توطئة:
معلومٌ مشتهرٌ التهابُ الأوضاع الطائفية الجاهلية في أرجاء كثير من أنحاء وطن العروبة ودار الإسلام، وسريانُ داء وعدوى التكفير والتبديع والتفسيق في كثيرٍ من الأرجاء، خاصةً منها ما يشهد اقتتالاً وحرباً بين الأحشاء الداخلية لأمة المسلمين، وتحديداً تحت يافطات “السنة” و”الشيعة”، في باكستان وسوريا ولبنان (.. إلخ).
ومِن أجل تَلَبد الأجواء الدينية بين هذين المذكورَيْن بسُحُب التكفير والتبديع والتفسيق، وتسمم الكثير من مياهها وآبارها بهم، جاء هذا البحث المُرَكَّز.
1- المقدمة الاولى:
الإسلامُ: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت(2).
والإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخِر(3).
والإحسان: أن تعبد الله (والعبادة معنى واسع شامل يتضمن حركة الإنسان في الحياة) كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك(4).
ثم “يتفاضل” المسلمون بعد ذلك في “درجة” و”مستوى” و”عمق” الإسلام والإيمان والإحسان؛ إخلاصاً وتقوى وعملاً صالحاً.
فهذا الإسلامُ والإيمان والإحسان، بهذا المفهوم، هو ما كان عليه المسلمون في صدر الإسلام على عهد الرسول الأعظم r، فقد دخل المسلمون في دين الله أفواجاً، لم يُطلَب منهم – ليكونوا مسلمين حقاً وصدقاً- أكثر من هذا(5).
إنها الحنيفية السمحة السهلة، بلا آصار ولا أغلال ولا ألغاز ولا أحجيات ولا طلاسم ولا عُقَد.
فاحذر، يا مَن أنعم الله عليكَ بالعقل، وأمرك بتقواه، وأعلمكَ بمراقبته إياك، أن تَرِدَ حمأة التكفير إلا ببيان مِن الله وبرهان أوضح من الشمس في رابعة النهار، بيانٍ وبرهانٍ ينقُضُ بلا لبسٍ ولا احتمالٍ هذا الإسلامَ والإيمانَ والإحسانَ، فإن الأصلَ في المسلم بقاءُ إسلامه حتى يتحقق زواله عنه بمقتضى دليل الوحي الصحيح الصريح لا غير؛ لأن مَن ثبت دخوله في الإسلام بيقين، لا يزول عنه إلا بيقين مثلِهِ؛ مُساوٍ له في القوة ومضادٍّ له في الاتجاه، وإلا فإنَّ الخطأ في ترك ألف كافر منتسبين خطأ إلى الإسلام: أَهْوَن مِن الخطأ في إخراج مسلمٍ واحدٍ مِن دائرة الانتساب إليه؛ إذ حالُ الأولِ – ظاهرياً- هو بقاؤه متصلاً بالهُدى والنور الذي دخل فيه، وحالُ الآخِرِ – ظاهرياً- هو قَطعُ صلته بهذا الهُدَى والنور الذي دخل فيه. ولا شكَّ أنَّ الحال الأولَى أهون مِن الثانية.
إذاً، إذا صَدَر قولٌ مِن قائل يحتمل الكفرَ مِن مائة وَجهٍ، ويحتمل الإيمان مِن وَجه واحدٍ، حُمل على الإيمان، ولا يجوز حَملُهُ على الكُفر.
2- المقدمة الثانية:
تدبر قولَ الحقِّ سبحانه: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) [النساء 115]،
(إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى… اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) [محمد 25، 28]،
(فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ) [البقرة 89]،
(وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء 15]،
(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ(6)، يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) [آل عمران 70- 71]،
(وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ) [التوبة 115]،
و(وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً)(7) [النمل 14]،
(وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الْكَافِرُونَ) [العنكبوت 47]،
(وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) [لقمان 32]،
(فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ… وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) [فصلت 14، 15]،
(وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ… فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ) [الأحقاف 21، 26]،
(إنَّ الله حَرَّمهما على الكافرين: الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً، وغَرَّتهم الحياة الدنيا؛ فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَـذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ)(8) [الأعراف 50- 51]،
(كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) [غافر 63]:
فبه يتضح أنَّ الكفرَ شرعاً إنما يكونُ بتكذيبِ الرسولِ فيما أَخبَرَ به، أي الامتناعِ عن مُتابَعَته مع العلم بصدقه، فمناطُ الكفرِ هو جَحدُ الحقِّ بعدَ معرفته.
ومِن ثم، فإنَّ الكافر حقاً هو: كلُّ مَن عرف الحق، وتأكد لديه أنه هو الحق، ولكنه غَطَّاه (أيْ كَفَرَ به)؛ بالانصراف عنه وعدم الالتفات إليه (أي بالإعراض)، أو بالتكذيب، أو بالاستهزاء والتحقير، أو بالاستكبار، أو بالكُره(9)، أو بغير ذلك مِن أوجُهِ وصنوف الجَحْد.
وبتعبير آخَر، الكافر هو: جاحدُ الحقِّ بعد معرفته إياه؛ إذ الكفرُ: جَحْدُ الحق بعد معرفته(10).
وبعبارة ابن تيمية: “الكفرُ متعلقٌ بالرسالة؛ فتكذيبُ الرسولِ كفرٌ، وبُغضه وسَبُّه وعداوتُه مع العلم بصدقه في الباطنِ كُفرٌ(11).. الكفر يكون بتكذيب الرسول فيما أخبر به، أو الامتناع عن متابعته بعد العلم بصدقه .. فلا إيمان مع تكذيب الرسول ومعاداته، ولا كُفر مع تصديقه وطاعته(12) .. الكفرُ تارةً يكون بالنظر إلى عدم تصديق الرسول والإيمان به، وتارةً بالنظر إلى عدم الإيمان بما أخبر به)(13).
وبعبارة محمد عبده: (مَن أنكر شيئاً، وهو يعلم أنَّ النبي rحَدَّث به، أو قَرره، فقد طعن في صدق الرسالة وكَذَّبَ بها)(14).
وهذا أيضاً صريحُ اللغة؛ إذ الكفرُ لغةً: تغطيةُ ما هو بارزٌ وظاهرٌ ومعلومٌ؛ فكُلُّ مَن غَطَّى شيئاً ظاهراً وبارزاً ومعلوماً عنده فقد كَفَرَه(15).
وفوق هذا، تدبر قوله تعالى: (وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النحل 106]:
إذ لابد مِن شرح الصدرِ بالكفر، وطمأنينة القلب به، وسكون النفس إليه، فـ:
– لا اعتبارَ بما يقع من طوارق عقائد الشرك، لا سيما مع الجهل بمخالفتها لطريقة الإسلام.
– ولا اعتبارَ بصدور فِعلٍ كفري لم يُرِد به فاعله الخروجَ عن الإسلام إلى ملة الكفر.
– ولا اعتبارَ برأي يراه ولا بلفظ يلفظ به المسلمُ يدل على الكفر ولا يَعتقدُ معناه.
– واعلم أنَّ التعمدَ – ويُجَسِّده في الآية انشراحُ الصدر بالكفر- هو شرطُ الوعيد والمؤاخَذّة والذم .. فيجب أن يكون المرءُ عالِماً بأنَّ المخالَفَة التي ارتكبها توجِبُ أن يكون كافراً (بَلْهَ فاسقاً أو عاصياً) .. تدبر مع آية النحل هذه قولَ الله سبحانه: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) [الأحزاب 5]، (وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران 135]، (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ) [النساء 93]، (وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً...) [المائدة 95].
وبهذا ولهذا نُقَرِّرُ مطمئنين أنه: لا يُكَفَّرُ مسلمٌ بقولٍ أو فعلٍ أو اعتقادٍ كُفريٍّ إلا بعد أن تقومَ عليه الحُجَّةُ، وتزولَ عنه الشبهةُ (أي إلا بعد أن تتوافر شروط التكفير وتنتفي موانعه)؛ فقد يكون القولُ كفراً لا شكَّ فيه، ولكنَّ قائلَه ليس بكافر، بل ولا عاصٍ؛ فالتكفير يختلف بحسب اختلاف حال الشخص(16).
3- المقدمة الثالثة:
نحن لا نكفر مَن خالَفَنا، وإن كان ذلك المخالِفُ يُكَفرنا؛ لأنَّ الكفرَ حُكمٌ شرعي؛ فليس للإنسان أن يعاقِبَ بمِثله، فمَن كذب عليكَ وزنى بأهلك: ليس لك أن تكذبَ عليه وتزني بأهله؛ لأنَّ الكذبَ والزنا حرامٌ لِحَقِّ الله تعالى، وكذلك التكفيرُ حقٌّ لله، فلا يُكَفَّرُ إلا مَن كفَّره الله ورسوله.
ولهذا نحن لا نُكَفِّر مَن اجتهد فأخطأ، وإن كان مخالفاً لنا، مُكَفراً لنا، مستحلاً لدمائنا.
ولهذا أيضا لم تُكَفِّر الصحابةُ الخوارجَ مع تكفيرهم لعثمان وعليٍّ ومَن والاهما واستحلالِهم لدماء المسلمين المخالفين لهم .. فما بالك بغيرِ الخوارج مِن الطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق أو الصواب في مسائل غلط فيها مَن هو أعلم منهم؟!
هؤلاء الخوارج لم يقاتلهم عليٌّ tحتى سفكوا الدمَّ الحرام وأغاروا على أموال المسلمين، فقاتَلهم لدفع ظُلمهم وبغيهم، لا لأنهم كفار؛ إذ ليس كلُّ مخطئٍ ولا مبتدعٍ ولا جاهلٍ ولا ضالٍّ يكون كافراً، بل ولا فاسقاً، بل ولا عاصياً .
وبعبارة أخرى: الخوارج كانوا مجتهدين في قتل كلِّ مسلمٍ لم يوافقهم، مستحلين لدماء المسلمين، وأموالِهم، وقتلِ أولادهم، مُكَفرين لهم، وكانوا متدينين بذلك. ومع كل هذا، ولأجل ما سبق بيانُهُ، لم يُكَفرهم الصحابة yوالتابعون لهم بإحسان، ولا جعلوهم مرتدين، ولا اعتدوا عليهم بقولٍ ولا فعلٍ، بل اتَّقَوْا اللهَ فيهم، وساروا فيهم السيرة العادلة .. فما بالُك بما دون ذلك مِن آراء غالية، مِن أي مدرسةٍ أو مذهبٍ كلامي أو فقهي إسلامي صَدَرَت؟!
4- المقدمة الرابعة:
لا يَحِلُّ لمسلمٍ أن يُخرجَ مسلماً مِن الإسلام بسبب معصيةٍ ارتكبها، ولو كانت كبيرةً مِن الكبائر، فإنَّ الكبائر إنما تشير إلى انخفاض منسوب ومستوى وعُمق إسلام المرء، ولكنها لا تزيل صفته عنه:
– بدليل أنَّ القرآن المجيد:
قد أثبت أُخُوَّةَ القاتل مع أولياء دم المقتول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى… فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ...) [البقرة 178].
كما أثبت وَصفَ الإيمان للمقتتلين من المسلمين: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي… إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) [الحجرات 9، 10].
كما لم يُزِل وَصفَ الإيمان حتى عمَّن يُلقي إلى الأعداء بالمودة ويُسِرُّ إليهم بها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ… تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ) [الممتحنة 1].
– وبدليل أنَّ الكبائر، وهي معاصي بالغة الفُحش، لو كانت تهدم الإيمان من أصله وتزيله من جذوره، لكانت هي والردة شيئاً واحداً، وهو أمرٌ معلومُ البطلان بلا ريب.
فإذا كان هذا هو حالُ الكبائر (ومن أبشعها: قتلُ المسلم بغير حق، ومقاتلة المسلمين بغياً، وإلقاء المودة إلى الأعداء)، أعاذنا الله وإياكم منها، فما بالك بما دون الكبائر: مِن معاصٍ، أو مِن لِسانٍ لا يُريحُ كاتبَ السيئات، أو مِن آراء سقيمة أو فاحشة الخطأ، أو مِن آراء خاطئةٍ أو مرجوحةٍ؟! لا شكَّ أنَّ مُواقِعَها لا يمكن بحالٍ أن نزيلَ عنه صفة الإسلام والإيمان.
وبعبارة أخرى: إذا كان لا يجوزُ إخراجُ مسلمٍ من إسلامه بسبب كبيرة أو معصية، فلا يجوز مِن باب أَوْلَى إخراجُهُ منه بسبب قولٍ أو رأي اجتهادي أخطأ فيه، كلامياً كان أو فقهياً، سواءٌ فَحُشَ هذا الخطأ أو لم يَفحُش:
– لأنَّ كلَّ مسلمٍ عالِمٍ مجتهدٍ – أياً كان توجهه الكلامي أو الفقهي- مُعَرضٌ للخطأ، وهو مرفوع عن أمة المسلمين.
– ولأنه سيكون – في حقه- تكليفاً بما لا يطاق، تكليفاً بما ليس في الوُسع، وهو مُمتنعٌ في الإسلام.
يقول تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا… رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا… وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ) [البقرة 286]، وقد جاء في الصحيح أنَّ الله قد استجاب لهذا الدعاء(17).
بل إنَّ هذا المسلمَ العالِمَ المجتهد، وفق ذلك، وأياً كان موقفه الكلامي أو الفقهي، مثابٌ على اجتهاده، وإن أخطأ فيه، وهو مُجْزِئ عنه في الدنيا والآخرة إن شاء الله(18).
5- المقدمة الخامسة:
المسلمون جميعاً، وعلى اختلاف مدارسهم الكلامية والفقهية، متفقون على “الثوابت” المتمثلة في:
– “الإيمانيات الأساسية”، مثل: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
– و”أركان الإسلام العملية”، مثل: الشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً.
– و”أمهات الفضائل الأخلاقية”، مثل: العدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى، والصدق والأمانة، والاستقامة والإخلاص، والرحمة، والصبر والشكر، والحياء والتعفف عن الحرام.
– و”أمهات المحرمات القطعية” مثل: القتل والزنا والشذوذ الجنسي، وشرب الخمر ولعب الميسر، والسرقة والغصب، والسحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، والتولي يوم الزحف، وشهادة الزور، وعقوق الوالدين وقطع الأرحام، والفجور في الخصومة، والظلم، والغيبة والنميمة والكذب والتعدي على حرمات الناس، والكبر والغرور والحسد والبغضاء والرياء والعُجب والشُّح وحب الدنيا واتباع الشيطان.
– و”أمهات الأحكام الشرعية القطعية”: في الأكل والشرب والزينة (كحرمة الإسراف)، والبيع والشراء والمعاملات المالية والأمور الاقتصادية (كحرمة الغش والخداع والتدليس والتغرير والربا)، والنكاح والطلاق (كوجوب المعاشرة بالمعروف، وحرمة تعليق الزوجة)، والسياسة والعلاقات الدولية (كوجوب الوفاء بالعقود والعهود والمواثيق)، والوصية والميراث، والقصاص، وغيرها.
وكما هو معلومٌ، هذه الأمورُ وأمثالُها هي قواعد الإسلام الأساسية الكبرى، وأعمدة بنيانه الراسخة العظمى، ومِن ثم، فأيُّ اختلافٍ في غيرها “أمرٌ خفيفٌ بالنسبة إليها”(19).
فالمسلمون لم يختلفوا في أصول الدين ولا في أمهات الاعتقادات ولا في أركان الحلال والحرام، فلقد كانت “عقائد الدين وأصوله” و”أركان الشريعة وثوابتها” هي “الجامع المُوَحِّدُ” للأمة في الإيمان الديني.
وفي إطار هذا الجامع:
– كانت التعددية والتنوع والاختلاف بين “المذاهب الكلامية” الإسلامية، فإن خلافها وتعدديتها لم تكن في ثوابت الإيمان، وإنما كانت في “المقالات”؛ أي “النظريات والتصورات” المتعلقةِ بـ “فروع الأصول” و”أغصان الثوابت” الإيمانية الاعتقادية .. فهي “هوامش” على مباحث الإلهيات والنبوات والغيبيات والمعجزات، لا علاقة لها بـ “جوهر” الإيمان .. ولقد عَكَست الاختلافاتُ فيها “مراتب الناظرين” على سُلَّم التنزيه والتشبيه، التجريد والحَشو، العقلانية المؤمنة والتفسير الموضوعي الجامع والتأويل الدقيق أو الجمود على حرفية النصوص والإصرار على تَعْضِيَتِها .. إلخ.
– وكانت التعددية والتنوع والاختلاف في فروع الفقه، عباداتٍ ومعاملات. الأمرُ الذي أثمر “المذاهب الفقهية” الإسلامية – التي اشتهرت والتي لم تشتهر، والتي عاشت والتي اندثرت- بما مَثَّلت من ثراءٍ في الاجتهادات، وغِنَىً في التنوع.
6- إذاً، وبناءً على المقدمات السابقة مجتمعةً ومنفردة:
– يتقرر بحق وصدق أنَّ “مِن عيوب أهل البِدَع تكفيرَ بعضِهم بعضاً، و[أنَّ] مِن مَمادِح أهلِ العلم أنهم يُخَطِّئون ولا يُكَفرون”(20).
– ويتبين بلا غموض ولا لبس ولا خفاء أنَّ الشيعة الإمامية الجعفرية مسلمون مؤمنون، مِثلُهُم في ذلك مِثلُ بقيةِ المسلمين في كل زمان ومكان.
فليسو كُفاراً كما يزعم البعض، بل هم أبعدُ الناسِ عن ذلك، مِثلهم مِثل أهل القبلة جميعاً، في ظاهر الأمر، والله أعلم ببواطن المسلمين.
7- وبهذا كلِّهِ نكون قد أجبنا عن سؤال: هل هم كفار؟
ويتبقى الإجابة عن سؤال: هل هم ضالون مبتدعون فسقة أم مجتهدون يصيبون ويخطئون؟
وهذا يقتضي الحديثَ عن خمسة أمور:
أ- أسبابِ الاختلافات الكلامية.
ب- ومدى جوازِ الاجتهاد مِن عدمه في علم الكلام.
ج- وهل الخطأ في الاجتهاد – الكلامي أو الفقهي أو غير ذلك- معصيةٌ؟ وهل هو قادحٌ في العدالة؟
د- والفارقِ بين الاجتهاد والابتداع، والمجتهد والمبتدع.
هـ – وحديثِ الافتراق وماهية الفرقة الناجية.
وأما الجوابُ عن (أ) و(ب) و(هـ) فقد تم لنا في بحثٍين مطولَيْن مبسوطَيْن، لا تسمح المساحة المخصصة ههنا لنشرهما ولا لإدراجهما؛ لطولِهِما وتشعبهما. وعلى كلِّ حالٍ، سنعرجُ على مضمونِ جوابنا عن (أ) و(ب) تعريجاً غيرَ مُخِلٍّ فيما سيأتي بعد قليل.
وعليه، نقول في الجواب عن (ج) و(د):
8/ 1- يقول تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ) [النساء 48]:
ومِن ثم، يندرج تحتها كلُّ “خطيئة” يخطئها أحد من أمة الإسلام، ما دام على التوحيد لله تعالى، فما بالك بما دون “الخطيئة” مما يدخل في مسمى “الاجتهاد”؟!
ويقول رسول الله r: “قال رجلٌ لم يعمل حسنة قط لأهله: إذا مات فحَرِّقوه، ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنَّه عذاباً لا يعذبه أحداً مِن العالمين.
فلما مات الرجل فعلوا ما أمرهم، فأمر الله البَرَّ فجَمَعَ ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، ثم قال: لِمَ فعلتَ هذا؟ قال: مِن خشيتك يا رب وأنت أعلم. فغفر الله له”(21):
فتأمل تفريطَه في طاعة الله طولَ عمره، حتى إذا حضره الموت أفصح عن جهله بالله وقنوطه مِن رحمته، ولكنَّ الرحمن الرحيم يعلم صدقه في إرادة وجهه، فغَفَر له.
فما بالك بالعالِم الفاضل المجتهد المسلم المُستفرغ للوُسع، مِن أي مدرسةٍ أو مذهب كلامي أو فقهي (أو غير ذلك) كان هو؟!
وبعبارة أخرى: هذا رجل شكَّ في قدرة الله، وفي إعادته إذا ذُرِّيَ، بل اعتقد أنه لا يُعاد، وهذا كُفرٌ لا شكَّ فيه، ولكنه كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمناً يخاف عقابَ الله ويريد أن يَتَّقيه (فبذل مُنتهى وُسعه وعلمه تحقيقاً لذلك، كما تَجلى في وصيته التي أوصى بها أهله)، فغُفِرَ له بذلك.
والعالِمُ الفاضلُ المتأولُ مِن أهل الاجتهاد والتمكن، الحريصُ على متابعة الرسول، مِن أي المدارس الكلامية والفقهية كان هو، أَوْلَى بهذه المغفرة ولا شك.
8/ 2- ومن ثم، نقرر باطمئنان أنَّ رحمة الله الواسعة تشمل “المخطئين” مِن كافة أتباع المدارس الفكرية الإسلامية – كلاميةً كانت أو فقهيةً- ما دام الأصلُ عندهم تحقيق العبودية لله وإرادة وجهه واستفراغ الوُسع في هذا السبيل.
وبعبارة أخرى: نقرر باطمئنان أنَّ مَن كان مِن المسلمين مجتهداً في طلب الحق أو الصواب، وأخطأ، فإن الله يغفر له خطأه كائناً ما كان، سواءٌ في المسائل النظرية أو العملية(22)، مسائلِ علم الكلام أو مسائل الفقه.
وبعبارة ابن تيمية: إن الله سبحانه “قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية [أي: مسائل علم الكلام] والمسائل العملية [أي: مسائل الفقه]”(23).
فـ “المجتهدُ الاجتهادَ العلميَّ المحضَ ليس له غرض سوى الحق [أو الصواب]، وقد سلك طريقه، وأما مٌتَّبِعُ الهوى المحض فهو مَن يَعلم الحقَّ [أو الصواب] ويُعانِد عنه ..
والعالِمُ مأمورٌ بـ: حُسن القصد، والاجتهاد، وهو مأمور في الظاهر [باتباع] ما قام عنده دليله، وإن لم يكن مطابقاً [أي للصواب في نفس الأمر]، لكنْ [اتباعاًً] ليس بيقيني ..
[فالاتباع] المطلوب هو الذي يَغلِبُ على الظن، وإنْ كان قد يكون غيرَ مطابِقٍ، فإذا ذهب العالِمُ إلى رأي مع قصده للحق [أو الصواب] واتباعِهِ لما أُمِرَ باتباعه مِن الكتاب والحكمة، عُذِرَ بما لم يَعلمه، وهو الخطأ المرفوع عنا”(24).
فـ “مَن كان قصدُه متابعةَ الرسول باطناً وظاهراً، لا يُقَدم طاعةَ أحد على طاعة رسوله، ولا يوافق أحداً على تكذيب ما قاله الرسول، ولو كان مِن أهل قرابته أو مدينته أو مذهبه أو فرقته، مجتهداً في طلب العلم، لكنه قد خفي عليه بعضُ السنة؛ إما لعدم سماعه للنصوص النبوية، أو لعدم فهمه لِمَا أراد الرسول، أو لسماع أحاديثَ ظَنَّها صِدقاً وهي كذب، أو لشبهات ظَنَّها حقاً وهي باطل .. فهؤلاء ليسوا كفاراً ولا فُسَّاقاً، بل مُخطئون خطأ يغفره الله لهم”(25).
8/ 3- بل إنَّ تأثيم المجتهد في المسائلِ كلاميةً كانت أو فقهيةً – ناهيك بتكفيره!- منافٍ لِمَا قرره القرآن مِن أنه: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا… رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا… وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ) [البقرة 286]، وقد جاء في الصحيح أنَّ الله قد استجاب لهذا الدعاء(26):
فلو عاقبَ الله بعد ذلك المجتهدَ الذي استفرغ وُسعه، ولكنه أخطأ الوصول، لكان:
– معاقِباً له على الخطأ.
– ومُكَلِّفاً له ما ليس في وُسعه.
– ومُحَمِّلاً له ما لا طاقه له به.
وكل ذلك مرفوع ممتنِعٌ كما علمتَ.
وسواءٌ فيه – كما قلنا- القضايا الكلامية أو الفقهية؛ لأنَّ الله استجابَ منا الدعاءَ – الذي علَّمه لنا- في رفع المؤاخذة بالنسيان والخطأ، ولم يَفصِل أو يُفَرِّق سبحانه وتعالى بين هذه القضايا وتلك.
وبعبارة أخرى: إنَّ الفاضلَ المجتهِدَ في طَلَب العلم – بِحَسَب ما أدركه في زمانه ومكانه- إذا كان مقصودُهُ متابعةُ الله ورسوله – بِحَسَب إمكانه- ، في الكلاميات أو الفقهيات، فهو أحق بأن يتقبل الله حسناته، ويثيبه على اجتهاداته، ولا يؤاخذه بما أخطأ، بل يأجُرُه عليه أجراً، هو أجرُ الاجتهاد؛ تحقيقاً لقوله تعالى: (رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) [البقرة 286]، (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [النحل 97]، (إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [التوبة 120]، (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) [الكهف 30]، (وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) [النساء 114]، وقولِهِ rتطبيقاً نبوياً لهذا البلاغ القرآني: “إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر”(27).
ومِن ثم، فلا مكان – عندي- لتكفيرٍ، ولا تفسيقٍ، ولا تضليل، ولا تبديع.
وبعبارة القرضاوي: “المذاهب الكلامية والفقهية المعروفة بين المسلمين (مثل: الأربعة المشهورة، والظاهرية، والأشعرية والماتريدية والإباضية والإمامية والزيدية والمعتزلة) كلها تؤمن بأركان الإيمان، وأركان الإسلام، وأحكامه القطعية، وكلها تقول بالاجتهاد فيما ليس فيه نص قطعي الثبوت والدلالة، وهو اجتهاد له أصوله وضوابطه التي ترجع جميعاً إلى أصول الشرع، وإن اختلفت الطرائق ..
فمَن أصاب مِن هذه المذاهب الكلامية والفقهية الحقَّ [أو الصوابَ] في اجتهاده فله أجران، ومَن أخطأ فله أجر واحد؛ لأنه بذل جهده، وتحرى الحقَّ [والصواب]، فلم يُحرَم مِن الأجر – وقد صح بذلك الحديث(28)- ، وسواءٌ كان الخطأ في الأصول أم في الفروع، في المسائل العلمية أم في العملية”(29).
8/ 4- وعليه، فالصوابُ عندي هو أنَّ كلَّ مَن ذهب إلى رأي، مُحتجاً عليه ومُبَرهِنَاً بما غلب على ظنه، وبعدَ بذلِ قصارى جهده، وصلاحِ نيته في توخي الحق أو الصواب، لا ملام عليه ولا تثريب؛ لأنه مأجورٌ على أي حال.
ولِمَن قام عنده دليلٌ على خلافه، واتضحت له المَحجة في غيره، أن يُجادله بالتي هي أحسن، ويهديه إلى سبيل الرشاد، مع حفظِ الأُخُوة، والتضافرِ على المودة والفُتُوَّة.
نعم، مَن خالفونا الرأيَ ليسوا معصومين من الخطأ، ولكنْ لا يستطيع أحد أن يقول إنهم تعمدوا الانحرافَ عن الحق أو مكافحةَ الصواب عن سوء نية وفساد طوية.
غايةُ ما يقال في انتقاد بعض آرائهم أنهم اجتهدوا فيها فأخطأوا، ولا غضاضةَ ولا عارَ على المجتهد إن أخطأ في قول أو رأي، وإنما الملام على أن ينحرف عن الجادة عامداً متعمداً، ولا يُتَصَوَّرُ ذلك في مجتهدٍ ظَهر فضله وزخر علمه.
وبعبارة أخرى: مَن أداه اجتهادٌ إلى رأي، كيف يُعادَى تبديعاً أو تفسيقاً أو تضليلاً وقد بَذل قصارى جهده، وليس قصدُهُ إلا الحق والتقرب إلى الله تعالى؟!
وكيف يُعادَى مَن أثبت له الشارعُ الأجرَ ولو كان مخطئاً (إنَّ مجتهدي كلِّ مدرسةٍ أو مذهبٍ إسلامي – كلامي أو فقهي أو غير ذلك- مأجورون أصابوا أم أخطأوا، بنص الحديث النبوي، حيث يشملهم عمومه)؟!
وإنما يُعادَى الآثِمُ لا المأجور، وحاشا لِمؤمِنٍ عالِمٍ أن يُخالِفَ كتاباً أو سنةً عامداً متعمداً !
وكيف يجوز أن يُوصَفَ عالِمٌ ثبتٌ ثقةٌ، مِن ذوي الألباب وأولي الاجتهاد، بشيءٍ من ذلك لمجرد أنه أداه اجتهاده إلى رأي يُخالِف غيرَه، مع أنه لم يقصد إلا الحق والصوابَ، ولم يَتَوخَّ إلا ما رآه الأَوْفَقَ، إذ لم يألُ جُهداً في اهتمامه بما يراه الصوابَ، وإن كان في نظر غيره على خلاف ذلك؛ إذ هذا الاختلافُ مِن لوازِم المسائل النظرية؟!
نعم، لقد وَقَرَ في قلوبِ كثيرٍ مِن الناسِ رميُ مخالفيهم مِن المدارس والمذاهب الإسلامية – الكلامية خاصةً- بالمروق والضلال والزيغ .. وهذا مِن أغرب الغريب، إذ كيف يصح هذا وَهُم يَحتجون لِمَا يَدَّعُون، ويُبَرهِنون على ما يَذهبون، لا جَرَم أنهم، وإن أخطؤوا، لَمُجتهدون؟!
وجَلِيٌّ أنَّ كلَّ مَن استدلَّ على ما يراه، واحتجَّ على دعواه، فقد آذن في اجتهاده فيه، وتَحرى الحقَّ فيما يَقصده ويَبغيه، فقُصَارَى أمرِه، إذا نُقِضَ بُرهانُه ودُحِضَت حُجته، أنْ يكون مجتهدًا مُخطئًا، وهو معذورٌ، بل مأجورٌ؛ إذ لم يُرِد إلا الحقَّ أو الصواب، فمِن أين يسوغ بعد ذلك قَرضُ الأَعراض بتضليل أو تفسيق أو تبديع؟!
8/ 5- وعليه أيضاً، وبناءً على جميع ما تقدم مِن أوله إلى آخِره، يتقرر بحق وصدق:
– أنَّ الاختلاف الاجتهادي الكلامي أو الفقهي غيرُ قادحٍ في عدالة صاحبه المسلم.
– وأنَّ الطعنَ على المخالِفِ فيما يجوز فيه الاجتهادُ مطلقاً(30): ممنوعٌ؛ إذ لو صَحَّحْنا ذلك لأنفُسِنا، جَوَّزْنا لِمُخالِفنا مِن المسلمين الحُكمَ علينا بمثل ما حَكَمنا عليه .. وإنما الفسقُ لازِمٌ لِمَن يفعل ما يراه حراماً.
ولله دَرُّ الإمام ابن حزم، لَمَّا فَقِهَ ما سبق أن بسطناه، قال بحق وصدق:
“مَن يشهد بقلبه ولسانه أنه لا إله إلا الله، وأنَّ محمداً رسول الله، وأنَّ كل ما جاء به حق، وأنه برئ مِن كل دين غير دين محمد r، هو المؤمن المسلم ..
وأهلُ كل مقالة خالفت الحقَّ [أو الصواب]، وأهلُ كل عمل خالف الحقَّ [أو الصواب]: مسلمون أخطؤوا، ما لم تَقُم عليهم الحجةُ، فلا يَقدح شيءٌ مِن هذا في إيمانهم، ولا في عدالتهم، بل هم مأجورون – على ما دانوا به مِن ذلك وعملوا- أجراً واحداً، إذا قصدوا به الخير، ولا إثم عليهم في الخطأ؛ لأن الله تعالى يقول: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم) [الأحزاب 5](31).
ولا يُكَفَّر ولا يُفَسَّقُ(32) مُسلِمٌ بقولٍ قاله في اعتقادٍ أو فتيا، وإنَّ كلَّ مَن اجتهد في شيء مِن ذلك [أي اعتقاداً أو فتيا، أي المسائل الكلامية أو الفقهية]، فَدَانَ بِمَا رَأى أنه الحقُّ، فإنه مأجورٌ على كل حال، إنْ أصاب الحقَّ فأجران، وإنْ أخطأ فأجرٌ واحدٌ(33)..
كلُّ مجتهدٍ مأجورٌ، إنْ أخطأ: أجراً واحداً، وإنْ أصابَ: أجرين. والمجتهد المخطئ أفضل عند الله مِن المقلد المصيب مِن أهل الإسلام(34)؛ لأنه لا يجتهد إلا عالِمٌ، ولا يُقَلِّدُ إلا جاهلٌ(35) .. [المقصود بالجاهل هنا: عدم العلم بالشيء].
[وبتعبير آخَر]: لا شكَّ أن المجتهد المخطئ أعظم أجراً مِن المقلد المصيب وأفضل؛ لأنَّ المقلدَ المصيب آثمٌ بتقليده غيرُ مأجورٍ بإصابته، والمجتهدَ المخطئ مأجورٌ باجتهاده غيرُ آثمٍ لخطئه.
فأجرٌ متيقنٌ وأجرٌ مضمونٌ أفضل مِن أجرٍ محرومٍ وإثمٍ متيقنٍ بلا شك .. المقلد المصيب: هو في تقليده عاصٍ لله عز وجل؛ لأنه فعل أمراً قد نهاه الله عنه وحَرَّمه عليه، فهو آثمٌ بذلك. ويَبعُدُ عنه أجرُ المعتَقِدِ للحق [أو الصوابِ]؛ لأنه لم يُصِبْهُ مِن الوجه الذي أمره الله تعالى به؛ وكلُّ مَن عمل عملاً بخلاف أمر الله تعالى فهو باطل”(36).
ولله دَرُّ الإمام الشافعي أيضاً، لَمَّا فَقِهَ ما سبق أن بسطناه، قال بحق وصدق:
“ذهب الناسُ مِن تأويل القرآن والأحاديث .. إلى أمور اختلفوا فيها، فتباينوا تبايناً شديداً، واستحلَّ فيها بعضُهُم مِن بعضٍ ما تطول حكايتُهُ، وكان ذلك منهم متقادِماً، منه ما كان في عهد السلف، وبعدَهم، إلى اليوم(37).. ولا أردُّ شهادةَ أحدٍ بشيء مِن التأويل كان له وَجهٌ يحتمله، وإن بلغ فيه استحلالَ الدمِ والمالِ أو المفرِطِ مِن القول .. فكُلُّ مستحِلٍّ بتأويلٍ مِن قولٍ أو غيرِه، فشهادته ماضيةٌ لا تُرَدُّ مِن خطئه في تأويله .. إلا أن يكون منهم مَن يُعرَف باستحلال شهادةِ الزور .. فتُرَدُّ شهادتُهُ مِن قِبَلِ استحلالِهِ الشهادةَ بالزور .. أو يكونَ منهم مَن يباين الرجلَ المخالِفَ له مباينَةَ العداوة له، فتُرَدُّ شهادتُهُ مِن جهة العداوة ..
وشهادةُ مَن يرى الكذبَ شِركاً بالله [إشارة إلى الخوارج] .. أَوْلَى أن تَطيبَ النفسُ عليها مِن شهادةِ مَن يُخَفِّفُ المأثمَ عليها.
وكذلك إذا كانوا مِمَّن يَشتُمُ قوماً على وَجهٍ بتأويلٍ في شَتمهم [إشارة إلى قطاعٍ مِن الشيعة وموقفهم مِن قطاعٍ مِن الصحابة رضوان الله عليهم]، لا على وَجه العداوة [أي المُجَرَّدة؛ أي العداوة لمجرد العداوة]؛ وذلك أنَّا إذا أجزنا شهادتهم على استحلالهم للدماء، كانت شهادتهم على شتمهم للرجال أَوْلَى أنْ لا تُرَد؛ لأنه متأول في الوَجهين، والشتمُ أخفُّ مِن القتل(38)..
والمُستحلُّ لنكاح المتعة، والمفتي بها، والعاملُ بها، مِمَّن لا تُرَدُّ شهادَتُهُ [أي أنه اجتهادٌ غيرُ قادحٍ في العدالة](39)؛ لأنَّا نَجِدُ مِن مفتي الناس وأعلامِهِم مَن يستحل هذا(40).. وهذا كله عندنا مكروهٌ محرَّمٌ(41)، وإنْ خالَفْنَا الناسَ فيه فرَغِبنا عن قولهم، ولم يَدْعُنا هذا إلى أن نجرحهم ونقولَ لهم: إنكم حللتم ما حَرَّمَ اللهُ وأخطأتم [أي خطأً لا شكَّ فيه]؛ لأنهم يَدَّعون علينا الخطأ كما نَدَّعيه عليهم، ويَنسِبون مَن قال قولَنَا إلى أنه حرَّمَ ما أحلَّ اللهُ عز وجل [مثلما يَنسِبُهم مخالِفوهم إلى أنهم أَحَلُّوا ما حَرَّمَه]”(42).
ولله دَرُّ الإمام البيهقي كذلك، إذ قال:
و”كذلك مَن عُرف منهم بسب الصحابة، الذين هم سُرُج هذه الأمة وصَدرها، لم تُقبَل شهادتُه متى كان سَبُّه إياهم على وجه العصبية أو الجهالة، لا على تأول أو شبهة”(43).
9/1- فإن قيل: فما هي البدعةُ عندَكَ إذاً بعد كلِّ هذا الذي أَبْدَيْتَ وفَصَّلْتَ؟!
فالجواب: يقول تعالى: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) [الحديد: 27]:
أي أنَّ الله تعالى قد كتب عليهم رهبانيةً مُعَيَّنةً ابتغاءَ وجهِهِ، فما رَعَوها حق رعايتها، بل اخترعوا وأوجَدوا وأحدثوا لها أو فيها نظاماً أو شكلاً أو طقوساً لا سند لها من دين الله أبداً، ولا دليل لهم عليها فيه أصلاً، فهم قد أتوا مِن عندِهم وكِيسِهم فيها بأمور لم يُرشدهم إليها فيها وحيٌ، ولم يستندوا هم فيها إلى شرعٍ؛ ولذلك وصفهم سبحانه بأنهم (فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا).
ويقول تعالى: (قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ) [الأحقاف: 9]:
أي لستُ رسولاً أَوْجَدَ أو اختَرَعَ أو أَحدَثَ أو أَتَى أو دعا إلى شيء مُختلفٍ عَمَّن سبقه مِن الرسل، أو شيءٍ لا نظير له ولا شبيه في دعوات سابِقِ الرسل، أو شيءٍ لا سند له من رسالات الله السابقة ولا فيها، فإنما أنا امتدادٌ ومتممٌ ومُكَمِّلٌ ونابعٌ ومُنبثقٌ ومُنشعبٌ عن وحي الله وسلسلة الرسل السابقين.
ولَمَّا كان الرسول rكذلك، لم يكن بِدْعَاً؛ إذ:
– ليسَ أولَ مُرسَلٍ إلى الناس، لِيَستغرِبوه، بل سَبَقَه كثيرون.
– وليسَ يأتي مِن عِندِه وكِيسِهِ بما يدعو إليه، ليستنكروه، بل هو يدعو إلى الله، بأمرٍ مِن الله، وعلى هَديٍ مِن الله، مثلما كان سابقوه من الرسل.
ويقول تعالى: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) [البقرة: 117، الأنعام: 101]:
وصيغة “فعيل” ههنا (وهي مِن صيغ المبالغة) بمعنى “مُفعِل”؛ أي مُحدِث ومُختَرِع ومُوجِد السماوات والأرض؛ أي مُبدعها على غير مثالٍ سَبَق، ولا أصلٍ يُرجَع إليه، ولا سابق تجربة يُستفادُ منها، فهو سبحانه الأصلُ والسابقُ والأولُ بلا شريكٍ ولا نظيرٍ ولا كُفوٍ ولا شبيهٍ ولا مُساعِدٍ ولا مُعينٍ، وهذا “قمةُ القدرة والتمكن” الذي لا مَرامَ بَعدَه.
9/ 2- وبتدبر موارد الإحداث والابتداع هذه في كتاب الله المجيد يتبين:
أنَّ البدعةَ: كلُّ شيءٍ يُخترع أو يُستحدث أو يوجَد على غير مثالٍ سبق، ولا أصلٍ يُرجَع إليه فيه بعينه، ولا سابقِ تجربة يُستفادُ منها أو يُستَعانُ بها فيه.
وأنَّ هذا الاستحداث والابتداع والإيجاد والاختراع لا يَتعلق به – بذاته- مدحٌ ولا ذم، وإنما باعتبار مُتَعَلَّقه:
– فإن كان إحداثاً:
أ- لشيء في دين الله.
ب- ولا سندَ له منه انبثق عنه، ولا دليلَ له فيه اعتمد عليه.
كان الإحداثُ ههنا مذموماً مُحرماً.
– وإن كان إحداثاً:
أ- لشيء في دين الله.
ب- وله وَجهٌ مما سبق؛ أي له سندٌ من دين الله انبثق عنه، أو له دليلٌ في دين الله اعتمد عليه وتفرع عنه وانشعب منه.
كان الإحداثُ ههنا اجتهاداً محموداً يؤجَرُ عليه صاحِبُهُ أجراً واحداً إن أخطأ فيه، أو أجرين إن أصاب.
– وإن كان إحداثاً لشيء في غير دين الله (أي إحداثاً لشيءٍ في الكون والحياة من طَرَفِ الإنسان، أو إحداثاً لشيء لا يَنسِبُهُ مُحدِثُهُ إلى دين الله وَوَحيِه وأمرِه المباشِر، أو لا مُتعلَّق له بالدين تعلقاً مباشراً)، فهو بحسبه، يُوزَن – عقلاً وشرعاً- بميزان المنفعة والمصلحة والإحسان والجودة والعدل، أي يوزن بميزان مدى قربه او بُعده عن مقصد “عمران الحياة”.
– وإن كان إحداثاً لشيءٍ في الوجود أو الكون من طَرَفِ الله تعالى؛ كان دليلاً على قمة القدرة والتمكن والاستواء على العرش.
9/ 3- ومصداقاً لذلك، نجد التطبيقَ النبوي لهذا البلاغ القرآني واضحاً جَلِيَّاً:
يقول r: “مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ”(44).
فـ “في أَمرِنَا هذا”: أي في دين الله(45).
و”ما ليس منه”: أي أنَّ المُحدَثَ لا سندَ له من دين الله انبثق عنه، ولا دليلَ له في دين الله اعتمد عليه وتفرع عنه وانشعب منه.
أمَّا إذا كان الشيءُ المُحدَثُ له سَنَدٌ مِن دين الله انبثق عنه، أو دليلٌ في دين الله اعتمد عليه وتفرع عنه وانشعب منه، فليس “رَدَّاً” ولا هو بـ “ضلالة”، وإنما هو اجتهادٌ محمودٌ دائرٌ بين الأجر والأجرين، كلامياً كان أو فقهياً أو عملياً سلوكياً.
وبتعبير آخَر: بالتأمل والتدبر في حديث النبي العدنان r، يتضح أنَّ مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ، وأمَّا مَن أَحدَثَ فيه ما هو منه فليس كذلك.
9/ 4- وعن جابر tقال: “كان رسولُ الله إذا خَطَبَ: احمرت عيناه، وعلا صوتُهُ، واشتد غَضَبه، حتى كأنه مُنذِرُ جيشٍ، ويقول -أي رسولُ الله-: إنَّ خيرَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهُدَى(46) هُدَى محمد، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضلالة”(47).
فههنا مقابلةٌ بين أمرين:
– خيرِ الحديثِ وخيرِ الهُدى.
– وشَرِّ الأمورِ.
فـ “المحدثاتُ” مذكورةٌ ههنا في مقابل “خيرِ الحديث وخيرِ الهُدَى”؛ أي المحدثاتُ التي لا نسب لها ولا صلةَ بخير الحديث ولا بخير الهَدْيِ؛ أي المحدثات التي لا تمت للوحي بسبب، ولا تتصل إليه بسند، ولا تنتسب إليه بِنَسَب، فشرُّ الأمور هو هذا، وكلُّ بدعةٍ على هذه الشاكلة وهذا الوصف فهي ضلالة ..
هذا، في ظننا واجتهادنا، وبلا عَناء ولا التواء، ما يُرشد إليه وينطق به سياقُ الحديث الجليُّ؛ خاصةً باستحضار احمرارِ العينين، وعُلُو الصوت، واشتدادِ الغضب، والإنذار، والمقابلة بين أمرين فيه، وباستحضار الرؤية الكلية القرآنية وتطبيقها النبوي الذي فصَّلناه قبل قليل.
9/ 5- وفي ذات الاتجاه يأتي ما رواه العرباض بن سارية t، حيث قال: “قام فينا رسولُ الله rذات يوم، فوعظنا موعظة بليغةً(48)، وَجِلَت منها القلوبُ(49)، وذَرَفت منها العيون، فقال قائل: كأنَّ هذه موعظةُ مُوَدِّعٍ، فماذا تَعهَد إلينا؟ فقال r: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن كان عبداً حبشياً؛ فإنه مَن يَعِش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين مِن بعدي، تمسكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجِذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإنَّ كلَّ محدَثَة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالةٌ”(50).
فههنا مقابلةٌ بين أمرين:
– الوصيةِ بالدعوة إلى تقوى الله، والسمعِ والطاعة للحفاظ على النظام العام(51)، والتمسكِ بالسنة(52).
– والوصيةِ بالتحذير من محدثات الأمور.
فـ “المحدثاتُ” مذكورةٌ ههنا في مقابل “التقوى” و”السمع والطاعة الرَّاشِدَين” و”التمسك بالهَدْيِ”؛ أي المحدثاتُ التي لا نسب لها ولا صلةَ بالتقوى ولا بالسمع والطاعة الراشِدَيْن ولا بالهُدى؛ أي المحدثات التي لا تمت للوحي ولا للعقل بسبب، ولا تتصل إليه بسند، ولا تنتسب إليه بِنَسَب، فشرُّ الأمور هو هذا، وكلُّ بدعةٍ على هذه الشاكلة وهذا الوصف فهي ضلالة ..
هذا، في ظننا واجتهادنا، وبلا عَناء ولا التواء، ما يُرشد إليه وينطق به سياقُ الحديث الجليُّ؛ خاصةً باستحضار الوعظِ البليغِ إنذاراً وتخويفاً، وخوفِ القلوبِ، وسيلِ الدموعِ، وباستحضار الرؤية الكلية القرآنية وتطبيقها النبوي الذي فصَّلناه قبل قليل.
9/ 6- وفي ذات الاتجاه يأتي ما رواه علي t، حيث قال: “ما عندنا شيءٌ إلا كتابُ الله وهذه الصحيفةُ عن النبي r: المدينةُ حَرَمٌ ما بين عائر وكذا، مَن أحدث فيها حَدَثاً، أو آوَى مُحدِثاً، فعليه لعنةُ الله والملائكة والناس أجمعين، لا يُقبَلُ منه صرفٌ ولا عدل. وذمةُ المسلمين واحدة، فمَن أخفر مسلماً فعليه لعنةُ الله والملائكة والناس أجمعين، لا يُقبَل منه صرفٌ ولا عدل. ومَن تولى قوماً بغير إذن مَوالِيه، فعليه لعنةُ الله والملائكة والناس أجمعين، لا يُقبَلُ منه صرفٌ ولا عدل”(53).
فسياقُ الحديثِ ههنا كلُّه عن “الحُرُمات” و”الدماء” و”الظلم” و”النُّصرة” .. حيث يعلن الرسول rفي هذه الصحيفةِ حُرمةَ المدينةِ المنورة .. ولأجل أنَّ الكلام عن “الحرمات”، جاء حديثُهُ عن “ذمة المسلمين”، وعن “تَوَلِّي قومٍ (= نُصرتِهم) دون إذن صاحب الإذن”، وشَدَّدَ rتشديداً، وأنذر إنذاراً، وخَوَّفَ تخويفاً.
فالحديثُ كُلُّه تشديدٌ في التحذير من التعدي على الحرمات .. وعندما أَعلَن rحُرمةَ المدينة، حَذَّرَ من الإحداثِ فيها أو إيواءِ المحدِثين؛ أي إنه تحذيرٌ مِن التعدي وتجاوزِ الحدودِ والاستهانةِ بالحرمات، أو حتى مجردِ المعاونةِ في ذلك أو التسترِ عليه.
والحَدَث في أصل اللغة هو الأمرُ يَقَعُ على غير المعتادِ(54) والجاري والمُتَوَقَّع .. ومادامت المدينةُ قد حُرِّمَت:
– فيكون المعتادُ والجاري والمُتَوَقَّعُ فيها هو حِفظُ الحُرمات ورعايتُها، بحيث يكون هذا هو المعروفُ فيها والفاشي والمُستحسَن.
– وما يقع فيها على خلاف ذلك يكون حَدَثاً غيرَ متوقعٍ ولا معتادٍ ولا جارٍ، بحيث يكون هذا هو المنكر فيها والنادرُ والمُستَقبَح، فيَستَحِقُّ كلَّ تشديد.
إذاً، “الحَدَثُ” في هذا الحديث النبوي تحديداً – في اجتهادنا- هو: الأمرُ الحادِثُ المنكَرُ غيرُ المعتادِ ولا المعروفِ والمذمومُ والمُستقبَحُ والمُنتَهِكُ للحرمات ..
و”المُحدِثُ” فيه تحديداً هو: مَن ارتكب جنايةً وظُلماً وتعدياً ..
و”آوِي المُحدِث” فيه تحديداً هو: مَن نَصَره أو أعانه أو أجاره أو حال بينه وبين أن يُعاقَبَ أو يُقتَصَّ منه.
ومِن ثم، فهذه المُحدَثات المُحَرَّمةُ والملعونُ صاحِبُها في هذا الحديث الشريف ليست كلَّ مستحدَثٍ، وإنما ما كان منها انتهاكاً لِحُرمَةٍ من الحرمات، أو لوحي مِن الوحي، أو لتشريعٍ مِن التشريع، أو ما كان منها تَعَدِّياً على ما لا يجوزُ التعدي عليه، أو مخالَفَةً لِمَا لا يجوزُ مُخالَفَتُهُ.
9/ 7- وزُبدةُ القولِ: أنَّ كلَّ شأنٍ مِن الشئون يُرادُ نِسبَتُهُ إلى”الدين”، لم “ينبثقُ” عن الوحي، ولا عن اجتهادٍ فيه قُصِدَ فيه وَجهُ الله واستُفرِغَ فيه الوُسعُ وتُحُرِّيَ فيه غايةَ التحري، فهو البدعةُ المذمومةُ المحرمة، مِثلُ الدعوةِ إلى زيادةِ عدد ركعات الصلوات المفروضة أو الإنقاص منها .. أو زيادةِ عدد أيام رمضان المعلومة أو الإنقاص منها .. أو تغييرِ وقت الحج أو أماكنه أو شعائره المعلومة .. أو الدعوةِ إلى أشكالٍ وطقوسٍ تعبديةٍ تخالفُ المعلومَ مِن أشكالِ وطقوسِ العبادات الإسلامية .. أو الدعوةِ إلى حِلِّيَّةِ السرقة أو الزنا أو الخمر أو ما شابَهَ .. (أَيْ: أيِّ تغييرٍ تشويهي، بالمُضادّةِ، أو بالإضافةِ أو الحذف، أو بالزيادة أو النقصان، لـ “مَعالِم الدين وأركانه وشعائره وثوابته وقطعياته ومقرراته” التي هي “خيرُ الحديث الذي هو كتابُ الله” و”خيرُ الهَدْيِ الذي هو هَدْيُ محمد”) .. أو أيِّ قولٍ عَبَثي اعتباطي يَدَّعي فيه قائلُهُ وَصْلاً بالشرع دونَ إبرازِ دليلٍ له مِن الإسلام اعتمد عليه فيه .. أو نَحوِ ذلكَ مِمَّا يَنحُو ذاتَ المَناحِي أو يَجري في ذاتِ المَهَايِع، مما لا يمكن إحصاؤه أو الإحاطةُ به؛ لِسَعَةِ أوديةِ الباطل والخيال والجُمُوحِ والجُنُوح والأوهام.
وفي تمثيلٍ تشبيهي تقريبـي، يمكن أن نقول مطمئنين بأنَّ “حالَ البِدَعِ بالنسبة للإسلام كحالِ اللُّقَطَاءِ بالنسبة للأنساب”؛ ليس بين أيٍّ مِن الطرفين صلةٌ ولا سببٌ ولا سند ولا حبل ولا خيط.
وأما أعمالُ المجتهدين المسلمين وآراؤهم، كلاميةً كانت أو فقهية، فهي منبثقةٌ عن الكتاب والسنة والاجتهاد فيهما (شأنَ كلِّ المجتهدين على امتداد الزمان، في ظاهر أمرهم، لا تجد منهم أحداً يخالِفُ في ذلك)، وأَمرُها إنما يدورُ بين “الصواب” و”الخطأ”، بين “الأجرين” و”الأجر”، لا بين “الخير” و”الشر”، ولا بين “الهُدى” و”الضلالة”.
وما كان كذلك، فلا يُوصَفُ بالابتداع ولا الفسوق ولا الضلال .. أليس المجتهدُ مُكَلَّفاً باتباع ما يغلب على ظنه رُجحانُهُ مِن الأدلة – فهماً وتنزيلاً- بعد استفراغ وُسعه، فكيف يُكَلِّفُهُ اللهُ بشيء، ثم يَعتَبِرُ ثَمَرَتَه – التي قَصَد فيها وَجهَه واستفرغَ فيها وُسعَه وتَحَرَّى غايةَ التحري- ابتداعاً مذموماً مُحَرَّماً أو فُسوقاً أو ضلالاً؟! .. تلك إذاً، في ظني، قسمةٌ ضيزى، وليست هي من الدين “القَيِّم”.
9/ 8- وزُبدةُ القول بتعبير آخَر: أنَّ مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ، وأنَّ مَن أحدث فيه ما هو منه، فهو اجتهادٌ محمودٌ دائرٌ بين الأجرين والأجر، يَعمل به – قولاً كان أو فعلاً- مَن تَرَجَّحَ أمرُهُ عِندَهُ، ويكون مُجزِئاً ومقبولاً بإذن الله.
– فمَن قصد وَجهَ الله باجتهاده، وأقام الدليل مِن وحي الله عليه (وَفق ما غلب على ظنه أنه هو الدليل)، فليس مبتدعاً، ولا اجتهاده ببدعة، مهما كانت ثمرته، وهو دائرٌ بين الصواب والخطأ، فليُناقَش على منضدة “البحث العلمي”.
– وأما مَن قصد وَجه الله برأيه الديني الذي أبداه، ولكنه لم يُقِم دليلاً من الوحي عليه أبداً، فهو شريفُ النفس والنية والمقصد والوِجهة، ولكنَّ قوله هذا ابتداعٌ مذمومٌ محرم مردودٌ لأنه قولٌ بلا علم (والقولُ بلا علمٍ مذمومٌ محرمٌ في دين الله).
– وأمَّا مَن قصد غيرَ وجهِ الله باجتهاده، وخَبُثَت نيتُهُ، وقام لدينا الدليل الظاهر(55) الصريح(56) على ذلك مِن أقواله أو أفعاله، فيكون – في هذا المحل- “مبتدعَ النفس والنية والمقصد والوِجهة” ابتداعاً محرماً، أما الرأيُ الذي أبداه مقيماً عليه الدليل، فيُناقَشُ على منضدة البحث العلمي شأنه شأنَ غيره من الآراء، فإن رأيناه صالحاً قَبِلناه، وإن رأيناه ضعيفاً – بعد المداولة العلمية التأملية التدبرية التفحصية الناقدة- أثخناه بالجراح.
– وأمَّا مَن قصد غيرَ وَجهِ الله برأيه الذي أبداه، وهو – فوق ذلك- لم يُقِم عليه دليلاً من الوحي، فقد جمع الشرَّ مِن أطرافه !
9/ 9- وبتعبير ثالث أكثر تأصيلاً وتفصيلاً:
– كل مَن أتى برأي، مستدلاً فيه أو عليه بالوحي ودائراً في فلكه وصادراً ومنبثقاً عنه، وقاصداً به وَجهَ الله:
فليس مبتدعاً ولا قوله ببدعةٍ محرمة؛ إذ هو قد اتبعَ غَالِبَ ظنه، ولا يُكلِّفُ الله نفساً إلا وُسعها.
ولا يمكن أن يكون مبتدعاً ولا قوله ببدعةٍ محرمة؛ لأنَّ لازِمَ هذا أن يكون كلُّ اجتهادٍ مختلفاً عن اجتهادي – على امتداد تاريخ الفكر الإسلامي- بدعةً محرمة، ولو كان صادراً عن مثل ما صَدَر عنه اجتهادي (أي صادراً عن الوحي والدليل ودائراً في فلكه)، ولو كان هو ما غلب على ظنِّ صاحبه .. هذا يُحيلُ كلَّ اجتهادٍ في الدين بإطلاق وتعميم ابتداعاً مذموماً محرماً، ويحيل كلَّ المجتهدين ابتداءً من الصحابة رضوان الله عليهم إلى يومنا هذا مبتدعين مذمومين .. فهل هذا حقاً يمكن أن يكون مُرادَ أيِّ دين من الأديان، فضلا عن أن يكون هو الدين “القيم”؟!
– فليست البدعة هي الإتيان برأي يَصدر عن شخص لم يحمل شهادةً شرعية رسمية؛ لأنَّ هذا “تمركزٌ حول الأشخاص” لا “حول الوحي”، وإلا فهل إذا أتى واحد من حملة هذه الشهادات بذات الرأي، هل نقول ههنا بقبوله لمجرد ذلك؟!
وهنا يثور سؤال مفصلي عن المرجعية، هل هي بذلك – حقاً وصدقاً- لله ورسوله (أي للوحي والاستناد إلى الأدلة والاحتكام إليها والصدور والانبثاق عنها والدوران في فَلَكها) أم هي بذلك للبشر والتاريخ؟!
إذاً، المناطُ أو المعيار الدقيق – في نظرنا- هو الوارد بيانُهُ في زُبَدِ القول السابقة.
– وليست البدعةُ هي الإتيان برأي جديد غير مسبوق؛ لأن هذا “تمركز حول التاريخ” لا “حول الوحي” أيضاً؛ لأن هذا يُنَحي “مركزية الدليل” (الذي تَغياه وقدَّمه واستند إليه وصَدر عنه صاحبُ هذا القول) جانباً، ويُحل “التاريخَ” محلها .. وههنا كذلك يثور سؤال مفصلي عن المرجعية، هل هي بذلك – حقاً وصدقاً- لله ورسوله (أي للوحي والدوران في فلكه) أم هي بذلك للبشر والتاريخ؟!
وماذا إذا وُجد سابقاً مَن قال بذات الرأي، أليس هو أيضاً – في زمنه الذي أبدى فيه رأيه هذا- يكون مبتدعاً بمجرد ذلك؟! وهذا يؤول مباشرةً إلى أنَّ كلَّ قولٍ قيلَ يكون ابتداعاً في أصله (إذ صاحبه لم يسبقه أحدٌ إليه، ابتداءً حتى من الصحابة رضوان الله عليهم، فمَن الذي سبقهم إلى الآراء التي أبدوها؟!)، مما يحيل تاريخ الفكر الإسلامي كله بدعةً وضلالةً مذمومةً ومحرمة.
بل إنَّ هذا – فوق ذلك- يُضَيِّقُ فعلياً بابَ الاجتهاد الذي فتحه الله مشرعاً وأمر به، إذ يَحصره في “الانتقاء” من أقوال السابقين (وكأنَّ الاجتهادَ لا يكون إلا “انتقائياً” وفقط؟!)، وهذا يستبطن “قدسيةَ أقوالهم” و”احتقارَ عقولنا”، وهو “توثين خفي” لهم يُحيلهم “المرجعيةَ الحاكمة” لنا لا الوحي، ويُحيل أمرَ اللهِ لنا بـ “التدبر” إلى الاستيداع، ويلغي تكليفَ الله تعالى لنا بتلقي خطاب الوحي وفهمه وتطبيقه، ويَلزَمُ منه القولُ بمحدودية عطاءات الوحي ونفادِ إمكانياته وإشعاعاته، إذ قد أتى الأقدمون على كلِّ ما يمكن أن يقال أو يُستنبَط، ولم يَبق لنا ولا أمامَنا إلا أن ننتقي أو نتخير من بين أقوالهم واستنباطاتهم.
إذاً، المناطُ أو المعيار الدقيق – في نظرنا- هو الوارد بيانُهُ في زُبَدِ القول السابقة، وهو ذمُّ وتحريمُ ما لا يندرج مِن المُحدَثات تحت أصل من أصول الشريعة وأدلتها، وقبول(57) كل ما له أصل مِن هذه المُحدَثات.
9/ 10- فإن قيل: اجتهادُك هذا سيؤدي إلى شيوع الأقوال الضعيفة في الأمة كلامياً وفقهياً!
قلتُ:
– أولاً: هذا لا يَلزَمني، فإن ما قَدَّمتُه مِن اجتهاد هو – عندي- صحيحٌ في نفسه، ولم أجد ما يمكن أن يُخدَشَ به، وطَعنُكَ هذا لا يتوجه إليه، وإنما إلى ما “يُحتَمَل” أن يؤول إليه الوَضع، وهو “رجم بالغيب”، وفوق ذلك هو شأنٌ “متحرك متغير” لا “معياري ثابت”، فلا يمكن له ولا لأشباهه أن يَطعن في “بِنية” ما تقدم.
– ثانياً: “الأقوال ضعيفة”، هي ضعيفةٌ مِن وجهة نظرك، ولكنها ليست كذلك من وِجهة نظر صاحبها ولا مَن اقتنع بها، وصاحبُ ما سَميتَه أنت بـ “الأقوال الضعيفة والشاذة” له ذات الحق – الذي ارتَضَيْتَه لنفسك- في أن يصف اجتهاداتِك بذات الأوصاف التي وَصفتَ بها اجتهاداته، والحقُّ أنَّ كلَّ مجتهدٍ مصيبٌ عند نفسه، فلا تتعدَّ .. وفوق ذلك، ليس لديك “بيانٌ إلهي” ولا “نشرة ربانية” حَددت وتُحَدِّدُ القَوِيَّ والضعيفَ مِن الأقوال، فإنما هي “ظنون علمية” تدور بين راجح ومرجوح، بين قويٍّ وضعيفٍ، بين قريبٍ وبعيد .. فكُن مِن هذا كله على ذِكر.
– ثالثاً: لنفترض أن الاجتهاد الفلاني ضعيفٌ في نفسه (ولا مجال لمعرفة ذلك معرفةً باتَّةً قاطعةً نهائية لا رجعة فيها إلا يومَ القيامة)، أو هو ضعيفٌ عندك وعندي، فموقفنا إزاءه هو أن نُبَيِّنَ للناس بالحجة والبرهان والحكمة، ومِن خلال النقد والجدل والنقاش والحوار العلمي، ضَعفَهَ هذا مِن وجهة نظرنا، فإذا اقتنع الناسُ بطرحنا: تجنبوه وابتعدوا عنه.
إنَّ التكليفَ فرديٌّ، والمسئوليةَ شخصيةٌ(58)، وإذا كان الناس يتفاوتون قطعاً في المعرفة الدينية، فإنَّ ذلك لا يعني أبداً (وما ينبغي له) مَنحَ المجتهدِ أو المفتي سلطةَ إلزامِ الناس باجتهاده ورأيه، أو فَرضَه على غيره، وإنما مهمتُهُ وواجبُهُ البيانُ والإرشادُ والمساعدةُ على الفهم، وَواجِبُ غيرِهِ الإدراكُ والاقتناعُ – أو عدمه- بعد التأمل والتدبر .. هذا كله مِن لوازم وتجليات مبدأي “فردية التكليف” و”شخصية المسئولية”.
وبتعبير آخَر: “آليةُ الضبط الاجتماعي”(59) هي، دون غيرها، “البوابة الشرعية” و”الكافلة” و”الضامنة” أن يبتعد جمهورُ الناس عن ما هو ضعيفٌ من وجهة نظرنا؛ فإن جماهيرهم لا تجفو عن رأي أو اجتهاد – بعد استيفاء بَيانِهِ حَقَّ البيان- إلا لـ “عدم اقتناعهم بهم” أو “عدم تحقيقه لمصالحهم الشرعية المعتبرة” .. والآراءُ والاجتهاداتُ، مثلما الأيامُ، دُوَل، فما قد يَشيع بين الناس في فترة، قد ينكمش في أخرى .. وما قد يظنون رُجحانه في زَمن، قد يَرَون مرجوحيته في غيره .. وما قد يَرَونه محققاً لمصالحهم الشرعية المعتبرة في عصر أو ظرف أو بيئة، قد يَرونه ليس كذلك في غيرها من العصور أو الظروف أو البيئات .. إلخ.
الناسُ – في جملتهم ومجموعهم- حريصون على مرضاة الله تعالى، ويبتغون وَجهه سبحانه، أصولاً وفروعاً، كلامياً وفقهياً، ويصغون بصدق إلى مَن يُقنعهم ويُرشدهم، وليس مَن يفرض نفسه وَصياً عليهم يَمنح ويَمنع، ويُفسِحُ ويَحجب، ويَأمر ويَنهى.
ثم إن المسائل التي يُحتاج مجتمعياً – مِن المنظور القانوني المعاصر- أن يسير فيها الأمرُ على وِجهَةٍ واحدةٍ ضبطاً للشأن العام، لا يقرره على الناس مجتهدٌ ولا مفتي، لا يقرره “أفراد”، وإنما هناك – في عصرنا هذا- “مسارات مؤسسية”، مَرضيةٌ مِن الأمة، ومُخَوَّلةٌ مِن قِبَلِها (وفيها أعضاءٌ مِن مختلف التخصصات الإنسانية والدينية والكونية؛ شأنَ كلِّ ما هو عام)، بتقرير هذه الأمور .. فيكون الوضعُ بالنسبة لهذه المسائل، إذا قَررت تلك المؤسسات فيها شيئاً، مُلزِماً للجميع من حيث التنفيذ (إذ حُكم الحاكِم يرفع الخلاف، وهذه “المؤسسات” هي “الحاكم” في عصرنا هذا)، مع احتفاظ كل صاحب اجتهادٍ أو رأي بممارسة حقه في عرضه وبيانه والدعوةِ إليه والدفاع عنه ونقد الآراء الأخرى بأسلوب الحوار والمناقشة الفكرية العلمية الخالصة.
وفوق ذلك كله، قد يختلف ما تقرره هذه المؤسسات ذاتها – في عين هذه المسائل- مِن ظرف لظرف، أو مِن عصر لعصر، أو نتيجةَ تَغَيُّرِ قناعات أو طُروءِ مستجدات .. إلخ.
9/ 11- ونعود فنقول: اعلم (على افتراضٍ جدلي تَنَزُّلِي: أنَّ الآخَرَ المذهبيَّ، الكلاميَّ أو الفقهيَّ، مبتدعٌ بإطلاق أو بخصوص، وأنَّ موقفه هو بدعة قطعية، لا يُحتمل أن تكون اجتهاداً، وَفقَ المضمونِ الشائع لمعنى البدعة في تراثنا الإسلامي، على اختلاف مذاهبه، والذي يتم إطلاقُهُ وتعميمُه على كل مخالِفٍ في كثيرٍ مِن المسائل الكلامية، وفي قليلٍ مِن المسائل الفقهية) أنَّ التشديد والتغليظ إنما يخص البدعةَ نفسها، والرأيَ المبتدعَ عينه، دون قائله وصاحبه، والذي هو غالباً مِن المتأولين، الذين الأصلُ فيهم الإعذارُ بالجهل أو التأويل أو الشُّبَه الصارفة عن الحق أو الصواب.
وتأوُّلُ هذا المبتدِعِ (الذي يُعذَر به عندنا في الظاهر، إذ لا سبيل إلى الاطلاع على البواطن) يستوجب أن يكون الأصلُ عدمَ التشديد عليه، بل يستوجب أن يكون إعذاره واضحاً في تعاملنا معه، مِن جهة الرفق به وعدم تنفيره بالغلظة عن الحق أو الصواب – من وِجهة نظرنا وَوَجْه إدراكنا- .
ولا يصح أن نقرر إعذاره، ثم نُغفِل تقريرنا هذا في منهج تعاملنا معه، فلا يجوز أنْ يكونَ تَلَبُّسُه ببدعة أو اثنين أو ثلاثة أو حتى ثلة مِن البدع (حتى على افتراض أنَّ ما تلبَّس به ابتداعٌ قطعي) مبيحاً لإسقاط ما فيه مِن محاسن – شخصاً كان أو توجهاً- ، ولا مبيحاً لسوء تعاملنا معه، ولا يجوز أن ننسى – فوق ذلك- أن المبتدع قد يكون مأجوراً “في” بدعته، لا “عليها”، مِن جهتين: أُولاَهما أنه اجتهد فأخطأ، وثانِيَتُهما أنَّ داعيه إلى البدعة قد يكون حُبُّ الله ورسوله: فيُؤجَر على اجتهاده وإن أخطأ، ويُؤجَر على محبته لله ورسوله وإن لم يُصِب سبيلها الذي اجتهدَ في تحريه فأخطأ.
يقول r: “لا أحدَ أَحَبُّ إليه العُذرُ مِن الله؛ ومِن أجل ذلك بَعثَ [أي: الرُّسلَ] المبشرين والمنذرين”(60).
والمتأولُ معذورٌ، وليس حُكمُه حُكمَ المعانِدِ ولا الفاجِرِ المنتَهِكِ للحُرُمات، فإنَّ اللهَ قد جَعَلَ لكل شيء قدراً، أم نكون نحن أغيرَ على دين الله مِن الله، “وليسَ أحدٌ أغيرَ مِن الله”(61)؟!
9/ 12- وخلاصة هذا، أنَّ المبتَدِعَ (سواءٌ وَفقَ تعريفنا للبدعة، أو وَفقَ المضمونِ الشائع لمعناها في تراث المسلمين): حقوقُ المسلم على المسلم تشمله، وله فيها ما لغيره مِن المسلمين، وعليه ما عليهم، فعليك أن توفيه حقه الإسلامي العام الذي أَلْزَمَ به الوحيُ كلَّ مسلم تجاه أخيه المسلم.
فلا يصح أن نمقت المبتدع، وإنما نمقت البدعة، ولا أن نَحتَقِرَه، وإنما نَحتقرها، فإذا رجع إلى الحق فَرِحنا بعودته، وإذا استمرأ البدعة:
– أشفقنا عليه
– ودَعَوْنَاه (بالحكمة والموعظة الحسنة)
– ودَعَوْنَا له (بالخير والهداية)، ودعونا لأنفُسنا بذلك معه، بل وقَبلَه.
لقد جعل الله الإيمانَ رحماً بين المؤمنين: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات 10]، فالمؤمنون على اختلاف شعوبهم وقبائلهم وديارهم وألسنتهم وألوانهم ومذاهبهم أسرةٌ واحدةٌ .. فأيما مؤمنٌ تبرأ مِن مؤمنٍ، ولو مبتدعاً أو عاصياً، كان قاطعاً لهذه الرحم الواجِبِ وَصلُها دوماً .. وتذكر قولَ الحبيب r: “لا تدابروا، وكونوا عبادَ الله إخواناً”(62).. و”المسلم أخو المسلم، لا يَظلِمه ولا يُسلِمُه”(63).. و”كلُّ المسلمِ على المسلم حرام”(64).. “لا يَحِلُّ لمسلمٍ أن يَهجُرَ أخاه فوق ثلاث ليالٍ، يلتقيان فيُعرِضُ هذا ويُعرِضُ هذا، وخيرُهما الذي يبدأ صاحبَه بالسلام”(65).
فهذه نصوصٌ – وغيرُها كثيرٌ قرآناً وسنة- صحيحةٌ صريحةٌ تُعطي المسلمَ حقوقاً تَجِبُ له على إخوانه المسلمين لمجرد الإسلام، حيث لم تُقَيِّدها النصوصُ بغير صفة الإسلام التي تضافرت على ذِكرها في جميع المواضع مُطلَقةً مِن أي قيد، فبأيِّ حُجَّةٍ تُنتَقَصُ هذه الحقوق؟!(66).
فإن أَبَيْتَ هذا، وما أراك تفعل، فـ:
– استغفِرْ له: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) [محمد 19].
– أو اعتذِرْ إلى الله مِن هفوته، كما فعل أنس بن النضر tفي أُحُد، وهو مِن حُسن فقهه، حيث قال: “اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء(67) (يعني المسلمين الذي خالفوا أمرَ رسول الله في أُحُد)، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء(68) (يعني المشركين في أُحُد)”(69).
– أو على أقصى تقدير، تَبَرَّأ إلى الله مِن الذنب أو البدعة، لِعِظَمها، ولا تتبرأ مِن صاحبها المسلم، لِحُرمَتِه .. تدبر قوله r: “اللهم إني أبرأ إليكَ مما صَنَع خالدٌ”(70)؛ فتبرأ (ص) مِن “العمل” الذي “صنعه” خالد، ولم يتبرأ مِن “شخصِ” خالد (رض)(71).
أرأيتَ إنْ أَلْممتَ بذنب عظيم، أو كبيرة، أو أتيتَ ببدعة، أَتَرْضَى أن ينفضَّ مِن حولك الناسُ، ويتبرؤون مِن صلتهم بك، ويُلحِقونَ بك الأذى، فيكونون بذلك عوناً للشيطان عليكَ؟! .. أم تُحب أن تمتد إليك أياديهم بالإحاطة والعون والنُصح والتسديد والمؤازرة، فينتشلونك مما وقعتَ فيه، ويكونون بذلك عوناً لك على الشيطان؟ .. اختر لنفسك، وتذكر أنه “لا يؤمن أحدكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه”(72).
وقد اُتِيَ للنبي rبرجل قد شرب الخمر، فأَمرَ بضربه، فضُرب، فلما انصرف قال بعضُ القوم: “أخزاكَ الله”، فقال r: “لا تقولوا هكذا؛ لا تعينوا عليه الشيطان”(73).
وقد كان رجلٌ على عهد رسول الله r، كان اسمه “عبد الله”، وكان يُلَقَّبُ “حِماراً”، وكان يُضحِكُ رسول الله(74)، وكان النبي rقد جَلَده لشُربه الخمر، فقال رجل من القوم: “اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتَى به”. فقال r: “لا تلعنوه، فوالله ما علمتُ إلا أنه يُحبُّ اللهَ ورسولَه”(75) .
أرأيتَ مواقف رسول الله rمِن شاربي أمِّ الخبائث، بل والمُكثرين منها، فما بالُكَ بما هو أقل مِن أم الخبائث(76)؟!
أَمَرَ rبضرب شاربي أمِّ الخبائث، ولكنه لم يَرْض بإيذاهم حتى بمجرد القول بعد ما طَبَّقَ عليهم القانون(77)، ولم يُخرجهم مِن نطاق المؤمنين، بل أثبتَ وثَبَّت حُرمتهم، ونَهى الناسَ أن يفتحوا ثُغرةً للشيطان إلى قلوبهم.
فلا يُذهِلَنَّكَ “شراسةُ طبعٍ” أو “ضيقُ صدرٍ” عن “سَعة فضل الله” على خَلقه و”عظيمِ رحمته” بهم .. وتذكر أنَّ صحابةَ رسول الله rموصوفون في كتاب الله بأنهم: (رُحَمَاء بَيْنَهُمْ) [الفتح 29].
المسلمُ الحقُّ: طبيبٌ يأسو الجراحَ، ويرحم الضعاف، ويُرشد الحيارى، ويتلطف مع الشاردين حتى يَثوبَ بهم إلى طريق الله.
10- كان ههنا، في هذا الموضع مِن الدراسة، وكما سبق أن أشرنا، طرح عن “حديث الافتراق” ومسألة “الفرقة الناجية”، وما يدور في فلك هذا الموضوع؛ لارتباطه الوثيق بما سبق .. ولكنْ لَمَّا طالَ منا البحثُ في الأمر وتَشعَّب، وجدتُّ مِن الأنسب أن يُفصَلَ: “مبحثاً” و”دراسةً” قائمةً بذاتها، تحت عنوان: حديث الافتراق والفرقة الناجية – رؤية إسلامية جديدة.
11- وبهذا الذي سبق من الفقرة رقم (1) إلى الفقرة رقم (9)، وبنتيجة الفقرة رقم (10) التي تجدها في المبحث المُشار إليه عند نشره إن شاء الله، يتقرر عندي باطمئنان: أنَّ الشيعة الإمامية الجعفرية، في المجمل، كلامياً وفقهياً، ليسوا كفرةً، ولا مبتدعةً فسقةً ضالين، وإنما هم مجتهدون يصيبون ويخطئون(78)، وحالُهم دائرٌ إجمالاً بين الأجر والأجرين، شأنُهم شأنُ سائرِ مجتهدي المسلمين في كل زمان ومكان، ومِن أي مدرسةٍ أو مذهب كلامي أو فقهي إسلامي كانوا هم.
12- وأما بخصوص الاعتراضات الشهيرة، التي قد تَرِد على هذا البحث، مِن قبيل أنَّ الشيعة الإمامية الجعفرية الإثني عشرية يقولون بتحريف القرآن الكريم (.. إلخ من مقولات واعتراضات)، فقد تكفلت عدة دراسات رصينة، شيعيةٍ وسنيةٍ، مختصرةٍ ومطولةٍ، ببيان حقيقتها(79).
وأما “القدحُ في مذهبهم” من خلال التركيز على “المواقف السياسية” لإيران (سواءٌ اختلفنا مع هذه السياسات أو لا)، فلا علاقة له بالمنهج العلمي في البحث؛ لأنَّ فيه تعمدَ تشويهِ “مذهبٍ أو مدرسةٍ فكرية”، والقدحِ فيها، مِن خلال “المواقف السياسية” لبعض المنتسبين إليها، وهذا نَهْجٌ غيرُ علميٍ ولا مستقيم؛ لأنَّ فيه أخذاً للمذاهب بجريرة سياسات بعض أتباعها، والحقُّ أنَّ الجهةَ مُنفَكَّةٌ بين الأمرين؛ إذ ليس هناك “ارتباط ميكانيكي” بينهما.
وإذا كُنا، نحن المسلمين، قد مَيَّزنا، في صراعنا مع العدو الإسرائيلي، بين “الصهيونية” (كتوجه سياسي إمبريالي احتلالي استيطاني) و”اليهودية” (كديانة)، فأولى بنا أن ننهجَ ذات النهج، بالتمييز بين “المواقف السياسية لبعض المسلمين، سنُةً كانوا أو شيعة” و”مدارسهم ومذاهبهم الفكرية، الكلامية أو الفقهية”، أليس كذلك؟!
13- وختاماً: بمِثل هذه المنهجية، والجرأة العلمية، التي سارت عليها هذه الدراسة، نرجو أن يتقدم المجتهدون والمجددون، من المستقلين والمذهبيين، من المدارس السنية والشيعية وغيرها، بدراسات مماثلة، تُناظِر وتَفُوق هذه الدراسة، فبغير المنهجية، وبغير الجُرأة العلمية، والوضوحِ والصراحة والمصارحة، لن نستطيع إعادة الألفة والائتلاف إلى بيئة المسلمين ومجتمعاتهم وحَرَكتهم البَيْنِيَّةِ في الحياة.
والله أعلى وأعلم
* * *
الهوامش
(1) انظر وقارن بـ: السيل الجرار، الشوكاني، (4/ 480). وإرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، الشوكاني، (2/ 741، 742). وإيثار الحق على الخَلق، ابن الوزير، (ص 392). وجدد حياتك، محمد الغزالي، (ص 6، 8، 154، 155، 156، 157). والإيمان والحياة، د. يوسف القرضاوي، (ص 350). والإسلام عقيدة وشريعة، محمود شلتوت، (ص 37). وموقف الإسلام العقدي من كفر اليهود والنصارى، د. يوسف القرضاوي، (ص 7- 8). والأعمال الكاملة لمحمد عبده، (3/ 304). وظاهرة الغلو في التكفير، د. يوسف القرضاوي، (31- 32، 37، 40، 42، 68، 46، وإجمالاً: 31- 73). والحُكم بغير ما انزل الله وأصولُ التكفير في ضوء القرآن والسنة وأقوال سلف الأمة، خالد علي محمد العنبري، (61، 22، وإجمالاً: 22- 58). وفتاوى معاصرة، د. يوسف القرضاوي، (4/ 231، 233). والمختار من كنوز السنة النبوية – شرح أربعين حديثاً في أصول الدين، د. محمد عبد الله دراز، (ص 77، 276- 277). والرد على البَكري، ابن تيمية، (2/ 492). ومنهاج السنة النبوية، ابن تيمية، (5/ 56، 169، 239- 240). ومجموع الفتاوى، ابن تيمية، (3/ 282- 283، 12/ 180، 23/ 346، 1/ 258، 3/ 231، 20/ 165- 166). والإسلام والتعددية – الاختلاف والتنوع في إطار الوَحدة، د. محمد عمارة، (ص 150). وأضواء على حديث افتراق الأمة، د. عبد الله الجديع، (ص 82- 83). وفي فقه الاجتهاد والتجديد، د. يحيى جاد، (ص 142، 148- 150). والجرح والتعديل، جمال الدين القاسمي، (ص 4، 10- 11، 5، 12، 26، 16). وتاريخ الجهمية والمعتزلة، جمال الدين القاسمي، (ص 102، 103). والموسيقى والغناء في ميزان الإسلام، عبد الله الجديع، (ص 284). والحرية الدينية في الإسلام، د. عبد المتعال الصعيدي، (ص 63- 64). والإحكام في أصول الأحكام، ابن حزم، (6/ 78، 79، 154- 157، 159، 163). والتعامل مع المبتدع بين رد بدعته ومراعاة حقوق إسلامه، د. حاتم عارف العوني، (ص 10- 11، 17). وقضية التكفير في الفكر الإسلامي، د. محمد المسير، (ص 59). والنهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير، (1/ 318- 319). والمعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، (1/ 166). ودستور الوَحدة الثقافية بين المسلمين، محمد الغزالي، (ص 170).
(2) أدلة هذا مِن الثبوت اليقيني والشهُرة والذيوع ما لا يُحتاجُ معه إلى ذِكرِها.
(3) نفس الهامش السابق.
(4) نفس الهامش قبل السابق.
(5) سيأتي لذلك مزيدُ تأصيلٍ وبيانٍ في مبحث “حديث الافتراق – روايةً ودرايةً”، فانظره مشكوراً.
(6) أي: وأنتم حاضِرون لهذه الآيات، عالِمُون بها.
(7) أي: وجحدوا بها ظلماً وعلواً بعد أن استيقنتها أنفُسُهم.
(8) أي: فاليومَ ننساهم؛ كما نسوا لقاءَ يومهم هذا، وكما كانوا بآياتنا يجحدون.
(9) تدبر قوله تعالى: “والذين كفروا فتَعْساً لهم وأضلَّ أعمالَهم؛ ذلك بأنهم كَرِهوا ما أنزلَ اللهُ فأحبط أعمالهم” [محمد 8- 9].
(10) نعم، كلُّ ما يخالِفُ الإسلامَ الذي جاء به رسولُ الله (ص) فهو كفرٌ وضلالٌ وغَي، ولكنَّ معتنقي ما يخالف هذا الإسلام:
– منهم مَن يعلم أنه في كفر وضلالٍ ويُصِرُّ عليه، وقد أعلن عن ذلك.
فهذا هو الكافر في الدنيا والآخرة.
– ومنهم مَن يعلم أنه في كفر وضلالٍ ويُصِرُّ عليه، ولكنه يُسِرُّ بهذا، ولا يُظهر إلا الإسلام.
وهذا مسلم في الدنيا، وكافر في الآخرة.
– ومِنهم مَن هو جاهل لم يعرف الحق، أو لم يَهتدِ إليه، أو لو يَجِد إليه وسيلةً، أو لم يترجح جانبُ الحق لديه بعد الفحص والبحث والدراسة والمقارنة والتدبر قَدرَ طاقَتِهِ.
وهذا كافرٌ في الدنيا، وعلى ذلك تجري بيننا وبينه التعاملات التي يُتطلب فيها توافرُ وصفِ الإسلام وانتفاءُ وصفِ الكفر، فلا يُطالَب بما فرضه الله على المسلمين من شعائر وعبادات وتكاليف، ولا يُمنع مما حرمه الإسلام، ولا يُغَسِّله المسلمون ولا يُصَلون عليه.
ولكنه – فيما نرى- ليس بكافرٍ مُستحقٍّ للنار في الآخرة بمجرد ذلك، وإنما مَصيره، إن مات على ما هو عليه، يتحدد يومَ القيامة بين يدي الله جل وعلا، هل يَقبَل ما يَعرِضُه اللهُ عليه من الحق أم يَرفضه ويَكفُرُه؟
* وبعبارة أخرى: كلُّ مَن بَذل الوُسع واستَفرغ الجهد في طلب الحق، ولم يُقَصِّر في طلب التمييز بينه وبين الباطل، مِن المسلمين كان أو مِن غير المسلمين، ثم أخطأ الوصولَ غيرَ معانِدٍ ولا جاحِدٍ ولا مُكابِر: كان معذوراً غيرَ مُعاقَب؛ لأنه لو كُلِّفَ وعوقِبَ بعد استفراغه غايةَ الوُسع والجهد: لَزمَ تكليفه بما لا يطاق (وهذا باطل)، بل هو فوقَ ذلك مأجورٌ أجراً واحداً هو أجرُ السعي والكد والبحث والمثابرة والاجتهاد.
فليس كلُّ أحدٍ يصيرُ كافراً مِن أهل النار بمجرد اعتقادِهِ بدين أو بقول كُفري، فقد يكون الدين/ القولُ كفراً لا شكَّ فيه، ولكنَّ مُعتقِدَه قد لا يكون كافراً، بل ولا فاسقاً، بل ولا عاصياً (استحضر المثال السابق ذِكره قبل قليل).
* ثم إنَّ “كتلاً كثيفةً من البشر” لا تزال بعيدةً عن الإسلام؛ لأنها تجهل تعاليمه جهلا مُطبقاً، لأن رسالتَه لم تُعرَض عليهم عرضاً يُغري بقبولها والدخولِ فيها، ومِن ثم فهي لا تطلب إلى الإسلام سبيلاً ولا تحاول أن تلتمس منه نوراً، أفيكون هؤلاء من أهل النار يومَ القيامة؟!
* وما بالُكَ بـ “ألوفٍ” مؤمنةٍ بوجود الله وعظمته وتعاليه، ومؤمنةٍ بأن موسى وعيسى مِن أنبل وأطهر البشر، وأما ما عدا ذلك – مما هو سائد في بيئاتهم وأوساطهم- فلديهم صدودٌ عن قبوله كما يُصَدُّ المرءُ عن الطعام الخبيث .. وهؤلاء الألوف، بهذه المواقف، أقرب إلى الإسلام منهم إلى أي دين آخَر .. أفيكون هؤلاء من أهل النار يومَ القيامة؟!
إنَّ كثيراً من الألوف التي وَهَت صِلتُها بالدين في كثير من أقطار الارض، وتجهمت للبِيَع والكنائس والمعابد، ليست كافرةً بالله، ولا خارجةً عن سنن الفطرة ما دامت تتجه إليه وَفقَ فهمها البسيط الذي يَعافُ ما حوله – في الميدان الديني- من مشكلات واعتياصات .. إنها تَوَدُّ مِن أعماقها لو توثَّقت صِلَتُها بالله عن طريقٍ صحيحةٍ تَشعُرُ فيها بالراحة والقرار.
* وما بالُك، فوق هذا وذاك، برجال، من هذه “الكُتَل البشرية” وهذه “الألوف”، من ذوي الفِطَر النقية التي لا تَضِلُّ في معرفة الله وما يجب له وما يجب على الناس أن يصنعوه كي يَحيَوْا على أرضه أبراراً أتقياء .. أيكون هؤلاء أيضاً من أهل النار يومَ القيامة؟!
* وفوق هذا كله، هناك فارق كبير بين “الإيمان بالله كما وَقَر في صدور وعقول لفيفٍ ضخم من المفكرين والعلماء والعظماء على امتداد تاريخ البشرية وحتى يومنا هذا” و”الانتساب إلى دين من الأديان المعروفة في أفريقيا وآسيا وأوربا والأمريكتين”؛ لأنَّ التفكيرَ السليم والعقلَ الصحيحَ والعلمَ الصريح، بمجردهم، قد هَدَوْا ألوفاً من هؤلاء العلماء والمفكرين والعظماء والقادة والساسة إلى الله، وأوقفوهم أمام قدرته سبحانه مبهورين.
بَيْدَ أنهم توقفوا بعد ذلك عن سلوك أي طريقٍ – من الطرق التي انطرحت أمامهم واستبانت لهم- لطلب المزيد من معرفة الله؛ فإن هذه العقول الكبيرة، إن كانوا هوداً أو نصارى أو بوذاً أو سيخاً أو غير ذلك، لن يجدوا في بِيَعهم ولا في كنائسهم ولا في معابدهم ولا في كتبهم وصحائفهم ما يُغري بتزيُّدٍ من علوم الدين ولا بمزيدِ تقربٍ إلى الله؛ فإن ومضات عقولهم ونقاءَ فطرتهم قد أبان لهم جوانب من جلال الإله المُبدع للوجود، فلِمَ يَزُجُّون أنفُسَهم في مشكلات واعتياصات لا تُسيغها العقولُ السليمة ولا تقبلها الفِطَر القويمة، مِن تقديس البقر، أو مِن إله متجسد في تمثال أو في شخص، أو مِن إله “واحدٍ” مكونٍ من “ثلاثة” .. إلخ؟!
إذاً، لِيَقفوا عند ما عرفوا وتيقنوا، وَلْيُنشِئوا حياتَهم على ما يطمئنون إلى صحته من تجارب وأفكار، بعيداً عن الكُهَّان والرُّهبان وسدنة المعابد .. أفيكون هؤلاء من أهل النار يومَ القيامة؟!
إنَّ هؤلاء الأعلام والمشاهير والعظماء لم يكفروا بدين الله الحق، وإنما كفروا بالتحريفات التي شوهت الدينَ ومَسَخته .. فآمنوا بما دَلَّتهم عليه ورَضِيَت عنه فِطَرهم السليمة وعقولهم المستقيمة، وإن لم تَرْضَ عنه بِيَع اليهود أو كنائس النصارى أو معابد السيخ والبوذ .. ولو أتيح لهؤلاء أن يعرفوا – بحق- الإسلامَ على بصيرةٍ: لأيقنت فِطَرهم السليمة وعقولهم المستقيمة أنه الدين الحق والصراط المستقيم.
وبعبارة أخرى: لقد بحثوا عن الحق، فوجدوا اللهَ، فمَدُّوا حبالهم إليه سبحانه، ولم يَرَوا في غيره إلا بشراً مثلهم، لا إلهاً متجسداً، ولا ابنَ إلهٍ، ولا صنماً وثنياً .. وبذلك تأسس لهم إيمانٌ صحيحٌ – وإن يَكُ محدوداً- بعيداً عن الكهانات وطقوسها وتعاويذها وأصنامها وتماثيلها .. وهذا الإيمان لا يُسمَّى “إلحاداً” ولا “كُفراً يستحق صاحبه النارَ يومَ القيامة”، وإنْ لم يَدِن صاحبه بالتوراة أو الإنجيل أو القرآن؛ لأنه يَجهل الأخيرَ أو يَعرفه على غير وَجهه، ولأنَّ الأَوَّلَيْن – بما هما عليه من تعاليمَ معروفةٍ اليومَ- لا ينسجمان مع الفطرة والعقلية البشرية.
* بل إنَّ استقصاءَ حَيَوات وسِيَر كثيرٍ من هؤلاء الأعلام والمشاهير والعظماء يشير، صراحةً أو ضمناً، إلى أنَّ في صدورهم إيماناً حسناً، وأنَّ معرفتهم بالله تَجري في نسقٍ أرحبَ مِن ضيق اليهودية وأسهلَ من تعقيدِ النصرانية وأدنى إلى سماحة الإسلام وبساطته (= فطريته).
نعم، إنَّ قطاعاً منهم مع ذلك يكرهون الإسلام والمسلمين معاً، ولكنَّ كثيراً مِن هؤلاء الكارهين معذورٌ:
– فأهلُ الإسلامِ حجابٌ غليظٌ دون تعاليمه؛ فتقهقرُهُم العامُّ البالغُ في ميادين الحياة، وفي اختبارات الأخلاق، وفي حوارات العقل: يَصُدُّ الناسَ عن إحسان الظن بالإسلام نفسه.
– ورسالةُ محمد rذاتُها لم تُعرَض عرضاً يُرِي الناسَ جواهرها ودُررها.
– فضلاً عن الصورة الذهنية التاريخية المقززة الشائعة و/ أو الراسخة في عقول وثقافة وبيئة بعض أقطار الأرض عن هذه الرسالة.
– فضلاً عن الجهود المؤسسية (الفكرية والإعلامية) الجبارة الجارية، في كثيرٍ من بقاع الأرض، لطمس معالم هذه الرسالة وتشويهها وتخويف الناس منها؛ لتحقيق أغراضٍ شتى، منها الحفاظ على الهيلمان والأبهة الدينية الكهنوتية، ومنها انتهاجُ السياسة الميكافيللية (أي السياسة المنفصلة عن القيمة المتجاوِزة والأخلاق السامية) في ميدان التنافس الديني، ومنها تحجيمُ الرسالة القادرةِ – دون غيرها، إن أُحسن فِقهُها- على مقاومة نزعات ونزغات وشهوات التأله والسيطرة والهيمنة السياسية والاقتصادية والعسكرية، والمستعصيةِ – دون غيرها- على التطويع والتدجين والعلمنة .. إلخ.
نعم، كثيرٌ منهم معذورٌ كما قلنا؛ للأسباب السابِقِ بيانُها؛ لأن العدلَ الإلهي (فما بالُكَ بالرحمة الإلهية؟!) إنما يتجلى في محاسبة كلِّ فردٍ تبعاً لمُكنَتِهِ وقدراته وجُهده، وتبعاً لظروفه التي أحاطت به وأوجده الله فيها. ولهذا:
– تَفَرَّدَ الله سبحانه بالحساب في الآخرة (إذ هو الوحيدُ العالِم، تفصيلاً وبإطلاق وبيقين، بمختلف هذه الأوجه، وهو الوحيد المتنزه، بإطلاق، عن الظُّلم).
– وكان الحسابُ فردياً (لاختلاف أوضاع كلِّ شخص عن غيره بإطلاق، إذ ليس بين البشر اثنان متطابقان).
* وخلاصة جميع ما سبق: أنَّ الحكم بكفرِ شخصٍ عند الله، واستحقاقِه النارَ يومَ القيامةِ، أياً كان اعتقادُ هذا الشخص، بعد أن أنزل الله رسالةَ الإسلام، يتوقف على أمرِ إنكاره للإسلام بعد أن بلغه على وجهه الصحيح، واقتنع به فيما بينه وبين نفسِهِ، ولكنه أبى أن يعتنقه ويشهد به عناداً واستكباراً، أو طمعاً في مالٍ أو جاهٍ زائلَيْن، أو خوفاً من لومٍ فاسدٍ .. إلخ.
فإذا لم يبلغه الإسلام، فلا يكون مستحقاً للنار.
وإذا بَلَغه بصورةٍ منفرةٍ، فلم يؤمن به، فلا يكون مستحقاً للنار.
وإذا بلغه بصورةٍ صحيحة، فظل ينظر ويبحث ويفكر طلباً للحق، حتى أدركه الموت في أثناء نظره، فلا يكون مستحقاً للنار.
وإذا بلغه بصورةٍ صحيحة، ولكنه لم يُوَفَّق إليه بعد النظر والبحث (أي لم يَفقَه حُجةَ الإسلامِ مع اجتهاده في بحثها وإخلاصه في طلب الحق)، بل انتهى نظره إلى غيره، فاستقر عليه إلى أن أدركه الموت، فلا يكون مستحقاً للنار.
والمسألة برمتها تستوجب بسطاً أوسع، نرجو أن نقوم به في قابل الأيام بعون الله، لأن المقام لا يسمح به ولا يتطلبه. والله أعلى وأعلم.
(11) منهاج السنة النبوية، ابن تيمية، (5/ 171- 172).
(12) درء تعارض العقل والنقل، ابن تيمية، (1/ 140).
(13) الإيمان الأوسط، ابن تيمية، (1/ 149).
(14) الأعمال الكاملة لمحمد عبده، (3/ 496- 497).
(15) تأمل تعبير الحق جل في علاه: “إنَّ الذين كفروا .. على أبصارهم غشاوة” [البقرة 6، 7].
(16) في النفس ميلٌ إلى إفراد “مسألة التكفير” بكتاب خاص، لدقتها وأهميتها، نسأله سبحانه العونَ والتوفيق. ونظن أنَّ في ما ورد على امتداد صفحات دراستنا هذه ما يكفي، ولو مبدئياً وجزئياً.
(17) أخرجه مسلم (126) والترمذي (2992).
(18) سيأتي لهذا مزيدُ تأصيلٍ وتفصيلٍ وبيانٍ فيما بعد بإذن الله.
ولا تنس – كما سبق أن نَبَّهتُ- أن تستحضر وتربط دوماً بين ما ورد في الفصل الأول وما يأتي من موضوعات على امتداد هذه الدراسة، فكلٌّ يُكَمِّلُ ويتمم بعضُهُ بعضاً.
(19) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، (7/ 357).
(20) منهاج السنة النبوية، ابن تيمية، (5/ 171).
(21) أخرجه البخاري (7067، 3291، 6116) ومسلم (2756).
(22) يقول ابن تيمية بالنص: “هذا الذي عليه أصحاب رسول الله rوجماهير أئمة الإسلام”.
ويقول أيضاً: “ولم يفرق أحد مِن السلف ولا الأئمة بين أصولٍ وفروعٍ .. ولم يقل أحدٌ مِن السلف والصحابة والتابعين إنَّ المجتهدَ الذي استفرغ وُسعَه في طلب الحق يأثم، لا في الأصول ولا في الفروع .. وحَكَوا عن عبيد الله العنبري أنه قال: كلُّ مجتهدٍ مصيبٌ، ومُرادُه أنه لا يَأثَم، وهذا قولُ عامةِ الأئمة كأبي حنيفة والشافعي وغيرهم”. مجموع الفتاوى، ابن تيمية، (20/ 165).
ويقول أيضاً: “هذا قول السلف وأئمة الفتوى كأبي حنيفة والشافعي والثوري وداود بن علي وغيرهم، لا يُؤَثِّمُونَ مجتهداً مخطئاً في المسائل الأصولية ولا في الفرعية، كما ذكر ذلك عنهم ابن حزم وغيره. وقالوا: هذا هو القولُ المعروفُ عن الصحابةِ والتابعين وأئمة الدين: أنهم لا يُكَفرون ولا يُفَسقون ولا يُؤَثمون أحداً مِن المجتهدين المُخطِئين لا في مسائلَ عمليةٍ [أي فقهيةٍ] ولا علميةٍ [أي كلامية عقدية]، قالوا: والفرقُ بين مسائل الفروع والأصول [أي في مدى إباحةِ وحظرِ الاجتهاد فيها، ومدى تأثيمِ المجتهدِ المُخطئِ فيها مِن عدمِه] إنما هو مِن أقوال أهل البدع”. مجموع الفتاوى، ابن تيمية، (19/ 207).
وإنما ذكرتُ هذه النصوص التَّيْمِيَّةَ الآن؛ ليتضح بها “مستوى الانحطاط والتدني والتَّدَسِّي” – والانحطاطُ لا قاع له- الذي يمارسه بعض أهل السجال مِن الشيعة مع أهل السنة، ويَخُصُّون ابن تيمية (الذي أختلف معه في بعض آرائه ومواقفه واجتهاداته، مع اعترافي بإمامته وفضله، وتقديري لعلمه وخُلُقه، شأنَ موقفنا من جميع الأئمة والأعلام قديماً وحديثاً، فكلٌّ يؤخَذ مِن قوله ويُترك إلا الحبيب المصطفى)، بالحق والباطل، بكَمٍّ مِن “الحِقد الأسود” الذي يكفي لإذابة الثلج المتراكم على رؤوس الجبال !
وسوف نضع بين أيدي قرائنا الفضلاء – في الملاحق- شيئاً ضئيلاً مما جاء في بعض كتبه، ليتجلى به حقيقة موقفه من الشيعة الإمامية.
وعلى الجانب السني، تجد بعضَ أهل السجال منهم يخصُّ بعضَ فضلاء علماء ومجتهدي وأئمة الشيعة بمثل “الحقد الأسود” الذي صَبَّه البعضُ على رأس ابن تيمية. اللهم إنا نعوذ بك مِن سَفَه الأحلام وطَيْش الأقلام !
(23) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، (3/ 229).
(24) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، (29/ 44، 43).
(25) المسائل والأجوبة وفيه جوابُ سؤال أهل الرحبة، ابن تيمية، (ص 125).
(26) أخرجه مسلم (125، 126) والترمذي (2992).
(27) أخرجه البخاري (7352) ومسلم (1716).
(28) حديثُ: إذا اجتهد الحاكم. أخرجه البخاري (7352) ومسلم (1716).
(29) فتاوى معاصرة، د. يوسف القرضاوي، (4/ 232- 233، 236).
(30) وسواءٌ – عندنا- ما ادُّعِيَ فيه الإجماع الكلامي أو الفقهي، وما لم يُدَّعَ. راجع رأينا في الإجماع في: في فقه الاجتهاد والتجديد، يحيى جاد، (ص 145- 152).
(31) الإحكام في أصول الأحكام، ابن حزم، (4/ 235، 236).
(32) أو “لا يَكفُرُ ولا يَفسُقُ”؛ إذ كلاهما صحيحٌ لغةً ومعنىً، وكلاهما يحتمله سياق كلام ابن حزم.
(33) الفِصَل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم، (3/ 138).
(34) المحلى، ابن حزم، (1/ 69).
(35) رسائل ابن حزم، جمع وتحقيق د. إحسان عباس، (3/ 210).
(36) الإحكام في أصول الأحكام، ابن حزم، (6/ 165).
(37) قلتُ (يحيى): لاحظ – وهي ملحوظة عابرة- أنَّ كثيراً مِن المسلمين في عصرنا يُطلق على ما سبق مِن عصور: “عهدَ السلف”، وخاصةً القرون الثلاثة الأولى (مع العلم أنه لم يَرِد بذلك نصٌّ)، بينما الشافعيُّ نفسُه يُطلِق على ما سبقه وتقادَمَه بكثير: “عهدَ السلف”، ويقول عما لَحِقهم مِن عصورٍ قبلَ وجودِهِ شخصياً: “وبعدَهم إلى اليوم”، فالشافعي ههنا لا يعتبر العصر السابق عليه مباشرةً مِن “عهدِ السلف”.
(38) الأم، الشافعي، (6/ 222).
(39) قلتُ (يحيى): والعدالة: صفةٌ في النفس راسخةٌ، تَحمل صاحبَها على ملازمة التقوى والمروءة.
(40) قلتُ (يحيى): أي أنَّ الاجتهادَ ههنا قد صدر عن أعلامٍ مفتين مؤهلين للاجتهاد والحديث في مثل هذه المسائل، مُستفرغين وُسعَهم فيها، وإلا لم يكن يصح وَصفُهُم بـ “المفتين” ولا بـ “الأعلام”.
(41) قلتُ (يحيى): وهو كذلك عندي.
(42) الأم، الشافعي، (6/ 222- 223).
(43) السنن الكبرى، البيهقي، (10/ 209).
(44) أخرجه البخاري (2697) ومسلم (1718) وأبو داوود (4606) وابن ماجه (14).
(45) هذا واضحٌ لا يحتاج إلى تقرير ولا بيان. ولِمَن شاء مزيدَ توسع، يمكن أن يتأمل ويتدبر الآتي:
– عن أنس tأنَّ اليهودَ قالوا عن رسول الله r- ضِمنَ سياقٍ عن المرأة والمحيض والطهارة-: “ما يريد هذا الرجل أن يَدَعَ مِن أمرنا شيئاً (أي مِن أمر طقوسهم وتعاليمهم الدينية التي ينسبونها لشريعة موسى) إلا خَالَفَنَا فيه”. أخرجه مسلم (302) وأبو داوود (258، 2165).
– وعن أنس tأنَّ رسول الله rقال: “إن كان شيئاً من أمر دنياكم فشأنَكم به، وإن كان شيئاً مِن أمور دينكم فإليَّ”. أخرجه ابن ماجة (2471) وصححه الألباني. وانظر: مسلم (2363) وأحمد (24964).
– وعن أبي قتادة tأنَّ رسول الله rقال: “إن كان أمر دنياكم فشأنُكُم، وإن كان أمرَ دينكم فإليَّ”. أخرجه أحمد (12566) وصححه الألباني في الصحيحة (2225). وانظر: مسلم (681) وأحمد (24964).
(46) بضم الهاء وفتح الدال، وكذلك بفتح الهاء وتسكين الدال، كلاهما صحيحٌ لغةً، وحَسَنٌ معنىً.
(47) أخرجه مسلم (867) وابن ماجه (45).
(48) مِن المبالَغَة؛ أي بالَغَ فيها – ههنا- بالإنذار والتخويف؛ بدليل أنه قد “وَجِلَت منها القلوب”.
(49) أي خَافَت.
(50) أخرجه أحمد – في مسند الشاميين مِن مسنده- وأبو داوود (4607) والترمذي (2676) وابن ماجه (42)، وصححه الألباني.
(51) المقصود بالسمع والطاعة في هذا الحديث: الالتزامُ بالنظام العام الذي أقامه الناس، واحترامُ السلطات والمؤسسات والشرعيات الآتية برغبة الناس، بدليل “وإن كان عبداً حبشياً”؛ فالتوصيةُ ههنا تستهدف التأكيد على أهمية عدم “التمرد” على النظام العام، ذلك التمردُ الشائعُ أيامَها بين القبائلِ العربية عامةً، والبدوِ خاصةً (وهي إحدى سنن الاجتماع الجاهلي والصحراوي)، فأراد rأن يكبح جِماحَ هذا “الشرود” غير الحضاري ولا المدني ولا المؤسسي ولا النظامي؛ لِيَحفَظَ كيان الدولة ويحميها ويحمي أهلها من التفتت والتشرذم والصراع، خاصةً بعد أن وضع لبناتها النورانية في المدينة المنورة.
(52) أي سُنَّة النبي والخلفاء في إدارة الأمور، بتحري ما يُرضي اللهَ، ويُشيعُ العدلَ، وبالتزام الشورى .. إلخ، ولذلك وَصَفَ الخلفاءَ – الذين أوصانا بِسُنَّتِهِم (أي طريقَتِهِم) تَمَسُّكاً وعَضَّاً- بـ “الراشدين المهديين”، فهو اشتراطٌ للرشد والهُدى، وفوق ذلك هو قرينة أخرى – مع القرينة الواردة في الهامش السابق- على أن السنة في حق النبي والخلفاء ههنا مقصودٌ بها ما بيناه.
فليس الحديثُ، كما يشيع البعض، يُوجِبُ اتباعَ آراءِ واجتهادات الخلفاء الراشدين الأربعة المشهورين؛ لأمورٍ:
* أولُها: ما سبق بيانه قبل أسطر، في هذا الهامش، وفي الهامش الذي قبلَه.
* وثانيها: أنّ توصيةَ النبي (ص) التمسكَ بسنتهم إنما هو مِن قِبَلِ كونِهم الحُكَّامَ وأولياءَ الأمور (كما يدل عليه السياق الذي وضحناه في شرحنا في الهامش السابق- وكما يدل عليه الترتيب والتعقيب الذي يفيده حرفُ “الفاء” في قوله (ص): “فعليكم”) .. فقولُ أولياء الأمور (إن كانوا راشدين مهديين، وإن كانت أقوالهم وأمورهم راشدةً مهديةً) واجبُ الطاعة على الناس (بِحُكم تخويلِ الناس إياهم حقَّ الفصل فيها)؛ إذ حُكم الحاكِمِ يَرفع الخلاف.
وليس في هذا أنَّ قولَ الواحد منهم، أو قولَ جماعتهم، في مسألة اجتهاديةٍ، يُعتَبَرُ حُجَّةً في الدين على عباد الله، ولا شيءَ أبلغُ دلالةً على ذلك – بالإضافة إلى ما سبق- مِن وقوعِ الاختلاف بين الراشدين الأربعة أنفسهم؛ فليس كلُّ ما قضى به أبو بكر قضى به عمر، ولا كلُّ ما قضى به عمر جَرى عليه عثمان أو علي، ولا كل ما قضى به عمر ثبت عليه طيلةَ حياته .. كما أنه ليس كلُّ ما اجتهدوا فيه أو أفتوا به وافَقَهم عليه ابن مسعود أو ابن عباس أو ابن عمر، سواءٌ في حياة النبي rأو بعد مماته (ولم نر إنكاراً من الراشدين الأربعة، ولا مِن غيرِهِم، على مَن اختلف معهم؛ لمجرد أنَّ رأيَه قد غايَر رأيَهم. وهذا يؤكد أنهم أنفُسَهم لم يعتقدوا في أعيانِهِم ما يشيعه البعض من فهمٍ مغلوطٍ – عندنا- لهذا الحديث).
ولو كان حديثُ الرسول (ص) هذا يعني أن أقوالهم الاجتهادية دِينٌ للأمة مِن بعدِهم:
– لكان هذا مِن نسبة التناقُضِ في الدين (لوقوع الاختلاف بينهم في أعيان كثير من المسائل، ولعدم إنكارهم على مَن اختلف معهم لمجرد ذلك).
– ولأرشدَ إلى ذلك رسولُ الله rبصريح العبارة ولأكَّدَ عليه وكَرَّرَه تكراراً (أليس يُزعَمُ أنه من صميم الدين؟! وما كان كذلك حقاً، وَجَبت فيه الصراحة الصريحة، والتأكيد، والتكرار)، وهيهات !
– ولكان إلباساً للاجتهادات البشرية – مهما عَظُمَت أقدارُ أصحابِها- ثوبَ الكهنوت.
وثلاثَتُها أمورٌ معلومةُ البطلان، فَوَجبَ أن يُحمَلَ الحديثُ على أحسن محامِلِه، لا على أسوئها.
* وثالثها: أنَّ المراد بالحديث – فوقَ وجوبِ حفظِ النظام العام، وقبولِ أحكام الحُكَّام ومنعِ نقضها، ما خَلَت من معصية- أمرُ النبي rالأمةَ أن تنتهج نهج هؤلاء الراشدين المهديين في العدل والإنصاف والشورى والتعمير والتنمية والتقوى والإخلاص والإعراض عن مفاتن الحياة الدنيا (.. إلخ)، وأن تتبع “منهجهم العام” الذي هو “العملُ بالإسلامِ” و”العملُ له”، وأن تَسلُكَ السبيل التي أَمَرَ اللهُ بها – فَسَلكوها- في إعمالِ الاجتهاد والتجديد لا التقليد والجمود، والتحري والمشاورة والمحاورة لا التسرع والمنابذة والمكاشرة (.. إلخ). فالحديث توصيةٌ بالاسترشاد بالنماذج المتميزة من الأمة.
وبعبارة أخرى: الأمرُ باتباعهم إنما هو أمرٌ باتباعهم في اقتدائهم بأوامر الله وسنة الرسول r.
ويزدادُ هذا وضوحاً ونصاعةً إذا استحضرتَ أنَّ مِن أعظم سَنَن هؤلاء الأربعة (رضوان الله عليهم): ألا يقلدوا أحداً، وأنْ لا يقلد بعضهُم بعضاً، وأن يطلبوا سُنة الرسول rحيث وجدوها أو تبينوها فينصرفوا إليها ويعملوا بها.
* ورابعها: مِن أين أتى حصرُ وصفِ “الخلفاء الراشدين المهديين” في الأربعة y؟! .. هذا أثرٌ مِن آثار دراسة التاريخ، وما ينبغي له أن يُخَصِّصَ عمومَ النص، فالخلفاء الراشدون المهديون هم كلُّ الخلفاء الذين اهتدوا بهدي الوحي وساروا سيرة العدل والإنصاف (وعلى رأسهم الأربعةُ y) .. صحيحٌ أنها تسميةٌ شاعت وذاعت عن الأربعة y، ولا مُشاحَّةَ فيها، ولكنها لا ينبغي أن تُخَصِّصَ عمومَ النص.
(53) أخرجه البخاري (1870، 3179، 7300، وانظر 111) ومسلم (1370) وأبو داوود (4530).
(54) ومِن هنا جاءت تسميةُ الفقهاء لخروجِ البول والغائط والريح بـ “الحَدَث الأصغر”، ولخروج ماء الحياة بـ “الحدث الأكبر”؛ إذ ليس المعتادُ ولا الجاري ولا المُتوقع مِن المرء أن يُخرِجَ أياً مِن هذه الأشياء طيلةَ الوقت، ولا أغلبَ الوقت أبداً، إلا لِمَرضٍ ونَحوِه.
(55) أي الذي ليس باطنياً خفياً.
(56) أي الذي لا يحتمل اللبس ولا التأويل.
(57) المقصودُ بالقبول ههنا – نحن نكرر ونؤكد- أنه ليس معصيةً، أما كونه صواباً أو خطأ، فهذا مما تختلف فيه الأنظار، وهو محل الاجتهاد تصويباً وتخطئةً، بلا تكفير ولا تبديع ولا تفسيق ولا تضليل.
(58) وقد سبق الحديث التفصيلي عن هذا ضمن مبحث سابق.
(59) انظر بيانَها التأصيلي التفصيلي في الملحق الوارد بآخِر كتابنا: الحرية الفكرية والدينية، د.يحيى جاد.
(60) أخرجه البخاري (7614) ومسلم (1499، 2760).
(61) نفس الحديث السباق.
(62) أخرجه البخاري (6066) ومسلم (2563).
(63) أخرجه البخاري (2442، 6951) ومسلم (2580).
(64) أخرجه مسلم (2564) وأبو داوود (4882) والترمذي (1927).
(65) أخرجه البخاري (6077، 6237) ومسلم (2560).
(66) نعم، مَن تلبَّس بإفسادٍ دُفع إفسادُه؛ لدفع ضرر هذا الإفساد، مع بقاء حقوقه واجبةً علينا لا تَسقُطُ بذلك. كُن من هذا التعليق على ذِكرٍ واربطه بما سيأتي في هامش قريب.
(67) لاحظ أنه اعتَذَر مِن ما صنعوا، ولم يعتذر مِنهم هم أنفسهم. وهذا مِن حُسن فقهه الذي سيأتي بيانُ أصلِهِ ومنبعِه في المتن والهامش.
(68) لاحظ أنه تبرأ مِن ما صنعوا، ولم يتبرأ منهم هم أنفسهم.
(69) أخرجه البخاري (2805، 4048) ومسلم (1903).
(70) أخرجه البخاري (4339، 7189).
(71) تدبر قوله تعالى: (فإن عَصَوْكَ فقل: إني بريء مما تعملون) [الشعراء 216]، (إنني بريء مما تشركون) [الأنعام 19]، (إني بريء مما تشركون) [الأنعام 78]، (وأنا بريء مما تعملون) [يونس 41]، (وأنا بريء مما تجرمون) [هود 35]، (واشهدوا أني بريء مما تشركون) [هود 54]، (إني لِعَملكم مِن القالين) [الشعراء 168] .. وإذا كان هذا في حق المشركين، فما بالُك بإخوانك من المسلمين؟!
* وبخلاف هذا، فإنَّ تَبَرُّؤ الأشخاصِ بعضِهم مِن بعضٍ، لم يقع في كتاب الله المجيد إلا حكايةً عما يقوله الكفارٌ والمشركونُ بعضُهم لبعضٍ يومَ القيامة، أو عمَّا يقوله الشيطانُ لِمَن تَبِعَه .. تدبر قوله تعالى: (إذ تبرأ الذين اتُّبِعوا مِن الذين اتَّبعوا .. وقال الذين اتَّبعوا: لو أنَّ لنا كَرَّةً فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا) [البقرة 166، 167]، (كَمَثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر، فلما كفر قال إني بريء منك) [الحشر 16]، (وإذ زَيَّن لهم الشيطان أعمالَهم .. فلما تراءت الفئتان، نكص على عقبيه، وقال: إني بريء منكم، إني أرى ما لا ترون) [الأنفال 48].
* وأما قولُهُ تعالى: (أنَّ الله بريء من المشركين ورسولُهُ) [التوبة 3] فهو براءة من المشركين الخونة المُعتَدين الناكثين للعهود والمواثيق، وليس مِن مطلق المشركين الأحياء، بدليل قوله تعالى: (لا يَرقُبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة، وأؤلئك هم المعتدون .. ألاَ تقاتلون قوماً نَكَثوا أيمانهم وهَموا بإخراج الرسول، وهم بدأوكم أولَ مرةٍ) [التوبة 10، 13]، وبدليل قوله تعالى: (إلاَّ الذين عاهدتم عند المسجد الحرام، فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) [التوبة 7].
* وأما قوله تعالى: (فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه) [التوبة 114] فهو مِن نَفْس باب الآية السابقة، إذ هو براءةٌ مِن الكافر العدو لله (والآية صريحةٌ في إناطة البراءة بالعداوة، كما هو الحالُ الذي مَرَّ ذِكرُهُ مع المشركين المعتدين الناكثين الخونة)، وليس كلُّ كافرٍ عدواً لله، فهناك كفار أعداء وكفارٌ غيرُ أعداء، وكفارٌ مُعتدون وكفارٌ مسالمون، وكفارٌ مستقيمون في المعاملة وكفارٌ غيرُ مستقيمين (تدبر: “فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم”)، وكفارٌ مُؤتَمَنون وكفارٌ غيرُ مؤتَمَنِين (تدبر: (ومِن أهل الكتاب مَن إن تأمنه بقنطار يؤده إليك، ومنهم مَن إنْ تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دُمتَ عليه قائماً) [آل عمران 75]) .. إلخ. فليس هناك “ارتباطٌ ميكانيكي” بين “الكفر” من جهة، و”العداوة لله، أو مطلق العداوة، أو مطلق سوء الخُلُق” مِن جهة أخرى.
(72) أخرجه البخاري (13) ومسلم (45).
(73) أخرجه البخاري (6777) وأبو داوود (4477).
(74) لاحظ أنه رجلٌ “تخصص” في إضحاك رسولِ الله rوإدخال البهجة والسرور عليه، ووصفه rبأنه رجل “يحبُّ اللهَ ورسوله” .. وتأمل، ما شاء لك التأملُ، في الصلة الجميلة بين “حُب الله ورسوله” و”الضحك والبهجة والسرور”.
ما أحوجنا إلى فقه هذه المواقف النبوية الجليلة تنظيراً وتنزيلاً، بدل جَوِّ الكآبة والقتامة والتجهم الذي يَحرصُ البعضُ عليه حِرصَه على الصلوات الخمس !
(75) أخرجه البخاري (6780).
(76) لاشكَّ أن البدعةَ: خبيثةٌ من الخبائث. ولا شك أن الخمرَ – كما سماها رسولُ الله- هي أم الخبائث. وعليه فإنَّ خُبثَ جِنس البِدعة (ما لم تَكُن مُكَفِّرةً تُناقِضُ الشهادتين) أقلُّ درجةً من خُبث جنس الخمر.
ويُعَضِّدُ هذا:
– أنَّ الخمرَ تَخرِم مقاصد رعاية العقل والنفس والمال والتدين، بينما البدعة تخرم مقصد رعاية التدين.
– وأنَّ البدعةَ بخرمها مقصد رعاية التدين لا تُفَوِّت – بذاتها- إمكانَ استدراك خرم هذا المقصد (لانحفاظ العقل الذي به يُمكن استدراكً هذا الانخرام؛ بالمناقشة والمحاورة وإقامة الحُجَّة وإزالة الشبهة)، بينما الخمر تُفَوِّتُ – بذاتها- إمكانَ استدراك انخرامِ مقصد التدين (لضياع العقل الذي هو السبيل والأداة للقيام بمقصد رعاية التدين).
(77) تأمل تعليقنا عن التلبس بالإفساد السابق وروده قبل قليل في الهوامش، واربطه بما في المتن ههنا.
(78) هم مخطئون مِن وجهة نظري في مسائل، أرى أنَّ لهم بها أجراً واحداً هو أجرُ الاجتهاد، مسائلِ: الوصيةِ في الإمامة، ومصدريةِ سيرة وأقوال الأئمة الإثني عشر تشريعياً، وعصمتِهم، وزواجِ المتعة، ومتعلقاتِ هذه الموضوعات وأشباهها.
واعلم، ما دام الكلامُ يَجُرُّ بعضُهُ بعضاً، أنَّ تخطئة المذهب الإمامي الجعفري كله، كلامياً وفقهياً، موقف طفولي لا شكَّ فيه، فإن من طبائع الأشياء – التي لا يُدركها الأطفالُ إلا حينَ الرُّشد- ألا يخلو مذهب فكري مِن صواب أو خطأ. وفي الفم حديثٌ كثير، ولكنَّ اللبيبَ يكفيه القليل.
(79) أ- مجمع البيان في تفسير القرآن, الطبرسي, حققه وعلق عليه/ لجنة من العلماء والمحققين, تقديم آية الله العظمى/ محسن الأمين العاملي, (1/ 43), ط 1, 1995م, منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات – بيروت.
ب- التبيان في تفسير القرآن, الطوسي, (1/ 3- 4), ط 1367 هـ , المطبعة العلمية – النجف الأشرف – العراق.
ت- آلاء الرحمن في تفسير القرآن, محمد جواد البلاغي, (1/ 26), ط 2, مكتبة الوجداني – قم – إيران
ث- الفصول المهمة في تأليف الأمة, آية الله العظمى/ عبد الحسين شرف الدين العاملي, (ص 163), ط 3, 1375 هـ, مكتبة النجاح – النجف – العراق.
ج- عقائد الإمامية, آية الله/ محمد رضا المظفر, (ص 63), ط 1422 هـ, مركز الأبحاث العقائدية – قم – إيران.
ح- البيان في تفسير القرآن، (بحوث تحليلية في معارف القرآن وعظمته، وأسراره المونية والتشريعية، ومناهجه، وأصول تفسيره، ونواحي إعجازه وميزاته، ومختلف قراءاته، وصيانته عن النقص والتحريف، وسموه عن الأوهام والتخرصات والطعون)، آية الله العظمي/ أبو القاسم الخوئي، (ص 200-259)، ط4، 1975م، دار الزهراء – بيروت.
خ- سلامة القرآن من التحريف, علي موسى الكعبي, (ص 37- 38), ط مركز الأبحاث العقائدية – إيران.
د- سلامة القرآن من التحريف وتفنيد الافتراءات على الشيعة الإمامية (عرض ونقد لآراء د.ناصر علي القفاري, وإحسان إلهي ظهير, ومحمد مال الله, وغيرهم), د. فتح الله المحمدي, أستاذ مساعد العلوم الإسلامية في جامعة طهران, ط 2, 1423هـ , ط مركز الأبحاث العقائدية – إيران.
ذ- الشيعة في الميزان, العلامة/ محمد جواد مغنية, (ص 269), ط دار الشروق – بيروت.
ر- الموضوعات في الآثار والأخبار – عرض ودراسة, المحقق العلامة/ هاشم معروف الحسني, ط 1987م, دار التعارف – بيروت.
ز- في رحاب العقيدة, آية الله العظمى/ محمد سعيد الطباطبائي الحكيم, 3 مجلدات, ط 3, 2004م, مؤسسة المرشد – بيروت.
س- بحوثٌ في شرح العروة الوثقى, آية الله العظمى/ محمد باقر الصدر, (3/ 294- 321), ط 1, 1988م, دار التعارف للمطبوعات – سوريا.
ش- أصل الشيعة وأصولها – مقارنة مع المذاهب الأربعة, آية الله العظمى/ محمد كاشف الغطاء, ط 1, 1990م, دار الأضواء – بيروت.
ص- موسوعة الفرق والمذاهب في العالَم الإسلامي, رئيس هيئة التحرير د. حسن الشافعي, (ص 413- 427, 769- 798)، ط المجلس الأعلى للشئون الإسلامية – وزارة الأوقاف – مصر
ض- تيارات الفكر الإسلامي, أستاذنا الجليل د. محمد عمارة, (ص 201- 254)، ط 2006م، دار الشروق – القاهرة.
ط- العلاقة بين السنة والشيعة, أستاذنا الجليل د. محمد سليم العوا, ط 1, 2006م, سفير الدولية للنشر – القاهرة.
ظ- في العلاقة بين السنة والشيعة – رؤية إسلامية جديدة لأجل مستقبل أفضل، د. يحيى جاد، (ص 468- 621)، قيد النشر بإذن الله.
ع- وغيرها من الدراسات والبحوث.