أبحاث

الشريعة في الدساتير العربية والإسلامية وعلاقتها بالحكم المدني

العدد 160

أولا: موقف الدساتير العربية والإسلامية من الشريعة الإسلامية:

(1) من الطبيعى أن يكون للإسلام بعامة وللشريعة الإسلامية بخاصة مكان ومكانة فى دساتير الدول العربية والإسلامية؛ ذلك بأن الإسلام طال أمده فى تلك البلاد فضرب بجذوره فى أعماقها وبسط سلطانه على كثير من مظاهر الحياة فيها. وهو – بعد – ليس تاريخا انقطع مساره وطويت صفحته أو ماضيا انقضى أجله، بل هو ما يزال حاضرا ماثلا وسوف يبقى كذلك أبدا. وهو إن كان قد انحسر كنظام سياسى فلم يعد حاكما فى معظم تلك الدول كما كان من قبل، فإنه ما زال متحكما فى قلوب شعوبها ومهيمنا على عقولها، وهذا يرجع إلى كونه ليس نظام حكم فحسب، لكنه كذلك، بل قبل ذلك، منبع قيم ومنهج حياة.

وإذا كانت الدساتير تعنى فى الأساس ببيان الحقوق والواجبات العامة من جهة، ثم بتحديد شكل الدولة ونظام الحكم فيها من جهة أخرى بما يقتضيه ذلك من بيان سلطات الدولة وتحديد اختصاص كل منها وتنظيم العلاقة بينها، إلا أن الدساتير فى العادة تستهل أحكامها بمجموعة من النصوص تحدد فيها سمات الدولة، فتبين هويتها وحدودها ولغتها وشكل علمها ونشيدها الوطنى. والدين بالنسبة لبعض الدول هو عنصر من العناصر التى تعتبرها من محددات هويتها.

ويدل الاستقراء على أن دساتير الدول العربية والإسلامية لا تقف كلها من الإسلام موقفا واحدا. ويمكن للباحث فى هذا الشأن أن يرصد لها ثلاثة اتجاهات: أولها يكتفى بالنص على أن الإسلام دين الدولة، أما الثانى فلا يكتفى بهذا النص، بل يحرص كذلك على أن يجعل للشريعة الإسلامية دورا فى التشريع، فينص على اعتبارها مصدرا له، وأما الاتجاه الثالث – ومعتنقوه قلة – فيلزم الصمت فلا يشير إلى دين الدولة، وبعضها ينص على كفالة حرية التدين والاعتقاد.

(2) وينطلق الاتجاه الأول من مفهوم ضيق للإسلام لا يطابق حقيقته، إذ يصرفه إلى الإسلام كمجرد عقيدة وشعائر. وهذا فهم قاصر دعا البعض إلى اعتبار الدين شأنا خاصا بين الإنسان وربه، غايته هداية الإنسان إلى ما هو أقوم حتى يفوز بالسعادة فى الحياة الآخرة. وحقيقة الإسلام أعم من ذلك وأشمل، فهو لا يُختزل فى علاقة الإنسان بربه وبنفسه، بل يشمل فضلا عن ذلك تنظيم علاقته بغيره من آحاد الناس، وعلاقتهم جميعا بالدولة، وعلاقة دولتهم بغيرها من الدول والهيئات الدولية، وبعبارة أخرى فهو يشمل وينظم كل شئون الأفراد والجماعات فى الحياة الدنيا. والإسلام – وهذه حقيقته – لا يقبل التبعيض، وقد ذم أقواما يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض. وإذا كان عدد من دساتير الدول العربية يصّر على صرف الإسلام هذا المصرف، فهذا شأن واضعيها، لكنه لا يغير من حقيقة الإسلام، بل إنه يدمغ هذه الدساتير بالتناقض، لأنها تجزىء ما لا يقبل التجزئة. والواقع أن الدول التى تنحو فى دساتيرها هذا المنحى إنما تسعى فقط إلى الإعلان عن أن شعبها أو سواده يدين بالإسلام، لا أكثر ولا أقل. ولهذا فهى تضع هذا النص فى مستهلّ مواد الدستور ضمن النصوص التى تحدد اسم الدولة وشكلها ونظام الحكم فيها وانتماء شعبها ولغتها وحدود إقليمها وشعارها وشكل علمها.

ومن الدساتير التى تسلك هذا المسلك دساتير الدول الآتية: المملكة المغربية والمملكة الأردنية الهاشمية، وجمهورية الصومال (دستور1960)، والجمهورية الجزائرية، وليبيا (دستور 1951) فى العهد الملكى، وموريتانيا، وتونس (قبل ثورة 2012)، وجزر القمر، وباكستان.

(3) أما الاتجاه الثانى، وهو الذى يجعل للإسلام دورا فى عملية التشريع فقد أخذت به دول أخرى عربية وإسلامية فى دساتيرها، وإن اختلفت فيما بينها فى التعبير عن فكرة المصدرية. وتذهب أغلب هذه الدساتير بعد النص على أن الإسلام دين الدولة إلى النص على أن مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسى للتشريع. ومن هذه الدساتير: الدستور المصرى، وقد استُحدث هذا النص لأول مرة فى دستور 1971، وورد بلفظه فى الدستور الجديد الذى صدر فى سنة 2012. ومن هذه الدساتير أيضا الدستور الكويتى ودستور كل من دولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين وقطر وفلسطين. واكتفت بعض دساتير هذا الاتجاه بالنص على اعتبار الشريعة الإسلامية – دون تخصيص مبادئها – مصدرا للتشريع، ودون النص على أنها المصدر الرئيسى، ومنها دستورا العراق واليمن. أما النظام الأساسى لدولة عمان – وهو الاصطلاح المعادل للدستور – فنص على أن الشريعة الإسلامية هى أساس التشريع. وأما النظام الأساسى للحكم السعودى – وهو المرادف للدستور أيضا – فقد نص على أن المملكة السعودية دولة دينها الإسلام ودستورها كتاب الله تعالى وسنة رسوله، وهو ما يعنى أن أحكام كليهما هى عين الدستور. ونص دستور السودان الانتقالى (الصادر فى 2005 قبل انفصال الجنوب) على أن تكون الشريعة الإسلامية والإجماع مصدرا للتشريعات التى تسنّ على المستوى القومى وتطبق على ولايات شمال السودان. وينص دستور أفغانستان على أنها جمهورية إسلامية وأن الإسلام هو دين الدولة، وأن أتباع الديانات الأخرى أحرار فى ممارسة عباداتهم ضمن حدود الشريعة، وينص كذلك على أنه لا يمكن لأى قانون أن يتعارض مع معتقدات وأحكام الدين الإسلامى الحنيف.

والذى نراه أن اختلاف الصياغة فى دساتير هذه المجموعة من الدول أيا ما كانت درجة انضباطها لا تقدح، لأن المؤدى فيها جميعا واحد تقريبا. وإن مجرد النص على اعتبار الشريعة الإسلامية مصدرا للتشريع لا يدع بذاته سبيلا لظهور مصدر آخر يمكن أن ينازعها أو يشاركها فيه، لأن أدلة الأحكام الشرعية – الأصلية والفرعية حسبما تواطأ عليه علماء الأصول – تستغرق أى مصدر آخر يمكن أن يستمد منه التشريع. وكان الدستور المصرى الملغى ينص لدى صدوره فى سنة 1971 على أن الشريعة الإسلامية مصدر رئيسى للتشريع، ثم بدا للبعض من بعد أن ثمة شبهة قد تثور بشأن ترتيب الشريعة الإسلامية بين مجموعة المصادر، فعدلوا النص بما يكفل لها التفرد، وتم ذلك بإضافة أداة التعريف (أل)، وبهذا أصبح النص كما يلى: “… ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع”. وعندنا أن الشبهة التى زُعمت كانت على غير أساس، وأن حكم النص بعد التعديل لم يختلف عن حكمه قبله، وإنما كان التعديل ذريعة لتحقيق غاية أخرى لا صلة لها بالشريعة الإسلامية.

فدستور الجمهورية الإسلامية فى ايران ينص فى مادته الثانية عشرة على أن الدين الرسمى لإيران هو الإسلام، وأن المذهب هو المذهب الجعفرى الإثنا عشرى، وأضاف الدستور أن هذه المادة تبقى إلى الأبد غير قابلة للتغيير. وهذا النص – بالإضافة إلى نص المادة 85 – قاطع فى اعتبار أحكام المذهب الجعفرى تشريعا نافذا بذاته له قوة الدستور وليس مجرد مصدر للتشريع.

(4) وأما الدستور السورى فيصعب تصنيفه على أنه واحد من أفراد المجموعة الثانية؛ فقد خلا من النص على أن الإسلام دين الدولة، ونص بدلا من ذلك على أن دين رئيس الجمهورية الإسلام، كما أنه لم ينص على أن الشريعة الإسلامية – أو مبادئها – مصدر للتشريع، لكنه نص على أن الفقه الإسلامى مصدر رئيسى له. وقد عدل الدستور السورى بذلك عن النهج الذى اتبعته دساتير المجموعة الثانية، إذ تعمد إحلال الفقه الإسلامى محل الشريعة الإسلامية أومبادئها، والفرق بين الشريعة وفقهها لا يخفى؛ فالشريعة هى مجموعة الأحكام الواردة فى نصوص الكتاب والسنة، أما الفقه فيشمل شروح الفقهاء لهذه النصوص بتطبيقها والحمل على القواعد المستخرجة منها. وأحكام الشريعة بالنظر إلى وحدة مصدرها – وهو الوحى – تتسم بالاتساق، فلا تناقض بينها، أما الفقه فلكونه اجتهادا بشريا صادرا عن أشخاص أيا كانت منـزلتهم فإنهم يختلفون فيما بينهم زمانا ومكانا ومذهبا، ويتفاوتون كذلك فى مدى قدرتهم على إدراك حقيقة الواقع وعلى فهم النصوص، ومن ثم على استنباط الأحكام. ولهذا كان طبيعيا أن تختلف آراء الفقهاء فى كثير من المسائل باختلاف المذاهب، بل وحتى بين فقهاء المذهب الواحد، وهو ما يجعل النص فى الدستور السورى على الإحالة إلى الفقه الإسلامى فى عمومه – قديمه والحديث – كمصدر رئيسى للتشريع عديم الجدوى. هذا إلى أن الإحالة على هذا الفقه فى دستور يتجنب النص على أن دين الدولة الإسلام رغم أن معظم أفراد الشعب مسلمون يمكن تأويله على أنه مجرد دعوة للسلطة التشريعية للاستفادة عند سنّ التشريع من تراث إنسانى يتمثل فى الفقه الإسلامى، لكن هذه الدعوة لا تحمل معنى الإلزام ولا يترتب على مخالفتها جزاء دستورى.

(5) وأما الاتجاه الثالث فتمثله دساتير لبنان وبنجلاديش وأندونيسيا وتركيا وماليزيا وأوزبكستان. أما الدستور اللبنانى فقد التزم الصمت بشأن الدين الإسلامى، ومن باب أولى بشأن علاقة الشريعة الإسلامية بالتشريع، وذلك على الرغم من النص فيه على أن لبنان دولة عربية، وعلى الرغم من كونها عضوا فى الجامعة العربية، بل وعضوا مؤسسا فى منظمة المؤتمر الإسلامى. ويرجع السبب فى ذلك إلى طبيعة التركيبة السكانية فى لبنان وتعدد طوائفه الدينية. ولهذا فقد خلا الدستور اللبنانى من النص على ديانة محددة للدولة، ونص بدلا من ذلك على أن حرية الاعتقاد مطلقة، وأن الدولة بتأديتها فروض الإجلال لله تعالى تحترم جميع الأديان والمذاهب وتكفل حرية إقامة الشعائر الدينية تحت حمايتها على ألا يكون فى ذلك إخلال بالنظام العام (م 9).

وأما بنجلاديش – ويبلغ عدد سكانها حوالى 150 مليونا منهم قرابة 90% مسلمون – فقد تردد دستورها بين النص على إسلامية الدولة وعلمانيتها، وانتهى الأمر فى سنة 2012 بإلغاء المواد الدستورية المعبرة عن إسلامية البلاد وعن ارتباطها بالدول الإسلامية، وأعيد النص على علمانية الدولة، وذلك على يد حزب عوامى.

وأما أندونيسيا – ونسبة عالية من شعبها تدين بالإسلام – فقد خلا دستورها من النص صراحة على أنها دولة إسلامية، ونص بدلا من ذلك على أنها “دولة قائمة على أساس الربانية المتفردة”، وأنها تكفل لكل فرد من سكانها حرية اعتناق الدين الذى يراه وممارسة عبادته على حسب دينه ومعتقده (م 29).

أما تركيا حيث تبلغ نسبة المسلمين فيها 98% من جملة السكان فإن دستورها الحالى لا يصفها بأنها دولة إسلامية، بل ينص على أنها دولة ديمقراطية وعلمانية واجتماعية تحكمها سيادة القانون. وينص على أن لكل فرد الحق فى حرية الضمير والمعتقد الدينى والقناعة، ولا يجوز إجبار أحد على العبادة أو على الكشف عن معتقده الدينى أو قناعاته أو توجيه اللوم أو الاتهام إليه بسبب هذه المعتقدات والقناعات. ومثل تركيا ماليزيا وأوزبكستان؛ فعلى الرغم من أن أغلبية السكان فى كل منهما يدينون بالإسلام، إلا أن الدستور ينص على أن الدولة علمانية تتعدد فيها الأديان، ويكفل لكل مواطن فيها حرية التدين، أى اعتناق أى دين وممارسة شعائره وطقوسه، أو التجرد من كل دين، دون أن يعنى ذلك التنكر للقيم الروحية.

ثانيا: طبيعة الحكم فى ظل الدساتير التى تجعل للإسلام دورا فى نظام الدولة

ظاهر مما سبق أن دساتير المجموعتين الأولى والثالثة تخرج عن نطاق البحث، وأن البحث يقتصر على المجموعة الثانية وحدها. والسؤال المطروح هو: هل أصبح نظام الحكم فى دول هذه المجموعة دينيا أو مرشحا لأن يكون كذلك؟

(6) وقبل الإجابة عن هذا السؤال نود الإشارة إلى أن كثيرا من اللبس والخلط يقع نتيجة لعدم ضبط المصطلح، أو بالأدق نتيجة لعدم تحريره. ويتضح هذا بجلاء فى مسألة علاقة الإسلام، أو الشريعة الإسلامية تحديدا، بنظم الحكم: فهل يعتبر نظام الحكم وفقا لما تقرره أحكامها، وكذلك وفقا لممارسات الحكام المسلمين قديما وحديثاً نظاما دينيا أو مدنيا؟

وعلى الرغم من أن المتخصصين، بل وغير المتخصصين، لا يكفّون عن تناول هذا الموضوع وعن إجراء المقارنة بين النظامين، فإننا نلمس بينهم اختلافا فى تحديد سمات أو خصائص كل من النظامين تحديدا دقيقا. والملاحظ أن كثيرا من المهتمين بالموضوع يرسمون للحكم الدينى أو للدولة الدينية عموما سمات تتفاوت فيما بينها بحيث يتعذر القول باتفاقهم على ملامح موحدة لها. وإذا انتقلنا من هذا إلى تقييم الكثيرين لنظام الحكم فى الدولة الإسلامية بصفة خاصة وجدنا بعضهم يتكلف كثيرا فى التدليل على اشتماله على كل خصائص الحكم الدينى بمفهومه الاصطلاحى، وهو ما يكشف عن أن هؤلاء إما أن يكونوا غير محيطين بأحكام الشريعة الإسلامية فى موضوع نظام الحكم، أو يكونوا عالمين بها ولكنهم يتعمدون المغالطة من باب الانتصار لأيديولوجيات يؤمنون بها مناهضة للفكرة الإسلامية ذاتها.

ونرى منذ البداية ضرورة التنبيه إلى حقيقة نراها أساسية، وهى وجوب التفرقة بين الدولة الإسلامية كنظام حكم حددت الشريعة الإسلامية مبادئه العامة ومعالمه وبين السوابق التاريخية أو الممارسات العملية للحكم فى بعض الفترات التاريخية. ولا يعترض بأن سوء التطبيق إنما يدل على فساد النظرية؛ فهذا الاعتراض مردود بأن النظرية طبقت فعلا وثبت صلاحها فى العقود الأولى إبان الخلافة الراشدة. وإنما بدأ نظام الحكم الإسلامى يضطرب أمره وينحرف عن غايته حين خولفت المبادئ التى أرستها الشريعة الإسلامية، فكان ما كان مما لا تسأل الشريعة عنه ولا يحمل الإسلام تبعته، وإنما يبوء بإثمه من خالفوا تلك المبادئ ومن أوعزوا بمخالفتها أو أقروا الحكام على هذه المخالفة.

مفهوم الدولة الدينية والدولة المدنية:

عندما يتردد مصطلح الدولة الدينية يستدعى الذهن صورة قاتمة رسمتها كتابات الغربيين عن هذه الدولة، وذلك من واقع تجربة مريرة عاشتها شعوبهم وابتلى فيها مفكروهم أشد ابتلاء. وكان الحكام فى هذه الدولة قد أحاطوا أنفسهم بالقداسة، فادعوا أنهم مختارون من قبل الله، وأنهم يحكمون باسمه، ويطبقون أوامره ونواهيه ويستلهمون مقاصده، ومن ثم فليس من حق أحد أن يحد من سلطانهم ولا أن يحاسبهم ولا أن يعزلهم ولا أن يعارض أيا من قراراتهم، وإلا كان هذا افتئاتا على الله وخروجا على دينه. وينسب البعض – من باب المغالاة- إلى رأس الدولة الدينية الادعاء بأنه يظل طوال حياته على اتصال بالسماء، وأنه يبقى محروسا منها بجنود ربه، وأن السماء تواليه بالمشورة فى كل مشكلة تواجهه عظمت أو هانت، وأن طاعته فرض دينى، ومعارضوه إما كفار مأواهم جهنم أو منافقون فى الدرك الأسفل من النار.

أما الدولة المدنية فهى التى يتولى الحكم فيها أشخاص لا يدعون أنهم يحكمون باسم الله ويطبقون شريعته، بل يعلنون أنهم يحكمون باسم الشعب ويطبقون ما يسنه من قوانين، ولا يخلّدون فى الحكم، ولا يستأثرون بكل سلطات الدولة، ولا يدعون العصمة، ولا يتعالون على المساءلة، ويمكن معارضتهم كما يمكن عزلهم.

طبيعة الحكم فى دساتير الدول ذات المرجعية الإسلامية:

(7) ذهب البعض بحسن نية أو بسوئها غداة النص لأول مرة فى الدستور المصرى فى سنة 1971 على أن مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسى للتشريع إلى أن الدولة بهذا النص أصبحت أو هى فى الطريق إلى أن تصبح دولة دينية. وذلك على أساس أن استقاء القوانين من الشريعة الإسلامية سيؤدى حتما إلى هذه النتيجة. وتولى العلمانيون كِبْر هذه الحملة، وعمد غلاتهم – عن طريق الإسقاط ورغبة فى التشنيع – إلى تقديم نظام الحكم فى عهد النبى r كنموذج للدولة الدينية التى يمكن أن يؤول إليها الأمر إذا ما طبق النص الذى يجعل الشريعة الإسلامية مصدرا للتشريع.

غير أن ما أثير فى هذا الصدد كان على غير أساس، وذلك من وجهين: الأول أن النص الدستورى مقروءا مع نصوص الدستور الأخرى ينفى هذه المظنة تماما، والثانى أنه على فرض صحة ما زعمه المعارضون فإن نظام الحكم فى الإسلام – طبقا للمعايير التى وضعوها هم أنفسهم – يعتبر حكما مدنيا وليس دينيا.

الوجه الأول:

(8) أشرنا من قبل إلى أن الدستور هو الوثيقة الأم والقانون الأسمى الذى يحدد هوية الدولة وينظم الحقوق والحريات العامة، ويبين شكل الدولة ونظام الحكم فيها وسلطاتها العامة واختصاص كل منها وعلاقة كل سلطة بالأخرى. ويفصّل الدستور ذلك بدقة متناهية، ويصوغ أحكامه فى عدد كبير من المواد يبلغ على سبيل المثال فى الدستور المصرى الأخير حوالى مائتين وأربعين مادة. ويبدو من غير المنطقى أن تؤدى مادة واحدة إذا أضيفت إلى الدستور إلى جعل نظام الحكم فى الدولة دينيا، وإذا حذفت منه كان نظام الحكم مدنيا؛ وذلك لأن الأصل فى النصوص الدستورية – كما تقول المحكمة الدستورية العليا فى مصر – أن تؤخذ باعتبارها متكاملة، فلا يؤخذ أى نص منها بمعزل عن النصوص الأخرى، وأن المعانى التى تتولد عنها يتعين أن تكون مترابطة فيما بينها بما يرد عنها التناقض أو التنافر. ولهذا فإنه ينبغى لتحديد طبيعة نظام الحكم فى أى دولة ألا يقتصر الباحث على الوقوف عند مادة واحدة، بل يجب عليه قراءة هذه المادة مقرونة بالمواد الأخرى.

وإذا أخذنا الدستور المصرى كمثال، وهو يجعل مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع، وجدنا أنه ينص فى المادة الخامسة على أن السيادة للشعب وأن الشعب مصدر السلطات، وينص فى المادة السادسة على أن النظام السياسى يقوم على مبادئ الديمقراطية والشورى والمواطنة التى تسوى بين جميع المواطنين فى الحقوق والواجبات العامة، والتعددية السياسية والحزبية والتداول السلمى للسلطة، والفصل بين السلطات والتوازن بينها، وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان وحرياته. كذلك فإن الدستور يقسم سلطات الدولة إلى تشريعية وتنفيذية وقضائية، وينص على أن رئيس الجمهورية هو رئيس السلطة التنفيذية فقط، أما السلطتان الأخريان فمستقلتان عنه، ومع ذلك فثمة علاقة بينه وبين كل منهما، إلا أنها ليست علاقة تبعية. وينص الدستور على أن يتولى رئيس الجمهورية منصبه عن طريق الانتخاب ولمدة أربع سنوات، ولا يجوز إعادة انتخابه إلا لمرة واحدة (م 133). ويؤدى رئيس الجمهورية أمام مجلسى النواب والشورى قبل مباشرة مهام منصبه اليمين الدستورية (م 137). بل إن رئيس الجمهورية يمكن أن يسأل جنائيا عما يرتكبه من جرائم، وتصح محاكمته أمام القضاء، وقد ينتهى الأمر بإدانته والحكم عليه بعقوبة جنائية (م152). فهل يخطر بعد ذلك ببال عاقل أن دستورا يتضمن أحكاما على هذه الشاكلة يؤذن بتحول الدولة إلى دولة دينية لمجرد النص فى إحدى مواده على أن الشريعة الإسلامية مصدر للتشريع!

وإذا كان هذا هو الحال فى ظل الدستور المصرى فإنه لا يختلف كثيرا عنه فى ظل معظم الدساتير التى تضمنت نصوصا قريبة من النص المصرى مع تحفظ يقتضيه المقام بالنسبة لكل من الدستور الإيرانى والدستور السعودى.

الوجه الثانى:

(9) لو قال قائل إن الدول التى تنص دساتيرها على مصدرية الشريعة الإسلامية فى مجال التشريع تصنّف لهذا السبب بأنها دول “إسلامية”، فقوله حق لا مراء فيه. غير أنه لا يتأدى من ذلك بالضرورة أن توصف هذه الدول بأنها “دينية” بالمعنى المتعارف عليه فى نظم الحكم؛ ذلك أن نظام الحكم الدينى له خصائص أو معايير لا تنطبق على نظام الحكم الإسلامى. وهذه الخصائص أو المعايير – كما قدمنا – تتمثل فى الكيفية التى يتولى بها رأس الدولة مهام منصبه، وفى مصدر سلطاته ومداها، وفى مدى انفراده باتخاذ القرار ومدى خضوعه للمراقبة والمحاسبة؛ فهو يولى من قبل الله لا باختيار الشعب، ومن ثم فهو يحكم باسم الله ويطبق أحكامه ويستلهم مقاصده بحسب فهمه. ولما كان الله هو الذى ولاه، فإنه – وليس الشعب – هو مصدر سلطاته، ولأن هذه السلطات من عند الله فهى مطلقة. ولما كان اختياره من قبل الله، فإنه ينفرد باتخاذ القرارات ولا يحتاج إلى استشارة أحد، وهو لهذا السبب معصوم فلا سبيل إلى مراقبته أو محاسبته. ولا شيء من هذا كله فى نظام الحكم الإسلامى، بل هو على النقيض من ذلك تماما.

(10) على أننا مع ذلك لا نرى بدّا من الإشارة إلى أن نصوص القرآن والسنة لم تشتمل على نصوص مباشرة تبين شكل الحكم فى الدولة الإسلامية وتفصل أحكامه على نحو ما تصنع الدساتير المعاصرة. بل لقد توفى النبى r دون أن يستخلف أحدا أو يوصى بمن يخلفه فى إدارة شئون المسلمين، بل ودون أن يبين للناس كيفية اختياره وتوليته، وكادت تحدث فتنة عقب وفاته وقبل دفنه لولا أن تدارك الصحابة الأمر بحكمة وتمت مبايعة أبى بكر بالخلافة. ولم يكن إمساك القرآن والسنة عن بيان ذلك – على خطره – عن نسيان، بل كان جريا على نهج القرآن فى بيان الأحكام، وهو تفصيل ما لا يتغير وإجمال ما يتغير. ولهذا نجد القرآن يفصل أحكام الميراث بدقة فيحدد نصيب كل وارث من أصحاب الفروض من النصف إلى الثلث والثلثين والربع والسدس والثمن، ويبين بالتفصيل المحرمات من النساء ومن الطعام والشراب؛ ويحدد مرات الطلاق وأنواع العدة، وكلها أمور أهون شأنا من نظام الحكم. وإنما كان الإمساك عن تفصيل الأحكام الخاصة بنظام الحكم، لأن هذا النظام من المتغيرات، والشريعة – على خلاف الدساتير والتشريعات الوضعية بوجه عام – تتسم بالخلود والعموم؛ فهى لا ترتهن بمكان ولا بزمان ولا بأقوام دون أقوام، بل هى للناس كافة أينما كانوا وفى كل زمان. ولهذا تجنبت تفصيل أحكام الأمور التى لا تثبت أوضاعها ولا نظرة الناس إليها ولا حكمهم عليها باطراد، وهو ما يثبت أن قوانين الطبيعة وأحكام الشريعة لا تناقض بينها ولا تعارض لوحدة مصدرهما. على أن هذا لا يعنى خلو القرآن والسنة تماما من الأحكام العامة التى تصلح أساسا يبنى عليه نظام الحكم فى دولة الإسلام.

وفى ضوء هذه الأحكام العامة والتزاما بما تقرره يمكن أن تتعدد طرق الحكم ولا يكون طريق أفضل شرعا من طريق، بل يصح الانتقال من طريق إلى آخر ما دامت الأحكام العامة مرعية. ولعله لم يكن من قبيل المصادفة أن طريقة اختيار كل من الخلفاء الراشدين الأربعة لم تكن واحدة، وهو ما يؤكد صحة القاعدة.

وإذا تأملنا خصائص أو معايير ما يطلق عليه “الحكم الدينى” وعرضناها على مبادئ الشريعة الإسلامية تبين لنا أن أيا منها لا يستقيم البتة مع هذه المبادئ، لأن المبادئ الإسلامية الحاكمة فى هذا الشأن هى: أولا أن الأمة هى التى تختار الحاكم أو ولى الأمر، وثانيا أن ولى الأمر لا يستبد بإدارة شئون الدولة بل يستشير فيها، وثالثا أن ولى الأمر يخضع للمراقبة والمحاسبة، وهو ما ينفى أن يكون نظام الحكم فى الإسلام دينيا، بل هو على العكس من ذلك نظام مدنى بالمفهوم المعاصر.

 أولا: نصب رئيس الدولة باختيار الأمة:

(11) كان النبى فى مرضه الأخير يدرك دنو أجله، ولم يكن هو وحده الذى أدرك ذلك، بل أدركه أبو بكر أيضا. وقد ندّت عن النبى r فى خطبة حِجة الوداع إشارة حين قال: أيها الناس اسمعوا قولى، فإنى لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا بهذا الموقف أبدا. وبعد أن فرغ من خطبته ختمها بقوله: اللهم هل بلغت؟ فأجابه الناس جميعا: نعم، فقال: اللهم اشهد. ولما صلى الظهر والعصر تلا على الناس قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا). فلما سمع أبو بكر ذلك منه بكى، إذ أحس أنه r وقد تمت رسالته قد دنا يومه الذى يلقى فيه ربه. ولما صعد النبى المنبر لآخر مرة خطب الناس، وكان مما قال: إن عبدا من عباد الله خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله، وأدرك أبو بكر أن النبى إنما كان يعنى بهذه العبارة نفسه فبكى وأجهش. كان النبى إذن يدرك دنو أجله، ومع ذلك ترك المسلمين دون أن يبين لهم ما يصنعون من بعده وهو الذى كان يهتم بأمرهم فى كل كبيرة وصغيرة. ولا محل للظن بأن هذا كان سهوا منه ولا أن الموت بغته. بل لقد اشتد عليه المرض وكان الجيش الذى جهزه لغزو الروم بقيادة أسامة بن زيد وفيه جلة المهاجرين والأنصار – ومنهم أبو بكر وعمر- يوشك أن يتحرك من المدينة صوب الشام، ومع ذلك فلم يحمل الرسول شيىء من هذا كله على ترتيب أمور المسلمين من بعده. فما دلالة ذلك؟ دلالته – فيما نرى – أنه r كان على يقين من أن المسلمين وقد اكتملت لهم أحكام دينهم لم يعودوا بحاجة إلى من يبصرهم، وقد آل إليهم أمرهم، بالطريقة التى ينصّبون بها من يتولى شئونهم. ولو أنه فعل لكان سنة تتبع فى نصب ولى الأمر فى كل مرة، وهو ما حرص الإسلام على تجنبه وعلى أن يترك الأمر فيه لاجتهاد الأمة مستهدية فيه بالمبادئ العامة التى سُنّت لهم عملا بقوله r: تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدى أبدا، كتاب الله وسنّتى. وفهم المسلمون من ذلك أنه رد الأمر إليهم باعتباره شأنا يهم الأمة بأسرها؛ فهى التى تختار حاكمها بملء حريتها. ومن هنا كانت البيعة – كما قيل بحق – هى الترجمة الحية لإثبات حق الأمة فى نصب الحاكم، وأنها بالبيعة تخلع عليه مظاهر السلطان. فالبيعة إذن عقد بين الأمة والحاكم تعهد إليه بمقتضاه بإدارة شئونها وتلتزم بطاعته مقابل التزامه هو بأحكام الشرع ورعاية مصالحها. ولأن البيعة عهد أو عقد فإن الرضا الحر ركن فيها.

(12) أما كيف يرشح الحاكم أو يعرض اسمه على الأمة فليس له فى صدر الإسلام صورة محددة، بل لقد تعددت صوره. أما أبو بكر فقد رشحه عمربن الخطاب بعد الحوار الشهير الذى دار فى سقيفة بنى ساعدة. ثم بادر بمبايعته وتبعه معظم الحاضرين. ولما كان الغد جلس أبو بكر فى المسجد فبايعه الناس جميعا عن رضا واقتناع لا عن إكراه وإرغام. ثم كان اختيار عمر بترشيح من أبى بكر بعد أن استشار جماعة من كبار الصحابة فزكاه بعضهم وتحفظ آخرون لغلظة فيه أشفقوا منها. ولم يكن قد غاب عن أبى بكر ما حدث يوم السقيفة، وخشى أن تنشب الفتنة حين وفاته وجيوش المسلمين فى العراق والشام يجاهدون الفرس والروم، فأشرف فى مرضه الأخير من حجرة بداره على الناس بالمسجد وخاطبهم قائلا: أترضون بمن أستخلف عليكم، فإنى والله ما ألوت من جهد ولا وليت ذا قرابة، وإنى قد وليت عليكم عمر بن الخطاب، فاسمعوا وأطيعوا، فأجاب الناس: سمعنا وأطعنا، وبعد ذلك كانت البيعة. وأما تولية عثمان بن عفان فاتخذت صورة أخرى؛ ذلك أن عمر بن الخطاب بعد أن طعنه أبو لؤلؤة طعنات قاتلة وغلب على الظن أنه مائت لا محالة طلب إليه الناس أن يستخلف فتردد أول الأمر، ثم لم يلبث أن جعل الأمر شورى فى ستة من الصحابة توفى رسول الله وهو عنهم راض، وجعل الأمر بينهم، أيهم اختاروه أخذت له البيعة وصار الخليفة من بعده، وجعل ابنه عبد الله معهم يشاورونه دون أن يكون له من الأمر شيىء، بل ليكون الصلة بينهم وبينه. ولما اجتمع الستة اختلفوا ورأى عبد الرحمن بن عوف وكان واحدا منهم أن يخلع أحدهم نفسه ويوليها أفضلهم، فلما لزموا الصمت عرض هو القيام بذلك، وارتضى الآخرون ما عرضه. وبعد أن استطلع رأى كل منهم على حدة واستشار من وسعه لقاؤهم من أصحاب رسول الله فى المدينة دعا الناس فى اليوم الثالث إلى المسجد ليعلنهم بمن وقع عليه الاختيار ليكون خليفتهم. ولما اجتمع الناس وقف فيهم وأعلن اختيار عثمان بن عفان وبايعه، فقام من فى المسجد بمبايعته. وأما الخليفة الرابع على بن أبى طالب فقد اختلف فى طريقة توليته، فقيل إنه عرض نفسه على المسلمين بعد مقتل عثمان ابن عفان لكيلا يظل منصب الخلافة شاغرا فبايعه الناس، وقيل إن المسلمين ألحوا عليه فى تولى الخلافة بعد مقتل عثمان بن عفان وأخذ الأشتر بيده فبايعه وبايعه الناس.

(13) ويبين مما تقدم أن الإسلام وإن أوجب أن تكون لجماعة المسلمين دولة، وأن يكون لدولتهم رئيس، إلا أنه لم يجعل لهذه الدولة شكلا خاصا ولا اشترط فيمن يتولى رئاستها شروطا سوى الإسلام والكفاءة والقبول العام من أفراد الأمة. وقد أدرك المسلمون هذه الحقيقة عقب وفاة النبى r، وكانت القاعدة التى أجمعوا عليها هى أن يكون اختيار رئيس الدولة عن طريق البيعة باعتبارها الوسيلة التى يتحقق بها القبول العام، أى رضا الأمة. وبمجرد البيعة تنتقل إلى الرئيس السلطات اللازمة لتدبير شئون الدولة وتحقيق مصالح الأمة. وشاءت إرادة الله أن تختلف الطريقة التى جرى بها ترشيح رئيس الدولة بالنسبة للخلفاء الأربعة الأُول كيلا يظن ظانّ أن للترشيح أو للترشح فى الشرع صورة محددة أو أنه بمجرده هو الذى يجعل المرشح رئيسا للدولة. وإنما كانت البيعة تعقب الترشيح أو الترشح فى كل مرة، وكانت هى وحدها التى تضفى على المرشح صفة رئيس الدولة. وإذا كانت مبايعة كل من الخلفاء الأربعة قد جرت إما فى المسجد أو على الملأ فى مكان عام، فهذا ليس طقسا يجب اتباعه شرعا، وإنما جرت البيعة فى صدر الإسلام بالكيفية التى كانت تناسب مجتمع المسلمين حينذاك. ويمكن اليوم إجراؤها على أى نحو يلائم ظروف كل مجتمع مادام من شأنه الكشف عن الرضا العام باختيار من تعهد إليه الأمة بتولى أمورها.

وقد أطلق المسلمون على رئيس الدولة الذى خلف الرسول لأول مرة اسم الخليفة، وكانت التسمية موافقة لمقتضى الحال حينذاك. غير أنهم لقبوا بعد ذلك من جاء بعده بأمير المؤمنين. ولا حجر على المصطلح، وإن كان العمل مع ذلك جرى من بعد ولقرون طويلة على إطلاق اسم الخليفة على من كانت تؤول إليه رئاسة الدولة.

ولما كان رئيس الدولة لا يكتسب شرعيته إلا إذا تمت له البيعة، فقد حرص من جاء بعد الخلفاء الأربعة الأُول على المحافظة على هذا الشكل رغم حصول أولهم، وهو معاوية بن أبى سفيان على رئاسة الدولة بالسيف والمكيدة. وكان الخلفاء جميعا – وعلى الأخص من تلا الراشدين – أشد ما يكونون حرصا على الحصول على البيعة من وجوه الناس بأى وسيلة طوعا كانت أو كرها، وذلك إيمانا منهم بأن من لم تحصل له بيعة من جماعة المسلمين فليس بخليفة.

(14) وثمة أمر آخر طرأ على نظام الخلافة؛ فقد عهد أبو بكر لعمر من بعده بعد أن استشار جلة الصحابة ولم يخطر بباله أن يعهد لولده. وكذلك فعل عمر، وكان البعض قد طلبوا منه عقب إصابته أن يعهد إلى ابنه عبد الله فأبى متذرعا بعدم جدارته فى قول وبإشفاقه فى قول آخر من أن يسأل اثنان من آل الخطاب يوم القيامة عما فعلاه حين توليا أمور المسلمين، ورشح ستة من الصحابة ليس من بينهم ولده. وأبى على بن أبى طالب بدوره أن يعهد لابنه الحسن حين طلب المسلمون منه ذلك وهو على فراش الموت وقال لهم: لا آمركم ولا أنهاكم، أنتم أبصر. أما معاوية فقد عهد بالخلافة من بعده إلى يزيد ابنه، وحرص على أن يأخذ له البيعة فى حياته. وهذه أول مرة تجرى فيها البيعة لآخر والخليفة حى. ثم مضى الخلفاء من بعد معاوية على هذه السنة، سنة التوريث إلى أن ألغى نظام الخلافة فى القرن العشرين.

(15) على أن ما يعنينا فى هذا المقام هو التأكيد على أن رئاسة الدولة فى النظرية الإسلامية هى من المصالح العامة، أى أنها شأن من شئون الأمة؛ فهى التى تختار رئيس الدولة، ومنها يستمد كل سلطاته، فليس له فى نفسه سلطات ذاتية. وإذا كان العمل قد جرى منذ انتخاب أول خليفة حتى عزل آخر خليفة عثمانى على تجميع كل سلطات الدولة فى يد الخليفة وحده، فهذا الذى جرى ليس حكما شرعيا. ولا يعترض بأنه إجماع؛ لأن الأمر فيه أمر سياسة شرعية، ومدارها على المصلحة، مصلحة الأمة. وإذا كانت الأمة قد قدرت فى بداية الأمر وعقب وفاة الرسول أن تعهد بكل السلطات لأول خليفة استصحابا لما كان يجرى عليه الأمر فى حياة الرسول من جهة، ولأن هذا هو ما كان متبعا فى نظم الحكم المعاصرة حينذاك من جهة أخرى، فهذا فى ذاته ليس من شأنه أن يعد حكما شرعيا له طابع العموم والدوام، لاسيما أن التجربة كشفت من بعد عما ينطوى عليه هذا النظام من مفاسد وشرور، فضلا عن أن الشعوب اهتدت بعد كفاح مرير ضد طغيان حكامها إلى نظم حكم تحدّ من مساوىء الحكم المطلق وتسد خلله. وكان مما اهتدت إليه الشعوب توزيع السلطات العامة فى الدولة على أكثر من جهة تستقل كل منها عن الأخرى من ناحية وتتعاون معها وتراقبها فى حدود معينة من ناحية أخرى. ولا نرى بأسا من وجهة النظر الشرعية من الأخذ بصورة أو بأخرى من هذه النظم. ولا نظن أن فى هذا ما يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية ولا مع مقاصدها العامة. ذلك أنه مادامت الأمة هى صاحبة الشأن، ومنها يستمد ولى الأمر سلطاته، فمن حقها أن تمنحه إياها كلها أو تمنحه بعضها ثم تعهد إلى غيره بالبعض الآخر مادامت ترى أن توزيع السلطات على هذا النحو يحقق لها من الخير أكثر مما يحققه تفويض ولى الأمر فى السلطات كلها.

ومن هنا يبدو البون شاسعا بين نظام الحكم فى الدولة الإسلامية وما اصطلح على تسميته بالحكم الدينى أو بالدولة الدينية حيث يدعى الحاكم فى الأخيرة أنه مختار من قبل الله وأنه يحكم باسمه ويطبق شريعته ويستلهم مقاصده. فهذا النظام ليس له أصل فى الإسلام؛ فقد ثبت أن الحاكم فيه مولّى من قبل الأمة، وأنه إذ يطبق شرع الله فإنما يطبقه حسبما يؤدى إليه فهمه بعد اجتهاده، وهو إن أصاب فله أجران: أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، وإن أخطأ فليس له سوى أجر واحد. يؤكد هذا ما جاء فى صحيح مسلم “عن بريدة قال: كان رسول الله r إذا أمّر أميرا على جيش أو سرية أوصاه فى خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: … وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنـزلهم على حكم الله فلا تنـزلهم على حكم الله، ولكن أنـزلهم على حكمك، فإنك لا تدرى أتصيب حكم الله فيهم أم لا”. وفى هذا المعنى يقول الشاطبى فى الموافقات: نحن إنما كلفنا بما ينقدح عندنا أنه مقصود الشارع لا بما هو مقصوده فى نفس الأمر؛ فالراجحة إن ترجحت لا تقطع – أى لا تنفى – كون الجهة الأخرى هى المقصودة للشارع. ولهذا ينعى الفاقهون لحقيقة الإسلام على بعض من يدّعون الإحاطة بأحكام الشريعة والبصر بحقيقة مقاصدها أنهم يضفون قداسة الدين ومطلقيته على تصوراتهم هم عن الدين مع أنها تصورات زمانية – مكانية ونسبية وقابلة للخطأ، ثم يعتقدون أن ما توصلوا إليه هو عين الدين، وأن من يعتقد معتقدهم هو المتدين الحق، وربما رمى بعضهم مخالفيه بالكفر أو بالفسق والفجور.

(16) على أن الإنصاف يفرض علينا مع ذلك الإقرار بحقيقتين:

الأولى أن عامة من تناول مسألة الخلافة من الفقهاء يجمعون على أن الخليفة بمجرد نصبه تؤول إليه كل سلطات الأمة فى إدارة شئونها الدينية والدنيوية. وعلى سبيل المثال فقد عرّف الجوينى فى “غياث الأمم” الإمامة بأنها رياسة تامة وزعامة عامة تتعلق بالخاصة والعامة فى مهمات الدين والدنيا، متضمَّنها حفظ الحوزة ورعاية الرعية وإقامة الدعوة بالحجة والسيف، وكفّ الجنَف والحيْف، والانتصاف للمظلومين من الظالمين، واستيفاء الحقوق من الممتنعين وإيفاؤها على المستحقين. ويعرفها ابن خلدون فى مقدمته بأنها خلافة عن صاحب الشرع فى حفظ الدين وسياسة الدنيا، فصاحب الشرع متصرف فى الأمرين: أما فى الدين فبمقتضى التكاليف الشرعية التى هو مأمور بتبليغها وحمل الناس عليها، وأما سياسة الدنيا فبمقتضى رعايته لمصالحهم فى العمران البشرى. ويقول: إن الصلاة والفتيا والقضاء والجهاد والحسبة، كلها مندرجة تحت الإمامة الكبرى التى هى الخلافة، وهذه كلها متفرعة عنها وداخلة فيها لعموم نظر الخلافة وتصرفها فى سائر أحوال الملة الدينية والدنيوية وتنفيذ أحكام الشرع فيها على العموم.

وأما الحقيقة الثانية فهى أن الاستخلاف أو ولاية العهد لقى قبولا، بل وتأصيلا شرعيا من جانب كثير من الفقهاء. يقول الجوينى إن من يوليه – يعنى الخليفة – العهد بعد وفاته فهذا إمام المسلمين ووزَر الإسلام والدين وكهف العالمين. ويضيف أن أصل تولية العهد ثابت قطعا مستنِد إلى إجماع حمَلة الشريعة، فإن أبا بكر لما عهد إلى عمر بن الخطاب وولاه الإمامة بعده لم يبد أحد من صحب رسول الله r نكيرا، ثم اعتقد كافة علماء الدين تولية العهد مسلكا فى إثبات الإمامة فى حق المعهود إليه المولَّى، ولم ينف أحد أصلها أصلا. ويقول ابن خلدون عن الخليفة إنه ينظر فى مصالح الأمة لدينهم ودنياهم، فهو وليهم الأمين، ينظر ذلك لهم فى حياته، ويتبع ذلك أن ينظر لهم بعد مماته، ويقيم لهم من يتولى أمرهم كما كان هو يتولاها، ويثقون بنظره لهم فى ذلك كما وثقوا به فيما قبل. ثم يؤصل ذلك بأن ولاية العهد عرفت من الشرع بإجماع الأمة على جوازه وانعقاده. ويستشهد بعهد أبى بكر لعمر، وكذلك بعهد عمر فى الشورى إلى الستة بقية العشرة (المبشرين بالجنة) وجعل لهم أن يختاروا للمسلمين، ففوض بعضهم إلى بعض حتى أفضى ذلك إلى عبد الرحمن بن عوف، فاجتهد وناظر المسلمين فوجدهم متفقين على عثمان وعلى علىّ فآثر عثمان بالبيعة. ويضيف أن الملأ من الصحابة كانوا حاضرين للأولى والثانية ولم ينكره أحد منهم، فدل ذلك على أنهم متفقون على صحة هذا العهد، عارفون بمشروعيته، والإجماع حجة كما عرف. بل إن ابن خلدون يبرر ما آل إليه أمر ولاية العهد إلى الأبناء من بعد، فيقول: ولايتهم الإمام فى هذا الأمر وإن عهد إلى أبيه أو ابنه، لأنه مأمون على النظر لهم فى حياته، فأولى ألا يحتمل فيها تبعة بعد مماته، خلافا لمن قال باتهامه فى الولد والوالد، أو لمن خصص التهمة بالولد دون الوالد، فإنه – أى الإمام – بعيد عن الظنَّة فى ذلك كله، لاسيما إذا كانت هناك داعية تدعو إليه من إيثار مصلحة أو توقع مفسدة، فتنتفى الظنة فى ذلك رأسا، كما وقع فى عهد معاوية لابنه يزيد.

(17) وقد أشرنا من قبل إلى ضرورة تحاشى الاستدلال على الأحكام الشرعية – فى نظام الحكم بالذات – بالسوابق التاريخية، ونضيف هنا أنه لا ينبغى الاستدلال على هذه الأحكام بالاجتهادات الفقهية أيضا. وكان يمكننا التجاوز عما ورد فى مؤلفات الفقهاء عن السلطات المطلقة للخليفة بما فيها عهده إلى من يخلفه بعد مماته، على أساس أن ما ذكروه كان تسجيلا لواقع، غير أن الملاحظ أنهم لم يكتفوا بذلك، بل عمدوا إلى تبريره وتأصيله واعتباره حكما شرعيا عزوه إلى الإسلام، وهنا مكمن الخطر؛ لأنهم خلطوا بذلك بين الفقه والشريعة، بل بين ما هو سياسة شرعية اقتضتها اعتبارات الزمان والمكان وظروف الحال المتغيرة، وبين ما هو حكم شرعى عام يتسم بالثبات والدوام. وقد استدلوا على صحة ما ذهبوا إليه بصنيع أبى بكر وعمر، وما كل خليفة كأبى بكر وعمر، ولا كان المجتمع الإسلامى فيما تلا عصر الرسول والخلفاء الراشدين فى العراق وفارس والشام ومصر وما لحق بها نتيجة للفتوحات التى اتسعت بها رقعة الدولة الإسلامية حتى بلغت الهند شرقا والأندلس غربا وضمت شعوبا مختلفة الأعراق والحضارات والعادات والنظم واللغات – ما كان هذا المجتمع كمجتمع المدينة المتجانس ذى الكثافة السكانية المحدودة والعرق الواحد والثقافة الواحدة والعهد القريب ممن تلقى الوحى عن ربه وخالط الناس بشخصه وربّاهم فى مدرسته. وإلا فلماذا حقق نظام الحكم فى العقود الأولى نتائج طيبة، بل مبهرة، ولم يواصل تحقيق تلك النتائج فيما تلا ذلك من عصور؟

إن نظم الحكم على الصعيد الإنسانى – بوصفها نظما سياسية – لا تتسم بالثبات والاطراد، بل تختلف أشكالها باختلاف المجتمعات والأزمان؛ فما يصلح منها لمجتمع قد لا يصلح لغيره، وما يصلح لمجتمع فى عصر قد لا يصلح بالضرورة لنفس المجتمع فى عصر غيره. والإصرار على غير ذلك جهد ضائع، بل هو حرث فى البحر، لأنه ليس فى وسع أحد أن يعاند سنن الحياة ولا أن يقف عجلة الزمن. وهذا ما لاحظه محمد حسين هيكل فى مؤلفه عن الصديق أبى بكر حيث يقول: إن المسلمين الأولين تصوروا الخلافة بغير ما تصورها خلفهم من بعد منذ الدولة الأموية، وأنهم كانوا أدنى فى تصورها إلى معانى الحياة العربية البحتة القريبة منهم والتى كانت معروفة فى أنحاء شبه الجزيرة قبل مبعث النبى r، فلما اتسعت رقعة الفتح الإسلامى واختلط العرب بغيرهم من أهل الأمم التى فتحوها تغير تصور المسلمين لفكرة الخلافة تبعا لهذا الاختلاط ولهذه السعة فى المملكة الإسلامية، حتى لم يكن ثمة وجه للشبه بين العهد العباسى فى أوج مجده وعهد الخليفة الأول أبى بكر ولا بينه وبين عهود عمر وعثمان وعلىّ.

على أن ما أصاب الخلافة كنظام حكم نتيجة الجمود من وهن وخلل لا ينفى حقيقة لا سبيل إلى إنكارها، وهى أنها نظام قام على أساس مبدأ جوهرى، هو اختيار الأمة الذى كان يتمثل فى البيعة. وعلى الرغم من أن الخلافة تحولت بعد معاوية إلى ملك وراثى فقد ظل طقس البيعة بوصفه سندا لشرعية الخليفة قائما لا يجرؤ أحد على التخلى عنه حتى ولو اقتضى الأمر انتزاع البيعة كرها. وهذا فى حد ذاته فارق جوهرى بين نظام حكم يستمد مصدره من إرادة الشعب ونظام حكم دينى يستمد مصدره من قوة غيبية؛ ذلك أن النظام الأول إذا اعتراه خلل أمكن للشعب تقويمه، بخلاف الثانى. وقد ترتب على ذلك أن نظام الحكم الإسلامى على ما شابه من عوار أنتج حضارة زاهرة، أما ما اصطلح على تسميته بالحكم الدينى فكان عصره عصر ظلام وتخلف.

ثانيا: مبدأ الشورى:

(18) لا ينتهى دور الأمة باختيار الخليفة أو رأس الدولة وتفويضه فى إدارة شئونها ومباشرة كل ما تقتضيه هذه الإدارة من سلطات، بل إن البيعة بوصفها عقدا تفرض على طرفيها التزامات متبادلة؛ فهى إذ تفرض على الأمة واجب السمع والطاعة للخليفة فيما يأمر به أو ينهى عنه، فإنها تفرض عليه فى مقابل ذلك واجبين: أحدهما أن يلتزم فى أوامره ونواهيه بأحكام الشريعة، وإلا فلا سمع له ولا طاعة، والثانى ألا يستبد بالأمر كله من دونهم، بل يرجع إليهم ليستشيرهم فى كل ما يطرأ من الأمور العامة التى تمس مصالحهم الأساسية.

والشورى من المبادئ العامة فى الإسلام؛ فقد ثبتت بالقرآن والسنة والإجماع: قال تعالى مخاطبا نبيه الكريم: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ) (آل عمران الآية 159). وقال تعالى فى وصف المؤمنين: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (الشورى الآية 38).

أما السنة فقد روى عن أبى هريرة أنه قال: ما رأيت أحدا أكثر مشورة لأصحابه من النبى r. وقد ثبت أنه استشار الصحابة وأخذ بمشورة بعضهم فى عديد من الأمور، منها اختيار ميدان معركة بدر ومعاملة أسارى هذه المعركة، والخروج من المدينة بدلا من التحصن فيها لملاقاة قريش فى موقعة أحد.

واستشار الخلفاء من بعده بدورهم. وتجلى ذلك عقب وفاة النبى r حيث دار الحوار فى سقيفة بنى ساعدة بين المهاجرين والأنصار حول من يخلف الرسول فى قيادة الأمة، وانتهى الأمر كما نعلم باختيار أبى بكر ليكون الخليفة الأول. وكان أول ما فعله أبو بكر أن أنفذ بعث أسامة على رأس الجيش الذى كان الرسول قد جهزه قبل وفاته، وكان عمر من جنده، وسأل أبو بكر زيدا حين ودعه: إن رأيت أن تعيننى بعمر فافعل، يقصد أن يكون بجواره ليستشيره فيما يعرض له من بعض أمره فى هذا الظرف الدقيق. وكان عمر نعم المستشار والمشير. واستشار أبو بكر كبار الصحابة فى قتال مانعى الزكاة والمرتدين وفى جمع القرآن وفى فتح العراق ثم الشام، وظل على هذا النهج حتى آخر عهده حيث ختمه باستشارة الصحابة فى أن يستخلف عليهم عمر. ولم يكن حرص عمر على استشارة الصحابة دون حرص أبى بكر، بل لقد حمله هذا الحرص على منع الصحابة من الخروج من المدينة ليكونوا إلى جواره يسألهم الرأى كلما حزبه أمر. وقد توسع عمر فى طلب الشورى إلى حد أنه كان يلجأ فى بعض الأحيان إلى دعوة الناس إلى مسجد المدينة أو يدعوهم إلى صلاة جامعة ثم يعرض عليهم ما يريد أن يستشيرهم فيه. بل إنه كان إذا أعياه الرأى المعضل – كما يرى يوسف ابن الماجشون – يدعو الأحداث ليستشيرهم لحدة عقولهم. وكان عمر يأمر ولاته وأمراء جنده بطلب المشورة فى كل ما يمس مصالح الأمة. من ذلك قوله لأبى عبيد يوم بعثه إلى العراق: “اسمع من أصحاب رسول الله وأشركهم فى الأمر، ولا تجتهد مسرعا فإنها الحرب لا يصلحها إلا الرجل المكيث الذى يعرف الفرصة”. والحالات التى لجأ فيها عمر بن الخطاب إلى استشارة من حوله لا تحصى كثرة، ويكفى أن نشير إلى نماذج قليلة منها؛ فقد خرج عمر من المدينة يريد الشام فلقيه أمراء جنده قبل أن يبلغها وذكروا له أن فتك الطاعون بالناس هناك شديد فجمع الناس واستشارهم: أيتابع السير إلى الشام مع الوباء أم يعود إلى المدينة، فأشار قوم بالمسير وأشار آخرون بالرجوع، ومال عمر إلى رأى الأخيرين فرجع، ثم علم من عبد الرحمن بن عوف بعد ذلك أن فى الموضوع حديثا عن الرسول يوافق ما اختاره عمر. كذلك فإنه لما فتح المسلمون أرض السواد بالعراق ثم الشام أرادوا أن يقسموا الغنائم وفقا لما جاء فى سورة الأنفال بحيث يكون الخمس لبيت المال وما تبقى يقسم بين سائر الجند الذين اشتركوا فى القتال، وخالفهم عمر فى ذلك ورأى أن تقسم الغنائم من الكُراع والمال على هذا النحو، أما الأرض فتترك فى يد أهلها على أن يفرض الخراج عليها والجزية عليهم ويكون هذا فيئا للمسلمين: المقاتلة والذرية ولمن يأتى بعدهم، ولما أصر الجند على رأيهم استشار عمر الصحابة فاختلفوا، لكن أغلبهم أقره على رأيه فأنفذه.

على أن الإجماع على كون الشورى من المبادئ الأساسية التى يقوم عليها نظام الحكم فى الإسلام، لم يحل دون الاختلاف فى الشورى من ثلاثة وجوه: فى المسائل التى تجرى المشورة فيها، وفى مدى التزام ولى الأمر بطلب المشورة، وفى مدى التزامه بما تخلص إليه المشورة.

(1) موضوع الشورى:

اختلف الفقهاء فى تحديد المسائل التى يرجع فيها ولى الأمر إلى الأمة ليطلب منها الرأى فيها: هل يقتصر ذلك على أمور بعينها أو يتسع المجال للأمور جميعها. ويرجع الخلاف إلى خلو النصوص التى تحدثت عن الشورى من تحديد محلها، إذ أشارت إليه كل من آيتى آل عمران والشورى بلفظ “الأمر” دون أن تبين طبيعته أو نوعه. والفقهاء فى تحديد محل الشورى بين مضيق وموسع. فقد قصرها فريق على الأمور التى تتعلق بالحرب. ولعل ما دعاهم إلى ذلك ما لاحظوه من أن الأمور التى استشار فيها الرسول أو التى وجهت إليه المشورة فيها كانت تتصل بحالة الحرب. ويرى هذا الفريق أن الموضوعات الأخرى، سواء كانت ذات طبيعة اقتصادية أو اجتماعية أو إدارية أو تتعلق بالموارد الطبيعية وردت بشأنها أحكام شرعية لا حاجة معها إلى أن يلجأ ولى الأمر فيها إلى طلب المشورة. ويستشهدون على ذلك بأن الرسول r لم يستشر المسلمين فى صلح الحديبية، بل خالفهم.

ويرى فريق آخر أن الشورى تجرى فى كل أمر لم ينـزل فيه وحى، لأن الأحكام الشرعية تخرج عن مجال النظر العقلى. ويؤيدون هذا بما روى عن على بن أبى طالب أنه قال: قلت يا رسول الله، الأمر ينـزل بنا بعدك لم ينـزل فيه قرآن ولم يسمع منك فيه بشيء، قال: اجمعوا له العابد من أمتى واجعلوه بينكم شورى ولا تقضوا برأى واحد. وعلى ذلك فكل ما يمس مصالح المسلمين مما لم يرد فيه نص هو محل للشورى، لأن الشورى اجتهاد ولا اجتهاد فيما فيه نص.

ويذهب رأى ثالث إلى الإطلاق، ويرى أن مجال الشورى يتسع لكل الأمور، سواء كانت أحكاما شرعية أو لم تكن. ويستدل على ذلك بعموم لفظ “الأمر” الوارد فى سورتى آل عمران والشورى، كما يستدل عليه أيضا بعمل الرسول والخلفاء من بعده؛ فقد استشاروا فى كل الأمور بغير تخصيص.

والذى نراه أن الشورى بنت الحاجة؛ فكل أمر أشكل على من عرض له فلم يهتد إلى وجه الرأى فيه فهو محل للشورى، ومثله كل أمر اختلفت وجوه الرأى فيه، لا فرق فى ذلك بين أن يكون الأمر حكما شرعيا أو غيره. ولهذا فإن الحاجة إلى الشورى تعنّ فى كل أمور الحياة العامة والخاصة، سياسية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية أو شرعية، وسواء كانت الأخيرة قد ورد فيها نص أو لم يكن. والغرض من الشورى تحدده طبيعة المشكلة؛ فهل المطلوب فيها الاهتداء إلى رأى مبتكر، أو اختيار أحد الآراء أو البدائل المطروحة؟ ولهذا فالأحكام الشرعية نفسها لا ينبغى استبعادها بادى الرأى من أن تكون محلا للشورى ولو كانت أحكاما نصية ما دامت وجهات النظر قد اختلفت فى تأويلها أو فى تنـزيلها على الواقع. ولنا فى اختلاف الصحابة فى أرض السواد بالعراق ثم بالشام خير دليل.

(2) مدى التزام ولى الأمر بطلب المشورة:

(19) تدور الشورى من حيث مدى التزام ولى الأمر بطلبها – وكذلك بالاستماع إليها إذا بدىء بها – بين الوجوب والندب. فذهب قوم إلى أن طلبها مندوب لا واجب. وعللوا ذلك بأن النبى r أُمر بأن يشاور أصحابه تطييبا لنفوسهم ورفعا لأقدارهم. وقال بعضهم إن الله تعالى ما أمر نبيه بمشاورتهم لحاجة منه إلى رأيهم، فقد أغناه عن ذلك بوحيه، وإنما أراد أن يعلمهم ما فى المشاورة من الفضل لتقتدى به أمته من بعده.

وذهب آخرون – وأغلبهم من المحدثين – إلى وجوب الشورى على ولىّ الأمر. نقل القرطبى عن ابن عطية قوله إن الشورى من قواعد الشرع وعزائم الأحكام، وأن من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، وأضاف: وهذا ما لا خلاف فيه. ويقول الشيخ محمود شلتوت فى مؤلفه “الإسلام عقيدة وشريعة” إن الشورى أصل فى إدارة الشئون الجماعية، وأن تحرى الحق أو الموافقة فى المصلحة من أهم الواجبات على صاحب الشرع. ويقول سيد قطب فى ظلال القرآن شرحا لآية آل عمران إن الإسلام بهذا النص الجازم يقرر مبدأ الشورى فى نظام الحكم حتى ومحمد هو الذى يتولاه، وهو نص قاطع لا يدع للأمة شكا فى أن الشورى مبدأ أساسى لا يقوم نظام الإسلام على سواه.

والراجح لدينا أن الأمر الوارد فى قوله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ) هو للوجوب لا للندب؛ فأهل الأصول على أن صيغة الأمر إذا خلت من قرينة فإنها تدل على الوجوب، والوجوب آكد بطبيعة الحال إن كان ثم قرينة تدل عليه، وهذا هو الشأن فيما نحن بصدده. والقرينة هنا تتمثل فى سبب أو فى مناسبة نـزول الآية؛ فقد نـزلت هى وآيات عديدة أخرى تقدمتها وتلتها عقب معركة أحد، وهى معركة حافلة بالعظات والعبر. فقد بلغ النبى أن قريشا وقد نالها من الحزن والهوان يوم بدر ما نالها قد أعدت لقتاله جيشا كبيرا لتسترد به كرامتها بين العرب وتثأر لقتلاها، وأنبأته عيونه أن هذا الجيش أضحى على مشارف المدينة، فدعا أهلها ليتشاور معهم فى الأمر: هل يخرجون للقائهم أو يبقون فى المدينة. وكان رأيه r أن يبقوا فيها حتى إذا اقتحمتها قريش عليهم كانوا أقدر على مدافعتهم والتغلب عليهم، وأقره على ذلك كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار. غير أن فريقا آخر ملأت الحمية والإيمان بنصر الله قلوبهم أنفوا من البقاء فى المدينة وفضلوا الخروج لملاقاة قريش، وكانوا هم الأكثر عددا، فلم ير النبى مخالفتهم، بل نـزل على رأيهم وخرج على رأس الجيش لقتال المشركين عند جبل أحد. ورتب النبى جيشه فجعل على شِعب فى الجبل رماة أمرهم أن يحموا ظهور المسلمين وأن يرموا خيل المشركين بالنبل حتى لا يتقدموا نحوهم، وحذرهم من أن يبرحوا أماكنهم فى أى حال حتى ولو رأوا العدو ينهزم أمام أعينهم. ولما بدأ القتال أبلى المسلمون بلاء حسنا فلم تلبث قريش أن انهزمت، وعندئذ ترك الرماة مواقعهم وضعفوا أمام إغراء الغنيمة فنـزلوا ليحصلوا على نصيبهم من الأسلاب، وانتهز خالد بن الوليد الفرصة، وكان على رأس فرسان مكة، فبادر إلى مكان الرماة فاحتله وفاجأ المسلمين من خلفهم فاضطرب جمعهم وعادت قريش لتعمل فيهم سيوفها، فلاذ معظمهم بالفرار لا يلوون على أحد والرسول يدعوهم فى أخراهم، ولم يبق معه إلا نفر قليل قاتلوا عنه ومعه، وأثخن النبى r بالجراح فى هذه المعركة، وقتل من المسلمين فيها سبعون منهم حمزة عم النبى، ومثل المشركون بقتلى المسلمين تمثيلا شنيعا. وسعدت قريش بنصرها والثأر لقتلاها، وصاح أبو سفيان فى نشوة وشماتة: يوم بيوم بدر. وعاد النبى إلى المدينة والمسلمون معه يعتصر الحزن قلوبهم على نصر كان بين أيديهم فأضاعوه، وعلى أحبة لهم فقدوهم بسبب مخالفة بعضهم أمر الرسول.

فى هذا الجو المشحون بالمرارة والجياش بالمشاعر المتضاربة نـزلت الآيات من سورة آل عمران، ومنها قوله تعالى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ). نعم كان كثير من المسلمين يومئذ فى حاجة إلى عفوه r وإلى استغفاره لهم، لأنهم أخطأوا إذ خالفوا عن رأيه، لكن الذى يستوقف النظر قوله تعالى له: وشاورهم فى الأمر؛ بعد الذى كان!. ولعل المقام هنا كان يناسبه أمر آخر؛ فقد شاور النبى المسلمين فى الخروج أو البقاء، وكان له رأى لكن الكثرة رأت خلافه فنـزل على رأيهم، وبان من بعد أن رأيه كان هو الصواب، وكان ثمن المشاورة فادحا. ولو أنه لم يستشرهم، بل أمضى ما كان قد رأى لما حل به وبهم ما أصابهم، فكيف يأمره ربه مع ذلك وفى هذه اللحظة بالذات أن يشاورهم! وهنا نصل إلى بيت القصيد.

وهذا ما فطن إليه بحق صاحب الظلال حيث يقول: كان من حق القيادة النبوية أن تنبذ مبدأ الشورى كله بعد المعركة أمام النتائج المريرة التى انتهت إليها، ولكن الإسلام كان ينشىء أمة ويربيها، وكان الله يعلم أن خير وسيلة لتربية الأمم أن تربى بالشورى وتدرب على حمل التبعة وأن تخطىء مهما يكن الخطأ جسيما وذا نتائج مريرة لتعرف كيف تصحح خطأها وكيف تحمل تبعات رأيها وتصرفها؛ فهى لا تتعلم الصواب إلا إذا زاولت الخطأ، والخسائر لا تهم إذا كانت الحصيلة هى إنشاء الأمة المدربة المقدرة للتبعة. ويقول: لو كان وجود القيادة الراشدة يغنى عن الشورى ويمنع تدريب الأمة عليها تدريبا عمليا واقعيا فى أخطر الشئون – كمعركة أحد التى كانت كفيلة بأن تقرر مصير الأمة المسلمة نهائيا – لكان وجود النبى ومعه الوحى كافيا لحرمان الجماعة المسلمة يومها من حق الشورى، لكن وجوده ومعه الوحى الإلهى ووقوع تلك الأحداث لم يلغ هذا الحق، لأن الله يعلم أن لابد من مزاولته فى أخطر الشئون ومهما تكن النتائج ومهما تكن الأخطار المحيطة.

وهذا النظر فى غاية السداد؛ فالشورى هى أقصى ما يسع ولى الأمر حين يعرض له أمر فيسعى من خلالها إلى التماس الرأى الصواب. ومع ذلك فليس من المحتم أن يكون ما تسفر عنه المشورة دائما هو الرأى الصواب، لكن المحقق مع ذلك أنها السبيل الذى يغلب معه الظن بإدراك الصواب. وليس معنى أن تفضى المشورة أحيانا إلى نتائج سيئة أن يكون هذا مبررا لكفران الجماعة بها واطراحها جانبا، لأن البديل عندئذ هو تمكين ولى الأمر من أن يستبد بالأمر كله وأن يقول للأمة مقالة فرعون لقومه: ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد. وعلى أى حال فإن مظنة إصابة الصواب فى الشورى هى على التحقيق أكبر من مظنتها عند الانفراد بالرأى، لأن الله أعدل من أن يخص واحدا من خلقه بالقدرة على الإحاطة الكاملة بجوانب كل أمر، والقدرة على الاهتداء فيه إلى أصوب رأى وأفضل حل، وإنما اقتضى عدله أن يوزع هذه النعمة بنسب متفاوتة على خلقه، ومن هنا صدق من قال: من شاور الرجال شاركها فى عقولها، وصح قول الشاعر: رأى الجماعة لا تشقى البلاد به رغم الخلاف ورأى الفرد يشقيها. وقد مدح الله جماعة المؤمنين فى سورة الشورى – وهى من السور المكية – فقال تعالى فى وصفهم: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ). وعلى الرغم مما أفضت إليه الشورى عمليا من نتيجة سلبية فى موقعة أحد، فقد صرف الله نبيه عن مجرد التفكير فى مراجعة موقفه منها وإمكان عدوله فى المستقبل عنها، فعلمه كيف يتعامل حتى مع الجماعة التى سبق أن استشارها فكان لها رأي يخالف رأيه: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ). وإذا كان الأمر بالشورى واجبا فى حق الرسول، فهو أوجب فى حق من يتولى بعده شيئا من أمور الأمة.

على أننا نرى مع ذلك أن البحث فى الشورى لا يتعلق اليوم بمدى وجوبها بقدر ما يتعلق بتحديد موضوعاتها ومن يلزم الرجوع إليهم فيها. ولا نجد فى الشريعة الإسلامية أحكاما تعالج هذه الأمور بالتفصيل. ولم يكن هذا قصورا منها، بل كان اتباعا لمنهجها فى بيان الأحكام كما أشرنا من قبل، وهو إجمال ما يتغير وتفصيل ما لا يتغير. ولما كانت المبادئ بطبيعتها ثابتة لا تقبل التغيير، وكانت الشورى واحدا منها، فقد أقرتها الشريعة إجمالا وتركت لكل جماعة أن تحدد فى ظروف زمانها ومكانها ما تجب فيه الشورى ومن يرجع إليهم فيها، وأن تختار كذلك شكلها ووسائل تحقيقها، وأن تغير فى كل ذلك وتبدل فى ضوء ما تسفر عنه الممارسة وما تراه أكثر ملاءمة على ألا يؤدى ذلك إلى الإخلال بالمبدأ ذاته.

مدى التزام ولى الأمر بما تخلص إليه الشورى:

(20) الشورى فى اللغة من المشاورة، وهى طلب الرأى من الغير فى أمر من الأمور. وليس فى اللفظ ما يلزم طالب الرأى بطلبه من غيره، ولا بالعمل به إذا أبدى له. أما الشورى اصطلاحا، أى باعتبارها مبدأ عاما جعله الإسلام من أسس الحكم فقد رأينا أنه يوجب على ولىّ الأمر طلبه فى الأمور التى تتعلق بها مصالح الأمة. أما مدى التزامه بالعمل بما انتهت إليه الشورى ففيه الخلاف؛ ففريق يرى وجوب التزامه وفريق يراه فى حل من هذا الالتزام. ولدينا أن كلا الرأيين فيه إطلاق يعيبه، لأن الحال معتبرة.

ونود فى البداية التذكير بأن الأمة هى صاحبة السلطة فى إدارة شئونها، وأنه ليس فى الإسلام ما يوجب شرعا أن تؤول كل سلطات الأمة إلى من يتولى رئاسة الدولة. وإذا كان العمل قد جرى على غير ذلك فى صدر الإسلام بالنسبة للخلفاء الراشدين ومن تولى بعدهم من خلفاء بنى أمية والعباسيين، فإن السوابق التاريخية ليست بالضرورة أحكاما شرعية، لاسيما ما تعلق منها بالأمور السياسية، أى بإدارة شئون الدولة، لأن المدار فى هذه الأمور على مصلحة الأمة. ولهذا فليس مما يتعارض مع الشرع أن تعهد الأمة بجانب من سلطاتها إلى رئيس الدولة، وبجانب آخر إلى جهة أو إلى أكثر من جهة أخرى. وما تصدره هذه الجهة أو تلك من قرارات فى حدود اختصاصها يلزم رئيس الدولة، لا باعتبارها شورى ملزمة، بل باعتبارها قرارات ملزمة بذاتها، شأنها فى ذلك شأن القرارات التى يصدرها هو فى حدود اختصاصه؛ فهى تلزم هذه الجهات بدورها.

ونشير فى هذا المقام إلى واقعة لا تخلو من دلالة؛ فعندما اختلف المهاجرون والأنصار فى سقيفة بنى ساعدة على من يخلف الرسول عليه السلام عقب موته، وبسط كل فريق حجته وتأزم الموقف، عرض الأنصار أن يكون من المهاجرين أمير ومنهم أمير. وقد رفض المهاجرون هذا العرض، غير أن رفضهم لا ينفى أن تكون الفكرة ماثلة فى ذهن البعض. ولم يكن وجه اعتراض المهاجرين عليها أنها تنافى الشرع، لأنهم لم يصرحوا بذلك. لكنهم خشوا أن يكون هذا مدخلا للفتنة وبابا للفرقة، وعلى الأخص فى تلك اللحظة الحرجة، فضلا عن أن رئاسة على هذا النحو لم تكن مألوفة لدى العرب ولا معروفة فى الممالك المجاورة. غير أن توزيع سلطات الدولة لم يعد اليوم بدعا، بل أصبح هو القاعدة بعد أن هذبت الفكرة وجرى ضبطها وإحاطتها بالضمانات الكفيلة بنجاحها.

وقد تجعل الأمة بعض السلطات شركة بين رئيس الدولة وبعض الجهات العامة الأخرى، بحيث يكون لكل منهما نصيب معين فيها. والغالب أن يكون هذا فى الأمور الخطيرة التى تتعلق بمصالح الدولة العليا. وعلى سبيل المثال فإن الدستور المصرى يحظر على رئيس الجمهورية أن يعلن الحرب أو يرسل القوات المسلحة إلى خارج الدولة إلا بعد أخذ رأى مجلس الدفاع الوطنى وموافقة مجلس النواب بأغلبية عدد الأعضاء. وتنص عامة الدساتير على تخويل رئيس الدولة سلطة إبرام المعاهدات والاتفاقيات الدولية، لكنها لا تكون نافذة إلا بعد موافقة السلطة التشريعية عليها، وكذلك الشأن بالنسبة للقوانين التى تدخل فى اختصاص هذه السلطة، فهى تقرها لكنها لا تصبح نافذة إلا إذا أصدرها رئيس الدولة. وليس فى هذا كله ما يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية أو مع مبادئها العامة.

وفيما عدا ذلك يجوز لرئيس الدولة المسلمة أن يلجأ إلى من يأنس فيه الكفاية فى مجال معين من مجالات المعرفة، فردا كان أو هيئة، لأخذ رأيه فى بعض الأمور التى تدخل فى مجال تخصصه. وله كذلك أن يتخذ لنفسه مستشارا أو هيئة مستشارين يعهد إليهم بدراسة ما يرى بحثه من أمور وإبداء الرأى فيها. غير أن هؤلاء جميعا يظل رأيهم مجرد رأى استشارى يجوز لرئيس الدولة أن ياخذ به إن لقى قبولا منه أو يطرحه إن قدر المصلحة فى اطراحه.

ثالثا: خضوع رئيس الدولة للمراقبة والمحاسبة:

(21) أبرز ما يميز نظام الحكم فى الإسلام أن الحاكم أو ولى الأمر فيه يتولى رئاسة الدولة باختيار الأمة. وهذا فارق جوهرى بين هذا النظام ونظام الحكم الدينى بمعناه المتعارف عليه، حيث يتم اختيار رئيس الدولة فيه عن طريق السماء، أى عن طريق قوة غيبية. ومن هذا الوجه تتفرع بقية الفروق، وعلى رأسها العصمة أو القداسة؛ فرأس الدولة فى الحكم الدينى يستمد عصمته وقداسته وكذلك سلطته المطلقة من المصدر الذى اختاره. ولهذا السبب تجب طاعته طاعة عمياء، وتمتنع مناقشته فيما يصدره من أوامر ونواه، ويمتنع من باب أولى معارضته، ولا يخطر ببال أحد من الرعية مجرد التفكير فى عزله. أما الحكم الإسلامى فلأن الأمة فيه هى التى تختار رأس الدولة، فإنه يستمد صفته وسلطاته منها، لأنه يعمل لها. ولأن العقد الذى اختير على أساسه – وهو البيعة – حدد التزام الأمة قبله بالطاعة وألزمه فى المقابل بتطبيق أحكام الشريعة، فمن حق الأمة أن تراقبه وأن تناقشه وأن تعارضه إذا أخل بالتزامه، بل ومن حقها إذا اقتضى الأمر أن تعزله.

هذا هو جوهر نظام الحكم فى الإسلام بغض النظر عن واقع التطبيق فيما تلا عصر الخلفاء الراشدين. وليس من الإنصاف فى شيىء أن نحكم على النظرية بالخطأ إذا كان من قام بتطبيقها لم يلتزم أسسها التى قامت عليها بل خالفها. وإنما يحكم عليها بذلك إذا هى طُبقت على أصولها ثم أخفقت مع ذلك فى تحقيق هدفها. ولو جاز الحكم بالسلب على نظام الحكم الإسلامى استنادا إلى ما شاب نظام الخلافة فى كثير من الأحيان من عوار وفساد لجاز الحكم بمثل ذلك على الديمقراطية استنادا إلى ما أدت إليه عند التطبيق من ظهور صور من الديكتاتورية كالنازية فى ألمانيا والفاشية فى إيطاليا ونظم استبدادية فى دول أخرى. من أجل هذا كنا حريصين على التنبيه إلى وجوب الحذر من تقييم نظام الحكم الإسلامى استنادا إلى السوابق التاريخية مجتزأة فى عصور معينة. ولهذا فسوف يكون عمدتنا فى الحكم على هذا النظام هو الفترة التى طبق فيها وفقا لأصوله والتزاما بمبادئه.

ويمكننا القول باطمئنان كامل إنه حتى فى الفترة التى رأس الرسول فيها الدولة لم يثبت أنه ادعى لنفسه قداسة أو عصمة فيما تجاوز الأمور التى كان يتنـزل عليه الوحى فيها. وإن الواقعة التى قال فيها لأهل المدينة – وهى الخاصة بتأبير النخل – أنتم أعلم بأمور دنياكم لهى خير شاهد على صحة هذا النظر. ولقد عارضه بعض الصحابة فى صلح الحديبية لقبوله شروطا رأوا أنها مجحفة، ولم يمنعهم من التشبث برأيهم إلا قوله لهم إنه مأمور من ربه وإنه لن يضيعه. ومع ذلك فقد تثاقلوا فى نحر الهدْى لولا أن رأوه r ينحر رغم تثاقلهم فتابعوه. والثابت على أى حال أنه r لم يكن يضيق بمن يجادله أو حتى يخالفه فيما يصدر عنه من أقوال أو أفعال تتعلق بالشئون العامة. روى أبو سعيد الخدرى أن على بن أبى طالب بعث إلى رسول الله بمال فقسمه بين أربعة نفر، فقال رجل من الصحابة: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء، فبلغ ذلك النبى فقال: ألا تأمنونى وأنا أمين من فى السماء، يأتينى خبر السماء صباحا ومساء!، فقام رجل فقال: يا رسول الله، اتق الله! فقال له: ويلك! أو لست أحق أهل الأرض أن يتقى الله؟ ثم ولّى الرجل، فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟ فقال له: لا، لعله أن يكون يصلى، فقال خالد: وكم من مصلّ يقول بلسانه ما ليس فى قلبه، فقال له: إنى لم أومر أن أنقب قلوب الناس ولا أشق بطونهم. وروى ابن هشام واقعة شبيهة بهذه الواقعة، فذكر أن رجلا من بنى تميم وقف على رسول الله وهو يعطى الناس، فقال: يا محمد قد رأيتُ ما صنعتَ فى هذا اليوم، فقال له رسول الله: أجل، فكيف رأيت؟ قال: لم أرك تعدل، فغضب النبى r، وقال: ويحك! إذا لم يكن العدل عندى فعند من يكون؟ فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، ألا اقتله؟ فنهاه. ويروى كذلك أن أعرابيا جاءه يطلب منه شيئا فأعطاه، ثم قال: أحسنت إليك يا أعرابى؟ قال: لا، ولا أجملت! فغضب المسلمون وقاموا إليه فأشار إليهم الرسول أن يكفوا، ثم قام ودخل داره وأرسل إلى الأعرابى وزاده شيئا، ثم قال: أحسنت إليك؟ قال: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا. ووقف أمامه يوما أعرابى مضطربا، فقال له: هون عليك، ما أنا بملك ولا جبار، وإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد.

وكان فى المدينة رهط يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان ولا يكفون عن معارضة النبى r وتثبيط العزائم ونشر الشائعات وإثارة الفتن، بل والتطاول عليه وعلى أصحابه من المهاجرين. ولم يكن أمر هذا الرهط خافيا عليه r، بل كان يعرف كلا منهم حق المعرفة، ومع ذلك فقد وسعهم حلمه فلم يمس أحدا منهم بسوء. وقد وثق القرآن غير قليل من أقوالهم وأفعالهم، وما زالت هذه الأقوال والأفعال آيات تُتلى. وكان بعض ما قالوه وما فعلوه كفيلا – حتى فى أكثر الدول سماحة وديمقراطية – أن يكلفهم شططا لدقة اللحظة التى تخيروها لتثبيط الهمم وإثارة الفتن. من ذلك ما صدر عن أحدهم فى غزوة بنى المصطلق: (لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ) (المنافقون الآية 8)، يقصد بالأعز أهلها من الأنصار، وبالأذل النبى والمهاجرين. ومنها ما حدث فى موقعة الأحزاب: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا) (الأحزاب الآيتان 12 و13). فهل ما فعله الرسول فى هذه المواقف ونظائرها من سمات الحكم الدينى بمعناه المتعارف عليه لدى من يهتمون بتحرى خصائص نظم الحكم السياسية!

(22) ولما كان هذا نهجه r وهو الموحى إليه والمسدد من ربه، فقد سار الخلفاء من بعده على هديه، فلم يتعالوا على أفراد الأمة، ولم يستبدوا بالأمر دونهم، ولا ضاقوا بالنقد والمعارضة. ولم يكن ذلك تواضعا منهم كما قد يصوره بعض من يؤرخ لهم بقدر ما كان إدراكا منهم لحقيقة منصبهم واستشعارا لعظم مسئوليتهم؛ فهذا أبو بكر يعلن فى أول خطبة له بعد مبايعته: أيها الناس إنى وليت عليكم ولست بخيركم، إن أحسنت فأعينونى وإن أسأت فقومونى… أطيعونى ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لى عليكم. وهذا إقرار صريح منه بحق المسلمين فى مراقبة من يتولى أمرا من أمورهم، ومحاسبته عما يأتيه، وتقويمه إذا ساء عمله، وخلع طاعته إذا عصى الله فلم يطبق شرعه. وهذا عمر بن الخطاب يقول للناس فى خطبته بعد مبايعته: أعينونى على أنفسكم بكفها عنى وأعينونى على نفسى بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وإحضارى النصيحة فيما ولانى الله من أمركم. ويسأل الناس أن يدلّوه على عوجه فيقول له أحدهم: والله لو علمنا فيك اعوجاجا لقومناك بسيوفنا، فيحمد الله أن جعل فى المسلمين من يقوّم اعوجاجه بسيفه. وهذا إقرار صريح من عمر أيضا بحق أفراد الأمة فى مراقبة الخليفة ومحاسبته وفى رده إلى الجادة إذا بدا منه خروج على أحكام الشرع ولو اقتضى الأمر استعمال القوة ضده. وتدل عبارة كل من أبى بكر وعمر على دقة فهمهما لحقيقة الخلافة، وأنها لا تعنى أن الأمة إذ تبايع شخصا بالخلافة، أى لتولى رئاسة الدولة، فإنها تعهد إليه بإدارة شئونها كيفما يتراءى له، بل إنها تبرم معه عقدا يفرض عليه التزاما قبلها ويرتب له فى الوقت نفسه حقا عليها، هو حق الطاعة. ويرى أبو بكر أنه إذا لم يف ولى الأمر بالتزامه سقط حقه فى أن يطاع، أما عمر فيرى أنه إذا لم يف بالتزامه كان للأمة أن تحمله عنوة على الوفاء به. ولم يكن ما قرره كل من الخليفتين اجتهادا من جانبهما، بل كان ترديدا وامتثالا لأحاديث وردت عن رسول الله، فقد روى عنه r أنه قال: السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة. وروى عنه أيضا أنه قال: لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق، وأن الطاعة فى المعروف.

وتثبت وقائع التاريخ أن الخلفاء الأول لم تكن صدورهم تضيق بمن يخالفهم أو يعارضهم. حدث ذلك بالنسبة إلى أبى بكر حين أزمع محاربة مانعى الزكاة وحين رأى جمع القرآن، وحدث كذلك مع عمر عقب فتح أرض السواد وأرض الشام. وحدث مثل ذلك مع علىّ بن أبى طالب حيث اعترض عليه بعض من كانوا معه من جنده لقبوله التحكيم بينه وبين معاوية. ولم ينكر أحد من الخلفاء الثلاثة على المخالفين خلافهم، بل إن الخارجين على علىّ اتهموه بالكفر وأجمعوا أمرهم على أن يقاتلوه فأملى لهم وآثر أن يلقاهم مناقشا قبل أن يلقاهم مقاتلا. ولما يئس منهم لم يأمر جنده بقتالهم تسليما منه بحقهم فى المعارضة، وأعلن لهم أنه لن يقاتلهم إلا إذا قاتلوه، ولم يلجأ إلى قتالهم فعلا إلا بعد أن بدأوه.

(23) وحق الأمة فى مراقبة ولى الأمر ومحاسبته، بل وفى عزله عند الضرورة هو فرع من أصلين: أولهما الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والثانى العقد المبرم بين الأمة وولى الأمر.

أما الأصل الأول فسنده الأمر الموجه من الله تعالى إلى الجماعة المسلمة فى سورة آل عمران: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الآية 104). فالخطاب فى هذه الآية لم يتجه إلى ولى الأمر يدعوه إلى تكوين طائفة من الناس يعهد إليها بأداء هذه المهمة، بل توجه الخطاب مباشرة إلى الجماعة المسلمة نفسها يأمرها بأن تندب هى من بين أفرادها طائفة تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. وعن ابن مسعود أن رسول الله r قال: “لما وقعت بنو إسرائيل فى المعاصى نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله تعالى قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وسليمان وعيسى ابن مريم”. وعن حذيفة عن رسول الله r أنه قال: “والذى نفسى بيده لتأمرنّ بالمعروف وتنهونّ عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم”. وعن أبى سعيد الخدرى أن رسول الله r قال: “إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر”، وعنه r أنه قال: “سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى سلطان جائر فأمره ونهاه فقتله”.

وإذن فالأمة تأثم إذا هى اختارت حاكمها ثم تركت أمورها كلها بين يديه يديرها حسبما يرى دون مراقبة من جانبها ومناصحة، ودون مناقشة له ومحاسبة؛ فالنفس أمارة بالسوء، وربما سولت له نفسه – ولو من باب التأول – أن يأمر بمنكر أو ينهى عن معروف، ولو أنه نصح ونوقش فلعله أن يرعوى. ومن الناس من يرعى الله ورعا وتقوى، ومنهم من يرعاه حذر الملاحقة والمحاسبة.

وأما الأصل الثانى فيجد سنده فى قوله تعالى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا) (الإسراء الآية 34)، وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة الآية الأولى). ولما كانت صفة الخليفة وسلطاته لا تثبت لأحد إلا بالبيعة وهى عقد، فلازم ذلك أن يسقط حقه فى طاعة الأمة إذا هو أخل بالتزامه فلم يحكم بشرع الله. وعندئذ يكون من حق الأمة أن تعارضه وأن تقاومه، وإذا انقطع رجاؤها فى أن يفىء إلى أمر الله، وتحقق لها أن بقاءه يلحق الضرر أو يهدد بالخطر مصالحها الأساسية، فمن حقها أن تعزله. واختلف الفقهاء فى الخروج على الحاكم الجائر، ولم يكن اختلافهم فى أصل المبدأ؛ فليس ثم من ينكره، وإنما كان اختلافهم فى شروط الخروج وكيفيته. ولا يتسع المقام هنا لتقصى كل ما كتب فى هذا الموضوع، وحسبنا الإشارة إلى أن الراجح هو تقييد الخروج بألا يكون من شأنه حدوث فتنة يتجاوز ضررها ما ينجم عن بقاء الحاكم الجائر فى منصبه، وذلك عملا بقاعدة دفع الضرر الأشد بالضرر الأخف.

وبعد، فهذه هى سمات الدولة الإسلامية وخصائصها، وهى تختلف اختلافا جوهريا عن الدولة الدينية بمفهومها الاصطلاحى مما يجعل اعتبارهما من قبيل واحد ظلما بينا. وإذا كانت المرجعية فى الدولة الإسلامية هى أحكام الشريعة، أى نصوص الكتاب والسنة، فهذا لا يتأدى منه بالضرورة أن تكون دولة دينية، لأن أحكام الشريعة لم توضع لعصر دون عصر ولا لمجتمع دون مجتمع، بل إن من أحكامها ما هو ثابت لا يتغير، ومنها ما يقبل التغير. يقولون إن القوانين لا تتسم بالخلود، بل هى دائمة التغير استجابة لتطور كل مجتمع، وهذا صحيح بالنسبة لقوانين البشر، لكن هناك مبادئ كامنة فى الفطرة، وهى لا تتغير إلا فى حالة واحدة حين تصاب الفطرة بالعطب. فالحرية والعدل والمساواة والرحمة وكراهة العنف ونبذ الظلم مبادئ لا تتغير بتغير الزمان ولا المكان. وقد حرصت الشريعة على تقرير طائفة من المبادئ تتسق مع طبيعة الإنسان بوصفه إنسانا، وهو ما يسميه البعض بالقانون الطبيعى، وفرعت عن هذه المبادئ أحكاما جزئية يصح أن تختلف باختلاف المجتمعات مكانا وزمانا، وكل مجتمع فى سعة من أن يختار لنفسه فى لحظة معينة ما يلائم ظروفه على ألا يكون فى ذلك إخلال بالمبادئ العليا.

ولا ننكر أن أشد ما يسيىء إلى نظام الحكم الإسلامى هو الخطاب الإسلامى المعاصر. فالآفة الكبرى فيه أن كثيرا من الداعين إليه يخلطون بين الثابت من الأحكام والمتغير، وهم بهذا يوقعون فى روع الآخرين أن الدولة الإسلامية إذا قامت فسوف تردهم إلى الوراء قرونا، وتعزلهم عن عصرهم بكل ما حفل به من تقدم فى مناحى الحياة المادية والفكرية، وهذا جمود وضيق أفق وفهم للإسلام على غير حقيقته.

 

* * *

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر