مقدمة:
تظهر ضرورة النظام العام وأهميته للمجتمعات من خلال دراسة تاريخ المجتمعات عامة ومن خلال النصوص الشرعية التي تنهى عن الفساد وتدعو للإصلاح لقوله تعالى: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ)(1)، وقوله تعالى: (وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُور)(2) وهو غاية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المنوط بالجماعة، أي السلطة، التي تسوس الجماعة والدولة.
ويعتبر النظام العام كالعقد فهو الخيط الناظم لأمور الجماعة والدولة فهو الذي يمكّن الإنسان من القيام بمهمة الخلافة في الأرض.
كثير من الفقهاء المعاصرين يعتبر أن حفظ المقاصد الضرورية الخمسة للشريعة الإسلامية “الدين، النفس، النسل، المال والعقل “هو حفظ النظام العام للأمة فهو روح الشريعة الإسلامية”(3).
ويمكن تعريف النظام العام بأنه مجموعة الأحكام الشرعية الضرورية التي تحول دون اضطراب المجتمع وتؤسس لاستقراره واستقرار الدولة، ولا شك أن حفظ النظام العام بهذا التعريف هو مقصد شرعي بلا خلاف بل هو أصل المقاصد الشرعية وأهمها.
أو هو مجموعة المصالح الأساسية للجماعة والأسس التي يقوم عليها كيان المجتمع سواء كانت هذه المصالح والأسس سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو خلقية والتي يعرّض الإخلال بها كيان المجتمع إلى التصدع والانهيار.
وقد ذكر العلامة الطاهر بن عاشور “أن المقصد العام من التشريع هو حفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه”(4).
وأيده علال الفاسي بقوله: “المقصد العام من التشريع هو عمارة الأرض وحفظ نظام التعايش فيها وصلاحها بصلاح المستخلفين فيها”(5).
وقد ذكر قبلهم إمام الحرمين الجويني: “أنّ الأمن والعافية قاعدتا النعم كلّها وحفظ النظام العام مقدم على المصالح بل هو مقدم على مصلحة الدين عند بعضهم” واستند إلى قول سيدنا هارون لموسى – عليهما السلام- في سورة طه: (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي)(6).
وقال القرضاوي في تفسير الآية: “أي إن خشي أن يؤدّي المنكر إلى منكر أكبر منه يكون السكوت عن المنكر أولى في هذه الحالة”(7).
والنظام العام له جوانب متعددة منها الجانب المالي: فالمال من المقاصد الضرورية الخمسة المتفق عليها في الشريعة الإسلامية وهي مراعاة في كل ملة ولا يستقيم أحوال المجتمع بدونها.
والنشاط الاقتصادي مؤشّر يشير إلى مدى استقرار الأوضاع السياسية والاجتماعية داخل مجتمع ما.
فالاعتداء على النظام النقدي في الدولة كتزييف النقود وتقليدها واحتكار المواد الأساسية والتلاعب بالأسعار من صور الاخلال بالنظام العام الاقتصادي، وكذا تبييض الأموال وتجارة المخدرات والأسلحة الممنوعة والجريمة المنظمة والفساد العام ونهب أموال الدولة، كل ذلك له أثر واضح على النظام العام للدولة واستقرارها.
فالثورات التي قامت في المجتمعات الاسلامية وغيرها مؤخرا كان سببها اضطراب في الاقتصاد والمعيشة ومنها ثورة البوعزيزي في تونس منذ سنتين كان سببها البحث عن لقمة العيش وعن الكرامة الإنسانية.
وشرع الإسلام للحفاظ على المال والنظام العام المالي عقوبات منها حد السرقة وعقوبات تعزيرية تتراوح من عقوبة التوبيخ اللفظي البسيطة إلى التأبيد وهي تتناول كل المخالفات التشريعية الضارة بالنظام العام الاقتصادي.
فالنظام العام الاقتصادي هو مجموعة القواعد والأحكام الواجب اتباعها في مجتمع في المجال الاقتصادي للحفاظ على استقرار المجتمع وأمنه.
وللنظام العام الاقتصادي عند القانونيين وجهان في القوانين الوضعية نظام عام توجيهي ونظام عام حمائي.
ولعله نفس التقسيم القديم عند الشاطبي للحفاظ على الضروريات إذ بقول للحفاظ عليها أي المصالح الضرورية، من جانب الوجود لتثبيتها وتدعيم أركانها، والحفاظ عليها من جانب العدم لدفع ما يخل بها ويهدم اركانها. فكيف يمكن الحفاظ على النظام العام الاقتصادي وتوجيهه وحمايته في ظل الشريعة الإسلامية؟ وهي الاشكالية التي نطرحها في هذا البحث، في دراسة النظام العام الاقتصادي الإسلامي متبعا نفس التقسيم الذي سار عليه القانون الوضعي.
المبحث الأوّل
النظام العام التوجيهي في الشريعة الإسلامية
أي الحفاظ على النظام العام المالي من جانب الوجود ويمكن أن يقسم هذا المبحث إلى مطلبين: الأوّل يتعلق بمفهوم النظام العام التوجيهي في الشريعة الإسلامية والثاني يتعلق بآليات تطبيق هذا المفهوم.
المطلب الأوّل: مفهوم النظام العام التوجيهي
يهدف النظام العام التوجيهي إلى تمكين الدولة من فرض تنظيمها ورقابتها على الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية بما يضمن الأمن والصحة والسكينة العامة في الشريعة الإسلامية فإن المبادئ الاقتصادية والاجتماعية قد أجازت للدولة التدخل في مختلف مجالات الحياة حفاظًا على كيانها ومواردها وأموالها تحقيقًا لمصالح العباد، فتدخلت بنصوص قاطعة لهذا الغرض ولو كان ذلك على حساب حريات الأفراد المالية والاقتصادية متخذة في ذلك على سبيل المثال لا الحصر الأساليب التالية:
الفرع الأوّل: منع تخصيص الأموال ذات الطابع العام
نظرا للأهمية الكبيرة التي تحظي بها هذه الممتلكات وحاجة الناس الشديدة لها، وبالتالي لا يمكن أن يرخص لأي شخص أن يمتلكها ويختص بها، فقد ورد عن أبي هريرة tأنّ الرسول r: قال: ثلاثة لا يمنعن، الماء والكلأ والنار(8) كما ورد عن ابن عباس عن النبي r: المسلمون يشتركون في ثلاثة: الماء والكلأ والنار(9).
فالأموال ذات الطابع العام هي مخصصة لحاجة عموم الناس، لذا لا يجوز المساس بها سواء بالبيع أو أي تصرف يدل على تخصيصها لأي كان على وجه التفرد، فهي ليست محلاً لأي نوع من أنواع التصرفات ولذلك فثمنها حرام وبيعها باطل، لأنّ في ذلك أثر على الملكية العامة ولذلك يعود للدولة -ككيان سياسي واجتماعي واقتصادي- ملكية هذه الأموال(10).
الفرع الثاني: منع المساس بالأموال بطريق غير مشروع
سواء كانت هذه الأموال خاصة أم عامة ويكون ذلك بالتجريم والتحريم لهذه السلوكيات والعقاب عليها، كتحريم السرقة وترتيب جزاء قطع اليد كعقوبة لفاعلها(11)، وتحريم الاحتكار لكل شيء تتطلبه الحاجة الاجتماعية، فأجاز الشارع لولي الأمر إكراه المحتكر على بيع ما عنده خاصة من الطعام الذي يكون الناس بحاجة إليه(12)، فهذا العمل -أي الاحتكار- يعتبر من الإخلال بالنظام العام في المجتمع الإسلامي بحيث يعد هذا الحد مناسبا مع طبيعة التصرف لانّ فيه ضمانة لسيادة النظام والاستقرار والأمن والسكينة في المجتمع.
الفرع الثالث: فرض التسعير الجبري
أجاز الإسلام فرض سياسة التسعير في حدود ومنعها في حالتين، فأجاز الإكراه على البيع بسعر معين يتلاءم والقدرة الشرائية في المجتمع ويحقق التناسب بين العرض والطلب لضمان الاستقرار الاقتصادي. لكنه منع التسعير في الحالة التي يكره فيها صاحب السلعة على سعر لا يتناسب وإجمالي كلفة المنتج أو الخدمة، أو أن يؤثر هذا التسعير في سياسة العرض بما يهدد تجارة التاجر بالإفلاس، فهذا النوع من التسعير يصنف في باب الحرام لأنّه سيرتب المضرة لصاحب المنتج أو الخدمة وقد نهى الشارع عن الضرر مهما كان.
حكم التسعير فى الفقه الإسلامى:
اختلف الفقهاء فى حكم التسعير على مذهبين:
المذهب الأول: أن التسعير حرام
وهو مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية فيما إذا لم يتعد أرباب السلع فى القيمة تعدياً فاحشاً والشافعية فى المجلوب وكذا فى غير المجلوب وفى وقت القحط على الصحيح وهو مذهب الحنابلة، وإن كان بعضهم أطلق الحرمة مطلقاً كابن قدامة وبعضهم فصل فى المسألة كابن تيمية وابن القيم فجعل منه ما هو ظلم ومحرم وما هو عدل وجائز.
وهو رواية عن مالك فيما إذا سعَّر الإمام على الناس سعراً لا يتجاوزونه، وبحرمة التسعير قال ابن عمر وسالم بن عبد الله بن عمر والقاسم بن محمد(13).
المذهب الثانى: أن التسعير جائز، وهذا الجواز ليس على إطلاقه
فعند الحنفية: يجوز التسعير إذا تعدى أرباب السلع عن القيمة تعدياً فاحشاً.
وعند المالكية: التسعير على ضربين فيجوز التسعير إذا انفرد شخص أو جمع قليل من أهل السوق بالحط من سعر السلعة، فعند ذلك يؤمر مَن حط باللحاق بالسعر الذى عليه جمهور الناس أو يقوم من السوق، وهذا هو الضرب الأول عندهم.
والضرب الثانى: وهو أن يحدد لأهل السوق سعر ليبيعوا عليه فلا يتجاوزونه، فهذا أيضاً جائز عند المالكية فى رواية أشهب عن مالك، وإن كان الأفضل عنده تركه.
وعند الشافعية: يجوز التسعير فى غير المجلوب، وفى وقت القحط فى وجه ضعيف عندهم.
وعند الحنابلة: أوجب ابن تيمية وابن القيم، التسعير إذا تضمن العدل بين الناس، مثل إكراههم على مايجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل.
قال ابن القيم: والتسعير هاهنا: إلزام بالعدل الذى ألزمهم الله به.
وممن قال بجواز التسعير من التابعين: سعيد بن المسيب وربيعة بن عبد الرحمن ويحيى بن سعيد الأنصارى(14).
أما التسعير الذي يستهدف تلبية حاجات الناس بالإكراه على بيع ما يجب عليهم فيه المعاوضة بثمن المثل ومنعهم مما يجب عليهم فيها أخذ الزيادة على العوض فهو جائز، وهناك من رأى بوجوبه.
ولذلك فسياسة التسعير في الإسلام هي علاج للاستغلال وتحقق العدل بتحديد ثمن السلعة التي توجد تحت يد التاجر(15) لحاجة الناس إليها.
الفرع الرابع: تحريم كنـز المال
فكنـز المال وعدم إخراج حق الله فيه حرام لقوله تعالى: (الَّذِينَ يَكْنـزونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنـزتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنـزونَ)(16) ينهى الله تعالى عن كنـز الذهب والفضة دون إخراج حق الله فيه بالإنفاق على المساكين والضعفاء في المجتمع.
كما حرم أكل أموال الناس بالباطل فقال سبحانه: (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ)(17) “فالمولى تعالى يبين حرمة المال الذي هو مورد اقتصادي غايته تغطية حاجات الناس الفردية والجماعية واعتبره في مرتبة حرمة النفس لذا أمر بحمايته، وبيّن كيفية اكتسابه بالطرق المشروعة(18)، ونهى عن الأساليب غير المشروعة لاكتسابه كالنصب والاحتيال وخيانة الأمانة والرشوة.
وحرم الله تعالى أيضا الغش بكل أنواعه فعن أبي هريرة tقال: أن الرسول rمرّ على صبرة من الطعام فأدخل يده فيها. فخرجت أصابعه بللا: فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال أصابته السماء يا رسول الله قال عليه الصلاة والسلام: فهلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غشّ فليس مني”(19).
الفرع الخامس: العمل عبادة
عملت الشريعة أيضا في جانب التشجيع على العمل والإنتاج من خلال منح حق الملك لمن أحيا الأرض الميتة، فقد روى سعيد بن زيد عن النبي rأنه قال: “من أحيا أرضا ميتة فهي له”(20). شرع الإسلام إحياء الموات واستصلاح الأراضي وتعميرها ففيه مصلحة الفرد والمجتمع فيستفيد الأفراد من زراعة الأراضي ومن السكن فيها ويزداد الإنتاج الزراعي، ويتغلب المجتمع على بعض مشاكله من ناحية التضخم السكاني ومشكلة الغذاء والأيدي العاملة.
وهناك فرق بين إحياء الموات والإقطاع، فإحياء الموات لا يجوز أبدا التعدي عليه أو أخذها منه، أما الإقطاع فهو أن يقطع الحاكم لبعض الأفراد من الأرض الميتة، وقد أقطع رسول الله لبعض الصحابة وكذا فعل الخلفاء الراشدون، وللسلطان استردادها لمصلحة يراها، ومن شروط إحياء الموات:
1- أن تكون الأرض في بلاد المسلمين.
2- ألا تكون هذه الأرض ملكا لأحد مسلما أو غير مسلم.
3- الا تكون قريبة من العمران.
4- أن يكون الاستصلاح بإذن الحاكم أو نائبه، وهذا رأى الجمهور.
فإن لم يستصلحها ثلاث سنوات انتزعها منه الحاكم.
والنبي rأقطع بلال بن الحارث وادي العقيق بالمدينة المنورة فلما كان زمان عمر بن الخطاب قال لبلال إن رسول الله لم يقطعك لتحجزه عن الناس إنما أقطعك لتعمل فخذ منها ما قدرت على عمارته ورد الباقي. وإحياء الموات تكون بأمور:
1- إذا أحاطه بسور مما جرت العادة به (من أحاط حائطا على أرض فهي له)(21).
2- إذا حفر بئرا فوصل إلى مائها.
3- إذا وصل إلى الأرض الموات ماءا أجراه من عين أو نهر.
ولذلك اهتمت الشريعة بمسألة إصلاح الأرض لحماية الاقتصاد والمال العام بإصدار الاحكام الشرعية اللازمة لذلك وهذا ضمن السياسة الشرعية، فتتدخل الدولة بغية الحفاظ على أمنها وأموالها العامة بما يحقق المصلحة العامة طالما التزمت الجماعة والسلطة الحاكمة بمبدأ المشروعية واستهدفت الاثنين للصالح العام.
وهكذا فكل تصرف ينطوى على مساس بمصلحة الدولة الاقتصادية والاجتماعية المبنية على أساس الشريعة أي المصلحة العامة، يكون باطلا(22) لمخالفته للشريعة والمصلحة المرسلة.
المطلب الثاني: آليات النظام العام التوجيهي
للحفاظ على النظام العام المالي والاقتصادي يتخذ النظام العام التوجيهي -في إطار الشريعة الإسلامية- أسلوبين قويين هما الواجب والحرام، بحيث لا يملك المسلم أمام حكم أي منهما سلطة اتخاذ القرار بل عليه الامتثال فقط، وهذا ما ستبينه الفروع التالية:
الفرع الأوّل: الحرام
هو كل عقد أو اتفاق يكون محله حراما أو هو إتيان سلوك منهي عنه شرعا، أو هو بصيغة أخرى أمر الله على وجه الالتزام عباده بالكف عن فعل أو عدم إتيانه(23)، ففاعله مذموم ومحاسب عليه، كاقتراف الفواحش والسرقة وأكل أموال الناس بالباطل والتدليس والغش الخ.
والحرام نوعان: حرام لذاته، وحرام لغيره.
الفقرة الأوّلى: الحرام لذاته:
وهو ما قضى المولى بتحريمه لما ينطوي عليه من ضرر ذاتي كشرب الخمر وأكل الخنـزير أو لاشتماله على مفسدة كالمساس بالنسل والمال.
ففي الأموال والعقود حرم الله تعالى كل ما يفضي إلى منازعة بين الناس.
فأكل المال بالباطل عن طريق الميسر والقمار والغش والاستغلال والاحتكار والتلاعب بالأسعار يحرّك خصومات ونـزاعات من شأنها تعطيل النشاط التجاري وشل الحركة الاقتصادية وإشاعة الفوضى بالمجتمع، لذلك كانت محرّمة وكان جزاء فعلها عقوبة دنيوية وأخروية(24).
الفقرة الثانية: الحرام لغيره:
وهو ما يكون في أصله مشروعًا لكن شابه عارض فحرم من أجل العارض، كالبيع المنطوي على غش أو تدليس أو إكراه، فالبيع في الاصل مشروع ولكن خالطه سلوك غير مشروع مما يدل أنّ صفقة البيع باطلة ومخلّة بالنظام العام في الشريعة الإسلامية.
وهذا السلوك المخل ينسف السلوك المشروع ويعدمه، لأنّ السلوك المخل كان السبب لوجود السلوك المشروع، وهو معنى قولهم:ما بني على باطل فهو باطل أو قول الفقهاء ما أدى إلى الحرام فهو حرام، وهنا حرمت الوسيلة وجعل حكمها حكم المقصد لشدة ضررها.
الفرع الثاني الواجب:
وهو ما أمر الله عباده بفعله ويتعيّن القيام به وعدم تركه و يعتبر عنصرا بل أداة لتثبيت النظام العام(25)، لأنّ فيه التزام بالقيام بعمل، وتركه يرتب المسؤولية الشرعية، ويقع باطلا كل اتفاق أو رغبة منفردة بتركه.
ومن أمثلته في إطار النظام العام التوجيهي وجوب الزكاة التي هي حكم شرعي وقاعدة نظام عام آمرة يترتب على الأخذ بها تحقيق المنفعة العامة قال تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(26) ولذلك أوجبها الإسلام.
فللنظام العام في الشريعة الإسلامية قاعدتان هما الحرام والواجب، أمران لامناص للفرد والدولة من إتباع أحكامها لضمان استقرار المجتمع وإشاعة الأمن والسكينة العامة وتحقيق ولو نسبيا بعض من العدالة الاجتماعية.
المبحث الثاني
النظام العام الحمائي في الإسلام
تعني الحمائية رعاية فئات اجتماعية معينة، وهذا يستدعي تحديد مهام النظام العام الحمائي وهو المطلب الأوّل، ثمّ تطبيقاته في المطلب الثاني.
المطلب الأوّل: النظام العام الحمائي
كمفهوم عُرِف النظام العام الحمائي مؤخرا في نهاية القرن العشرين إلى جانب النظام العام التوجيهي تحت تأثير ظهور المبادئ الاشتراكية التي عملت على مهاجمة النظام الليبرالي المتحرر. ورغم أن الطابع الحمائي موجود في الشريعة الإسلامية منذ فجر الإسلام -فالشريعة تنهى عن الضرر في كل الأحوال قال النبي r: “لا ضرر ولا ضرار”(27) وهي قاعدة قطعية تنهى عن كل ضرر على أي فئة كانت- إلا أنّ الدراسات في المجال الفقهي الشرعي تجمدت بسبب غلق باب الاجتهاد وظهر الفقه القانوني كأنه الرائد في هذا الباب رغم سبق الاسلام له.
حماية الطرف الضعيف في العقد:
ويعرف النظام العام الحمائي بأنه مجموعة المبادئ السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تتوخى توفير الرعاية والحماية لفئات اجتماعية هي في حالة ضعف.
رغم أن الشريعة الإسلامية بلغت شأنا عظيما في حماية الطرف الضعيف في شتى صنوف الحياة فأولت الطرف الضعيف الأهمية القصوى في العملية التعاقدية، والدليل على ذلك قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً)(28).
فهي تتحدث عن المدين حين يستدين، فيجب عليه توثيق الدين بإملائه؛ لئلا يضيع حق الدائن.
والمدين هنا هو الجانب الأضعف في المعادلة أمام الدائن القوي الذي يملك في رقبة مدينه حقاً نقدياً أو عينياً، وإذا كان الطرف الأضعف هو من يسجل الدين الذي للدائن في ذمته، ولا يسجله الدائن، ألا يملك هذا الطرف الضعيف أن يشارك الطرف القوي في صياغة العقد الذي بينهما، ومن أهمها عقود الإذعان؛ لئلا يتمادى القوى فيجحف بحق الضعيف…؟
هي نفس النظرية السائدة اليوم في القوانين الوضعية الحديثة، وأنها تعتبر أحدث ما وصل إليه القانون الوضعي في عصرنا الحاضر.
وتسمى بنظرية حق الملتزم في إملاء العقد: فجاءت الشريعة الإسلامية بمبدأ عام أوجبته في كتابة العقود هو أن يملي العقد الشخص الذي عليه الحق أو بمعنى آخر أضعف الطرفين.
وقد التمس الفقيه القاضي عبد القادر عودة – رحمه الله – فوائد هامة من آية الدين، من أبرزها أنها وضعت اليد على الجرح في المشكلة الكبرى لعقود الإذعان، وهي مشكلة فرض الشروط المجحفة على الطرف الثاني في العقد، بصياغة شروط تحقق مصلحة الطرف الأقوى على حساب الطرف الأضعف…!
وفي تسليط الضوء على هذه الفكرة يقول الفقيه القاضي: (جاءت الشريعة الإسلامية بمبدأ عام أوجبته في كتابة العقود، وهو أن يملي العقد الشخص الذي عليه الحق، أو بمعنى آخر أضعف الطرفين والمقصود من هذا المبدأ العام هو حماية الضعيف من القوي؛ فكثيراً ما يستغل القوي مركزه، فيشترط على الضعيف شروطاً قاسية، فإن كان دائناً مثلاً قسيا على المدين، وإن كان صاحب عمل سلب العامل كل حق واحتفظ لنفسه بكل حق، ولا يستطيع المدين أو العامل أن يشترطا لنفسيهما أو يحتفظا بحقوقهما لضعفهما، فجاءت الشريعة، وجعلت إملاء العقد للطرف الضعيف لتحفظ به حقوقه، وتحميه من التورّط، ولتكون شروط العقد معلومة له حق العلم، وليقدر ما التزم به حق قدره.
وهذه الحالة التي عالجتها الشريعة من يوم نـزولها هي من أهم المشاكل القانونية في عصرنا الحاضر، وقد برزت في أوروبا في القرون الماضية على أثر نمو النهضة الصناعية وتعدد الشركات وكثرة العمال وأرباب الأعمال، وكان أظهر صور لهذه المشكلة أن يستغل رب العمل حاجة العامل إلى العمل، أو حاجة الجمهور إلى منتجاته؛ فيفرض على العامل أو على المستهلك شروطاً قاسية، يتقبلها العامل أو المستهلك وهو صاغر؛ إذ يقدم عقد العمل أو عقد الاستهلاك مكتوباً مطبوعاً، فيوقعه تحت تأثير حاجته للعمل أو حاجته للسلعة، بينما العقد يعطي لصاحب العمل كل الحقوق، ويرتب على العامل أو المستهلك كل التبعات.
ذلك العقد الذي نسميه اليوم في اصطلاحنا القانوني (عقد الإذعان)، وقد حاولت القوانين الوضعية أن تحل هذه المشكلة، فاستطاعت أن تحله بين المنتج والمستهلك بفرض شروط تحمي المستهلك من المنتِج، وبتعيين سعر السلعة، ولكنها لم تستطع أن تحلّ إلاّ بعض نواحي المشكلة بين أصحاب العمل والعمال، مثل إصابات العمال، والتعويضات التي يستحقها العامل إذا أُصيب أو طُرد من عمله؛ لأن التدخل بين صاحب العمل والعامل في كل شروط العمل يضرّ بسير العمل والإنتاج، فبقيت من المشكلة نواحٍ هامة كأجر العامل، وساعات العمل، ومدة الإجازات، وغيرها، يحاول العمال من ناحيتهم حلها، بتأليف النقابات والاتحادات وتنظيم الإضرابات، ويرى العمال من ناحيتهم أن حل مشاكلهم لن يتأتى إلاّ إذا كان لهم حق إملاء شروط عقد العمل، ويظاهرهم على ذلك بعض المفكرين والكتّاب.
فهذا الحق الذي يطالب به العمّال في كل أنحاء العالم، والذي أضرب العمال من أجله، وهدّدوا السلم والنظام في دول كثيرة في سبيل تحقيقه، هذا الحق الذي حقق القانون الوضعي بعضه، ولم يحقق بعضه الآخر، والذي يأمل العمال أن يتحقق كله إن قريباً أو بعيداً، هذا الحق قررته الشريعة الإسلامية كاملاً للضعفاء على الأقوياء، وللملتزمين على الملتزَم لهم، وجاء به القرآن الكريم في آية الدين: (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ…)، وظاهر أن صيغة النص بلغت من العموم والمرونة كل مبلغ، وهذا هو الذي جعل الشريعة تمتاز بأنها لا تقبل التغيير والتبديل. ووجود هذا النص في الشريعة دليل بذاته على سموِّها وكمالها ورقيّها وعدالتها، فقد جاءت به منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً، بينما القوانين الوضعية لم تصل إلى تقرير مثله حتى الآن، مع ما يُدّعى لها من الرقي والسموّ)(29).
ومن أمثلة حماية الطرف الضعيف في الإسلام في مجالات أخرى نضرب الأمثلة التالية:
الفرع الأوّل: المجال الاقتصادي والاجتماعي
عملت الشريعة الإسلامية على حماية الطرف الضعيف في مختلف شؤون الحياة بفرض حق معلوم على أموال الأغنياء و جعله حقا مفروضا للفقراء، وليس للأغنياء حق الخيار في أدائه أو تركه، فهم مجبرون على أدائه لقوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ)(30).
ففرض الزكاة من متعلقات النظام العام لا يجوز مخالفته: فعن ابن عباس tقال: “حدثنا أبو سفيان tعن النبي rأنه كان يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفة”(31).
فبتطبيق الزكاة تتدخل الدولة في الشأن الاقتصادي والاجتماعي بغرض حمائي، وتدخلها في توزيع الأموال لصالح الطرف الضعيف كما يظهر هنا هو تدخل في إطار علاقات العمل، فعن أبي هريرة tأنّ الرسول rقال: “للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق”(32)، وعن ابن عمر tأنّ الرسول rقال: “أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه”(33)، فالحديثان يحددان أن الأجر الأدنى بما لا يقل عن كفاية العامل فمدة العمل وحجمه فلا يكون مرهقا في مدته ولا في طبيعته، ثم لا بد من الأجر أن يكون في حياته وقبل أن يجف عرقه.
وحرم أيضا سبحانه وتعالى استغلال القوي اقتصاديا حاجة الضعيف من خلال تحريم الربا بكل أنواعه فقال: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ)(34)، فالإسلام وضع قاعدة جليلة تتعلق بحماية الطرف الضعيف من خلال تحريم الربا وهي قاعدة نظام عام اقتصادي لا ينبغي مخالفتها.
الفرع الثاني: المجال الحمائي الخاص
يوفر التشريع الإسلامي للطرف الضعيف بصفة خاصة حماية في مسألة الميراث لقوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا)(35).
فالنص أمر قاطع يبين فيه المولى آلية وقواعد التوارث بتحديد نصيب كل وارث بصفة إلزامية تتعلق بالنظام العام فلا يجوز مخالفتها.
ويرى القرطبي إن التوارث أو قواعد الميراث هي ركن من أركان الدين(36)، وهي قواعد آمرة تتعلق بالنظام العام في طابعه الحمائي، كما أن قاعدة تحريم الربا أيضا تتضمن معنى الحماية في المجال الحمائي الخاص رغم تكريسها في المجال الاقتصادي والاجتماعي. وذلك لانّ المرابي يستغل حاجة المقترض ويزيد عليها دون اكتراث لحالة عوزه.
لذلك كان تحريم الربا مترتبًا عن نتائجه الخاصة والعامة المؤثرة بالمجتمع والاقتصاد وذلك حتى تكون الزيادة في رأس المال والأرباح زيادة حقيقية لصورته تجد انعكاساتها رخاء ورفاهية المجتمع واستقراره الاقتصادي وازدهار المعاملات.
فالإسلام لم يغفل عن أي حالة خاصة تفترض ضعفا بل عالج كل ذلك، فما تعلق بالجانب المالي ذا الصلة المباشرة باستقرار الدولة كعلاقات العمل وأحكام حماية المستهلك والأنشطة الاقتصادية المقننة، والمنافسة المشروعة وتنظيم العلاقات المدنية والتجارية، وتحديد هوامش الربح من خلال قواعد قانونية ذات ثبات مطلق لا يتغير بل يتكيف مع مقتضيات العصر على اعتبار الإسلام صالح لكل زمان ومكان، فكل جديد له صلة بالشريعة الإسلامية فرضا أو منعا خاصة ما تعلق بالنظام العام في شقه الحمائي.
المطلب الثاني: آليات النظام العام الحمائي
لا تختلف آليات النظام العام الحمائي عن آليات النظام العام التوجيهي، فالحرام والواجب يعتبران أهم وسيلتين تتخذان لتطبيق قواعد النظام العام في عمومه كما رأينا.
من المعروف عن الشريعة الإسلامية أن النصوص الشرعية فيها لم تعالج المسائل التفصيلية للأحكام الشرعية العملية باستثناء الأمور التي تتصف بالثبات والدوام كبعض قضايا الأسرة وأحكام الحدود.
لذلك وبغية رفع الضرر عن أحد المتعاقدين الناشئ من تغير ظروف تنفيذ العقد بحيث أصبحت تختلف عن ظروف تكوينه، فقد وجد علماء الشريعة وفقهاء الإسلام في كل من كتاب الله تعالى وأحاديث النبي rالأوامر والنصوص التي ينشدون منها طريقاً للحكم أو يلتمسون قاعدة شرعية.
ولذلك فقد جعل الفقهاء بعض القيود على مبدأ العقد شريعة المتعاقدين مسترشدين ومستندين بما أقره الشرع الإسلامي في القرآن الكريم والسنة النبوية بضرورة المساواة بين المتعاقدين في الحقوق والالتزامات ورفع الضرر ومنه نظرية الظروف الطارئة.
فقد جاء في القرآن الكريم: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ)(37)، و(يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشكُرون)(38)، وجاء في سورة الحج: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)(39), ومعنى هذه الآيات الكريمة أن الله سبحانه وتعالى لا يرضى لعباده الضيق والإرهاق والضرر كما جاء في الأحاديث الشريفة: “لا ضرر ولا ضرار”(40)، و”إن بعت من أخيك ثمراً فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً بمَ تأخذ مال أخيك بغير حق”(41).
ولما كان الثابت في مصادر التشريع الإسلامي كافة الإجماع على إزالة الضرر ورفع الضيق والحرج عن المتعاقد, وحيث أن الظروف الطارئة قد تؤدي إلى إرهاق المدين, فقد وجدت نظرية الظروف الطارئة تطبيقات لها في الفقه الإسلامي كحلول عملية لمسائل مختلفة وإن سميت بأسماء متنوعة كالفسخ والإعذار أو وضع الجوائح في بيع الثمار أو تعديل العقد في حالة تقلب قيمة النقود.
وإن هذه التطبيقات بحثت في أبواب مختلفة من أبواب الفقه بحثاً دقيقاً استند فيه الفقهاء المسلمون إلى تطبيق مبادئ العدالة بأسمى معانيها مسترشدين بما أقره الشرع الإسلامي من المساواة بين العاقدين في الحقوق والالتزامات طوال مدة العقد وما أمر به الشرع من إزالة الضرر عن المدين إذا ما عجز عن المضي في موجب العقد بسبب الحادث الطارئ الذي لم يتوقعه عند إبرامه.
وقد استنبط الفقهاء المسلمون ضمن سعيهم هذا العديد من القواعد الفقهية وعملوا على تطبيقها لمعالجة الظروف الطارئة والأضرار الناجمة عنها ومن الأمثلة على هذه القواعد نذكر ما يلي:
1. الضرورات تبيح المحظورات.
وتتمثل الضرورة في إزالة الضرر عن المدين وأباحت هذه الضرورة المحظور الذي هو عدم تنفيذ الالتزام بسبب الظرف الطارئ.
2. درء المفاسد أولى من جلب المنافع.
وتتمثل هذه القاعدة في دفع المفسدة عند تعارضها مع منفعة، فإذا تعارضت منفعة دائن في إلزام المدين بتنفيذ التزامه مع مفسدة الضرر الذي يصيب المدين إذا نفذ التزامه مع حدوث الظرف الطارئ وجب دفع المفسدة وبالتالي دفع الضرر الناشئ عنها بالفسخ للغدر في عقد الإيجار مثلاً أو بالحط من الثمن بقدر التلف الذي سببته الجائحة في بيع الثمار.
3. الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف.
وبمقتضى هذه القاعدة يختار أهون الضررين.
ويلاحظ أن الفقه الإسلامي لم يضع نظرية عامة للظروف الطارئة، ذلك أن الفقه الإسلامي لم يكن معنياً بصياغة النظريات بقدر ما كان يتلمس الحلول العلمية والعملية لكل ما كان يطرح على بساط الوقائع من مسائل وذلك كان منهجهم في العمل.
ولهذا السبب عالج الفقه الإسلامي نظرية الظروف الطارئة من خلال مسائلها المختلفة والجزئيات المتفرعة عنها ووضع الحلول العملية المناسبة لها ولكل حالة منها على وجه التحديد. وبعبارة أخرى يمكن القول أن الفقه الإسلامي قد سلك الأسلوب الموضوعي في المعالجة للمسائل الناجمة عن الظروف الطارئة لكل مسألة مستلهماً مقتضيات العدالة ومبادئ الأخلاق، ولذلك كان طابع الرفق بالناس هو الغالب، عند تنفيذ العقود.
غير أن ما يتعلق بالنظام العام الحمائي وكونه مقصورا على الفرد المتضرر، فإن الجزاء لا يتم تطبيقه من السلطة الحاكمة إلا عندما يحتج هذا المتضرر من سلوك الذي أضر به من الغير.
فعلاقة الأطراف المشمولين بالنظام العام الحمائي محل اعتبار، ففي الميراث الورثة على علاقة قرابة بينهم مهما اختلفت درجتها، وإضرار أحدهم بالآخر لن يكون معاقبا عليه بالبطلان والإلغاء إلا إذا احتج الطرف المفترض أن حقه انتقض، أي أنه دون حد نصابه الشرعي في الميراث.
وكذلك في علاقات العمل فالعامل إذا ما تعرض لتعسف من رب العمل، فلن يحظى بالحماية المقررة بموجب النظام العام الحمائي إلاّ إذا احتج على ذلك.
الخاتمة:
قدمت الشريعة الإسلامية من خلال نصوصها أفضل وأرقى القواعد المنظمة للنظام العام سواء في المجال الأسري أو الاقتصادي أو الإداري أو في إطار الحكم أو في المجال الجنائي أو في المجال الدولي دون إغفال لأي جزئية في أي مجال.
فإن الواقع الذي يعكس تطبيق قواعد النظام العام هي في أغلبها استنساخ لما ورد في الشريعة كتحريم الرق والقتل، وحماية الأسرة وتوجيه الاقتصاد وإرساء قواعد دولة والدعوة إلى السلام والتعايش وحقوق الإنسان. لكنها نتاج التطور الفكر الغربي وصراعه مع مختلف الأزمات التي عرفتها منطقته فكرس تلك المفاهيم بقواعد قانونية، وبذل جهده في تطبيقها وفي نشرها بما يحقق مصالح أممه ليقف المسلمون رغم ما يكتسبونه من منظومة شرعية تشريعية عاجزين عن استخلاص هذه المفاهيم كما في النظام العام التوجيهي والحمائي ليكون السبق في التنظير للغرب، رغم أن المفاهيم مستقرة في منظومتنا التشريعية منذ أربعة عشر قرنا، لكن التذبذب في تطبيقها أفرز اختلالا اجتماعيا وتبعية اقتصادية لأنّ النظام العام مقيد مكرس على الوجه القاعدي والمفاهيمي لكنه لا يعرف الجدية والإخلاص في تطبيقه. وهذا ما يدعو إلى تعميق الدراسات الشرعية الحديثة بمنظور الموضوعية يعكس فيه الدارس مبدأ الإسلام صالح لكل مكان وزمان لتستوحي القواعد المنظمة للسلوك البشري دون انتظار من الآخر لفهم الحياة والظروف واستخراج ما يلائمها من قواعد.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
* * *
الهوامش
(1) سورة البقرة من الآية 251.
(2) سورة الحج الآيتين40 و 41.
(3) زكي الدين شعبان أصول الفقه الإسلامي ص 250 مبادئ نظام الحكم في الإسلام ص394 المشروعية الإسلامية العليا ص38.
(4) مقاصد الشريعة للطاهر بن عاشور ص 08
(5) علال الفاسي مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها ص41.
(6) سورة طه الآية 94.
(7) عن كتاب “الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم” للشيخ القرضاوي. انظر موقع القرضاوي على الشبكة العنكبوتية في مقال لماذا الحرص على الوحدة.
(8) الحديث رواه ابن ماجة، الجزء الثاني، دار الفكر، بيروت، ص92.
(9) رواه أحمد وأبو داود الشوكاني محمد بن علي نيل الأوطار الجزء الرابع مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة 1250هـ، ص 305.
(10) سيد طه محمد إبراهيم: مشروعية محل التزام بين الشريعة والقانون، دار النهضة العربية القاهرة. 1997م. ص 339.
André homont: la prorition pour cause
utilité public. librairies techniques paris 1975. p49 d
(11) الآية الكريمة.
(12) ابن تيمية: الحسبة في الإسلام ص25.
(13) انظر بدائع الصنائع: للكاسانى ج 5 ص 193، تبيين الحقائق للزيلعى ج 6 ص 549، حاشية ابن عابدين ج 5 ص 352.
المهذب: للشيرازى ج 1 ص 386، أسنى المطالب بشرح روض الطالب أبو زكريا الأنصارى ج 2 ص 38. لابن قدامة ج 6 ص 311، منتهى الاردات للبهوتى ج 2 ص 159، المنتقى: للباجى ج 5 ص 18، التاج والإكليل ج 6 ص 254. الطرق الحكمية لابن القيم ص 244 و 257.
(14) مجمع الأنهر: داماد أفندى ج 2 ص 594، حاشية ابن عابدين ج 5 ص 352، تبيين الحقائق للزيلعى ج 6 ص 28 والمنتقى: للباجى ج 5 ص 17 و18والمهذب: للشيرازى ج 6 ص 28، أسنى المطالب لزكريا الأنصارى ج 2 ص 38. المغنى: لابن قدامة ج 6 ص 311، منتهى الارادت للبهوتى ج 2 ص 159. الطرق الحكمية: لابن القيم ص 245.
(15) ابن تيمية. المرجع السابق ص25.
(16) سورة التوبة الآية 34و35.
(17) سورة البقرة الآية 188.
(18) انظر: تفسير القران العظيم لابن كثير الجزء الأول دار الكتاب العلمتة. بيروت، لبنان، 1992، ص457 وعبد الرحمن محمد حسن مشروعية المحل في التشريعات العربية. دار النهضة ضيعة 1997 ص109، ينهى الله المؤمنين أن أكل المال بالباطل وسورة ذلك هي المكاسب المحصلة بطرق غير مشروعة كالربا والقمار. والرهان وما كان على شاكلتها في ذلك.
(19) أخرجه مسلم رقم (102) في الإيمان: باب قول النبي r: (من غشنا فليس منا)، وأبو داود رقم (3452) في البيوع: باب النهي عن الغش، والترمذي رقم (1315) في البيوع: باب ما جاء في كراهية الغش في البيوع، وابن ماجه رقم (2224) في التجارات: باب النهي عن الغش، وأحمد 2/242.
(20) رواه أبو يوسف في كتاب الخراج مرفوعا رقم 79 وهو في سنن الدارمي 2609. وانظر أيضا طه محمد إبراهيم سيد أحمد مشروعية محل التزام بين الشريعة والقانون دار النهضة العربية 1998، الطبعة الأولى ص314.
(21) رواه أحمد وأبو داود.
(22) يوسف القرضاوي شريعة الإسلام. المكتب الإسلامي ص 35.
(23) وهبة الزحيلي. الوسيط في إلى أصول الفقه الإسلامي، صيغ أولى صيغة سنة 1997، صفحة 76.
(24) أبو هاجر محمد السيد زغلول، موسوعة أطراف الحديث الشريف المجلد الأول دار الكتب العالمية، بيروت 1996، ص11.
(25) في الدول الحالية، وفي الأنظمة القانوني الوضعية فيم إقرار ما عرف بالضريبة لتشمل العفارات والأموال، والأرباح بنسب معينة و هي سنوية و تصب حساب خزينة الدولة. والتي تنفقها في صيغ عدة كالمشاريع الاستثمارية لصالح فئات اجتماعية معينة. العين الاجتماعية لفئات بحاجة لها و غيرها.
(26) سورة التوبة الآية 103.
(27) حديث حسن رواه عن أبي سعيد الخدري رواه ابن ماجة والدارقطني وغيرهما، ورواه مالك في الموطأ مرسلا: عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي r، فأسقط أبا سعيد، وله طرق يقوي بعضها بعضا.
(28) سورة البقرة الآية 186.
(29) عبد القادر عودة التشريع الجنائي الإسلامي ص 58.
(30) انظر سورة البقرة الآية 43 وانظر في نفس الموضوع: الأسيوطي ثروة أنس: الإسلام والملكية، دا الكتاب والتوزيع والإعلان والمطابع. طبعة 1982. الطبعة الثانية ص112.
(31) انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري. الجزء الثالث ص264.
(32) الصنعاني: مرجع سابق ص42.
(33) سورة البقرة الآيتان 277 – 278 وفي هذين الآيتين يقول سيد قطب: ولم يبلغ من نقد وضع أمر أراد الإسلام إبطاله من أمور الجاهلية ما بلغ من نقيض الربا ولا بلغ في التهديد في اللقط والمعنى ما بلغ التهديد في أمر الربا، في هذه الآيات وفي غيرها مواضيع أخرى ولله الحكمة البالغة فلقد كان الربا في الجاهلية مفاسد وشرور ولكن الجوانب الشائعة القبيحة من وجهه الكالح ما كانت كلها بادية في مجتمع الجاهلية كما لدت اليو وتكشفت في عالما الحاضر… “سيد قطب: في ظلال القرآن. دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان. الجزء الأول 1971، ص466.
(34) سورة البقرة الآيتين 278 و279.
(35) سورة النساء: الآية 11.
(36) القرطبي: أبو عبد الله محمد بن احمد الأنصاري: طبعة الجامع لاحكام القرآن الجزء الرابع، دار الكتب العالمية، بيروت لبنان: 1993، ص167.
(37) سورة البقرة الآية 286.
(38) سورة البقرة 185.
(39) سورة الحج الآية 78.
(40) سبق تخريحه ص 8 عن مالك والدارقطني عن أبي سعيد الخدري.
(41) انظره في: صحيح مسلم باب وضع الجوائح رقم 1564 ورقم 2913.