حدود الدراسة وإطار المعالجة:
اعتمدت حركة الإصلاح المعرفي الإسلامي في العصر الحديث “التـربية” كسبيل للإصلاح وطريقٍ للنهضة المنشودة، وقد ظهر ذلك واضحًا عند محمد عبده(1) (1845م – 1905م) في تصحيحه للمفاهيم العقدية لاسيما عقيدة الجبر،
وهو ما عبر عنه في رسالة “التوحيد” ومقالاته في “العروة الوثقى”، حيث أكدت هذه المقالات على دور التربية الإسلامية لتحقيق الانتماء الإسلامي ومواجهة موجات التبشير والتغريب، ورسمت – أيضًا – هذه المقالات – ملامح التغيير السياسي والاجتماعي المطلوب في الأمة الإسلامية. كما نادى محمد عبده بإصلاح برامج التعليم في الأزهر ومناهجه، بشكل يتلاءم مع فكرة الاجتهاد وتطورات الزمان.
كما ربط الكواكبي(2)(1854–1902م) بين التربية والاستبداد في علاقة جدلية متبادلة في مؤلفه “طبائع الاستبداد ومصارع العباد” وأوضح دور التربية الفعال في بناء المجتمع الإسلامي إذا صحت من أمراضها لاسيما داء الاستبداد، أما الشيخ ابن باديس(3) (1889م – 1940م) فقد دعا إلى تكوين المواطن المؤمن المتميز عن المستعمر المغتصب عن طريق التربية بهدف إحداث التغيير الاجتماعي للأمة الجزائرية التي أرادت فرنسا احتواءها، وأكد على تحقيق العبودية الخالصة لله في الحياة الفردية والاجتماعية وربط الأجيال بالذات والحضارة الإسلامية. وقد أسس في سبيل تحقيق هذه الأهداف جمعية العلماء المسلمين في الجزائر والتي تفرعت عنها المؤسسات والمعاهد التربوية.
وفي إيران أنشأ عباس علي إسلامي(4) (1896م – 1985م) (مدارس جامعة إسلامي) مدارس التعاليم الإسلامية “1943م” لمواجهة المد التغريبـي والعلماني في التعليم الذي أدخله رضا خان وابنه محمد رضا في محاولة منهما لتفريغ الشخصية الإيرانية من هويتها الإسلامية. بالإضافة- أيضًا- إلى جهود علي شريعتي(5) (1933-1978م)، والدور المؤثر الذي لعبته “حسينية إرشاد” لمواجهة ما تعرض له العقل المسلم في بنيته المعرفية من ازدواجية المعرفة، فجاء هذا المعهد التربوي ليقدم برنامجًا معرفيًا يمثل ركيزة هذه المواجهة من خلال العمل على تطوير فهم المسلم للإسلام والواقع المعاش، وإيجاد المواءمة بين الإسلام ومتطلبات العصر عبر تفعيل الإسلام نفسه مع العقل المسلم الفعال.
وفي الهند اهتم محمد إقبال (1877 – 1938م)(6) بـ”إصلاح الفكر الديني في الإسلام” بهدف “تغيير الوضع الذي وصل إليه حال المسلم “من تدنٍّ وتراجع حضاري، ومن ثم حاول إعادة بناء مجموعة المفاهيم التي يستقيم بها حال المسلم في نظرته الكونية مثل: “تصور الإسلام عن العالم المادي”، “الحرية الفردية”، “إدراك الوجود”. مؤكدًا على أن القوة الفعالة الوحيدة التي تقاوم قوى الانحلال في شعب من الشعوب هي تنشئة أفراد ذوي فردية قوية، يجهرون بمقاييس جديدة تؤدي إلى تجديد للأوضاع الجامدة الموجودة في الأمة.
أما في تركيا فقد انشغل بديع الزمان سعيد النورسي(7) (1876 – 1960م) ببناء جيل إسلامي جديد طرح صفاته وخصائصه في “رسائل النور” والتي كان من أهم نتائجها تأسيس “مدارس النور” في تركيا لإعادة إحياء البعث الإسلامي من جديد. وجاء من بعده “محمد فتح الله كولن” والذي تأسس باسمه حركة إسلامية عرفت بـ “حركة فتح الله كولن” وقد تأثر برسائل النور للنورسي تأثرًا شديدًا كما يذكر ذلك في كتبه، ويرى أن العالم الإسلامي يعاني من ثلاث علل كبرى – سبق أن تحدث بها أستاذه النورسي – هي الجهل، والفقر، والفرقة، ويرى أن علاج ذلك كله يكون بالتربية ويذكر “أن إصلاح أي أمة لا يكون بالقضاء على الشرور، بل بتربية الأجيال تربية صحيحة وبتثقيفها ثقافة صحيحة، ورفعها إلى مستوى الإنسانية الحقة”(8).
مما سبق نلاحظ أن الظاهرة التربوية أبرز القواسم المشتركة التي ظهرت عند المفكرين الإصلاحيين في الفكر الإسلامي في العصر الحديث، ويمكن طرح ثلاثة تفسيرات لهذا الظهور:
أولاً:أن التربية هي الأساس الذي اعتمده الوحي في تغيير النفوس والقيم والمفاهيم والاتجاهات ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ﴾ (آل عمران:164).
ثانياً:أن الهدف والمقصد الأعلى لحركات التغريب والعلمانية التي ظهرت خلال الاستعمار كان تغيير أنماط السلوك والمفاهيم والأخلاق في منظومة القيم الإسلامية وطرح القيم الغربية العلمانية بديلاً عنها، ومن ثم كانت مواجهة الحركة الإصلاحية ترتكز في نفس محاور الهجوم وهي “السلوك والوجدان”.
ثالثاً:أن حالة التراجع الحضاري التي شهدها العالم الإسلامي في القرون الأخيرة بدءًا من القرن الثامن عشر إنما تُرد في أغلبها إلى حالة الجمود العقلي وسيادة التقليد وغياب البصيرة الحضارية، وكلها ترد إلى خلل في البناء التربوي للفرد والجماعة في المجتمع المسلم.
ونتناول في هذا البحث فكر أحد رواد حركة الإصلاح المعرفي في الأمة وهو مالك بن نبي (1905 – 1973م) في محاولة لرسم خارطة معرفية لفلسفة التربية المعاصرة في البلدان الإسلامية، من خلال تحليل أبعاد مفهوم التربية الحضارية ومكوناتها المعرفية والقيمية، وما يمكن الاستفادة به من تطبيقات تربوية تساهم في بناء الإنسان المسلم المعاصر وتتجاوز آفات وقصور تنشئته وثقافته.
وقد تناولت عدة دراسات فكر مالك بن نبي من جوانب مختلفة منها:
– دراسة سليمان الخطيب (فلسفة الحضارة عند مالك بن نبي.. دراسة إسلامية في ضوء الواقع المعاصر1993م)(9).
– دراسة بدران بن مسعود الحسن ( الظاهرة الغربية في الوعي الحضاري أنموذج مالك بن نبي2000م)(10).
– دراسة هاشم بن علي الأهدل (أصول التربية الحضارية في الإسلام 2007م)(11).
– دراسة عمر النقيب (مقومات مشروع بناء إنسان الحضارة في فكر مالك بن نبي.. نحو نظرية تربوية جديدة للعالم الإسلامي المعاصر2009م)(12).
– دراسة محمد عاطف (معوقات النهضة ومقوماتها في فكر مالك بن نبي2009م)(13).
– وأخيرًا دراسة الطيب برغوث (محورية البعد الثقافي في إستراتيجية التجديد الحضاري عند مالك بن نبي2012م)(14).
المحور الأول: السياق الفكري لمفهوم التربية الحضارية
يرسم مالك بن نبي خطوطًا عريضة للأزمة الحضارية التي يعيشها العالم الإسلامي، تبدأ من غياب الشروط الزمنية والنفسية لتطور المجتمع وتنتهي بتمظهر هذا الغياب في السلوك الاجتماعي للأفراد. ويحلل عناصر هذه الأزمة التي بدأ يدركها منذ أن استيقظ وعيه وهي اعتبارات تُكَوِّن في جملتها المظهر المَرضي، وتتمحور عناصرها حسب طبيعتها الاجتماعية والنفسية في الشكل الخطي التالي:
شكل يصعب رفعه على المرقع
يعلل مالك أسباب غياب الشروط النفسية والزمنية اللازمة لتطور المجتمع والأمة بأنها حالة ناتجة عن أزمة في (عالم أفكار) العالم الإسلامي الذي يعيش حالة من التخلف عن أداء رسالته، “فأزمة العالم الإسلامي لم تكن أزمة في الوسائل؛ وإنما في الأفكار، ولكي نتغلب على هذا المرض علينا أن نكتشف طريق الأمة المرشدة”(16).
ويقرر أن صناعة التاريخ والحضارة تتم تبعًا لتأثير ثلاثة عوالم أساسية هي: عالم الأشخاص، وعالم الأفكار، وعالم الأشياء. عالم الأشخاص: يتعلق بالمجتمع والأفراد، عالم الأفكار: يتعلق بالثقافة، عالم الأشياء: يتعلق بالمادة. وهذه العوالم لا تعمل متفرقة؛ “بل تتوافق في عمل مشترك تأتي صورته طبقًا لنماذج أيديولوجية من (عالم الأفكار) يتم تنفيذها بوسائل من (عالم الأشياء) من أجل غاية يحددها (عالم الأشخاص)”(17).
ونشير فيما يلي إلى أهم جوانب الأزمة الحضارية كما يتصورها مالك بن نبي والتي مثلت السياق الفكري لمفهوم التربية الحضارية:
أ. اختلال العالم الثقافي:
ويتضح هذا الاختلال في غياب التوازن في العالم الثقافي (عالم الأفكار- عالم الأشخاص – عالم الأشياء) وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى طغيان عالَم على آخر، أو أن تستبدل الأدوار بين العوالِم، أو يغيب دور عالَم فتغيب وظيفته في البناء الحضاري، وهذا الخلل يحدث عندما “يكون النشاط مركزًا على الأشياء أو على الأشخاص أو على الأفكار.. هنا يكون ثمة إخلال بالتوازن الذي يميز التطور التاريخي لمجتمع ما، هذا الإخلال بالتوازن يعكس إفراطًا ما، وكل إفراط هو ضرب من طغيان نشاط على حساب نشاطات أخرى”(18).
ويرصد مالك بن نبـي أهم صور الاختلال في العالم الثقافي والذي يتمثل في الأصعدة التالية:(19)
-على الصعيد القيمي: حيث تمحور عالم الثقافة حول الأشياء فتحتل الأشياء القمة في سلم القيم، وتتحول الأحكام النوعية إلى أحكام كمية دون أن يشعر أصحاب تلك الأحكام بانـزلاقهم نحو (الشيئية)، أي نحو تقويم الأمور بسلم الأشياء.
-على الصعيد الاجتماعي: يتم التصدي للمشكلات- أيضًا – في جانبها الكمي، والحلول التي تهمل الجانب النوعي تصاغ بعبارات كمية.
-على الصعيد الاقتصادي: تستلب الشيئية وطغيان الأشياء قدرات المجتمع في ميادين أخرى، خصوصًا ميدان التخطيط – عندما يواجه بلد ما مشكلة التخلف-إما باستثمار رؤوس أموال أجنبية، أو بزيادة معدل الضرائب التي تشل كل أوجه النشاط الفردي بأن تمهد لقيام نظام ضريبـي تفصيلي.
-على الصعيد السياسي: يعاني العالم الثقافي من هيمنة “الفكرة الوثن”، وهي منتشرة في جميع أنحاء العالم الإسلامي المعاصر، وتكون أحيانًا سبب ما نشهده من حالات إفلاس سياسي مذهل. إن تناقص الفكرة والوثن قد ضمن بصفة عامة للاستعمار نجاحه الباهر في الإجهاض السياسي في بلادنا، مستخدمًا غالبًا مثقفينا أنفسهم.
-على الصعيد الأخلاقي: يظهر الخلل عندما يتجسد المثل الأعلى في شخص ما، فيكون هناك خطر مزدوج: فسائر أخطاء الشخص ينعكس ضررها على المجتمع الذي جسَّد مثله الأعلى، وسائر انحرافات ذلك الشخص تترصد كذلك في خسائر، وتكون هذه الخسارة إما في رفض للمثال الأعلى الذي سقط، وإما في ردة حقيقية يعتقد عبرها بإمكانية التعويض عن الإحباط باعتناق مثل أعلى آخر. وفي كلتا الحالتين فنحن نستبدل -دون أن ندري- مشكلة الأشخاص بمشكلة الأفكار.
إن أصل الأزمة الحضارية يكمن في بُعدها الثقافي والتربوي الذي ساهم في تشكيل إنسان عصر التراجع الحضاري، في ظل نظام تربوي هيمنت عليه رؤية قاصرة في التعامل مع الواقع ومشكلاته ومستجداته، وفي التعامل مع الماضي بموروثاته الفكرية والاجتماعية السلبية والتي ألقت بظلالها على الجوانب السياسية والاجتماعية والأخلاقية بالضرورة، إن المنحى التربوي للأزمة الحضارية لم يساعد على حل الأزمة بل ساهم في تكريسها، ثم تطور فأصبح جزء من هذه الأزمة الحضارية بما حمله من مضامين سلبية من الماضي وفشل في إدراك الواقع والتعامل معه.
ب. المشكلة الفكرية:
حيث يشهد عالم الأفكار في عالمنا العربي والإسلامي اضطرابًا قيميًا ومنهجيًا يتمثل في الغفلة العقلية والوجدانية عن قيمة “الفكرة” وأثرها في التغيير الفردي والاجتماعي وعمق ذلك التأثير الذي يفوق تأثير أي عامل آخر من عوامل التغيير المادية، “إن الجانب الفكري هو الأساس في المشكلة التي نحن بصددها. إن الأفكار لا تتمتع في المجتمع الإسلامي بقيمة ذاتية، تجعلنا ننظر إليها بصفتها أسمى المقومات الاجتماعية، وقوة أساسية تنظم وتوجه قوى التاريخ كلها، وتعصمها بذلك من محاولات الإحباط مهما كان نوعها. وهذه الثغرة تعود في تكوينها، إلى شيء من التخلف في تطورنا الاجتماعي”(20).
وبناء على هذا الاعتقاد المعرفي يمكن إعادة تعريف المجتمع المتخلف بالتركيز على معيارية “عالم الأفكار” وقيمة “الفكرة” في مقابل تركيز مناهج أخرى على المعيارية “المادية”، ومعيارية “الوسائل” و”الآلات”. “فالمجتمع المتخلف ليس موسومًا حتمًا بنقص في الوسائل المادية (الأشياء)، وإنما بافتقاره للأفكار. يتجلى بصفة خاصة في طريقة استخدامه للوسائل المتوفرة لديه، بقدر متفاوت من الفاعلية، وفي عجزه عن إيجاد غيرها، وعلى الأخص في أسلوبه في طرح مشاكله أو عدم طرحها على الإطلاق”(21).
والخلل الموجود في (نظام الأفكار) في العالم الإسلامي يترتب عليه بالضرورة غياب وسائل الفعالية، والتي من أهمها تأسيس شبكة للعلاقات الثقافية، والتي لم تتكون بعد في المجتمع الإسلامي الراهن، وهو ما يتجلى في صورتين:(22)
الصورة الأولى: تدلنا على أن المجتمع الإسلامي يفقد شبكة الاتصالات الثقافية، فالشخصيات التي يمكنها المساهمة ماديًا في القيام بمشروع كهذا لا تشعر بأهميته.
الصورة الثانية: تكشف لنا عن ضعف الطبقة المثقفة نفسها في البلاد العربية والإسلامية.
ويحمِّل مالك بن نبي “المثقف المسلم” مسؤولية الخلل والاضطراب الموجود في نظام الأفكار، وغياب وسائل الفاعلية، وذلك بعدم قناعته بالقيمة الاجتماعية للأفكار وهو ما جعل المثقف المسلم “يدور في فلك بعض الأوثان بدلاً من أن يكرس نفسه لخدمة الأفكار”(23).
ومن النتائج التي ترتبت على الخلل في (نظام الأفكار) وغياب (وسائل الفاعلية) وتشوه دور (المثقف المسلم) في العالم الإسلامي، سيادة حالة التوهم والوهن في الإعداد للنهوض الحضاري والتي استبدلت التكديس بالبناء مما جعلها تعيش فترة أكبر، وتفقد الجهد والوقت إلى حد الإسراف في هذا الإعداد الحضاري الذي لم يتم، ولن يتم في ضوء خيار “التكديس” القائم على اختيار عقلية التوهم والوهن.
وهذه الإشكالية أوقعت المجتمع الإسلامي في تناقض واضح بين فِعْلَي “التكديس” و”البناء” وبين الاستعارة والفعالية، “حيث أورث ذلك تدهورًا في قيمة الأفكار الموروثة، وتدهورًا في قيمة الأفكار المكتسبة، وقد ترتب عليهما أفدح الضرر في نمو العالم الإسلامي أخلاقيًا وماديًا. وإن هذه النتائج الاجتماعية لذلك التدهور نصادفها يوميًا في صورة غياب لكل فعالية، وقصور في مختلف أنشطتنا الاجتماعية، فمن ناحية فإن الأفكار التي أثبتت فاعليتها في بناء الحضارة الإسلامية منذ ألف عام تبدو اليوم عديمة الفعالية، لأنها فقدت التصاقها بالواقع”(24). ومن ناحية أخرى فإن أفكار أوروبا التي شيدت النظام الذي نسميه الحضارة الأوروبية، فقدت بدورها الفاعلية في العالم الإسلامي المعاصر. فسلوكنا اليوم يرتبط بتنكر مزدوج. فالمسلم فقد الاتصال بالنماذج المثالية لعالمه الثقافي الأصلي. وهو لم ينشئ – كما فعلت اليابان – الاتصال الحقيقي بالعالم الثقافي الخاص بأوروبا ، ونحن اليوم نقاسي هذا التدهور المزدوج، فالأفكار المخذولة في هذا الجانب أو ذاك لها انتقام رهيب. وإن انتقامها المحتوم هو ما نعاني نتائجه اليوم(25).
الأسى الذي يبديه مالك بن نبي هنا بالأساس يرجع لافتقاد المثقف المسلم -القادر على قيادة المجتمع تربويًا – الارتباط بنموذجه الأصلي ورصيد تجربته الحضارية، وهو ما أفشله أيضًا في الاتصال بالواقع المعاصر والتطور الحضاري الحادث في الغرب؛ وذلك لافتقاده أدوات الاستيعاب الحضاري والتجاوز الذي يمده به نموذجه المعرفي الأصلي وتجربته الحضارية، ومن ثم يصبح المثقف الذي وقع في أسر الاستلاب ينطبق عليه حديث النبي ( “إن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى”(26).
وتنعكس الحالة الفكرية وهذا الخلل الموجود- أيضا- على العالم الاجتماعي، وهو من أخطر وجوه الأزمة والذي يستدعي حديث “الغثاء” حيث أنه تصوير لحالة المجتمع “حيث يتحلل كيان المجتمع تحللاً كليًا، وعندما يحتل المرض جسده الاجتماعي في هيئة انفصالات في شبكته الاجتماعية… يتجلى هذا المرض الاجتماعي في العلاقات بين الأفراد. وأكبر دليل على وجوده يتمثل فيما يصيب (الأنا) عند الفرد من (تضخم) ينتهي إلى تحلل الجسد الاجتماعي لصالح الفردية… فالعلاقات الاجتماعية تفسد عندما تصاب الذوات بالتضخم فيصبح العمل الجماعي المشترك صعبًا أو مستحيلاً، إذ يدور النقاش حينئذ لا لإيجاد حلول للمشكلات، بل للعثور على أدلة وبراهين تبرر المواقف الفردية والخيارات الشخصية”(27).
تنحصر أسباب الأزمة الحضارية في قسمين، الأول: العوامل الداخلية، والثاني: العوامل الخارجية، وكما سنرى فإن العوامل والأسباب الخارجية تُرد في النهاية إلى الداخل، وما أصاب الذات المسلمة من وهن جعلها عرضة لأي داء، وفي ذلك يقدم مالك تصورًا يمكن أن نطلق عليه نظرية في “النقد الذاتي” و”المساءلة الحضارية” للأمة والمجتمع الإسلامي المعاصر.
أصيبت الشخصية المسلمة -أيضًا- بالنظرة الجزئية لقضاياها وأزمتها الحضارية، وغياب الرؤية الكلية الشاملة التي اتسمت بها الشخصية المسلمة في أوج ازدهار الحضارة الإسلامية مستمدة ذلك من نموذجها المعرفي التوحيدي. ومن ثم وقعت الشخصية المسلمة في داء التفتت والتجزؤ، فانفصلت شبكة الحضارة قطعًا قطعًا، وغاب المنهج وحضرت الوسائل والآليات، فكان انكفاء العقل المسلم على التفاصيل دون الكليات، وعلى النتائج دون القواعد، “إن روح عصر الاستعمار والأفول الحضاري، المصابة بالذَرية لا تسلك سبيل التكامل بانتهاج التراكيب والتآلف، فالنـزعة الذرية هي قفزة البرغوث من تفصيل إلى تفصيل، بحيث لا تسمح أن ترى في مجموعة من التفاصيل المعطاة وضعًا يبرز بالتحديد مشكلة مرحلة الاطراد الثوري. وبهذه الطريقة سيظل التفصيل مستقلاً عن الموقف الموضوعي الذي نعيشه؛ بحيث يضاف إلى وضع شخصي؛ كالحبة التي تضاف إلى مسبحة أحلامنا”(28). والنـزعة الذرية التي هي علامة مرضية للعقل المسلم ليست متأصلة فيه أو في الفكر الإسلامي؛ ولكنها “من أثر التطورات التاريخية، التي اعترته منذ عهد الاستعمار والقابلية للاستعمار، فسلبته ميزات العقل الذي شق طريق الحضارة الإسلامية ومهد سبيل الحضارة الحديثة”(29).
إن هذه الإصابات المعرفية والثقافية انعكست بدورها على النظام التربوي ومنهجه الذي غابت عنه “الفكرة” و”قيمتها” واعتنى بالوسائل، وهيمن عليه “التقليد” وغاب “التجديد”، وأصبحت التربية تابعة للوضع السائد الجامد والمقلد أو المُستَلَب المتغرب، وغاب عنها دورها الريادي التجديدي القائد لحركة التغيير الحضاري ، ولم تستطع التربية أن تحمل قيمًا صالحة أو أفكارًا مبدعة تواجه بها طرفي النقيض: التقليد الجامد والاستلاب المتغرب.
ج. وهن الدفعة القرآنية: والفصام في الشخصية المسلمة
ينتقل مالك بن نبي إلى بُعد أخر يرصد فيه أسباب “الأفول” و”الأزمة” الحضارية، وهي الأسباب الإيمانية أو فعالية الإيمان، والتي بدأت بوهن الدفعة القرآنية في أعماق الشخصية المسلمة وتكوينها النفسي والفكري والاجتماعي، فالقرآن هو الذي غرس في وجدان المسلم جذوة امتدت ظلال نورها قرونًا طويلة، وهذه الجذوة هي منبع التحضر عند المسلم، ويقاس بالقرب أو البعد منها حالة المسلم وتحضره. وعندما انطفأت شعلة هذه “الجذوة القرآنية” وخمدت أصيبت الأمة بهذا “الوهن الحضاري”، “… حتى إذا وهنت الدفعة القرآنية توقف العالم الإسلامي، كما يتوقف المحرك عندما يستنـزف آخر قطرة من الوقود. وما كان لأي معوض زمني أن يقوم خلال التاريخ مقام المنبع الوحيد للطاقة الإنسانية، ألا وهو الإيمان”(30).
ينفي مالك بن نبي عن المسلم المعاصر تخليه عن عقيدته أو إسلامه، ولكنه يؤكد أن هذه العقيدة فقدت بُعدها الجوهري وهو البعد الاجتماعي الذي ما فتئ الوحي أن يربط بين الإيمان بها وبين العمل الصالح في شتى صوره وأشكاله وأبعاده الكونية والعمرانية، حتى غرس الفسيلة حال قيام القيامة وظهور مشارف انتهاء الحياة على الكون، غاب عن المسلم فعالية الإيمان، فتحول إلى إيمان رهبان وصوامع، ونتج ذلك لانفصال المسلم عن مبادئ عقيدته وقيمها التي يؤمن بها، فظهر ذلك الانفصال بين سلوك المسلم في المسجد والشارع، وبين تأدية العبادات وتأدية المعاملات.
إن المسلم لم يتخل مطلقًا عن عقيدته فلقد ظل مؤمنًا، وبعبارة أدق ظل مؤمنًا متدينًا [بالشعائر]، ولكن عقيدته تجردت من فاعليتها، لأنها فقدت إشعاعها الاجتماعي فأصبحت جاذبية فردية، وصار الإيمان إيمان فرد متحلل من صلاته بوسطه الاجتماعي، وعليه فليست المشكلة أن نُعلِّم المسلم عقيدة هو يملكها، وإنما المهم أن نرد إلى هذه العقيدة فاعليتها وقوتها الإيجابية، وتأثيرها الاجتماعي، وفي كلمة واحدة إن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم على وجود الله بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده، ونملأ به نفسه باعتباره مصدرًا للطاقة(31).
إن أحد أهم الأسباب التي أدت إلى هذا الانفصال بين المسلم ومبادئ عقيدته وقيمها الجوهرية هو غياب مبدأ “المراجعة” و”النقد” الحضاري على المستوى الفردي والجماعي، رغم أصالة هذا المبدأ في النموذج التوحيدي وتطبيقاته التربوية الراشدة ” فلم يعد أحد يؤنب نفسه – على نهج عمر بن الخطاب – أو يتأثر من خطيئته، أو يبكي على ذنبه.. وهكذا غرق المثل الأعلى الإسلامي للحياة والحركة، في فيضان من التعالي والغرور؛ بل في ذلك القنوع الذي يتصف به الرجل المتدين، حين يعتقد أنه بتأدية الصلوات الخمس قد بلغ ذروة الكمال، دون أن يحاول تعديل سلوكه أو إصلاح نفسه، فهو كامل كمال العدم، أو كمال الموت، وبذلك تختل حركة التقدم النفسي في الفرد والمجتمع”(32)، وقد تأثر المجتمع الإسلامي المعاصر بغياب مبدأ المراجعة والنقد الذاتي في تكوينه التربوي والثقافي بما أفقده القدرة على تطوير نفسه داخليًا حيث حلت الـ “عصمة” على آراء القيادات السياسية والتربوية وتغلغلت، فأفقده البعد النقدي الحضاري الذي لاَزَمَ عملية بناء المجتمع الإسلامي الأول وازدهرت به حضارته. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أفقد المجتمع القدرة على الاستجابة للمتغيرات الخارجية والتحولات التاريخية الجارية وأظهره بمظهر العاجز نظرًا لنضب التفكير والمراجعة على مستوى النظر والممارسة.
إن غياب التربية الإيمانية الفاعلة في بناء الشخصية المسلمة من أسباب التراجع الحضاري للأمة، فالانفصال القائم بين اعتقاد المسلم وبين واقعه وفعله وسلوكه، نتج عنه غياب القيم الإسلامية عن العمل والتشغيل في الواقع الاجتماعي للأمة، فغابت قيم “اقرأ” فغابت معها قيم العلم والتعليم والعمل، بينما حضر في الأمة قيم “الأمية” و”الجهالة” و”البطالة” وأصبحت مؤشرات بارزة على تميزها السلبي في العالم المعاصر، وغابت قيم “النقد” و”المراجعة” و”المساءلة” الحضارية فغابت معها القدرة المنهجية التربوية على تشخيص واقع الأمة ومرضها الاجتماعي والحضاري فغاب معه طرح العلاج المناسب لها فطال الألم وزاد المرض.
د. العوامل الخارجية: الاستعمار والغزو الفكري التربوي
في القسم الثاني لتصور مالك بن نبي للأزمة الحضارية نجده يحدد عاملاً رئيسًا خارجيًا هو (الاستعمار) الذي أوقف تطور حركة المجتمع المسلم، واستهدف نظامه القيمي، وسلبه حريته، “فالاستعمار حاول أن يكف العالم الإسلامي عن التطور، ويضع العراقيل أمام حلول مشكلاته النفسية والاجتماعية، ليس هذا فحسب، وإنما ظهر– أيضًا – في صورة محسة وأعمال سالبة تهدف إلى طمس قيم الفرد وإمكانيات تطوره”(33).
يصف –أيضًا- المناخ النفسي والثقافي لاتصال العالم الإسلامي بالغرب ومآلاته على العقل المسلم والشخصية المسلمة التي ذابت في هوامش الإنتاج الحضاري للغرب مما أفضى إلى ازدواجية معرفية أصابت الشخصية المسلمة في تكوينها المعرفي والثقافي منذ ذلك الاتصال ولا زالت تصارعه حتى الآن، حيث “بدأ الاحتكاك العنيف مع الحضارة الجديدة والضمير الإسلامي في أسوأ شروطه، فأوروبا رجحت قيم الفعالية على قيم الأصالة في أسلوبها الاستعماري، ومنذ ذلك الحين أضحى لعالمها الثقافي وجهان: وجه يلتفت إلى ذاتها بأخلاقياته الخاصة به، ووجه يلتفت نحو العالم، وهمه الوحيد الفعالية. والنخبة المسلمة التي تكونت عبر الجامعات الأوروبية لم تر غير هذا الوجه، أما وجهها الآخر فقد حُجب عنها؛ كما يحجب وجه القمر الآخر عن سكان الأرض. من هنا كان في تكوينها خلط يرثى له بين مظهرين متميزين لفكرة واحدة: أصالتها، وفعاليتها. وهذا الخلط في نفسية النخبة المسلمة الحاضرة، هو النواة التي حولها تتجمع سائر دسائس ومناورات الصراع الفكري”(34).
والاستلاب أحد الآثار التربوية على الشخصية المسلمة الناتجة عن الاستعمار الذي استطاع اختراق جدارنا المعرفي “وإرغامه على أن يشتري (الأشياء) من الغرب، وتبنى مقايسه، ومعاييره، وتَمثُل أفكاره حسنها ورديئها والتي تهدد شخصية العالم الإسلامي وبقاءها”(35).
ورثنا من هذا الاتصال- أيضًا – بحكم القانون الذي يفرض على المغلوب عادات وتقاليد الغالب، ورثنا المقاييس المرتبطة بحياة العالم الغربي، وبتجربته التاريخية، وتقبلنا بعضها لنقيس بها الواقع الاجتماعي لدينا ونوازن على ضوئها ماضينا بما يسحر أبصارنا في حاضر هذه الأمم الغربية. هذه الأمم التي فرضت علينا عاداتها ومفاهيمها ومصطلحاتها وأسلوب حياتها، وهكذا رأينا هذه المقاييس مسلمات يقتدي بها فكرنا ويهتدي بها اجتهادنا، ويستدل بها منطقنا، دون أن نحقق في درجاتها من الصحة واتفاقها مع جوهر شخصيتنا، وفلسفة حياتنا(36).
تأثر نظامنا التربوي بالاستعمار على مستويين، الأول: ظهر في استيراد نظم التعليم في الغرب إبان الغزوات الاستعمارية الأولى في القرن الثامن عشر، وكانت غاية التعليم هو بناء جيوش قوية لصد غزوات الاستعمار، وخدمة الدولة القطرية -التي انفصلت بعد ذلك عن دولة الخلافة العثمانية- من خلال توفير موظفين وإداريين للنظام البيروقراطي لهذه الدولة، والمستوى الثاني: هو مستوى المبادرات الخارجية ونقل ظاهر النظم التعليمية الغربية في مرحلة الحداثة والتي تتباين في مضامينها القيمية والأخلاقية مع سياق حضارتنا القيمي والأخلاقي، وقد كان هذا المستوى الثاني عن طريق القسر والتدخل في بنية النظم التعليمية العربية والإسلامية، وربطها بمساعدات اقتصادية أو امتيازات خاصة، وقد أوجد هذا التدخل عدة إشكاليات أهمها صرف العقل التربوي العربي عن رؤى الإصلاح الداخلي للنظام التعليمي والاتجاه نحو الاستيراد فيما لا يجدي معه الاستيراد، وتعدد الازدواجيات التعليمية بين تقليدي وحديث أو محلى وأجنبي بما انعكس على الهوية وبناء الشخصية العربية المسلمة.
المحور الثاني: مقاربة بين مفهومي التربية والحضارة
التربية في المعجم اللغوي تعني: النماء، الزيادة، التزكية، والعلم، والإصلاح، والتأسيس والإنشاء.”ربُّ الولد – ربا : وليه وتعهده بما يغذيه، وينميه ويؤدبه…والنعمة ربا، وربابًا، وربابة: حفظها ونماها، والشيء أصلحه ومتنه”(37)، و”ربُّ في الأصل التربية، وهو إنشاء الشئ حالاً فحالاً إلى حد التمام، والرباني منسوب إلى الربان، وهو الذي يربُّ العلم كالحكيم”(38)، وربأت الأرض رباءً: زكت وارتفعت. وقرئ : ﴿فَإِذَا أَنـزلنَا عَلَيهَا ٱلمَآءَ ٱهتَزَّت وَرَبَت وَأَنبَتَت مِن كُلِّ زَوجِ بَهِيج﴾ (فصِّلت:39). وربت: أي ارتفعت”(39).
والتربية تُعنى بـ”الإنسان” و”تعديل” أو تغيير سلوكه من كائن بيولوجي فطري إلى كائن اجتماعي يؤدى رسالته الكونية وفقًا لمجموعة من الضوابط والقيم التي تتضمنها التربية في مجتمع ما.
والتربية الإسلامية كما يعرفها علي خليل “تعتمد على منهج كامل متكامل شامل متوازن، ومن ثم فهي كلية في أغراضها، وتعتني بالإنسان ككل، وباستمرارية تعلمه، وتهتم بالدنيا والآخرة، وبالعمل والتطبيق، وتهتم بالمادة كما تهتم بالروح في سبيل بناء شخصية المسلم، لذلك أنتجت حضارة متميزة متفردة، عن غيرها من الحضارات”(40).
والتربية في المنظور الإسلامي- تهدف إلى “تكوين الإنسان الصالح” وهذه الصالحية تحددها “الثوابت الإسلامية” القرآن والسنة (الوحي)، و”المتغيرات” التي يحياها الفرد والمجتمع والتي هي بمثابة المتطلبات العقلية والاجتماعية التي تتغير من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان.
ويرى مالك بن نبي أن أزمة العالم الإسلامي إنما هي أزمة وعي بالأساس تتمثل في “أزمة إدراك الإنسان المسلم للمشاكل والقضايا التي يعاني منها العالم الإسلامي”(41)؛ لذا، يدعو الإنسان المسلم إلى “إدراك العالم من حوله الذي أصبح يعتمد على العلم والتخطيط في رسم حاضره ومستقبله وأن يستبطن هذه المعطيات حتى يسترد وعيه وينتبه لمدى تخلفه”(42)، والتخلف الذي يعنيه هنا: هو تخلف الإنسان المسلم عن الوعي برسالته وأدائها، وليس تخلفًا عن الصناعات والآلات، لأنه يعتبر هذا النوع الثاني تابع بالضرورة للنوع للأول.
ويعتقد أن التربية طريقًا لمعالجة الأزمة الحضارية التي يعاني منها المجتمع المسلم “إن المشاكل التي يعاني منها “المجتمع المسلم” مثل مشكلة الثقافة ومشكلة الأفكار، لا تحل إلا عن طريق التربية، وفيما يتعلق بالثقافة يرى أن التساؤل الأساس في هذه المشكلة هو أنه كيف ينبغي أن ندرج الثقافة في صورة برنامج تربوي يصلح لتغيير الإنسان، بحيث يساهم في تشكيل تصورات جديدة نحو مجتمع الحضارة، وأنه لكي يتحقق ذلك “ينبغي أن نطرح الثقافة كبرنامج تربوي قابل للتحقيق، تبدأ من التركيب الذي يتم في عالم الأشخاص، كيما يخلع عليه القيمة الثقافية التي يستحقها، وإذا ما وضعنا هذا التركيب بحكم طبيعته في إطار تربوي قائم على فلسفة أخلاقية فإننا نكون في الواقع قد حددنا ضمنًا منهجًا للثقافة”(43).
ومن هنا فإن الحضارة عنده هي جملة الشروط النفسية والاجتماعية والتربوية التي يجب أن تتوفر للمجتمع حتى ينتقل إلى حالة التحضر. “فالحضارة من الناحية الوظيفية مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقدم لكل فرد من أفراده، وفي كل طور من أطوار وجوده، منذ الطفولة إلى الشيخوخة، المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطوار نموه”(44)، أي أن يتم توظيف كل الطاقات والجهود وفق أهداف محددة ترسم مستقبل هذا المجتمع من خلال شبكة علاقات اجتماعية قوية يحدث فيها التعاون الخلاق بين أفراده، في ظل نظام تربوي يوفر الأصول المعرفية لهذه الشبكة الاجتماعية الفاعلة.
فمرحلة الحضارة إذن ليست أي حال أو وضع عليه حياة الإنسان، وليست هي الوضع أو المعيار المادي فقط؛ بل هي جملة أوضاع أخلاقية تضم القيم الأساسية للإنسان وتصوراته التي تميز وجوده الاستخلافي والتي تدخل في برامج تربيته وتزكيته في كل مراحل عمره من الطفولة إلى الشيخوخة، بالإضافة إلى العوامل المادية المعبرة عن شكل ونشاطات الإنسان في مرحلة ما، والحضارة بهذا المعنى انتقال إيجابي من حالة لا تتوافر فيها تلك الشروط الأخلاقية والمادية (وهي المكونات الكونية الأساسية) إلى حالة تتوفر فيها تلك الشروط فهي حالة “تغييرية بالأساس وفي الجوهر، وهو ما جعل مالك بن نبي يتخذ من الآية الكريمة: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِم﴾ (الرعد:11) مكانًا في قلب رسالته “الإصلاحية” الحضارية. واعتبار حركة “التغيير الذاتي” هي الخطوة الأولى نحو الإصلاح، ويبدو التغيير الذاتي هو جوهر الانتقال إلى مجتمع التحضر؛ ذلك أن العامل النفسي يسبق العامل الاجتماعي ويتحكم به، “فالتحولات النفسية التي تدخل في الاطراد وتصبح بادية في المستوى الاجتماعي والسياسي تنشأ في مستوى الدوافع التي تتحكم في السلوك”(45).
إن التأكيد على “منهجية التغيير الذاتي” يعطي “الدفعة” للوصول إلى المستوى الحضاري المطلوب من المسلم أن يصل إليه كي يبلَّغ رسالته إلى العالم، فدور “المسلم” يتحدد إجمالاً وفقًا لمحورين ضروريين”إنشاء وتشييد في الداخل، وضرورات اتصال وإشعاع في الخارج”(46).
وفي ضوء الثقافة القرآنية “ثقافة التذكر” يدعو “المسلم” كي يقوم بدوره نحو الإنسان المعاصر الراكد في حيرته وتيهه؛ إلا أن ذلك لن يتم قبل أن تحدث عملية التغيير المنشودة لهذا المسلم فيستدعي قيمه وتصوراته الأخلاقية والعملية سلوكًا واقعًا وعملاً وتطبيقًا “… فإذا أراد المسلم ذلك فليرفع مستواه بحيث يستطيع فعلاً القيام بهذا الدور.. إذ بمقدار ما يرتفع عن الحضارة المعاصرة بمقدار ما يصبح قادرًا على تعميم ذلك الفضل الذي أعطاه الله له (أي دينه). إذ عندها فقط يكون قادرًا – أيضًا – على بلوغ قمم الحقيقة الإسلامية، واكتشاف قيم الفضيلة الإسلامية، ومن ثم ينـزل إلى هضاب الحضارة المتعطشة فيرويها بالحقيقة الإسلامية وبالهدى، وبذلك يضيف إليها بعدًا جديدًا. لأن الحضارة العلمانية اكتسبت أشياء وضيعت بعدًا آخر تشعر بفقدانه وهو بعد السماء”(47).
ويتعلق مفهوم “التربية الحضارية” عند بن نبي – أيضًا- بمفهوم “الحضور الإسلامي”، والذي يستبطنه في “حجة الوداع”، وتحديدًا في ختام خطبته r“…ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب” وهذه الشهادة كما يقول “رسالة خاصة بكل مسلم (حاضر) بإزاء الغائبين، والمسلم الحاضر حينئذ، لا يمثل شخصه وجيله فحسب، ولكنه يمثل الأجيال التي تأتي من بعده كذلك، فقد كانت هذه الأجيال (حاضرة) في شخص السامعين ذلك اليوم، – كما أن الأجيال البشرية قد حلفت يمين آدم في شخصه، قبل أن توجد في هذا العالم”، إن الشاهد في أساسه هو (الحاضر) في عالم الآخرين. والصفة الأولى المكتسبة، لإثبات قيمة أي (شهادة) هي: (حضور) الشاهد. ومنذئذ، إذا كان متعينًا على المسلم أن يقوم بالدور الملقى على عاتقه، فهو مجبر على الحياة في اتصال وثيق بأكبر عدد من الذوات البشرية ومشاكلها كذلك. ومن ثم يتعين على (حضوره) أن يعانق أقصى حد ممكن في المكان، لكي تعانق (شهادته) أقصى كم ممكن من الوقائع، وإن المسلم في هذه الحالة ليس صاحب دور سلبي محض؛ إذ أن حضوره يؤثر على الأشياء، وعلى أعمال الآخرين”(48) ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ {البقرة:143{.
ومفهوم “التربية الحضارية” في تأسيسه المعرفي يتضمن العودة إلى الذات الحضارية المسلمة ومكوناتها الأساسية في مصادر التنظير الفلسفي التربوي والمرجعية الفكرية الأصيلة لهذا التنظير، وأبعادها المعيارية وقيمها المثالية وضوابطها الواقعية، وخصائصها العالمية الإنسانية والانفتاح على التراث والإنتاج الإنساني في كل مراحله لا سيما المعاصر منه.
و”التربية الحضارية” – في أحد جوانبها- “منهج فعال” يقصد تغيير الإنسان وتعليمه كيف يعيش مع أقرانه، وكيف يُكوِّن معهم مجموعة القوى التي تغير “شرائط الوجود” نحو الأحسن دائمًا وكيف يُكَوِّن معهم شبكة العلاقات التي تتيح للمجتمع أن يؤدي نشاطه المشترك في التاريخ، أي تكوين بناء حضاري أو الانتقال لمرحلة التحضر.
و”شرائط الوجود” تفضي إلى ما يتعلق بوجود الإنسان على الأرض، القيم، المعايير، التصورات، المفاهيم وهذه كلها – أي شرائط الوجود- لا تتوفر إلا في مرجعية الوحي أو الفكرة الدينية المتجاوزة والتي تحدث التحولات والنقلات الحضارية للإنسان، وتحدد مكانة الإنسان في الكون ومركزه “الاستخلافي” ورسالته في تحقيق القيم الحاكمة للوجود في: العمران، التزكية والتوحيد، وهذا كله لا يكون إلا من خلال برنامج تربوي فاعل يقوم على بناء ثقافي يستهدف التغيير الإنساني للانتقال من مرحلة ما بعد الحضارة التي يعيشها المسلم المعاصر إلى مرحلة التحضر المنشود.
التربية الحضارية (مفهوم إجرائي):
نعني بالتربية الحضارية في هذا البحث: جملة الجهود الفكرية والعملية التي تبذل في ميدان بناء الإنسان لتوفير الشروط الزمنية والنفسية للبناء الحضاري، من خلال إعداد الفرد المسلم وتهيئته لهذه الحالة، ففعل النهضة هو “ما يُبذل من جهد في الميدان النفسي”(49)، متجاوزًا معوقات هذه النهضة، ومتوافقًا مع مقوماته المعرفية (الأصيلة)، ومرجعيته الحضارية، مراعيًا السنن الكونية في التغيير والتطور. وهذا لن يتأتى إلا “بتكوين الفرد الحامل لرسالته في التاريخ”(50)، أو “الإنسان الجديد” الذي يتسم بـ”تركيب أصيل لعبقريته الإسلامية الخالصة، مع العبقرية الحديثة”(51)، أي بناء الإنسان المسلم المعاصر الذي ينطلق من مرجعيته الذاتية الأصيلة بكل خصائصها وانفتاحها ومراعاتها للحاضر والمستقبل.
فالتربية الحضارية هي ذلك المكون الذي يجمع بين المرجعية الذاتية (الأصالة) وبين الانفتاح (المعاصرة) على التطورات الحديثة التي أنتجها العقل في حضارات أخرى، فلا مجال لتربية حضارية تنغلق عن واقعها المعيش، ولا معنى لتربية حضارية تنسلخ من ذاتيتها ومرجعيتها الأساسية الأصيلة.
والواجب الحضاري في هذا النهج التربوي “للتربية الحضارية” يعني مراجعة السلبيات وعوامل الضعف التي اكتسبتها الشخصية المسلمة عبر قرون الضعف والأفول الحضاري، وتهيئة مناخ تربوي جديد للعوامل الإيجابية التي تساعد على البناء التربوي الإيجابي الحضاري، وهذا يتطلب تصفية عاداتنا وتقاليدنا، وإطارنا الخلقي والاجتماعي، مما فيه من عوامل قتالة، ورمم لا فائدة منها، حتى يصفو الجو للعوامل الحية والداعية إلى الحياة. “وهذه التصفية لا تتأتى إلا بفكر جديد، يحطم ذلك الوضع الموروث عن فترة تدهور مجتمع أصبح يبحث عن وضع جديد هو وضع النهضة، ويتحدد ذلك بطريقتين: الأولى سلبية تفصلنا عن رواسب الماضي، والثانية إيجابية تصلنا بمقتضيات المستقبل”(52).
بناء على ما تقدم فإن “التربية الحضارية” تقوم على مجموعة من المبادئ والمنطلقات الفكرية وهي:
1- جوهرية فكرة “التغيير الذاتي” لتوليد المجتمع الجديد الذي يحمل قيم الحضارة والفاعلية والشروط الأخلاقية والمادية ذات الرسالة العمرانية.
2- تصفية الوراثة السلبية التي كانت سببًا في الأفول الحضاري، فيما يتعلق بالأخلاق والقيم والسلوك، وفيما يتعلق أيضًا بالعوامل التربوية مثل التخلص من آثار الاستعمار الثقافية والقيمية.
3- تجديد كيان الإنسان طبقًا للتعاليم الإسلامية، ومناهج العلم الحديث بحيث لا ينفصل عن أصالته (ذاته) وواقعه ومستجداته العلمية.
4- التأكيد على محورية “الوعي”: الوعي بالذات، والوعي بالماضي والوعي بالحاضر والمستقبل.
5- إعداد الإنسان المسلم ليقوم بدوره في أداء الرسالة وتحقيق الشهادة، وهو ما يتطلب إعادة تنظيم طاقته الحيوية، من ناحية وتجديد علاقته بالرسالة (الوحي) من ناحية أخرى.
6- تحقيق التفاعل والتوازن بين العوالم الثلاثة المشكلة للحضارة: عالم الأشخاص، عالم الأفكار، عالم الأشياء بما يبلغنا مجتمع التحضر ومجتمع الحضارة.
7- تحديد النماذج العليا والأفكار المثالية في العالم الثقافي الذي يستمد مرجعيته من الأفكار المطبوعة (الوحي) والسيرة التاريخية الأولى له، بما يساهم في بناء الإنسان الجديد الذي يتوافق سلوكه في المسجد مع سلوكه في الشارع، أي يتوافق ما يعتقده من قيم مع ما يسلكه في واقعه.
8-بناء مفاهيم تربوية جديدة تتسم بالحيوية والأصالة، بديلة للمفاهيم الجامدة التي سيطرت على إنسان ما بعد الحضارة، أو المفاهيم الاستلابية التي ورثها عن الاستعمار أو الغزو الثقافي والحضاري.
مستهدف التربية الحضارية إذن هو استعادة الإنسان المسلم وعيه بمتطلبات وجوده الحضاري كشرط أساس لدخول مرحلة الحضارة مرة أخرى، وهذا لن يتحقق إلا بتجديد النظر إلى رسالته ووظيفته الكونية من أجل تحقيق “توحيد النماذج” التربوية المعلمة للأمة على امتداد وجودها، وهو المنحى التربوي الذي قامت عليه الجماعة المسلمة الأولى. والآلية المعرفية لتحقيق ذلك هو “بناء نموذج معرفي صالح ومصلح للإنسان المعاصر”، ينتج عنه بالضرورة شخصية حضارية توظف طاقتها الحيوية في بناء حضاري إنساني، تتفاعل فيه الأصالة والمقومات الذاتية والتاريخية الصالحة، مع التطورات الحديثة النافعة.
المحور الثالث: أهداف التربية الحضارية
في ضوء تصور مالك بن نبي للأزمة الحضارية التي تعيشها المجتمعات الإسلامية، ومركزية الإنسان في المعالجة الحضارية ومفهوم التربية الحضارية ومضامينها المعرفية والفكرية والقيمية، يمكن تحديد أهم أهداف التربية الحضارية في تصوره الفكري ومشروعه التربوي الحضاري على النحو التالي:
أولاً: بناء الإنسان
من المفاهيم المركزية عند مالك ابن نبي مفهوم الإنسان، بل هو نواة النموذج المعرفي التوحيدي وغاية التربية الحضارية عنده ، فإن رجل الفطرة هو أحد المكونات الثلاثة لبناء الحضارة في معادلتها المالكية (حضارة = إنسان + تراب + وقت)، والإنسان هو الذي يعطي القيمة لكل من: التراب والوقت، وهو الشرط الأساس في البناء الحضاري، وبتداخل عوامل التربية الحضارية على رجل الفطرة المذكور، فإنه ينتج لنا ما أسماه مالك بـ”الإنسان الجديد” أي الإنسان صاحب الرسالة، حاملها ومبلغها.
إن القضايا الكبرى التي يعاني منها المجتمع سواءً كانت في إطار اقتصادي أو إطار اجتماعي أو إطار سياسي تتصل في جوهرها بالإنسان؛ فالقضية ليست قضية أدوات ولا إمكانيات؛ لذا علينا أن ندرس أولاً الجهاز الاجتماعي الأول وهو الإنسان، فإذا تحرك الإنسان تحرك المجتمع والتاريخ، وإذا سكن سكن المجتمع والتاريخ(53).
لذلك جعل هدف النموذج عنده هو “بناء رجالٍ يمشون في التاريخ، مستخدمين التراب والوقت والمواهب في بناء أهدافهم الكبرى”(54)، أي بناء “الإنسان ” الذي يلزم نفسه “السعي”: ﴿فامشوا﴾ لتحقيق مقاصد الخلق والحق في العمران والتزكية والتوحيد. انطلاقًا من قاعدة ومفهوم “التسخير” بين الإنسان والطبيعة و”الانسجام” و”التوافق” كخصائص أساسية لعلاقة الإنسان بالكون والطبيعة.
أما علاقة الإنسان بحركة التاريخ فيصفها مالك بأنها علاقة اطرادية “فالتاريخ يبدأ بالإنسان المتكامل الذي يطابق دائمًا بين جهده ومثله الأعلى وحاجاته الأساسية، والذي يؤدي في المجتمع رسالته المزدوجة، بوصفه ممثلاً وشاهدًا”(55)، ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ {البقرة:143{.
وعندما يتحلل الإنسان من أداء رسالته الكونية والاجتماعية ويتخلف عن أداء هذه الرسالة؛ فإن ذلك إيذان بنهاية التاريخ وتفكك الحضارة وسكون المجتمع؛ وذلك لافتقاد “فعالية المنظومة القيمية” في الواقع الذي لا يستطيع أن يعمل بدونها “وينتهي التاريخ بالإنسان المتحلل؛ بالجزيء المحروم من قوة الجاذبية، بالفرد الذي يعيش في مجتمع منحل لم يعد يقدم لوجوده أساسًا روحيًا أو أساسًا ماديًا. فليس أمامه حينئذ إلا أن يفر إلى صوامع المرابطين، أو إلى أي مستقر آخر، وهذا الفرار صورة للتمزق الاجتماعي”(56).
يركز بن نبـي – أيضًا- في تناوله لمفهوم الإنسان في ضوء حالة “الأفول الحضاري” للأمة على أن التحلل الذي أصاب الأمة أصاب الفرد أولاً فتحلل الفرد قبل تحلل المجتمع وانحلاله؛ لأن الفرد هو حامل “الرسالة” و”القيم” و”الروح” ومحرك “الوسائل” ومستخدم “الإمكانيات” ووراء كل ذلك تصور أصيل يربط بينه وبين “عالم الغيب” من جهة و”عالم الشهادة” من جهة أخرى، وإن الانقطاع بينهما “في التصور” يؤدي إلى فقد جوهرهما معًا، فيفقد الإنسان أسس البناء الاجتماعي والحضاري، وينـزوي في التاريخ “لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى”.
وهنا يؤكد مالك بن نبي على العلاقة الاطرادية بين “أداء الرسالة” أو “التخلف عنها” وسلامة “التصور” وصحته، هذه السلامة وتلك الصحة التي فُقدت في عهد الضعف الحضاري وأدت إلى “أفول” الإنسان والحضارة في المجتمع المسلم. “فالشخص في ذاته ليس مجرد فرد يكون النوع، وإنما هو الكائن المعقد الذي ينتج حضارة. وهذا الكائن هو في ذاته نتاج حضارة. إذ هو يدين لها بكل ما يملك من أفكار وأشياء”(57).
ووفقًا لمكانة الإنسان في التربية الحضارية عند مالك بن نبي ودوره الأساس في إحداث “النقلة الحضارية” المبتغاة؛ انشغل تبعًا لذلك بالتكوين التربوي للإنسان وطبيعته الإنسانية، والتي رآها مركبة من عنصرين أساسيين عنصر ثابت يحدد كيانه إنسانًا، وعنصر متغير يحدد قيمته كائنًا اجتماعيًا.
وتفصيلاً، يميز بن نبي بين مجالين -فيما يعرف بالطبيعة الإنسانية- لازمين لحياة الفرد، الأول: المجال الحيوي وهو مجال بناء الجسد وهو الذي يمنح الفرد العناصر الضرورية اللازمة لنموه، وهذا المجال يرتبط بالوجود المادي للإنسان، وهو ما يطلق عليه التربويون “الجانب الفسيولوجي، الوراثة”، والمجال الثاني: هو المجال الروحي أو الثقافي وهو الذي يرتبط فيه الفرد بالثقافة التي هي “التعبير الحسي عن علاقة الفرد بهذا العالم” وهو ما يطلق عليه علماء التربية الجانب الاجتماعي”. ويرى أن هذين المجالين ضروريان لحياة الفرد واستمراره فالفرد إذا ما فقد صلته بالمجال الحيوي قررنا أنه مات موتًا ماديًا، وكذلك الأمر إذا فقد صلته بالمجال الثقافي فإنه يموت موتًا ثقافيًا.
والطبيعة الإنسانية تجمع بين الجانب الفسيولوجي الوراثي، والقابلية للتشكل الاجتماعي؛ بل وجوب هذه القابلية لأن انعدامها يعنى موتًا اجتماعيًا، وأن هذه الطبيعة الإنسانية لا تعمل في فراغ؛ ولا تنطلق في تشكلها الاجتماعي من العدم أو من “التبعية” أو “التقليد”؛ وإنما من بعد آخر يشكل فرزًا اجتماعيًا وثقافيًا لرجل الفطرة، ورجل الحضارة هذا البعد وهذه المفرزة الاجتماعية هو “التكليف الذي ينظم العلاقة الداخلية لهذه السلطة المزدوجة تنظيمًا يكون معه عمل الغرائز واندماجها مطابقًا لرسالته الاجتماعية”(58).
والرسالة أو الوظيفة الاجتماعية التي يقصدها مالك هنا هي تلك التي رسمها القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ {آل عمران:110} والمعروف في أعم صوره، والمنكر في أشمل معانيه يكوِّنان جوهر الأحداث التي تواجهنا يوميًا كما يكونان لُبَّ التاريخ.. وهذا هو المعنى العام للفعالية، وشرطها الأول هو الذي يحدد موقف الإنسان إزاءها بصفته صانعًا للتاريخ ومحركًا له”(59).
وصناعة الإنسان للتاريخ تفترض محددين أساسيين في طبيعته الإنسانية وهما: الحرية والمسؤولية، وكلاهما متلازمان في التصور الإسلامي فلا حرية بلا مسؤولية، ولا مسؤولية بلا حرية، والمسؤولية للإنسان تتحدد بتحويل الرسالة الكونية إلى وظيفة اجتماعية أو الوظيفة إلى رسالة، وهو ما يمثل طرفي المعادلة الكونية الاجتماعية حيث يؤدي الإنسان رسالته ووظيفته ضمن منظومة قيمية مستمدة من “التكليف” الذي قرر “أن الإنسان مؤتمن ومستخلف” على هذه الرسالة وفي هذه الوظيفة الأرضية الإلهية: رسالة التوحيد، والتزكية والعمران.
ويدعو مالك بن نبي إلى تجديد أفكار بناء النظام التربوي في المجتمع، لكي يتمكن من بناء “الإنسان” الجديد ذي الرسالة والوظيفة، من خلال “النموذج” المستمد من “التكليف” الإلهي، والذي يتضمن تحويل الإنسان من كائن بيولوجي إلى كائن رسالي، وهذه إحدى جوانب التربية الحضارية عند مالك وتتمثل في بناء نظام تربوي اجتماعي يتضمن أفكارًا واضحة عن العلاقات والانعكاسات التي تنظم استخدام الطاقة الحيوية في مستوى الفرد وفي مستوى المجتمع، بما يؤهل الفرد والمجتمع للقيام بالواجب الحضاري في ضوء نظام تربوي قادر على اكتشاف القدرات الكامنة والظاهرة في الإنسان وتوظيفها لصالح البناء الحضاري المنشود.
والفكرة الدينية تعمل في هذا النظام التربوي الجديد على تكوين نظام الانعكاسات لدى الفرد المكيف المشروط، كما تعمل على تكوين شبكة العلاقات التي تتيح للمجتمع أن يؤدي نشاطه المشترك. فبقدر ما تكون هنالك فكرة واضحة تمام الوضوح عن دور هذا العنصر (الدين) في (ميلاد مجتمع) يمكن أن تكون هنالك فكرة دقيقة تمام الدقة عن دورها الذي يمكن أن تؤديه في (نهضة) هذا المجتمع. وبهذا ندرك القول “إنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، بمفهومه الاجتماعي الدقيق”(60).
ويناقش مالك بن نبـي قضية أخرى تتعلق ببناء الإنسان كمهمة أساسية للتربية الحضارية وهى: الفردية والاجتماعية، والحدود بينهما والعلاقة والأدوار، فإذا كان النموذج الغربي الرأسمالي يعلي من “الفردية” حتى درجة التأليه، والنموذج الغربي “الشيوعي” يعلي من “الجماعية” حتى درجة إلغاء وجود الفرد واحتياجاته الخاصة وتفرده وتنوعه، فإن “النموذج التوحيدي” القائم على “التوازن” لا يلغي أيًا منهما، بل يساهم في تحديد الأدوار والعلاقات بينهما بما يحقق هذا “التوازن”.
ويحلل مالك حالة الاتصال بين الفرد والمجتمع في حاجة كلٍّ منهما إلى الآخر، فالفرد الذي يولد مزودًا بـ”الطاقة الحيوية” تتطلب إطارًا اجتماعيًا لتنظيم نشاطها في المجتمع، وهو ما يتطلب من الفرد “الاستجابة لنسق من أصول وقواعد في الحياة الاجتماعية… لأنه إذا ما ركن الفرد لقدرته وحدها وإرادته وحدها دون المجتمع، فإنه يصبح مجرد قشة ضعيفة… ولو ألغينا على سبيل الافتراض واحداً من أشكال الطاقة الحيوية (كالدافع الغذائي أو دافع التملك أو الدافع الجنسي) فإن جميع الإمكانات البيولوجية لحياة اجتماعية ما سوف تُلغى دفعة واحدة، وإذا افترضنا أننا فعلنا العكس وحررنا الطاقة الحيوية من كل قيد، فإن النظام الاجتماعي سيجد نفسه وقد أخلى موقعه لنظام طبيعي خالص”(61).
والقاعدة التي تحكم العلاقة بين الفرد والمجتمع وفقًا لخاصية التوازن هي قاعدة “العمل المشترك” “فالعمل المشترك يستدعي إيقاعًا ووزنًا يُوَتِّران الجهود الفردية، ويفرغانها في الوقت نفسه داخل الجهد الجماعي”(62).
ويشير مالك بن نبي في جانب آخر إلى أهم العوائق التي تقف حائلاً أمام التربية الحضارية للمسلم المعاصر، هذه العوائق تجذرت في ثقافة الإنسان المسلم المعاصر، التي طرأت عليه بعد أفول الحضارة الإسلامية. ومن هذه العوائق ما يلي:
1- رد حالة التخلف عن أداء الرسالة التي يعيشها المسلم إلى “مستوى الأشياء، لا مستوى الأفكار، واستبعاد المقاييس الفكرية”(63).
2- انفصال مسلم عصر الاستعمار ما بين “العنصر الروحي والعنصر الاجتماعي”، وما بين المبدأ والحياة، هذا الانفصال الذي مزق شخصه إلى شطرين: شطر ينظم سلوكه في المسجد، وشطر ينظم سلوكه في الشارع”(64).
3- إدراك عالم الضرورات من خلال “الآخر” “المستورد” ومن ثم فهو عالم “غير حقيقي – مزيف” “لأنه لم يصنعه بنفسه، وإنما فرضته عليه النـزعة الاستعمارية على نشاطاته وعلى أذواقه بالتدريج”(65).
4- الذرية، وهي من لوازم العقل العاجز عن التعميم، وهي من طرز العقل الإنساني عندما يقصر عن بلوغ درجة معينة من التطور والنضج، أو كما صار إليه العقل بعد عصر ابن خلدون في العالم الإسلامي، عندما توقف كل جهد عقلي(66).
ومن آثار النـزعة الذرية – أيضًا – أن تجعل تفكيرنا عاجزًا عن ضم مجموعة من الأفكار في اطراد واحد طبقًا لتسلسلها ضمًا يحول بين عقلنا وبين تتبع الفكرة في حركتها المنطقية… بما يؤدي إلى: تحطيم وحدة المشكلات العضوية وتجزئة الحلول … وهي التعبير عن التفكير (الذري) في الواقع المحس… والذي يظهر في العجز عن صياغة حكم صحيح عن ذلك الواقع؛ لأن الحكم يفترض قاعدة يجب الرجوع إليها ومقياسًا تقاس به الأمور، أي يفترض تركيب مجموعة أفكار وتنسيقها، أي أن إصدار (الحكم) يفترض عمليات ذهنية لا تتفق مع التفكير الذري(67).
ما يشير إليه مالك هو جوهر “النموذج المعرفي التوحيدي” الذي تستمد منه التربية الحضارية أصولها المعرفية والذي يقوم على تحقيق رؤية معرفية شاملة، ومنظومة كلية للنظر في الظواهر وتحليلها وتقديم نماذج تفسيرية مستمدة من الوحي الذي تختص به منظومتنا الحضارية في منظومة تفكيرها. والنموذج المعرفي التوحيدي يمثل الإطار المرجعي لمنهاجية نظر المسلم وبنائه التربوي، وهذا الإطار المرجعي من المنهجية تصفه منى أبو الفضل “بأنه في موضعه يشغل موضع الخريطة الأساسية للملامح العامة للموقع محل الرضى والنظر والحركة، فهي تتيح وضع المفاهيم في مواضعها وإخراجها من قوالبها المستقلة، لتوصيلها فيما بينها، وتشغيلها في تشكيلاتها المتباينة في اتجاه معلوم… وهذه الأطر المرجعية هي الكفيلة بتأكيد فعالية المنهجية، إذ عليها يتوقف ضبط وتحريك الوحدات الجزئية، وإقامة العلاقات الارتباطية بينها، وتمييز المستويات وترتيب الأولويات في ضوء المنظومة القيمية التي تنطوي عليها هذه الأطر”(68).
وفي جانب المقارنة بين المنظور الغربي والمنظور الإسلامي للإنسان ينتقد مالك بن نبي المنظور الغربي للإنسان، وذلك من خلال تجليات هذا المنظور في النـزوع السلوكي الغربي المتمثل في التمييز بين النوع الإنساني انطلاقًا من الشعور بسامية الإنسان الأبيض في مقابل باقي أفراد النوع الإنساني “فكل ما ليس بأوروبي فهو أهلي ومتوحش، والإنسان الأبيض هو الرشيد المتحضر، والإنسان الملون هو المتهمج دون رجعة، والمتخلف بصورة مزمنة”(69).
ويُرَد جذور هذا التحيز الغربي لمفهوم الإنسان إلى تأثير الفلسفة الرومانية والإغريقية التي كانت تصنف الناس وتميز بينهم دون معايير موضوعية (الحر والعبد) (السادة والعبيد)، هذه الفلسفة التي أُدمجت في البرنامج التربوي للأسرة الغربية، “إذ أن الفرد الأوروبي يحمل جراثيم هذه الكبرياء دائمًا لأنه يتلقاها من البيئة الأسرية التي ينشأ فيها منذ الطفولة، ويتكون فيها تصوره للعالم وللإنسانية، فهو يعتقد على وجه الخصوص، أن التاريخ والحضارة يبتدأن من أثينا، ويمران على روما، ثم يختفيان فجأة من الوجود لمدة ألف عام(*)، ثم يظهران من جديد بباريس في حركة النهضة. أما قبل أثينا فليس شيء يذكر في ذهن هذا الفرد المشحون بالكبرياء الذي لا يرى بين أرسطو وديكارت إلا الفراغ… إن هذه النظرة الخاصة للغربيين هي التي تشوه منذ اللحظة الأولى فلسفة الإنسان عندهم، وتشوه بالتالي السياسة الغربية فيالعالم”(70).
هذا التأسيس المنهجي للتحيز الغربي في رؤيته للإنسان والكون والعالم وُجد له امتداد في الفكر الإسلامي المعاصر، حيث يرى عبدالوهاب المسيري ( 1938-2008) أن المنظومة الغربية وضعت الإنسان في مركز الكون (نظريًا). ولكن هذا الإنسان لا تحده حدود ولا تقيده قيود ولا يرتبط بأي قيم (باستثناء سلم القيم والمعايير الذي يقرره هو)… وبدلاً من أن يصبح العالم مادة استعمالية لكل الجنس البشري، أصبح العالم ومعه الجنس البشري مادة استعمالية للجنس الأبيض (صاحب القوة). وبدلاً من أن يقف الإنسان في مركز الكون وقف الإنسان الأبيض فيه ومارس إحساسًا بهذه المركزية وضرورة الحفاظ عليها وفرضها على الآخرين”(71).
وهو ما ظهر لاحقًا في الرؤية المعرفية الإمبريالية التي هيمنت على عقل الإنسان الغربي، وعلى رؤيته للعالم، وبعدها ظهر التشكيل الإمبريالي الغربي، حين قرر الإنسان الأبيض – بعد عصر نهضته وبعد إحساسه بمركزيته – السيطرة على الكون (الإنسان والطبيعة) من خلال سياساته الاستعمارية والإبادية لأجناس بالكامل(72).
والتشوه الثاني في رؤية الغرب للإنسان تتمثل في النظرة الكمية والإحصائية، “والتشيؤ الذي حول الإنسان إلى حقل تجارب في المختبرات وعمليات المصنع وحاجات الجيش”(73)، وهذا التشوه في الرؤية الكلية الغربية للإنسان هو نمط التحيز الذي يصفه المسيري بـ”التحيز الطبيعي والمادي على حساب الإنساني وغير المادي. وهو تحيز ضد الطبيعة البشرية لصالح الطبيعة المادية وطبيعة الأشياء.. وهو ما أخضع الإنسان لمطلق قوانين الضبط والقياس والتحكم التي تُستخدم في العلوم الطبيعية.. وهو ما نجم عنه تحيز ضد الغائية وإسقاط للأبعاد الأخلاقية والنفسية والإرادية”(74).
والتشوه الثالث الذي يرصده في الرؤية الغربية عن الإنسان هو إهمال الإنسان في مقابل التقدير الكمي المهيمن على أفكار الحضارة الغربية، أو ما يسميه مالك “احتقار الإنسان بدعوى الواقعية واعتبار الإنسان نقطة حقيرة على وجه الأرض، وهو ناتج عن التقدير الكمي، لأن كل ما هو تقدير كمي هو تقدير لشيء لا قيمة له أي مجرد نقطة”(75).
وهذا التشوه أشار إليه عبدالوهاب المسيري بشيء من التنظير والتوسع في نقده للنموذج المعرفي الغربي “الذي يضم نـزعات عدمية معادية للإنسان، فهو مشروع يصفي ظاهرة الإنسان كظاهرة متميزة في الكون… فالمشروع المعرفي الغربي كافر بالمعنى العميق للكلمة، فهو ليس كافرًا بالإله وحسب، وإنما هو كافر بالإنسان – أيضًا- إذ يعلن موت الإله ثم موت الإنسان باعتباره كائنًا متميزًا عن الطبيعة ثم ينتهي به الأمر إلى أن ينـزع القداسة عن كل شيء وينكر المعنى”(76).
وفى المقابل يقارن مالك بن نبي هذا المنظور الغربي للإنسان بالمنظور الإسلامي الذي يقوم على أساس التكريم للإنسان كل الإنسان، لأنه يرتبط أساسًا بنظرة التكريم الإلهي وفقًا للإنسان العقدي ذو الإحساس الغيبـي “وهذا التكريم ليس خاصًا بالعربي أو المسلم؛ بل بكل نوع “ذي اليدين” كله من ذرية آدم، ذي اليدين الذي يتمتع في نظر الضمير المسلم بقيمة تفوق كل قيمة طبيعية تحتمل الكم… فالإنسان في نظر المسلم ليس “الكم”؛ بل الصفة التي قرنها الله بالتكريم في سلالة آدم، فالمسلم يُكَرِّم هذه الصفة بصورة مطلقة، ولهذا التكريم في الإسلام آثاره المحسوسة في الحياة: في التشريع، وفي الآداب، وفي العادات…”(77).
ويضرب مثالاً لتقدير المسلم لكل نوع الإنسان وأفراده فيما أنتجه من أدب وفكر لاسيما أدب الرحلات مثل رحلات ابن بطوطة والمسعودي حيث”… لا نرى في اتصالهم بالشعوب والقبائل البدائية المكتشفَة أي تشويه لإنسانية هذه الشعوب، أو أي آثار للكبرياء في علاقات الإنسان المتحضر العربي إزاء الإنسان البدائي، ولا نجد فيما كُتب في أدب هذه الرحلات عبارات سخرية أو احتقار مثل العبارات التي أوجدتها لغة الاستعمار للتعبير عن الإنسان المستعمَر”(78).
ثانيًا: العمران التربوي الثقافي
المشروع التربوي عند مالك بن نبي يقوم على إعداد الإنسان الذي يمتلك “ثقافة صالحة” قادرة على استدعاء حيوية “الأفكار” وفعاليتها، فالثقافة هي الطاقة الحيوية لعقل الإنسان المتحضر، “وتقوم الثقافة بوظيفة الدم، فهو يتركب من الكريات الحمراء والبيضاء، وكلاهما يسبح في سائل واحد من “البلازما” ليغذي الجسد. والثقافة هي ذلك الدم في جسد المجتمع يغذى حضارته، ويحمل أفكار الصفوة، كما يحمل أفكار العامة وكل من هذه الأفكار منسجم في سائل واحد من الاستعدادات المتشابهة، والاتجاهات الموحدة، والأذواق المتناسبة”(79).
والثقافة – إذا ما رددنا الأمور إلى مستوى اجتماعي – “هي حياة المجتمع، التي بدونها يصبح مجتمعاً ميتاً”(80)، والثقافة- أيضًا- هي “التعبير الحسي عن علاقة الفرد بهذا العالم أي بالمجال الروحيNoosphareالذي ينمي فيه وجوده النفسي، فهي نتيجة هذا الاتصال بذلك المناخ”(81).
الثقافة في ضوء هذه المعاني تشمل دوائر ثلاث: دائرة الفرد، ودائرة المجتمع، ودائرة الحضارة، وقد عُنيَ مالك بن نبي بهذا المفهوم الذي هيمن على مشروعه الفكري وإنتاجه المعرفي. والثقافة هي التي تحدد طرائق التفكير في مجتمع ما ومنهجيته، وتحدد المقاييس الذاتية التي يحكم بها الفرد على الأشياء والأفكار والطبيعة، فضلاً عن توجيه السلوك الاجتماعي للفرد نحو المواقف والقضايا المختلفة، وإجمالاً “إن الثقافة تحدد في الواقع الأصول التربوية الشخصية في الفرد، كما تحدد الأصول التربوية الاجتماعية، أو أسلوب الحياة وطرائقها للمجتمع.
وينبه مالك إلى إشكالية تتصل بجذور الثقافة التي ينشأ الفرد عليها، وتنتقل إليه عبر عقود طويلة أو قرون، بما تحمله من عناصر صالحة أو فاسدة، ويرى بأن التساؤل الأساس الذي ينبغي طرحه هنا هو “كيف ينقل المجتمع هذا التراث إلى الفرد”(82)، والكيفية هنا لا تسأل عن آلية النقل فحسب إذ أن التراث الثقافي يُنقل عبر وسائط التربية والتنشئة المعروفة. ولكن سؤال التراث – أيضًا – ينبغي أن يتناول منهجية نقل التراث، وكيفية التعامل معه، والمصفاة العلمية والمجتمعية لحجب الفاسد منه أو غير الصالح زمانًا ومكانًا إلى الأجيال الجديدة. إنه البعد التربوي للثقافة الذي ينبغي أن يتساءل ما الذي يجب نقله؟ وما الذي لا يجب نقله؟ وما الذي ينبغي تجديده وإحياؤه؟
أما منهجية مالك بن نبي في بناء مفهوم العمران الثقافي فقد سارت كالتالي:
الخطوة الأولى: نقد المفهوم الغربي للثقافة.
الخطوة الثانية: تحديد شروط تحقق “الثقافة الصالحة”.
الخطوة الثالثة: بناء المفهوم وفقًا للخصائص والشروط السابقة.
الخطوة الرابعة: تحويل مفهوم الثقافة لبرنامج “تربوي” تغييري لبناء الإنسان المعاصر”.
الخطوة الأولى: نقد المفهوم الغربي للثقافة
انتقد مالك بن نبي المفهوم الغربي للثقافة سواء كان المفهوم الرأسمالي القائم على العناية بالفرد واعتباره محورها الأساسي، أو الاتجاه الاشتراكي القائم على اعتبار الأولوية للمجتمع والفرد تابع له؛ “فبعض الاتجاهات تقدم الجانب الفردي، معتبرين أن الثقافة قضية الإنسان الفرد، وآخرون يقدمون الجانب الاجتماعي ذاهبين إلى أن الثقافة “قضية المجتمع” إذ هي تمثل في نظرهم صورة اشتراكية بالمعنى التكويني للكلمة…وهذا ينتهي بنا إلى نظريات عرجاء، تحجل ولا تستطيع المشي”(83).
يظهر واضحًا من خلال الإدراك الغربي لمفهوم “الثقافة” أمران: الأول، فشل الأيديولوجية الوضعية في تحديد المستوى “القيمي” الأعلى لبناء الإنسان، وهو ما يدفعنا إلى البحث عن نموذج معرفي آخر لتحديد هذا المستوى القيمي، وهو عند مالك النموذج الذي ينطلق من “بعد السماء”، و الذي يشكل إنسان الفطرة وإنسان الحضارة. والثاني، إدراك الخصوصية الثقافية التي تحاول العولمة الإعلامية والتكنولوجية اختراقها عبر مؤثرات جاذبة، وتخليق هويات جديدة في عالمنا الإسلامي تسعى إلى سلخ الإنسان المسلم من ذاته الحضارية للدخول في ذوات متعددة أخرى لا يفلح بالاندماج فيها.
وهو الأمر الذي أصاب الشخصية المسلمة المعاصرة وجعلها كالمسخ لا هي تتمتع بالأصالة الكافية بما يمكنها من صناعة حضارتها، ولا هي بالمتغربة بما يمكنها من الاندماج الكامل في المجتمع الثقافي الغربي. فوقفت بين بين كالمذبذب ” لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء”.
ويعالج هذا الجنوح بين نقيضي مفهوم الثقافة بإحلال خاصيتي “التكامل” و”التوازن” باعتبار أن الثقافة قضية تخص “الفرد والمجتمع معًا”، ويساهم فيها “الفرد والمجتمع” بنسب متفاوتة لا نستطيع معها الفصل أو التحديد لإدراك الغالب فيها، ومؤشر الثقافة في أي مجتمع هو مؤشر فردي اجتماعي – أي الفرد والمجتمع – لا يمكن إغفال أحدهما على حساب الآخر. ” إذ من العسير أن نصل إلى تمييز موضوعي بينهما في ظاهرة التثقيف، إذ إننا ندرس بعامة هذه الظاهرة في مرحلتها الحركية، أي في الحالة التي تكون فيها عناصرها مندمجة في حركة متواصلة، وفي هذه الحالة يصبح من العسير أن نحدد أيًّا من العناصر التي كانت سببًا في الحركة”(84).
والفرد نواة المجتمع، وهو المركز في البناء الحضاري الجديد، لذا فهو بحاجة إلى إعادة تأهيل وإعداد من خلال برنامج تربوي صالح يمكنه من إدراك دوره الاستخلافي ووظيفته الحضارية ورسالته العمرانية. ومن ثم فهو يدعو إلى بناء “الإنسان المتجدد، المتحضر والمؤهل للعودة إلى التاريخ الذي خرجت منه حضارتنا”(85)، والتراث الحضاري مكوّن أساس لثقافة إنسان الحضارة وعناصر تربيته، ومكوّن أساس في منهجه التربوي، ولا يمكن للنظام التربوي أن يتجاهل عنصر التراث بعد تصفيته من العناصر الجامدة، وتفعيل العناصر الحية ذات الفعالية.
الخطوة الثانية: خصائص مفهوم “الثقافة الصالحة”
يرى مالك أنه لا يمكن الاعتماد على أي من المفهومين (الماركسي والرأسمالي) فيما يتصل بحالة الثقافة في عالمنا العربي – الإسلامي، وذلك لاختلاف الظروف النفسية والزمنية في هذا العالم عن مثيلاتها في الحضارة الغربية. فسؤال الثقافة في العالم العربي والإسلامي يتعلق بمعنى آخر مختلف تمام الاختلاف، إذ هو يتصل بخلق واقع اجتماعي معين لم يوجد بعد(86).
فعالمنا العربي والإسلامي عندما يولد أو عندما ينهض لا يكون لديه عالم الأشياء – كما يوجد في المجتمع الأمريكي على سبيل المثال – وبالتالي لا يكون لديه سوى “عالم الأفكار” يلتمس فيه إخصاب فكره، وبواعث ثقافته. أي مبادئ التجديد والخلق والإبداع. ومن أجل ذلك لا يمكن أن تستورد الحلول كما تستورد من الخارج قضبان الحديد أو المواد الخام”(87).
وهذا ما جعله ينحو منحى مختلفًا حين يحدد خصائص الثقافة في المجتمع العربي والإسلامي، فالبرنامج الثقافي في المجتمع الإسلامي المعاصر ينبغي أن يسعى إلى خلق “ثقافة” حية وباعثة تقوم على مبادئ: التجديد والخلق والإبداع تتوافق مع الظروف النفسية والزمنية الخاصة بهذا المجتمع. وهذا المفهوم الجديد للثقافة عند مالك بن نبي يمكن وسمه بـمفهوم “الثقافة الصالحة”، حيث إنه لا يعتبر كل ثقافة قادرة على “التغيير الحضاري”، فهناك ثقافة” تحمل “أفكارًا ممرضة” تنقل الأمراض الاجتماعية من جيل إلى آخر، ومن اللازم أن ندرك أنه لا يمكن تعريف “ثقافة حية وباعثة “دون أن ندرك خطر هذه الجراثيم التي يتحتم القضاء عليها”(88).
و”التدرج” هو الخاصية الأولى لتكوين “الثقافة الصالحة” في برنامج التربية الحضارية لمجتمع التحضر أو المجتمع المتطلع إلى النهوض الحضاري، أو المجتمع الذي ينتقل من مرحلة ما قبل “التحضر” إلى مرحلة “التحضر”، كما يؤكد– أيضًا- على خاصية “الوحدة”، في ثقافة المجتمع المتحضر أو الذي ينتقل إلى مرحلة الحضارة، وهي سمة تظهر التماسك النفسي والوجداني لمجتمع ما إذا ما توافرت في عنصر ثقافته، وهو ما توفر لحظة ميلاد المجتمع الإسلامي في تجربته التاريخية الأولى والذي اتحدت فيه ثقافة الخليفة مع ثقافة البدوي البسيط.
والخاصية الثالثة التي يرى ضرورة توافرها في “العمران الثقافي” كأهم أهداف التربية الحضارية هي “التآلف والتركيب” الذي ينبغي أن يحكم العلاقات بين أفراد المجتمع، “فالشرط الأول لتحقيق مشروع ثقافة هو: الصلة بين الأشخاص(89)، والقرآن يعطينا فكرة عن قيمة هذه الصلة حين وجه خطابه إلى النبي rقائلاً: ﴿ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾{الأنفال:63} فأساس كل ثقافة هو بالضرورة “تركيب” و”تأليف” لعالم الأشخاص، وهو تأليف يحدث طبقًا لمنهج تربوي يأخذ صورة فلسفية أخلاقية. فالأخلاق هي أولى المقومات في الخطة التربوية لأية ثقافة”. والتركيب يعني – أيضًا – “أن الأفكار والأشياء لا يمكن أن تتحول إلى عناصر ثقافية إلا إذا تآلف أجزاؤها فأصبحت “تركيبًا” فليسللشيء المنعزل أو الفكرة المنعزلة معنى أبدًا”(90).
ففي المجال الطبيعي مثلاً، لا يمكن أن تتجمع الألوان والأصوات والروائح والحركات والأضواء والظلال… وأن تتمثلها ذاتيتنا إلا إذا اتخذت صورة “تركيب” فأصبحت مجموعة من الألوان، وطائفة من الأصوات، وباقة من الروائح، وكتلة من الحركات، وحزمة من الأضواء والظلال… ومن مجموع هذه التراكيب الجزئية يتألف تركيب عام هو “الثقافة”(91).
الخطوة الثالثة: بناء مفهوم “الثقافة الصالحة” ماهيته، شروطه
يؤسس مالك بن نبي لمفهوم “الثقافة الصالحة” على فرضية معرفية – اجتماعية، مفادها أن الأفكار التي تحملها الثقافة من جيل إلى جيل ليست صالحة في كل الأحوال كي تصنع التغيير الحضاري، وإنما ترتبط فاعلية الأفكار وصلاحيتها الثقافية بمجموعة من الشروط النفسية والزمنية التي ينطبع بها مستوى الحضارة في المجتمع، وهو مستوى قد يتغير بطريقتين:(92).
الأولى: عندما يرتفع مستوى الحضارة تُعرض له في الطريق أفكار ليست من بين القوى الجوهرية التي نتجت عنها الحركة التاريخية، فإذا بها تتقادم ثم تختفي.
الثانية: عندما يهبط المجتمع تنقطع صلة بعض الأفكار بالوسط الاجتماعي ذاته، أي تنقطع بالمنابع الخلقية والعقلية التي صدرت عنها، فتكتسب هذه الأفكار وجودًا صناعيًا غير تاريخي وبذلك تفقد كل معنى اجتماعي.
وهذا يعنى أن الفكرة لا تحيا ولا تتحقق لها فاعلية إلا في وسطها الاجتماعي وإطارها الثقافي، أي أن الأفكار المستعارة لا تستطيع، ولا يكتب لها النجاح في الواقع الإسلامي؛ بل تتحول إلى أفكار انتقامية، تنتقم ممن نقلها؛ لأنها لا ترتبط بجذور حياة في الوسط الاجتماعي والإطار الثقافي الجديد. وهذا لا يختص “بالفكرة” فقط؛ بل بالأشياء أيضًا. إذ أن الفكرة والشيء لا يكسبان قيمة ثقافية إلا في ظل شروط نفسية وزمنية تتوفر لاكتساب تلك القيمة.
والثقافة عملية يتبادل فيها الفرد والمجتمع التأثير، الفرد بخصائصه والمجتمع بظروفه وقيمه، وهو ما ينتج لنا عملية أطلق عليها مالك عملية “تثقيف”. وعملية التثقيف تمر بمرحلتين متميزتين: المرحلة الحركية (الديناميكية) والمرحلة الساكنة (الاستاتيكية). وهاتان المرحلتان يندمج فيهما دور الفكرة ودور الشيء … ولا مجال لأن ننكر دور الشيء في خلق الثقافة، ولكن لا يمكن بحال أن نخضع له الفكرة، بل ينبغي أن نعترف لها بأسبقية معينة… والواقع أن أي مجتمع في بدايته لا يكون قد شاد بعدد “عالم أشيائه”؛ بل كل ما هنالك أن “عالم أفكاره” يبدأ في التكوين، دون أن يشتمل – أحيانًا – إلا على بوادر تفكير أيديولوجي(93).
إن فاعلية الأفكار رهن بشروط نفسية واجتماعية تتنوع بتنوع الزمان والمكان… إن النشاط الاجتماعي والثقافي لفكرة ما مرتبط في الواقع ببعض الشروط النفسية والاجتماعية التي بدونها تفقد الفكرة فاعليتها. ومن وجوه هذه الشروط هو وجود العلاقة العضوية التي تربط بين الفرد و”عالم الأفكار” من ناحية، و”عالم الأشياء” من ناحية أخرى. “فإذا ما انعدمت هذه العلاقة لم تعد للفرد سيطرة لا على الأفكار ولا على الأشياء، فهو يمر بها دون أن يتصل بكيانها، ويتعلق بظواهر الأشياء دون أن يتعمقها، ويلم بالأفكار بعض إلمام دون أن يتعرف عليها… وهو ما حدث تمامًا في المجتمع الإسلامي حتى القرن التاسع عشر، فإن أحدًا لم تكن لديه قدرة ما على استنطاق فكرة ابن خلدون(94).
ويمكن التمييز بين “الثقافة” و”العلم” انطلاقًا من كون الثقافة هي التي تشكل “القيم” التي ينطلق منها العلم، كما تعطي “القيم” – أيضًا- أبعادًا أكثر خصوصية للظواهر الاجتماعية والسياسية، وهذا التمييز يرتبط بـ “الثقافة الصالحة” التي تعتمد على بُعد “الأصالة” في تكوينها، وكل ما يصدر عنها من أفكار وقيم.
ومن ناحية أخرى يمكن إدراك العلاقة بين الثقافة والعلم على النحو الذي يؤكد “أن الثقافة تولِّد العلم دائمًا، والعلم لا يولد الثقافة دومًا”(95)، ولا يمكن استبدال أحد هذين المفهومين بالآخر. إن هذا التمييز أساسي، أولاً: لدى وضع برنامج يهدف إلى الارتفاع بالثقافة في برنامج التربية الحضارية، وثانيًا: في فهم الظواهر الاجتماعية والسياسية ذات الأهمية الأساسية. والثقافة – أيضًا- تعطي العلم السلوك الغنى الذاتي، وتعطى امتلاك القيم الإنسانية التي تخلق الحضارة.
وفي ضوء هذه الخصائص والشروط يمكن طرح تعريف “للثقافة” بأنها: المحيط الذي يعكس حضارة معينة، والذي يتحرك في نطاقه الإنسان المتحضر، وتضم فلسفة (الإنسان)، وفلسفة (المجتمع)، أي مقومات الفرد ومقومات المجتمع، مع الأخذ في الاعتبار ضرورة انسجام هذه المعطيات في كيان واحد، تحدثه عملية التركيب التي تجريها الشرارة الروحية، عندما يؤذن فجر إحدى الحضارات. والمقصود بالمحيط هنا “مجموعة الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي تمثل رأس المال الأولي للفرد في الوسط الذي نشأ فيه”(96)، والثقافة – أيضًا- هي “الإطار العام الذي يطبع أسلوب الحياة في مجتمع ما وسلوك الفرد بطابع خاص، يختلف عن الطابع الذي نجده في حياة مجتمع آخر”(97).
الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية تمثل التحيز الثقافي، وفلسفة الإنسان أو مقومات الفرد – وهي شكل العلاقات الاجتماعية والانسجام بين مقومات الفرد ومقومات المجتمع – تمثل نمط الحياة. أما الشرارة الروحية فهي الطاقة الدافعة القرآنية التي وهنت في عصر التراجع الحضاري، والتي يراهن عليها مالك في البرنامج التربوي الثقافي لإعداد إنسان الحضارة أو رجل الفطرة أو الإنسان المتكامل.
والمحيط الذي ينشأ فيه الفرد هو خليط من عالم الأفكار والأشياء والتي يدخل معها في حالة جدل دائم ومستمر “فالمحيط الداخلي الذي ينام الإنسان في ثناياه ويصحو، والصورة التي تجري عليها حياتنا اليومية تكوِّن في الحقيقة إطارنا الثقافي… وفي الإطار الثقافي يحدثنا الشيء بما فيه من مادة بلغة موضوعية تهم الكيميائي أو التاجر، كما يتحدث بما انطوى عليه من روح بلغة ذاتية تؤدي إلى روح الطفل والشاعر والموسيقي والمخترع رسالة ملغزة، قد ينكشف مضمونها في إحدى لحظات فقدان الشعور…وبذلك نستطيع أن نفهم أن “شيئًا “ما قد يموت بصورة ما إذا ما قطع عن وسطه الثقافي المعتاد، إذ أن لغته خارج هذا الإطار تفقد معناها”(98).
وهذا الارتباط بين الفرد ومحيطه الاجتماعي – الثقافي يفسر لنا مقولة أن الفكرة التي تخرج عن وسطها الثقافي تموت، ولا يكتب لها الحياة؛ لأنها فقدت جذور الحياة وتربتها ووسائل التغذية. ويفسر لنا – أيضاً – دعوة مالك إلى التجديد الثقافي لا النقل الثقافي أو الاستعارة، فالأفكار التي تنتقل من وسطها الثقافي إلى وسط ثقافي آخر تمارس دورًا انتقاميًا لها لا دورًا تجديديًا أو إحيائيًا. ويفسر لنا أيضًا دور التنشئة الاجتماعية والأسرة مهد التربية التي يتعلم فيها الطفل اللغة والرموز، وما للغة من تأثير واضح وعميق في بناء الشخصية وفي إكساب الهوية، ودور الوحي القرآني في ضبط اللسان والمفاهيم في عالم الأفكار والأشياء، واللغة هي وعاء الفكر وملمح التنشئة الاجتماعية ومظهرها والوجه الآخر للثقافة.
إن الانسجام بين الفرد والمجتمع، هو انسجام الأطراف والأقطاب التي تبدو في ظاهرها متناقضة في الثقافة الواحدة؛ ولكنها تنـزع إلى خاصية “التكاملية” في الوعي الثقافي للفرد والمجتمع، وهي أحد العناصر الأساسية في التربية الحضارية، وهي تعبير عن خاصية التوازن في التصور الإسلامي الذي لا يعرف الجنوح أو الانحياز لعناصر الفطرة الإنسانية أو المكتسبات المجتمعية، فهي جميعًا مكونات أصيلة في بشرية الإنسان على الأرض.
الخطوة الرابعة: تحويل مفهوم الثقافة إلى برنامج تربوي
لم يبحث مالك بن نبي في مفهوم “العمران الثقافي” للوصول إلى نظرية فلسفية أو اجتماعية خاصة بهذا المفهوم، وإنما ذهب في بحثه إلى تقديم إطار معرفي لمفهوم الثقافة يتضمن آليات وأدوات لتحويله إلى مشروع للمعالجة والنهضة الحضارية متمثلة في تغيير الإنسان الذي هو نواة وغاية التربية الحضارية، وهذا ما حدده عند درس مفهوم الثقافة، بقوله ينبغي علينا أن نتصور تعريفًا للثقافة، لا من زاوية نظرية فحسب؛ بل لابد أن يضاف إليها وجهة النظر العملية والتربوية.
ويشير إلى الثقافة بمعناها التربوي باعتبارها ليست علمًا خاصًا لطبقة من الشعب دون أخرى؛ بل هي دستور تتطلبه الحياة العامة، بجميع ما فيها من دروب التفكير والتنوع الاجتماعي(99).
يسعى مالك – أيضًا – إلى ربط الثقافة وتحققها بترجمتها إلى برنامج تربوي قابل للتحقق الحضاري، ويبدو ذلك واضحًا حين يحاول الربط بين مفهوم الثقافة والحضارة، و”في ضوء هذا الربط تصبح الثقافة نظرية في السلوك أكثر من أن تكون نظرية في المعرفة، وهذا يجعلنا ندرك أن السلوك الاجتماعي للفرد خاضع لأشياء أعم من المعرفة، وأوثق صلة بالشخصية منها بجمع المعلومات وهذه هي الثقافة”(100).
إن مشكلة الثقافة هي كيفية تحققها في العمل التربوي أو “كبرنامج تربوي”، ومنهجية هذا التحقيق تبدو خطواتها في “اكتشاف التركيب الذي يتم في عالم الأشخاص كيما يخلع عليه القيمة الثقافية التي يستحقها، ثم وضع هذا التركيب بحكم طبيعته في إطار تربوي قائم على فلسفة أخلاقية، ثم نتبع هذا المنهج بتنظيم مختلف العناصر الثقافية التي سبق أن حللناها في إطار تربوي مناسب يتفق وطبيعتها”(101).
والفكرة الأساسية في هذا البرنامج التربوي للثقافة هي “التوجيه”، وتحديدًا “توجيه الأفكار” في التفعيل التربوي والاجتماعي للثقافة بما يضمن “قوة في الأساس، وتوافقًا في السير، ووحدة في الهدف… وتجنب الإسراف في الجهد وفي الوقت لملايين السواعد العاملة، والعقول المفكرة في البلاد الإسلامية حتى تعمل في أحسن الظروف الزمنية والإنتاجية”(102).
وبلغة التربية: يجب أن نستخدم المناهج والآليات التي توجه الذكاء في اتجاه الحضارة والتي تعجل تكوينها طبقًا للتطورات اللازمة في نطاق هذه الحضارة، فإذا ما صيغت المشكلة في تعبيرات هذه اللغة وجدناها تتجاوز بذلك النطاق القومي لتقوم على أساس وضع “سياسة للثقافة”(103).
يهدف مالك من خلال معالجته لمفهوم الثقافة إلى إعادة تأهيل “الإنسان الحضاري ” وهو ما يتطلب جهدًا بارزًا في ميدان ثقافته والتي تشمل كل ما يحيط به من أفكار، وأنماط سلوك، وأخلاق. ومن ثم فإن منهج إعداد هذا الإنسان الحضاري يتطلب قواعد عامة أو نموذجًا قادرًا على التشغيل في برنامج تربوي يُضبط بـ”توجيه أفكاره” لتصب في نهر الحضارة، وهذا المنهج أيضًا ينبغي أن يراعي طاقة الإنسان الحيوية من ناحية تلك التي تحدد أوجه نشاطه، وحاجاته الأساسية من ناحية أخرى، والتوافق بين هذين الجانبين يحقق الإنسان المتكامل الذي يبدأ به التاريخ “إن التاريخ يبدأ بالإنسان المتكامل الذي يطابق بين جهده وبين مثله الأعلى وحاجاته الأساسية، والذي يؤدي في المجتمع رسالته المزدوجة بوصفه ممثلاً وشاهدًا”(104).
وعناصر البرنامج التربوي للعمران الثقافي يتمثل في أربعة جوانب (المنهج الأخلاقي، والذوق الجمالي، والصناعة، والمنطق العملي). فالأخلاق هي التركيب التربوي لكل هذه العناصر، ولذلك كانت فصلاً جوهريًا من فصول الثقافة نتصوره لا على أنه تاريخ؛ بل على أنه مشروعات تاريخ..، وعنصر الجمال – أيضًا – يعنى بـ”تركيبات” طائفة جديدة من العناصر الثقافية، فإذا حدد العنصر الأخلاقي شكل السلوك حدد العنصر الجمالي أسلوب الحياة في المجتمع… ومن الضروري – أيضًا – أن يكون لهذه الطائفة تركيبًا تربويًا آخر هو المنطق العملي، فإن أسلوب حياة المجتمع وفاعليته يقومان في جانبهما الأكبر على عالم الأشياء، الذي هو نتيجة عوامل فنية صناعية مختلفة، فهذا أيضًا – جانب الأشياء- ينبغي أن نصنفه كعنصر ثقافي في إطار تربوي مناسب… وكذلك الصناعة – أو العنصر الفني، فصل آخر ضروري لتصنيف العناصر المتبقية(105).
يرى مالك بن نبي أن المشكلة التربوية التي نواجهها، هي “أن كل واقع اجتماعي هو في أصله قيمة ثقافية خرجت إلى حيز التنفيذ، فجوهر الأول هو جوهر الأخرى بالضرورة. ولو أننا حللنا واقعًا اجتماعيًا، أعني نشاطًا اجتماعيًا محسًا، فسنجد في وضعه الراهن، أو في اطراد تطوره عناصر أساسية أربعة هي: المنهج الأخلاقي، والذوق الجمالي، والصناعة، والمنطق العملي”(106).
وترتبط الثقافة والتربية بـ”المحيط الحضاري” الذي تلتقي فيه القيم الثقافية بعالم الأشخاص “فالثقافة تنقل أفكار الجمهور الشعبية، وأفكار القادة الفنية، وهذان العنصران هما اللذان يغذيان عبقرية الحضارة، فهي تدين لهما بدفعتها وبمقدرتها الخلاقة”(107).
ويحدد مالك بن نبي عناصر أساسية للبرنامج التربوي للثقافة وهي تمثل في جوهرها الأسس الفلسفية للنموذج التربوي المشيد، تمتد ما بين بُعد أخلاقي، إلى بُعد جمالي، إلى أسس عملية تصب جميعها في إعادة صياغة الإنسان المسلم المهيأ للفعل الحضاري، وقادر على حمل الرسالة وأدائها، وهذه العناصر الأربعة تستمد منها فلسفة التربية – في النموذج المشيد- مقاصدها (القريبة والبعيدة) وقيمها (المعنوية والمادية) وأنشطتها (الذهنية والعملية)، وتعالج هذه العناصر الأربعة- أيضًا – الاختلالات القيمية والسلوكية لإنسان ما بعد الحضارة، أو الإنسان القابل للاستعمار. أما العناصر الأربعة المشكلة لفلسفة التربية الحضارية في النموذج المشيد فهي:
أ- الأخلاق: وتعني الاتجاه نحو تحديد المثل الأعلى.
ب- الجمال: القيمة الجمالية تسهم في خلق نموذج إنشائي متميز يهب الحياة نسقًا معينًا، واتجاهًا ثابتًا في التاريخ، بفضل الأذواق والتناسب الجمالي(108).
ج- الصناعة/ العمل الصناعي: ويظهر في تلاقي احتياج الدولة إلى فنيين ورغبة الأفراد في أن يؤدوا وظائف معينة في مجال الفن الصناعي ويتلاقيان في هذه الضرورة العضوية.
د- المنطق العملي: الذي يتقرر كحاجة عاجلة لثقافة “نهضة” تريد أن تحدث تغييرًا في “المحيط” حيث تتشكل عبقرية الحضارة وحيث يتطور الإنسان، فالمنطق العملي يكيف صورة النشاط وأسلوبه ونسقه وجميع أشكاله الديناميكية(109).
ثالثًا: الوعي التربوي الحضاري
الهدف الثالث للتربية الحضارية هي تحقيق الوعي الحضاري في نفس الإنسان المسلم، وهذا يتطلب:
أولاً: إدراك مفهوم “الحضارة” عند مالك بن نبي والذي يبدو على مستويين، الأول: المستوى المعرفي، وهنا يشير إلى أن “الحضارة نتاج فكرة جوهرية تطبع على مستوى مجتمع في مرحلة ما قبل التحضر، أي الدفعة التي تدخل به التاريخ. ويبني هذا المجتمع نظامه الفكري طبقًا للنموذج الأصلي لحضارته التي تميزه عن الحضارات والثقافات الأخرى”(110)، وهذا ما جعل الحضارات توصف طبقًا لهذا النموذج الطابع لها، فهناك الحضارة اليونانية، والحضارة الرومانية، والحضارة الإسلامية، والحضارة الغربية، ولكل منها طابع مميز لها أعطاها هذه الصفة (صفة الحضارة)، والثاني: المستوى الوظيفي، فالحضارة من الناحية الوظيفية هي مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقدم لكل فرد من أفراده- في كل طور من أطوار وجوده، منذ الطفولة إلى الشيخوخة- المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطوار نموه”(111). الحضارة إذن تحدث عند توافق ثلاثة محاور: الطاقة الحيوية للفرد، والأنشطة التي يقوم بها، والرغبات المحققة.
والفكرة الجوهرية التي تحدث التحولات التاريخية للمجتمع هي الفكرة الدينية التي تضبط وتوجه الطاقة الحيوية للفرد في اتجاه العمل والنشاط الحضاري للمجتمع، وتساهم في تأسيس شبكة العلاقات التي هي ميزان مستوى الحضارة، “فالفكرة الدينية هي الظرف الاستثنائي الذي يلد مجتمعًا يتفق في الواقع مع الفكرة الدينية… ومعنى هذا أن شبكة العلاقات بكل ما تحتويه من خيوط وأطراف سيتسنى للمجتمع بفضلها أن يؤدي عمله التاريخي”(112).
واصطلاحًا: الحضارة جملة العوامل المعنوية والمادية اللازمة لتنمية الفرد، والتي قد تتموضع في شكل سياسة، أو في صورة تشريع يمثلان إسقاطًا مباشرًا لعالم الأفكار على الصعيد الاجتماعي والأخلاقي.
وثانيًا: ومن المتطلبات التربوية للوعي الحضاري، إدراك جوهر البناء الحضاري، وهنا ينبغي التمييز بين مفهومين هما: البناء والتكديس، ومن الظاهر أنهما مختلفين في المضمون والنتيجة التربوية التي يؤدي إليها كلاً منهما، فالبناء هو الطريق الناجع الذي يؤدي إلى الحضارة، أما “التكديس” فيؤدي إلى اللافاعلية، والبناء أحد عوامل عبقرية الفرد والمجتمع، أما التكديس فهو دليل العجز للفرد والمجتمع، فالحضارة ليست كومة من الأشياء والأفكار، ولكنها بناء يعكس عبقرية البلد وشخصيته.
هذا التمييز بين البناء والتكديس هو انعكاس لحالة المجتمع الإسلامي التي بدأت في حقبة السبعينيات، حقبة ظهور البترول، والذي اهتم وانشغل فيها عقله باستيراد منتجات الحضارة الغربية ظنًا أنه بذلك يقترب من التحضر ويحل مشكلته؛ إلا أن الحقيقة المنهجية المعرفية لهذا الإنسان هي أنه زاد دخله وفرغ عقله لأن “الحضارة هي التي تصنع منتجاتها (الآلة أو الطائرة)، وليست المنتجات هي التي تصنعها”(113)، وعلينا أن نُكوِّن حضارة، أي أن نبني لا أن نكدس– فالبناء وحده هو الذي يأتي بالحضارة لا تكديس منتجات الحضارة الغربية.
وتحقيق الوعي الحضاري لدي الفرد يتطلب إدراكه لثلاثة جوانب أساسية في مشروع التقدم والنهضة الحضارية للعالم العربي والإسلامي وهي:
1- مشكلة (الإنسان) وتحديد الشروط اللازمة لانسجامه مع سير التاريخ ووعيه بالسنن الكونية والقوانين الحاكمة.
2-مشكلة (التراب) وشروط استقلاله في العملية الاجتماعية.
3- مشكلة (الوقت) وبث معناه في روح المجتمع ونفسية الفرد.
و”السُننية” هي المفصل الأساس المنهجي لدرس الوعي الحضاري، وهو تفسير لحركة صعود وهبوط الحضارات، فالكون والتاريخ بما يحملان يرتبطان بقواعد وقوانين لا يمكن الفكاك عنها… والظواهر والأحداث ترتبطان بأسباب وقوانين لا يمكن التخلف عنها أو تخطيها ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً﴾{الفتح:23} ، وهذه السنن هي التي فطر الله عليها الكون بمكوناته وأحداثه. ومن متطلبات الوعي السنني قراءة التاريخ للاعتبار، واستخلاص المنهج الذي يمكن أن نحكم به على حاضرنا المعيش، وننظر من خلال قوانين البناء الحضاري إلى مستقبلنا. “وبالرجوع إلى التاريخ يمكن استخلاص القواعد العامة التي تحكم حركة التاريخ، في صورتها النظرية والواقعية معًا، هذه القواعد هي ثوابت التاريخ، تلك التي لا يغيرها الزمن على حين يغير المجتمعات. إن نهضة مجتمع ما تتم في الظروف العامة نفسها التي تم فيها ميلاده، كذلك يخضع بناؤه وإعادة هذا البناء للقانون نفسه”(114).
إن الحضارات –بصفة عامة- تمر بثلاث مراحل أساسية يمكن من خلالها متابعة الدرس السنني والمنهجي لقيام الحضارات وهبوطها:(115)
1- المرحلة الروحية: هذه المرحلة يتوافر فيها توهج الفكرة الدينية وجذبها الاجتماعي وتقوم بدور القائد والموجه لنشاط الفرد والمجتمع، وهي المرحلة التي تطبع فيها سلوك الفرد، وتتكون شبكة العلاقات الاجتماعية في أكثف حالاتها… وهذه المرحلة هي العصر الذهبي لأي مجتمع؛ لأنه يتمتع بميزتين: فقواه جميعًا في حركة، وهذه الحركة دائمة وصاعدة… وفي هذه المرحلة يخضع تنظيم الطاقة الحيوية للفرد كلية للفكرة الدينية، ويتم توجيهها إلى مقتضيات وغايات المجتمع السامية في هذه اللحظة التاريخية من ميلاده، بما يحقق النشاط المشترك للمجتمع في هذه اللحظة التاريخية لحظة ميلاد الحضارة.
2- مرحلة العقل: أو المرحلة العلمية، وهى مرحلة جني ثمار الحضارة العلمية والفكرية، وهي المرحلة التي يظهر فيها نتائج الحضارة، وهي التطور الفكري والعلمي والمادي، غير أن شبكة العلاقات تبدأ تشوبها بعض الشوائب والقصور نتيجة طبيعة تلك المستجدات التي تسلك سبيل العقل لا الروح، وتكون نقطة تحول للغرائز والطاقة الحيوية للفرد التي تتفلت من سلطة العقل، لأن سلطة العقل لا تعدل سلطة الروح… – مثال المجتمع العباسي في الدولة الإسلامية- وهو ما يؤثر تدريجيًا في البناء النفسي للفرد والبناء الأخلاقي للمجتمع.
3- مرحلة الغريزة: وهي مرحلة انحلال الحضارة والمجتمع والتي تبدأ بـ “تحلل الغرائز نهائيًا من سلطة العنصر الديني، فلا تعود تعمل بشكل منسجم مع حركة المجتمع ونشاطاته الحضارية، ولكنها تعمل بصورة فردية، كل يعمل لحسابه الخاص، ومن هنا يختل نظام الطاقة الحيوية، ويفقد قيمته الاجتماعية، وتتحلل شبكة العلاقات. وفي هذه المرحلة- أيضًا- تسود الفردية، وتتفسخ شبكة العلاقات الاجتماعية نهائيًا، ويدخل المجتمع في عصر الانحطاط. وهو العصر الذي هيأ في المجتمع الإسلامي مناخ القابلية للاستعمار والاستعمار.
في ضوء هذا التصنيف نجد أن “الدين” يمثل التركيب الجوهري للحضارة فمع توافر عناصر التحضر الأساسية (الإنسان والتراب والوقت) إلا أنها لا تستطيع أن تُكِّونَ حضارة من غير وجود الدين “فالوسيلة إلى الحضارة متوفرة ما دامت هنالك فكرة دينية تؤلف بين العوامل الثلاثة: الإنسان والتراب والوقت لتركب منها كتلة تسمى في التاريخ الحضارة”(116)، ولكي نتوصل إلى التركيب الضروري لحل المشكلة الإسلامية؛ أي مزج الإنسان والتراب والوقت، يجب أن يتوفر لدينا مؤثر الدين الذي يغير النفس الإنسانية… ومن ناحية أخرى فإنه بتأثير الدين في الكون تكون قوة التركيب لعناصر الحضارة خالدة في جوهر الدين، وليست ميزة خاصة بوقت ظهوره في التاريخ، فجوهر الدين مؤثر صالح في كل زمان ومكان. وتسجيل الدين في النفس يمكن أن يتجدد ويستمر ما لم يخالف الناس شروطه وقوانينه”(117)، وهو ما تشير إليه الآية الكريمة: ﴿فَليَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ {النور:63{.
ومن ناحية أخرى يرتبط مفهوم “الحضارة” عند مالك بمفهومين آخرين هما: التحضُّر، والحضور.أما التحضر فهو حالة مظهرها هو تعلم الإنسان كيف يعيش في جماعة، ويدرك في الوقت ذاته الأهمية الرئيسة لشبكة العلاقات الاجتماعية في تنظيم الحياة الإنسانية من أجل وظيفتها التاريخية، وهذا هو البعد التربوي لجوهر الحضارة الذي يُعنى بتهيئة الإنسان “للحضارة” ذاتها، فهو -أي الإنسان – الموضوع الذي تقوم به ومن أجله الحضارة والبحث عن إعادة تشكيله، وإعادة صياغة طرائق تفكيره هو جوهر عملية التغيير التي ينبغي الالتفات إليها، وهو ما تجاهلته الثورات التحررية العربية حيث لم تعط الأولوية لهذا النهج التغييري للإنسان. “إن ثورة ما لا تستطيع بناء وضع جديد والحفاظ على مكتسباتها إلا إذا كان أثره في تصفية الاستعمار فعالاً في تصفية الإنسان من القابلية للاستعمار، فتصفية الاستعمار في الإنسان تشرط تصفيتهفي الأرض ويجب أن تتقدمها”(118).
والثاني هو الحضور: ويعني حضور القيم الإسلامية في “معركة القرن العشرين”، وذلك من خلال بناء الإنسان المسلم وتحديد دوره وأداء رسالته الكونية. ويستنبط مفهوم “الحضور” من خلال وظيفة المسلم التي حددها الوحي والنبي في “الرسالة والتبليغ”، وهي مستمدة تحديدًا من قول النبي rفي حجة الوداع في ختام شهادته r“ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب” “فإن هذه الرسالة الخاصة بكل مسلم (حاضر) بإزاء (الغائبين)، والمسلم الحاضر حينئذ لا يمثل شخصه وجيله فحسب؛ ولكنه يمثل الأجيال التي تأتي من بعده كذلك، فقد كانت هذه الأجيال (حاضرة) في شخص السامعين ذلك اليوم، كما أن الأجيال البشرية قد حلفت يمين آدم في شخصه قبل أن توجد في هذا العالم”(119).
المحور الرابع: متطلبات التربية الحضارية
الشرط الأساسي عند مالك لتحقيق الإمكان الحضاري هو “تكوين الإنسان المسلم الحامل لرسالته الاستخلافية والكونية” الذي يستطيع تجاوز حالة “التخلف” عن القيام بأعباء الرسالة بالانتقال إلى حالة “الأداء”. وفي ضوء هذا الشرط يُعرِّف النهضة بأنها “ما يبذله العالم الإسلامي من جهد في الميدان النفسي، وهي حركة ضميره ليتدارك تخلفه عن الفكر القرآني، وعن ركب الفكر العلمي الحديث”(120).
إن مشروع “النهضة” يتطلب جهدًا تغييريًا في ميدان الإنسان صانع الحضارة والذي يستخدم (التراب) في مجال محدد هو (الوقت) من خلال نشاط وجهد مقصود، هذا النشاط وذلك الجهد له ضوابط حاكمة وموجهة له هي “الفكر القرآني” ذلك المنبع الذي نستمد منه النماذج المثالية والواقعية، وضوابط المنهج الراشد “للأمة المرشدة”…إن ما يعانيه المسلم المعاصر من ترنح وتحجل بين المناهج يرجع بالأساس إلى تخلفه عن هذا الفكر “الفكر القرآني”، وهو عنصر الأصالة في النموذج المعرفي التوحيدي، والضابط لتعامله مع حركة الفكر البشري أو “الفكر العلمي” وهو عنصر “المعاصرة”. ولا تناقض أو ازدواجية بين العنصرين “الأصالة والمعاصرة” في تكوين الإنسان المسلم، فكما أنه لا يمكن فصل الإنسان المسلم عن جذوره وهويته وثقافته الأصيلة الفاعلة، فلا يمكن– أيضًا– وبالقدر نفسه فصله وعزله عن حاضره وواقعه المعيش؛ لأن التخلي عن أي منهما يصيب الإنسان المسلم بحالة من “العرج” الاجتماعي و”الحول” المعرفي، وهو ما يتعارض مع النهج التربوي السنني القرآني.
وهذا بُعد معرفي آخر للتربية الحضارية، وهو “التوازن” في التكوين التربوي بين (الثوابت والمتغيرات) وبين (الأصالة والمعاصرة) وبين (المثال والواقع) وبين (الصلاح والصلاحية)، وهذا التوازن يمكن رده إلى حقيقة واحدة في النموذج المعرفي التوحيدي الذي تنطلق منه التربية الحضارية وهي حقيقة “التوحيد” والذي تنبثق منه “الوحدة” في النظرة إلى الكون والإنسان والمجتمع.
إن منهجية تشييد البناء التربوي الحضاري الجديد تتمثل في تحقيق شروط التهيئة النفسية والزمنية الواجب توافرها لتحقيق شرط الإمكان الحضاري، وهو ما يتطلب بدوره القيام بما يلي:
1-إصلاح نظام الأفكار ومناهج التفكير:
ينطلق مالك بن نبي من عالم الأفكار والفكرة كمؤهل للتربية الحضارية، ويَرُد إليهما كل حركة المجتمع وحالته في مستوى الحضارة أو درجاتها؛ لذلك فهو يعول على إصلاح عالم الأفكار ومنهجية التفكير كعامل أساس للبناء الحضاري. إن تنظيم المجتمع وحياته وحركته، بل فوضاه وركوده وخموده، كل هذه الأمور ذات علاقة وظيفية بنظام الأفكار المنتشرة في ذلك المجتمع، فإذا ما تغير هذا النظام بطريقة أو بأخرى فإن جميع الخصائص الاجتماعية الأخرى تتعدل في الاتجاه نفسه. إن الأفكار تُكَوِّن في مجموعها جزءًا مهمًا من أدوات التطور في مجتمع معين، كما أن مختلف مراحل تطوره هي في الحقيقة أشكال متنوعة لحركة تطوره الفكري.
والأفكار وفقًا لهذه الرؤية يمكن أن تكون من عوامل النهوض، أو معوقاته، لأن عالم الأشياء – أيضًا– داخل المجتمع يستند في تطوره إلى عالم الأفكار. وهذا الذي جعل مالك ابن نبي يؤكد أن “الرأسمال الفكري لبلد ما جوهري بالنسبة له بقدر أو أكثر مما هو جوهري رأسماله بالدينار، أو رأسماله بالدولار، أو البترول”(121)، ويؤسس مالك هنا لمفهوم تربوي مهم هو الرأسمال المعرفي والذي يقوم على تقديم أولوية الأفكار والمعرفة على باقي عناصر النهضة في المجتمع باعتبارها القوة الوحيدة التي لا يمكن أن تنضب في المجتمع، وباعتبار أنها مقياس لحياة المجتمع من عدمه، وأنها الموجه الأساس لباقي العناصر، وأنها تمثل معيار صلاحية البرنامج التربوي والنهضوي للمجتمع، كما أن الرأسمال الفكري هو معيار الإبداع والخلاقية في مؤسسات المجتمع التعليمية والتربوية وغيرهما.
وبصفة عامة حين تبصر الأفكار النور الذي صنعه تاريخ العالم؛ فإنها تكون دائماً فعالة طالما أنها أثارت العواصف وشيدت شيئًا أو هدمته، أو أنها اكتفت بقلب صفحة من صفحات التاريخ الإنساني، وليست هذه الأفكار بالضرورة صحيحة بأكملها فالفكرة تكون صحيحة أو باطلة في المجال العقدي والمنطق العلمي والاجتماعي؛ لكن تاريخها لا يعتمد على خاصيتها الذاتية، بل يستند إلى تفجرها، على قدرتها داخل عالم ثقافي، وأخيرًا على قوتها داخل الإطار العام الذي توجد فيه(122).
ويميز مالك بين مستويين في عمل الأفكار: الأول، يساعد في القدرة على تحقيق تكيف الطاقة الحيوية (التشريع) ووضع هذه الطاقة على عتبة الحضارة. أما المستوى الثاني للأفكار، فإنه يقوم بتطويع المادة لحاجات الحضارة وتعتمد قدرة الأفكار الأولى في درجة التحول ومدته على المصدر المقدس أو الزمني للعالم الثقافي الذي ولد في المجتمع الجديد(123).
إن تقليل الفجوة بين المجتمع الإسلامي المعاصر وبين نموذجه الأصلي التربوي إلى حد الانطباع لهذا النموذج المثالي هو السبيل الوحيد للإمكان الحضاري، هذا بعد التأكد من تنقيته من العوامل الزمنية وغيرها لنستخرج منها الأصل لا الصورة.
ويشير مالك بن نبي إلى منهجية إصلاح نظام تفكيرنا، والتي تتصل بعالم الثقافة، ويرى أنه من الضروري تحديد ثلاثة محاور أساسية:
– ما يتصل بالثقافة التي نريدها.
– ما يتصل بـ (لا ثقافة) موروثة نريد تصفيتها.
– ما يتصل بشيء نسميه (ما ضد الثقافة).
وفي ضوء هذه الرؤية التي تقوم على درس فقه الواقع (بالثقافة التي نريدها) وتحديد منهاجية للتعامل مع التراث لاسيما حال تصفية (الأفكار القتَّالة والميتة)، يمكن أن نشير إلى بعض المضامين التي يتطلبها إصلاح منهاجية التفكير التربوي ومنها:
أ. تحديد المنطلقات الأساسية للرؤية الكلية التوحيدية، ومقاصدها الكونية:
التوحيد والتزكية والعمران، وما ينبثق منها من نظام قيمي إنساني (المساواة والعدل والحرية) للوقوف على الملامح الأساسية لعملية التكوين الفكري. وهذه المنطلقات وتلك الرؤية وذلك النظام القيمي تستمد مضامينها الفكرية والمنهجية من القرآن أو ما يسميه مالك النموذج المثالي أو المصدر المقدس “إن المعادلة الفكرية التي يقدمها القرآن، تبني تصورًا شاملاً ومترابطًا للفرد والمجتمع والأمة والدولة، التي تنبثق من داخله.. تلك القيم المستندة على التوحيد والاستخلاف لهذا الإنسان في الأرض وعلى التسخير؛ تسخير الكون بقوانينه ونواميسه التي تدعو إلى الإيمان بقيم التوحيد والتزكية والعمران، وما يتفرع عنها من تبنٍّ للهدى والحق والعدل والمساواة”(124).
ب. ضرورة التمييز بين مصادر التكوين الفكري:
أي بين المصادر الأصلية (الوحي: القرآن، وصحيح السنة وطرق التعامل والتلقي بين كلٍّ منهما) وبين المصادر المشتقة التي تمثل التراث الفكري الإسلامي الذي نتج من الفهم البشري (المرتبط بمتغيري الزمان والمكان، وبين الروافد الفكرية المتعددة التي تأثر بها الفكر الإسلامي القديم والمعاصر. “وإن كان تحديد العلاقة بين القرآن والسُّنة كمصادر منهاجية واجبًا، فلا شك أن تحديد هذه العلاقة بينهما وبين المصادر المشتقة لأمر أدعى. وتتمثل هذه المصادر في رافدين، بينهما التمايز والاتصال كذلك- والرافد الأول هو الذي يتمثل في التراث الحضاري في مختلف جوانب الإبداع والعطاء.. وفي مقدمته التراث الفكري والعلمي على تنوعه وهو الذي يمثل حصيلة التفاعل في الزمان والمكان، يتفاوت في مدى تعبيره عن الأصالة الإسلامية بقدر اقترابه واستئناسه بالمصادر الأصلية. ثم هناك الخبرة التاريخية، أو محصلة تراكم الخبرة المتوالدة عبر تراكم المواقف والأحداث- على مدى زمن ممتد ومحصلة تعايش الأمة في البيئة الحضارية التي أوجدها الإسلام.. وهي كذلك تتفاوت في دلالتها – بقدر وقع المؤثرات الناجمة عن المصادر الأصلية في الفعل التاريخي”(125).
ج. بناء منهاجية للتعامل مع مصادر التفكير التربوي الإسلامي تقوم على:(126)
– الاعتقاد بالتعدد والتنوع في هذه المصادر، والتفاوت في قيمة ودلالة وحدود ومجالات الاستفادة في كل منها.
– هذا التفاوت يقتضي تباين المداخل والتناول أي المقومات المنهاجية لكل منها.
-وجود علاقة تدرج قيمي ضرورية بينها في ضوء علاقات الاتباع والاشتقاق.
-إن وجود الوحي بين مصادر التنظير الإسلامي يجعل هناك إمكان استنباط معايير قياسية معلومة ثابتة وضابطة عند تنقيح المصادر ومناهجها.
– إن المنهاجية الإسلامية في ضوء طبيعة مصادرها لابد أن تنطوي على بُعد أخلاقي واضح، ومن ثم لا يمكن التقاءها بمنطلقات المنهجية الوضعية في أصولها.
2- تأسيس شبكة متماسكة للعلاقات داخل المجتمع:
الشرط الثاني الضروري لتوفير الشروط النفسية والزمنية للإمكان الحضاري عند مالك يتصل بحالة بناء المجتمع، وعلاقاته البينية الاجتماعية والتي تقاس بدرجة تماسكه أو تفسخه، ويعول مالك على شبكة العلاقات في فاعلية نظام التفكير وتأثيره “إن فاعلية الأفكار تخضع لشبكة العلاقات، أي أننا لا يمكن أن نتصور عملاً متجانسًا من الأشخاص والأفكار والأشياء دون هذه العلاقات الضرورية. وكلما كانت شبكة العلاقات أوثق، كان العمل فعالاً ومؤثرًا”(127)، ويطرح هنا مالك بن نبي منهجية للمعالجة على طريقة الطبيب “طبيب الحضارة”، هذه المنهجية تتحدد في استعادة قيمتين الأولى: خاصة بشبكة العلاقات الاجتماعية والثقافية التي لا يمكن لمجتمع ما أن يؤدي نشاطه المشترك بغيرها، والتي تؤلف عناصره المختلفة الزمنية، والنفسية.. والثانية: القيمة الثقافية لهذه العلاقات التي يمثلها القانون الخلقي والدستور الجماليالخاص بالمجتمع.
ويعتبر مالك بن نبي شبكة العلاقات الاجتماعية والثقافية مؤشرًا لنمو المجتمع؛ لأن تأسيس شبكة العلاقات الاجتماعية والثقافية واكتمالها هو أول عمل يؤديه المجتمع في طريق تغيير نفسه، وعلى هذا يقرر أن تأسيس شبكة العلاقات هي العمل التاريخي الأول الذي يقوم به المجتمع ساعة ميلاده.
ويُعد المكون الروحي أهم مكونات بناء شبكة العلاقات الثقافية والاجتماعية حيث “تنشأ شبكة العلاقات بفضل العلاقة الروحية بين الإنسان والله والتي تربط بدورها بين الإنسان وأخيه الإنسان، وميلاد هذه العلاقة يظهر في صورة القيمة الأخلاقية. وعلى هذا يمكننا أن ننظر من الوجهة التاريخية على أنها حدث، ومن الوجهة الكونية على أنها عنوان على حركة تطور اجتماعي واحد”(128).
3- إصلاح مناهج التربية والتعليم:
الإصلاح التربوي عند مالك بن نبي يتمثل في العنوان العريض لمشروعه التربوي وهو” تكوين الفرد المسلم الحامل لرسالته في العالم”، وهذا يتطلب:
أ. معرفة الإنسان معرفة متعمقة، وتحديدًا إدراك إمكانياته ونقائصه، وتقصيًا واعيًا للقيم الاجتماعية في الإسلام، باستخدام العلوم النفسية والاجتماعية باعتبارها ضرورة للكشف عن القيم الجديدة للنهضة الإسلامية… ومعرفة أين ينبغي إحداث التغيير الضروري(129).
ب. تهيئة المحيط اللازم، أي تهيئة البيئة المناسبة لتربية الإنسان في ضوء مفهوم التربية الاجتماعية الذي يقوم على “تغيير الإنسان وتعليمه كيف يعيش مع أقرانه، وكيف يكوِّن معهم مجموعة القوى التي تغير شرائط الوجود نحو الأحسن دائمًا، وكيف يكوِّن شبكة العلاقات التي تتيح أن يؤدي نشاطه المشترك في التاريخ”(130).
ت. التربية الإيمانية الفاعلة، ويقصد بها تحويل الإيمان من النـزعة الفردية إلى النـزعة الاجتماعية. “لأنه حين يصبح الإيمان إيمانًا جذبيًا دون إشعاع، أي نـزعة فردية، فإن رسالته التاريخية تنتهي على الأرض، إذ يصبح عاجزًا عن دفع الحضارة وتحريكها، إنه يصبح إيمان رهبان، يقطعون صلاتهم بالحياة، ويتخلون عن واجباتهم ومسؤولياتهم، كأولئك الذين لجئوا إلى صوامع المرابطين منذ عهد ابن خلدون”(131).
ث. تجديد درس تعليم العقيدة وتعلمها، من جوانب إصلاح مناهج التربية تجديد المفاهيم وتغيير الوسائل لاسيما فيما يتعلق بالدرس العقدي، ويطرح مالك عنوانًا جديدًا يتعلق بالدرس التعليمي والتربوي للعقيدة مفاده أن الأمر في درس العقيدة “لا يتعلق في تلقين المسلم أو إعادة تلقينه عقيدته، ولكن في تعليمه استخدامها وفعاليتها في الحياة”(132)، أي البحث عن وسائل تحقق العقيدة والإيمان وهو نهج الفكر القرآني الذي يلازم بين (الإيمان والعمل) ويذم الفصل بينهما ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ﴾ {الصَّف:2{.
4- المدرسة الحضارية:
وهذا المتطلب يشير إلى ضرورة العناية القيمية بالمدرسة صاحبة التأثير الأكبر في تربية النشء، والوظيفة الحضارية التي تقوم بها في بناء الشخصية المسلمة، حيث ترسم المدرسة على السبورة الجوانية للمتعلم فيما تغرسه من قيم بناء وتحضر، فالعناية المقصودة بالمدرسة هنا لا نتناولها من حيث الشكل: التجهيزات المادية أو الواسطة التعليمية السبورة والكتاب، ولكن نتناولها من حيث دورها الحضاري ووظيفتها الرسالية: العمران، التزكية، التوحيد “فالمدرسة ليست المكان المجهز بمقاعد، وبما يكتب عليه، وسبورة نكتب عليها الحروف الأبجدية، أو المعادلات الرياضية فحسب؛ بل هي قبل ذلك المعبد الذي يشعر فيه الضمير بالقيم التي تكوِّن تراث الإنسانية”(133).
5- تأسيس مراكز التفكير التربوي:
تجديد الدرس التربوي المعرفي وبعثه في كل جيل وكل عصر من الضرورات الحضارية التي لا مفر منها أمام حركة التجديد والبناء، والذي يقوم بهذا الدور الإحيائي والتجديدي هو ما أسماه مالك “مراكز استقطاب التفكير”، والتي تضطلع بدور الإشعاع الفكري والثقافي بما يساهم في تحديد إطار عام وكلي للعقل الجمعي المسلم في هذا العصر أو ذاك، ينطلق من الرؤية الكلية المستمدة من الوحي والفكر الإسلامي الراشد “إن لكل جيل مراكز تفكير معينة، تحددها ضرورات الحياة وروح العصر، أي الفلسفة العامة التي تسيطر على الأفكار، لا في مستوى النخبات المثقفة فحسب؛ بل في مستوى الجماهير، فتتكون هكذا نقاط التقاء وتقاطع للتيارات الفكرية التي تعبر عن روح العصر”(134).
إن المجتمع المسلم يحتاج الآن وأكثر من أي وقت مضى إلى مراكز تربوية فكرية وثقافية تقوم بتشكيل الوعي العام، والربط بين نتاجات العقل النخبوي الإصلاحي وبين حركة الأمة المعيشة، وهذا لن يكون إلا بتكوين قاعدة “وعي” تنتشر أفقيًا بين جماهير الأمة، وهي ما يمكن أن نسميه بـ”قنوات تشكيل الوعي الحضاري”. ويكشف لنا التقرير العربي الثالث للتنمية الثقافية الحالة التوعوية للمواطن العربي في ضوء ثورة الإنترنت والاتصالات “ففي مجال تحميل محتويات رقمية على شبكة الإنترنت قام العرب في العام 2009 بتحميل نحو 43 مليون فيلم وأغنية بينما قاموا بتحميل ربع مليون كتاب فقط! احتلت منها كتب الطبخ مركز الصدارة بنسبة 23% . كما بلغت عملية البحث التي قام بها العرب في العام نفسه على شبكة الإنترنت عن المطرب تامر حسني ضعفي عمليات البحث التي قاموا بها عن نـزار قباني والمتنبـي ونجيب محفوظ ومحمود درويش مجتمعين”(135). فما الحال لو بحثنا عن عمليات البحث عن مالك بن نبي أو محمد عبده أو الأفغاني.
6- تأصيل العلوم الاجتماعية:
يهيمن الدرس المعرفي الغربي في مجال العلوم الاجتماعية على البرنامج التربوي والتعليمي في الجامعات ومؤسسات التعليم في عالمنا الإسلامي في إطار نـزعة القابلية للاستعمار التي تكرست لدى النخب الفكرية والثقافية التي آثرت “الأفكار المستوردة” عن “الأفكار الأصلية”. وتبدو خطورة هذه الهيمنة للدرس المعرفي الغربي في العلوم الاجتماعية في أنها تتوجه مباشرة إلى قيم الإنسان المسلم وما يتصل بطرق تفكيره ونظامه المعرفي في تجاهل تام للأبعاد القيمية والمعرفية الإسلامية سواء على مستوى المردود الاجتماعي أو المردود العلمي الأكاديمي.
انتبه مالك إلى خطورة العلوم الاجتماعية وتأثيرها الممتد على صياغة وتنشئة الإنسان المسلم، ودعا إلى ضرورة اعتبارها محورًا مهمًا في صناعة “الإنسان” الذي هو أهم من صناعة الآلات “إن العناية بالعلوم الأخلاقية والنفسية والاجتماعية تُعَدُّ اليوم أكبر ضرورة من العلوم المادية، لأنها تعد خطرًا في مجتمع ما زال الناس يجهلون فيه حقيقة أنفسهم، ومعرفة إنسان الحضارة وإعداده أشق كثيرًا من صنع محرك”(136).
وقد التفت عدد من أبناء الفكرة الإسلامية إلى خطورة تغريب العلوم الاجتماعية وتأثيرها على بناء الإنسان المسلم وتربيته، فأسسوا في الغرب تيارًا فكريًا يحمل مشروعًا أطلقوا عليه “إسلامية المعرفة” والتي تُعنى في أحد جوانبها ببناء الإطار القيمي والحضاري للفرد والمجتمع، يختص بالفكر والتصور والمحتوى الإنساني القيمي والفلسفي وكيفية بنائه وتركيبه وعلاقاته في العقل والنفس والضمير(137).
ويحاول هذا المشروع معالجة أمرين منهجيين فيما يتصل بعلوم الإنسان أو العلوم الاجتماعية، الأول: مواجهة الازدواجية المعرفية في النظام التربوي والعلمي الإسلامي، والثاني: إعادة صياغة المفاهيم الخاصة بالعلوم الاجتماعية والإنسانية من خلال تأسيس نموذج تربوي وعلمي يعتمد على النموذج المعرفي التوحيدي ويستمد منه قيمه وفلسفته.
7- الدفعة القرآنية والأفكار الدافعة:
عندما تمكن القرآن من نفس “الجماعة البشرية” الأولى التي آمنت به، واحتل محور برنامجها التربوي الحضاري ومركزه، أشعل فيها جذوة المعرفة الحقة العادلة، فتفتحت لهذه “الجماعة البشرية” آفاق الكون والخلق، وتمثل ذلك في واقع ملموس هو تأسيس كيان حضاري يحمل اسم “الأمة الوسط” و”الأمة الشاهدة” و”الأمة الهادية”.
ولا يغيب عن ذهن المتأمل لسير تأسيس الدورة الحضارية الأولى للأمة الإسلامية الدور الذي قام به القرآن في عمليات البناء والتصميم للمفاهيم والتصورات والنماذج في العقل المسلم، وتأهيله لتأسيس “حضارة الاستقامة” ، مخلّصًا إياه مما علق به من انحرافات في المفاهيم والتصورات والنماذج في الجاهلية الأولى.
ويرصد عماد الدين خليل التحولات التربوية والعلمية التي أحدثها الوحي في العقل البشري في ثلاث نقلات أساسية “الأولى: النقلة التصورية الاعتقادية وتتضمن القيم التصورية، كالربانية والشمولية، والتوازن، والتوحيد، والحركية، والإيجابية، والواقعية… التي تداخلت مع بعضها وشكلت نسقًا فكريًا فريدًا، والثانية: النقلة المعرفية، وتبدو في التحول المعرفي للعقل بمده بما يمكنه من التعامل مع الكون والعالم والوجود، والثالثة: النقلة المنهجية، والتي أتيح فيها للعقل المسلم أن يتحقق بها، وأن يتشكل وفق مقولاتها ومعطياتها التي امتدت باتجاهات ثلاثة هي: السببية، و القانون التاريخي، ومنهج البحث الحسي (التجريبي)(138).
وعندما انفصل العقل المسلم عن الاتصال بمصدر حركته العلوي (القرآن)، انطفأت جذوته المعرفية والمنهجية والتصورية، ومن ثم غابت الأمة عن الحضور والشهود، واضطربت مفاهيمها وأصيبت في رؤيتها الكلية، واستعارت مناهج فكرها وبرامج بناء عقول أبنائها، وتحولت إلى فريسة سهلة، مأسورة بكل وافد وجديد.
نلاحظ عند مالك بن نبي مفهومين يراوحان فضاء الإمكان الحضاري هما: الفكرة الدافعة، والدفعة القرآنية، وهما في البناء التربوي عملة واحدة لها وجهان “فالفكرة الدافعة للنشاط الإنساني هي التي تحول هذا الإمكان إلى تحقق”، إن المعجزات الكبرى في التاريخ مرتبطة دائمًا بالأفكار الدافعة، والفكرة الدافعة في الإسلام نقلت شعلات الجمر المضيئة منذ أربعة عشر قرنًا من الجزيرة العربية إلى الأقطار البعيدة، موحدة جميع الشعوب الإسلامية في ذلك العمل المنسق الرائع، ألا وهو الحضارة الإسلامية”(139).
ومن ناحية أخرى فإن الدفعة القرآنية هي التي تحقق نقلات الأفكار وتجعلها دافعة بقوة ما تحتويه من طاقة علوية تتشابك مع طاقة الأرض في بناء الإنسان وتنشئته فتتحقق اللحظة الدافعة، وهو ما يصفه مالك بقوله: “إن فكرة الدافعة لحظتها كذلك، إنها اللحظة التي يكون إسقاطها على نشاطنا، هو بالضبط الصورة الكاملة لنموذجها في عالمها الثقافي الأصلي. فقدرتها على (توجيه – توظيف) الطاقة الحيوية تكون في أوجها في تلك اللحظة على الأخص”(140).
وتفصيلاً، اهتم مالك بن نبي بالدرس المعرفي التربوي القرآني ودوره في تشكيل البنية المعرفية لإنسان الحضارة في المجتمع الجديد، والدرس الأول في هذا الإطار ما يتصل بصياغة مفهوم “العلم” بتصور متكامل، بدءًا من تهيئة المناخ إلى إنتاج العلوم والمعارف. ويرى مالك أن العلاقة بين الدفعة القرآنية والدفعة العلمية شديدة الارتباط والاطراد. “فبينما ينفتح كتاب العهد القديم، منذ السطر الأول في سفر التكوين، على عالم الظاهرات المادية، وينفتح كتاب العهد الجديد في إنجيل يوحنا على عملية التجسيد ينفتح القرآن على الجانب العقلي”(141) ﴿ٱقرَأ بِٱسمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ﴾ (العلق:1).
لقد تغيرت كل ملامح المجتمع النفسية منذ نـزول ﴿ٱقرَأ﴾ تغيرًا يتولد عنه المناخ العقلي الجديد، وبالإضافة إلى ذلك نرى نوعاً من الاختبارات تجرى على هذا المناخ لتوضح أكثر ملامحه في الضمير الإسلامي الناشئ عندما يلقي عليه القرآن مثل هذا السؤال ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ﴾ {الزُّمر:9}. إن هذه الآية اختبار وتركيز في الضمير الإسلامي لقيمة العلم، ولفضل رجل العلم على الجاهل في المجتمع الجديد(142).
ويناقش مالك بن نبي في ضوء العلاقة بين الدفعة القرآنية والدفعة العلمية والإمكان الحضاري إشكالية “الإسلام والعلم” وهي القضية التي أثيرت في العقل المسلم منذ عصر النهضة الأوروبية في القرن الثامن عشر، وظهور مفاهيم العلمانية وفصل الدين عن شؤون الحياة والعلوم والمعارف، والتي استرعت انتباه وانشغال كثير من مفكري القرن الـ 19 والـ 20 في العالم الإسلامي.
وفي هذا الصدد يؤكد على “أن الصدمة التي حصلت للضمير الإسلامي في القرن التاسع عشر والعشرين تجاه الحضارة الغربية، كانت محسوسة في عالم أفكارنا على وجه الخصوص، وفي مجال الأفكار العلمية بالذات، بحيث كان لهذه الصدمة أثرها حتى في ميدان تفسير القرآن، مثل تفسير طنطاوي جوهري الذي يُعزى قطعًا إلى هذا التأثير العلماني على أفكارنا، مع الملاحظة أنه يعبر في الوقت نفسه عن ظاهرة التكديس، تكديس المعلومات بحيث يصبح هذا العمل الشاق كله أقرب إلى دائرة معارف منه إلى تفسير القرآن، كما أنه يعبر عن ظاهرة جديدة، هي تلك العلمانية العقيمة التي ليست بالنسبة للفكر الإسلامي إلا عملية تعويض في الميدان الذي شعر فيه أكثر بتحدي الحضارة الغربية”(143).
ويقدم مالك بن نبي طرحًا لمعالجة هذه الإشكالية (العلاقة بين الدين والعلم) “في صورة تتماشى أكثر مع سمو الدين ومنطق العلم، بحيث لا نصبح نبحث في الآيات هل ذكر فيها شيء عن غزو الفضاء أو تحليل الذرة، وإنما نتساءل هل في روحها ما يعطل حركة العلم؟ أو على العكس ما يشجعها وينميها. يجب على وجه الخصوص أن نتساءل إذا ما كان يستطيع القرآن أن يخلق في مجتمع ما المناخ المناسب للروح العلمية، وأن يطلق فيه الأجهزة النفسية الضرورية لتقبل العلم من ناحية ولتبليغه من ناحية أخرى”(144).
إن القرآن الكريم لم يأت قطعًا، وبصورة مباشرة، لا بالحساب العشري ولا بالجبر، ولكنه أتى بالمناخ العقلي الجديد الذي يتيح للعلم أن يتطور… إن تطور العلم لا يناط بالمعطيات العملية فحسب؛ بل بكل الظروف النفسية والاجتماعية التي تتكون في مناخ معين، والأمر الجدير بالملاحظة – أيضًا – هو أن مراكز الاهتمام بالعقل تتغير من عصر إلى آخر، من حضارة إلى غيرها حسب التغيرات التي تحدث في المناخ العقلي بالذات(145).
المحور الخامس: تصور مقترح للتطبيقات التربوية لمفهوم التربية الحضارية وأبعاده التعليمية والمعرفية
أولاً: فيما يتعلق بمقومات الفلسفة التربوية الحضارية
يحتاج نظامنا إلى بناء فلسفة تربوية حضارية ترتكز على مجموعة من المقومات المعرفية أهمها:
1- إعادة النظر (أو تجديده) فيما يتعلق بطبيعة التربية ووظيفتها، على أساس أنها – أي التربية – عملية تستهدف “بناء إنسان الحضارة” أو تهيئ الإنسان لبناء المجتمع الحضاري، باعتباره العنوان الرئيس الذي يميز الإنسان عن غيره من المخلوقات، “فالتربية مشروع يستهدف بناء مجتمع تاريخي من خلال إعداد الإنسان المتحضر الذي يكون نواة هذا المجتمع الذي ينتظر منه أن يسجل حضوره في التاريخ، بما يساهم في ترسيخ معاني التكريم الرباني للجنس البشري وبما يضيفه إلى الحياة البشرية من أبعاد عقدية وخلقية ترقى هذه الحياة وتزكيها وتباركها، ومن ثم تؤهلها للإنجاز الناجح للوظيفة التاريخية التى كلف بها الإنسان من قبل الإرادة الإلهية”(146) وبهذا تكون التربية المرجوة تربية حضارية تسعى إلى إنشاء مجتمع الحضارة التاريخي وليس مجرد القيام على تلبية احتياجات الإنسان الضرورية اليومية أو الحياتية الضيقة.
2- مركزية الدين أو الفكرة الدينية في الفلسفة التربوية الحضارية التى تسعى لـ”بناء إنسان الحضارة”، وهذا يعني أن فلسفة التربية ينبغي أن تجمع بين عالمين (الشهود والغيب) في تكامل بينهما، ولا تجنح إلى أحدهما على حساب الآخر، وهو ما يؤدي إلى اعتبار الدين (عقيدة ومفاهيم وتصورات ومنهج تفكير) الأساس في تركيب العناصر الجديدة للعملية التربوية وفي مدخلاتها. فالدين هو الفكرة الدافعة الرئيسة لبناء مجتمع الحضارة، وهو صاحب الدفعة في تحقيق العالمية الإسلامية الأولى. ومن ثم فإن مركزيته تستدعي حيوية للفرد والمجتمع، وكان لهذه الفكرة الدينية رصيد تجربة تاريخية ناجحة.
3- تكامل المعرفة في مصادرها ووسائلها، فلسفة التربية الحضارية –أيضًا- ترتكز على فكرة “تكامل المعرفة” في النظر إلى مصادرها أو وسائلها بإدماج الوحي كمصدر رئيس لها مع باقي المصادر النظرية الأخرى. أي أن المعرفة في تصور التربية الحضارية تقوم على الجمع بين المصدر الإلهي (الوحي)، والاجتهادات البشرية (العقل، الحس) وما نتج عنهما من نظريات وعلوم ومعارف مختلفة، مع مراعاة تباين درجات المعرفة، ومعايير النظر إلى كلٍ منهما.
4- الإنسان محورًا للتربية الحضارية؛ ينبغي أن يكون الإنسان هو المحور الأساس للتربية الحضارية؛ لأنه هو الذي يحرك التاريخ والمجتمع، فإذا تحرك الإنسان تحرك المجتمع والتاريخ وإذا سكن سكن المجتمع والتاريخ. وهذا يتطلب شمولية النظرة للإنسان بأن تدور تربيته حول ثلاث دوائر: التزكية والتعليم والحكمة. وذلك “بوصف الإنسان خليفة الله في الأرض والكائن الحي المكلف، صاحب الملكات والمواهب والذي سخر الله الكون له، والمؤمن برسالات السماء صاحب الدور الحضاري الخلاق باعتبار أن الهدف الأساسي هو تمكين الإنسان من أن يكون صالحًا، فاضلاً طبقًا لما جاء به الإسلام”(147).
5- “الرأسمال الفكري” : وهو من إبداعات التربية الحضارية عند مالك بن نبي، – وهو من المقومات الأساسية لفلسفة التربية الحضارية، ويقوم هذا المرتكز على اعتبار أن “الفكرة” أهم ثروة في المجتمع يمكن أن يتحصل عليها، وهذا يعني أن تدعم هذه الفلسفة “قيمة الفكرة” في البناء التربوي للإنسان بما لها من دور في تحقيق الإشعاع الحضاري. وهذا يتطلب – أيضًا – تنقية “عالم أفكار” النظام التربوي من كل ما علق به من اختراقات معرفية وثقافية تأصلت فيه، وأن يتم اكتشاف الأفكار الصالحة في تراثنا ومصادرنا الفكرية لتكون سبيلاً للتأهيل التربوي الحضاري.
6- شبكة العلاقات الثقافية والاجتماعية: من الضرورات المعرفية أن تتضمن فلسفة التربية الحضارية تصورات ومفاهيم حول إنشاء بناءات جديدة لشبكة العلاقات الاجتماعية والثقافية في النظام التربوي وفي تنشئة الإنسان، التى تمتد بتأثيراتها إلى المجتمع، والذي تمزقت فيه هذه الشبكة الاجتماعية والثقافية بسبب الخلل الذي وجد في الإنسان الفرد. واستعادة فعالية هذه الشبكة رهن بمعالجة الخلل الذى أصاب الذات المسلمة، ورهن باستعادة فعاليتها الاجتماعية والثقافية.
7- الأصالة والذاتية الحضارية، يقوم هذا المرتكز في الفلسفة التربوية الحضارية على معالجة أمرين: أولهما، التخلص من الأفكار المستوردة في النظام التعليمي والتربوي العربي والمسلم، حيث أن هذه الأفكار التي تم استيرادها من النموذج المعرفي الغربي ومحاولة إنباتها في واقعنا منذ عصر التعليم الحديث لم تنتج حضارة، ولم تساهم في حل أزمات المجتمع المسلم الحضارية، وهو ما يعني عدم صلاحية الأفكار المستوردة في فلسفة وبرامج التربية التى تنقل من مجتمع لآخر؛ لأن التربية وأفكارها “بنت بيئتها التى نشأت فيها”. وفي نفس الوقت فإن فلسفتنا التربوية في حاجة إلى التخلص – أيضًا – من الأفكار القاتلة التى ورثناها من عصور التراجع الحضاري، وهذا يعني العمل على تنقية التراث التربوي مما علق به من شوائب؛ وإبداع “منهجية جديدة للتعامل مع تراثنا التربوي يكون عنوانها “منهجية الاستفادة”، وتتجاوز بذلك منهجيتي “الاستعادة المطلقة” أو “الرفض المطلق”، وأن تكون تلك المنهجية قائمة على توظيف التراث بالقدر الواقعي واللازم لحل مشاكلنا التربوية. وثانيهما: العمل على تأصيل العلوم والمعارف التربوية استنادا إلى نموذجنا المعرفي التوحيدي بمكوناته التصورية والمفاهيمية وأطره المرجعية.
8- الفعالية: يأتي هذا المرتكز لمعالجة ما يعاني منه نظامنا التربوي من غلبة “اللفظية” عليه، والتى أصبحت حرفة للعقل العربي، صرفته عن تحقيق واقعًا أفضل له وقادرًا على تحقيق طموحاته، وهذا ما جعل “الحفظ والاستظهار” جوهر العملية التربوية في عالمنا العربي والإسلامي؛ فغابت معها الفعالية، وهذا يوجب أن تدعم فلسفة التربية الحضارية مبدأ “الفعالية”، حيث يربط المتعلم بين ما يتعلمه وبين واقعه، أي أن يكون للتعلم مردودًا اجتماعيًا وقيميًا وحضاريًا في واقع المتعلم والمجتمع المحيط به، وأن تكون أهدافه تعالج مشكلاته الحضارية الحقيقية لا مشكلات حضارة أخرى، وأن تراعى إمكاناته واحتياجاته وأهدافه هو، لا إمكانات واحتياجات وأهداف حضارة أخرى.
9- المقصدية الحضارية: يعاني نظامنا التربوي والتعليمي من غياب “الهدفية” و”المقصدية”، وهو مترتب بالضرورة على عدم وجود فلسفة تربوية واضحة لهذا النظام، وفيما يستفاد في هذا العنصر إبداع “مقصدية حضارية” لفلسفة التربية ولمكونات النظام التعليمي (الميدان التطبيقي لها). والمقصدية الحضارية هي “الإدراك والوعي للحالة الحضارية القائمة التى يعيشها المجتمع العربي والإسلامي وهي مرحلة ما بعد التحضر”، ومن ثم نعنى بها في النظام التعليمي “إعداد الإنسان لمرحلة التحضر أو مجتمع الحضارة”، وهذا يتطلب : إدراك الحالة الحضارية القائمة وجوانب الخلل فيها، الوعي بالمقومات التربوية والثقافية القادرة على تحقيق النهوض، تشييد (تحديد) الأهداف التربوية الناجزة للفعل الحضاري مبينة دور النظام التربوي والتعليمي فيها.
10- التغيير الذاتي: المبدأ التغييري للتربية الحضارية هو “التغيير الذاتي” استنادًا إلى النهج القرآني ﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ {الرعد:11} وهذا يعني تقديم مبدأ التزكية على التعليم. وهذا ما ينبغي أن تتضمنه فلسفة التربية الجديدة في أهدافها ومفاهيمها. ذلك لأن العامل النفسي هو الأساس في “التغيير” الذى هو هدف التربية والتعلم بالأساس، وأن العامل النفسي هو الأساس-أيضًا– في الانتقال إلى مجتمع متحضر أو مجتمع الحضارة. وهذا يتطلب من النظام التعليمي تهيئة المناخ المعنوي والمادي من أجل تحقيق هذا النمط من التغيير الذي يعد الخطوة الأولى نحو أي إصلاح مطلوب سواء على المستوى الفردي أو الجماعي أو الحضاري.
ثانيًا: فيما يتعلق بمجالات التربية الحضارية
التربية الحضارية هي جملة الجهود الفكرية والعملية التي تبذل في ميدان بناء الإنسان لتوفير الشروط الزمنية والنفسية للبناء الحضاري من خلال إعداد الفرد المسلم وتهيئته لهذه الحالة، ففعل النهضة هو ما يبذله العالم الإسلامي من جهد في الميدان النفسي، أي ميدان التغيير الذاتي نحو البناء الحضاري.
ومشروع مالك يقوم في جوهره على فكرة التربية الحضارية للإنسان المسلم بقصد توحيد مقاصده ونماذجه التي تؤثر في تشييده النفسي والأخلاقي والاجتماعي والجمالي.
إن الجانب الذي يعنيه مالك يقصد صياغة الشخصية الإسلامية حتى تفي بصورة موحدة بمسؤوليات المسلم في العالم، وهذا يعني توحيد النماذج التي تمثل المسلم اليوم، النماذج التي يمثل بعضها الرجل الذي لم تكيفه حضارة ولا زال على فطرته، أو الرجل الذي مرَّ بدورة حضارة وتبقت في نفسه رواسب انحلال الحضارة، أي الفريقين اللذين يعيشان على طرفي التطور الاجتماعي والتاريخي في عهد ما قبل الحضارة والآخر في عهد ما بعد الحضارة.
مستهدف المشروع التربوي عند مالك استعادة الإنسان المسلم وعيه بالحضارة كشرط أساس لدخول مرحلة الحضارة مرة أخرى، وهذا لن يتحقق إلا بتجديد النظر إلى رسالته ووظيفته الكونية من أجل تحقيق “توحيد النماذج” المعلمة للأمة على امتداد وجودها من طنجة إلى جاكرتا، وهو المنحى التربوي الذي قامت عليه الجماعة المسلمة الأولى. والآلية المعرفية لتحقيق ذلك هو “بناء نموذج معرفي صالح ومصلح للإنسان المعاصر”، ينتج عنه بالضرورة شخصية حضارية توظف طاقتها الحيوية في بناء حضاري إنساني، تتفاعل فيه الأصالة والمقومات الذاتية والتاريخية الصالحة، مع التطورات الحديثة النافعة. ويمكن تصنيف مجالات/ميادين التربية الحضارية في نموذج مالك بن نبي إلى خمسة مجالات أساسية هي:
المجال الأول: التربية الأخلاقية، الأخلاق عند مالك هي: التركيب التربوي لكل العناصر الثقافية التي ترجع إلى عالم الأشخاص، وهي المبدأ الذي يقوم بضبط بناء عالم الأشخاص الذي لا يتصور بدونه عالم الأشياء، ولا عالم المفاهيم.
التربية الأخلاقية تقوم على:
ضبط وتوجيه ¬عالم الأشخاص
¬عالم الأشياء
¬عالم المفاهيم
تأسيس وبناء ¬وحدة تاريخية (القبيلة، العشيرة، المدينة، المجتمع، الأمة).
ومن الناحية الفنية، فإن التربية الأخلاقية في المشروع التربوي الحضاري، تعمل على:(148)
1- تنمية الوازع الداخلي، أو ما يعبر عنه بالضمير الأخلاقي، الذي يتغذى من إيمان المرء ومعتقداته.
2- التزويد بالمعرفة الأخلاقية، حتى يستطيع أن يميز الإنسان بين الخير والشر، وتشمل هذه المعرفة، المعرفة بالغاية والوسيلة، التي تحقق السلوك الأخلاقي.
3- تربية الإرادة، التي تنمي في الإنسان حرية الاختيار السليم، حيث يختار الخير وينفذه، وحيث تؤثر الإرادة على الفكر والعاطفة.
4- تلبية الاحتياجات الإنسانية المختلفة، والاستعانة بالإدراك والحاجات والانفعالات والعواطف، ثم بالتحليل العقلي، حيث تتضح ضرورة وأهمية الأخلاق للوضع الاجتماعي وللوضع الفردي.
المجال الثاني: التربية الاجتماعية، لا يمكن الانتقال إلى مجتمع الحضارة أو أن تظهر فاعلية الأفكار، دون بناء شبكة علاقات اجتماعية متماسكة في المجتمع، فإذا كانت الحضارة عملاً متجانسًا من بين عوالم: الأشخاص، والأفكار والأشياء، فإنه لا يمكن تصور هذا التجانس دون وجود شبكة من العلاقات الضرورية التي تعد معيارًا لقوة العمل ورمزًا لعمق تأثيره.
والتربية الاجتماعية – في نموذج مالك – هي العمل الأول الذي ينبغي أن يقوم به المجتمع في طريق “التغيير الذاتي الحضاري”، وهي العمل التاريخي الأول الذي يقوم به المجتمع ساعة ميلاده. مثل تلك الشبكة من العلاقات الاجتماعية التي ظهرت بين المهاجرين والأنصار في المجتمع الإسلامي التاريخي الأول.
وتسعى التربية الاجتماعية في هذا النموذج إلى:
1- تحويل الإنسان من كونه فردًا، إلى أن يصبح شخصًا، وذلك بتغيير صفاته البدائية التي تربطه بالنوع إلى نـزعات اجتماعية تربطه بالمجتمع.
2- تحقيق الانسجام والتآلف والتآزر بين الأشخاص المكونين لشبكة العلاقات الاجتماعية، والذين يؤدون نشاطًا مشتركًا في المجتمع. وهذه العناصر المذكورة “الانسجام والتآلف والتآزر” بين الأشخاص تترجم المستوى النفسي والزمني للمجتمع أو يمكن من خلالها قياس فاعلية شبكة العلاقات الاجتماعية.
3- إقامة مجتمع “البنيان المرصوص” الذي “يشد بعضه بعضًا” فتتكون “اللحمة الاجتماعية” عميقة الأثر والجذور.
4- الوصول إلى مرحلة المجتمع الكامل، أي المرحلة الروحية التي يتوافر فيها توهج الفكرة الدينية وجذبها الاجتماعي لتقوم بدور الموجه والقائد لنشاط الفرد والمجتمع، وهي المرحلة التي تطبع فيها سلوك الفرد، وتتكون شبكة العلاقات في أكثف حالاتها.
المجال الثالث: التربية الجمالية، الجمال يمثل الإطار الشامل لتصور الإسلام للكون والإنسان والخالق، وتتضمن التربية الجمالية تزكية حاسة الجمال لدى الإنسان، وتنمية الإدراك الجمالي المرتبط بعناصر: الدقة والنظام والاتساق والتوازن والترابط في الكون والنفس، وترجمة هذا الإدراك إلى سلوك جمالي في حياة الإنسان، فالجمال يطبع خصائص الفرد والمجتمع والحضارة، فالجمال هو الإطار الذي تتشكل فيه أي حضارة. والإسلام في مضمونه التربوي أكد على هذا البعد الجمالي “إن الله جميل يحب الجمال”(149) وأقر “الزينة” وتناول عناصر الكون ببعد جمالي (الإنسان، الطبيعة) والأشياء.
وتعمل التربية الجمالية في المشروع الحضاري على تشكيل الإنسان المسلم الذي يشعر في أعماق وجوده بالجمال، وذلك عن طريق:(150)
1- تدريب الأحاسيس الإنسانية وفتحها على مشاهد الكون، والطبيعة والإنسان.
2- توجيه الإنسان نحو الجمال من خلال الفكر القرآني.
3- توجيه الإنسان إلى إدراك التناسق في العلاقات الإنسانية، وبين الطبيعة والإنسان، والعلاقات الإنسانية بين الإنسان والإنسان.
4- تنمية القدرة على التمييز الدقيق فيما تتأثر به حواس الإنسان سواء من الأشكال أو الألوان، حيث يدرب الإنسان على الإحساس بالألوان وتنوعها وجمالها، وتناسقها في المخلوقات والجماد والحيوان والنبات والإنسان.
المجال الرابع: التربية العملية، التربية العملية أحد مجالات التربية الحضارية لبناء الإنسان، وهي على مستويين، الأول: يتعلق بطريقة التفكير ومنهجيته، وضرورة التنشئة على منطق التفكير العملي، وهو ما يغيب عن واقع برنامجنا التربوي الحالي، الذي يسيطر عليه الحرفية اللفظية والعقل المجرد، في حين يغيب العقل التطبيقي الذي يتكوَّن في جوهره من الإرادة والانتباه، وهما من اللوازم التربوية في دورة التنشئة الحيوية للفرد والمجتمع، مع إعادة الاعتبار لفكرة “المحصول”، هذه الفكرة التربوية التي تركز على النتائج أو البعد العملي للسلوك الإنساني، حتى لا يدور في حلقة ذهنية مفرغة أو في مطلق الكون والمجتمع دون مقاصد أو أهداف واضحة.
والمستوى الثاني للتربية العملية في هذا النموذج، هو إدخال قيمة “العمل” في ذاتها في برامج التنشئة الأسرية والمدرسية، فالذي ينقص المسلم هو منطق العمل والحركة، والضابط الذي يربط بين عمل وهدفه وبين سياسة ووسائلها، و بين ثقافة ومُثلها، و بين فكرة وتحقيقها، فسياستنا تجهل وسائلها، وثقافتنا لا تعرف مثلها العليا التي تسعى أن تمثلها في الواقع المعيش.
و”العمل” قيمة جوهرية في رسالة الوحي الذي ربط دائمًا بين عقيدة الإنسان المسلم في الإيمان بالله وبين العمل، وتحديدًا العمل الصالح، الذي ينفع الفرد والمجتمع والكون والأشياء، فـ”الذين آمنوا” ترتبط دائمًا بـ و”عملوا الصالحات”، والعمل الصالح في المشروع التربوي الحضاري يتشابك مع مكونات البناء الحضاري الأساسية: الإنسان، التراب، الزمن. والحضارة الإسلامية هي حضارة “الفسيلة” التي تقدس العمران، والعمل الصالح قرين العمران لا الخراب. واستعادة قيمة العمل ينبغي أن يبدأ من برامج التنشئة الاجتماعية الأسرية والمدرسية لكافة الفئات والطبقات التي تسيّر جهد المجتمع نحو البناء: جهد السائل والراعي، وصاحب الحرفة، والتاجر، والطالب، والعالم، والمرأة والمثقف، والفلاح.. لكي يضع كل منهم في كل يوم لبنة جديدة في هذا البناء.
ويتسع مفهوم العمل عند مالك اتساعه في النموذج المعرفي التوحيدي الذي يتضمن العمل في أبسط صوره من إعمال العقل إلى اليدين والحواس، هذا النموذج الذي أسس لحضارة الفسيلة، فالعمل فيه حتى آخر لحظة ليس في حياة الإنسان الفرد فحسب ولكن حتى آخر لحظة في حياة الكون كله، وهو ما استوعبه مالك في تعريفه للعمل “…فتَعلُّم ثلاثة حروف من الأبجدية عمل، وتعليم هذه الحروف عمل، وإزالة أذىً عن الطريق عمل، وغرس شجرة عمل واستغلال أوقات فراغنا في مساعدة الآخرين عمل، وهكذا… وتوجيه العمل هو تأليف كل هذه الجهود لتغيير وضع الإنسان وخلق بيئة جديدة”(151).
المجال الخامس: التربية الثقافية، الثقافة في المشروع التربوي الحضاري هي: المحيط الذي يعكس حضارة معينة، والذي يتحرك في نطاقه الإنسان المتحضر، وتضم فلسفة (الإنسان )، وفلسفة (المجتمع)، أي مقومات الفرد ومقومات المجتمع، مع الأخذ في الاعتبار ضرورة انسجام هذه المعطيات في كيان واحد، تحدثه عملية التركيب التي تجريها الشرارة الروحية، عندما يؤذن فجر إحدى الحضارات. والمحيط هنا: المقصود به “مجموعة الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي تمثل رأس المال الأوَّلي للفرد في الوسط الذي نشأ فيه”. والثقافة – أيضاً- هي “الإطار العام الذي يطبع أسلوب الحياة في مجتمع ما وسلوك الفرد بطابع خاص، يختلف عن الطابع الذي نجده في حياة مجتمع آخر”.
وفي ضوء هذا التعريف للثقافة، يمكن اشتقاق أهم عناصر التربية الثقافية في هذا المشروع، وهي:
1- المحيط (البيئة) مصدر التكوين التربوي الثقافي.
2- الرؤية الكلية التي تحكم حركة الإنسان وتحدد تصوراته نحو ذاته وخالقه والمجتمع والكون.
3- الانسجام والتآزر والوحدة بين مكونات المحيط التربوي لإنجاز العملية الثقافية مهما كانت درجة تنوعها.
4-التركيب، والذي يتم في عالم الأشخاص بين القيم الثقافية، والأخلاقية التي تنخلع على الإنسان في ضوء برنامج تربوي مناسب.
5- التوجيه، ويفيد هذا العنصر في “توجيه الأفكار” في التفعيل التربوي والاجتماعي للثقافة بما يضمن: قوة الأساس التربوي الثقافي للمجتمع، وتوافق السير، ووحدة الهدف… وتجنب الإسراف في الجهد والوقت للعمل الذهني والمهني واليدوي.
ثالثًا: فيما يتعلق بالمفاهيم التربوية الحضارية
من القضايا المهمة التي أثارها مالك بن نبي قضية “المفاهيم” وضرورة إعادة صياغة المفاهيم في البناء التربوي الحضاري، وذلك من أجل بعث الهوية الثقافية في أصالتها وانفتاحها الحضاري مرة أخرى، وذلك في مواجهة ما وقعت فيه من “جمود” و”استلاب” أفقدها القدرة على التجديد الحضاري، ومن مظاهر هذه الإصابات التي أصابت نظامنا المفاهيمي:
أ- تفريغ محتوى المفاهيم الإسلامية من مضامينها الأصلية، وملئها بالمضمون الغربي المادي بما يحمله من تصورات وأنساق فكرية ومعرفية مختلفة عن التصورات الإسلامية.
ب- إعطاء مدلولات جديدة للمفاهيم الإسلامية غير مدلولاتها الأصيلة في النسق الفكري الإسلامي، فيما يمكن تسميته بعملية إحلال تتشابه تمامًا مع عملية الاحتلال الكبرى للعالم الإسلامي.
ج- استحضار مفاهيم من النموذج الغربي ونقلها بالكامل، مما أثر على عملية الإبداع الإسلامي، والإبقاء على حالة الجمود على الموجود.
ومن هذه المفاهيم التي تعرضت للغزو والإصابة في نظامنا التربوي مفهوم المعرفة والعلم والإنسان، وغيرها من المفاهيم التي تمثل جوهر بناء النظام التربوي في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، لذا كان لزامًا أن يسعى نظامنا التربوي إلى بناء مفاهيم تربوية جديدة تعمل على: أولاً، استعادة وبعث المفاهيم التربوية الأصيلة والصالحة في واقعنا التربوي المعاصر، ثانيًا: بناء مفاهيم جديدة يحتاجها واقعنا التربوي المعاصر في ضوء الإطار المرجعي التوحيدي والمستجدات العلمية والتربوية المناسبة من خلال مبدأ الانفتاح والحوار الحضاري المتكافئ وهذا يتطلب بدوره إحياء فكرة “الاجتهاد” التربوي، والعمل على تشييد برنامج علمي لإعداد “المجتهد” التربوي القادر على بناء مفاهيم تربوية جديدة قادرة على الإحلال مكان المفاهيم الغربية من ناحية، وعلى تطوير الواقع التربوي والتعليمي من ناحية أخرى.
ومن هذه المفاهيم التي ينبغي العمل على بنائها في مجال التربية(*):
– النماذج العليا للتربية.
– المثل الأعلى للتربية.
– الوعي التربوي الحضاري.
– المدرسة الحضارية.
– الرأسمال الفكري التربوي.
– المعرفة.
– العلم.
– الثقافة.
– الإنسان.
– الأخلاق.
رابعًا: فيما يتعلق بالأهداف التربوية الحضارية
ينبغي أن يحتوى الهدف التربوي الحضاري على أربعة مكونات أساسية هي:
– المكون الأخلاقي الغائي: الذي يحدد أهداف الفعل وغاياته الروحية والاجتماعية، ويحقق محتواه الإنساني، ويؤمن شبكة العلاقات الاجتماعية التي تمثله أو تعبر عنه.
– المكون الجمالي: الذي يطابق صورة الفعل ومحتواه مع مقاييس الذوق الفني الجمالي الراقي، بحيث يخرج هذا الفعل في أحسن صورة ممكنة.
– مكون النـزعة العملية: التي تتسم بالحيوية والإيجابية والواقعية العملية المبادرة الدؤوبة، غير الحالمة وغير المسوفة، وغير المبذرة للجهد والطاقة، وغير المهدرة للفرص المتاحة.
– مكوِّن الفن التطبيقي: الذي يمنح الفرد القدرة التنفيذية أو الإنجازية المتطورة، التي ترفع مستوى فعالية أدائه المهني وتمكنه من التحكم الدقيق في مجال اختصاصه وعمله.
خامسًا: فيما يتعلق بالمنهج التربوي الحضاري
1- المنهج الذي هو لب العملية التعليمية ينبغي أن يسعي إلى غرس قيم: الاعتبار والسننية، بحيث يجعل عقل المتعلم قادرًا على التفكير الكلي، وإنقاذه من النظرة التجزيئية التفتيتية التى جعلته يتجاهل الماضي بعبره، والمستقبل بطموحاته وغرق في الحاضر دون مرتكزات منهجية سليمة وواضحة للتعامل معه، ومن ثم يكون التركيز على المنهج والقواعد، لا الوسائل والآليات، بما يجعله قادرًا على امتلاك المصادر للحكم على مجموعة التفاصيل، وأن يكون قادرًا على الحكم عليها حكمًا موضوعيًا في ضوء واقعه ذي الثلاثة أزمنة (الماضي – الحاضر- المستقبل). “وهذا يعني – أيضًا – أن يعاد النظر في المنهج، وفي تنظيمه على أساس من الشمول والتكامل، لا على أساس الفصل بين المواد، بمعنى القضاء على تقسيمات المناهج القديمة، واعتماد شمولية المعرفة، بحيث لا يفصل بين نظر وعمل، ودين ودنيا، وفكر وتطبيق”(152).
2- وينبغي -أيضًا- أن يتضمن المنهج التربوي برامج وأنشطة تدعم فكرة “المحصول” وذلك لمعالجة العجز في منطق تفكيرنا الذي “لا يقيم علاقات بين النشاطات والجهود والوسائل من ناحية، و”نتائجها” من ناحية أخرى. ومفهوم (المحصول) لا وجود له في تربيتنا الأولى، إذ هو لا يكون جزءًا من عالم أفكارنا، بينما المجتمع هو جهاز التحويل، الذي يحول الطاقات الاجتماعية إلى نتائج مختلفة… والواقع أننا عندما نحلل بعض النشاطات النموذجية في المجتمع الإسلامي، نلاحظ أن (التبديد) هو الغالب في معظم الأحيان على (المحصول)(153).
3- ويجب – أيضًا- أن يسعى المنهج التربوي الحضاري لمعالجة التشوهات التي حدثت في تصورات الإنسان وقيمه والتي انعكست بدورها على أحكامه وعلى طريقته في التفكير وفي عجزه عن إدراك الحقائق، وهذه المعالجة تكون بطرح مضامين منهجية تساعد على تخليص الإنسان من نظرته الجزئية للقضايا والحكم على الأشياء، وتصحيح تصوراته الأساسية وذلك استنادًا إلى نموذجه المعرفي الفاعل عقديًا ومعرفيًا في هذه المجالات التصورية والقيمية.
سادسًا: فيما يتعلق بمراكز التفكير التربوية
ويُقصد بمراكز التفكير التربوي هنا تلك المراكز التي تهتم بالتشكيل الفكري وبناء التصورات من خلال الإشعاع الثقافي والتربوي داخل المجتمع بما يساعد على تكوين رؤية عامة وأحكام قيمية متجانسة، أي تشكيل وعي المجتمع انطلاقًا من الرؤية الكلية التي يؤمن بها في عقيدته، وتواجه موجات الغزو الفكري والثقافي والتربوي بتحصين المجتمع بامتلاك رؤية وقيم ومفاهيم نابعة من مصدرية قيمه وتصوراته ومن مرجعيته الوسطية الخلاقة، وهذه المراكز ليست خاصة بالنخب وإنما هي لكل أفراد المجتمع وفي كل مستوياته.
الله من وراء القصد
وهو يهدي السبيل
* * *
الهوامش
(1) انظر:
– محمود العقاد، عباس. عبقري الإصلاح والتعليم الإمام محمد عبده، القاهرة، دار نهضة مصر للطبع والنشر، 1981.
– عمارة، محمد. ( تحقيق وتقديم) الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده، القاهرة دار الشروق، 1993.
(2) الكواكبي، عبدالرحمن. طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، تقديم: أسعد السحمراني، بيروت دار النفائس، ط3، 2006.
(3) الطالبي، عمار.ابن باديس حياته وآثاره، الجزائر، دار الأمة 2009.
(4) ﭘور، حميد كرامي.”جامعه ى تعليمات اسلامي..ﭘيش زمينه تأسيس دانشگاه اسلامي” (المدارس الإسلامية..خلفية تاريخية لتأسيس الجامعة الإسلامية)، فصلنامه دانشگاه اسلامي سال ششتم،شماره 12، زمستان 1381.
(5) شريعتي، علي. ماذا يجب عمله؟، اتحاد الجمعيات الطلابية الإسلامية في أوروبا ، مركز البحوث والمعلومات، 1984.
(6) إقبال، محمد. تجديد الفكر الديني في الإسلام، ترجمة: عباس محمود العقاد، القاهرة، دار الهداية، ط3 ،2006.
(7) انظر:
– كورتر، سليمان. أ.بيرج.”نموذج بديع الزمان النورسي للنهضة الإسلامية” ، المسلم المعاصر، العدد 30 يونيو 1982.
– حلمي القاعود، محمد. القيم الخلقية في رسائل النور، المسلم المعاصر، العدد 110، أكتوبر ديسمبر 2003.
(8) فتح الله كولن، محمد. الموازين، أضواء على الطريق، القاهرة، دار النيل، للطباعة والنشر، ك2، 2006، ص77.
وانظر أيضاً حول أفكار فتح الله كولن:
– بابا عمي، محمد. أرباب المستوى الأكاديميا باعتبارها جماعة علمية، القاهرة، دار النيل، 2012.
– مالك بن نبي (1905-1973م) ولد بمدينة قسنطينة بالجزائر ، حصل على الشهادة الثانوية عام 1925، وسافر إلى فرنسا لتسجيل دراساته العليا، ولكنه عاد لعدم توفر الإمكانات المادية، ثم تعرف على الشيخ عبد الحميد بن باديس رائد الحركة الإصلاحية في الجزائر، وفي عام 1930 قرر استكمال دراسته العليا مرة أخرى في فرنسا في معهد الدراسات الشرقية ولكن المعهد رفضه فسجل في معهد الكهرباء سودريا، وكان أول محاضرة يلقيها في فرنسا بين الطلاب المسلمون (هل نحن مسلمون؟). حصل على شهادة الهندسة عام 1936، وحاول إنشاء مركز تقنية في قسنطينة ولكن الاستعمار الفرنسي حال دون ذلك. عمل في ألمانيا في الفترة من 1942-1947 وألف هناك كتاب الظاهرة القرآنية الذي أحرق وأعاد كتابته بعد أن خرج من السجن مرة أخرى. عاد إلى الجزائر بعد الاستقلال وافتتح في منـزله (ندوة مالك ابن نبي)، تولى إدارة التعليم العالي عام 1964م ولكنه استقال منها في عام 1967 وتفرغ للعمل الفكري والتوجيه الإسلامي، وتوفي رحمه الله في أكتوبر 1973، قاربت مؤلفاته العشرين مؤلفاً من أبرزها: شروط النهضة، مشكلة الأفكار، مشكلة الثقافة، الظاهرة القرآنية، فكرة كمنويلث إسلامي، وجهة العالم الإسلامي المسلم في عالم الاقتصاد. (انظر حول سيرته الذاتية: مالك ابن نبي: مذكرات شاهد للقرن، دمشق، دار الفكر ط7، 19014م، محمد سعيد مولاي: محطات في حياة مالك، موقع مالك ابن نبي. http://www.binnabi.net/.
(9) الخطيب، سليمان. فلسفة الحضارة عند مالك ابن نبي..دراسة إسلامية في ضوء الواقع المعاصر، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1993.
(10) ابن مسعود الحسن، بدران. الظاهرة الغربية في الوعي الحضاري أنموذج مالك ابن نبي، قطر، كتاب الأمة، العدد 73، يناير 2000.
(11) ابن أحمد الأهدل، هاشم. أصول التربية الحضارية في الإسلام، الرياض، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 2007.
(12) النقيب، عمر. مقومات مشروع بناء إنسان الحضارة في فكر مالك ابن نبي التربوي، الجزائر، الشركة الجزائرية – اللبنانية، 2009.
(13) عاطف، محمد. معوقات النهضة ومقوماتها في فكر مالك ابن نبي، الجزائر، دار قرطبة للنشر والتوزيع، 2009.
(14) برغوث، الطيب. محورية البعد الثقافي في إستراتيجية التجديد الحضاري عند مالك ابن نبي، الجزائر، دار الشاطبية للنشر والتوزيع، 2012.
(15) الشكل من إعداد الباحث.
(16) ابن نبي، مالك. مشكلة الثقافة، ترجمة: عبدالصبور شاهين، دمشق، دار الفكر، ط16، 2014م، ص117.
(17) ابن نبي، مالك. ميلاد مجتمع، ترجمة: عبدالصبور شاهين، دمشق، دار الفكر، ط9، 2012م ص27.
(18) ابن نبي، مالك. مشكلة الأفكار، ترجمة: بسام بركة، أحمد شعبو، دمشق، دار الفكر، ط11، 2014، ص 77.
(19) المرجع نفسه، ص80-83 (بتصرف).
(20) ابن نبي، مالك. الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، دمشق، دار الفكر، ط 11، 2014م،ص82.
(21) ابن نبي، مالك. مشكلة الأفكار، مرجع سابق، ص36.
(22) ابن نبي، مالك. تأملات، دمشق، درا الفكر، ط11، 2014، ص146.
(23) ابن نبي، مالك. مشكلة الأفكار، مرجع سابق، ص83.
(24) المرجع نفسه، ص159.
(25) ابن نبي، مالك. مشكلة الأفكار، مرجع سابق، ص160.
(26) رواه البيهقي في كتاب: جماع أبواب صلاة التطوع وقيام شهر رمضان، باب القصد في العبادة ، رقم : 4629.
(27) ابن نبي، مالك. ميلاد مجتمع، مرجع سابق، ص43.
(28) ابن نبي، مالك. مشكلة الأفكار، مرجع سابق، ص 128.
(29) ابن بني، مالك. الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، مرجع سابق، ص107.
(30) ابن نبي، مالك. وجهة العالم الإسلامي، مرجع سابق، ص31.
(31) ابن نبي، مالك. وجهة العالم الإسلامي، مرجع سابق، ص54.
(32) المرجع نفسه، ص58.
(33) ابن نبي، مالك. وجهة العالم الإسلامي، مرجع سابق، ص108.
(34) ابن نبي، مالك. مشكلة الأفكار، مرجع سابق، ص107.
(35) ابن نبي، مالك. فكرة كمنويلث إسلامي، ترجمة: الطيب الشريف، دمشق، دار الفكر، ط10 ،2012، ص28.
(36) ابن نبي، مالك. تأملات،مرجع سابق، ص65.
(37) مجمع اللغة العربية: المعجم الوسيط، استانبول، دار الدعوة، ط2 ،1960، ص321.
(38) الأصفهاني، الحسين بن محمد الراغب، مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق: صفوان عدنان داودي، دمشق، دار القلم، 1992، ص336.
(39) ابن منظور،جمال الدين أبو الفضل. لسان العرب، حـ5، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ط2، 1997، ص94.
(40) خليل مصطفي، على. فلسفة التربية الإسلامية في القرآن الكريم، المدينة المنورة، مكتبة الحلبي، 1980 ص149.
(41) ابن نبي، مالك. فكرة كمنويلث إسلامي، مرجع سابق، ص39.
(42) المرجع نفسه، ص41.
(43) ابن نبي، مالك. مشكلة الثقافة، مرجع سابق، ص64.
(44) ابن نبي، مالك. القضايا الكبرى، دمشق، دار الفكر، ط1 ،2014م، ص43.
(45) ابن نبي، مالك. مشكلة الأفكار، مرجع سابق، ص156.
(46) ابن نبي، مالك. دور المسلم في الثلث الأخير من القرن العشرين، مرجع سابق، ص28.
(47) ابن نبي، مالك. دور المسلم في الثلث الأخير من القرن العشرين، مرجع سابق، ص29.
(48) ابن نبي، مالك. فكرة كمنويلث إسلامي، مرجع سابق، ص72 – 73.
(49) ابن نبي، مالك. وجهة العالم الإسلامي، مرجع سابق، ص125.
(50) ابن نبي، مالك. شروط النهضة، دمشق، دار الفكر، ط12، 2014م، ص 98.
(51) ابن نبي، مالك. وجهة العالم الإسلامي، مرجع سابق، ص153.
(52) ابن نبي، مالك. مشكلة الثقافة، مرجع سابق، ص71.
(53) ابن نبي، مالك. تأملات، مرجع سابق، ص129.
(54) ابن نبي، مالك. شروط النهضة، ترجمة: عمر مسقاوى- عبدالصبور، دمشق، دار الفكر، ط11 ، 2014م، ص75.
(55) ابن نبي، مالك. وجهة العالم الإسلامي، مرجع سابق، ص32.
(56) المرجع نفسه، ص33.
(57) ابن نبي، مالك. ميلاد مجتمع، مرجع سابق، ص29.
(58) ابن نبي، مالك. ميلاد مجتمع، مرجع سابق، ص 71.
(59) ابن نبي، مالك. تأملات، مرجع سابق، ص 130.
(60) ابن نبي، مالك. تأملات، مرجع سابق، ص81.
(61) المرجع نفسه، ص49.
(62) ابن نبي، مالك. القضايا الكبرى، مرجع سابق، ص106.
(63) ابن نبي، مالك. مشكلة الثقافة، مرجع سابق، ص15.
(64) ابن نبي، مالك. ميلاد مجتمع، مرجع سابق، ص105.
(65) ابن نبي، مالك. فكرة كمنويلث إسلامي، مرجع سابق، ص24.
(66) ابن نبي، مالك. وجهة العالم الإسلامي، مرجع سابق، 18.
(67) ابن نبي، مالك. الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، مرجع سابق، ص102.
(68) أبو الفضل، منى. نحو منهاجية للتعامل مع مصادر التنظير الإسلامي بين المقدمات والمقومات، القاهرة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1996م، ص9.
(69) ابن نبي، مالك. في مهب المعركة .. إرهاصات الثورة، ترجمة : عبدالصبور شاهين، دار الفكر، ط10 ،2013م، ص165.
(*) إشارة إلى دورة الحضارة الإسلامية، التي يتغافل العقل الغربي عن ذكرها أو تذكرها.
(70) ابن نبي، مالك. في مهب المعركة، مرجع سابق، ص221.
(71) المسيري، عبدالوهاب. العالم من منظور غربي، القاهرة، دار الهلال، 2001، ص 130.
(72) المرجع نفسه، ص 130.
(73) ابن نبي، مالك. في مهب المعركة، مرجع سابق، ص224.
(74) المسيري، عبدالوهاب. العالم من منظور غربي، مرجع سابق، 2001، ص 132.
(75) ابن نبي، مالك. في مهب المعركة، مرجع سابق، ص226.
(76) المسيري، عبدالوهاب. العالم من منظور غربي، مرجع سابق، 2001، ص 214.
(77) ابن نبي، مالك. في مهب المعركة، مرجع سابق، ص224.
(78) المرجع نفسه، ص225.
(79) ابن نبي، مالك. مشكلة الثقافة، ص104.
(80) المرجع نفسه، ص50.
(81) المرجع نفسه، ص50.
(82) المرجع نفسه، ص54.
(83) ابن نبي، مالك. مشكلة الثقافة، ص43.
(84) ابن نبي، مالك. مشكلة الثقافة، ص43.
(85) ابن نبي، مالك. تأملات، ص190.
(86) ابن نبي، مالك. مشكلة الثقافة، مرجع سابق، ص38.
(87) المرجع نفسه، ص38.
(88) ابن نبي، مالك. مشكلة الثقافة، ص 14.
(89) المرجع نفسه، ص 62.
(90) المرجع نفسه، ص 63.
(91) المرجع نفسه، ص 65.
(92) ابن نبي، مالك. مشكلة الثقافة، ص 47.
(93) المرجع نفسه، ص44.
(94) ابن نبي، مالك.مشكلة الثقافة، ص48.
(95) ابن نبي، مالك. من أجل التغيير، دمشق، دار الفكر، ط8، 2014، ص54.
(96) ابن نبي، مالك. شروط النهضة، مرجع سابق، 83.
(97) ابن نبي، مالك. تأملات، مرجع سابق، ص147.
(98) ابن نبي، مالك، مشكلة الثقافة، مرجع سابق، ص55.
(99) ابن نبي، مالك. شروط النهضة، مرجع سابق، ص86.
(100) ابن نبي، مالك. مشكلة الثقافة، مرجع سابق، ص73.
(101) المرجع نفسه، ص63.
(102) المرجع نفسه، ص67.
(103) ابن نبي، مالك. مشكلة الثقافة، مرجع سابق، ص112.
(104) ابن نبي، مالك. وجهة العالم الإسلامي، مرجع سابق، ص32.
(105) ابن نبي، مالك. مشكلة الثقافة، مرجع سابق، ص109.
(106) المرجع نفسه، ص104.
(107) ابن نبي، مالك. مشكلة الثقافة، مرجع سابق، ص104.
(108) المرجع نفسه، ص109.
(109) المرجع نفسه، ص111.
(110) ابن نبي، مالك. مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، مرجع سابق، ص41.
(111) ابن نبي، مالك. القضايا الكبرى، مرجع سابق، ص43.
(112) ابن نبي، مالك. ميلاد مجتمع، مرجع سابق، ص56.
(113) ابن نبي، مالك. القضايا الكبرى، مرجع سابق، ص45.
(114) ابن نبي، مالك. ميلاد مجتمع، مرجع سابق، ص76.
(115) المرجع نفسه، ص76.
(116) ابن نبي، مالك. شروط النهضة، مرجع سابق، ص57.
(117) المرجع نفسه، ص58.
(118) ابن نبي، مالك. بين الرشاد والتيه، دمشق، دار الفكر، 1978ص44.
(119) ابن نبي، مالك. فكرة كمنويلث إسلامي، مرجع سابق، ص74.
(120) ابن نبي، مالك. وجهة العالم الإسلامي، مرجع سابق، ص 124-125.
(121) ابن نبي، مالك. من أجل التغيير، مرجع سابق، ص29.
(122) ابن نبي، مالك. مشكلة الأفكار، مرجع سابق، ص103.
(123) المرجع نفسه، ص58.
(124) أبوالفضل، منى. جابر العلواني، طه. مفاهيم محورية في المنهج والمنهجية، القاهرة، دار السلام، 2009، ص37.
(125) أبو الفضل، منى. نحو منهاجية للتعامل مع مصادر التنظير الإسلامي بين المقدمات والمقومات، القاهرة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1996، ص14.
(126) المرجع نفسه، نفس الصفحة.
(127) ابن نبي، مالك. ميلاد مجتمع، مرجع سابق، ص38.
ويضرب مالك ابن نبي مثالاً لهذه الشبكة من العلاقات تاريخيًا الشبكة التي تكونت بين المهاجرين والأنصار في المجتمع الإسلامي الأول (ابن نبي، مالك. ميلاد مجتمع، مرجع سابق، ص28).
(128) ابن نبي، مالك. ميلاد مجتمع، مرجع سابق، ص56.
(129) ابن نبي، مالك. وجهة العالم الإسلامي، مرجع سابق، 153.
(130) ابن نبي، مالك. ميلاد مجتمع، مرجع سابق، ص100.
(131) ابن نبي، مالك. وجهة العالم الإسلامي، مرجع سابق، ص 32.
(132) ابن نبي، مالك. القضايا الكبرى، مرجع سابق، ص123.
(133) ابن نبي، مالك. بين الرشاد والتيه، مرجع سابق، ص78.
(134) ابن نبي، مالك. تأملات، مرجع سابق، ص51.
(135) مؤسسة الفكر العربي. التقرير العربي الثالث للتنمية الثقافية، بيروت، 2010، ص13.
(136) ابن نبي، مالك. وجهة العالم الإسلامي، مرجع سابق، ص35.
(137) المعهد العالمي للفكر الإسلامي. إسلامية المعرفة المبادئ العامة – خطة العمل – الإنجازات، الإصدار الثاني، فرجينيا، 1986، ص167.
(138) خليل، عماد الدين. حول إعادة تشكيل العقل المسلم. فرجينيا، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1991، ص47 – 60 (باختصار).
(139) ابن نبي، مالك. مشكلة الأفكار، مرجع سابق، ص47 – 48.
(140) المرجع نفسه، ص59.
(141) ابن نبي، مالك. القضايا الكبرى، مرجع سابق ، ص187.
(142) ابن نبي، مالك. إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث، بيروت، دار الإرشاد، 1999م، ص36.
(143) المرجع نفسه، ص26.
(144) المرجع نفسه، ص26.
(145) المرجع نفسه، ص28.
(146) النقيب، عمر. مقومات مشروع بناء إنسان الحضارة في فكر مالك بن نبي التربوي، مرجع سابق، ص66.
(147) خليل مصطفى، على. أصول الفكر التربوي الحديث ، مرجع سابق، ص496.
– كثير من الدراسات التربوية المعاصرة ترد نشأة مفهوم “الرأسمال الفكري” إلى الفكر الغربي في العقد التاسع من القرن العشرين وما بعدها، رغم أسبقية مالك بن نبي في طرح هذا المفهوم والتأصيل الحضاري له في الخمسينيات من نفس القرن (من هذه الدراسات انظر: محمد بن أحمد: “توظيف البحث العلمي لتنمية مجتمع المعرفة” في: مجموعة من المؤلفين: التعليم العالي والبحث العلمي في مجتمع المعرفة، تونس، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، 2006، ص605. وغيرها من الدراسات العربية التي تحذو نفس هذا المنحى في تأصيل مفهوم الرأسمال الفكري.
(148) خليل مصطفى، على. فلسفة التربية في القرآن الكريم، مرجع سابق، ص190.
(149) مسلم ، رقم 131.
(151) خليل مصطفى، على. فلسفة التربية في القرآن الكريم، مرجع سابق، ص206.
(151) ابن نبي، مالك. شروط النهضة، مرجع سابق، ص107.
*ومن الدراسات الرائدة في هذا الصدد دراسة السيد عمر: بناء المفاهيم ودورها في نهضة الأمة والتى دارت حول تشخيص حالة المفاهيم في الوضعية المعاصرة لعالمنا الإسلامي، وحالة تيه المفاهيم الحادثة في أمتنا، وآليات العبث بالمفاهيم ودواعيه، وطرق تبديد المفاهيم الإسلامية، مع طرح خبرة بحثية لبناء المفاهيم تطبيقًا على مفهوم التزكية. (عمر، السيد. بناء المفاهيم ودورها في نهضة الأمة، الرياض، دار الهدى، 2014).
(152) خليل مصطفى، على. أصول الفكر التربوي الحديث، مرجع سابق، 496.
(152) بن نبي، مالك. فكرة كمنويلث إسلامي، مرجع سابق، ص59.