مقدمة:
تشغل مقاربة ابن خلدون في الفكر التربويّ المعاصر موقعاً رائداً ومرتبة سَنيّة، لما حوت أفكاره من مضامين تربوية،
ومعرفية أصيلة كانت مجالاً خصباً لدراسات أكاديمية وعلمية متنوعة ومتفاوتة عمقاً، ودراية، وإحاطة. ولما كانت مكانة ابن خلدون بهذا الألق المعرفيّ وجب الإقرار بأهمية الكشف عن آرائه التربوية في رحاب أسئلة معاصرة متجدّدة بتجدّد أساليب التربية والتّعليم، والاهتمام العالميّ المتزايد بعالم الطفولة في أبعاده العلمية، والتربوية، والنفسية، والروحية.
والناظر في التراث التربويّ الإسلاميّ يجد ثراءً معرفياً، وعناية سامية بعالم التربية والتّعليم؛ وقد أيقن القدماء بمركزية التربية في بناء الإنسان جسدياً، ونفسياً، وروحياً؛ ومن ثم تعددت مقاربات القدماء لمعضلة التربية بوصفها مدخلاً طبيعياً للتقدّم والتمدّن. ولعل القارئ قراءة استكشافية لأبرز المقاربات التراثية لموضوع العقاب يجد أنها ركّزت على الأبعاد الفقهية، والتربوية، والروحية؛ بيد أن معالجة ابن خلدون اتّسمت برؤية جامعة للبعد النفسيّ والروحيّ؛ مسترشداً بمفهوم المَلَكَة، وفعاليتها في تنمية الإدراك، والإحساس بالانتماء الحضاريّ، والريادة في السبق بين الأمم والحضارات. فقد تجاوزت مقاربة ابن خلدون الإطار العربيّ الإسلاميّ إلى فضاء عالميّ تسدّده ضوابط الاستخلاف، والفاعلية التربوية.
إشكالية الدراسة:
لا جرم أن معالجة ابن خلدون على جلالة قدرها، وسمو مقامها موجبة لدراسة مستفيضة في مضامين العقاب التربويّ. وأغلب الظن أنّ الباعث على تحرير هذه المعالجة الكشف عن البعد الكونيّ والعالميّ لرؤية ابن خلدون. فما مفهوم العقاب عنده؟ وهل العقاب ضرورة تربوية أم سياسة متّبعة؟ وهل العقاب تهذيب أم ترهيب؟ وما نوع الضرب وحدوده، وضوابطه؟ وما أثر مسلك القهر والشّدة والاستبداد في المتعلّمين؟وما علاقة العسف بسوء المَلَكَة؟ وهل العقوبة الفجّة الغليظة جارحة لشعور الطفل؟ وهل قهر الطفل موجب لضعف الانتماء الحضاريّ؟ وهل نجد في معالجة ابن خلدون بعض الأفكار، والآراء التي تنسجم مع أحدث نظريات علم النفس المعاصرة؟.
أولاً: المصادر الفكرية، والمعرفية الحاضنة لوعي ابن خلدون التربويّ:
لا جدال في أنّ سنن التّحصيل العلميّ كما هو مقرر في منهجية بناء المعرفية الإنسانية تقرّ بضرورة التراكم المعرفيّ، والتواصل ّالعلميّ. ولعل الاسترشاد بسير التراجِم التي أرّخت لسيرة ابن خلدون يجد أنه نما في بيئة معرفية راقية وهي مدرسة القيروان التي شكّلت وعيه العلميّ، وأتاحت له فرصة النبوغ والألمعية. ومن تجليات أثر هذا الوسط المعرفيّ في تكوين هذه العبقرية أن السابقين من علماء القيروان(1) ساهموا مساهمة فعاّلة في تأصيل الفكر التربويّ أمثال: محمد بن سحنون، ابن الجزّار، القابسيّ، وغيرهم من القيروانيين؛ فضلاً عن المدرسة المشرقية ممثّلة في: بدر الدين بن جماعة، والخطيب البغداديّ، وابن مِسْكويْه، وابن سينا، وابن قَيّم الجَوْزية والأنبابيّ، وغيرهم كثير. وإن اختلفت المدارس التربوية التراثية في التأصيل والتقعيد إلا أنّ التقليد في التحرير غلب على الكثير من المصنفات. ونستطيع أن نذكر في أمانة ووسطية أن ابن خلدون استطاع أن يتبوأ موقعاً بارزاً متألقاً بفضل تناوله لموضوع العقاب من منطلقات حضارية تستمدّ حيويتها من رؤية شاملة لمختلف المعارف، والعلوم والفنون؛ ثم إن الممارسة التربوية، والتعليمية، والقضائية صقلت آراء ابن خلدون، وأمدته بعناصر القوة المعرفية والسّداد العلميّ؛ كما أنّ طبيعة تفكيره النقديّ الذي يستند إلى معاينة الواقع المعيش، وملابسته فكرياً ونفسياً زاد من عمق مقاربته وبيانها؛ فَلمْ يكتف بمقولات تنظيرية عن العقاب؛ وإنما مارس الـتأديب معلّماً ومدرّساً، وقاضياً يحكم في شؤون المتخاصمين.
واستند ابن خلدون في حديثه عن طبيعة العقوبة التأديبية إلى رأي محمد بن أبي زيد القيروانيّ، ورواية المسعوديّ عن تأديب معلّم ولد هارون الرشيد؛ دون أن يذكر مصدر هذه الرواية التي وردت في مروج الذهب ومعادن الجوهر(2)؛ وسنفرد لها مبحثاً مستقلاً لاحقاً.
وإذا نظرنا نظرة موضوعية في هذه المصادر التي ذكرها ابن خلدون في المقدمة نجد أنه انتقى ما له صلة محكمة بسياسة التأديب؛ إذ استعان بكتاب محمد بنُ أبي زيد القيروانيّ في حكم المعلّمين والمتعلّمين، ورواية المسعودي في الـتأديب -كما تقدم تقريره-؛ وهي رواية في منتهى التحقيق التربويّ، والنفسيّ.
ثانياً: مفهوم سياسة العقاب عند ابن خلدون
بعد قراءة متأنية لآراء ابن خلدون في التربية والتّعليم بدا لنا أنه ذَكر مصطلح العقاب بمعنى الشدّة والقهر، والعسف في تأديب الأطفال؛ بيد أن التعمّق في هذا المفهوم يقودنا إلى الإقرار بأنه تجاوز هذا الإطار الاصطلاحيّ إلى ربط العقاب بالأبعاد النفسية والأخلاقية والسياسية. وقد استقرّ في الفكر التربويّ قديماً وحديثاً أن العقاب هو النتيجة الطبيعية لكل سلوك سلبيّ؛ إلا أن ابن خلدون قدّم قراءة تتخطى عتبة البعد السلوكيّ والإصلاحيّ إلى مفهوم السياسة بأبعادها الواسعة. وهو يقصد بها القيادة وحسن تدبير الأمور في مختلف مجالات الحياة وشؤونها؛ وهو المفهوم الذي تعلّق بأدبيات الاستبداد، وأبجديات الاستعباد مما تذكره كتب الإصلاح السياسيّ؛ ومنها ما ذكره الكواكبيّ بقوله: (إدارة الشؤون المشتركة بمقتضى الحكمة)(3).
فالحكمة مدلول واسع حمّال أوجه، ودليل هذا التوظيف ما نجده في عناوين بعض المؤلفات التراثية ككتاب سياسة الصبيان وتدبيرهم لابن الجزار(4)، وكتاب السياسة لابن سينا وغيرهما. ويعزّز هذا المنحى الذي نحاه العلاّمة ابن خلدون في توسيع الدائرة الاصطلاحية ما ذكره ابن سينا قائلاً: (وأحق الناس وأولاهم بأمل ما يجري عليه تدبير العَالَم من الحكمة وحسن وإتقان السياسة وأحكام تّدبير الملوك […] ثم الأمثل فالأمثل من الولاة[…] ثم الذين يَلونَهم من أرباب المنازل ورواض الأهل والولدان، فإن كل واحد من هؤلاء راع لما يجوزه كنفه ويضمه رَحْله ويصرفه أمره ونهيْه ومَن تحت يده رَعيته)(5).
فمراتب سياسة الأمور، وتدبيرها متفاوتة، وفي هذا التفاوت الطبقيّ ما يدلّل على اتساع دائرة إصلاح شؤون الرعية. فما هو مفهوم العقاب الذي رامَهُ ابن خلدون في تربية الولدان؟.
أ- الـتأديب في الصغر وعلاقته بسوء المَلَكَة:
ينطلق ابن خلدون – رحمه الله- في حديثه عن أثر الشّدة في المتعلّمين من منطلقات نفسية معيشة، ومشاهدة في تاريخ الأمم والحضارات؛ مستلهماً هذا المفهوم من الفكر التربويّ التراثيّ. وقد اختار للفصل الأربعين العنوان الآتي: (في أن الشدة على المتعلّمين مضرة وذلك أنَّ إِرهافَ الحدِّ بالتّعليم مُضِرٌّ بالمُتعلّمِ سيّما في أصاغرِ الولدِ لأنّهُ منْ سوءِ المَلَكَة)(6).
ومقتضى ظاهر كلام ابن خلدون أنه ربطَ العقاب الذي هو الشّدة بالصفة الراسخة الثابتة في المتعلّم؛ ذلك أن الإفراط في القسوة في مرحلة عمرية محددة هي أشد أثراً باعتبارها مَلَكَة سيئة ملازمة له في مراحل حياته، ومصاحبة له لا تزايله ولا تفارقه مهما حاول الانفكاك منها تبقى راسخة في أعماق وجدانه. ولا يستطيع ناظر أمين في شؤون التربية المعاصرة إنكار هذه الحقيقة النفسية. فكمْ من أستاذ، ومعلّم قسا على طلبته، وحرمهم من عطف الفضيلة العلمية والحنان التربويّ؛ بل تلذّذ بمعاناتهم وتسبّب في قطع أرزاقهم؛ لأنه نما في بيئة قاسية. وكمْ من حاكم مستبدّ ظالم جائر تشبّع من منابع الاستبداد والعسف فجاءت شخصيته صورة ناطقة بهذا المنبت الوخيم، معبّرة عن هذا القهر، والإكراه.
والمستقرئ للفكر التربويّ عند القدماء يجد حقيقة هذه المَلَكَة وأثرها في توجيه الشخصية الإنسانية سلباً أو إيجاباً، استقامة أو انحرافاً. يقول ابن قيَّم الجَوْزية: (ومما يحتاج إليه الطفل غاية الاحتياج: الاعتناء بأمر خُلقه، فإنّه ينشأ على ما عوّده المربيّ في صغره، من حَرَد وغضب، ولجَاج وعَجَلة، وخفّةٍ مع هواه، وطيْشٍ وحدّةٍ وجَشع، فيصعب عليه في كِبَره تلافي ذلك، وتصير هذه الأخلاق صفاتٍ وهيئاتٍ راسخةً له، فلو تحرَّز منها غاية التحرُّز، فضَحتْه – ولابدَّ – يوماً ما. ولهذا تجد أكثر الناس منحرفةً أخلاقُهم، وذلك من قِبل التربية التي نشأ عليها)(7).
فالأخلاق الذميمة في الصغر هي المحدّدة لشخصية الإنسان مستقبلاً؛ ولهذا اغتنام التأديب في الصغر تمهيد لتشكيل ملامح الشخصية الإنسانية، وعصمة من الزلل والخطل الذي يتأصل في وجدان الولد، ومن ثم يغدو صفة ثابتة يصعب اقتلاعها؛ لأنها امتزجت بروحه، وخالطت مشاعره، ولابست وجدانه. ولابد من العقاب في الصغر للذكر والأنثى قبل أن تستحكم العادات القبيحة، وتتمكّن من نفوسهم، وبهذا الاعتبار تفتر فاعلية الـتأديب، وتفقد تأثيرها المطلوب، وهدفها المنشود.
فَلِم يُعاقب الولد في سن الطفولة دون غيرها من المراحل العمرية؟. وقد درج الكثير من الآباء على اعتبار هذا التأديب من باب الاعتداء على حرمة الطفولة وقداستها. والتّحقيق أن جهل بعض الآباء بعالم الطفولة في أبعادها المعقّدة والمتداخلة والمتشابكة هو مصدر هذا التصور المختل لطبيعة العقاب الذي يوجّه الطفل نحو قيم الفضيلة الخُلقية، والشيّم النّبيلة.
وقد أدرك كثير من فلاسفة المسلمين هذه الحقيقة الثابتة، وأولوها عناية فائقة في مقارباتهم لمشكلات التربية والـتأديب. وفي هذا السياق يكشف ابن مِسْكويْه – رحمه الله – القناع عن عالم الطفل؛ مركزّاً على ضرورة العقوبة في بداية النشأة إذ يقول: (الصبيّ في ابتداء نشوئه يكون على الأكثر قبيح الأفعال، إما كلها وإما أكثرها، فإنه يكون كذوباً ويخبر ويحكي ما لم يسمعه ولم يره، ويكون حسوداً سروقاً تماماً لَجُوجاً ذا فضول أضر شيء بنفسه وبكل أمر يلابسه ثم لا يزال به التأديب والسنن والتجارب حتى ينتقل في أحوال بعد أحوال، فلذلك ينبغي أن يؤاخذ ما دام طفلاً)(8).
وجليّ من كلام ابن مِسْكويْه أن معاينة عالَم الطفولة المضطرب بكل تعقيداته يتطلب متابعة متواصلة، وملاحقة تربوية ممتدة حتى لا ينفلت الطفل من عقال التوجيه، ورباط التأنيب. ولا نـزاع في أن المسامحة في الصغر، وعدم المؤاخذة على قبيح السلوك وخبيث الأخلاق يرسّخ صفات نفسية لا تقوى أساليب العقاب المختلفة على ردعها أو التخفيف من غلوائها وكبح جماحها. فقد طُبع الولد بطباع شريرة، وغدت جزءاً من شخصيته؛ ومن ثم صاحبته ولازمته طوال حياته.
ويعلّل ابن مِسْكويْه لمسلك التأديب في الصغر من منطلق نفسيّ؛ مسترشداً بمنهج القرآن والسنّة النبوية الشّريفة في ترسيخ مبادئ الفضيلة، ومعالم الاقتداء بسنن الفطرة السليمة؛ ذلك أنّه مركوز في طباع البشر وغرائز النفوس صعوبة مغالبة العادات السيئة، ومقاومتها، ومكابدة الطبائع؛ ومن ثم فالتنشئة الفاضلة في الصغر مقدّمة لتهيئة الأولاد لقبول التوجيه، والإرشاد بيسر دون معاناة أو مغالبة؛ لأنهم طبعوا بها، وتمثّلوا جوهرها وحقيقتها، ولابست أرواحهم. وفي هذا المعنى يقول ابن مِسْكويْه: (وهذه الآداب النافعة للصبيان وهي للكبار من الناس أيضاً نافعة ولكنها للأحداث أنفع لأنها تعودهم محبّة الفضائل وينشأون عليها، فلا تثقل عليهم تجنب الرذائل، ويسهل عليهم بعد ذلك جميع ما ترسمه الحكمة وتحده الشريعة والسّنة؛ ويعتادون ضبط النفس عما تدعوهم إليه من اللذات القبيحة، وتكفهم عن الانهماك في شيء منها والفكر الكثير فيها، وتسوقهم إلى مرتبة الفلسفة العالية وترقيهم إلى معالي الأمور)(9).
ولا مرية في أن مرحلة الطفولة هي عالم شديد الحساسية النفسية، وفيه يُغتنم الغرس الطيبّ قبل أن تتسارع القيم المنحرفة إلى استدراج الطفل الذي لا يملك القدرة على التمييز، والإدراك؛ فالفساد أسرع إلى الأطفال وأشد التحاماً بطبائعهم. وقد أدرك المشتغلون بالتربية الإسلامية من فلاسفة المسلمين خصوصية هذه المرحلة العمرية التي تمثل الوعاء الفارغ الذي يملأ بمختلف القيم السلبية والإيجابية، وكأنّ الطفل حلبة سباق، ومصارعة بين هذه الفضائل والرذائل؛ واللبيب الأريب هو الذي يحوز قصب السبق وسعة الذرع، ورسوخ القدم في إرساء شريف القيم، وعظيم السلوك في نفس الولد. فلِم هذه المسارعة، والتسابق في نشر السلوك التربويّ؟.
يجيب ابن سينا عن الحكمة من المسارعة في تأديب الولد في الصغر باعتبار المآل الذي تنتهي إليه التربية الحسنة، ومصير الغرس المثمر الذي يلازم الطفل، ويتمكّن من نفسه وروحه. يقول ابن سينا: (فإذا فطم الصبيّ عن الرَّضاع بُدئ بتأديبه ورياضة أخلاقه قبل أن تهجم عليه الأخلاق اللئيمة وتفاجئه الشيم الذميمة، فإنّ الصبيّ تتبادر إليه مساوئ الأخلاق وتنثال عليه الضرائب الخبيثة فما تمكن منه من ذلك غلب عليه فلم يستطع له مفارقة ولا عنه نـزوعاً)(10).
ولعل في عبارات (الهجوم والمفاجأة والانثيال) ما يوحي بأن القيم الخبيثة قيم عدوانية تتصيد عالم الطفولة في براءتها وعذريتها وعفّتها لطمس هذا الكائن الذي لا حول له ولا قوة إلا قوة الاستسلام، والانقياد، والخنوع.
ويكشف ابن مِسْكويْه عن سبل بلوغ المراتب السامية والمقامات العالية في تربية الطفل من خلال الرغبة الصادقة في تحديد ملامح الشخصية المرغوبة؛ ولا يتأتى ذلك إلا بعنصر الفطرة النقية السليمة، والمَلَكَة التي تهيؤه لقبول سياسة تدبير شؤونه، وإدارة أخلاقه، وفي هذا المعنى يشترط ابن مِسْكويْه: (أن يعلم كل إنسان مُعد نحو الفضيلة ما، فهو إليها أقرب، وبالوصول إليها أحرى، ولذلك ما تصير سعادة الواحد من الناس غير سعادة الآخر إلاّ من اتفق له نفس صافية وطبيعة فائقة، فينتهي إلى غايات الأمور وإلى غاية غاياتها، أعني السعادة القصوى التي لا سعادة بعدها)(11).
ولا غرابة في حديث ابن مسكويه عن السعادة الأزلية التي هي اللذة التي يستشعرها كل باحث عن الحقيقة؛ وهي لذة ذاق حلاوتها القدماء في مجالات المعرفة المختلفة؛ لأنهم أدركوا جوهر الاحتراق المعرفيّ، وألم البحث وحرقته؛ فإعداد الأطفال إعداداً سليماً لبلوغ مراتب الكشف العلميّ يختلف باختلاف الأهداف، والغايات من التنشئة، والتربية، والتعليم.
فالفوز بمعالي الأمور، قبل اكتمال الأسباب، والأدوات هو ضرب من الخيال والوهم؛ بيان ذلك أن تحقيق اللذة الروحية، والسعادة الأزلية موقوف على أمرين:
1. وجود المربي الذي يقف وراء استكشاف قدرات الطفل المعَدّ للمراتب الفاضلة.
2. صفاء سريرة المتعلّم وملكته التّامة ضروريان في تحقيق المطلوب من السعادة الأبدية والراحة الكبرى.
ومن الطريف في آراء ابن مسكويه أنه يرى في تدخل مسؤولي الدول على اختلاف حجم مسؤولياتهم أمراً لا مناص منه؛ باعتبار أن الدولة هي الموجّهة للأفراد والجماعات تربوياً، وعلمياً، واجتماعياً. وغياب هذا التسديد في إدارة شؤون أفرادها يفضي إلى الاستبداد؛ لأنه ينطلق من الهوى المنافي للحكمة في تسيير أمور البشر. وكأنّ ابن مسكويه أراد أن يصل إلى فكرة جوهرية مُفادها: أن توجيه القائم بشؤون الرعية سواء كان رئيس الدولة أو نائبه ينطلق من رعاية مصالحهم، وإدارتها وفق رغباتهم وطموحاتهم؛ ومن ثم تتفرع أصول الرعاية التربوية للأفراد إلى حاجات الدولة الفكرية والعملية؛ ولأجل ذلك: (يجب على مدبر المدن أن يسوق كل إنسان نحو سعادته التي تخصّه، ثم يقسم عنايته بالناس ونظره لهم بقسمين: أحدهما في تسديد الناس وتقويمهم بالعلوم الفكرية، والآخر في تسديدهم نحو الصناعات والأعمال الحسية)(12).
ولا ريب أن وظيفة التّسديد، والتوجيه، والإرشاد التي تمارسها الدولة يفضي إلى نشر الوعي بالانتماء، وترقية الإحساس بمسؤولية الأفراد في الذود عن هوية الأمة، وخصائصها الجوهرية، ونمو الشعور الوطنيّ بالانتساب.
ب- مساوئ مسلك الشّدة، والقهر، والاستبداد، وأثره في المتعلّمين:
إن غياب وعي الدولة في إدارة أحوال الرعية، وممارسة القهر والإكراه في مجال التربية وغيرها مصدره التخلي عن وظيفة التّسديد التي تروم تحقيق سعادة المجتمع، ورقيّه المعرفيّ والحِرفيّ؛ ولهذا المسلك آثار نفسية وخُلقية وحضارية وخيمة جمعها ابن خلدون في جملة من الانحرافات قائلا: (ومنْ كان مَرْباهُ بالعَسْفِ والقَهْرِ منَ المتعلّمين أو المماليك أو الخَدَم سَطَا به القهرُ وضَيَّقَ عنِ النَّفسِ في انبساطها وذَهَبَ بنشاطها ودَعاهُ إلى الكسلِ وحَملَ على الكذِبِ والخُبثِ وهو التَّظاهُرُ بغيرِ ما في ضميرهِ خَوفاً من انبساطِ الأيدي بالقَهْرِ عليهِ وعلَّمَهُ المَكْرَ والخَديعَةَ لذلك وصارتْ لهُ هذه عادةً وخُلُقاً وفَسَدتْ معاني الإنسانيةِ التّي لهُ من حيثُ الاجتماعُ والتَّمدُنُ وهيَ الحِميةُ والمُدافعةُ عن نفسِهِ ومَنـزلِه)(13).
لعل النظرة الاستشرافية التي غلبت على فكر ابن خلدون تجعل القارئ لهذا النص يقف وقفة إجلال، وتقدير لهذه الحقائق التي تعايشها المجتمعات العربية والإسلامية قاطبة دون استثناء. ولعِظم هذه الرؤية الحضارية، وعمقها المعرفيّ نقدّم قراءة تشريحية لمظاهر الاستبداد في المتعلمين، وأثره في صناعة مجتمع منحرف؛ بل فاقد لحرارة الانتماء، ودفء الشعور بالانتساب إلى الإنسانية.
ولا جرم أن البيئة الصافية من أساليب القهر والاستنطاق هي بيئة صحية منتجة لكائن سوي نفسياً وتربوياً، وخُلقياً؛ وأغلب الظن أن المواقف السلوكية المشاهَدة في أوطاننا تزكّي هذه الرؤية التي قدّمها ابن خلدون. فَبمَ نفسّر وقوف عمال مصنع أمام حريق شبّ في مصنعهم دون أن يحرّكوا ساكناً؟ بل إنّ بعضهم قد شارك بطريقة أو بأخرى في هذا العمل الإجراميّ. وعند الاستفسار عن سبب هذا السلوك المنحرف؛ قد يردّ بعض الفاعلين بقولهم: انتقاماً من مدير الشركة الذي اغتصب حقوقنا المالية والاجتماعية ظلماً وعدواناً. وربما قد تظاهر هؤلاء العمال بالانضباط واستقامة السلوك المهنيّ عند مرور المدير أو نائبه، وقد عوّدوا على هذا السلوك المهين، وأصبح مَلكة، وصِفة راسخة في أنفسهم.
وقد تصور هؤلاء العمال أن الشّركة التي هي في أصل وجودها مورد رزقهم أنها ملك المدير وحاشيته؛ والانتقام هو شكل من أشكال التعبير عن القهر والاستبداد. وأكبر الظن أن هذا المكر والخبث إذا تأصّل في نفوسهم طال أُسَرهم؛ فأصبح الموظّف يكذب على زوجته، ويعاملها من منطلق الخديعة والنفاق الاجتماعيّ؛ وهي الجزء المتمم والمكمّل لحياته العاطفية، والروحية، والنفسية، والاجتماعية.
وما الترهل العلميّ، والاجتماعيّ، والسياسيّ، والاقتصاديّ الذي نشاهده في بعض المجتمعات العربية والإسلامية إلا صورة حقيقية لِمَرْبَى القهر والعسف، والإكراه الممارس على الفرد في طفولته.
ويصوّر ابن خلدون نتائج العسف الممارس على المتعلّمين في صورة قاتمة تعكس وعيه الحضاريّ بسوء النشأة وقساوتها، وآثارها النفسية، والعلمية، والإنسانية؛ لدرجة أن يصبح المتعلّم فاقداً لروح المبادرة، والمشاركة المجتمعية؛ منعزلاً عن الأوساط الفاعلة في المجتمع محلياً وإنسانياً، وقد: (صار َ عيالاً على غيره في ذلكَ بلْ وكسِلتِ النّفسُ عن اكتسابِ الفضائلِ والخُلقِ الجميل ِ فانقبضتْ عنْ غايتها ومدى إنسانيتها فارتَكَسَ وعادَ في أسفلِ السافلينَ)(14).
ولا شك أن تداعيات الشدة التربوية والقهر تتجاوز الإطار النفسيّ إلى انتكاسة إنسانية الإنسان وآدميته، وقد جرّد من قيم الفضيلة والانتماء، ومبادئ الاجتماع؛ فغدا مسلوب الإرادة، تابعاً لغيره لا يقوى على البناء والتشييد. وأنّى له ذلك وقد فَقَد حرارة الوجود، وشعلة النهوض؟.
ثم إن هذه النتيجة المدمّرة للقيم الإنسانية، والمُهلِكة لطبائع البشر جاءت نتيجة استقراء ابن خلدون لتاريخ الأمم، والحضارات، ولم يهتد إليها من نظرة عابرة، أو إحساس غامض بمآل القهر والتسلّط. يقول ابن خلدون مستعرضاً جانباً من المسار التاريخيّ للأمم: (وهكذا وقَعَ لكلّ أمّةٍ حصلتْ في قبضةِ القَهرِ ونالَ منها العَسفُ واعْتبِرهُ في كلِّ مَنْ يملكُ أَمْرَهُ عليه. ولا تكونُ المَلَكَة الكافلةُ لهُ رَفيقةً بهِ. وتجد ذلك فيهم استقراءً وانْظُرْهُ في اليهودِ وما حصَلَ بذلكَ فيهمْ مِنْ خُلُقِ السّوءِ حتّى إنّهُمْ يُوصفونَ في كلِّ أُفُقٍ وعصرٍ بالحَرَجِ ومعناهُ في الاصطلاحِ المشهورِ التَّخابثُ والكَيْدُ وسبَبُهُ ما قُلناهُ)(15).
إنّ نشأة الاستبداد والتحّكم لا تتوقف عند عتبة الشدة على المتعلّمين؛ بل تمتد آثارها إلى المجتمعات الإنسانية قاطبة؛ لدرجة أن الذي يتولى شؤون الناس بقبضة الضيم والجور لا يرفق بالرعية؛ مما يولد طبائع الخبث والمكر، والخديعة والافتراء، وضعف الحمية، وفتور الانتماء، وهي إفراز طبيعيّ لهذا المسلك الوخيم في كل الأمم والشعوب. وقد ساق ابن خلدون اليهود نموذجاً لهذا الواقع كما هو مقرر في القرآن الكريم، والسّنة النبوية، ومصادر التاريخ قديماً، وحديثاً.
فنشأة الظلم تولّد مرارة الانتقام، وتشيع في الفرد الشّعور باللاانتماء، واللاإرادة، وتفقده الإحساس بقيم الفاعلية والحيوية الإنسانية. وللقضاء على مسبّبات هذا المنهج القبيح ينبغي توفير بيئة تعليمية صحية تقوم على الرفق واللين والإحسان.
وقد انفرد ابن سينا برأي في التأديب يبدو أنه مخالف لما ذهب إليه ابن خلدون؛ إلا أن القراءة الواعية، والأمينة لهذا الرأي قد تقودنا إلى تكامل الرأيين. وأغلب الظن أن مصدر سوء فهم بعض الباحثين لكلام ابن خلدون وابن سينا هو القفز على السياق الذي يوجّه هذين المشروعين الفكريين. يقول ابن مسكويه في سياق استحضار تاريخيّ لتربية الأطفال عند الفرس: (وقد كان ملوك الفرس الفضلاء لا يربون أولادهم بين حشمهم وخواصهم […] وكانوا ينقذونهم مع ثقاتهم إلى النواحي البعيدة منهم، وكان يتولى تربيتهم أهل الجفاء وخشونة العيش ومن لا يعرف التنعم ولا الترف، وأخبارهم في ذلك مشهورة)(16).
وقد يُفهم من كلام ابن مسكويه ضرورة اعتماد مسلك القسوة في تربية الأولاد. والتحقيق خلاف ذلك؛ لأن المقصود من الشّدة في هذا السياق هو عدم الركون إلى الترف والدعة، وسَعة العيش، وهو من مظاهر المُلْك الذي يهدّده الخراب والزوال؛ وكأنه أراد أن يغرس في نفس المتعلّمين في حداثة سِنّهم ملازمة شظف العيش وخشونته؛ لأنه هو الذي يصقل الرجولة الحقّة، وينمّي شعور الحماية والمدافعة والبسالة؛ وليس الانغماس في الترف والنعيم؛ لأنه زائل لا محالة كما يشهد بذلك تاريخ الأمم والحضارات. وإلى الرأي نفسه يميل ابن خلدون، ولعلّه استلهم هذه الفكرة من ابن مسكويه؛ إذ أفرد في مقدمته في الفصل الثالث عشر عنواناً لهذه المسألة: “في أنه إذا تحكّمت طبيعة المُلْك من الانفراد بالمجد وحصول الترف والدعة أقبلت الدولة على الهرم”(17).
ت- حاجة الصبيان إلى التدبير، والرِفد، والمعاضدة:
الطموح الإنسانيّ غريزة في البشر، والحرص على تحقيقها لا حد له، ولا نهاية؛ لأنه حاجة لا لغاية؛ ولو كان الطموح غاية لانتهى بقضائها، ولكن الدنو إلى الحاجات بعد السعي إليها ينشأ من الصغر، وهو أسهل على الأولاد لطبيعة نفسياتهم المرهفة الطموح إلى المراتب العالية، والمقامات السامية. وقد علّل ابن سينا لخصوصية عالم الطفولة من منطلق ضعف تكوينهم النفسيّ، والاقتصاديّ، وقلة من يسند ظَهرهم، ويحميهم؛ بخلاف ما نجده عند أبناء الملوك من رعاية وعناية؛ ولهذا: (يحتاج أصغرهم شأناً وأخفهم ظهراً وأرقهم حالاً وأضيقهم عطناً وأقلهم عدداً من حسن السياسة والتّدبير ومن كثرة التفكير والتّقدير ومن قلّة الإغفال والإهمال ومن الإنكار والتأنيب والتعنيف والتأديب والتّعديل والتقويم إلى جميع ما يحتاج إليه المَلك الأعظم)(18).
فالموجب لرعاية الأطفال، وعنايتهم هو رقّة الحال، وضعف المستند، ووهاء المعتمد. وقد ربط ابن سينا بين خصوصية رعاية الأطفال، والبعد الاقتصاديّ لتبيان أن الفقير الذي لا مال له أحوج إلى الحماية والإنفاق بخلاف أولاد الملوك والوزراء الذين هم في غنى عن المساعدة، والمعاضدة، والمساندة. ومن ثم دلّ أن الحاجة أو الفاقة أو العوز من موجبات الرعاية الخاصة؛ ولهذا السبب يرى ابن سينا أن: (الفذ الذي لا ظهير له والفرد الذي لا معاضد له أحوج إلى حسن العناية وأحق بشدّة الاحتراز من المستظهر بكفاية الكفاة ورفد الوزراء والأعوان، ولأنّ المعدم الذي لا مال لهُ يحتاج من ترقح العيش ومَرَمَّة الحال إلى أكثر ما يحتاج إليه الغنيّ الموسر)(19).
وقِوام الأمر: أن مساندة الصبيان في الصغر تستوجبها ثلاثة دواعٍ متداخلة:
1. تربوية.
2. نفسية.
3. اقتصادية.
ث- مسوغات العقاب:
يرى ابن خلدون أنّ العقاب في الإسلام ليس غاية لذاتها؛ وإنما وسيلة لتقويم السلوك المنحرف والأخلاق الذميمة. والمتأمل في فلسفة العقاب الإسلاميّ يجد أنها تستند إلى التوازن بين اللين، والشدة؛ وهي وسطية تراعي آدمية الإنسان وكرامته، وهي امتداد لمفهوم الحصانة الذهنية، والنفسية، والإنسانية التي تمنع من سطو الخبث والمكر والخديعة بالصبيان، وتحول دون إفراغ النفس البشرية من قيم المدافعة والانتماء والانتساب والشعور بالمشاركة الحضارية. وهو ما عبّر عنه ابن خلدون قائلاً: (فينبغي للمعلّم في مُتعَلَّمِهِ والوالدِ في وَلَدهِ أنْ لا يستبدّا عليهما في التّأديب.[…] حِرصاً على صَونِ النّفوسِ عنْ مَذَلَّةِ التّأديب وعِلْماً بأنَّ المقدارَ الذي عيّنَهُ الشّرعُ لذلكَ أَمْلَكُ لهُ فإنّهُ أعلمُ بِمصْلَحَتِه)(20).
فصون النّفس البشرية من مقاصد الشّريعة الإسلامية، ولعل في مراعاة حرمة المتعلّم والولد تجسيد لكرامة الفرد وصيانتها من العسف، والقهر، والاستبداد الذي يشوّهُ وجه الإنسانية، ويجرح آدمية الإنسان؛ وبهذا الاعتبار دلّ أن العقاب المُذّل، والجارح للشعور البشريّ هو مسخٌ لكينونة الإنسان، وسلب لإرادته.
فالغاية التربوية هي الوسيلة إلى نيل الفضائل، وأداة لشحذ الهمم. وينبغي للمعلّم أن يدرك هذه الغايات السامية لكي لا يحيد عن جوهر السلوك التربويّ. وفي هذا المقام يقول شمس الدّين الأنبابيّ [ت 1313هـ]: (الضّرب وسيلة مفيدةٌ؛ لإدراك غاية حميدةٍ، فإذا أدرك المعلّم أنّ مقصود الضّرب حصولُ العلم والأدب: توقَّى الضّرب المُبرِّح الذي يُلحق بالصبيّ الإتلاف والعطب)(21).
ولا مرية في أنّ الغايات من العقاب تتعدد بتعدد المقاصد التعليمية، والتربوية، والأخلاقية. وقد ميّز التربويون بين الضرب الذي يفضي إلى تقويم السلوك التعليميّ، والضرب المؤدي إلى تصويب أخلاق المتعلمين؛ إذ: (أنّه يُرجع في الضّرب للإصلاح – كتكاسُله عن الحفظ؛ وتفريطه فيما علَّمه -: إلى ظنّه واجتهاده، وأمّا الضّرب لوُقوع فُحش منه –كَهَرَبه؛ أو إيذائه لغيره؛ أو نُطقه بما لا يليق -: فلا بدّ من تيقُّنه، أو من إخبار من يُقبل إخباره بأنّه فعل ذلك)(22).
وجليّ من كلام شمس الدّين الأنبابيّ أنّ الضرب لغاية الإصلاح ضروريّ لتقوية مدارك المتعلّم، وتنمية رغبة النهم من العلم، والاستزادة، والاستفاضة من ينابيعه؛ في حين أن الضرب لغاية تهذيب الأخلاق والسلوك يتطلب التريث والأناة باعتبار المآل الذي سيفضي إليه العقاب دون يقين أو مجرد شبهة أو سوء ظن.
والناظر في أصول علم النفس التربويّ يجد سنداً لنمط هذه العقوبة التي ذكرها الأنبابيّ؛ إذ: (العقوبة على أربعة مذاهب حسب الغاية منها، فهي انتقامية أو رادعة أو واعظة أو مُصلِحة)(23).
ثالثاً: حكم العقاب من منظور الفقه الإسلاميّ:
مراعاة لحرمة الطفولة وقداستها وضع الشّارع جملة من الضوابط الفقهية التي توجه العقاب؛ صوناً لكرامة الأطفال والولدان، وحمايتهم من الاستبداد والغصب.
وقد يترتب عن الضرب تبعات شرعية ملزمة للمعلّم؛ ولعل وقوع بعض المعلّمين في خطأ العقوبة وتنفيذها مصدره الاعتقاد بالوصاية الكاملة على المتعلّمين؛ وهي وصاية غير مشروعة؛ لأنها لا تستند إلى الإذن بالضرب من ولي الأمر؛ ومن ثم يرى الفقهاء أنه: (لا يجوز الإقدام على الضّرب إلاّ بالتّصريح، فليس مجرّد الإذن في التّعليم إذناً في الضّرب؛ لأنه لا يستلزمه [… ] فسُكوته عنه يحتمل رضاه به وعدمه. ولا يجوز الاعتماد على العادة ونحوها، إذ العقوبات يُحتاط فيها وتُدرأُ ما أمكن كما أجمعوا عليه. فإذا وُجد الإذن المُعتبر: جازَ للمُعلّم الضّرب على كلّ خُلق سيّء صدر من الولد؛ وعلى كلّ ما فيه إصلاحٌ للولد)(24).
وظاهر كلام شمس الدين الأنبابيّ شيخ الجامع الأزهر – رحمه الله – أن العقاب له ضوابطه وأصوله، وقواعده التي يمكن إيجازها في النقاط الآتية:
1. الإذن أو التصريح بالضرب؛ وهذا يدل دلالة واضحة على أن استشارة وليّ الأمر في العقوبة واجب شرعيّ.
2. موافقة ولي الأمر على تعليم ابنه أو ابنته لا يستوجب الموافقة على ضربه؛ كما أن سكوته لا يعني قبول ضربه.
3. العقوبة إجراء احتياطيّ واحترازيّ لا يُلجأ إليه إلا لضرورة الإصلاح أو التربية أو التهذيب أو تقويم سلوك منحرف.
4. تقييد الإذن بالاعتبار؛ ومن ثم يُستبعد الإذن غير المؤسَّس على رضى أولياء الأمور، ومن ينوب عنهم شرعاً؛ وأغلب الظن أن الإذن المعتبَر هو الذي يستند إلى مراعاة واجب الأبوة، وحقوقها، وشروطها، وأحكامها.
5. جواز الضرب مرحلة أخيرة بعد استيفاء الشروط المنصوص عليها أعلاه.
ويطرح الأنبابيّ مسألة فقهية لها امتدادات تربوية وشرعية؛ إذ فرّق بين القاضي، والمعلّم من حيث الاحتياج للبيّنة الشرعية في الحكم أو التعزير، والعلم الشرعيّ، والغاية من التعزير. يقول الأنبابيّ: (ولا ينافي هذا قولهم: لا يجوز للقاضي القضاء بعلمه في حدٍّ ولا تعزير؛ لأنّ القاضي متَّهمٌ؛ وليس بمُحتاج إلى إصلاح الغير قبل إقامة البيّنة عليه، بخلاف المعلّم فيهما، فإنّه غير مُتّهمٍ، ويحتاج إلى الإصلاح، فلو توقَّف على البيّنة الشّرعية: لتعطَّل عليه الأمر؛ وفات المقصد من التّعليم والتّربية، فسُومح له في الاعتماد على علمه أو ظنّه المُؤكَّد بكون الولد فعل مُقتضياً للتّعزير)(25).
بخلاف غير الحد، والتعزير يجوز للقاضي القضاء بعلمه إذا استوفى شروط الاجتهاد والتحقيق. فالمعلّم رُخّص له الاعتماد على علمه وظنه المؤكدّ في تعزير الطفل؛ ردعاً له، وإصلاحاً لسلوكه؛ بينما القاضي محوج للبينّة الشرعية ولا حاجة له للإصلاح الذي هو مناط التربية وتهذيب السلوك، وعليه مدار التّعليم والتأديب. وبعبارة أكثر بياناً وإشراقاً؛ فإنّ المعلمّ قاض تربويّ يروم غرس القيم، ونشر الفضيلة الخلقية بالتعزير دون الحد لغايات الإقلاع عن المعصية، وتركها. واللافت للنظر في كلام الأنبابيّ أنه اشترط العلم والظن المؤكَّد في التعزير عند المعلّم، ولم يشترط التبحر الفقهيّ في استنباط الأحكام الشرعية؛ لأن غاية الإصلاح هي الأصل في التربية والتّعليم؛ بينما المعتمد في القضاء البيّنة الشّرعية. فلِمَ سُومِح المعلّم دون القاضي في الاعتماد على علمه، وظنه المؤّكّد في تعزير الطفل؟.
يقول أبو حامد الغزاليّ – رحمه الله – [ 505هـ] مبرزاً مقام المعلّم، ووظيفته الطاهرة المقدّسة: (والمعلّم متصرّف في قلوب البشر ونفوسهم، وأشرف موجود على الأرض جنس الإنس وأشرف جزء من جواهر الإنسان قلبه والمعلم مشتغل بتكميله وتجليته وتطهيره)(26).
ولعل مقام تشريف الإنسان، وتكريمه هو الذي رفع من قدر المشرِف على جوهر هذا المقام ولبّه؛ وهو محل التشريف المقصود بالتحلية والتخلية. ولعلّو هذه المنـزلة، وشرفها وسمّوها صُدّق المعلّم على وليّ الأمر إذا ادّعى ضرب ابنه. وفي هذا السياق يقول الأنبابيّ: (ويُقبَل قول المعلّم في عدم تعدّيه بالضَّرب، فلو ادَّعى الوليُّ الآذن تَعدِّيَ المعلّم؛ وأنكرَ المعلّمُ: صُدِّقَ المعلّمُ؛ لأنَّ المعلّمَ وكيلُ الوليِّ، والمُوكِّل إذا ادَّعى على وكيله أنَّه تعدَّى فيما وكلَّه فيه: كان القولُ قولَ الوكيل)(27).
وفي ضوء هذه الحصانة الشرعية الممنوحة للمعلّم في تأديب الصبيان، وتربيتهم، لا يعزب عن بالنا أن نطرح السؤال الآتي: هل هذه الحصانة مطلقة أم نسبية؟ وهل تُرفعُ؟ و متى؟.
لا جرم أن المكانة العلية التي أقرّها الشرع الإسلاميّ للمعلّم، والثقة التي منحها إياه لا ينبغي أن تُفهم في إطار السلطة المطلقة التي تدير شؤون الأحداث بمقتضى القهر؛ بل هي سلطة معنوية مستوحاة من إقرار الإسلام بوظيفة التّعليم المقدسة، وهي سلطة محكومة بضوابط الشرع؛ ومن ثم دلّ على أن المعلّم الذي يسبب ضرراً مادياً للمتعلم يستحق عقوبة القصاص كما ورد في الفقه الإسلاميّ؛ وفي هذا المقام يرى العلماء أنه: (إنْ ضربَه باللّوح أو بعصا فقتله فعليه القصاص؛ لأنّه لم يؤذن له أن يضربه بعصا ولا بِلَوْحٍ)(28).
رابعاً: نوع العقاب، وحدوده، وشروطه:
يجد الناظر في تراث علماء السلوك في الإسلام تبايناً واضحاً في آرائهم في طبيعة نوع العقوبة، ومقدارها، وحدودها، وشروطها؛ وإن أجمعوا على ضرورتها عند الحاجة الملحّة والضرورة القصوى. فهي وسيلة تهذيبية، لإدراك مقاصد جليلة، وغايات شريفة. فليست مقصودة لذاتها كما شاع في بعض المجتمعات العربية والإسلامية التي اعتمدت العقاب غاية لتقويم سلوك منحرف؛ كما أن بعض المجتمعات العربية والغربية منعتها مطلقاً؛ مما أدى إلى ظهور حالات من الاعتداء على الأساتذة لدرجة القتل العمديّ داخل الحرم الجامعيّ.
والمستقرئ لوضع الطفولة عالمياً يجد أن العقاب بلغ درجات مخيفة؛ بل تجاوز الإطار التربويّ إلى ثقافة تأصلت في بعض المجتمعات النامية، وأصبحت سلوكاً يومياً؛ حيث إن: (الإحصائيات العالمية تشير أن طفلاً من كل ألف طفل يمكن النظر إليه كحالة إساءة إلى الطفولة وتترافق كذلك مع زيادة نسبة الإساءة إلى أقرانه الإخوان والأخوات من نفس الشخص الموقع للإساءة)(29).
فعناية الإسلام بالطفل بلغت مبلغاً من الحرص، والرعاية لا نجده في الثقافات الغربية الأخرى؛ ويشهد على هذا الاهتمام الخاص أن بعض العلماء والفقهاء وسّعوا مجال النظر في أدوات العقاب، ووصفوها وصفاً في منتهى الدقة؛ مراعاة لآدمية الطفل، وحرصاً على حفظ كرامته من مختلف أشكال الإساءة الجسدية والنفسية. وفي هذا المضمار يقول الأنبابيّ: (وضربُه بما يكون جُرمه ورُطوبته مُعتدلين عُرفاً ونحو ذلك، ولا يضرب ضرباً مُبَرِّحاً – وهو ما يعظم أَلَمُهُ-؛ وإنْ لم يُفد إلا هو. ولا يرتقي لمرتبةٍ من مراتب التّأديب وهو يرى ما دُونها كافياً، وعليه أنْ يتَّقي الضَّرب على المهالك والوجه)(30).
يحدّد شمس الدين الأنبابيّ طريقة الضرب المعتدلة المناسبة للجرم المرتكَب دون تجاوز الحد المسموح به حتى لا يبلغ درجة الضرب المؤلم؛ مع ضرورة التدرج في مراتب التأديب دون الانتقال المفاجئ الذي لا يسوغه نوع الجرم المقترف؛ فقد يُكتفى بمرتبة تأديبية مناسبة لطبيعة جريمة الولد؛ فضلاً عن اتقاء الأماكن الحسّاسة من الجسم والوجه.
فَلِمَ الحرص الشّديد على الاكتفاء بمرتبة تأديبية دون أخرى، وعدم تجاوز الحد إلى الضرب الشّديد؟.
لا شكّ في أن الغاية المثلى والهدف الأسمى من العقاب هي: الإصلاح، وتقويم الجانب الخُلقيّ من التربية، وأغلب الظن أن في عدم مراعاة هذه الضوابط تعدٍ على حرمة الطفل دون مسوّغ لهذا الاعتداء. وخليق بالإشارة أن التريث، والأناة، والرفق والتؤدة في العقاب مصدره خصوصية عالم الطفولة، وما يترتب عن العقاب من آثار نفسية في المجال التربويّ، من قتل لقيم الانتماء، والشعور بالغبن في الصبيان – كما تقدم تقريره عند ابن خلدون في صدر هذا البحث -؛ مما يورّث الوحشة، والانقباض، والنفور من التعلم؛ ولهذا يرى التربويّون: (أن للعقاب شروطاً يجب أن تراعى كي يكون مثمراً، منها أنه يجب أن يتلو الذنب مباشرة وألا يكون من الخفة بحيث لا يجدي أو من الشّدة بحيث يشعر بالظلم أو من النوع الذي يجرح الكبرياء، ومنها أن الإسراف في العقاب يذهب بقيمته، كذلك الحال في التهديد دون العقاب)(31).
ولحكمة التدرج، ومراعاة مراتب التأديب اعتبِر العقاب من باب التعزير الذي يردع الولد عن معاودة الوقوع في الخطأ؛ وبهذا الاعتبار يُعدُّ: (التعزير أخف في الحدّ في عدده فلا يجوز أن يُزاد عليه في إيلامه ووجعه)(32).
فالعقوبة كما أقرّها الفقهاء وعلماء السلوك والتربية لا تخرج عن إطار الزجر، والإصلاح، ومتى تحققت الفائدة منها، وأدت الوظيفة التأديبية المنوطة بها أُجيزت بمقتضى ما وُضعت له.
وقد وُصفت العقوبة عند علماء المسلمين بالضرب المبّرِّح؛ وإن اختلف الفقهاء في طريقته، وحجمه وشدته؛ إلا أن الإمام الأنبابيّ – رحمه الله- يرى أنه الضّرب: (الشّديد الإيذاء، بحيث لا يُحتمل عادة؛ وإنْ لم يُدْمِ البدن. فإذا ظنَّ أنَّه لا يُفيد إلاّ المُبَرَّح: فلا يجوز المُبرَّحُ إجماعاً؛ ولا لغيره على الأصحِّ؛ لأنّه لا يُفيد)(33).
فالضرب الشديد غير جائز عند فقهاء الشريعة الإسلامية؛ لأنه يبتعد عن مقصد الزجر والإصلاح إلى غاية الانتقام، والقسوة والإكراه؛ بل إن العلماء لم يجدوا غضاضة في تحريم الضرب المبّرح؛ وإن كان الوسيلة الوحيدة المتاحة في تصويب سلوك الطفل بعد تطبيق كل أشكال العقوبات الرادعة، والواعظة، والمصلحة.
فَلِمَ هذا التّشديد على عدم الجنوح إلى الضرب المبّرح، وإن لم يُدْمِ البدن؟.
لا نزاع في أن الشّريعة الإسلامية السمحة شريعة إنسانية؛ كرّمت الفرد والجماعة وشرّفتهما أيّما تشريف؛ وبهذا المنطق الأخلاقيّ تُعدّ العقوبة الفظّة الغليظة تجريداً للإنسان من إنسانيته وآدميته التي جعلها القرآن من مقاصده. فالرفق، واللين، والرحمة من مقوّمات التّشريع الإسلاميّ الذي راعى العقل بوصفه أعدل قسمة بين الناس. فكيف بمعلّم عاقل راشد ينهال بالضرب المؤلم على تلميذ لا يملك من وسائل الإدراك والاستيعاب ما يؤهّله لفهم مآل السلوك المرتكب وعواقبه؟.
إنّ الحفاظ على قدسية الطفولة، وحرمتها، ووقارها، وعذريتها مما يستوجب التأني في النـزوع إلى الإساءة الجسدية والنفسية؛ لأنها شكلٌ من أشكال: (العقاب الذي يجرح كبرياء الفرد […] إذ أنه قد يولد في نفس المعاقَب الكراهية أو الشعور بالنقص أو فقْد الثقة بالنفس)(34).
ولعل آثار الضرب الشّديد، وعواقبه الجسدية، والنفسية، والتربوية أفرزت بعض المناهج السلوكية في الفكر الإسلاميّ قديماً دفعت ببعضهم إلى عدم التّعويل على العقوبة الجسدية، وأن يستبدل بها العقوبة الروحية التي تكتفي ببسط العذر، والتلطف، وعدم المكاشفة في التوبيخ، والتدرج في الترهيب، وغيرها من الآداب السّنيّة، والقيم المَرْضيّة الفاضلة.
ولِعِظم هذه الطرق التربوية وفائدتها – كما نعتقد – عند شريحة واسعة من المتعلّمين دون غيرهم ممن استحكمتْ لديهم الأخلاق الذميمة، وأصبح العقاب هو العلاج الشافي والدواء الكافي لمن نشأ في بيئة يحكمها العنف الأسريّ، والقهر الاجتماعيّ، والاستبداد الأبويّ؛ فإنّ هذه شريحة محوجة لمداراة وعلاج طويلين. ومن أبرز هذه الطرق التربوية الناصعة في التراث العربيّ الإسلاميّ في التأديب: طريقة ابن مسكويه، وطريقة قاضي القضاة وشيخ المحدِّثين ابن جماعة، وابن سينا.
أ- منهج ابن مسكويه:
يكاد ابن مسكويه ينفرد إلى حدّ ما عن علماء التربية في الإسلام في تقرير مبدأ العقوبة التي يراها عقوبة روحية تنطلق من تهذيب الأخلاق مع مزاوجتها بالثواب الذي يُعدّ صنو التأديب الخُلقيّ. ومن هذا المنطلق يذهب إلى طريقة خاصة في العقوبة التي نراها مثالية تنطبق على فئة واسعة من المتعلمين دون أخرى. فما هي معالم هذه المنهجية في الـتأديب؟ وما محاسنها؟ وهل تترك أثراً في نفس المتعلّم؟.
يقول ابن مسكويه – في إشارة واضحة إلى منهج قد يبدو غريباً في المجال التربويّ الحديث-: (ثم يمدح بكل ما يظهر من خلق جميل وفعل حسن ويُكّرَم عليه، فإن خالف في بعض الأوقات ما ذكرته فالأولى أن لا يوبخ عليه، ولا يكاشف بأنه أقدمَ عليه بل يتغافل عنه تغافل من لا يخطر بباله أنه قد تجاسر على مثله ولا همَّ به، لا سيما أن سترهَ الصبيّ واجتهد في أن يخفي ما فعله عن الناس، فإن عاد فليوبخ عليه سراً وليعظم عنده ما أتاه، ويحذَر من معاودته فإنك إن عوّدتَه التوبيخ والمكاشفة، حملته على الوقاحة وحرضته على معاودة ما كان استقبحه، وهان عليه سماع الملامة في ركوب قبائح اللذات التي تدعو إليها نفسه، وهذه اللذات كثيرة جداً)(35).
فالمكاشفة أسلوب فاضح لمستور تعمّد الطفل إخفاءه، والسّتر أنسب لتغطية سلوكِ قاصرٍ عن إدراك عواقب التوبيخ العلنيّ. ويبدو جلياً من نص ابن مسكويه أنه يغلّب منهج الثّواب على العقاب من جهة، ويعتمد أسلوب اللمحة الدالة، والإشارة الصامتة لردع الصبيّ من جهة أخرى. ولعلّه في تغليب الثواب ينطلق من مبدأ التربويين المعاصرين: (الثواب أقوى وأبقى أثراً من العقاب في عملية التعلّم. وأن المدح أقوى أثراً من الذم بوجه عام)(36).
ثم إنّ غضّ الطرف قصد الستر، وتجاهل الفعل السلبيّ رغبة في تجاوزه، وعدم لفت النظر ممّا هو مفيد مع صنف من الأطفال نشأوا في بيئة روحية مداومة على الوعظ، والإرشاد، والتأديب، والتنبيه، والمواظبة على التوعية الخُلقية والتوجيه؛ بيد أن بعض الأطفال لا تنفع معهم الإيماءة اللطيفة، إلا بفعل التوبيخ العلنيّ.
ولا يستطيع متبحّر في المجال التربويّ إلا أن يقرّ بصعوبة تعميم منهج ابن مسكويه في العقوبة، وتطبيقه على كل الفئات العمرية من الصبيان، والولدان؛ ذلك أن المعالجة النفسية والكشف عن طبيعة النشأة الأسرية له أثر بارز في استجلاء حقيقة العقوبة غير المؤثرة جسدياً، ونفسياً عند بعض المتعلّمين. ولعل أخطر ما في ستر أفعال الطفل وعدم كشفها في حينها التمادي في الوقاحة؛ بيد أن التزام الستر في البداية أنسب ثم المكاشفة فالتوبيخ فالعقوبة المناسبة؛ بيان ذلك أن بعض الأطفال نتيجة لتخلي أسرهم عن الدور التربويّ، والـتأديبـيّ منحهم سلطة الجرأة والتجاسر على ارتكاب قبيح الفعل؛ لأنها أمنوا اللاعقاب؛ ومن ثم تمادوا في الانحراف، وهانت عليهم التربية والتّعليم.
فربّ إشارة تربوية أبلغ من عبارة غليظة عند طفل شبع من قيم الفضيلة، والخُلق القويم، ونشأ في بيئة صحية سليمة؛ في حين أن إطلاق العنان للطفل على ارتياد قبائح الأخلاق دون عقاب يصنع منه شخصية متهورة مستقبلاً لا ينفع معه وعظ أو إرشاد أو توبيخ أو تعزير أو حدّ. وهذا مشاهُد في واقع الناس بسبب انفلات الطفل في الصغر من سياسة الـتأديب المشروع؛ ومن ثم ينشأ على عقلية الاستهتار بالمجتمع والأخلاق والقيم؛ لأنه أَلِف اللطف، واللين، والتستر على أخطائه دون تصويبها، أو تربى في محيط من القهر والغصب؛ فتولّد عنده الشعور بغياب الردع، والحساب؛ وهو ما نلحظه عند فئة من الأطفال يقومون بسلوكيات لا يقوى عليها كبار السن،كضرب المعلّم، أو الاعتداء على الوالدين – والعياذ بالله- ضرباً، وعدم احترام الناس، وتقديرهم، وتوقيرهم، والاستخفاف بإشارات المرور؛ وربما وجدنا من الشباب من يعتدي على الشرطة؛ لأنه لم يُلَقّن في صغره التربية المدنية التي تجعله يحترم شرطيّ المرور، وغيره من السلطات العمومية. وتجنباً لهذه المزالق التربوية، وما يترتب عنها من تبعات نفسية، وجسدية، وأخلاقية يرى بعض علماء النفس أن: (العقاب في هذه الحالة بمثابة ألم مؤقت في سبيل لذة أكثر دواماً)(37).
فاللذة الأبدية الأزلية التي يفرزها العقاب المنضبط شرعاً، وعقلاً، وسلوكاً هي الأبقى أثراً من مداراة الطفل ومحاباته، والتستر عليه؛ بل إن بعض الأمهات قالت لجارتها التي تذمرت من سلوك ابنها الذي يعتدي على الجيران بالسلاح الأبيض، وهو مسبوق قضائياً: إننا نستطيع أن نلبي حاجات ابننا المادية عند دخوله السجن، ونختار له أكفأ المحامين للدفاع عنه، وقد يستقبل هذا السجين في بعض المجتمعات العربية عند خروجه من السجن بفرقة موسيقية تنتظره أمام باب السجن. فكيف ينفع التهذيب، والتلطيف مع هذه الفئات العمرية التي تستعذب دخول السجن؛ بل تتباهى بارتياده عند كل سلوك إجراميّ؟. بل إننا رأينا بعض الأمهات في بعض المجتمعات العربية المترفَة تبلغ من الجذل والحبور مبلغاً لا يوصف بابنها المراهق الذي لم يتعد الثامنة من عمره؛ وهو يسوق مركبة تفوقه حجماً، وطولاً، وسناً، وتقنية دون رخصة سياقة؛ وإذا اصطدم بعمود أو شجرة في حادث مروّع قاتل أجابت: القضاء والقدر؟!.
قد يستغرب المرء من هذا التفسير المنحرف لأصول الدين ومقاصده؛ وهي تَعلمُ أو قد لا تعلم أن قيادة المركبة تحكمها ضوابط مرورية عالمية متفق عليها دولياً تتعلق بسنّ محدّد، ورخصة قيادة، واحترام إشارات المرور، وغيرها من الشروط القاسية التي تضبط حركة المرور؛ حفاظاً على سلامة الجميع؛ ومن ثم فالوعي المروريّ والثقافة المدنية واحترام قوانين الدولة من علامات الحضارات الراقية.
ب- منهج بدر الدّين بن جماعة:
ينطلق ابن جماعة – رحمه الله – [ت 733هـ] من رؤية تربوية أقرب إلى منهج ابن مسكويه؛ إلا أن الفرق بينهما أن ابن جماعة يربط السلوك التربويّ بالمتعلّم بوجه خاص؛ بخلاف نظيره الذي تحدث عن تهذيب الأخلاق في أبعادها المختلفة النفسية، والجسدية، والبيولوجية، والصحية.
ويستند منهج العقوبة عند ابن جماعة إلى معاملة المتعلّم معاملة لطيفة ليّنة تأخذ بعين الاعتبار حداثة السن، ومرحلة الطفولة التي لا تخلو بطبيعتها من الانـزلاق الخُلقيّ، والانحراف السلوكيّ. فالعقوبة أقرب إلى عاطفة الأبوّة الصادقة التي تقوم على الإسقاط العاطفيّ، والتماس الأعذار للمتعلّم؛ وفي هذا الشأن يقول – رحمه الله -: (وينبغي أن يعتني بمصالح الطّالب، ويُعامله بما يُعاملُ به أعزّ أولاده من الحُنُوّ والشّفقة عليه، والإحسان إليه، والصّبر على جفاء ربّما وقع منه، ونَقصٍ لا يكاد يخلو الإنسان ُ عنه، وسوءِ أدبٍ في بعض الأحيانِ، ويَبْسُطُ عُذره بحسب الإمكان)(38).
فالمسلك التربويّ الذي يراه ابن جماعة أصلح لطالب العلم الذي نشأ في بيئة تعليمية وأسرية صقلته بشريف الأخلاق، ونبيل القيم؛ وكأنّ المعلّم في هذه المرحلة يسدّ ما بقي من ثغرات في سلوك المتعلمّ. واللافت للنظر في معالم هذه الطريقة التأديبية المسلوكة أنها تقوم على تسامح لا محدود، ورأفة وشفقة منبعها خصوصية عالم الطفولة وما يكتنفها من رغبة جامحة لارتياد المجهول، والتطلّع إلى كل ما هو ممنوع. ولعل هذا المنهج أنسب لبعض المتعلمين. وقد أدرك العلاّمة ابن جماعة بأن التسامح، والبسط في العذر لا يفضي إلى التربية القويمة، والفضيلة السوية؛ فاستدرك وسيلة التوبيخ العلنيّ بعد التدرج في التلطيف؛ وهو لا يبعد عن منهج ابن مسكويه في اعتماد سياسة الانتقال السلس من التأديب السِريّ الإشاريّ إلى التأديب بالنصح الفاضح الصارخ؛ ومن ثم يرى ضرورة أن: (يوقفه مع ذلك على ما صدَر منه بنُصحٍ وتلَطُّفٍ، لا بتعنيفٍ وتعسُّفٍ، قاصداً بذلك حسنَ تربيته، وتحسينَ خُلُقه، وإصلاحَ شأنهِ، فإنْ عرَفَ ذلك بذكائه بالإشارة، فلا حاجة إلى صريح العبارة، وإنْ لمْ يفهمْ ذلك إلاّ بصريحها أتى به وراعى التّدرّجَ في التلطّف، ويُؤَدِّبُه بالآداب السّنيّة، ويُحرّضهُ على الأخلاق ِالمَرْضِيَّةِ، ويُوصيه بالأمور العُرفيةِ،على الأوضاعِ الشّرعية)(39).
فصريح العبارة مسلك تربويّ مفيد، ومنهج سلوكيّ سديد إذا كان المتعلّم ممن يأنس للإصلاح، ويجد قبولاً للنصيحة المثمرة التي لا تخدش وجه القيّم، ولا تجرح شعور المتعلّم، وتؤذي كيانه النفسيّ.
ت- منهج ابن سينا:
من المفيد أن نشير في هذا المقام إلى أن منهج ابن سينا في العقاب أقرب إلى المناهج التربوية المعاصرة؛ بيان ذلك أنه جمع بين مسلك الثنائيات المتضادة من ترغيب وترهيب، وتلطّف وتعنيف؛ مفصّلاً مراحل التدرج في العقوبة قائلاً: (فينبغي لِغَنم الصبيّ أن يجنّبه مقابح الأخلاق وينكب عنه معايب العادات بالترهيب والترغيب والإيناس والإيحاش وبالإعراض والإقبال وبالحمد مرّة والتّوبيخ أخرى ما كان كافياً فإن احتاج إلى الاستعانة باليد لم يحجم عنه وليكن أول الضّرب قليلاً موجعا كما أشار به الحكماء قبل بعد الإرهاب الشّديد وبعد إعداد الشفعاء فإن الضّربة الأولى إذا كانت موجعة ساء ظنّ الصبيّ بما بعدها واشتدّ منها خوفه وإذا كانت الأولى خفيفة غير مؤلمة حسن ظنّه بالباقي فلم يحفل به)(40).
ومقتضى كلام ابن سينا – رحمه الله – أن المحافظة على الطفل بوصفه مكسباً تربوياً وأخلاقياً تمرّ بالمزاوجة بين الثواب والعقاب في سلسلة من الإجراءات المتقابلة سلوكياً ونفسياً. وينبغي الاكتفاء بالقَدْر المعلوم من التوبيخ، واللجوء إلى الضرب عند الحاجة القصوى بعد تطبيق كل آليات اللّطف والنصح والإصلاح والشفاعة الممكنة؛ ليصار إلى الضرب الحسيّ باليد. وقد حدّد ابن سينا من منطلق نفسيّ معيش ومجربّ الضرب المثمر الذي هو وسط بين العنف واللطف؛ مفسّراً هذا العقاب الوسطيّ تفسيراً في منتهى الإقناع؛ آية ذلك أن الضرب الشديد المؤلم يزيد من وحشة الطفل وخوفه واضطرابه؛ كما أن الضربة الليّنة الخفيفة عديمة الأثر تهوّن عليه بقية الضربات المتتالية.
ولا جدال في أن القَدر المؤثر من الضرب جسدياً، ونفسياً هو الذي يراعي جملة من الاعتبارات الآتية:
1) طبيعة الجرم المرتكب، وجسامته؛ بحيث إن الضرب الخفيف لا يتناسب، ومقاصد الإصلاح.
2) ضرب الحنو، و الشّفقة يزيدان من استهتار الطفل بفاعلية العقوبة وتأثيرها.
3) دراسة استجابات الأطفال النفسية للعقوبة مساعد على اختيار أنسب العقوبات وأفضلها.
4) الاستعانة باليد ضرورة قصوى تستوجبها إجراءات مقامية متباينة.
5) الإغراق في النصح، والتهديد الشفويّ وسيلة احترازية لتجنب العقوبة الحسيّة.
6) العقوبة إن اقتضتها الضرورة ينبغي أن تفضي إلى إصلاح السلوك المنحرف، وتصويب الفعل المقترَف.
7) تقدّر الوسطية في العقاب الحسيّ بقَدَرها وفق ما قرّره الشّرع والعقل؛ وفهم طبيعة المواقف السلوكية المختلفة مُعينٌ على تحقيق العقوبة العادلة، والمثمرة، والفعّالة.
8) العقاب على قدر الذنب دون تجاوز الحدّ في الأدب.
خامساً: كيفية الضرب:
حدّد الفقهاء طريقة الضرب العملية، وكيفياتها المختلفة. والناظر في هذا التحديد يلفي أنهم راعوا مقصد الوسطية في العقوبة من جهة، وتجسيد غايات الردع، والزجر، والإصلاح من جهة ثانية. وفي هذا السياق يفصّل الأنبابيّ طريقة العقوبة؛ شارحاً مراحلها قائلاً: (أن يكون مُفرّقاً لا مجموعاً في محلٍّ واحدٍ، وأن يكون في غير وجه ومَقتَلٍ، وأن يكون بين الضّربتين زمنٌ يَخفُّ به ألم الأوّل، وأن يرفع الضّارب ذراعه – ليثقل السّوط – لا عضده؛ حتى يُرى بياض إبطه، فلا يرفعه لئلا يعظم ألمه؛ ولا يضعه عليه وضعاً لا يتألّم به)(41).
وجُمّاع الأمر في هذه الطريقة الإنسانية في العقوبة المراعية لشرف الطفل، وآدميته أربع نقاط:
* تفريق الضرب، وعدم تمركزه في منطقة واحدة من الجسم؛ توزيعاً للألم، وتفريقاً له.
* تجنب مناطق المهالك من الجسم كالوجه، ونحوه من الأعضاء التناسلية.
* مراعاة المهلة الزمنية المطلوبة بين الضربتين؛ لأن في توالي الضربات مزيد قسوة، وألم، وقهر.
* رفع الذراع دون العضد؛ تحقيقاً للهيئة الوسطى من الضّرب بين شدّة الألم، وخفةّ الأثر.
فالوسطية مطلب الشريعة في التعزير وغيره؛ ولا نعتقد أن شريعة من الشرائع السماوية رعت هذه التفصيلات المَرْضِيَّة، والوضعيات الشرعيةّ في العقاب؛ بخلاف الأمم الأخرى التي تجعل من العقوبة غاية انتقامية لا وسيلة إصلاحية رادعة. والمتأمل في كثير من التفريعات الفقهية الخاصة بالعقاب يهتدي إلى الاقتناع برحمة الدين الإسلاميّ، ومراعاته لحقوق الطفل النفسية، والجسدية؛ بل إن الفقهاء قد أجمعوا على عدد الضربات دون تجاوز العدد المطلوب الذي يحقق حسن التربية، وتقويم السيرة المضطربة. وفي هذا الصدد يرى العلماء أنه: (لا يجاوز بالأدب ثلاثاً إلاّ أن يأذن الأبُ في أكثر من ذلك إذا آذى أحداً)(42).
فتقييد العدد بثلاث ضربات مصدره عدم الانفلات من حدود الإصلاح وغاياته،كما أن أقصى ما تصل إليه العقوبة عشر ضربات وهي النهاية في الضرب. وقد علّل العلماء لتحديد هذا المجال بين [ 3- 10] بقولهم: (لأنّ عشرة غايةُ الأدب)(43).
فالأدب موقوف على ثلاث؛ وغيره من الضربات إلحاق الأذى بالغير إن أذن الوليّ بعشر. وفي فلسفة العدد التي أقرّها الدين الحنيف ما يوحي بتفاوت الجرم المرتكب حجماً، وطبيعةً.
سادساً: مواصفات آلة الضرب
لم تترك الشريعة الغرّاء مجالاً لمكابر أو معاند أو مستشرق لتشويه حقيقة التعزير والحدّ. والعارف بأصول الفقه، وفروعه يلفي أن الوصف الحسيّ لآلة العقاب هو امتداد لفلسفة الوسطية التي تقدّس مقام تشريف الجنس البشريّ، وتكريمه، وتفضيله؛ إذ بيّن الفقهاء تفصيلاً مواصفات آلة العقاب، ومكوناتها بحيث: (يجب في نحو السّوط أن يكون مُعتدل الحجم، فيكون بين القضيب والعصا، وأن يكون مُعتدل الرُّطوبة، فلا يكون رطباً يشقُّ الجلد لثقله؛ ولا شديد اليُبوسة فلا يُؤلم لخفَّته، ولا يتعيَّن لذلك نوع، بل يجوز بسوطٍ – وهي سُيُورٌ تُلوى _ وبعُودٍ وخشبةٍ ونعلٍ وطرف ثوبٍ – بعد فتله حتّى يشتدَّ)(44).
إن خصائص آلة العقاب التي ذكرها الأنبابيّ هي السّوط الجامع بين الليونة، والرطوبة؛ فلا هو في منتهى الرطوبة مما يزيد من ألم الضرب؛ ومن ثم تعدّى الحد في الأدب؛ ولا هو في غاية الليونة التي تفقد درجة الألم المطلوبة؛ إذ يرى أنه لا يوجد نوع بذاته؛ بل يكون بسوط تتوفر فيه خصائص الرحمة والشفقة، والرأفة؛ كما ذكر العود، والخشبة، والنعل وطرف الثوب المفتول، وكلها مستخدمة بدرجات متفاوتة في المجتمعات العربية.
فالاعتدال في حجم السّوط هو تعبير عن وسطية العقاب التي بين التقييد، والإطلاق، كما أن التوسط في اختيار مكوّناته الداخلية، ومادته مما يعزز من عالمية الشريعة الإسلامية، وبعدها الإنسانيّ؛ بخلاف العقاب الذي تمارسه بعض المجتمعات الغربية التي تتلذّذ بعقوبة الطفل؛ رغبة في الانتقام من عالم الطفولة البريئة.
ولا مرية في أن تشديد علماء الإسلام، والسلوك، والتربية على انتقاء مواصفات محددة لآلة العقوبة هو مراعاة لمقاصد آدمية الإنسان، وعدم الاعتداء على عقله، وروحه، ونفسه، وعِرضه.
سابعاً: وصية هارون الرشيد لمؤدب الأمين الأحمر النحويّ – قراءة تحليلية نقدية -:
لقد ذكرنا في صدر هذه الدراسة أن ابن خلدون حكيم المؤرخين تذرع بوصية هارون الرشيد في التأديب والتربية(45)؛ وهو اختيار ينبئ عن حصافة الرأي، ورجاحة الفكر؛ لأنها تؤسس لفلسفة متكاملة في التأديب صالحة لكل زمان ومكان؛ وقابلة للتنفيذ في كل المجتمعات خاصة العربية والإسلامية. فقد حوت معالم نظرية تربوية جليلة القدر، شريفة المحتوى، تشرّع لدستور التربية والتّعليم. ولكل شيء شرف وشرف الوصية تنفيذها؛ ولما كانت هذه الوصية نبراساً يحتذى في المجال التربويّ كان حرياً بنا أن ننقلها كاملة؛ رغبة في تشريح مكوّناتها، وتحليل أصولها. يقول المسعوديّ – رحمه الله -: (قال الأحمر النحويّ: بعث إليَّ الرشيد لتأديب ولده محمد الأمين، فلما دخلتُ قال: يا أحمر، إنّ أمير المؤمنين قد دَفعَ إليكَ مُهجة نفسه، وثمرة قلبه، فَصَيّرْ يدك عليه مبسوطة، وطاعتك عليه واجبة، فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين، أَقرئْه القرآنَ، وعرّفْه الآثار، ورَوّهِ الأشعارَ، وعلّمْه السنين، وبَصِّرْهُ مواقع الكلام وبدأَه، وامنعه الضحكَ إلاّ في أوقاته، وخُذْهُ بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا إليه، ورفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسَه، ولا تمرَنَّ بك ساعة إلا أنتَ مغتنم فيها فائدة تفيده إياها، من غير أن تخرق به فتميت ذهنَه، ولا تمْعن في مسامحته فيستحلي الفراغَ ويألفَه، وقوِّمه ما استطعتَ بالقربِ والملاينة، فإنْ أَبَاهُما فعليكَ بالشدّة والغلظةِ)(46).
ومن المقرر في أصول تاريخ التربية الإسلامية أنْ دَأَبَ الخلفاء، والأمراء، والملوك في التراث العربيّ الإسلاميّ على تربية أولادهم في رحاب المؤدّبين؛ لعلمهم بعظم موقع التأديب، والتربية في النشأة القويمة، والمنبت الأصيل. ولعل من تجليات هذا الاهتمام هذه الوصية التي تعكس وعياً راقياً بحقيقة الأبوة الصادقة؛ حيث استهلّها بتقديم المؤَدَب الذي هو جوهرة الخليفة هارون الرشيد، وروحه. وفي هذا الوصف إقرار بعظم المسؤولية المنوط بها المؤَدِب الأحمر النحويّ، وما يترتب عن التقصير من تبعات أخلاقية، ونفسية من جهة؛ وحرصه الشديد على الارتقاء إلى مستوى رعاية هذا الكنـز النفيس، والأمانة العليّة من جهة أخرى؛ ثم شرع في تحديد معالم المنهج التربويّ الذي أوجزه في برنامج تأديبيّ وفق الآتي:
1) تأصيل ثقافة الـتأديب، وتوطينها في المتعلّمين من خلال معاملة الأحمر النحويّ للأمين على هدى الرأفة والرفق، والأناة دون تجاوز حدود اللين مع ضرورة طاعة المُؤَدِّب.
2) ارتقاء الأحمر النحويّ إلى مستوى المهمّة الشريفة الموكلة إليه.
3) بداية الـتأديب من تعليم القرآن الذي هو مصدر التربية والتّعليم، ومرشد المتعلّمين إلى بقية العلوم والفنون.
4) تعليم الآثار، ورواية الأشعار، والتاريخ، والأخبار، والحساب، ونسج الكلام، وبراعة استهلاله، ومطابقته لمقتضى الحال.
5) منع الأمين من الضحك إلا لضرورة؛ وهو توجيه خُلقيّ مصدره جديّة العملية التربوية والتعليمية والتأديبية.
6) تنمية الشعور بالانتماء القَبليّ، وترقية الإحساس برجال بني هاشم، وتوقيرهم.
7) التدرج في تلقينه، واغتنام الوقت في تفهيمه؛ وعدم الإكثار عليه؛ مراعاة لقدراته الذهنية، واستجاباته النفسية؛ وهو مبدأ تربويّ أصيل في التربية الإسلامية عند القدماء؛ إذ يرى ابن جماعة أنه: (إذا سلك الطالب في التحصيل فوق ما يقتضيه حاله أو تحمله طاقته وخاف الشيخ ضجره أوصاه بالرفق بنفسه […] مما يحمله على الأناة والاقتصاد في الاجتهاد)(47).
8) الصرامة في تأديبه حتى لا يأنس بالفراغ، ويركن إلى الإهمال؛ مستحضراً نتائج العقاب.
9) المزاوجة بين اللين والشّدة في التأديب؛ فالقرب من الأمين، وملاينته مما يحرّك الرغبة في الطلب، والإقبال على العلم، والاستزادة منه؛ كما أن القرب يشعره بالألفة، والأنس، وعدم الإيحاش والإعراض؛ فإن أبى اللطف فعليك بالتعنيف والشدة؛ وإن لم يحدّد الرشيد حدود الغلظة، ومقدارها، ولم تمنعه عاطفة الأبوة الجيّاشة من الإذن لمؤدِّب ابنه بتعنيفه، وتقبيح سلوكه؛ وهذا هو نموذج وليّ الأمر الذي يقدّر حقيقة التأديب، ومقاصده.
10) لعل جاذبية هذه الوصية تكمن في شخصية وليّ الأمر الرشيد، وخصوصيته التاريخية والدينية، ومقامه السياسيّ، دون أن يجد حرجاً أو كُلفة بينه وبين مؤدِّب ابنه الأحمر النحويّ. وقد أَذِن له بتأديبه من منطلق شرعيّ وإنسانيّ عادل دون أن يستغل سلطته الدينية والروحية كما يفعل الكثير من أولياء المتعلّمين في توجيه اللوم لمؤدِّبيْ أبنائهم أو احتقارهم أو عزلهم أو قطع أرزاقهم، أو شراء ذممهم.
فالمنهج التأديبـيّ الذي رسم معالمه هارون الرشيد لمؤدِّب ابنه الأمين يقوم إجمالاً على جملة من الأسس التربوية والخُلقية، والعلمية، والنفسية؛ فهو مسلك يجمع بين الإيناس والإيحاش، بين الألفة، والأنس، والوحشة. وإن تداخلت هذه الأسس إلا أنها جامعة وافية في التأديب، والتربية، والتّعليم.
الخاتمة:
الحاصل من هذه المقاربة النفسية والتربوية لسياسة العقاب أنها تؤصّل لمنهج تربويّ فريد يستشرف آفاقاً حضاريةً، ومعرفية تتجاوز الأطر التربوية الضيقة إلى فضاءات من الممارسة التعليمية الجادة، والفاعلة والمثمرة تنطلق من رؤية كونية لمفهوم آدمية الإنسان، وحرمته، وهيبته في رحاب التربية الإسلامية المسدَّدة بمقاصد الوحي. ويمكن استخلاص النتائج الآتية:
1. التربية الأُسَرية هي مفتاح السعادة الأزلية واللذة الأبدية التي يستشعرها المتعلّم.
2. الشّدة على المتعلّمين تورّث المكر والخديعة، والتخابث، وتسلب المتعلّم روح الانتماء للأمة، وتضعف من مَلَكَة التّحصيل.
3. الرفق واللين بالمتعلّم يزيد من انبساطه، ويوسّع من نشاطه.
4. العقوبة ضرورة قصوى؛ لتحقيق غايات الردع، والزجر، والإصلاح دون جرح شعور المتعلّم، وخدش إنسانيته.
5. العقوبة تقدّر بقَدَرها من طبيعة الجرم المقترَف.
6. المنهج التربويّ البديل الطموح الذي يحرّك الرغبة في التعلّم، والاستزادة من القيم الفاضلة، والشيم الكاملة هو الذي يزاوج بين الثواب، والعقاب، و الأنس والوحشة، والإعراض والإقبال، والحمد، والذّم.
* * *
الهوامش
(1) للإحاطة الشاملة بمساهمة علماء القيروان في الفكر الإسلاميّ. ينظر: الدبّاغ الأسيديّ، معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان، أكمله وعلّق عليه أبو الفضل أبو القاسم بن عيسى بن ناجي التنوخي، تصحيح وتعليق: إبراهيم شبّوح، الطبعة الثالثة، مكتبة الخانجي بمصر، 1388هـ – 1968م، الجزء الأول.
(2) للتوسع في مصادر ابن خلدون التي استقى منها آراءه في التأديب. ينظر عبد الرحمن بن خلدون، مقدمة ابن خلدون ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، ضبَط المتن ووضع الحواشي والفهارس: خليل شحادة، مراجعة: سهيل زكار، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، 1431هــ- 2001 م، الجزء الأول، ص 744.
(3) الكواكبيّ، عبد الرحمن، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، المطبعة العصرية، حلب، [د.ت]، ص 13.
(4) ابن الجزار، أحمد بن إبراهيم، سياسة الصبيان وتدبيرهم، تحقيق محمد الحبيب الهيلة، الدار التونسية للنشر، 1968.
(5) ابن سينا، الحسين بن عبد الله، رسالة ضمن مجموع في السياسة، تحقيق: فؤاد عبد المنعم أحمد، الطبعة الأولى، مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، [د.ت]، ص 83.
(6) ابن خلدون، عبد الرحمن، مقدمة ابن خلدون، الجزء الأول، ص 743.
(7) ابن قَيِّم الجَوْزية، أبو عبد الله، تحفة المودود بأحكام المولود، تحقيق: عثمان بنُ جمعة ضُميرية، دار علم الفوائد للنشر والتوزيع، مطبوعات مجمع الفقه الإسلاميّ، جدة. [د. ت]، ص 349.
(8) ابن مِسْكويْه، أبو علي أحمد، تهذيب الأخلاق، دراسة وتحقيق: عماد الهلالي، منشورات الجمل، بيروت – لبنان،2011م، ص 290.
(9) المصدر نفسه، تهذيب الأخلاق، ص 294.
(10) ابن سينا، رسالة ضمن مجموع في السياسة، ص 101.
(11) ابن مِسْكويْه، تهذيب الأخلاق، ص 303.
(12) المصدر نفسه، ص 303.
(13) ابن خلدون، المقدمة، الجزء الأول، ص 743. وإلى المعنى نفسه أشار العالم ابن مُفلح المقدسيّ [ت 763هـ] قائلاً: (التسلطُ على المملوك دناءة). الآداب الشّرعيّة، حقّقه وضبط نصّه وخرّج أحاديثه وقدّم له: شعيب الأرنؤوط وعمر القيام، الطبعة الثالثة، مؤسسة الرسالة – بيروت -1419هـ/ 1999م، الجزء الثاني، ص 5.
(14) ابن خلدون، المقدمة، الجزء الأول، ص 743.
(15) المصدر نفسه، الجزء الأول، ص 743-744.
(16) ابن مِسْكويْه، تهذيب الأخلاق، ص 294.
(17) ابن خلدون، المقدمة، الجزء الأول، ص 210. للاستزادة والاستفاضة في رأي ابن خلدون في هذه المسألة ينظر: المقدمة، الجزء الأول، ص 211،212؛ فقد ناقش ابن خلدون طبيعة المُلك المُترف، وأثره في انهيار الدولة. وواقع بعض الدول العربية والإسلامية يقوم دليلاً مقنعاً على هذه الأطروحة.
(18) ابن سينا، رسالة ضمن مجموع في السياسة، ص 83.
(19) المصدر نفسه، ص 84.
(20) ابن خلدون، المقدمة، الجزء الأول، ص 744.
(21) الأنبابيّ، شمس الدين محمد بن محمد، رسالة في رياضة الصبيان وتعليمهم وتأديبهم، تحقيق: وليد بن محمد بن عبد الله العَلي، الطبعة الأولى، دار البشائر الإسلامية، بيروت – لبنان،1432هـ – 2011م، ص 40.
(22) المصدر نفسه، ص 41.
(23) الأهوانيّ، أحمد فؤاد، التربية في الإسلام، دار المعارف بمصر، [د. ت]، ص 147.
(24) الأنبابيّ، رسالة في رياضة الصبيان وتعليمهم وتأديبهم، ص 41.
(25) المصدر نفسه، ص42. يُعرَّف التعزير عند الفقهاء بأنه: “الضرب دون الحد لمنعه الجاني عن المعاودة وردعه عن المعصية”. النوويّ، أبو زكريا محيي الدين بن شرف، كتاب المجموع شرح المهذّب للشيرازي، حقّقه وعلّق عليه وأكمله بعد نقصانه: محمد نجيب المطيعيّ، مكتبة الإرشاد، جدة – المملكة العربية السعودية، الجزء 22، ص 304.
(26) الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين مع مقدمة في التصوف الإسلاميّ دراسة تحليلية لشخصية الغزالي وفلسفته في الإحياء، بدوي طبانة، مكتبة ومطبعة كرياطه فوترا، إندونيسيا، [د.ت]، الجزء الأول، ص 14.
(27) الأنبابيّ، رسالة في رياضة الصبيان وتعليمهم وتأديبهم، ص 45.
(28) ابن سحنون، أبو عبد الله محمد، كتاب آداب المعلّمين، تحقيقات: حسن حسني عبد الوهاب، مراجعة وتعليق: محمد العروسي المطوي، الطبعة الثانية، دار الكتب الشرقية، 1392/ 1972م، تونس، ص 136. للإحاطة الشاملة، والاستفاضة الكاملة في الجوانب الفقهية في قصاص التأديب. ينظر المصدر نفسه، ص 132- 133 – 134 – 135 – 136.
(29) سرحان، وليد، الطب النفسيّ القضائيّ، سلسلة الكتاب الإلكترونيّ، إصدارات شبكة العلوم النفسية العربية، عمان، 2012م، ص 56. سلوكيات 9، عدد 22،ص 56.
(30) الأنبابيّ، رسالة في رياضة الصبيان وتعليمهم وتأديبهم، ص 40. للتوسع والاستزادة في مراتب التأديب ينظر المصدر نفسه، ص 42-43.
(31) عزت، أحمد جبر، أصول علم النفس، الطبعة الحادية عشرة، دار المعارف، مصر، 1999م، ص 280- 281.
(32) النوويّ، أبو زكريا محيي الدين بن شرف، كتاب المجموع شرح المهذّب للشيرازي، الجزء 22، ص 307. للتوسع في مقدار العقوبة ينظر مقدمة ابن خلدون، الجزء الأول، ص 744. وقد استلهم مقدارها من محمد بن أبي زيد القيروانيّ في حكم المعلّمين والمتعلّمين.
(33) الأنبابيّ، رسالة في رياضة الصبيان وتعليمهم وتأديبهم، ص 43-44.
(34) عزت، أحمد جبر، أصول علم النفس، ص 282.
(35) ابن مِسْكويْه، تهذيب الأخلاق، ص 290- 291.
(36) عزت، أحمد جبر، أصول علم النفس، ص 281.
(37) المرجع نفسه، ص 281.
(38) ابن جماعة، بدر الدّين، تذكرة السّامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلّم، اعتني به محمد بن مهدي العجميّ، الطبعة الثالثة، شركة دار البشائر الإسلامية، بيروت – لبنان، 1433هـ – 2012م، ص 74.
(39) المصدر نفسه، ص 74.
(40) ابن سينا، رسالة ضمن مجموع في السياسة، ص 101.
(41) الأنبابيّ، رسالة في رياضة الصبيان وتعليمهم وتأديبهم، ص 44.
(42) ابن سحنون، كتاب آداب المعلّمين، ص 89.
(43) المصدر نفسه، ص 90.
(44) الأنبابيّ، رسالة في رياضة الصبيان وتعليمهم وتأديبهم، ص 44.
(45) ينظر الصفحة 2 من البحث.
(46) المسعودي، أبو الحسن علي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، اعتنى بها يوسف البِقاعي، الطبعة الأولى، دار إحياء التراث العربيّ، بيروت – لبنان، [د. ت]، الجزء الثالث، ص 254.
(47) ابن جماعة، بدر الدّين، تذكرة السّامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلّم، ص 145- 146.