إن رصد التراكم المعرفي حول «المقاصد الشرعية»، يجعلنا أمام بحر لجي زاخر بكل التيارات، مفتوح أمام جميع أزمنة العقل المسلم منذ تنزل النص القرآني على رسولنا خاتم الأنبياء محمد r إلى يوم الناس هذا، رحلة ما أطولها في الجغرافيا والتاريخ، تعددت فيها العصور، وتنوعت المناهج والمذاهب، وسال من أجلها مداد كثير لمئات الأعلام، في السلسلة الذهبية لعلماء الإسلام.
لقد ارتبط الفهم المقاصدي بالقرآن نزولاً، وأحكام الشريعة تنزيلاً، فلزم العلم بمقاصد الشرع جملة وتفصيلاً، فمولد المقاصد يؤرخ له خطاب «النص» منذ حمله الرسول r «بلاغًا» وتحمله أهل التكليف «أمرًا» و«نهيًا»، وفصَّله أمناء الأمة المجتهدون بوصفين هما – بتعبير الشاطبي – فهم مقاصد الشريعة على كمالها، والتمكن من الاستنباط بناء على فهم فيها.
ويمكن الإشارة هنا إلى جوانب عدة:
1- أن التأسيس المقاصدي في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة جلي وواضح، تشير إليه الدلالات المعجمية والاصطلاحية لألفاظ الكتاب والسنة، حتى يصح ما قاله «ابن عرفة» في تفسيره إن الخلاف إنما في تعليل أفعال الله تعالى «أما أحكامه فمعللة».
2- أن مقاصد الشريعة لم تنفصل عن مباني الاجتهاد منذ عصر الرسول إلى اليوم، وينسحب ذلك على عناصر المقاصد الثلاثة: التعليل، والمصلحة، ومآلات الأفعال، ولكل تطبيقاته في عصر الوحي واجتهادات الصحابة. صحيح أن «الحجية» في هذا العصر تعود إلى «عصمة الوحي»، إلا أن إقرار الرسول لمنهجية اختلاف حول معنى الأمر والنهي تتخطى حدود الاستجابة الجزئية لمواقف فردية، إلى غاية كلية هي صلاح نظام العالم. فخطة الرسول التشريعية قاعدتها الأساسية في العبادات والمعاملات مراعاة مصالح الناس، ومصلحتهم هي جلب النفع لهم، ودفع المفسدة عنهم. وفي ضوء نظرية المصالح والمفاسد تفهم أحاديث رسول الله r في كثير من مسائل الأحوال الشخصية والبيوع، وفي العبادات كالصوم والحج والأضحية، وكلها تطبيقات تحكمها قواعد منع الضرر، ورفع الحرج، وغيرهما من القواعد الكلية.
3- مقاصد الشريعة ليست جزءًا من الفقه، بل هي الفقه الأكبر لأنها أرحب وأوسع من أن تحصر في دائرة علم من علوم الشريعة، بل هي