لا شك في أن المجتمع العربي الإسلامي يعيش الآن صحوة فكرية وعقدية تهزه من أقصاه إلى أقصاه، هذه الصحوة هي نتيجة منطقية لتطور الأوضاع التي مر بها مجتمعنا منذ الخمسينات من هذا القرن حتى ظهور بوادرها في أوائل السبعينات، وإن كانت جذورها تمتد إلى النصف الأول من هذا القرن، فهذه الصحوة ليست كما يدعي البعض سحابة صيف، أو كما يعتبرها أكثرهم تشاؤما ((وهماً)).
إن الدارس لتاريخ الفكر الأوربي لابد له من أن يكتشف أوجه تشابه بين النهضة التي حدثت في الغرب ابتداء من منتصف القرن الرابع عشر الميلادي، وبين هذه الصحوة الفكرية التي يعيشها مجتمعنا الآن.
إن الباعث على ظهور كل من النهضة الغربية والصحوة الإسلامية والعربية هو الاحتكاك الثقافي مع ثقافة غربية قوية هزت عقول العلماء، وأنهضتهم من سبات عميق ليروا تفوق الحضارة الأخرى، ويعوا انحطاطهم وتأخرهم.
ولكن نوع الثقافة أو الحضارة الأقوى التي سببت الصحوة مختلفة في طبيعتها في كلتا الحالتين. فالحضارة أو الثقافة التي هزت عقول علماء العصور الوسطى الأوربية كانت حضارة إنسانية تسعى إلى نشر العلم والتقدم، وتحرير الإنسان من عبودية الإنسان، أما الحضارة أو الثقافة التي هزت مجتمعنا في هذا القرن وسبقت الصحوة الحالية فهي باتفاق الجميع حضارة مادية ألغت إنسانية الإنسان، وسعت إلى السيطرة واتعباد الضعيف ونشر الجهل والتأخر فهي حضارة تقوم على الأنانية لا على الإنسانية.
ثم إن أثر احتكاك الغرب بالمسلمين الذي سبب نهضتهم كان تقدماً علمياً وفكرياً وإنسانياً، بينما نجد أثر احتكاك ثقافتنا بالثقافة الغربية، كما يسميها بعض كبار مفكرينامن أمثال: زكي نجيب محمود، وهو في الحقيقة غزو فكري وتغريب ثقافي وتخريب حضاري، هو الانحطاط والتأخر الذي نعيش فيه منذ زمن طويل،ولعل أكثر العقلاء يتفقون معي في أن الغرب لم يصدر إلينا سوى نفاياه الفكرية والعقدية والعلمية التي تلقفها كثير من أبناء مجتمعنا، وظنوا أنهم بذلك حصلوا على سبل التحضر والتقدم.
وثمة فارق آخر وأساسي بين الصحوتين، وهو أن الصحوة الأوربية كانت تنادي بترك ما لديها من ثقافة باهتة سطحية والاستفادة من ثقافة قوية عميقة هي غريبة عنها، بينما الصحوة الإسلامية تنادي بالعودة إلى تراثها القديم، الذي أثبت صلاحيته على مدى قرون عديدة في مجتمعات مختلفة، لتستلهم منه إرشادات للحاضر غير منغلقة أمام الثقافات الأخرى الحاضرة التي نجد فيها ما يصلح أمرها ((فالحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق بها)) ولكن يبقى الاتفاق بين الصحوتين متمثلاً في أنهما كانتا رفضاً لواقع متردي وسعياً لمستقبل متحضر.
مصطلح العقل العربي:
المقصود بالعقل العربي، العقل الذي يصوغ فكره في إطار التعبيرات والمفاهيم العربية والذي ولد وتكوّن في محيط اللغة العربية. بهذا التعريف يدخل في إطار هذا المصطلح كل من يتحدث العربية من المفكرين سواء كانوا من العرب أو العجم ما دامت اللغة العربية هي إطار تفكيرهم ووسيلة تعبيرهم، ويشكل العقل العربي الإسلامي الجزء الأكبر ممن ينتمون إلى مجال العقل العربي لأن اللغة العربية وإن كانت موجودة قبل ظهور الإسلام في الجزيرة العربية إلا أنها تطورت وقننت في صدر الإسلام وما تلاه منذ أبي الأسود الدؤلي حتى الخليل بن أحمد وسيبويه وتلامذته في نهاية القرن الثاني وبدايات القرن الثالث الهجري.
رغم ذلك فإن من غير المعقول أن تعتبر نشأة اللغة العربية في هذه الفترة المتأخرة لأن علم الكلام وخاصة الاعتزال كان قد نشأ في النصف الأول من القرن الثاني الهجري، وكان يبني نظرياته على التفسير اللغوي للقرآن الكريم والحديث الشريف، ولكن الاهتمام باللغة العربية الفصحى ومحاولة تقنينها كانت قد بد
أت في تلك الفترة نتيجة لما دخل في اللغة العربية من كلمات غير عربية الأصل وأصبح الشعر الذي قيل في هذه الفترة وخاصة بعد سقوط الخلافة الأموية في عام 132هـ يسمى بالشعر المولد في مقابل الشعر العربي الأصيل الذي كانت تأخذ منه الشواهد بينما لا يحتج بالشعر العباسي المولد، لكن هذه القضية لا تزال محل بحث دقيق عند علماء اللغة والشعر والتفسير، وخاصة حول تحديد الزمن الذي يعتبر نهاية الشعر العربي الأصيل، وكذلك الأشخاص الذين يمكن الاستشهاد بشعرهم في التفسير، على كل حال، فإنه من الأمور المتفق عليها بين الباحثين، أن للغة العربية الدور الأكبر في تشكيل العقول الإسلامية عرباً وعجما، وكذلك عقول غير المسلمين من العرب الذين يعيشون في مجتمعات عربية إسلامية. والحجة في ذلك هي اشتراك المسلمين من العرب والعجم في الانتماء إلى لغة القرآن الكريم العربية، وكذلك اشتراك المسلمين مع غيرهم من العرب في اللغة التي شكلت عقولهم ووحدت عباراتهم في مجال البحث والتخاطب مع الآخرين. أي أن ما يربط المسلمين ببعضهم من عرب أو عجم هو العقيدة وما يربط المسلمين بغيرهم من العرب هو اللغة، واللغة العربية هي لغة العقيدة الإسلامية، وهي في الوقت نفسه لغة الثقافة العربية غير الإسلامية لغة المحيط الاجتماعي العربي.
هذا الاشتراك يجعل التمييز بين ما يسمى بالعقل العربي وما يسمى بالعقل الإسلامييكاد يكون مستحيلاً للاشتراك في المحيط الاجتماعي ولغة التخاطب مما يحتم التأثير والتأثر المتبادلين بين العقل العربي والعقل الإسلامي.
فإذا كان هناك ما يسمى بالعقل الجمعي فهو العقل العربي الإسلامي الذي يجمع المسلمين وغيرهم أي العرب مع العجم المسلمين، حتى العقول العربية المتأثرة بالفكر الغريب غير الإسلامي هي متأثرة بالإسلام بطريق غير مباشر، لأن للإسلام أثراً كبيراً في تشكيل العقل غير الإسلامي أي الغريب. هذا إلى جانب تأثرهم المباشر والقوي بالإسلام عن طريق المحيط الاجتماعي الذي يغلب عليه الطابع الإسلامي.
ثم يجمعهم بالإضافة إلى ما تقدم موقفهم وموقعهم المشترك في مواجهة فكر غريب يهدف إلى محو شخصيتهم وهويتهم عن طريق التغريب الثقافي الذي لا يقتصر على المسلمين دون غيرهم في مجتمعاتنا العربية والإسلامية. وتعتبر وحدة المواجهة من أكبر عوامل الجمع بين العقل الإسلامي والعقل العربي بشرط الاعتزاز والتمسك بالانتماء إلى المحيط الاجتماعي والثقافي المشترك.
فالإحساس بالانتماء إلى مجتمع معين والاعتزاز باستقلاليته والتمسك بما يميزه عن المجتمعات الأخرى من قيم عالية وسلوك بنّاء هو أساس الأصالة الثقافية التي تشترك فيها كل وحدات المجتمع على اختلاف عقائدهم، ويمكن أن يسمى العقل الجمعي عقلاً تأصيلياً إذا تمسك بأصالته الاجتماعية وهويته الثقافية ((والعقل التأصيلي هو نقيض العقل التغريبي)) الذي يمكن أن يوصف بـ ((اللعقل التفريقي أو التبعي)) حيث ينعدم فيه الإحساس بالأصالة والإيجابية ويحل محلها التقليد والسلبية.
العقل بين الانقياد والانضباط والانفلات:
تختلف العقائد والمذاهب الفكرية الموجودة في العالم العربي من حيث علاقتها بالعقل، فتتفاوت درجة تدخلها في عمل العقل بين الإفراط والتفريط، فمنها ما إذا طبق حرم العقل من وظيفته الأساسية، وهي التفكير ويطالبه بالخضوع إلى تصورات تناقض طبيعته وعمله، ومنها ما ترك للعقل العنان ويرى فيه المنبع والمصب لكل ما هب ودب، وكلا الطرفين خطأ. لقد عاش المجتمع الغربي كلتا الحالين في فترات متعاقبة، فكان الحجر على العقل منذ القرن الخامس أو السادس الميلادي بعد إغلاق مدارس الفلسفة في أثينا عام 529 م، على يد جوستنيان الروماني، واستمر الحجر على العقل الغربي حتى قرابة القرن السادس عشر الميلادي، حيث انشطرت الكنيسة مرة أخرى وانشقت عنها الكنيسة البروتستنتية على يد مارتن لوثر (546 م) وقد تبع ذلك تحرر العقل من سلطة الكنيسة وظهور بدايات التفكير العلمي، ولكن هذه الحرية العقلية ما لبثت حتى انقلبت إلى فوضى عقلية بانفلات العقل تماماً من كل الضوابط الدينية، وكان الأجدى أن ينفلت فقط من القيود الكنسية، ويبقى على الضوابط الدينية؛ فيظل في خدمة الإنسان، ويبدع فيها، ولكنه خلال ثورته على الكنيسة ورفضه لكل ما يأتي من جانبها، نسى أنه فقد ضوابط صلاحيته لإصلاح حال الإنسان، فظهرت بوادر المذاهب الإلحادية كرد فعل على التزمت الكنسي وحجره على العقل فانتشرت هذه المذاهب بسرعة مذهلة واستحوذت على عقول وقلوب كثير من المفكرين والمثقفين وأصبح العلم مرتبطاً بالإلحاد والجهل مرتبطاً بالتدين.
ثم جاء العصر الحديث ليحمل ثمار الانفلات من الضوابط الدينية متمثلاً في تطرف عقلي، ومادي، غابت عن اهتماماته إنسانية الإنسان، فراح يبحث علماؤه في كل شئ وبلا حدود دون اعتبار لما قد يترتب على تلك الأبحاث من عواقب وخيمة على مستقبل الإنسان، والطبيعة، تلك النتائج المتمثلة في تلوث البيئة وتآكل طبقة الأوزون حول الأرض، والأخطار المترتبة على عدم القدرة على التخلص من نفايا الطاقة النووية، بالإضافة إلى الأبحاث البيولوجية وخاصة في مجال محاولة التأثير على الجينات الوراثية للتحكم فيها، وما خفى كان أعظم.
لقد أصبح العقل ((لا عقل)) وفقد المرشد الأمين للإنسان فأصبح إنسان العصر الحديث يتخبط ولا يجد السند في الواقع فيهرب إلى الأوهام عن طريق المخدرات والمسكرات، وينتهي به المطاف إلى الانتحار، لأن الفلسفة والفكر الذي يقدم إليه ويتربى عليه لا يقدم له حلاً لمشكلاته الشخصية ولا يثبت عنده الإيمان بأن هناك قوة فوق هذه الطبيعة هي التي تسير الأحداث ويمكنها أن تنقذه وتمد له يد العون إن آمن بها واستوثق من نصرتها.
العقل لا يكون عقلاً سوياً إلا إذا انضبط بضوابط تحدد سيره حتى لا يلغي نفسه، وهذه الضوابط لا بد أن يكون مصدرها أعلى من العقل، تحيط به وبعالمه وثمة ضوابط عقلية أخرى هي الضوابط الاجتماعية، وهذه الضوابط ليست شيئاً خارج العقل يمكنه أن يأخذها أو يتركها متى شاء ذلك، ولكنها داخلة في تركيبه ملازمة له، وهي التي تحدد ملامح شخصيته المتميزة، وقد يثور العقل أحياناً على هذه الضوابط ويحاول تعديلها أو حتى الانفلات منها ولكن النتيجة تكون دائماً هي فقدان هويته المتميزة فيكون عقلاً بلا هوية.
وضوابط العقل تكون موافقة لطبيعة عمله أي الفكر، فكما أن الفكر عمل باطن فإن الضوابط هي أيضاً باطنة وهي بذلك لا تخضع للرقابة إلا إذا خرجت وأصبحت ظاهرة مثلها مثل التفكير تماماً وعكس التعبير الذي يشكل صورة التفكير الظاهرة والتي تتمثل في ألفاظ وجمل تعبر عن الفكر قدر إتقان المفكر للغة وسعة اللغة أو غناها بوسائل التعبير اللفظي، أي المنطوق، والتعبير ضوابطه ظاهرة تتمثل في قواعد اللغة ومدلول الألفاظ، والتفكير ضوابطه باطنة تتمثل في مبادئ استقاها الإنسان من مجتمعه عن طريق عقيدة أو قناعة فكرية كاملة أصبحت تجري مع دمه لا سلطان له عليها. فهي تكون بديهية الصحة عنده أي يقينية، وهي تشكل إلى جانب معياريتها الفكرية معيارية نفسية أي ضميرية.
وقد يضطر المفكر إلى مراجعة هذه الضوابط وتقويمها مرة أخرى رغم بدهيتها التي تعود عليها، ولكن هذه المراجعة تظل مسألة داخلية شخصية إلى أقصى درجة، فلا يسمح المفكر لأي أحد أن يطلع عليها حتى يستقر ويهدأ صراعه أو جداله مع مبادئه، بعد ذلك يمكن أن يحكي عن هذا الصراع بعد أن يمسك بكل خيوطه ويقف على أرض صلبة ثابتة، أما ما يضطر المفكر إلى مراجعة مبادئه التي كانت بديهية الصحة عنده، فقد يكون اكتشافاً علمياً جديداً أو مذهباً فكرياً أو ديناً جديداً استطاع أن يهز بدهية ضوابطه الذاتية ويضطرها للدفاع عن نفسها أي عن يقينيتها من جديد، وتكون النتيجة في غالب الأحيان هي قبول بعض الضوابط الجديدة أو تعديل بعض الضوابط القديمة أو ترك بعضها تماماً.
هذا يعني أن ما يهز الضوابط الذاتية لابد أن يكون أمراً تتفق طبيعته مع طبيعة هذه الظوابط أي أمر يحمله الإنسان في ذاته أو في باطنه كالتصورات التي تنشأ عن اكتشاف علمي جديد في مجال الفلك أو الطب مثلاً، وكذلك ظهور مشكلات اجتماعية قاهرة، أو مأساة إنسانية تغمر عدداً كبيراً من البشر، أو يكون ضحيتها إنسان له مكانة خاصة عند المفكر مثل أن يكون أحد والديه أو أخوته أو زوجته أو أبنائه، كما نرى كلها أشياء ذات أثر باطني، داخلي ويشبه هذا الأثر أثر عقيدة جديدة تأتي بحجج عقلية قاطعة أو بإعجاز يفوق تصور العقل، أو بهما معاً.
أما أن ينتظر من وسيلة ذات طبيعة مختلفة أن تفعل هذا الأثر كالقهر الخارجي بأشكاله المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية فيكاد يكون مستحيلاً، لأن هذا القهر الخارجي يقذف بالمفكر إلى الجانب المناقض، ويجعله يتمسك أكثر بمبادئه، ويرفض كل ما يقهر عليه وإن كان فيه شيئاً من الصحة. كل ما يمكن أن يفعله القهر الخارجي هو التحكم فيما هو من جنسه أي التعبير المنطوق أو ما يسمى إبداء الرأي، لأنه يحدث خارج الإنسان، وعادة لا يحاسب الإنسان على ما يفكر، ولكن على ما يقول، لأن الفكرة تظل مجرد تصور نظري لا يحس به إلا صاحبها ولا ثؤثر على أحد سواه، فلا جدوى ولا حجة في قهره على ألا يفكر. وحتى هذا القهر الخارجي الذي يمنع أو يضبط التعبير لا يعمر طويلاً، فقد يأتي فجأة ثم يختفي فجأة ويكون أثره مصاحباً ومساوياً لقوته، ولكن العقل قد يستفيد من هذا القهر الخارجي الواقع على التعبير المنطوق، وتكون الاستفادة هنا متمثلة في زيادة الاقتناع بصحة المحظور، أو على الأقل بقوة حجته وضعف أو انعدام حجة مصدر القهر، لأنه لو كان المحظور خطأ واضحا لما احتاج حظره إلى قهر، بل إلى زيادة إيضاح لوجوه الخطأ فيه، ولا يتم هذا إلا بحوار هادئ يعتمد على الحجة المنطقية، أما استخدام وسائل القهر الإخرى أياً كان نوعها فهو خير دليل على ضعف أو انعدام الحجة المناقضة.
إذن العقل والفكر لم يحجر عليهما يوماً من الأيام، ولكن التعبير أي إبداء الرأي المعارض للسلطة السائدة في يوم من الأيام هو الذي تعرض للحظر وصاحبه لقهر. ومن أشهر وسائل القهر التي عرفت في العصر الحديث هي القهر الاقتصادي التي تتمثل في وضع المفكرين أو المثقفين في مستوى اقتصادي سيئ بحيث يكون تحت رحمة من هم أقل منه علماً وثقافة. هذا الوضع السيئ يسلب المفكر أهم أسلحته ووسائله، وهو الوقت الذي يحتاجه للتفرغ للتفكير والتأمل، فيضطر إلى إزهاق هذا الوقت الثمين في البحث عن مصدر كسب إضافي يغطي به نفقات حياته، وحياة أسرته، وتكون نتيجة ذلك أن يصبح عمله الأساسي، وهو التفكير، مجرد عمل جانبي يمارسه في أوقات فراغه إن وجدت. وهكذا يتبين لنا حرص الدول الغنية على أن تظل الدول الفقيرة في فقرها وأن تزداد مشكلاتها الاقتصادية فتزداد تبعيتها السياسية والاقتصادية والثقافية، وينعدم فيها كل فكر حر، وينطفئ فيها كل أمل في الخروج من ورطتها وانحطاطها فضلآً عن تقدمها ورقيها، وكذلك نجد الفلسفة نفسها عند طبقة الأغنياء التي لا تريد أن يتحسن حال الفقراء فيفقدون سلطانهم وعزهم، والسلطة السياسية غير الشرعية، أي الدكتاتورية، تحاول جهد طاقتها إغراق شعبها، وخاصة المفكرين والمثقفين منهم، في محيط من المشكلات الاقتصادية، والاجتماعية، حتى لا يجد أحدهم وقتاً للتفكير في الخلاص، ويظل يلهث وراء قوت يومه أو يخرج طوعاً أو كرهاً من وطنه فيريح ويستريح. (؟!!!).
إننا لا نجد مجتمعاً متقدماً أو مجتمعاً يسير على طريق التقدم تكون فيه الطبقة المثقفة مقهورة ومحجوراً عليها، وعلى العكس من ذلك، فإننا نجد كل المجتمعات المتخلفة تناصب الطبقة المثقفة العدا وتذيقها كل وجوه الاضطهاد، ويمكننا أن نعتبر هذا التصور مقياساً أو دليلاً على صحة مسيرة أي مجتمع من المجتمعات أو خطتها ودليلاً على حسن نوايا السلطة لحاكمها أو سوئها، وقد يحدث أن تنهزم المبادئ أمام الواقع القاهر فتتوارى شيئاً فشيئا، وتخسر عدداً من حملتها، فقد يتوقف المفكر عن التفكير، أو يتلائم مع المحيط الاجتماعي الذي يرفضه في داخله (رياء فكري) وقد يصعب الرجوع عن هذا التلاؤم، حتى بعد زوال أسبابه، حتى لا ينكشف الرياء السابق، على كل حال، قد تخسر المبادئ حملتها، ويخسر المفكر ثمار فكره، فيخسر المجتمع عناصر تجدده وتطوره، وإلى هذا السبب يرجع، في نظري، التأخر الذي نعيشه في مجتمعاتنا، لأن العقل العربي بمفهومه الذي سبق إيضاحه يتعرض في معظم مجتمعاتنا لكثير من أنواع القهر والحظر، وأهمها القهر الاجتماعي والاقتصادي، فأكثر مفكرينا بجدهم بين مغلوب على أمره، متقوقع على نفسه، ومهاجر إلى بلد غريب، يحبه أو لا يحبه، ومراء يتلائم مع الواقع الذي يرفضه بقلبه وعقله، أما القلة القليلة منهم فهم المرابطون حقا، يقولون كلمة الحق التي اطمأنت قلوبهم إليها، رغم تربص المتربصين بهم، ولكنهم قد ينعمون بحماية الرأي العام التي يخشاها المتربصون دون سواها.
من التأثر إلى التأزم:
يمكننا أن نقسم العقل إلى اربعة أنواع أو بتعبير آخر إلى أربعة مراحل قد يمر بها العقل جميعاً في طريق تطوره، وقد يقف عند إحداها، ولا تعبر هذه المراحل عن درجات تصاعدية دائماً فيكون العقل الذي وصل إلى آخر مرحلة هو أفضلها وأقدرها على التفكير، بل قد يكون العكس تماماً، لأن التطور قد يكون تغيراً إلى أسوأ. وتختلف هذا الأنواع أو المراحل، إن صح هذا التعبير، باختلاف درجة تأثير العقل تأثر بالبيئة الاجتماعية التي تحيط به شريطة توفر سويته أي سلامته من العلل.
أولاً العقل الفطري السوي:
وهو عقل سليم من العلل، قادر على التفكير بفطرته، والتفكير في هذه المرحلة هو رد فعل تلقائي على مؤثر خارجي، ويتسم بالبساطة في تفسيره أو فهمه للمؤثر، ويميل إلى رد الأشياء الظاهرة التي يدرك لها سبباً مباشراً إلى أسباب غيبية، ويطون رد الظاهر إلى الغائب نتيجة عملية فكرية بسيطة تتمثل في محاولة الربط بين الظاهرة وما سيبقها من ظواهر أو مقدمات، فإذا لم يجد العقل علاقة مباشرة بينها أرجع أسباب الظاهرة إلى شئ أي سبب غيبي. ولكن مجرد البحث عن سبب لظاهرة ما ثم رده إلى الغيب، في حالة فشله في العثور على سبب ظاهر لها، يعني أن هذا العقل الفطري، الذي لم يتأثر بعد بالمؤثرات الخارجية ينطلق من بدهية لا يساوره أدنى شك فيها، وهي أنه لا بد لكل ظاهرة أو حدث من سبب أو محدث ويستحيل تصور شئ ظاهر محسوس أحدث نفسه أي لا بد أن يكون لكل سبب مسبب وإن لم يصل إلى معرفته هذا العقل البشري المتجدد بالخبرة السابقة أي الذي يبني تصوراته على أساس من الإدراكات المباشرة التي يدركها ويحصلها بنفسه، وغير المباشرة التي تصله عن طريق غيره بالخبر والرواية. هذه البدهية العقلية هي أساس الإيمان والاقتناع التام، بأن هذا الكون الذي يكون الإنسان جزءاً منه لا بد له من صانع، ولإن لم يدخل هذا الصانع في مجال إدراكنا المباشر أو غير المباشر.
وعلى هذا الأساس أو البدهية العقلية بنى أفلاطون نظريته في المثل التي تصدر عن ((المثال الأول)) الذي لا يدرك بآلات المعرفة البشرية. وعلى الأساس نفسه بنى أرسطوطاليس نظريته المعرفة في تفسيره للحركة أو الوجود، حيث وصل إلى إثبات ضرورة وجود ((محرك أول)) يتحرك بذاته ويحرك غيره، وهو مصدر الحركة ومصدر الوجود. فقد أثبت كل من أفلاطون وأرسطو وجود صانع لهذا الكون، بل تخطيا مجرد إثبات الوجود ليصلا إلى إثبات التوحيد أي أن هذا ((المثال الأول)) عند أفلاطون، والمحرك الأول عند أرسطو هو واحد فقط تميز عن سائر المثل أو المتحركات بانفراده بالمصدرية والفاعلية والواحدية، بل أكثر من ذلك أن كليهما قرر أن كل الموجودات تسعى إلى العودة إلى هذا الواحد بالتجرد عن المادة عند ((أفلاطون)) وبالعشق عند أرسطو، وهذا السعي إلى المصدر هو ما يمكن أن يفسر بضرورة البعث بعد الموت، لأن الموت هو الوسيلة الوحيدة للتجرد عن كل ما في الإنسان من مادة ليخلص روحاً نقية.
ويمكننا أن نقول بأن معظم الفلسفات اللاحقة قد تأثرت إلى أبعد الحدود بفكر هذين الفيلسوفين، وهذا يعني أن العقل الفطري يؤكد بدهية وجود الصانع ووحدته وعودة الموجودات إليه أي البعث.
كما ترى الآن بوضوح، فإن هذه القضايا الثلاث أي وجود الصانع ووحدته (توحيده) والبعث هي أساس العقيدة الإسلامية، وهي ما يفسر لنا حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه، أو يمجسانه)) (الحديث) وأن الإسلام دين الفطرة (فطرت الله التي فطر الناس عليها) (الروم/30).
هذا النوع من التعقل أو التفكير يمكن أن يسمى ((منطقية فطرية)) أو تلقائية.
حيث يرى الإنسان ظهور النبات في الأرض بعد سقوط المطر فيربط بينهما، ويرى أن المطر هو سبب ظهور النبات (الأعشاب)، ولكنها قد تمطر ولا تظهر الأعشاب، أو قد تنبت في مكان ولا تنبت في آخر، أو تختلف كثافة النبات بين منطقة وأخرى فلا يجد لذلك تفسيراً في محيط تفكيره المحدود بمحدودية خبرته وإدراكاته، فيرجع ذلك إلى سبب غيبي يثق في وجوده وإن كان لا يعرف عنه شيئاً وكذلك إن رأى بعرة في الطريق عرف مصدرها وقرر أن بعيراً قد مر في هذا الطريق، وإن كان لا يعرف أي شئ عن نوعه أو لونه أو اتجاهه أو جنسه، لأن معرفة هذه التفاصيل تحتاج خبرة إضافية مثل أن يكون له معرفة واسعة بأنواع البعير، وأجناسها، وأعمارها، وانعكاس ذلك على بعرها، ولن نجد إنساناً يرجع وجود البعرة في الطريق أو ظهور الأعشاب إلى ما نسميه بالصدفة فضلاً عن أن تكون قد أوجدت نفسها.
وثمة حقيقة أخرى يمكن أن نستنبطها من هذه المنطقية الفطرية التي ترى أن لكل سبب مسبباً وهي أنها تؤمن بالسببية والعلية ولا تؤمن بما يسمى ((مجرى العادة)) التي عرفها المتكلمون المسلمون، وخاصة المعتزلة المتأخرون مثل القاضي عبدالجبار الهمذاني (ت 415)، وكذلك الأشاعرة والإمام أبو حامد الغزالي (ت 505 هـ)، وتأثر بهم الفيلسوف الانجليزي الوضعي ((ديفيد هيوم)) (ت 1776) مع اختلاف في المنطلق، فبينما أراد فلاسفة الإسلام بهذه النظرية إطلاق القدرة والإرادة الإلهية، بإنكار ميكانيكية العلية الكونية، وتأكيد قدرة الله على التدخل، وكسر تتابع سلسلة العلل والمعلولات، أراد ((ديفيد هيوم)) إلغاء العلية تماماً وإرجاع التفكير العلّي، الذي يربط بين ظاهرتين، مثل تكاثر السحب وسقوط المطر، إلى مجرد تعود الإنسان رؤية تتابع هاتين الظاهرتين وليس لعلاقة علية بينهما.
وخلاصة ما سبق هي أن السبب الغيبي الذي يُرجع إليه العقل الفطري كل ما لا يجد له تفسيراً في محيط إدراكه هو سبب معقول ومنطقي، ويمكن أن نسمي هذا السبب الغيبي بالسبب المعقول بالقوة ((بالنسبة للعقل الفطري)) لأن هذا السبب الذي قد يبدو غيبياً للعقل الفطري، محدود الخبرة، قد يصبح في المستقبل معقولاً بالفعل بعد أن يتسع مجال إدراك العقل وتزداد قدرته على التفكير والتجريد، ولكن هذه القدرة التي سوف يكتسبها في المستقبل سوف تظل أبداً محدودة بمعطيات البيئة الاجتماعية والخبرة المباشرة وغير المباشرة.
ثانياً: العقل المتأثر (أو المفسر)
وهو العقل الذي ترسبت فيه نتائج تجارب مر بها في مرحلته الأولى (الفطرة) وأصبح يملك رصيداً من الخبرة تمكنه من التفكير بطريقة أدق ومن الغوص إلى أعماق الظواهر والوصول إلى حلقات أبعد في سلسلة الأسباب والمسببات، فيكتشفها ويكتشف العلاقات بينها وبذلك يمتد مجال عمله إلى ما وراء الواقع وظواهره التي يدركها مباشرة عن طريق الحواس أو بطريق غير مباشر بواسطة التفكير والاستنباط. فينقسم بذلك عالم المدركات عنده إلى قسمين: هما الواقع (المحسوس)، وما وراء الواقع (المعقول)، وينقسم ما وراء الواقع المعقول بدوره إلى قسمين قسم يمكن تفسير أي تعقله، وقسم لا يزال بعيداً عن طائلة إدراكه عقلياً. فما يمكن تفسيره يسمى مدرك أو معقول بالفعل، وأما القسم الثاني فهو مدرك أو معقول بالقوة إذا كان لا يدخل في باب المستحيلات العقلية المنطقية، مثل أن يكون الشئ موجوداً وغير موجود في نفس المكان والزمان، أي أن يكون الشئ على صفتين متناقضتين تناقضاً تاماً في نفس المكان والزمان.
ويمثل مجال ((ما وراء المعقول بالقوة)) البعد الذي يندفع فيه العقل بحثاً عن المزيد من الاكتشافات عن طريق إعمال العقل أي التأمل الموجه، ويزداد العقل تطوراً بقدر ما يوفق إليه من اكتشافات في عالم المعقول بالقوة، ويستخدم العقل في تأمله ومحاولة تفسيره وتتبعه للأسباب وسيلتين هما: ((الاجتهاد)) الذي هو عبارة عن طرح افتراضات، أو مشروعات حلول، ثم يختار من بينها أفضلها وأقربها إلى القبول أو عن طريق ((القياس)) وهو الوسيلة الثانية، حيث يقيس كل افتراض على ما سبق تحصيله من المعارف عن طريق الخبرة السابقة ويستوي في ذلك مصدر الخبرة السابقة أي الخبرة الشخصية المباشرة، أو الخبرة التي حصلها غيره واستفادها هو من الغير.
وإذا سألنا أنفسنا عن النسبة بين ((ما وراء الواقع المعقول بالفعل)) ((وما وراء الواقع المعقول بالقوة)) فلن نستطيع الإجابة عن هذا السؤال، لأن الأول مجرد امتداد في مجال الثاني، هذا الامتداد محدود، لأنه واقع تحت إدراكنا أي أننا أحطنا به، والشئ المحدود يمكن مقارنته بما هو من جنسه، ويتفق معه في صفة المحدودية، بينما الثاني، أي ((ما وراء الواقع المعقول بالقوة)) لا نعرف له حدوداً أي أنه بالنسبة إلينا ((لا محدود)) ويختلف بذلك عن المعقول بالفعل ((المحدود))، وبذلك تستحيل المقارنة بينهما أو قياس أحدهما على الآخر أو إصدار أي حكم كمي بنسبة أحدهما إلى الآخر.
ويتلخص القول في أن العقل محدود في قدرته على الإدراك، والمحدود لا يحيط إلا بما هو محدود ويقل عنه كماً، فالمحيط أكبر من المحاط به دائماً، فالقدرة على الإدراك العقلي أكبر مما هو واقع بالفعل في مجالها، وهذا يعني أن سؤال العقل عن شئ يقع خارج نطاق إدراكه العقلي ضرب من العبث، فالعقل لا يستطيع تقديم إجابة محددة عن شئ غير محدد، وغير داخل في نطاق إدراكه، حتى مجد الإثبات أو النفي يعتبر مستحيلاً بالنسبة إلى العقل وحده، إلا أن احتمال الإثبات يكون أقرب من احتمال النفي، لأن الوقوف على بداية الطريق يجعل الاعتقاد بوجود بقية لهذا الطريق أقرب من احتمال عدم وجود بقية، وخاصة إذا كان السائر قد قطع شوطاً على هذا الطريق، فلا يكون نفي وجود امتداد للطريق إلا بعد أن يمد قدمه فلا يجد طريقاً، ولكنه قبل ذلك يعتقد وجود امتداد للطريق.
ولكن كيف تسنى لنا تسمية هذا المجهول معقول بالقوة؟.. إن السبب الذي يبرر إطلاق هذه الصفقة هو أن العقل قد سار واكتشف بعض الطريق وهو يعيش تجارب، وينجح في اكتشافات لأجزاء من هذا المجهول، وهذا ما يجعله يعتقد أنه قد يصل يوماً ما إلى نهاية الطريق، ويكتشف كل مجهولاته، وقد يحتاج في ذلك إلى وسائل أخرى غير التأمل والاستنباط والتجريب، هذه الوسائل الأخرى قد يكون مصدرها أعلى منه ويستطيع أن يدرك ما لا يدؤكه هو وحده، فهو يقبل ما يأتيه عن طريق هذا المصدر وخاصة إذا كان ما يأتيه منه يمكن استيعابه أي تعقله، هذا المصدر لا يكون من طبيعة العقل الإنساني، لأنه إذا كان كذلك فلن يمكنه أن يقدم إليه سوى خطوات قليلة على نفس الطريق، في أفضلا الاحتمالات، وتبقى المشكلة قائمة وهي مشكلة إدراك المجهول، أي ما وراء الواقع المعقول بالقوة.
والعقل السوي أي القادر على التفكير مطالب بمحاولة الغزو المستمر لمجال ما وراء الواقع المعقول بالقوة، والامتداد داخله، دون النظر أو السؤال عما إذا كان سوف يصل يوماً ما إلى حدود هذا المعقول بالقوة، إن وجدت له حدود، أم لا.
أما ما يتبقى أمام العقل مجهولاً فلا يحق للعقل أن يحكم عليه بالعدم. لأنه بذلك يحكم على شئ لم يحط به، والإحاطة بالشئ شرط للحكم عليه، وهذا من مسلمات المنطق، فلا يبقى أمامنا إن أردنا أن نفسر حكم العقل على ما لم يحط به بالعدم، إلا أن نحكم على هذا العقل بأنه قد يأس بعد أن أنهكه البحث في هذا المجهول، وهو لا يريد ان يعترف بهذا اليأس، لأنه لا يملك الشجاعة الأدبية على الاعتراف بذلك، ويظن في هذا الاعتراف.. إنقاصاً لقدره وقيمته، بينما الحقيقة أن الاعتراف بعدم القدرة على الإحاطة وبالتالي الحكم هو اعتراف بواقعه ومحدودية قدرته، وهذا لا يعيبه في شئ لأنه مخلوق والمخلوق محدود والمحدود لا يمكن أن يحيط إلا بما هو أصغر منه حجماً.
وخلاصة هذا القول أن الحكم بعدم ما لم يحط به العقل هو أولاً: مناقضة منطقية، ثانياً: جبن أدبي، ثالثاً: دعوة إلى التكاسل والقعود عن مواصلة البحث.
يمكننا في هذا الموقف أن نقارن بين مذهبين فكريين أحدهما كان أقرب إلى الصواب، وهو المذهب التحليلي المنطقي وأشهر ممثليه المعاصرين هو ((برتراند رسل)) (ت 1970م) والذي كان يتوقف عن الحكم على ما وراء الواقع المعقول بالفعل، فلا يقطع بوجوده ولا بعدمه، ويعترف بأن آلة بحثه، وهي العقل، لا تستطيع الوصول أي الإحاطة بذلك المجهول، وبالتالي لا يمكن الحكم عليه بالوجود، أو بالعدم.
أما المذهب الآخر فهو الوضعية المنطقية ابتداء من ((بيركلي)) (ت 1753م) و((ديفيد هيوم)) (ت 1776م) و((أوجست كونت)) (1857م) إلى زكي نجيب محمود من المعاصرين، ويرى أصحاب هذا المذهب الفلسفي أن ما لا يمكن إدراكه أي ما وراء الواقع هو عدم، والقول بوجوده خرافة. وقد فصل زكي نجيب محمود ذلك القول في كتاباته العديدة وأشهرها ((خرافة الميتافيزيقا)) الذي نشر عام 1953م لأول مرة ثم أعيد طبعه في عام 1983م بعد تغيير في عنوانه حيث أصبح ((موقف من الميتافيزيقا)) والسبب في تغيير العنوان هو النقد الشديد الذي وجه إليه من معظم المفكرين المعاصرين وقد حاول الدفاع عن نفسه وخاصة ما أثير حول عقيدته، لأن رفض ما وراء الواقع إنكار لوجود الله، ولكن دفاعه الذي ضمنه مقدمته للطبعة الثانية التي عدل فيها العنوان جاء هزيلاً غير مقنع، لا يربو عن دفاع طه حسين عن نفسه عندما وجهت إليه الانتقادات الشديدة التي اضطرته إلى تغيير اسم كتابه الشهير ((في الشعر الجاهلي)) إلى ((في الأدب الجاهلي)) دون أي تحول ملموس وواضح في موقفه الأول، فكذلك حال زكي نجيب محمود في محاولته الأخيرة التي خلت فقط من العبارات التي أثارت الشبهات حول صحة عقيدته وصيغت بطريقة أكثر حذراً.
أورد بعض ما ذكره في مقدمة كتابه ((موقف من الميتافيزيقا)) دفاعاً عن نفسه ضد من اتهمه في دينه، فهو يقول (في صفحة ((و))): ((فكيف يجئ الخلط بين موقفين أحدهما موقف الميتافيزيقي، وهو يقدم للناس بضاعته مستنداً إلى منطق العقل في إقامة البرهان، والآخر هو موقف صاحب الرسالة الدينية وهو يقدم وحياً أوحى به إليه، ويطلب من الناس إيمانهم بصدق ما يقول، إنه إذا اعترض معترض على الفيلسوف فيما يقدمه، فعليه أن يبين أدلته المنطقية التي تبرر اعتراضه، أما إذا اعترض معترض على صاحب الرسالة الدينية، فذلك ليس لأنه رأى خللاً في منطق التفكير، بل لأنه لم يصدق صاحب الرسالة وكفى)).
هذه الفقة تعني أن الفيلسوف يأتي الناس بأشياء منطقية فيكون الرد عليها بالمنطق أما الرسول فلا يأتي بأشياء من هذا القبيل ويكون الاعتراض عليه مبني على تصديقه أو تكذيبه، أي الإيمان بما جاءهم به دون دليل عقلي منطقي فيتبين لنا الآن أن زكي نجيب محمود لم يقرأ القرآن أو أنه لم يفهمه، لأن الرسل جاؤا مؤيدين بالحجة العقلية والمعجزات، وكانت مجادلاتهم مع الناس مبنية على منطق العقل السليم، فإبراهيم – عليه السلام – كان يجادل النمرود فقال له إبراهيم ((إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر)). أليست هذه حجة عقلية تلك التي ساقها إبراهيم – عليه السلام – لإثبات صحة رسالته؟ وعيسى عليه السلام – ألم يطلب منه أن يأتي بالدليل المادي، وليس فقط العقلي المجرد، على صحة رسالته، فكان يحيى الموتى ويشفي الأكمه والأبرص بإذن الله؟ ومحمد عليه الصلاة والسلام، ألم يجادله الكافرون بقولهم: {أئذا كنا عظاماً ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقاً جديدا. قل كونوا حجارة أو حديدا. أو خلقاً مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة}. (الإسراء 17/49-51)
واقرأ قوله تعالى: {وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه، قال من يحيى العظام وهي رميم. قل يحيها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم} (يس 36/78-79). هل كانت هذه الحجج غير منطقية تعتمد فقط على كونها وحي من الله كسند وحيد على صحتها؟ أم أنها حجج عقلية منطقية دامغة؟!!
ويدافع زكي نجيب محمود عن مذهبه الفكري الذي يرفض الميتافيزيقا، أو كما يعبر هو عنها في بعض كتبه الأخرى ((مثل: ثقافتنا في مواجهة العصر بما وراء الواقع)) على النحو التالي: ((إن الرأي عندنا هو الميتافيزيقا التأملية (يمثلها عنده هيجل، في مقابل الميتافيزيقا النقدية ويمثلها كانط) مقبولة عندنا إذا هي وقفت كما أسلفنا عند مجرد لإقامة البناء الفكري النظري، بأن تفترض لنفسها نقطة ابتداء ثم تولد منها النتائج فيكون لها بذلك بناء متسق الأجزاء شبيه بالبناءات الرياضية، ولكنها تجاوز مجرد إقامة البناء لتزعم بأنها تصور الكون كما هو موجود بالفعل، وهنا يكون موضع الخطأ الذي يشبه الخطأ الذي تقع فيه الخرافة، حين يعلل الناس حدثاً بغير علته، فيقولون – مثلاً – إن مرض المريض علته حين سكن الجسد المريض، أو أن موت المسافر علته نعيق الغراب فوق سطح الدار ليلة السفر، وهذا الزعم من الميتافيزيقا التأملية هو وحده الذي نرفضه ونصفه بالخرافة (مقدمة موقف من الميتافيزيقا صفحة ز-ح).
أي خلط وتشويه وبلبلة وقع فيها مفكرنا الكبير؟! فمن الذي قال إن تفسير سبب مرض المريض أو موت المسافر بما أسلف لا يمت بأية صلة إلى الميتافيزيقا؟ إنني لا أذكر ولا يمكنني أن أتصور صدور ما يشبه هذا القول من أي عاقل فضلاً عن أن يكون من كبار فلاسفة العالم مثل هيجل الذي يمثل عند المؤلف الميتافيزيقا التأملية، إن هذه الأمثلة التي أوردها المؤلف ليست تفسيراً ولكن تحريف واضح لا يمت إلى أي نوع من الميتافيزيقا بأدنى صلة، ولكنها محاولة يائسة من المؤلف لتغيير الفهم الصحيح الذي فهمت به فلسفته في عالمنا العربي الإسلامي، ووجه إليها النقد العلمي القاطع، من بعض كبار مفكرينا العرب والمسلمين حول حول فلسفة زكي نجيب محمود الوضعية التي أصبحت أحد أمرين إما أن تكون تحليلاً لغوياً فقط، كما يرى معظم الفلاسفة المعاصرين أمثال زكريا إبراهيم، وفؤاد زكريا، ومحمد عابد الجابري، أو أنها عبث فلسفي فاسد يصل إلى حد السخف، ويصل إلى محاربة الإيمان بوجود الله، وبكل ما يتجاوز الحس كما يقول محمد عبدالهادي أبوريدة في كتابه ((مبادئ الفلسفة والخلاق)) (ص 177 – 178) ويتفق مع أبوريدة في هذا الرأي عبدالرحمن بدوي، محمد أبوريان، وثابت الغندي، وأخرون (انظر: الفلسفة في الوطن العربي المعاصر – مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت – 1985م ص 171 وما بعدها).
ويقول إبراهيم فتحي في تقديمه لكتاب ((نقد العقل الوضعي)) تأليف عاطف أحمد: وهي (أي الوضعية المنطقية) لا تصلح أن تكون في عصرنا سلاحاً من أسلحة التنوير، بل هي أقرب أن تكون فلسفة من فلسفات التعمية.
وأكتفي بهذا القدر الذي يوضح لنا أن المذهب الوضعي المنطقي لا يعتمد على المنطق العقلي.
ثالثاً: العقل المتأزم:
يحتاج العقل لكي ينمو ويتطور إلى ثلاثة أمور.
أولها: السلامة التي تعني الفطرة السليمة أو الاستعداد الطبيعي (الفطري) للتفكير.
وثانيها: الاحتكاك الذي يستثير ملكة الفكر، ويدفعها إلى التفاعل مع الواقع، ويدفعها إلى البحث عن حلول وردود تتجدد بها ذاتها وتتميز وتتحدد.
وثالثها: الأمان الذي يضمن لها حرية التعبير عن ذاتها، أي تحقيقها وإظهارها في عالم الواقع المعاش، ويمكنها من الدخول إلى حلبة التفاعل مع الفكر الآخر. فتنجح في إثبات ذاتها، أو تفشل جزئياً أو كلياً.
إن الواقع المعاش في كثير من البلاد العربية والإسلامية، إذا تأملناه مليا، وأنصفنا في الحكم عليه، فإننا لا نجد فيه قيوداً ظاهرة تفرض على حرية الفكر، وإن كنا نجد بعض الموانع التي قد تنشأ أحياناً عند المفكر نفسه، أو تنتج عن قوة تيار فكري آخر معارض يسيطر في ساحة السجال ولا يدع مجالاً لظهور فكر غيره لسيطرته واحتكاره لوسائل الإعلام التي هي وسيلة التعبير والظهور في مجال الجدل الفكري، وقد تكون بعض العوائق مفروضة من السلطة، حيث تتحكم السلطة في معظم عالمنا العربي والإسلامي في جميع وسائل الإعلام. ولكننا لا ينبغي أن نبالغ في تعليق أسباب فشل تيار فكري معين على شماعة قهر السلطة السياسية وننسى فشل أو ضعف حجة هذا التيار الفكري الذي نميل إلى تأييده في كثير من الأحوال، إن الساحة الفكرية في كثير من بلادنا العربية والإسلامية، حتى تلك التي ليس فيها نظام يظهر الديمقراطية، لا تخلو من تيارات فكرية معارضة لتلك التي تتبناها السلطة السياسية، فما أكثر الوضعيين واليساريين والعصرانيين في مصر والأردن على سبيل المثال والحداثة الفنية والفكرية والعقدية في العراق والمملكة العربية السعودية والبنيوية القومية في المغرب العربي، كلها تيارات مخالفة للتيار الفكري الإسلامي الملتزم والسائد في معظم تلك البلاد عند المحافظين والمجددين على السواء.
يبدو لي أن هذا الرأي سيواجه بنقد شديد، قد يصل إلى الاتهام بالخوف من السلطة السياسية، إن لم يحمل على أنه موالاة أو مجاملة، ولكنني أعني ما أقول عن اقتناع شخصي، قد يختلف عن اقتناعات بعض المفكرين الذين يتجاهلون ضعف أصحاب الفكر الآخر في الحجة والثقة بالنفس ((فما مات حق وراءه مطالب)).
إن كثيراً من موانع التعبير عن الفكر ترجع إلى بعض من ينتسبون إلى مجال الفكر من ذوي النفوذ الإداري أو السياسي أو الإعلامي، هذا الواقع لا يعتبر في نظري، أزمة ولكن مأساة فكرية، لأن المفكر إذا حارب المفكر الآخر بوسائل غير فكرية أصبحت مأساة حقيقية، بينما الأزمة تكون عندما يحارب المفكر من السلطة السياسية أو من غير المفكرين. فعندما لا يستطيع المفكر الحر التعبير عن نفسه ويفتقد وسيلة الوصول إلى ساحة الجدال بسبب ضغط أو تحريم يهدد بقاءه ويحد من نموه وتطوره أما إذا حورب الفكر بفكر متسلط فهي المأساة التي تشبه دخول إنسانوأ
حرب دون أي سلاح.
وقد تنشأ الأزمة داخل الفكر نفسه عندما يقع العقل في تناقض مع نفسه فيمر العقل المتأزم بمرحلتين: مرحلة أزمة، ومرحلة مأساة.
المرحلة الأولى: وفيها يتناقض العقل مع نفسه ولكنه يظل واعياً بهذا التناقض ولا ييأس من البحث عن مخرج من تلك الأزمة بأن يجد حلاً لهذا التناقض الذاتي أي أن يجد ذاته متحددة متميزة واضحة مرة أخرى.
هذه المرحلة يمكن أن تكون مفيدة للعقل إلى أبعد الحدود، حيث يظل العقل في عمل دائم دؤوب يبحث في الأمور، يقلبها على كل وجوهها، باحثاً عن الحل، وليس للعقل عمل أهم وأشرف من ذلك، فبه يحيا العقل وينمو ويتطور ويتطهر من شوائب نقص أو خطأ أو تناقض، ويستخلص هويته بعد نجاحه في الوصول إلى الحل. هذا يعني أن التوتر العقلي هو التيار الكهربائي الذي يحيا به العقل ويظل محتفظاً بحيويته، وبغياب هذا التوتر تبدأ عملية هدم او موت بطئ إلى أن يصحو مرة اخرى بفعل توتر جديد.
هذا العقل الذي يعيش في صراع مع طرف آخر سواء كان فكراً أو سلطة، يسمى العقل المتأزم لأنه يسير في تيه يبحث فيه عن ذاته وهويته، ولكنه يظل واثقا بنفسه ومقدرته على الخروج من هذه الأزمة. أما إذا فقد العقل ثقته بنفسه، ويأس وتوقف عن العمل، وهرب من ساحة الجدال وأخذ يلوذ بأبسط الأشياء، يبحث فيها عن قناعة تخرجه من هذا التناقض الذاتي الذي قهره، انقلبت أزمته إلى مأساة. ويختلف هذا الوضع مع حال العقل المفسر (المتأثر) الذي يتفاعل مع الفكر الآخر أو المناقض في هدوء، يحسن الظن عادة في الأشياء المخالفة له حتى يثبت له خطؤها بالدليل القاطع، وقد يسئ الظن ببعضها ثم يسعد باكتشاف صحتها وصلاحيتها.
وقد يتعرض العقل المتأثر (المفسر) إلى خطورة التسليم بل والذوبان في فكر آخر بسبب انبهاره به وتوهم صحته المطلقة، كما حدث مع فكر أرسطوطاليس بعد نقله إلى العربية، ويتكرر ذلك الآن عند المنبهرين ببعض الفكر الغريب الوارد إلينا والذي أحدث هذا الصراع الفكري الذي نعيشه في بلادنا في الوقت الحاضر، وكفى هذا الفكر الغريب قدراً أنه أيقظنا من سبات عميق طال لقرون عديدة، كان شاغلنا الوحيد فيه هو كتابة شرح على شرح، وتعليق على تعليق، وتهميش على تهميش حتى ابتعدنا عن جذورنا، وذبلت فروعنا، واختفت ثمارنا وانقلب علينا اجتهادنا.
إن هذا الصراع الفكري هو الدليل الوحيد على أننا لا زلنا نعيش في عداد الأحياء، وهو في نفس الوقت علامة على تأزمنا، لأننا لا نزال ننازل هذه التيارات القوية في حجتها وفي ممثليها ونقابلها بحجة أضعف منها، وممثلين أقل شأناً وعدداً رغم أنهم يملكون مصدر القوة والعزة، ولكنه سلاح لم يتقن حامله استخدامه بعد.
المرحلة الثانية: مرحلة المأساة:
تبدأ منذ اللحظة التي ييأس فيها العقل من الوصول إلى مخرج من أزمته، فيتقاعس عن الصراع ويتجه إلى الاقتناع التدريجي بخطأ فكره، وصحة الفكر الآخر، وينتهي به الأمر إلى تبني الفكر الآخر والدفاع عنه.
ويمر العقل بعدة خطوات حتى يصل إلى هذا الوضع. فهو يتعرف أولاً على هذا الفكر الغريب، ثم يحاول تقويمه وقد يكتشف فيه أخطاء تؤدي إلى رفضه هذا الفكر وإنكار جدواه في الإثراء، ولكنه قد لا يستطيع تقديم بديل عنه أفضل منه يفرض نفسه بقوته على هذا الفكر الآخر، فإذا فرض على هذا العقل الصمت لمدة طويلة حتى يكاد أن يتوارى تماماً، وذلك لكونه لا يملك الحجة الدامغة أو السلطو المؤيدة، ولا يجد العقل مخرجاً من هذه الأزمة ويرى وجوده مهدداً بالانعدام، فقد يدفعه حب الاستمرار في الحياة بأي ثمن إلى أن يهادن هذا الفكر السائد، ويحاول إيجاد صيغة للتعايش معه على شكل لا حرب لا سلام، فإذا ظل العقل فترة طويلة على هذا الوضع فإنه لا يرغب في العودة إلى الصراع، ويركن إلى حالة اللا سلم واللا حرب، ولكنه قد لا يقتنع بهذا الوضع الذي أصبح هو فيه فكرة لا أثر له في أي شئ فيحاول الظهور مرة أخرى. لكنه لا يلجأ في ذلك إلى الصراع الذي لن يكون لصالحه، بل إلى التواؤم والاقتراب من الفكر الآخر، وقد يسير إلى أبعد من ذلك في طريق التواؤم بعد مضي فترة أطول فيظهر لديه اقتناع بصحة هذا الفكر الغريب، وعدم حقه في منازلته ومحاولة إزاحته من الساحة، ويقتنع تماماً بعدم جدوى تمسكه باستقلاليته وهويته التي أودت به إلى هذا الوضع غير المشرف، فتكون النتيجة أن يتبنى هو هذا الفكر الآخر، ويصبح من مناصريه والمدافعين عنه ضد التيارات الأخرى التي كان هو يؤمن بها أو يشكل جزءاً منها، فتبدأ بذلك عملية هدم للذات واستغناء عن الهوية الأصلية، والذوبان في الفكر الآخر وتقمصه بلا شروط، وقد يستميت في الدفاع عن هويته الجديدة المستعارة خوفاً من التعري أمام حجج الفكر الآخر، التي كانت لا تزال حية عند بعض المفكرين شركائه السابقين، الذين لم ييأسوا ويهربوا من حلبة الصراع وكانت ثقتهم بأنفسهم وبصحة مذهبهم أكبر من هذا العقل الذي تنكر لفكره الأصيل وتقمص فكراً غريباً.
إنه ليس من المستنكر أن يتبنى عقل مبادئ أو فكراً يناقض ما كان يتبناه في فترة سابقة، أي أن ينتقل إلى الطرف الآخر تماماً، ولكن بشرط أن يكون هذا الانتقال ناتجاً عن دراسة هادئة وتأمل عميق وموازنة موضوعية في ظروف مناسبة للعمل الفكري السليم، فيكون الانتقال من الدعوى إلى نقيضها بهذه الشروط عملية تعلم وإثراء وتجديد، وتدخل في باب الاعتراف بالحق وضرورة تبنيه والدفاع عنه. أما إذا كانت هذه الانتقالة ناتجة عن يأس فكري وحرص على الحياة بأي شكل وبأي ثمن فلا تكون تعلماً بل وقوعاً في مأساة، هي أبعد أثراً وأخطر على النفس من معاناة الأزمة.
خلاصة القول:
إن العقل السوي يفكر فطرياً، ويتطور باحتكاكه وتأثره بالفكر الآخر، فالعقل المتأثر عقل حي، قابل للتطور، فإذا انهزم هذا العقل أمام ضغط خارجي أياً كان نوعه فإنه يقع في أزمة، تتمثل في حرمانه من الظهور واستخدام سلاحه. وقد يكون هذا الحرمان بسبب أزمة تناقضه مع نفسه وضياع هويته، فإذا استطاع هذا العقل المتأزم الصمود حتى نهاية الصراع، فإنه يخرج منه أغنى وأقوى، أما إذا استسلم إلى اليأس وفقد الثقة في نفسه انفتح أمامه الطريق إلى الذوبان في الفكر الآخر وفقدان هويته الأصلية إلى الأبد، وتقمص هوية غريبة، يستميت في الدفاع عنها وكأنه خلق بها، فتكون المأساة، وهذه الحالة المأساوية هي بداية الاختفاء الكلي من الوجود وضياع الهوية الأصلية إلى الأبد، وانفتاح باب التطرف في كل الاتجاهات على مصراعيه.