كثر الجذب المفاهيمي واللغو “الفكري” حول جملة من القيم الإنسانية الكونية كالحرية والعدل والمساواة… مع إخضاع السياق المجتمعي لسلطة العقل البشري، وذهب البعض إلى جعل الخطاب الإسلامي و”الفلسفة” القرآنية في الضفة المعادية لهذه الحريات الكونية، فتوجهوا لوصفه بـ الرجعية والظلامية والتخلف الفكريالذي ينتمي لأيام الأقدام والبعير، ومع الأسف لم يطبق هؤلاء معارفهم العلمية في تعاملهم مع الخطاب الإسلامي ولم يعملوا فكرهم التجريبـي والنقدي وآلياتهم التحليلية لدراسة وتحليل هذا الخطاب،
جاعلين منه موضوع دراسة حقيقية، بل اكتفوا بأحكام ذهنية مسبقة تصوروها نتاجا عقليا كافيا للكلام عن دين ذي شعب متعددة وذي أبواب كثيرة يحتاج ولوج كل منها إلى تسلح بمفاتيحه وقوانينه الإلزامية، وإلا يكون الكلام لحظتها كلام من يصرخ في واد عميق أو من ينفخ في الرماد ملتمسا قبسا من متاع المقوين. بينما ذهبت فئة أخرى إلى مقاربة “عنيفة” باعتماد خطاب ديني “تكفيري” ثارة و”جهادي ثارة أخرى”. ليشتد الصراع بين الفئتين صراع أزلي ماله من سبب “إلا سوء الفهم وسوء التقييم العلمي الموضوعي للأمور”، لينشأ ما يصطلح عليه بـ التطرف، والذي لا يمكن أن نناقشه باعتماد مقاربات تضيق مفهوم الحقيقة وتسجنها في عيون التعصب سواء كان هذا التعصب فكريا أو حزبيا أو يسلك مسلكا طائفيا، بل باعتماد مقاربة موضوعية مستقلة عن الانتماءات، بل تجعل من الخطاب الإسلامي المتمثل في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وكذا مصنفات علمائهما موضوعا للدراسة المتجردة عن بادئ الرأي وعن المعرفة الموروثة، وهذا طبيعي مادام الضحية هذا الخطاب الذي تحدث عنه البعض دون فهمه فكانوا كمثل أهل التوراة، حملوها على ظهورهم كالدواب، لا هم عملوا بها ولا هم فهموها وأفهموها، بينما تحدث عنه البعض الآخر بمنطق الانتقاء، فكانوا يحتجون منه بما يلاءم هواهم ويتركون ما خالف هذا الهوى، فكانوا كمن قال فيهم الله U: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) (البقرة: 84).
وإني لا أكتب هذا المقال حاملا هم الكتابة وعشقا للقلم، ولكني أكتبه في محاولة لتفادي التلقي السلبي عن الآخرين من خلال مناقشة هذا المفهوم والبحث عن أبعاده في الأصل لا في الفروع مادام ماء النبع أصفى بكثير من ماء الحواشي، وأنا عندما أقول المصدر والمنبع، فإنما أقصد تتبع أثر التطرف في القرآن الكريم، وإن ثبت براءة الأنبياء والمرسلين من هذا التطرف اللعين بلسان القرآن المبين، فلابد لهؤلاء المتكلمين بعيدا عن الحقيقة أن يراجعوا مفاهيمهم وأن يعلموا أنهم على باطل وأنهم إنما يفترون على الله ما لم ينـزل به سلطانا.
قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النور: 11).
وقال أيضا: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ) (النور: 15).
من هذا المنطلق نرى ما للافتراء والكلام دون قرائن علمية من خطورة على الأفراد والجماعات، وعليه لا بد للإنسان أن يلقي لكلامه بالا وألا يتسرع في إطلاقه للأحكام التي تصنف الناس وتضعهم في خانات محددة،ثم لابد أن نفهم في البداية أن”التطرف” ليس مرتبطا بأي حال من الأحوال بالآراء والأفكار التي يؤمن بها شخص دون آخر، إذ لا يمكن اتهام شخص بالتطرف لمجرد أنه “خالفك الرأي”، ولكن التطرف هو ما خرج عن دائرة الحوار العلمي والتفاعل الموضوعي بين المختلفين إلى دائرة المواجهة السلبية المباشرة المتمثلة في العنف المعنوي أو الجسدي. ثم إن أي مقاربة موضوعية لمناقشة المفهوم، لابد لها أن تبتعد كل الابتعاد عن فخ التعميم المطلق الذي يجعل الألوان لونا واحدا، واستحضر هنا فترات انبعاث خطابات المستشرقين التي أنتجت ثنائية “المركز والهامش”، مركز رأى نفسه منبع العلم والحضارة والرقي الإنساني وجعل مناطق العالم الأخرى مجرد فضاء هامشي يتلبس جبة التخلف والجهل والعبودية، وهذا شكل من أشكال التطرف تجاه هذا الشرق “الهامش”، بل إنه عين التطرف لما تجاوز الكتابة والوصف والتفاخر إلى عنف عسكري استعمر الأراضي واستعبد الناس ونهب الخيرات وقتل المقاومين في ما أسموه “مهمة لنشر الحضارة”.”A civilized mission”وهكذا الحال عندما يتعصب الإنسان لرأيه ويقدم مصالحه الشخصية على حساب أي شيء آخر، فهؤلاء ورغم أنهم تبنوا آراء العقل والعلم والحضارة أصيبوا بالعمى تجاه أنفسهم ولم يطبقوا العلم في نظرتهم للآخرين متناسين بذلك نسبية المركز وأنه سيتغير بتغير الناظر، فكل شخص في موضعه “مركز” يعتبر ما تبقى هامشا، وداخل المركز نفسه مركز وهامش، وإذا ما ذهبنا إلى الهامش سنجد فيه ما يمثل المركز وما يمثل الهامش الجديد. وهذا بالذات ما يحدث للمهاجمين على النظم الإسلامية بحجة العلم والعقل والحداثة، فهي أفكار حق أريد بها باطل، فالخطاب القرآني لم يكن يوما من الأيام ضد إعمال الفكر وإعمال العقل بل إنه بالضرورة موجه لأصحاب العقول وأصحاب الألباب، وأكثر من ذلك فالعلم باعتباره حقا في المواثيق الدولية مع ارتباطه بالحرية، يمثل اختيارا للإنسان إن شاء طالب به وإن تنازل عنه وتخلى عنه فلن يتحاسب معه أحد، لكنه في الإسلام ليس مجرد حق وحرية بل هو ضرورة من خلال أول ما نـزل على الصادق الأمين عليه أفضل صلاة وأزكى تسليم، إذ قال الله Uبصيغة الأمر الذي يفيد الوجوب والضرورة والإلزام (اقْرَأْ)، ولم يقل “اقرأ يا محمد” أو اقرأ الفقه أو الفلسفة أو أي علم، فلم يخاطب شخصا محددا ولم يقيد معنى العلم في مجال معين، بل هو أمر شامل يفيد طلب العلم وتعلم كل العلوم والنهل من شتى المعارف، وهو فرض على كل إنسان. وكثيرة هي الآيات التي يخاطب فيها الله الإنسان ويدعوه إلى التفكر والتدبر والتأمل، ولن يصعب على القارئ تتبعها وإيجادها، وبما أن القرآن الكريم بشهادة الله U(لاَ رَيْبَ فِيهِ)، (أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ)، (وَكِتَابٌ مُّبِينٌ)، (لَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا)، (قُرْآناً عَجَباً)، (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ)، فلا يمكن لهذه الحكمة الإلهية إلا أن تخاطب الحكماء وأهل العقول، وفي ما يلي بعض الأمثلة من كتاب الله:
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنـزلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة: 163).
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الألْبَابِ)(آل عمران: 190).
(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)(الأنعام: 97).
(وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (الرعد: 4).
(يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل: 11).
(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (النحل: 12).
والآيات كثيرة يصعب حصرها، لذلك فالله Uإنما وجه خطابه للعقلاء المتفكرين والمتأملين، ولم يكن القرآن ضد من يريد أن يقرأ القرآن من غير المؤمنين ولم يمنعهم من تطبيق هذه التأملات العلمية البعيدة عن الإرث الديني، وذلك من خلال نص قرآني صريح: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً) (النساء: 82)، وعلى العكس فإنه لا يتدبر ولا يتأمل ولا يُعمِل العقل أمام هذا القرآن من ران على قلبه وأحكمته الأقفال (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد: 24).
فها هو الله Uيوافق موافقة صريحة على قراءة كتابه بعيدا عن البعد الإيماني التعبدي، ونقده نقدا علميا موضوعيا، فلن يجد هؤلاء إلى النسق السليم والبنية الدقيقة والمعاني التي لا لبس فيها، وسيجدون فيه ما يخالف أفكارهم المسبقة وأفقهم الضيق.. ثم إن الله يدعو في هذه الآية إلى إعمال منهج الشك والذي جاء به ديكارت و ساهم بشكل كبير في بناء المجتمعات الغربية، ولم يكن الخطاب الإسلامي يوما من الأيام ضد الشك من أجل الوصول إلى اليقين، فلا يقين إلا بعد شك، ولاشك بعد يقين، علما أن تعامل أمة محمد مع القرآن الكريم يكون قبل كل هذه الأمور مبنيا على فلسفة التصديق، فلا يقول من آمن فعلا وتمكن الإيمان من قلبه إلا (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ) (آل عمران: 7) سواء بدت له الحكمة من تشريعات الله أم لم تبدو.
فنبي الله إبراهيم وهو خليل الله المؤمن الموحد، خير من أعمل فكره بحثا عن حقيقة الوجود ناهجا منهج الشك والافتراض مع الشمس والقمر في بحثه عن الإله، لكن زوالهما جعله موقنا من أن لهذا النظام المحكم خالق أقدر وأحق بالعبادة،وحتى بعد أن هداه الله وأيقن قلبه لم يمنعه هذا من بحثه عن يقين أكبر من اليقين الأول فقال مناجيا ربه:
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة: 260).
فهو يبحث عن يقين أقوى وعن طمأنة قلبه من خلال قوله: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى) وهذا الأمر لم ينكره عليه الله Uولم يتهمه بالشك والكفر والجحود، بل وحتى لم يخاطبه خطابا عنيفا قاسيا وإنما أجابه مباشرة بأسلوب العليم القدير العارف بالأمور ودقائقها(فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً). هذا فقط شوق لقدرة الله وعجائبه ورغبة في طمأنة القلب، وحاشى أن ينقص إيمان سيدنا إبراهيم وهو سيد اليقين لما تل ابنه للجبين وهَمّ بذبحه عملا بأمر الله. فكان إبراهيم دائما نبي حوار وخطاب حجاجي بامتياز ولم يمِلّ أبدا من الحوار ولم يمِلْ إلى التطرف والقتل، لكن أعداء الله من ملوا بعد أن تقطعت بهم الأسباب وخارت حججهم الواهية فأفتوا غير مترددين في إحراق إبراهيم، (حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ).
وخطاب التطرف لم يكن يوما من الأيام صادرا من الأنبياء والمرسلين وأهل الإيمان، فالله Uبعثهم للبيان والتوضيح والهداية (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ) و(قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ)، وعليه فالإنسان المؤمن ما عليه إلا محاورة الناس والعمل على هدايتهم بالموعظة الحسنة والكلام اللين الطيب (وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ)، ولكن التطرف وخطاب القتل كان دائما لغة الكافرين والمشركين وقليلي الإيمان. ولا يسعني في هذا الصدد وأنا أتحدث عن حقيقة التطرف إلا أن أبرهن بكتاب الله، نفس الكتاب الذي يُتهَم بالتطرف والرجعية والظلامية والعنف، ليتضح أن المؤمن لم يكن يوما حامل رسالة متطرفة، وأن الأنبياء لم يبعثوا يوما لقتل الناس وإنما لدعوتهم، وأن التطرف يصدر دائما من “الكافرين” الذين لم يسمحوا بأي صفة من الصفات لهؤلاء الأنبياء مع أتباعهم من ممارسة ما فرضه الله عليهم وبلغة المواثيق الدولية أقول: “حقهم في العبادة وحريتهم في الاعتقاد”.
ولنبدأ مناقشة هذا الصراع الإنساني من بداية خلق الإنسان نفسه، وبالذات حوار الرب مع ملائكته، وهو العليم بما كان وما هو كائن وما سيكون. (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ۖقَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖقَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة: 30).
لم يكن في حاجة لهذا الحوار لكنه يعلمنا درسا في الحوار مع مخلوقات وهو الخالق (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)، ورد الملائكة (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ). فالخليفة هو هذا الإنسان الذي رأت الملائكة فساده وسفكه للدماء، ولا يمكن للملائكة وهي المخلوقات النورانية المعصومة أن تتحدث من فراغ، والحقيقة أن كل إنسان معرض لأن يفسد في الأرض، وليس تاريخ الأرض وما يشهده العالم المعاصر إلا دليلا على تحقق هذه النبوءة الملائكية الصادقة. ليتحقق بعد هذه المحاورة أمر الله ويسكن آدم وزوجه الجنة في هدوء وسكينة، ولم يكن التطرف في هذه الأجواء ليصدر إلا عن عدو من أعداء الله، المخلوق نفسه الذي تطرف عن مشيئة الله ورفض أمر الله، آدم لم يكلم يوما إبليس ولم يمسسه بسوء، لا ولم يكفره أو يفكر بقتله، لكن إبليس هاجمه بخطاب الكراهية ولم يرد له إلا الهلاك ما استطاع، ليتحقق ما أراد ويطرد الله الجميع من الجنة، ويسكن هذا الخليفة الأرض ويعمرها كما سبق في علم الله. وتمضي حياة الإنسان على الأرض بنفس المنطق الذي يتصف فيه المؤمن الصادق بالهدوء والسكينة والحوار ولا يصدر عنه فعل التطرف والقتل بأي حال من الأحوال، والدليل ابنا آدم قابيل وهابيل.
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ ۖقَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَلِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ ۖإِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) (المائدة 27-28).
واجه هابيل المؤمن الصالح خطاب التطرف والقتل الذي صدر عن أخيه بالسلم والحوار ونبذ العنف والدليل قوله: (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ) وهي تفيد أن هابيل لم يكن في أي حال من الأحوال ليفكر في قتل أخيه إنما يحاوره ويطلب له الهداية والإنابة إلى الله. والسبب وراء هذا الخطاب السلمي غير المتطرف كما جاء على لسانه: (إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)، فلم يكن حال من يخاف الله فعلا إلا حال هابيل، وسائر المؤمنين الموحدين لم يكونوا يوما ليعتدوا أو ليظلموا الناس شيئا.
ونبي الله نوح وقد عاش ما عاش من العمر، لم يعشه إلا محاورا وداعيا وملتمسا إيمان قومه ولم يقابلهم في أي حال من الأحوال بلغة التطرف والعنف والقتل رغم أنه قوبل “بتطرف القوم” المتجلي في سبه وشتمه والإساءة إليه، بل حتى زوجته وهي أقرب الناس إليه لم تتوانى عن الاستهزاء والسخرية من دعوته، ونوح لم يعمل إلا بمنطق الدعوة والبلاغ لا غير وإنما الجنة والنار والعقاب والعفو ليست بيد أي كان وإنما بيد رافع السماء بلا عمد، بل حتى بعد الركوب وبداية الرحلة لم ييأس من الحوار والتماس الهداية لابنه الكافر (يا بني اركب معنا).. فما على المؤمن الصادق بنص القرآن إلا أن يعمل جادا على إظهار الحق أما الهداية وزرع بذرة الإيمان في القلوب فلم تكن لنبي ولا لسيدنا محمد (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ۚوَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (القصص: 56).
وها هو نبي الله يوسف قد تحولت طاعته وتقواه وعفته وأخلاقه إلى تطرف في نظر امرأة العزيز، “تطرف” أدخله السجن، ولو استجاب لفكرها الخبيث ولرغباتها الشهوانية لما كان متطرفا ولاستمر في كونه عبدا صالحا في عينها، هذا الهجوم وهذا الظلم لم يقابله يوسف المؤمن بأي تطرف مثله وبأي قتل أو ظلم مثله وإنما قضى عمره في الحوار والدعوة إلى خطاب إيماني قوامه العفو والسلم، والدليل هو أنه حتى في لحظات السجن ظلما لم يبخل عنهم تفسير الرؤيا لما رأى حاجة البشرية لعلمه، ولم يشترط خروجه من السجن مقابل تأويلها، وهذا حال أهل الإيمان الحق والصادق.
فمنطق الله واحد ولم يرسل الله الأنبياء إلا ليحاربوا نوعا من أنواع التطرف التي اختلفت باختلاف الأقوام، والله لم يرسل الأنبياء فقط ليدعوا الناس إلى توحيده، بل إن حقوق الناس عند الله كان مقدما على حقه أحيانا كثيرة. فإنه لما اشتد البلاء ببني إسرائيل وزادت معاناتهم جراء عبوديتهم لفرعون المتسلط والمتطرف، حيث كان يذبح الأبناء ويستحي النساء، أرسل الله نبيه موسى وهارون لا لقتال فرعون وإنما لدعوته إلى توحيد الله والى تحرير بني إسرائيل، ولما اشتد تسلطه لم يفرضوا عليه الإيمان بل دعوه فقط ليرفع الأغلال عن بني إسرائيل، وهذا لا يخالف “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” ولا يشكل بأي شكل من الأشكال تطرفا، وإنما أرادا الحق في الحرية لبني إسرائيل وأرادا حقهم في اعتقادهم الجديد وفي ممارسة شعائرهم كما يريدون لا غير، بل إنهم فروا من فرعون من أجل هذه الأمور، لكن الكافر واجههم بتطرف لفظي وجه لهم أبشع التهم وعندما لم يكفه هذا أتبعهم هو وجنوده من أجل “التطرف الأعظم” المتعلق بفعل “القتل” و”إباحة الدماء”، ولم يكن عقاب فرعون وجنوده من موسى وإنما من الله الذي أغرقهم وأنجى أهل الإيمان والفكر والحوار، الذين يرفضون التطرف ويعلِّمون خطابا جديدا وهو نفسه خطاب هابيل مع أخيه. (مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ). فعبادة الله لم تكن يوما من الأيام مرادفا للعبودية بل إنها والحرية متلازمان، ولا ينفصلان البتة عن مشكاة العدالة والمساواة والمنطق السليم. وما الكتاب الذي ألقي إلى ملكة سبأ من نبي الله سليمان إلا (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ولم يكن بسم سليمان، وما أرسله الله إليها ليكرهها وأهلها على الدخول في الإسلام، ولكنه كان دعوة إلى تحرير قومها من العبودية، وقد يسأل سائل ما دليلي على أنهم كانوا عبيدا مملوكين ولم يكونوا أحرارا منعمين، فإليكم هذا النظم المعجز من سورة النمل:
(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ) (النمل: 20- 23).
يعلم أهل البلاغة كل العلم أن “المرادفات” في اللغة لا وجود لها بشكل حقيقي يجعلنا نضع مكان الكلمة كلمة أخرى، لأن هذا التغيير الجزئي في المبنى يؤثر لا محالة في المعنى، هذا إن لم يغيره بشكل كلي ويشوه سورته، كما يعلمون أنه لا أفضل من النظم القرآني في اختيار الكلمات الدقيقة المناسبة لكل معنى، وأعود هنا إلى قول الله Uعلى لسان الهدهد الحكيم (وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ) ولم يقل “تحكمهم” أو “تترأسهم” ولو قال هذا لكان الأمر عاديا ولما كان سليمان في حاجة إلى “إرسال كتاب” دعوة لها، لكن الحقيقة أنها “تملكهم” أي أنهم مجرد عبيد مملوكين لا حرية لهم ولا إرادة، وبما أنهم عبيد فهم بالضرورة يعبدون ما يعبد سيدهم، فكان لابد من سليمان لما آتاه الله من فضل ومن قوة أن يتدخل أولا لتحريرهم وحتى يتمكنوا من تقرير أنفسهم بأنفسهم، فلم يكن إلا أن رضوا بهذا الدين الذي رأف بحالهم وعمل على تحريرهم، دين دخلت فيه حتى سيدتهم “بلقيس” بعد أن أشار عليها سادة القوم برأي التطرف بعد استنصاحهم إذ قالوا: (قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ) (النمل: 33) فقدموا البأس والقوة التي تمثل ركيزة العنف والتطرف قبل أي شيء آخر بينما قدم سليمان في كتابه الحوار والسلم قبل أي شيء آخر، كتاب شهدت حتى ملكة سبأ بكرامته (قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (النمل: 29-30).
ولكن عقول الغل والحسد والتطرف قابلت دائما خطاب الحوار والهداية والتسامح بشتى أنواع التطرف اللفظي والمعنوي وبممارسات العنف والقتل والتقتيل، خطاب قطع رأس نبي الله يحيى ونشره بالمنشار، خطاب قرر صلب نبي الله عيسى وظن أنه فعل، ولم يجابه الأنبياء هذا الخطاب إلا بمزيد من الحوار، ولم يسعوا إلى رفع الأغلال عن الناس وإقرار الحق في الحياة ومبادئ الحوار والعدل والمساواة بين الناس، وكلها قيم لا تمثل مجرد حقوق وحريات في دين الإسلام بل هي أكثر من ذلك ضرورات لا تستقيم الحياة بدونها، فلإقرار ضرورة الحياة حرَّم الإسلام قتل النفس، ولا عدل إلا عدل الله فلا أعلم من الله وهو القائل لنبيه داود: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) (ص: 26)، وقال U: (وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ) (النساء: 58)، بل حتى إن هذا الدين المتهم بقتل التعبير وبكونه يكرس “للطاعة العمياء” ولقبول الأشياء دون نقد ودون معارضة هو أول من أقر مفهوم المعارضة وأسس أسسها الصحيحة، ولم يمنع أن تنظم هذه الفئة في إطار مؤسساتي، قال تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران: 104)، فتكلف فئة معينة بهذه المعارضة أمر محمود بل هو واجب، ولكن جوهر المعارضة الإسلامية النبيلة لا يتمثل في الرفض والصراخ لا غير بل في إقرار الخير والدعوة للسلوكيات السليمة التي من شأنها أن تصل بالمجتمع إلى ركب الرقي في مختلف المجالات، وهذا هو الإسلام الحنيف. فأي تطرف وأي إرهاب في دين لم يأمر إلا بالعدل والمساواة بين الناس؟ أم أن التطرف في فئة أخرى تريد أكل أموال الناس بالباطل واتباع الشهوات والسير على خطى إبليس وقوم نوح وفرعون وسائر “المتطرفين”؟
وسيكون من باب التقصير أن أسرد الأمثلة من قصص الأنبياء دون الوقوف عند نبينا محمد r، وهو القائل: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” ولن يكون هذا هينا لمن شهد له الله بالأخلاق (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)، وحتى في هذا السياق كان حق الناس مقدما عن حق الله، علما أن أهل قريش كانوا قوم جاهلية يحكمهم التعصب والقبلية والحروب، يعيشون وفق نظام السادة والعبيد، والمرأة عندهم لم تكن عندهم إلا متاعا شأنها شأن الدابة هذا إن طال عمرها وإنما تدفن حية في التراب، ناهيك عن الغش في الميزان وأكل الربا وشرب الخمر وطقوس المجون التي فاقت طقوس حفلات الديونيزا اليونانية، فبعد أن جمع صلى الله عليه وسلم قومه ليبلغهم رسالة الله، وبعد أن سألهم عن مكانته بينهم وعن حال قوله لهم ولم يعترفوا له إلا بالصدق والأمانة ولم يعرف له كذب قط، سرد عليهم أمر الله ليبدأ التطرف من أقرب الناس إليه، عمه أبو لهب قائلا: “تبا لك ألهذا جمعتنا؟”، فلم يدعهم إلا للحوار، ولم يواجهوه إلا بكل أنواع التطرف من سب وشتم وأذية لأصحابه وقتل للمؤمنين، ولم يسمح لهم بممارسة حقهم في العبادة، فنفوهم إلى شعاب الجبال ومنعوهم القوت وساموهم سوء العذاب، بل حتى قوتلوا وأخرجوا من ديارهم وسلبوا خيراتهم ومتاعهم، ولم يكن خطابهم إلا خطاب دعوة وهداية، خطاب الكلام اللين والحكمة الواضحة التي ما نطق بها مجنونا أو سفيها أو متبعا لهواه (إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) (النجم: 4)، ولم يرغبوا إلا في حقهم في العبادة وممارسة شعائرهم وحقهم في الاعتقاد، وهو الاعتقاد الصحيح المنـزل من فوق سبع سموات. فلم يفكر رسول الله يوما في قتالهم أو إقرار دينه بالسيف لكن بالدعوة والحوار المنقطع النظير، لكنه قوبل دائما من طرف هؤلاء المشركين بخطاب التطرف اللفظي والجسدي، بل حاولوا مرارا وتكرارا إحقاق أسمى أنواع التطرف من خلال قتل سيد المرسلين، وإنه لما اشتد رفضهم لرسالة النبي، لم يلجأ للقتال، بل إلى الهجرة رفقة أصحابه حتى يتسنى لهم عبادة الله بكامل حريتهم في أرض أخرى عاملا بمنطق (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ) (الكهف: 29)، ويقول الله: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) لكنهم رفضوا أن يتمتع محمد وأصحابه بحق العبادة آمنين مطمئنين، فأجمعوا أمرهم أن يضربوا محمدا ضربة رجل واحد يتيه بها دمه بين العرب،(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) (الأنفال:30).
وهكذا قوبل الحوار بالعنف، والليونة بالخشونة وخطاب الإسلام بخطاب التطرف والقتل، فذاق المسلمون منهم شر الوعيد فشردوا الصبيان وهدموا المنازل، وأقسموا أن يقاتلوا محمدا حتى ينالوا منه ومن دينه، فأنجاه الله والمسلمين من كيدهم. والمسلمون يومها لم يتصرفوا أبدا من تلقاء أنفسهم،بل التزموا بتعليمات دينهم صابرين على هذا الظلم وعلى هذا التطرف، ورغم أن الدفاع عن النفس مشروع بعد آذيتهم، إلا أنهم لم يحركوا ساكنا منتظرين أمر الله، ولم يكن الله Uليسمح بالظلم فأنـزل قوله تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (الحج: 39)، ولابد أن نفهم من الآية أنها كانت حالة حرب من جهة واحدة بشهادة الله “يُقاتَلون”، أي أن المشركين كانوا يقاتلونهم دون أن يدافعوا على أنفسهم، وهنا إذْن من الله للمسلمين بالدفاع عن أنفسهم وبمواجهة من قابلهم بالعنف والتطرف ومن حارب حقهم في العبادة والاعتقاد. فانتصر لهم الله، وأحيا بهم الأرض والعباد، وما علينا إلا اتباع سنتهم الطاهرة الصادقة ما حيينا، فو الله إنها عين اليقين وما العيب إلا فينا وفي عقولنا الضيقة وفي قلوبنا المتحجرة بالذنوب والمعاصي، والمتزمتة بتوجيهات من لا علاقة لهم بنا وبأمتنا، وما علينا إلا أن نعض على ديننا وسنة نبينا بالنواجذ فلن نضل بعدها أبدا، ومن يرى عكس ذلك فليقله صراحة بعيدا عن اختبائه وراء حجة العقل، فليس الإسلام ضد العقل كما أسلفنا، ولو أعمل عقله فعلا لرأى عكس ما يقر ولما وجد أي تفاوت أو اختلاف في خلق الله وفي مشيئته.