أخباركلمة التحرير

نحو نظرية عامة في الزمن الفقهي بقلم أ.د محمد كمال الدين إمام

166 / 167

توطئة:

الزمن الفقهي جزء من تراثنا العقلي مضموناً، أردنا تحليله وتفعيله فجعلناه مصطلحاً حاولنا ضبط مفهومه، وتجلية عناصره، واختبار بعض قواعده في علم الخلاف الفقهي، وقسمناه إلى مبحثين:

الأول: في الزمن الفقهي: محاولة لبناء نظرية عامة.

الثاني: الزمن الفقهي وقواعد الخلاف: محاولة لقراءة قواعد الخلاف في الفتوى من منظور الزمن الفقهي.

* * *

المبحث الأول

نحو نظرية عامة للزمن الفقهي

[1]

مشكلة الزمن

أ- فكرة الزمن:

تعد فكرة الزمن من أكثر المفاهيم الفلسفية إثارة للمتاعب، وعلى الرغم من توغلها في التاريخ الكوني والإنساني فلا تزال عصية عن الحل، فهل الزمن مطلق أم نسبي؟ وهل هو قديم أم حادث. وهل هو متصل أم منفصل؟ كلها أسئلة حاول المفكرون والفلاسفة الإجابة عليها، فمنهم من اقترب من عالمها الذي يشبه السراب؛ ومنهم من ظلت الفكرة غريبة عن عقله، وظلت رؤى الماضي والحاضر والمستقبل – في عقله المتردد – تهويمات لتحقيب في العصور لا تروي ظمأ ولا تعطي مدركاً حسياً أو عقليا لهذا الزمن الغائب عن العقل، الحاضر جزئيا في الوجود.

ب- مفهوم الزمن:

وقد حاول أرسطو ان يمسك بطرف من تعريف الزمن فزاده تعقيدا، فربط مفهومه بفكرتين هما بحاجة إلى إيضاح – من زاوية ارتباطهما بالعقل – وهما فكرة المقدار وفكرة الحركة دون أن يعني «أرسطو» بالبحث عن جوهر الزمان، وهل هو في المقدار أو في الحركة؟ مما استوجب فيالق من الفلاسفة كل منهم يحاول حل معضلات المفهوم الفلسفي للزمن، وكان «ابن سينا» من أكثرهم عمقاً في محاولة تصحيح المفهوم الأرسطي وعرفه في كتاب «النجاة»: «بأنه مكان ذو مقدار يطابق الحركة». وعلي الرغم من أن «ابن سينا» حاول قراءة مفهوم الزمان في ضوء منهجه للتوفيق بين الفلسفة والدين وربطه بكمال القدرة الإلهية وتجاوز العديد من المشكلات التي تعرقل حركة المفهوم الأرسطي، إلا أنه في النهاية ترك مشكلة الزمان تدور في حلقة مفرغة بالقول بلا تناهى الزمان وهي منطقة فراغ لم يستطع «فخر الدين الرازي» ملأها بدفاعه عن ابن سينا، ولكنه اقتنص فكرة جوهرية تعنيني كثيرا في البحث عن الزمن الفقهي. وكان «الرازي» موفقاً في اكتشافه لها – رغمه نبرته الدفاعية هنا عن «ابن سينا» – عند قوله: «إن العلم بأصل الزمان علم أوّلى بديهي».

ج- تعريف الزمن:

الزمن لغةً: اسم لقليل الوقت وكثيره، ومرادفه في المعاجم العربية: الدهر، والوقت، والحين.

وفي الاصطلاح: عرَّفه «أبو الهذيل العلاف» بأنه: «الفرق بين الأعمال، وهو المدى ما بين عمل وعمل».

وقد فرَّق الإمام «البيضاوي» في تفسيره بين المدة والزمان، والوقت، فقال: «المدة المطلقة هي امتداد حركه الفلك من مبدئها إلى منتهاها، والزمان مدة مقوَّمة، والوقت الزمان المفروض لأمر».

د- الزمن الفقهي:

لم يهتم الفقهاء بتحديد مفهوم للزمن، ولم يحاولوا تجريده من معانيه الفلسفية والكلامية، واقتصروا في البحث عن أثره على الإنسان في عباداته ومعاملاته، ففقد الزمن وحدته الجامعة، وتحول إلى تفاريق ظن البعض أنها «تجعل الفقه مرناً يساير الزمن بفروعه المختلفة لا بأصوله القارة»، وجعل الزمن موكولاً إلى استعماله سواء كان اجتهاد المكلف واختياره كما في الصوم وكفارات اليمين، أو لاجتهاد الحاكم كضرب الآجال وطلب البينات والحجج. وتم تقسيم الزمان عند هؤلاء إلى زمان يدرك بالحواس، وزمان لا يدرك بالحواس ويسمونه زماناً معنوياً أو مطلقاً([1]).

وقد قسم «أبو العباس المرسي» الوقت باعتبار أفعال العباد إلى:

  • وقت الطاعة، وهو يقتضى من العبد أن يشهد فضل الله عليه في التوفيق.
  • وقت المعصية، وهو يقتضي من العبد الاستغفار والندم.
  • وقت النعمة، وهو يقتضي من العبد الشكر.
  • وقت البلية، وهو يقتضي من العبد الصبر والرضا.

ورغم طرافة هذا التقسيم وجاذبيته الروحية إلا أن مفهوم الزمن يرتبط عندي – لكي يكون زمناً فقيهاً – بأمرين:

الأول: المدة وهي سيرة العمل.

الثاني: الأمر وهو قيمة العمل.

وهما في الواقع عناصر الزمن الفقهي إذا أردناه سبيلاً إلى وحدة المصطلح بدلا من تفكيكه إلى مفاهيم تتوزع حولها الأحكام وتتناثر وتصبح من أسباب اختلاف الفقهاء. فالإمام «مالك» يرى أن العصر هو السنة، والإمام «الشافعي» يرى أن العصر هو الساعة، فمن حلف ألا يكلم رجلاً عصراً فعليه ألا يكلمه سنة ليكون باراً بقسمه عند المالكية، ويكفي أن لا يكلمه ساعة عند الشافعية.

فالزمن الفقهي – في تعريفنا – «الفعل الممكن في الزمن المعين» وهذا يعني أن الفعل المأمور به له ركنان: الإمكان لأن استحالته تخرجه من دائرة الزمن الفقهي، والتعيين لأن التعيين هو الذي يجمع الآنات في زمن يمكن تقويمه. والمنفعة التي هي جوهر الزمن الفقهي تقبل التقسيم المتعاقب ولكنها لا تبقى زمانين. وهذا المفهوم للزمن فرضته طبيعة الشريعة علي الفقهاء المسلمين، ولكن إرهاصاته بادية في الفقه الكنسي عن «أوغسطين» و«توما الإكويني» وغيرهما، ومن هنا حرَّمت المسيحية الربا؛ لأن المرابي يبيع الزمن أي يبيعون الليل والنهار وهما ملكية عامة لكل البشر، ولأن النهار هو زمن النور والليل هو زمن الراحة، فهم يبيعون النور والراحة، ولذا ليس من العدل أن ينعما بالنور أو الراحة الأبدية، فالزمن في القانون الكنسي ليس قابلاً للبيع([2]).

[2]

خصائص الزمن الفقهي

للزمن الفقهي خصائص فارقة بينه وبين الزمن الفلسفي، وهي خصائص لازمة يترتب عليها إلزامات بعضها تشريعي وبعضها أخلاقي.

أ- بداهة الزمن الفقهي:

الزمان ليس تجربة حسية بل إنها بداهة وجودية وعقلية عبّر عنها بدقة «فخر الدين الرازي» في مباحثه «المشرقية» بقوله: «إن العلم بأصل الزمان علم أولي بديهي والمطلوب بالبرهان ليس كونه موجوداً بل المطلوب منه حقيقته المخصوصة وكونه مقداراً للحركة». ويقترب منه «كانط» في «نقد العقل المجرد» بقوله: «الزمان ليس مفهوماً حسياً مشتقاً من خبرة ما… لأن ما هو متساوق أو متلاحق لا يمكن أن يكون محسوساً إلا إذا افترضنا أولوية تصور الزمان» وترتبط بداهة الزمان بضرورة المكان، «لأن الزمان لا يُفهم إلا في ضوء المكان، ولأن الزمان لا وجود له إذا انتهي المكان».

وارتباط الزمان والمكان بالزمن الفقهي ارتباط ضرورة. لأن عدم وجود أحدهما يفضي إلي عدم وجود الآخر، ويرى أبو العباس «الإيرنشهري» أن الزمان والمكان والمدة أسماء لجوهر واحد دائم الجريان، فالزمان دليل علم الله، والمكان دليل قدرة الله، والحركة دليل فعل الله، والجسم دليل قوة الله. ويرى «الإيرنشهري» كما ينقل عنه «علي شلق» في كتابه «الزمان في الفكر العربي والعالمي»: «أن المقدورات أجسام مصورة لا يمكن أن توجد إلا في مكان، فالمكان هو مظهر قدرة الله، وهذا رأي نيوتن».

والرأي عندي أن الزمان حركة فاعلة، والمكان حضور دائم، وهذا هو الأجدر بالزمن الفقهي، حيث يجد النسخ مكاناً في خريطة الأمر والنهي، وتجد الأحكام لها موقعاً بين الثابت والمتغير، وتبدو- طبقاً لهذا التحليل- أهمية قاعدة تغير الأحكام بتغيير الأزمنة والأمكنة، وقواعد العُرف والعادة وغير ذلك من القواعد الفقهية التي تعطي العقل البشري مساحة واسعة في الاحتكام إلى العقل، وفي مراعاة الأحوال والأشخاص، وفي ارتباط الحكم بوقائعه، وارتباط منهجية التطبيق العلمي بالمقاصد والمناطات.

ب- الزمن الفقهي عملي:

لـ «ابن عرفة» الفقيه المالكي رؤية للزمن تربطه بالصحة والفساد، فالزمن هو الوقت الذي يصح القيام بالعبادة فيه أولاً وآخراً، وهذه الخصيصة تدل علي كون الزمن الفقهي عملياً، والرأي عندي أن هذا الربط بين العبادة ووظيفة الزمن يؤدي إلى محدودية الزمن واختصار أهميته، فقول الله تعالي في سورة البقرة: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ» [الآية 189]، ليس مجرد بيان لأحكام التكاليف الشرعية؛ لأن الأهلة لا تظهر للمسلم وتختفي عن غير المسلم، إنها عامة تمتد وظائفها إلى الجنس الإنساني كله، بل- وليس في ذلك مغالاة- إلى الكون كله بما فيه ومن فيه، وتصبح معرفة الشعائر الإسلامية أوقاتاً وصحة وبطلاناً من وظائف علم المواقيت وليس الوظيفة الوحيدة له، والزمن ليس هو الأعوام والأيام، فأعياد المسلمين في الجمعة والصيام والحج لها نظائرها عند غيرهم وكلها من أيام الله. ودخول الزمن في الفرضية والندب والكراهة والحل والإباحة هو دخول عرضي مرتبط بالخطاب التكليفي والوضعي، وليس مرتبطاً بجوهر الزمان، ولم نجعل التكليف من خصائص الزمان حتى لا يستحيل الزمن الفقهي في أزمنة الفترة حيث لا تكاليف ولا رسالة ولا رسول. وربما نجد حكماً إذا عدنا إلى الاستصحاب باعتبار إبقاء ما كان على ما كان حتى يوجد دليل يغيره. لكن الاستصحاب ليس مصدراً منشئاً للحكم إنما هو دليل على وجوده، ودليل على عدم ورود ما يرفعه، ولذلك تنازعت المذاهب في حجيته، حيث يرى جمهور الفقهاء أنه حجة شرعية، ويرى المتأخرون من الأحناف أنه حجة دافعة لا حجة مثبتة، فهي كما يقول «محمد الطاهر الرزقي» حجة لدفع ما يخالف الأمر الثابت بالاستصحاب، وليس حجة على إثبات أمر لم يقم دليل على ثبوته.

ولأن الزمن الفقهي عملي، فقد يتأخر البيان إلى وقت الحاجة وقد جوَّزه أغلب الأصوليين.

وقد يتحرك الزمان في الفقه الجنائي ليكون ظرف زمان للعقاب محققاً وظيفة الردع العام ووظيفة الردع الخاص في الجزاء الجنائي.

وكثيرة هي الأحكام التي تتحرك أجزيتها من خلال عنصر الحركة في الزمن مثل التتابع في الصوم عند وطء الزوج عمداً في نهار رمضان، وقد حاول البعض قراءة الفروع الفقهية من خلال مفهوم الزمن وحركته، وهي قراءة محلها أثر الزمن علي الأحكام الفقهية، وهي في كل الأحوال تخرج عن نطاق بحثنا الذي ميدانه ماهية الزمن الفقهي.

ج- نسبية الزمن الفقهي:

من خصائص الزمن الفقهي أنه نسبي وليس مطلقاً لأنه يقبل النسخ والتدرج والتغير.

  • النسخ:

وقد عرفناه في كتابنا «أصول الفقه الإسلامي» بأنه «رفع حكم سابق بدليل لاحق» لأن نسخ الحكم قد يأتي بحكم جديد، وقد يرفع حكماً سابقاً دون أن يأتي بخلافه.

وحقيقة الأمر أن النسخ أثر من آثار التدرج في نزوله، فلو جاء الحكم دفعة واحدة لفقد النسخ معناه ووظائفه التشريعية.

والذي نراه أن النسخ في حق الشارع جل وعلا بيان، لأن خطابه جزء من علمه، أما النسخ في حق الإنسان فهو رفع وإزالة لأن الخطاب بالنسبة له تكليف، فإذا ثبت النسخ ارتفع الحكم وزال التكليف.

والخلاصة أن النسخ رفع لحكم سابق بدليل لاحق، ولا نسخ إلا بوحي، فدعوى النسخ بعد عصر الرسول باطلة، ورفع الحكم عن المكلف لا يأتي إلا من الشارع جل في علاه، والمُبلِّغ بذلك هو رسول الله، ولا يُبلغ النسخ أحد سواه.

  • التدرج:

التدرج في التكليف هو جزء من طبيعة الإسلام الذي يدعو إلى التيسير ورفع الحرج باعتباره من أهم قواعده العاملة، وقد فهم التدرج اللصيق بالنص القرآني على أنه تدرج في النزول، فلم ينزل القرآن علي محمد رسول الله r مرة واحدة، وتلك حقيقة تاريخية لا نحتاج إلى تأويلها، بل نحن بحاجة إلي الارتفاع بفهمها من خلال مقاصد الشريعة، واعتبارها منهجية في التعامل مع النص القرآني بعيدا عن تزمينه بعصر أو القول بتاريخية النص، وقد كان المسلمون الأوائل أكثر عمقاً وحذراً عندما استولدوا علماً جديداً هو أسباب النزول، وقد أنشأ الواقع علماً جديداً هو قواعد التنزيل أو فقه التنزيل الذي يرتبط ارتباطاً موضوعياً بفقه الواقع وفقه الأولويات، لأن نزول الحكم بيقين لا يوجب تنزيله بذات اليقين مع تغير الأزمنة والأحوال والمصاديق.

فالتدرج في علم أسباب النزول يعني الدخول إلى عالم الزمن عند معرفة الأحكام، ويعني أيضاً أن تطبيق الأحكام في العصور المختلفة قد يكون فورياً، وقد يكون جزئياً مروراً بمراحل زمنية استدلالاً بتدرج النزول، إلا أن تدرج النزول يرتبط بدور الوحي وطبيعة الرسالة، وفقه التنزيل يتعلق بفقه العودة إلى الشريعة وكيفية تطبيق الأحكام، وهو في حقيقته تطبيق جزئي بهدف الوصول إلى التطبيق الكلي. فهو آلية لتحقيق مقاصد الشريعة من خلال مآلاتها وليس إضافة أحكام جديدة بديلاً لأحكام نصية قطعية.

  • تغيُّر الأحكام:

يقول «الحلي» وهو فقيه إمامي ينتمي إلي مذهبية تنكر التغير: «إن الأحكام منوطة بالمصالح، والمصالح تتغير بتغير الأوقات وتختلف باختلاف المكلفين فجاز أن يكون الحكم المعين مصلحة لقوم في زمان فيؤمر به، ومفسدة لقوم في زمان آخر فينهي عنه».

والرأي عندي أن محال الأحكام هو موضوعاتها، وقد يذهب الحكم بذهاب المحل، والرؤية العينية الحسية تجعل من التغير حقيقة إنسانية وكونية.

يقول «الأردبيلي» في «مجمع الفائدة والبرهان»: «ولا يمكن القول بكلية شيء، بل تختلف الأحكام باعتبار الخصوصيات والأحوال والأزمان والأمكنة وهو ظاهر، وباستخراج هذه الاختلافات والانطباق على الجزئيات المأخوذة من الشرع الشريف امتياز أهل العلم والفقهاء»

والنقول كثيرة عند «ابن قيم الجوزية»، و«الشافعي»، و«ابن عابدين» التي تؤكد التغيُّر.

والرأي عندي أن ذلك من باب تغير المصاديق والموضوعات، وليس من باب تغير الكلي من الأحكام، لأن إبعاده عن حكم المسألة ليس استبعاداً لنص كلي تعتبر المسألة من مفرداته، ولكنه إبعاد للنص حين لا تكون المسألة من محاله، فالأولي التزام بالتطبيق مع وجود المحل، والثانية التزام بعدم التطبيق عند غياب المحل، والمشكلة التي نعانيها تكمن في القول بتاريخية النصوص فيصبح التغير خروجاً واضحاً على النص بدعوى أن المصالح تتقدم النصوص عند التعارض وهو افتراض يقوم على دعوى التعارض بين المصلحة الكلية القطعية، والنص القطعي الكلي، وقد سال مداد كثير لدى أصحاب هذا الاتجاه دون تقديم دليل على دعواهم، والقاعدة المنهجية تقول: إذا كنت مدعياً فالدليل، فنحن إذن أمام اختلاف عصر وأوان وليس اختلاف دليل وبرهان.

* * *

المبحث الثاني

قواعد الخلاف في الفتوى والزمن الفقهي

 

الفتوى عند البعض هي عقلنة الشريعة، وعند البعض الآخر هي عولمة الشريعة، والخلاف الدائر حول الثبات والتغير، والشمول والنسبية، والتخطئة والتصويب يمكن قراءته في ضوء هذين الاتجاهين عبر دراسة نقدية لتاريخ الفتوى، إنه بالضرورة تاريخ متحرك عبر منهجيات قائدة وأخرى راكدة، وعبر قواعد فقهية أصيلة، وأخرى دخيلة، الأمر الذي يجعل تاريخ الفتوى يتأرجح صعوداً ونزولاً، ويفضي في الأزمنة الأخيرة إلي ركود له دواعيه، وجمود تبدو للعيان ملامحه وتضاريسه، ولم يعد وصف الخطاب الديني المعاصر بالجمود «تجريحاً» نظن إمكانية الإعراض عنه، بل هو تشخيص صائب يضعنا جميعاً – مؤسسات وأفراداً- في حرج لابد من الاعتراف به، والبحث عن آفاق معرفية تتخطى العقلية الفقهية الماضوية إلى حاضر نحن أهله والأمناء على والمسئولون عنه ديناً ودنيا «فالتغير والثبات في الشرائع والملل من الأمور المسلَّمة ولا نقاش فيها، فهو سُنّة كل شريعة إلهية أو أرضية، والتغير ضروري بمستوى ضرورة وجود الثبات في الشريعة، وعدمه يُعد نقصاً ووجوده كمالاً، وضرورته ليس لنقص في التقنين يمنعه من الثبات، بل لمواكبة الزمان وتغيراته، ولعدم تحجيم الشريعة بزمان خاص». وكما قيل بحق: «لا تكون الصورة الكاملة للإسلام إلا باندماج العناصر المتحركة مع العناصر الثابتة في تركيب واحد تسوده روح واحدة وأهداف مشتركة».

وسوف أختار قاعدتين هما من النماذج التطبيقية في الزمن الفقهي: الأولى في الفقه السني وموضوعها التغير العرفي، والثانية في الفقه الإمامي ومضمونها الشرط المتأخر.

ومفهوم القاعدة الذي نختاره في هذه الورقة هو «الأمر الكلى الذي ينطبق على جميع جزئياته»، وقد عرَّفها البعض بأنها حكم كلي ينطبق على أغلب جزيئاته، والرأي عندي أن الأمر الكلي يتأبى على الأغلبية العملية، لأن ما يخرج من الوقائع عن حكم قاعدة لا يظل معلقاً في الفضاء التشريعي، بل يدخل إلى عالم قاعدة أخرى هو من مفرداتها عند التحقيق، وقد تكون القاعدة أصولية حركتها في مجال الاستنباط، أو جزئية ميدانها التطبيق على المصاديق.

أولاً: النموذج العرفي:

يقول صاحب الفضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور «أحمد الطيب»: «لفت نظري أثناء الفترة التي قضيتها بدار الإفتاء، ولا يزال يلفت نظري حتى الآن، مسألة «العُرف» وخطرها البالغ علي تكييف الفتوى وجنوحها إلى التشدد والتعسير، ومكمن الخطر- حسبما لاحظت- أن قاعدة «تغيُّر الفتوى بتغير العُرف» قاعدة مهملة أو نادرة التطبيق في الفتوى، وأن كثيراً من الفتاوى قد روعي فيها عُرف خاص ببلد معين تعمم كما هي على بلد آخر لا يسود فيه هذا العُرف، مما تسبب في حالة من الفوضى والارتباك عند الجماهير حين يستقل- مثلاً- علماء بلد آخر بفتوى مخالفة ترتبط بعاداتهم وأعرافهم، وأيضاً في حالة من الانقسام الحاد بين فريقين يتبع أحدهما فتوى بلده، بينما يتبع الآخر فتوى البلد الثاني، وليت الأمر يقف عند مجرد اختيار هذه الفتوى أو تلك، ولكن سرعان ما يصير الأمر إلى تخطئة كل من الفريقين لفتوى الآخر… وإني لأعتقد – إن لم يوجد نص قاطع- أن المسئولية أمام الله تحتم التيسير على المسلمين في هذا الزمان ما دام في إطار المقاصد الشرعية والقواعد الكلية بعيداً كل البعد عن التقليد معصوب العينين، والجمود على ظواهر النصوص دون استشراف لآفاق التيسير ورفع الحرج ومراعاة الأحوال، والتي تختزنها هذه الظواهر، وتحتاج إلى من يكتشفها وينزل بها إلى واقع الناس،… وهذا التخوف من إعمال النظر الفقهي في الفتوى- بسبب الورع – دفع البعض لانتهاج طريق سهل يريحه من عناء البحث في تكييف السؤال، والتنقيب عن حكمه ودليله، وتنزيله على الواقع، واستسهال الإفتاء فيه بالمنع والتحريم، قياساً على ما قيل في أشباهه، ولو لأدني ملابسة، ولا سند للمفتي إلا بعض مشتركات أو أوجه شبه ضعيفة لا تجعل المسألة التي هي محل الاستفتاء، والمسألة المقيس عليها قضيتين متماثلتين تنطبق عليهما القاعدة التي تقرر أن «حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد». بل كثيراً ما لاحظنا علي بعض الفتاوى التي تحتمل التيسير والتعسير أن يفتى فيها بالتعسير أو بالأحوط تورعاً ومن باب متابعة الخلف للسلف، مع أن هذا التعسير الذي يظنه المفتي إبراء للذمة أمام الله تعالى، هو بعينه التشدد الذي نهى عنه النبي r في حديثه الشريف: «يسروا ولا تعسروا».

وهذه المنهجية التي دعا إليها فضيلة الإمام الأكبر تفتح الباب واسعاً أمام تجديد للخطاب الديني – الإفتائي والتعليمي والدعوي – بما يبرئ الساحة، ويملأ كل المساحات المتاحة، وهي مساحات مفتوحة تعطي للأمة حقها في التشريع، ولأولياء الأمور حقوقهم في حماية العقائد ورعاية المقاصد، وتهيئة الأفكار للتعاضد والتوالد، كل ذلك عبر زمن – في المنظور الفقهي – هو آلة لتنظيم الوقت، وتحديد الواجبات، وبيان الفوارق بين القضاء والأداء، والأوامر بين الفورية والتراخي، والوظائف الفقهية والعملية لدوران الليل والنهار وكلاهما لو کان سرمدياً لاختلت الوظائف، وتعسرت التكاليف، وقد استوعب كلي الإسلام الأوقات التعبدية في حياة المسلم، وجعل من أوقاتها جدولاً يرسخ نظاماً لازماً وحاكماً خمس صلوات في اليوم والليلة، وصلاة للجمعة كل أسبوع فرضاً وأداءً، وصيام وحج يرتبطان بعام كامل، وكلاهما يرتبط بالاستطاعة، وكلاهما في زمن محدد، ويتمايزان في أن الصوم في وجوبه متكرر، والحج في وجوبه محدد بمدة واحدة، وكل هذه الأوقات التعبدية تجمعها قاعدة واحدة هي أن «الواجبات لا تسقط إلا بالأداء».

إن وجود الزمن في طريق الاستنباط منهجية لا يمكن التخلي عنها «وعدم القول بالمساحة المفتوحة في التشريع الإسلامي كما قيل بحق([3]) أدى إلى نتائج سلبية كثيرة، أثرت إسقاطاتها على فهم التشريع وطبيعة التعاطي معه إفراطاً أو تفريطاً، فمن قائل بالتصويب الأشعري الذي جعل عمل الفقيه في مجالات الاجتهاد عملاً تشريعياً لا اكتشافياً، وكان القياس الحنفي أحد نتائج هذا الفكر، وبين إخباري – إمامي- متمسك بالنصوص الشرعية بحرفيتها، ومحاولة سحب هذه النصوص على كل واقعة مستجدة بأي شكل أو توجيه يجد له سبيلاً، ومتوقف في ما لا مجال له ولا نص فيه بعينه».

كما أن عدم التمييز بين الثابت والمتغير من هذه الشريعة أدى إلى موقفين متباينين أيضاً، فمن متشكك بإمكانية استمرار الأحكام العبادية وبقائها على هيئتها دون طروء أو تغيير أو زيادة أو نقصان، مع تغافله عن أن العبادات توقيفية في مواقيتها، وعددها، وأجزائها. وشروطها وكيفية امتثالها… ومن متحفظ دائماً لأي محاولة تغيير في أي شكل من أشكال الأحكام المتغيرة وبعض المعاملات ذات الصبغة الإمضائية المتأثرة بعناصر تغير الزمان والمكان والعُرف وطبيعة الحياة، وهذا ما حدث في مقاومة أي وارد جديد من منجزات العلم والحضارة.

لذا فإن المساحة المفتوحة «لم تكن – كما يقول «باقر الصدر» – معركة ضد اتجاه أصولي فحسب، بل هي في حقيقتها معركة للدفاع عن الشريعة، وتأكيد كمالها واستيعابها لمختلف مجالات الحياة»..

ولـ «أبي سعيد الكدمي» – من فقهاء الإباضية في القرن الرابع- تحليل للقاعدة الفقهية «العادة محكمة» يقول فيه: «وقد يخرج في معنى الاطمئنان والتعارف وما تجري به العادات ما يشبه معنى الحكم الثابت في  الأصول، فتصبح بذلك العادات والتعارف في معنى ما يثبت الأحكام الثابتة». ومثل هذه القاعدة وتطبيقاتها نجده عند «ابن بركة» في «الجامع»، وعند «الشماخي» في كتاب «الإيضاح» وصولاً إلى العلامة «السالمي» في «طلعة الشمس» و«معارج الآمال».

ويرى فضيلة الإمام الأكبر «محمد مصطفى المراغي» في بحث له عن الاجتهاد: أن العُرف ليس دليلاً، وأنه لم يُعمل به باعتباره دليلاً، وإنما يُعمل به امتثالاً للدليل العام القاطع لموجب نفي الحرج.

والرأي عندي أن البحث في العُرف هو بحث في الزمن الفقهي وله رکنان:

الأول: التكرار والاطراد، وهو ما أشار إليه «السيوطي» في «الأشباه والنظائر» بقوله: «تعتبر العادة إذا اطردت، فإن اضطربت فلا».

الثاني: الشعور بالإلزام، وهو ما أشار إليه «ابن نجيم » في «الأشباه والنظائر»: «اعتبرت العادة إذا اطردت وغلبت»، والغلبة هنا تعبير عن الشعور بإلزاميتها، واستنكار مخالفتها.

والبحث في الأعراف والعادات هو بحث في تحقيق المناط، وتحقيق لا يستقل به علماء الشريعة وحدهم، لكون النظر في المناط لا يلزم منه أن يكون ثابتاً بدليل شرعي، وإنما يفتقر إلى العلم بما لا يُعرف ذلك المناط إلا به. ولا وجه للخلاف بين الفقهاء فيما لا مدخل لهم فيه.

وقد ربط بعض الفقهاء – قديما وحديثاً – قاعدة العُرف بالتغير بالأحكام، ويقصرونه على الأحكام الاجتهادية التي تثبت بالقياس أو المصلحة، فإذا أصبحت لا تتلاءم مع مصالح الناس فإنه يجب تغيير الأحكام لتغير الأعراف.

والرأي عندي أن القياس الأصولي أركانه أصل وفرع وعلة، وثمرة حكم تماثل منطوقه لتماثل أسبابه ومقوماته، والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل حجية العُرف تكمن في الأدلة الثابتة؟ أم تفرضها الوقائع المتحركة؟ إن العُرف في علم الأصول هو تابع لا متبوع والزمن لا يتعلق بدليليته، وإنما هو من لوازمه، والبحث فيه بحث في المصاديق، وهي جزئيات خضعت لكلي العرف حجية ومضموناً. والقطعي والظني من الأحكام لا مدخل للوقائع العرفية فيه لا في إلزامه ولا في مضمونه، فهي تستقبل ولا ترسل، وتحتكم ولا تحكم، وفي ضوء هذا التحليل تتضح الفوارق بين القياس والمصلحة والعُرف وكلها من بنية الحكم الشرعي، يُفهم في ضوئها العرف بحدوده ومجالاته.

«فالحقيقة تُترك بدلالة العادة» بشرط تعذر الحقيقة وهي الأصل في الكلام، ويتعين المجاز طريقاً لفهم المعنى لأن عرف الاستعمال قاضٍ على المعنى اللغوي. وبنفس التحليل أصبح «التعيين بالعرف كالتعيين بالنص» لأن المساحة المفتوحة التي لا حكم للشارع فيها على مستوى الجزئيات لها حكمها الشرعي الكلي الذي يتولى العقل بإظهار منهجية العلاقة فيه بين الكلي والجزئي، والشأن ذاته يستوعب قاعدة «المعروف عُرفاً كالمشروط شرطاً». و«المعروف بين التجار كالمشروط بينهم». وكل هذه القواعد مرجعيتها الزمن الفقهي وأثره في نظرية الاستقبال التشريعي لحركة النص.

يقول «شهاب الدين القرافي»: إن معرفة العُرف أمر متعين واجب لا يختلف فيه العلماء، وإن العادتين متى كانت في بلدين ليست سواء فإن حكمهما ليس سواء.

والرأي عندي أن هذا من باب التخيُّر في الإلزام، وليس تغيراً في الأحكام.

النموذج الثاني: الشرط المتأخر:

وقد وجد إشكال حقيقي في الفقه الإمامي بعد خلاف في الاجتهاد حول «إمكان الشرط المتأخر الشرعي» في العبادات والمعاملات على السواء كالغسل الليلي المعتبر في الاستحاضة، وفي الإجازة لصحة عقد الفضولي بناء على أنه كاشف عن صحة العقد من الأمر.

وحاصل الإشكال – كما جاء في موسوعة القواعد الأصولية الفقهية على مذهب الإمامية-: «إن الشرط والمقتضى يجب أن يكون حاصلاً عن المعلول مقارناً له زماناً فكيف يجوز تأخره في الزمان أو تقدمه؟ ولهذا فقد اختلف العلماء في الشرط الشرعي على قولين:

القول الأول: ذهب إلى استحالة الشرط المتأخر، قياساً للشرط الشرعي على العقلي، وقد علق المحقق «النائيني» في «فوائد الأصول» بما ملخصه: «أن ذلك يكون في المركبات الإضافية التي اعتبرت الوحدة فيها كالصوم من حيث أنه ليس إلا مجموع الإمساكات المتتابعة في آنات النهار المتصلة، فليست الإمساكات المتأخرة شرطاً للتكليف بالإمساك في الآن السابق، حتى يلزم اشتراط التكليف بأمر متأخر، بل الشرط هو تعقب القدرة في الآن السابقة، بالقدرة في الأن السابقة.

ولكن هذا الكلام لا يتأتى في باب الإجازة في عقد الفضولي لأن الاعتبار والعقل لا يساد على انتقال المال إلى ملكه في زمن العقد لمجرد أن يتعقبه الرضا والإجازة، مع أن الرضا مقدم للانتقال، لعدم حل مال الغير إلا عن طيب نفس».

القول الثاني: ذهب الكثير من الإمامية إلى «إمكان الشرط المتأخر أو المتقدم خصوصاً في الشرعيات التي هي أمور اعتبارية لا يصح قياسها بالأمور العقلية التكوينية، وخلاصة توجيه الإمكان أن الشرط مرة يرجع إلى الواجب، ومرة يرجع إلى الحكم، سواء كان تكليفياً أو وضعياً.

أما بالنسبة للشرط المتأخر عن الواجب فهو عبارة عن إرجاع الشرط بحصة خاصة، فيكون الشرط المتأخر كاشفاً عن وجود تلك الحصة في ظرف كونها مطلوبة.

أما بالنسبة للشرط المتأخر للحكم فهو عبارة عن تخصيص الحكم بحصة مفترضة تكون هي المطلوبة، ويكون الشرط المتأخر كاشفاً عنها في ظرف كونها مطلوبة.

وكما يجوز هذا في الأمر المقارن فإنه يجوز في السابق واللاحق، وهذا لا محذور فيه، وإنما المحذور في تأثير المتأخر في المتقدم».

وثمرة هذا التحليل يأتي في أمرين:

الأول: إذا قلنا باستحالة الشرط المتأخر يلزم استحالة الواجب المعلق.

والثاني: إذا قلنا بإمكان الشرط المتأخر فيمكن الواجب المعلق الذي هو عبارة عن تقدم بداية زمان الوجوب على زمان الواجب.

وبهذا تنحل مشكلة المقدمات التي يكون المكلف مسئولا عنها قبل وقت الواجب، ومنها:

1- وجوب قطع المسافة للحج قبل حلول أيامه.

٢- وجوب الغسل من الجنابة لصوم رمضان قبل الفجر.

۳- وجوب الغسل أو الوضوء – على قول- قبل وقت الصلاة عند العلم بعدم التمكن منه قبل دخول الوقت».

وفي كلمة أخيرة.. نحن إذن أمام نموذجين ينتميان إلى مذهبية مفارقة بين سنة وشيعة، ويجمعهما زمن فقهي سبق تعريفه بأنه «الفعل الممكن في الزمن المعين».

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات،،

* * *

([1]) الزمن عند علماء الفقه والأصول، محمد الطاهر الرزقي، مجلة الزيتونة- تونس، عدد 3 سنة 1994م، ص 57.

([2]) هذه الرؤية بحاجة إلى دراسة معمقة لعل الوقت يتسع لها قريباً.

([3]) راجع: المساحة المفتوحة في التشريع الإسلامي، محمد عبد القادر النجار، بيروت، 2013م، ص 71-72.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر