح، التجديد السياسي والخبرة الإسلامية: نظرة في الواقع العربى المعاصر، رسالة دكتوراه غير منشورة (القاهرة: كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 1995).
8- عز الدين فودة، السيادة والسياسة في الدولة الإسلامية (مجلة البحوث والدراسات العربية، العدد2، يونيو 1975).
9- الماوردى، الأحكام السلطانية (القاهرة: مكتبة الحلبى، ط3، 1987)
10- محمد أبو زهرة، العلاقات الدولية في الإسلام (القاهرة: الدار القومية للطباعة والنشر،1964).
11- محمد سليم العوا، في النظام السياسى الإسلامى (القاهرة: دار الشروق ط1،1989).
12- محى الدين قاسم، التقسيم الإسلامى للمعمورة، رسالة دكتوراه غير منشورة (القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 1995).
13- مصطفى منجود، الأبعاد السياسية للأمن في الإسلام، رسالة دكتوراه غير منشورة، (القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة،1990).
14- مصطفى منجود، الفتنة الكبرى والعلاقة بين القوى السياسية في الإسلام، رسالة ماجستير غير منشورة (القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 1986).
15- وهبة الزحيلى، العلاقات الدولية في الإسلام مقارنة بالقانون الدولى الحديث، (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط1، 1981).
16- John L. Esposito, Islam and Polities,(Massachusetts:Syracuse University Press,1987).
17- M.Watt, Muhammed at Mecca,(Oxford: The CalenderPress,1953).
18-Mona M.Abul-Fadl(ed)Association of Muslim Social Scientists Proceedings,21St. Annual Conference,(Virginia, U.S.A: International Institute Of Islamic Thought,1993.
19- Muhammad Hamidul, Muslim Conduct of State,(Pakistan, Muhammad Ashraf,1987).
20-Mumtaz Ahmed, State, Politics And Islam,(Washington: American Trust Publication,1986)