مقدمة:
أصول الفقه: أدلته، أي جملة الأدلة الكلية التي يُرجَع إليها مآخذ قريبة للأحكام، كان ذلك بوجه بيِّن أو مستنبط، أصلي أو تبعي، استخراجي أو تحقيقي، ضروري أو نظري، ثبوتي أو عدمي، وجودي أو زوالي، وهي الأصول المعروفة من الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، والمصلحة، والعرف، وسد الذرائع، وشرع من قبلنا، ومذهب الصحابي، والاستصحاب، وغير ذلك(1).
ولقد ظل تأصيل الأصول الفقهية – سواء الأصول بالمعنى السابق، أو الأصول بمعنى قوانين الاستنباط- عملية متواصلة بالنسبة للدرس الأصولي عبر تاريخ العلم، وكان يتم ذلك بحسب ما تقتضيه التطورات المعرفية (الأكاديمية) أو التحولات الثقافية الاجتماعية (الممارسة)، حتى ليمكن وصف هذا الدرس أنه درس دائم التجدد في نفسه! فقد كانت التآليف والمدونات الأصولية تحرص كل مرة على ضرورة إخراج ذلك الدرس في صور وهيئاتمختلفة، كل لون من تلك الصور والهيئات كان يعبر عن مدى استيعاب صاحبه لمادته العلمية الأصولية، ومدى اجتهاده في إعادة إنتاجها، اجتهادا صادرا عن رؤية وتمثل خاصين، ولم تكن إعادة الإنتاج والإخراج تلك لتقتصر على مجرد عمليات في التقديم والتأخير في مكونات العلم ومباحثه، أو مسائله وقضاياه، على الأهمية البالغة لمثل ذلك، بل هي شملت إلى ذلك أشغال جذرية في الحذف والإضافة، والإلغاء والاعتبار، وفي التطوير والتوليد المستمرين(2)، وكان علم الأصول بذلك كله يعبر عن حيوية كبيرة، جسدتها خاصية الارتباط المستمر بالواقع، والاستجابة الفعالة لمتطلباته المتبدلة. وحين ازدهر الاهتمام المعاصر بأصول الفقه، لوحظ تضخم الخطاب في ذلك المضمار (مضمار التجديد والتطوير) على حساب الممارسة، بحيث كثر القول عن العلم وقَلّ القول فيه، وظلت المحاولات الفعلية الجادة في ذلك لا ترقى إلى المستوى المطلوب، كمّا ولا نوعا، فهل تم القول الفصل والكلمة النهائية -مثلا- في أصول الفقه؟ (الأصول التي هي بمعنى مصادر التشريع خاصة) بحيث لم يبق هنالك مجال للأخذ والرد؟ والنظر والبحث في ذلك، كمّا أو كيفا، مضمونا أو شكلا؟ أم أن الإمكان ما يزال متاحا كما كان؟ فمثلا تكلم أصوليون قديما في مدى اعتبار المعرفة القلبية (الإلهام) مصدرا للتشريع(3)! كما شكك أيضا أصوليون معاصرون ومفكرون في مدى قدرة أصل (القياس) مثلاً على الوفاء بالاحتياجات التشريعية المعاصرة(4)! وغير ذلك من…
(أقرأ المزيد)