وُجدت الشريعة الإسلامية لتبقى، لأنها أمر الله ونهيه في أكمل دين وآخر رسالة، ولأنها رسالة للإنسان من أجل تحقيق مصالحه في المعاش والمعاد، حرصت الأصول الإسلامية على تأسيس منهجية لاعتبار المصالح يجب تعميمها في كل المجالات، وإعلاء شأنها لتفعيل الأحكام في التدبير الشرعي كله عند استنباطه وعند تنزيله على السواء، بما يفتح النص الشرعي أمام عالمه اللامتناهي الوقائع – حصرًا وعدًا- باعتبار خاتمية النبوة، وعالمية الشريعة التي تستوعب الإنسان والزمان والمكان؛ لأن غياب النص لا يعني انعدام الحكم، فالأصل أن كل الأفعال والأعيان والأشياء داخلة تحت مراتب الحكم التكليفي، ولمآلاتها دور في سد مسالكها رفضًا، أو فتح مداركها قبولاً، فإذا كان للقصود أثرها في العقود، فإن للنتائج والمآلات توصيفها للتصرفات، منظورًا إليها من خلال ما تفضي إليه من مفاسد ومنافع، أي منظورًا إليها من زاوية المصلحة في مقصود الشرع، وهنا نقول- مع قطب سانو-: «لا مناص من توظيف هذا الدليل العلمي المتوازن لحسن بيان حكم الشرع فيما استجد من عالم المسائل العامة، سواء أكانت مسائل متصلة بالعبادات، أم كانت متصلة بالمعاملات، أو الأسرة، أو الجنايات، أو السياسة»، إن عالم النص أرحب من التوقف عند الجزئيات، فهو يستوعبها، ولكنه يحكمها وهي تحتكم إليه، وعالم النص باعتبار علاقته بالخالق هو جزء من نظام الكون ونظام الوجود، وباعتبار علاقته بالمخلوق هو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاءً أو تخييرًا أو وضعًا، أو هو أحكام، وفي التقويم الديني والتقسيم العقلي فإن النظام أولاً، والأحكام ثانيًا، والمصلحة في النظام مفترضة إيمانًا ومقطوع بها استقراءً، والمصلحة في سياق الأحكام تستنبط باجتهاد عقلي يربطها بالإنسان والزمان والمكان، وهذا لا يعني نسبية الحكم الشرعي أو تاريخيته، فهو كلام الله تشكل خارج الزمن، ولكن في صلته بأفعال المكلفين يتعين بأشخاص ويتزامن في أوقات، ويتحدد على جغرافيات، وينطق بلغة لها منطق وقوانين، بل إنه يتفاعل عبر منظومة من الأسباب والشروط والموانع، لا تحدد النص ولا تقيده، ولكنها تحقق مناطه، وتبين المحل الذي تتنزل عليه الأحكام، من تجريد الخطاب إلى تفريد الماصدق، حتى لا تنفلت الأحكام المتعالية في مسالك الاستنباط عن دروبها العملية في مدارك التطبيق والتنزيل.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: ما هي الضوابط التي تفرضها منهجية من هذا النوع وهي تمتثل لحجية الدليل، ولا تنفصل عن وقائع التنزيل؟
إن النازلة تعني مشكلة ابتلي بها المكلف، ومسؤولية وُضعت على عاتق العالم، فسؤال المستفتي يستدعي إجابة المفتي، وربما يعبر عن هذا المعنى قول الشاعر:
ولرب نازلة يضيق بها الفتى
ذرعًا وعند الله منها المخرج
والنوازل نوعان: وقائع سابقة، أي لها وجود فعلي، وفيها اجتهادات وفتاوى.
ووقائع مستجدة والبحث لها عن حكم جائز عند جمهور الفقهاء، بل إنه من الاجتهاد الواجب الذي يستوعبه قول رسول الله ق والذي رواه الشيخان- البخاري ومسلم-: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر»، وإذا كان القرآن الكريم والسُّنَّة معًا قد ألزما بسؤال أهل الذكر فقد أصبحت معرفة الحكم من الواجبات، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، يقول الإمام «الشاطبي» في «الموافقات» تحريرًا لهذه المسألة: «إن الوقائع في الوجود لا تنحصر، فلا يصح دخولها تحت الأدلة المستحضرة، ولذلك احتيج إلى فتح باب الاجتهاد من القياس وغيره، فلابد من حدوث وقائع لا يكون منصوصًا على حكمها، ولا يوجد للأولين فيها اجتهاد، وعند ذلك فإما أن يُترك الناس فيها مع أهوائهم، أو يُنظر فيها بغير اجتهاد شرعي، وهو اتباع للهوى وذلك كله فساد».
والاجتهاد في المسائل الجديدة مزلة أقدام وأفهام، فمع ترجيح رأي الجمهور في وجود حكم لله في كل واقعة- لم يخالف في ذلك إلا «الباقلاني» مخالفة يعوزها الدليل- فإن الوقائع لا تتناهى في العد والحصر، ولكنها في الحقيقة متناهية لوجودها داخل الزمن، أما النصوص فإن تناهيها يعني إمكانية حصرها وعدّها، ولكنها في الحقيقة لا متناهية؛ لأنها خطاب الله تعالى وهو يقينًا خارج الزمن». ويحسن هنا تأمل ما قاله الإمام «الجويني» في «البرهان»: إن الأحكام «مترددة بين طرفين أحدهما محصور، والآخر غير محصور، فالنجاسة مثلاً محصورة، والطهارة في مقابلها لا حصر لها، والتحريم محصور، والإباحة لا حصر لها، فالواقعة إذا ترددت بين الطرفين ووجدت في شق الحصر، فذلك، وإلا حكم فيها بحكم الشق الآخر الذي أعفي الحصر عنه».
وكما قلت: المسألة مزلة أقدام وأفهام، لأن شأن الفقيه- كما يقول العلامة محمد الخضر حسين-: «أن ينظر في المعاملات المخالفة لأصل من أصول الشريعة، فإن وجدها ناشئة عن ضرورة كان له أن يستثنيها من أصل المنع ويجعل الضرورة علة استثنائها من ذلك الأصل، فإذا كانت ناشئة عن جهالة أو هوى غالب فما له إلا أن يفتي بفسادها، ويُعلم الناس وجه المعاملة الصحيحة، ولا يصح جعل ما يجري به العرف الفاسد أمرًا مشروعًا، ويفتي بصحته دون أن تدعو إليه ضرورة يحسن العارف بمقاصد الشريعة تقديرها. قال العلامة أبو عبد الله بن شعيب- أحد علماء تونس في القرن الثامن الهجري-: «وغلبة الفساد من إهمال حملة الشريعة، ولو أنهم نقضوا عقود الفساد لم يستمر الناس على الفساد».
والمستجدات كلها تدور في مجال الاجتهاد التنزيلي أو في تحقيق المناط، وكما يقول- إدريس الحمادي-: «والاجتهاد في تحقيق المناط يمتد بامتداد زمن التكليف؛ لأن الشريعة لما لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها، وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة تتناول أعدادًا لا تنحصر»، كان تحقيق المناط ضروريًا تتوقف عليه حياة الشريعة، وإلا لم تنزل أحكامها على أفعال المكلفين إلا في الذهن؛ لأنها أحكام مطلقة منزلة على أفعال عامة مطلقة، والأفعال لا تقع في الوجود مطلقة، وإنما تقع معينة مشخصة الحكم، فلا يكون الحكم واقعًا إلا بعد المعرفة بأن هذا المعين يشمله ذلك المطلق أو ذلك العام، وقد يكون ذلك سهلاً أو لا يكون، وكله اجتهاد.
وحتى لو كان معينًا فإن «لكل معين خصوصية ليست في غيره ولو في نفس التعيين»، ومعنى هذا أنه «لا يبقى صورة من الصور الوجودية المعينة إلا وللعالم فيها نظر صعب أو سهل حتى يحقق تحت أي دليل تدخل» ذلك أن كل صورة من صور النازلة نازلة مستأنفة في نفسها لم يتقدم لها نظير، وإن تقدم لها في نفس الأمر فلم يتقدم لنا، فلابد من النظر فيها بالاجتهاد. وكذلك إن فرضنا أنه تقدم لنا مثلها فلابد من النظر في كونها مثلاً أولاً، وهو نظر واجتهاد أيضًا… فتحقيق المناط لا يخرج عنه أية نازلة في الوجود، وصاحب هذا التحقيق- كما يقول الإمام الشاطبي- «هو الذي رزق نورًا يعرف النفوس ومراميها، وتفاوت إدراكها، وقوة تحملها وصبرها على أعبائها أو ضعفها، ويعرف التفاتها إلى الحظوظ العاجلة أو عدم التفاتها، فهو يحمل على كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها، بناء على أن كل ذلك هو المقصود الشرعي من تلقي التكاليف».
والذي يقول به الشاطبي يعني أن الاجتهاد التنزيلي كله يتحرك مع المستجدات، لأن الوقائع لا تعيد نفسها، وهو يقوم على منهجية تقفز فوق المذاهب الفقهية، في منهجية تنظر إلى العقل الفقهي في وحدته وتكامله، وليس في التفاريق والاختلافات، فلا ينبغي الحكم على جزئي بجزئي، «إذًا الوقائع الجزئية النوعية أو الشخصية- كما يقول الشاطبي- لا تنحصر، ومجاري العادات تقضي بعدم الاتفاق بين الجزئيات، بحيث يحكم على كل جزئي بحكم جزئي واحد، بل لابد من ضمائم تحتف، وقرائن تقترن، مما يمكن تأثيره في الحكم المقرر، فيمتنع إجراؤه في الجزئيات، وهذا أمر مشاهد ومعلوم».
* * *