رسائل جامعية : العور الفلسفي
إذا كان “الاختلاف” سنة الله فى خلقه، فإن الفلسفة بصفة خاصة، وربما أكثر من غيرها من المجالات الفكرية، هى الأكثر تمثلا للاختلاف والتباين.
ومن هنا فإذا قال فيلسوف بفكرة، فلا يمكن أن يدهش الإنسان إذا رأى غيره يخالفه وينقده، باعتبار ذلك “من طبائع الأمور”، ولعلنا نذكر ما رد به فيلسوف الإغريق الشهير “أرسطو” عندما قال بعكس ما كان يقوله أستاذه أفلاطون، إذ لما سُئل فى ذلك قال ما معناه: إن أفلاطون أستاذى، لكن الحق ألزم لى من أستاذى.
ومن هنا أيضا شهد الفكر الإسلامى عشرات الفرق والمذاهب، من فلاسفة ومتكلمين وفقهاء وصوفية، وداخل كل فريق من هؤلاء فروع واتجاهات متباينة، وعلى سبيل المثال، فهناك سنة وشيعة، وداخل السنة هناك حنفية وحنبلية وشافعية ومالكية، وداخل الشيعة هناك إمامية وزيدية، وغيرهما، حتى لقد شاع القول فى المجال الفقهى بأن “فى اختلافهم رحمة“!
ومن الوارد أيضا أن يكون هناك من لا يرون ما يراه فلاسفة الإسلام ومفكروه…
لكن، عندما نكون بصدد بحث علمى عن موقف الفلسفة الإسلامية من توجه ما، فليس من العلمية أن ينحصر اختيار “عينة” المفكرين – فى الغالب والأعم – ممن لا يحسنون الظن بالإسلام، سواء كان ذلك تصريحا أو تلميحا، حيث تفرض المنهجية العلمية أن تكون “العينة” ممثلة للمجتمع الأصلى كما هو معروف فى مناهج البحث العلمى.
لكن الظروف قادت إلىّ بحثا أكاديميا على مستوى الدكتوراه فى إحدى الكليات، عَمَد إلى اختيار العينة ممن لا يحسنون الظن بالإسلام، ولا أريد الذهاب أكثر من تلك العبارة المخففة، وهو الذى يجعل القارئ يمكن أن يخمن الحكم منذ اللحظات الأولى، وبالتالى يبرز السؤال: فما لزوم البحث إذا كانت النتيجة معروفة سلفا، التى يريد الباحث أن يبرزها لنا؟
إن الأمر هنا مثله مثل قضية تعرض على محكمة، فيكون لزاما على القاضى أن يستمع إلى مختلف الشهود، مَن مع، ومَن ضد، وإذا اقتصر على نوعية بعينها، سعيا خفيا لإصدار حكم بعينه، قلنا أن المحاكمة غير عادلة، ولا يصح اعتبارها.
والدراسة المشار إليها تتمحور حول العقلانية واللاعقلانية فى الفكر الفلسفى الإسلامى، وتم اختيار المعتزلة على اعتبار أنهم هم الذين يمثلون التيار العقلانى دون غيرهم، وينفى اختيار أى نموذج من المجال الفقهى يمكن وسمه بالعقلانية، وهذا فى حد ذاته اعوجاج فى الفهم لأصول الفكر الإسلامى في مصادره وخصائصه، ويتغافل عن أن المعتزلة عندما أتيحت لهم فرصة التواجد فى قمة السلطة فى عصر الخليفة المأمون، تم شن حملة ضارية على من يخالفهم فى الرأى فى قضية خلق القرآن، وأبرز الأمثلة الشهيرة فى هذا تلك المحنة الشهيرة التى تعرض لها الإمام أحمد بن حنبل، لا لشيء إلا لأنه لم يرضخ لاتجاه الخليفة الحاكم، فتم تعذيبه وسجنه، فهل هذا مظهر من مظاهر العقلانية؟!!
ومَن هنا الذى يحترم العقل: الذى يسعى إلى إجبار غيره بالانحياز إلى رأيه، أم من لا يرضخ للتعذيب والسجن، وينحاز إلى ما أوصله إليه فكره واجتهاده، حتى ولو أغضب صاحب السلطة الأعلى، ولم ينحز إلى إغراءات القرب من الحاكم، وما يجره عليه هذا من عوائد مادية كثيرة؟
وعندما يقوم الباحث بتصنيف لاتجاهات الفكر الإسلامى، ويقصرها على: الاتجاه الفلسفى- الاتجاه الكلامى- الاتجاه الصوفى، ويتجاهل الاتجاه الفقهى، فإنه بذلك لا يكون أمينا فى رصد الواقع الفكرى الإسلامى، بل ويكون هو نفسه قد ساهم فى الجناية على العقلانية، وهى التى – هكذا المفروض- تتحاشى التحيز المسبق؟!
ثم يزداد الانحياز غير العلمى فى وصف الفلسفة الإسلامية، كما تتبدى عند ابن سينا وابن رشد والفارابى والكندى، بأنها هى الساحة التى يتواجد فيها الاتجاه العقلانى، مع أن الكثرة الغالبة من مؤرخى الفكر الإسلامى عامة والفلسفى خاصة يتهمون هذا الفريق من الفلاسفة بصفة خاصة بأن جهدهم تركز أكثر فى إعادة إنتاج الفكر الفلسفى اليونانى، وأنهم كانوا مقلدين وليسوا مبدعين، وإن كنا نحن حتى فى هذه الجزئية لا نأخذها هكذا بإطلاق، ولكن نقر بأن كثيرا مما تناولوه من مسائل وقضايا، كانوا تابعين، ولا نعنى بهذا أيضا أنهم يخرجون على تيار العقلانية.
وللشيخ مصطفى عبد الرازق -أستاذ الفلسفة الإسلامية الكبير، وشيخ الأزهر الأسبق، ووزير الأوقاف الأسبق- كتاب عظيم هو (تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية) برهن فيه على أن من يريد أن يتمثل الفكر الفلسفى الإسلامى الحقيقى، أى النابع من عقلية المسلمين واجتهاداتهم، وتتجلى فيه بصمات العقلية الإسلامية بعيدا عن التأثر بفكر الآخرين، فليتجه إلى إنتاج الفقهاء، حيث أن ما تناولوه من قضايا لم يكن مستوردا، بل هو نبت الثقافة العربية الإسلامية…لم يجلس الواحد منهم فى بيته متأملا ومفكرا فى مسائل وقضايا افتراضية، بل كانت مشكلات المسلمين وقضاياهم الواقعية هى التى تفرض تناول هذه القضية وتلك، وتترك غيرها، وترسم الحدود لانطلاق الفكر فى المجمل أو التفاصيل، مما يجعل هذا الفكر هو الأقرب للنهج العلمى والتوجه العقلانى.
ولعل انقسام الفقهاء- مرة أخرى- إلى عشرات الفرق والمذاهب لأقوى دليل على العقلانية، فالنصوص الدينية واحدة، فكيف قال هذا فى فهمها وتطبيقها بغير ما قال ذاك؟ لأن كل واحد – فى الغالب والأعم- أعمل عقله فى الفهم والتفسير، والشرح والتطبيق، فوصل إلى ما وصل إليه، إلى درجة أن تلميذا كبيرا لأبى حنيفة اختلف مع شيخه فى بعض التفسيرات، ولاحظ الناس ذلك فسألوه: لِم يُكثر الاختلاف مع أبى حنيفة؟ فكان رده أن الله Uقد آتى أبا حنيفة ما أتاه فرأى ما رآه، وأن الله Uقد آتى المخالف ما آتى، فرأى ما رآه، أفليست هذه صورة عقلانية نادرة؟
والإمام الشافعى، عندما ينتقل من العراق إلى مصر، فيغير بعض اجتهاداته، معلنا بذلك قاعدة مهمة فى اجتماعية المعرفة، ألا وهى العلاقة بين فهم النص الدينى والسياق المجتمعى والزمنى، أليس هذا ذروة من ذرى العقلانية التى تتسق مع العقيدة الإسلامية نفسها؟
والإمام القرافى، الذى انطلق من المنظور نفسه، فأفتى بتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان، وفقا لضوابط لابد منها، ألا يعد هذا توجها عقلانيا؟
والإمام الشوكانى الذى برز فى أوائل القرن التاسع عشر ليكتب فى “ذم التقليد، لمَ لا يُتخذ نموذجا للعقلانية؟
بل إن الدارس للاجتهادات الإسلامية فى تلك الساحة الشهيرة “بمقاصد الشريعة” يمكن أن يجد إعمالا للعقل أيما إعمال.
لكنها العين المتحيزة، التى لا ترى إلا ما يؤيد ما يؤمن به صاحبه، ولا ترى عكسه…
إنه نفس النهج الذى تعودنا أن نراه على شاشات التلفاز عندما “يتصيدون” مواطنا “شاذا” ليجهر برأى غريب، فتثار حوله ضجة، وكأن هذه هى صورة الفكر الإسلامى، مثلما رأينا واحدا يقول بضرورة هدم الأهرامات وأبى الهول.. صدّقوه، ولم يحصوا على تذكر واقع امتد مئات السنين، ومصر تحت مظلة حكم إسلامى، ولم يمس أحد الآثار الفرعونية هذا بضر ما، وإنما الذى حاول أن يمس أبى الهول هو نابليون الذى جاء مبشرا بحضارة فرنسية حديثة، ترفع علم العقلانية، فوق جثث قتلى بالمئات من أهل البلاد. وإذا كان هذا نهج كثير من أجهزة الإعلام التى يتلخص مبدؤها فى المقولة الشهيرة القائلة بأن كلبا لو عضّ إنسانا فليس هذا بخبر، ولكن لو عضّ إنسان كلبا، فهذا هو الخبر الذى يجب أن يحظى بالاهتمام والإذاعة والترويج، لكن النهج العلمى عكس ذلك تماما، لا يرتب أحكامه وفق أمثلة فردية، بل وفق الغالب، بل الجميع، على غير ماترى الدراسة من أن ” الإجماع” مثلا مظهر من مظاهر اللاعقلانية، مع أن العكس هو الصحيح!!
وإذ تضع الدراسة أهل العقل فى مقابل أهل النقل، لتضفى على الفئة الأولى كل ما هو مشرق متميز، والعكس بالعكس، فإنها تنسى أن داخل كل فئة مراتب ودرجات ومستويات، لكن تغليب منطق (إما.. أو..) يخفى هذه التفاوتات، وعلى سبيل المثال، فلا يكتمل إيمان المسلم إلا إذا سلّم بما جاء فى القرآن الكريم والسنة النبوية، مما نسميه “نقلا”، لكن كلا من القرآن والسنة يحث على إعمال العقل والتفكير فيما يقرأ ويأخذ وينفذ.
والمُضيقون لعمل العقل والتفكير لا يمثلون “كثرة”، ومثلهم يتواجدون فى كافة التيارات الفكرية فى العالم، وأشهر ما يحضر لأذهاننا الآن، الماركسية نفسها التى اعتبرها أصحابها قمة عقلانية، وُجد بها “نصوصيون” لا يطيقون ما حاوله البعض من الماركسيين من الاجتهاد فى فهم نصوص ماركس وإنجلز!
إن الفكر ليس منحبسا فى منطق (إما أبيض وإما أسود)، فهناك بين الأبيض والأسود ألوان طيف متعددة، ومن ثم فإن التمسك والانغلاق داخل منطق (إما..أو) الضيق يعبر عن “تعصب” لاعقلانى، يرفع سيف الإرهاب الفكرى، والاغتيال المعنوى!!
وتسوق الدراسة فكرة مثل فكرة المصدر الخاص بالتحسين والتقبيح، على أساس أن الاتجاه العقلانى يؤكد أن العقل هو الذى يحدد ذلك، وليس الشرع، وهى من المسائل التى يمكن القول فيها أنها مما أكل عليها الدهر وشرب، لأن الكثرة الغالبة من المفكرين والمصلحين والعلماء تنبهوا إلى أن “السياق المجتمعى”، والإطار الحضارى يلعب دورا كبيرا فى هذا، وابن خلدون يقف بارزا للتعبير عن هذا الاتجاه، حيث أن العقل ليس شيئا مجردا متجاوزا أبعاد الزمان والمكان، وإنما هو يتشكل وفق السياقات المجتمعية، والبيئات الثقافية، وهو مما كشفت عنه جهود علم اجتماع المعرفة.
وإذا سلمنا بما تذهب إليه الدراسة من أن العمل أو الشيء فيه ذاته الجمال والقبح، الخير والشر، فإن الإيمان بالله Iيدفع إلى التأكيد بأن الله هو الذى فعل هذا، وما العقل هنا إلا مكتشف!!
وإذا كان هناك استشهاد من الجاحظ بأن العقل هو الذى يُفضى بصاحبه إلى اليقين بخيرية هذا وشرية ذاك، فنحن لا نمل تكرار القول بأن “السياق المجتمعى” هو الذى يلعب الدور الأساسى فى تشكيل الوعى والتفكير.
وإذا كانت الدراسة تميل إلى واحد مثل ابن رشد، بل وتستشهد بقوله عن العلاقة الوثيقة بين العقل والشريعة، إلى درجة قوله بأن “الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له.. والعقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح”، فلِم يقيم الذين لا يحسنون الظن بالإسلام تناقضا بين العقل والنقل، وأبرز من استندوا إليه نفسه له كتابه الشهير (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال)!
ومما رأته الدراسة من علاقة بين العقل والنقل، لدى من وصفتهم بالعقلانيين أن العقل يجئ فى المرتبة الأولى قبل القرآن والسنة والإجماع، وهو ما ينبغى أن يكون فى إطار الأسبقية فى الوجود، حتى يمكن تلقى رسالة الدين، لكنها ليست أولية فى المقام، تماما مثل إنشاء الطريق قبل إنشاء المسجد، حتى يمكن للناس أن يصلوا إليه، لكن يظل المسجد هو المقصد، وما الطريق إلا “وسيلة“!
والدراسة تبرز الإمام أبا حامد الغزالى باعتباره ممثلا للتيار اللاعقلانى(!!)، متناسية أن الرجل مر بمراحل فكرية مختلفة، فأيها تسوق به مثلا؟
ولعل ما يُقال عن كتابه (تهافت الفلاسفة) أبرز مثال لسوء فهم الرجل، فهو قال بتهافت” الفلاسفة”، ولم يقل بتهافت “الفلسفة”، لأن نقده للفلاسفة هو نفسه ذروة التفلسف، لكن “عين السخط” سارعت إلى اتخاذ الرجل، من خلال كتابه هذا باعتباره عدوا للتفلسف والعقلانية، مع أن له كتابات فى المنطق، وهو من أسس للشك المنهجى فى كتابه (المنقذ من الضلال)، وهو الشك نفسه الذى اتخذه ديكارت فوُصف بأنه عظيم ومؤكد للعقلانية.
ثم إن الغزالى انصب نقده على الفلاسفة الذين تابعوا أرسطو فى مناقشاته الميتافيزيقية، وفى العصر الحديث برز المنطق الوضعى ليهاجم الفلاسفة الذين يخوضون فى عالم الميتافيزيقا، وأبرز دعاته (برتراند رسل)، فضلا عن كل فلاسفة التحليل، ومثلهم فى مصر الدكتور زكى نجيب محمود، فهل هجوم كل هؤلاء من شوامخ الفلسفة وعمالقة الفكر فى العصرالحديث ونقدهم للفلاسفة الميتافيزيقيين مظهر من مظاهر اللاعقلانية؟!!
لقد خاض عشرات الفلاسفة فى المسائل والقضايا الميتافيزيقية، مثل أصل العالم، وطبيعته والعناصر التى تكوَّن منها، ومصيره، منذ فلاسفة ما قبل سقراط، ولم يتوصلوا إلى إجابات حتى اليوم، فأقلع الجميع على وجه التقريب عن هذا الطريق، فهل نعدهم لا عقلانيين؟
والفلسفة الماركسية نفسها أنكرت الخوض فى عالم الميتافيزيقا، فهل ننظر إليها باعتبارها عدوة للفلسفة، وتعبر عن اتجاه لا عقلانى؟!!
واتخذت الدراسة من إنكار الغزالى للعلاقة الحتمية بين الأسباب والنتائج، فرصة لتأكيد ما ذهبت إليه من مخاصمة الرجل للعقلانية، ناسية أن فيلسوفا إنجليزيا مثل “دافيد هيوم” انتقد بنفسه فكرة العلاقة الحتمية وأكد أنها “جرى العادة”، ومع ذلك فلم يحكم عليه أحد باللاعقلانية، وظل أحد أفراد التيار العقلانى!!
وعندما “تعطفت” الدراسة بالإشارة إلى بعض الفقهاء، لم تجد إلا ابن تيمية فى بعض أفكاره، دون أن تدرى أن الرجل له كتاب ضخم عنوانه (درء تعارض العقل مع النقل) المكون من عشرة أجزاء، سعى من خلالها إلى التأكيد على أن النقل لا يعارض العقل، ولا العقل يضاد النقل، فهل تم الاطلاع عليه؟ بالطبع كلا، لأنه ينفى الكثير من الادعاءات المنتشرة عبر طول الدراسة وعرضها!! بل ويشيع الحكم على الرجل بين كثيرين بأنه مثال للغلو واللا عقلانية.. إنه نهج (الاصطياد)!!
وكذلك “ابن الصلاح” الذى أفتى بحرمة الاشتغال بالفلسفة، رغم أن هناك غيره أنكر ذلك ولم يقل بمثل ما قال، وربما قال بعكسه، فضلا عن أن ابن الصلاح هو من علماء الحديث، فلماذا هو وهناك غيره كثيرون، ساروا على غير طريقه؟!!
وبخصوص حملة بعض الفقهاء على الاشتغال بالفلسفة، فقد كتبنا فى ذلك، فى مقال نشر بمجلة المصور عام 1971 بعنوان: (هذه دعوة لمحاربة التفكير)، بمناسبة نشر كتاب جلال الدين السيوطى (صون المنطق والكلام عن فنى المنطق والكلام)، أعيد نشره فى كتابى (دراسات فى التربية والفلسفة) عام 1972.. ألم يكن يستحق القراءة، وهو كتاب ظهر فى هذا الوقت المبكر جامعا بين الرؤية الفلسفية والرؤية التربوية، مما يزيد فى المعرفة التى استندت إليها الدراسة المعنية؟
إن الاقتصار على الاستشهاد بالفريق الذى تابع أرسطو، مثل ابن سينا وابن رشد والفارابى كى يكونوا ممثلين للعقلانية الإسلامية فيه شبهة، وليت صاحبة الدراسة قد اطلعت على رسالة ماجستير متميزة نشرت فى كتاب للدكتورة فاطمة إسماعيل عن النظر العقلى فى القرآن الكريم، نشره المعهد العالمى للفكر الإسلامى، كى تتيقن من “عقلانية” الإسلام، وهى حقا ما يصفها الدكتور محمد عمارة بأنها “العقلانية المؤمنة”، فنحن عندما نعلِّم أبناءنا بأن هذه الظاهرة- مثلا – المطر، لها أسبابها التى يمكن معاينتها بالعقل وبالحواس وفق منهج علمى، نكون إزاء موقف “عقلانى”، وعندما لا نقف عند هذا، بل ونكمل أن الله هو الذى خلق هذا وذاك، ورتب مثل هذه العلاقة السببية بين الظاهرتين، نكون أمام عقلانية مؤمنة!!
وإذا كان المعتزلة فى الدراسة هم نموذج العقلانية، التى نصفها بأنها “متطرفة”، ويقابلهم الجبريون، فلِم لم يتم الاطلاع على فكر “الأشعرية”، الذين مثلوا الاتجاه الوسطى بين غلو الطرفين؟
يبدو أن الاطلاع على آراء الاتجاه الوسطى المعتدل، يمكن أن يكون خطرا على ما قصدته الدراسة من محاكمة الفكر الإسلامى ووضعه فى قفص الاتهام، عن طريق مألوف فى عالم السياسة عندما يعمدون إلى “شيطنة” الخصم، وتلويثه بالأوحال، وما هو أشد منها، حتى يُشرعون لضربه والحكم بإعدامه!!
إن الرأى الوسطى المعتدل يذهب إلى أن الله Uخلق الأفراد، بإراداتهم وبعقولهم، وخلق كل ما فى الطبيعة من أعمال، أما أن يوجه س أو ص إرادته إلى هذا الفعل أو ذاك فهذه مسئوليته، وهذا هو الأقرب عقلا لمشكلة الجبر والاختيار.
وفى مسألة “المنـزلة بين منـزلتين”، و”الوعد والوعيد”، ألا يحسمها قول المولى Uأنه يغفر الذنوب كلها إلا أن يٌشرك به؟ إن هذا يعنى ألا يسقط الإيمان عن أى مسلم مهما أخطأ، ما عدا الشرك بالله؟
ومن الغريب حقا أن الدراسة تصر على وصف عصر المأمون، الذى سيطر فيها فكر المعتزلة بأنه كان عصر حرية، ذلك أننا نتساءل على الفور: وما ذا بالنسبة لما حدث للعالم الفقهى الكبير: أحمد بن حنبل. وماذا يسمى تعذيبه وضربه وسجنه وتوبيخه ما دام يخالف الرأى المعتزلى، هل هذه هى العقلانية، وحرية الرأى؟!!
وخطير حقا أن تقول الدراسة، بعد أن تورد الآية 143 من سورة الأعراف، وكذلك ما جاء بالآية 103 من سورة الأنعام، مما يتصل بإمكان رؤية الله، تصف ما سيق فى الآيات بأنها “حجج السلطة”، وهو تعبير غير مهذب فى وصف ما يقول به الله U، وتصنف هذه الحجج بأنها تأتى فى المرتبة الأولى، وبعدها تأتى “أقوال الأنبياء” وبعض المشاهير فى الإجماع، وهو قول خطير وغريب ومؤسف، فهل بعد نـزول القرآن كان هناك “أنبياء”؟!!
إن مناقشة قضية إمكان رؤية الله عز وجل أو نفى ذلك، وفقا لحجج تسمى عقلية، هى غير عقلية فى حد ذاتها، فالمنطق لا يقبل عقلا أن تكون القوانين التى تصدق على الإنسان والطبيعة المخلوقين، هى نفسها التى نحكم بها ما يتصل بالله الخالق، وإلا كيف يستقيم هذا مع إيمان المؤمن بأن الله قادر على كل شيء؟
إننا فى مناهج التفكير الإنسانية لا نطبق المنهج التاريخى على الأرقام والمساحات، لأن لهذه منهجها الرياضى، ولا نطبق المنهج التجريبـى على دراستنا لوقائع التاريخ، ويكون هذا من العقلانية، لأن لكل موضوع منهجه المناسب له، وهذا من أوليات المنهج العلمى الذى هو أظهر مظاهر العقلانية، فكيف نطبق قواعد منطق التعامل مع الإنسان على الله U؟؟
ويتجلى هذا فى نفى الدراسة إمكان رؤية الله بالعين، حيث أن العين لا ترى إلا ما هو متحيز بمكان، والله غير متحيز بمكان…
مثلما الأمر فى الهواء، لا نراه، لكن نؤمن بوجوده، ونكرر مرة أخرى أن القوانين التى تُسيِّر الحياة الإنسانية والطبيعة وفقا لها لا تجرى بالضرورة على من خلق هذا وذاك، فهو إن شاء أرانا إياه، فله هذا، وإن شاء غير ذلك، فله هذا، وإلا لم يكن إلها!!
وإذا كانت الدراسة قد أعْلَت من شأن “التأويل” باعتباره مظهرا للعقلانية، فلابد أن نضع فى الاعتبار أن الأمر ليس سهلا ومفتوحا لكل الناس، فلابد من ألا يأتيه إلا من أوتى علما متعمقا بمجموعة من علوم القرآن، وأبرزها أسباب النـزول، وخبرة علمية باللغة العربية، ودراسة جيدة للسنة النبوية، والتاريخ، والقراءات.
وإذ تشير الدراسة إلى نكبة ابن رشد، ودور بعض علماء الدين فى هذا، فيجب تذكر قاعدة أن الحق لا يقاس بالرجال، وإنما يقاس الرجال بالحق، ففى كل زمان، وفى كل مكان هناك من ضعاف النفوس من يغلبون مصالحهم وعلاقاتهم على المجاهرة بالحق، كما هناك من يعينون الحاكم خوفا من عصاه، وطمعا فى جزرته، وفى هذا وذاك، يكون الدين نفسه بريئا من هذه المواقف، ولعلنا نستحضر هنا، كيف مالأ بعض علماء الأزهر حاكما مثل محمد على غيرة من السيد عمر مكرم الذى لم تلن قناته لقهر السلطة وبطشها، فلما تمكن محمد على من الأمر، استدار إلى من أعانوه كى يسقيهم من كأس الإهانة والإهمال، فضلا عن فتح الباب لنهب أوقاف الأزهر، لتمويل الحملات العسكرية الخارجية.
وتتخذ الدراسة من القياس العقلى مظهرا من مظاهر العقلانية، لكن التأمل فى حقيقته يكشف عن أن عقلانيته ليست ثابتة الأركان، ونستند هنا إلى القياس الذى ذكرته الدراسة:
الفلاسفة المسلمون مفكرون
ابن رشد فيلسوف إسلامى
___________________________
إذن ابن رشد مفكر إسلامى
إذ يبرز هنا تساؤل مهم: وهل هناك ما يبرهن على صحة المقدمة الأولى القائلة بأن الفلاسفة المسلمين مفكرون؟ بمعنى أن المسألة “افتراضية”، أى: إذا كان الفلاسفة المسلمون مفكرين…
ومن هنا فإن هذا البرهان العقلى يمكن الطعن فيه، وقام بهذا فيلسوف غربى شهير هو “فرنسيس بيكون”، وفى العصر الحاضر، برز “برتراند رسل” ليكون من أكبر ناقدى القياس العقلى.
وللأسف يظهر لنا غياب قراءة الكتاب العمدة للدكتور على سامى النشار (مناهج البحث عند مفكرى الإسلام)!
ونعود مرة أخرى لمواجهة هذه العينة التى استندت إليها الدراسة للكشف عن العقلانية فى الإسلام، حيث هناك إهمال صارخ لعدد من عمالقة الفلسفة الإسلامية، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، الأساتذة الدكاترة:
إبراهيم بيومى مدكور- أبو الوفا التفتازانى- أحمد فؤاد الأهوانى – محمد الخضرى – أبو العلا عفيفى- محمود قاسم- محمد البهى- الشيخ مصطفى عبد الرازق- عبد الحليم محمود- محمود زقزوق- فوقية حسين محمود – عبد الحميد مدكور- حسن الشافعى…
وعلى مستوى أعلام الفكر الإسلامى الحديث والمعاصر نذكر:
الشيخ محمد الغزالى- الدكتور يوسف القرضاوى- محمد يوسف موسى- المستشار طارق البشرى- فهمى هويدى- محمد سليم العوا- جمال الدين عطية- محمود شلتوت- محمد فتح الله بدران- عبد الحميد أبو سليمان -محمد قطب – محمد كمال إمام، فضلا عن عملاق الفكر فى الوطن العربى والإسلامى: عباس العقاد..
ويقف الدكتور محمد عمارة بصفة خاصة ليكون أبرز من “عقلن” كثيرا من القضايا، فضلا عن غزارة الإنتاج، حيث يشكل هو والدكتور يوسف القرضاوى أبرز من جدد فى الفكر الإسلامى… نقول هذا مقتصرين على مصر، مؤكدين أن بعض البلدان العربية والإسلامية شهدت بدورها الكثير من جهود التجديد فى الفكر الإسلامى.
وهناك المعهد العالمى للفكر الإسلامى الذى يعمل على الساحة العالمية منذ عام 1981، وأصدر ما يقرب من ستمائة كتاب، وعقد عشرات المؤتمرات كلها تسعى إلى إصلاح العقل الإسلامى، وفى مقدمة إصداراته كتاب (أزمة العقل المسلم) للدكتور عبد الحميد أبو سليمان.
أما مجلة المسلم المعاصر، فهى متواجدة فى الساحة الفكرية الإسلامية منذ ما يقرب من أربعين عاما، نشر فيها مئات المفكرين والمتخصصين والعلماء، فى اتجاه يتسق واسم المجلة، مما يقوم على النـزعة العقلية الوسط المعتدلة، والتى تُدخل متغيرات العصر فى حساباتها،…
ومجلة الأزهر الشهرية، تولى الدكتور محمد عمارة رئاسة تحريرها منذ ما يقرب من ثلاث سنوات، أصبحت تنشر شهريا الكثير من الدراسات والبحوث التى كتبها أعلام الفكر الإسلامى، وبعضها إعادة نشر لكتابات عمالقة الفكر الإسلامى، وعلى رأسهم الشيخ محمد عبده، ومحمد الخضر حسين، والدكتور دراز، وغيرهم، كيف لا يُستند إليها أيضا فى بيان الموقف الإسلامى من العقلانية، وكل كتابات هؤلاء تنطق بالعقلانية الإيمانية؟!
وهل يمكن لأحد أن يتغافل عن تلك المدرسة العلمية التى كونتها الدكتورة نادية مصطفى بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ومعها الدكتور سيف الدين عبد الفتاح، وكوكبة من الباحثين المتفردين، ومركز الدراسات الحضارية فى التأسيس لمنظور إسلامى للعلوم السياسية؟
وكذلك العمل العلمى الموسوعى الفريد الذى قام به الدكتور عبد الوهاب المسيرى حول قضية التحيز فى الحضارة الغربية ضد الفكر الإسلامى، حيث شارك فى العمل عدد غير قليل من المفكرين والعلماء جمعوا بين تخصصات علمية حديثة والغيرة والوعى الإسلامى، وكانت لنا مشاركة فى الكتابة تحت هذه المظلة..
كل ذلك ليس على سبيل الحصر، وإنما هى على سبيل المثال…
إنها نماذج مشرفة يزهو بها العقل الإسلامى، وتؤكد أن الفكر الإسلامى يجدد نفسه عن طريق هؤلاء وأمثالهم أضعاف ما ذكرنا، لا يستند إليهم البحث، لأن الاطلاع على فكرهم يقلب رأسا على عقب هذه النتائج وهذه الصور المهتزة للفكر الإسلامى التى عرضها.
إن اختيار النماذج والأمثلة له دور حاسم فى النتائج، ولنتصور أن باحثا يعرض للقضية الفلسطينية، واستشهد بكتاب غربيين فى الغالب والأعم، من الذين يؤمنون بدعوى الصهيونية، فكيف يكون حكمهم فى القضية؟!!
أو حتى لو حدث العكس، فتم الاستشهاد فقط بباحثين عرب ومسلمين..؟!
وهكذا فضلت الدراسة التى نعنيها بالاستشهاد بنصر حامد أبو زيد، وجمال البنا، وعاطف العراقى، وحسن حنفى!
إننى أعتذر إذا اضطررت إلى الاستشهاد ببعض جهودى العلمية والفكرية التى لم يُرجع إليها، حيث هناك أسباب “موضوعية ” كانت تحتم ذلك:
فالدراسة تقع فى مجال تدريس الفلسفة فى التعليم المصرى، وكاتب هذه السطور هو الذى أنشأ هذا النسق العلمى فى كليات التربية منذ عام 1969.
والدراسة تقع فى مجال التربية، وكاتب هذه السطور يمارس هذه المهنة منذ خمسين عاما، ولا يزال.
وأكرمنا المولى Uبوضع عدد من الأعمال التى كان من المفضل أن يستشهد ببعضها، مثل: موسوعة (أصول الفقه التربوى الإسلامى)- أربعة أجزاء-، وموسوعة (التطور الحضارى للتربية الإسلامية) – خمسة أجزاء..
فالنسق المعرفى الذى طرقته الدراسة ليس فلسفة إسلامية بحتة، ولكن من منظور تربوى، ولذلك كان من المهم الاستعانة ببعض جهودنا فى هذا المجال- التربية الإسلامية- والذى لنا فيه ما يزيد على خمس عشرة مؤلفا.
ولأن المعجزات الإلهية لا تخضع للسنن الكونية، مثلما لم تحرق النار النبى إبراهيم، ومثلما استطاع النبى موسى uأن يعبر الحاجز المائى بعد ضربه بعصاه، فتحول إلى ممر برى، فضلا عن معجزات عيسى ابن مريم عليهم جميعا السلام، فقد سعت الدراسة، بحكم التزامها الضيق بالعلاقة السببية الحتمية إلى عملية “تأويل” ترى فى الأشياء التى جرت المعجزة فيها، بأنها يمكن أن ترمز إلى كذا وكذا، ونعيد التأكيد مرة أخرى أن الله ما دام هو خالق السنن، فهل يصعب تصور أن يجريها على غير ما تعودنا؟!!
إنها نفس المدرسة التى أنتجت دراسة الدكتور محمد أحمد خلف الله، فى رسالته عن الفن القصصى فى القرآن، وبلبلت الرأى العام، والوسط الجامعى عام 1947.
إن إنكار المعجزات الإلهية فيه إنكار للقدرة الإلهية جل وعلا سبحانه عن مثل هذه التصورات الشاذة.
لقد كان المستوى المعرفى للبشرية وقت ظهور الأنبياء مما يفتح الباب للمعجزات الإلهية كى تكون وسيلة مهمة فى إقناع أناس هذه الأزمنة.
ونعود مرة أخرى للنماذج التى استندت إليها الدراسة فنجد:
–مع الاحترام الشديد للراحل جمال البنا، فقد كان الرجل خبيرا فى الشئون العمالية، وخاصة فى الجامعة العمالية، وكثير من كتاباته وتصريحاته مجرحة، وأشهرها تجويزه لتدخين السجائر أثناء الصيام، والتى هى أصلا مكروهة بصفة عامة، وكذلك تجويزه تبادل القبلات فى شهر رمضان.
لقد كانت الفضائيات والصحف تجرى وراءه لأنها تبحث عن الإثارة، فصنعت منه “مفكرا” إسلاميا، وهو الأمر الذى لم نر أى مفكر حقيقى يقره بصورة من الصور.
–كذلك فنحن نقدر الدكتور حسن حنفى ونقر بتميزه أستاذا فى الفلسفة ومفكرا كبيرا، لكنه ليس كما وصفت الدراسة “رائد الفكر الفلسفى الإسلامى المعاصر”. نقول هذا مع اضطرارنا إلى القول بأنه صديق لنا واستضفناه فى صالوننا الثقافى الذى كنا نعقده أكثر من مرة، وأذكر واحدا مثل الدكتور فؤاد زكريا، والذى لا يُحسب أبدا على الفكر الإسلامى، أنه كثيرا ما قرأ لحسن حنفى لكنه- فؤاد- لم يستطع أن يعرف: ماذا يريد أن يقول حسن، كما لم يستطع أن يصنفه فى الاتجاهات الفكرية المتعارف عليها!!
–وما قلناه عن حسن حنفى نقوله أيضا عن الراحل عاطف العراقى، من حيث الصداقة والعلاقة الشخصية الطيبة، واستضافته أكثر من مرة فى صالوننا الثقافى، لكنه كان لا يعترف بصفة الإسلامية للفلسفة المعروفة بهذا الوصف، وحرص على تسميتها بالفلسفة العربية، فكيف تتخذه الدراسة مثالا من أئمة الفلسفة الإسلامية. ونأسف إذ نقول أنه – والله أعلم- قد تأثر بالتتلمذ فترة إعداده لأطروحته للدكتوراه بالأب جورج شحاتة القنواتى، فى دير الدومنيكان، دون أن يعنى هذا أى تشكيك فى الرجل.
–أما “نصر أبو زيد”، فقصته طويلة ومؤسفة، حيث صنع الإعلام منه بطلا فكريا، منذ أن تقدم للترقية، فإذا باللجنة العلمية المتخصصة تكتب عدة تقارير تدين ما كتب وتدحضه بالأدلة العلمية والمنهجية البحثية، ومن ثم تحكم بعدم استحقاقه الترقية، فإذا بالكاتب اليسارى الشهير فى وقته “لطفى الخولى”، يستغل صفحة كاملة أسبوعية كان يشرف عليها فى جريدة الأهرام ليستكتب كتابا يساريين يدافعون عن أبو زيد، فى واقعة فريدة، عندما تكون جريدة يومية ساحة لمناقشة تقارير اللجنة العلمية للترقيات.
ولعل ما يفسر كل هذه الاتجاهات التى تتعامل مع المعرفة الدينية، دون تفرقة بين اجتهادات بشرية، وبين نص إلهى أو نبوى، ما ورد فى دراسة غاية فى الإحاطة والشمول، ودرجة عالية فى الدقة العلمية والمنهجية البحثية، قدمها الدكتور محمد عمارة فى عدد جمادى الآخرة 1335هـ/ أبريل 2014 بعنوان (خطأ التاريخية وخطرها) ودقة العنوان تشير إلى دقة المعانى الواردة، فى سعى محمود لإنقاذ قراء عديدين يمكن أن يقعوا فى شرك المتقولين على المعرفة الدينية بما لا تقصد.
إن هناك منهجا للتعامل مع الفكر الإنسانى فى مراحل تطوره المختلفة، بحيث يستحيل دراسته إلا من خلال سياقاته المجتمعية وأبعاده الثقافية، وأظهر أمثلته الوعى بالأبعاد الثقافية لمقولة فيلسوف مثل أفلاطون فى (الجمهورية)، وما أجراه من تقسيم طبقى، أوجب أن يسير نظام التعليم ومناهجه وطرقه بحيث تعزز هذا التقسيم الطبقى، ذلك أن المجتمع الأثينى نفسه الذى عاش فيه أفلاطون كان يقوم على تصنيف طبقى يجعل العمل والمشقة والمخاطرة من نصيب العبيد، بينما التأمل والرفعة والحكم للأحرار، وما توافر لهم نتيجة هذا من فراغ، ساعد على مزيد من الدراسة والبحث والتفلسف.
نتيجة هذا النهج، عرفنا ما اصطلح على تسميته بعلم اجتماع المعرفة، والذى فى ضوئه أنعم الله علينا بفكرة قامت عليها دراستنا لنيل درجة الدكتوراه، حيث كان الموضوع ينهج النهج نفسه، وكان الموضوع متعلقا بـ “الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية لحركة الفكر التربوى فى فترة الاحتلال البريطانى من عام 1882، حتى عام 1922”.
أما أن يطبق هذا على النص الدينى، فهذا خروج على المنطق، لأنه، كما عبرنا أكثر من مرة فى الدراسة الحالية، تطبيق لمنهج التعامل مع المخلوق على الخالق، الذى لا يتغير بتغير الأحوال المجتمعية ومرور الزمان، واختلاف المكان.
لكن قراءة ما انتهى إليه هذا وذاك من المفسرين والمفكرين والفلاسفة، فهذا يخضع لمنطق القراءة المجتمعية.
وما يتعامل معه علم اجتماع المعرفة، هو قرين ما يسمى “بالتاريخية”، وكأن النص الدينى كائن حى يتغير فهمه وتفسيره وفقا لتغير الزمان، ومن ثم لا نكون مقيدين بالنص نفسه، لأن المعانى التى يحملها، والأفكار التى يروج لها تتغير بتغير الزمان، وإذا كان جوهر هذه النـزعة ومقصدها الأساس هو إقامة قطيعة معرفية كبرى، ومن ثم عملية مع الموروث الدينى، وتحرير العقل والمجتمع من حاكمية الدين، فسيان سميت هذه النـزعة “تاريخية” أو “حداثة” أو “علمنة” أو “ليبرالية”، فإن النتيجة واحدة وهى إقامة القطيعة المعرفية الكبرى مع ثوابت الدين، وعزل السماء عن الأرض، وجعل العالم والواقع والعقل والتجربة هى المرجعية الوحيدة للحياة الإنسانية، دون الدين، وإحالة الدين إلى “مستودع الدين” (محمد عمارة، مجلة الأزهر، جمادى الآخرة 1435: 1090).
لقد أصبح الإنسان وحده مقياسا للإنسان، وأصبح حكم الله، والسلطات الدينية التى تنتسب إليه خاضعا لحكم الوعى البشرى الذى يطلق الحكم الأخير باسم الحرية، هذه الحرية التى تمثل مكسبه الجديد… غير القابل للنقض أبدا، فهذا التنوير الوضعى، بكل إفرازاته وتجلياته، ومنها “التاريخية”، قد مثل القطيعة المعرفية الكبرى مع الدين، وأحل العقل والتجربة محل الدين واللاهوت (محمد عمارة: 1091).
ومن هنا وجدنا الدكتور نصر حامد أبو زيد، فى كتابه (الاتجاه العقلى فى التفسير، 1982:95) اهتم بقضية “المجاز” حتى يدلف منها إلى “التأويل” بحيث لا يتقيد بظاهر النص القرآنى، وهو الباب الذى أقلق، إن لم يكن أفزع كثيرين من الغيورين على دين الله، من حيث ما قد يؤدى إليه هذا من اختلافات فى معرفة ما يقصده المولى Uمن هذه الآية وتلك، وتوابع ذلك وتداعياته، وهو فى ذلك يتابع المدرسة نفسها التى عمل بين صفوفها سابقه الدكتور محمد أحمد خلف الله.
وعلى سبيل المثال فقد اعتبر أبو زيد “المثل” صورة من صور “المجاز” التى تستهدف معنى قد لا يكون هو الذى تنص عليه الكلمات الواردة نصا فى القرآن وضرب مثلا نسبه إلى عمر بن الخطاب من أنه ذكر أنه لا يفهم قوله تعالى فى سورة البقرة: (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)). ولم يستطع أحد من الحاضرين أن يوفق إلى إدراك المعنى الحقيقى، وحتى قال ابن عباس: يا أمير المؤمنين، إنى أجد فى نفسى منها شيئا، قال: فتلفت إليه فقال: تحول ههنا- حيث كان خلفه- لم تحقر نفسك؟ قال: هذا مثل ضربه الله عز وجل فقال: أيود أحدكم أن يعمل عمره بعمل أهل الخير وأهل السعادة، حتى إذا كان أحوج ما يكون إلى أن يختمه بخير حين فنى عمره واقترب أجله، ختم ذلك بعمل من عمل أهل الشقاء – فأفسده كله، فحرقه أحوج ما يكون إليه”.
فأبو زيد يرى أن هذه الرواية، إن صحت، تعد دلالة على تلك الجدة الأسلوبية التى أثارت إعجاب العرب وحيرتهم فى نفس الوقت.
وقد حاول أصحاب هذه النـزعة التاريخية بهذا “التأويل العبثى” أن يحولوا حقائق الألوهيات والنبوات والوحى إلى “مجازات” تثير السخرية، فالله عند أستاذ آخر – هو الدكتور حسن حنفى – كما ينقل عمارة (ص 1101) هو: الأرض، والخبز، والحرية، وصرخات الألم، وصيحات الفرح، والكفاح المسلح، والإصلاح الزراعى! وصفات الله هى صفات الإنسان الكامل. والتوحيد هو وحدة البشرية ووحدة التاريخ، والوحى هو البناء المثالى للعالم، والعلمانية هى أساس الوحى، والإلحاد هو التجديد، والمعنى الأصلى للإيمان!!
وإذا كان هذا الفريق فى دعاويه عن التأويل يتظاهرون بأنهم فى هذا يتابعون “ابن رشد”، فإن فيلسوفنا نفسه قد أوضح المسألة بحيث تبرز لنا جوانب لا تتطابق مع هذا الذى ادعوه عنه، فى كتابه (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال) الذى حققه محمد عمارة (دار المعارف بالقاهرة، 1972).
فمعنى التأويل عند ابن رشد (ص32) “هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، ومن غير أن يُخل ذلك بعادة لسان العرب فى التجوز، من تسمية الشيء بشبيهه أو بسببه، أو لاحقه أو مقارنه، أو غير ذلك من الأشياء التى (عُددت) فى تعريف أصناف الكلام المجازى”.
وأكد ابن رشد “ونحن نقطع قطعا أن كل ما أدى إليه البرهان، وخالفه ظاهر الشرع، أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربى” (ص 33).
ولننتبه جيدا لقول ابن رشد (ص33) “أجمع المسلمون على أنه ليس يجب أن تحمل ألفاظ..الشرع كلها على ظاهرها، ولا أن تخرج كلها (عن) ظاهرها بالتأويل”.
ولأن طريق التأويل محفوف بالمخاطر، حيث يتكئ عليه البعض ليمضى فيلبس النص ما يراه هو، وربما لم يقصده صاحب النص، أكد ابن رشد أيضا (ص33) على جملة ضوابط واحترازات لابد من التحسب لها فقال: “إنه ما من منطوق به فى الشرع، مخالف بظاهره لما أدى إليه البرهان (إلا) إذا اعتُبر، وتُصُفحت سائر أجزائه، وُجد فى ألفاظ الشرع ما يشهد بظاهره لذلك التأويل، أو يقارب أن يشهد”.
ويؤكد ابن رشد على أن التأويل لا ينبغى أن يمارسه كل الناس، بل يكون مقصورا على فئة من خاصة العلماء المتخصصين فى توافر كافة عناصره المتصلة بالنص المراد تأويله، من حيث الفقه والعلم التاريخى، والإحاطة بأبعاد اللغة العربية المختلفة، والمهارة والمعرفة بالتفسير وعلم الحديث، وأسباب النـزول، وغير هذا وذاك من شروط “العلمية” فى علوم الشرع.
وابن رشد يسوق فى هذا قياسا مهما (ص 44) بأنه إذا كان من شرط التكليف الاختيار، فالمصدق بالخطأ مِنْ قبل شبهة عرضت له، إذا كان من أهل العلم معذور، ولذلك قال عليه السلام: “إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر”، ويرى ابن رشد أن الحاكم المقصود هنا هو “العالم” الذى خصه الله بالتأويل، وهذا الخطأ المصفوح عنه فى الشرع، إنما هو الخطأ الذى يقع من العلماء إذا نظروا فى الأشياء (العويصة)، التى كلفهم الشرع (النظر) فيها.
لكن الخطأ الذى يقع من غير هذا الصنف من الناس، فهو إثم محض.
وأخيرا ينبه ابن رشد إلى أن من الضرورى، عند مخاطبة الناس، أن يُراعى التوافق بين مستوى المعلومة موضوع الحديث، وبين المستوى المعرفى للمخاطَب، وهو الأمر الذى يحرص عليه أهل الاختصاص فى فروع العلم المختلفة، فما بالنا بمعارف ومعلومات تتصل بالدين، حيث قد يؤدى الخطأ فيها إلى الكفر والعياذ بالله، ومن هنا لابد من التيقن أن هناك أمور “متشابهات”، نص الله Uعلى الانفراد بتأويلها، وأتاح العلم بها من أسماهم “الراسخون فى العلم”، وهم المتخصصون، المتبحرون، أو بلغة عصرنا “مرتفعو الجودة” فى هذه المعرفة المتخصصة، فقال فى سورة آل عمران: (هُوَ الَّذِي أَنـزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ (7)).
بل وضرب لنا سبحانه نوعية أخرى من المسائل التى ينبغى أن يُكتفى منها بما يكون للإيمان بها من آثار سلوكية فى الحياة الدنيوية مما يزيدنا قربا من الله U، كما فى قوله سبحانه فى سورة الإسراء: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85)).
مرة أخرى وليست الأخيرة: إن سداد الرأى هو النظر إلى المسائل الفكرية من مختلف زوايا الرؤية إليها من قبل المخالفين، مثلما من قبل المسايرين، وهذا أحرى أن يتبعه هؤلاء النفر الذين يتجرأون بسوء التأويل على المعرفة الشرعية، باسم العقلانية والتاريخانية، والحداثة، إلى غير هذا وذاك من لافتات، حتى يتسقوا مع ما يزعمونه، وإلا فإن ما يفعلونه هو صورة من صور “العور الفلسفى”!
* * *