مقدمة:
أوتي الإنسان مقدرة على البيان تعينه على تحقيق غرضه، والإفصاح عن مكنون نفسه، أشار القرآن الكريم إلى معجزة البيان في خلق الإنسان، قال U: (الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الإِنسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) [الرحمن: 1-4]، أطبق العلماء والفلاسفة والأدباء على فضيلة البيان، وجلالة قدره، وعلوّ منزلته، وأقاويلهم في فضائله وميزاته جمّة (الجاحظ، ١٩٩٨، ج١، ص ١٧٠-١٧٥). وحسبنا في هذا المقام مقولةُ خالد بن صفوان: “ما الإنسانُ لولا اللسانُ إلا صورةٌ ممثَّلةٌ أو بهيمةٌ مُهْمَلة” (الجاحظ، ١٩٩٨، ج١، ص ١٧٠). والإنسانُ بعدُ مفطورٌ على اللجاجة في الجدل والمحاججة، )وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً( [الكهف: ٥٤]. وإذا ما قُدِّر للإنسان التمكنُ من ناصية البيان، وألقت إليه البلاغة مقاليدها، وأفضت إليه الفصاحة بأسرارها، أَسرَ القلوب بكلامه، وخلب العقول بمنطقه. مدح عمرو بن الأهتمِ الزبرقانَ بن بدر أمام سيدنا رسول الله r، ثم ذمه في نفس المجلس، متعللاً بقوله: رضيتُ فقلتُ أحسنَ ما علمت، وغضبتُ فقلت أقْبحَ ما علمت، وما كذبتُ في الأُولى، ولقد صَدَقْتُ في الثانية! فقال رسول الله r: «إن من البيان لَسِحْراً» (ابن الأنباري، ١٩٨٧، ص ٣٤٣؛ الحصري، د.ت، ج١، ص ٣٨. الحديث في ابن الأثير، ١٩٧٢، ج ١١، ص ٧٣٣) تشبيه البيان بالسحر عائد إلى مَكِنةٍ في النفس، تلوّن الكلام وتصبغه بالصبغة التي تشاء، فَتُلبِسُ الباطلَ لَبوسَ الحقِّ تارةً، وتخرجُ الحقَّ مَخرج الباطلِ تارة أخرى، فتصرفُ بذلك قلوبَ السامعين إلى قبول ما يقوله المتكلم.
في زُخْرُفِ القولِ تزيينٌ لباطِلهِ | والحقُّ قد يعتريهِ سُوْءُ تَعبيرِ | |
تقولُ: هذا مُجَاجُ النَّحلِ تَمْدَحُهُ | وإنْ ذَمَمْتَ تَقُلْ: قَيْءُ الزَّنابيرِ | |
مَدْحاً وذمَّاً وما جاوَزْتَ وصْفَهُما | سِحْرُ البَيانِ يُري الظَّلْماءَ كالنُّورِ |
(ابن خلكان، ١٩٦٩، ج١، ص ٣٣)