أبحاث

المسئولية والحرية عند المتصوفة

العدد 34

إن الرأي السائد لدى المستشرقين ولدى مؤرخي الفلسفة في البلاد الإسلامية ( على سبيل المثال د. علي سامي النشار, د. أحمد صبحي, د. إبراهيم مدكور, د. جميل صليبا) هو أن الحياة الروحية في الإسلام تتسم بالجبر, وكان جل اعتمادهم لدعم هذا الرأي تلك الهجمات العنيفة التي وجهها الإمام ابن تيمية ومدرسته إلى الفقهاء والصوفية في عصره حيث اتهمهم بالجبر والجهمية.

وهذا الرأي يفسح الطريق لأمرين:

الأول: اتهام الإسلام ذاته بالجبر من خلال منطقة لا تزال بحاجة إلى استكشاف وهو ما حدث بالفعل.

الثاني: محاكمة الفكر الصوفي من خلال مواقف الجماعات والفرق الكثيرة التي لا تمثل جوهر التصوف ولا تلتزم بأصوله, وحملها عليه خطأ في المنهج حيث ينبغي عرض المواقف على الأصول ودراسات الجماعات والأقطار في إطارها الزمني.

والمقال محاولة في هذا السبيل حيث ركز على الفهم الصوفي للحرية والمسئولية بغض النظر عن مدى التزام بعض المتصوفة لهذا المفهوم ممارسة وفكرا.

إن التصوف الإسلامي جزء من الفلسفة  الإسلامية بالمعنى الواسع. وهو على أهميته لم يلق العناية الكافية كدراسة منهجية إلا خلال القرن العشرين.

ومن الصعب علينا أن نتصورن المتصوفة كانوا بعيدين عن الصراع الدائر حول المسؤلية وأساسها والحرية ومفهومها, سواء لدى الفلاسفة أو المتكلمين, أو عند الأصوليين والفقهاء. خاصة وأن من بين المتصوفية من بلغ في الفلسفة مرتبة مرموقة او كان عالما كلاميا له وزن ورأي , أو فقهيا مجتهدا يشار إليه بالبنان. ولكن – الحرية والمسؤلية – لهما عند الصوفية معنى خاص غير الذي ألفناه عند غيرهم, وليس بغريب فقد استقل الصوفية بمصطلحاتهم ومقاماتهم, ولا يمكن فهم أفكارهم الفهم السليم ولا تصويرها التصوير الأمين إلا إذا عرفنا المقصود من مصطلحاتهم. وقد اهتموا هم بها فشرحوا معانيها واهتم بها الباحثون في التراث الصوفي فكانت لهم معاجمهم الخاصة التي تعني بالكلمة ومفهومها وتطوراتها الأدائية والنفسية عند الرجل الصوفي وقد اخترنا الحرية والمسئولية لنفهم على ضوئهما الموقف الصوفي تصحيحا لرأي ساد – على خطئة – يجعل  الفكر الصوفي جبريا ويرفع المسئولية عن السالكين, وهو موقف قال به كثير من خصوم الصوفية بل ودراسيها , واستراح إليه بعض دعاة الصوفية ممن خرجوا على جوهرها وظلوا مع الأسف يحسبون عليها.

أولا: الصوفية والمسئولية الإنسانية.

لقد اتهم الصوفية – خطأ – بأنهم يسقطون المسئولية , وهو موقف لو ثبت عليهم لابتعد بهم عن منطقة الإيمان.

ففي القرن الثالث الهجري حاول بعض المتصوفة أن يفهم الدين فهما خاصة فينفذ كما زعم إلى باطنه , ولا يقف عند ظاهره ويرى أن ما انتهي إلية الفقهاء من أحكام ليس مجرد رسوم وأوضاع لا حياة فيها ولا روحانية هي ظاهر الشرع أو الشريعة. أما الباطن فهو يكشف عن معاني الغيب وما يلقي في القلب إلقاء وما ينتهي إليه المتصوفة في تأملاتهم ومناجاتهم لربهم هو على الباطن أو الحقيقة. يقول ” رويم البغدادي” – 303 ه كل الخلق قعدوا الرسوم ووقعت هذه الطائفة – المتصوفة – على الحقائق. طالب الخلق كلهم بظواهر الشرع وهم طالبوا أنفسهم بحقيقة الورع ومداومة الصدق هذا ما سماه أبو العلاء عفيفي ” ثورة الصوفية ” على الفقه (1).

هنا فرق بعض الصوفية بين الشريعة والحقيقة, وجعلوا لدين الله ظاهرا يعمل الناس على مقتضاه وباطنا يستقل الصوفي بمعرفته لا يتاح لأحد سواه, وكما يقول – الدكتور إبراهيم مدكور – فإن تغليب الباطن على الظاهر يؤدي إلى إلغاء التكاليف والقضاء على مبدأ المسئولية, لأن من يقولون به لا يأبهون بأعمال الجوارح من صلاة وصيام, وإنما يعولون على أعمال القلوب من خشية ورهبة وتدبر وتأمل ويفهمون النصوص الدينية كلها فهما يكاد يهدم التكاليف جميعها … وذهب الرمزيون من المتصوفة إلى أن شعائر الدين أمور ظاهرة ومجرد رموز لمعان باطنه وليس للظاهر وزن. إنما الوزن كله لأعمال القلب والباطن ولا يضير المتصوف في كل شيء ان يسقط أعمال الظاهر إسقاطا تامأ. وعرف ” الملامتية ” بتعمدهم الظهور أمام الناس بمظهر مناف للشرع اجتلابا للذم والملامة لأن الطاعة سر بين العبد وربه, وقد يكون هذا ترقيا في العبادة وسموا في تصويرها ولكن يمكنة أن يتخذ ذريعة لترك الفرائض وارتكاب الآثام وهذا ما حدث فعلا ووقع فيه أدعياء الصوفية, وارتكبوا ما سولته لهم نفوسهم من رذائل وشرور واستتروا تحت اسم ” السكر والغيبة لإتيان ما حرم الله” (2).

والحقيقة أن القول بأن هذا سمت الصوفية هو مجانبة صريحة للصواب فإن هذا الموقف من بعض الصوفية – أو مدعيهم – إن كان يسقط التكاليف إلا أنه لا يمكن اعتباره الموقف العام للصوفية. كما ان فهم البعض لأقوال الصوفية يبدو مبتسرا أو غير دقيق ويعكس موقف الباحث قبل موقف الصوفي ذاته. وأعلام الصوفية يصرحون بأن الشريعة هي بداية الطريق الصوفي وغايته فهذا ” أبو القاسم الجنيد” – وهو من شيوخ الصوفية ويضعه السلمي في مقدمة الطبقة الثانية – يقول لرجل ذكر المعرفة فقال ” أهل المعرفة بالله يصلون إلى ترك الحركات من باب البر والتقوى إلى الله تعالى” فقال ” الجنيد ” إن هذا قول قوم تكلموا بإسقاط الأعمال وهذه عندي عظيمة (3) وهذا هو ” الفضيل بن عياض, يقول في قوله الله تعالى في سورة الأنبياء ” إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين” إنهم هم الذين يخافظون على الصلوات الخمس (4).

ويرفض الحارث المحاسبي أن يقيم الصوفي روعه بترك الواجب فيقول ” لا ينبغي أن يطلب العبد الورع لتضييع الواجب ” (5).

وقد قال سهل بن عبد الله التستري في معنى التصوف إنه ” إنقياد الظاهر للشرع مع موافقه الباطن لمراقبة الحق ” (6).

فالصوفية لم يسقطوا المسئولية ولكنهم رأوا حقيقتها في ترك الملذات والتوجه نحو الذات وهم لم ” ينظرو إلى قضية المسئولية من نفس زاوية علماء الكلام ولهذا يجدوا غضاضة في أن يكون كل شئ لله, وأن يكون للأنسان جزء من فعله يتحمل به المسئولية, ذلك أن الفعل يمكن أن يسند إلى الله وإلى الإنسان باعتبارين, علما بأنهم يفهمون أن أرادة الإنسان لا وزن لها. إذا قورنت بالإرادة الإلهية ويرون أن إثبات قدرة الإنسان لا يتعارض مع قدرة الله ولا ينقص منها. إذا لا يمنع أن تكون من قدرة الله أن يخلق للإنسان قدرة واستطاعة بهما يتحمل المسئولية ” (7).

وقد استخدم ” التستري ” الاستطاعة على نحو يكشف مدى اهتمامه بمسئولية الإنسان عن أفعاله ” وقد انفرد بين الصوفية برأي خاص في الاستطاعة الإنسانية حيث يرى أن هذه الاستطاعة توجد قبل الفعل ومعه وبعده وهو موقف يخالف الصوفية حيث يشير ” الكلاباذي ” في التعرف لمذهب أهل التصوف ” إلى أن الصوفية يرون أن استطاعه الإنسان وقدرته تخلق لحظة الفعل تماما لا قبله ولا بعده, وقد حلل الدكتور محمد كمال جعفر فكرة الاستطاعة عند ” التستري ” تحليلا عميقا وانتهي إلى القول ” إن التستري لم يدافع عن فكرة الاستطاعة إلا ليبرر مسئولية الإنسان خصوصا تلك الاستطاعة التي تسبق الفعل, فالإنسان مسئول قبل الفعل من حيث استطاعته الفعلية التي تمكنه من إدارك واجبه نحو ربه وهو كذلك مسئول بعد تمام الفعل من حيث القدرة على الشكر إذا كان العمل من أعمال الطاعة. أو التوبة أو الاستغفار إذا لم يكن ذلك ” (8).

وإثبات مسئولية الإنسان عند ” التستري ” لا تدفعه إلى إثبات الحرية المطلقة له على النحو الذي يفهم من المعتزلة بل إنه يهاجمهم لإنكار فاعلية وشمول القدرة الإلهية, وهو موقف طبيعي من الصوفي الذي يؤثر الله على كل شئ كما يقول ” ذو النون المصري” وإيثار الله كل شيء كموقف صوفي عام ليس معناه الهروب من المسئولية ذلك أن إرادة الإنسان حين تقف مستسلمة بين يدي الله سبحانه فإن هذا لا يعني الجبرية, إن هذا الاستسلام ليس إلا تخليا عن الإرادة الإنسانية بعد تصحيح اتجاهها وذلك بتكيفها وفق مقتضيات الآداب , أي أنها استسلام اختياري , فاذا قال الصوفي لا أريد إلا ما يريد مشيرا إلى الله سبحانه , فليس معناه أن يلغي إرادته هو. ولكنه ينسق إرادته مع إرادة الله سبحانه …. والإرادة التسي تصحح نفسها هي مسئولة عن عملها مسئولية خلقية (9).

وهذا الموقف السلوكي الروحي لا علاقة له بالموقف العقلي الذي يتخذه الجبريون الذين ينكرون نظريا أن يكون للإنسان اختيار أو حول … إن النقطة الأساسية التي أراد الصوفية أن يوجهوا إليها الأنظار في آرائهم في القدر والاستطاعة هي شد الإنسان إلى الله وإلزامه اللوذ به, وضمان عدم استبداد الإنسان وتمرده بالاعتماد على طاقته وقدرته وحدهما دون أن يرشدهما هدي إلهي (10).

خلاصة القول إن الصوفية لم تهدم التكاليف الشرعية ولم تسقط المسئولية عن الإنسان وقد قال ” أبو سعيد الخراز” كل باطن يخالف ظاهرا فهو باطن (11). ويصرح ” السري السقطي ” بأن المسئولية قائمة وأن شرطها العقل … فقد قال عندما سئل ما العقل قال ” ما قامت به الحجة على مأمور ومنهي” (12).

وإذا كان هذا هو موقف الصوفية من التكليف والمسؤلية فما هو موقفهم من الحرية وما هو مفهومهم لها؟…

لا شك أن القول بمسؤلية الإنسان يسبقه التسليم بحرية الإرادة مسلمة الأخلاق الأساسية فهل قال المتصوفية بالجبر أو أنهم ناصروا حرية الإنسان؟.

ثانيا: الصوفية ومفهوم الحرية.

من البداية ينبغي التأكد على أهمية المسئولية في التراث الصوفي- وهو ما عرضنا له آنفا – بل أن الاتجاه الذي أسقط التكليف لم يسقطه من وجهة نظرنا إنكارا لحرية الإرادة بل لأن الصوفي غير مخاطب بالشرع الظاهر فأساس إسقاط التكليف عندهم امتناع الخطاب لا غياب الإرادة.

وغالبية المتصوفية يرفضون غياب الشريعة لحساب الحقيقة ” فالجنيد” شيخ متصوفة بغداد في زمانه يقول مذهبنا هنا مقيد بالكتاب والسنة و ” النصري آباد ” كما جاء في ” الرسالة القشيرية” يقول ” أصل التصوف ملازمة الكتاب والسنة وترك الأهواء والبدع “.

والصوفية كانوا فقهاء أكثر منهم متكلمين ” فالحسن البصري ” كان من كبار الفقهاء وعاصر من الصحابة عددا كبيرا وكان زاهد عصره (13).

وكان الجنيد فقيها على مذهب أبي ثور و ” الشيخ عبد القادر الجيلي” كان من الحنابلة الكبار (14) هذا ومكانة ” سفيان الثوري ” معروفة فقد دعى ” بأمير المؤمنين في الحديث” وكان أفقه الناس.

ونذكر دواد بن نصير الطاني وقد اعتبر أول الزهاد الرسميين كان تلميذ أبي حنيفة والفارس المجلي في حلقته (15) وهؤلاء مجرد أمثلة تؤكد أن الصوفية كانوا فقهاء في الشريعة وموقفهم من حرية الإرادة ينطلق من الفقه ثم يتدرج معهم في مقاماتهم حتى يصبح موقفا متميزا بدايته حرية الإرادة وغايته إرادة الحرية.

الصوفية والجبر.

لقد قيل إن أهم سمات الحياة الروحية في الإسلام عقيدة الجبر وهي عقيدة الصوفية جميعا على اختلاف مشاربهم ومنازعهم (16) وقد اتهم ” ابن تيمية ” و ” ابن الجوزي ” الصوفية بأنهم جبريون جهميون حيث ينفي الصوفية – مثل الجهمية – القدرة والاستطاعة (17) وقد سبق لنا أن حررنا موقف الصوفية من الاستطاعة بما ينفي عنهم الجبر ونحن نعتقد أن الصوفية لا يعرفون الجبر بالمعنى الفلسفي والكلامي ولا ينكرون فاعلية الإنسان وقدرته على التأثير.

يقول ” أبو بكر محمد الكلاباذي ” عن الصوفية ” إنهم أجمعوا أن له أفعالا واكتسابا على الحقيقة هم بها مثابون , وعليها معاقبون ولذا جاء الأمر والنهي وعلية ورد الوعد والوعيد, ويقول أيضا ” وأجمعوا أنهم مختارون لاكتسابهم مريدون وليسوا بمجبولين عليه ولا مستكرهين له, ومعنى قولنا مختارون أن الله تعالى خلق لنا اختيارا فانتفى الاكراه فيها. قال الحسن بن على رضي الله عنهما ” أن الله تعالى لا يطاع بإكراه ولا يعصى بغلبة ولم يهمل العباد من المملكة” وقال سهل بن عبد الله ” إن الله تعالى لم يقو الأبرار بالجبر إنما قواهم باليقين” وقال بعض الكبراء من لم يؤمن بالقدر فقد كفر, ومن أحال المعاصي على الله فقد فجر” (19).

هذا هو موقف الصوفية من القدرة والاستطاعة فهم يثبتونها ويرفضون الجبر, أو كما قال التستري ” إن الله لم يقو الأبرار بالجبر وإنما قواهم باليقين” وهذا يعني أن وصول الصوفي إلى مقاماته جاء عن اختيار وإرادة وصبر ومجاهدة ولو تصورنا الجبر بالمعنى الفلسفي للحياة الروحية الإسلامية لانتفت فيمة التصوف ذاته وأصبح الوصول إلى مقاماته إجبارا وقد نفى ” الكلاباذي” الجبر عن الصوفية من دافع مواقفهم وقال لا يكون الجبر إلا بين الممتنعين وهو أن يامر الآمر ويمتنع المأمور فيجبره الآمر عليه ومعنى الاجبار أن يستنكره الفاعل على إتيان فعل هو له كاره ولغيره مؤثر فيختار المجبر إتيان ما يكره, ويترك الذي يحبه ولولا إكراهه له وإجباره إياه لفعل المتروك وترك المفعول , ولم نجد هذه الصفة من اكتسابهم الإيمان والكفر والطاعة والمعصية بل اختار المؤمن الايمان واستحسنه وأحبه وأراده وآثره على ضده وكره الكفر واستقبحه ولم يرده وآثر عليه ضده (20).

فلماذا تحاكم الصوفية على أصول الأشاعرة , ونتهمهم بالجبر والتناقض ولا نتحكم إلى أصولهم التي تثبت للانسان استطاعة هي أمام الله منه وإليه, كل ما في الأمر أن الصوفية أوغلوا في الطاعة دون أن ينكروا القدرة والاستطاعة, ولأنهم أوغلوا في لطاعة فقد أجمعوا أنهم لا يتنفسون ولا يطرفون ولا يتحركون حركة إلا لقوة يحدثها الله فيهم.

مفهوم الحرية عند الصوفية:

ولأن الصوفية أوغلوا في الطاعة فقد أصبحت حريتهم هي كمال العبودية وهي مرتبة يصلون إليها لا بإرادة التخلي, وإنما بفضل التجلي , ذلك أن الله لا يطاع بإكراه ولا يعصى بغلبة.

ولكن هل معنى ذلك أن الحرية لدى الصوفية ليست وصفا للإرادة الإنسانية ولكنها مقام يسعون إلى بلوغه؟ إنها ليست مسلمة يفترض وجودها ليتسنى بها قيام الأخلاق ولكنها غاية يسعون إلى تحقيقها وقيمة تحدد موقف الإنسان إزاء الله والعالم والنفس, هذا ما يقوله البعض (21) ونحن نرى فيه خلطا بين بداية الطريق الصوفي وغايته – فالطريق الصوفي يبدأ بالتكليف الذي شرطه العقل عندهم ” لا مقام لعبد تسقط معه آداب الشريعة : من إباحة ما حظر الله أو تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله, أو سقوط فرض من غير عذر ولا علة, والعذر والعلة ما أجمع عليه المسلمون وجاءت به الشريعة ” (22) وقد قال ” أبو يزيد البسطامي” لو نظرتم إلى رجل أعطي الكرامات حتى يرتقي في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود وأداء الشريعة (23).

وقد قلنا إن للصوفية موقفا متميزا بدايته حرية الإرادة وغايته إرادة الحرية أو بتعبير أدق تحرر الإرادة , أما أن موقفهم يبدا من حرية الإرادة فذلك لأنه يبدأ بالتكليف فقد أجموا على أن جميع ما فرض الله في كتابة وأوجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض واجب وحتم لازم على جميع العقلاء البالغين لا يجوز التخلف عنه ولا التفريط فيه بوجه من الوجوه لأحد من الناس من صديق وولي وعارف وإن بلغ أعلى المراتب وأعلى الدرجات وأشرف المقامات وأرفع المنازل (24).

فهم هنا يقيمون المسئولية على أهلية التكليف وشرطها البلوغ والعقل إذ البلوغ هم تمام العقل الذي هو مناط القدرة على فهم خطاب التكليف , ولكن حرية الإرادة عند المتصوفة وإن كانت هي أساس التكليف والمسئولية فهي ليست حرية استواء لا تكثرت بالطاعة أو المعصية أو الإيمان والكفر, إنها حرية غايتها كمال العبودية حتى تتحرر من الخلق في طريقها نحو الحق. وخلاصة قولنا في الحرية عند الصوفية إن القدرة عليها موجودة ولكنها محدودة , وإن الاختيار فيها محقق ولكنه ليس بمطلق, فلا جبر ولا جبرية وإنما تنطلق من التكليف وتتعلق بالطاعة, والصوفية أمام التكليف يؤكدون الحرية ويثبتون الاختيار وفي مقام الطاعة لا يبحثون عن حرية أو اختيار وإنما يختارون ما يريد الله ويختاره حيث الرضا كما يقول ” الجنيد” هو ترك الاختيار (25).

الهوامش:

  1. د. ابراهيم بيومي مدكور , الفلسفة الإسلامية منهج وتطبيق , القاهرة 1968 ط 2. ص138 , د. أبو العلا عفيفي, التصوف والثورة في الإسلام ج 1, 1963 ص 11.
  2. ابراهيم بيومي مدكور , المرجع السابق ص138.
  3. أبو عبد الرحمن السلمي, طبقات الصوفية, تحقيق نور الدين شربية القاهرة 1969 ط2 ص159
  4. المرجع السابق ص12.
  5. المرجع السابق ص 58.
  6. د. محمد كمال جعفر, من التراث الصوفي سهل بن عبدالله التستري ج1 القاهرة 1974 ص 411.
  7. د. أبو اليزيد العجمي ” الوجهة الأخلاقية للتصوف في القرن الثالث الهجري, رسالة ماجستير كلية دار العلوم 1977 مطبوعة على الاستنسل ص259.
  8. د. محمد كمال جعفر: من التراث الصوفي , المرجع السابق ص 266.
  9. د. أبو اليزيد العجمي” الوجهة الأخلاقية ” للتصوف , المرجع السابق ص 262 ص 280.
  10. د. محمد كمال جعفر. التصوف طريق وتجربة ومنهجا. القاهرة 1978ص 280.
  11. أبو عبد الرحمن السلمي, الصوفية. المرجع السابق231.
  12. المرجع السابق ص57.
  13. د. علي سامي النشار, نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام ط 1980 ج 3 ص128.
  14. د. كامل مصطفى الشبيبي: الصلة بين التصوف والتشيع ط 1962 ص11.
  15. د. علي سامي النشار, نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام, المرجع السابق 248.
  16. المرجع السابق ص222.
  17. أحمد محمد صبحي: الفلسفة الأخلاقية في الفكر الإسلامي. القاهرة 1969 ص222 وهو يعود بعد ذلك لفهم الحرية بالمعنى الصوفي.
  18. المرجع السابق ص 226.
  19. الكلاذباي, التصرف لمذهب أهل التصرف تحقيق د. عبد الحليم محمود ط. 1960 ص 48.
  20. المرجع السابق ص 49.
  21. د. أحمد محمد صبحي, المرجع السابق ص 240.
  22. الكلاذباي: التعرف ,
  23. المرجع السابق59.
  24. المرجع السابق نفس الصفحة.
  25. المرجع السابق ص101.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر