أبحاث

إشكالات العقل في فلسفة طه عبد الرحمن

العدد 155

في سياق مقاربة العقل:

حضور الهاجس الإصلاحي والهم النهضوي في مشروع طه عبد الرحمن يبدو بارزا وملفتا، يتجلى لنا هذا عند النظر إلى القضايا التي طرقها وحاول أن يجيب عنها من خلال رؤيته الخاصة، إنها نفسها تلك التي خاض فيها الفكر العربي بعد نهضته النسبية؛ أسئلة الحداثة وإعادة قراءة التراث وتجديد النظر في الفكر الديني وإشكالية القيم ومعضلة السياسة، فضلا عن أهم سؤال طرح نفسه على الفكر النهضوي، وهو سؤال العقل، فقد كان شائعا في أدبيات الخطاب النهضوي أنه من غير الممكن الحديث عن أية نهضة من غير تجديد النظر في آليات التفكير العربي، دون أن نغفل التنبيه على أن السياق الذي قارب فيه طه عبد الرحمن مشكلة العقل وطبيعة المقاربة نفسها مختلفة عن باقي المقاربات التي سادت في الفكر العربي.

إن ما يمكن أن نسميه “فلسفة العقل” في فكر طه عبد الرحمن تهدف أساسا إلى تعقيل الممارسة الدينية، لذا فهي تختلف على طول الخط عن طبيعة تناول المفكرين العرب لهذا السؤال، سواء من القدامى أو من المعاصرين، ومادامت الأشياء بضدها تتميز كما يقال، فلو نظرنا على سبيل المثال إلى إشكالية العقل عند ابن رشد، لوجدناها مقاربة أنطولوجية تتعالى على أي ارتباط تاريخي أو تخندق في إطار الدفاع عن مضمون إيديولوجي ما، يقول أحدهم عن طبيعة التناول الرشدي للعقل “لقد نظر ابن رشد إلى العقل المادي نظرة أنطولوجية جردته مما يمكن أن يجعله يمت بصلة إلى التاريخ بما ينطوي عليه من تعدد وجدل ونسبية أو ما يربطه بحيثيات التشيع المذهبي أو الانتماء الملي”(1)، أما أكثر الأطروحات المعاصرة رصانة لإشكالية العقل فتقارب الموضوع من وجهة نظر إبستمولوجية (أركون، الجابري)، أي أنها ترنو للكشف عن الأسس المعرفية التي يوظفها العقل العربي في نشاطاته الذهنية والمؤثرات التي توجهها، أما طه عبد الرحمن فينطلق في تنظيراته من الاعتقاد في أن الأخلاق ماهية الإنسان(2)، فالأخلاقية أولى بالإنسان من العقلانية، و لهذا فإشكالات العقل تتفرع عن هذا الأصل، إن إصلاح العقل ليس غاية تراد لذاتها وإنما هي قنطرة لابد من عبورها لتعقيل الممارسة الدينية، تلك الممارسة التي تستحضر القيم والمعاني الأخلاقية ولا تقف عند ظاهر الممارسات الدينية بما يحولها إلى طقوس مفرغة من أي معنى روحي، إن السؤال الأساسي في فلسفة طه عبد الرحمن عبر عنه في أوائل كتبه بقوله “كيف نجعل اليقظة متكاملة لا متنافرة، ومتجددة لا متحجرة؟ أو قل كيف نجعل هذه اليقظة متيقظة؟”(3)، إن مشروع طه عبد الرحمن يهدف لبناء فكر إسلامي متين وقادر على التصدي للتحديات الفكرية التي يواجهها، وطه عبد الرحمن يقدم للفكر الإسلامي السلاح الفكري من أجل الخروج من نفق التبعية والتقليد بوجهه الأصولي والحداثي.

إذن ففلسفة العقل هي إحدى إشعاعات فلسفة طه الدينية، لكن ثمة فروقات جوهرية بين التناول الطهائي للإشكالية الدينية و الرؤى الأخرى لباقي تيارات الفكر الديني، فكما يقول أحدهم: أن طه عبد الرحمن “سلك مسلك تجديد الدين من باب فلسفي”(4)، وقوام هذا المسلك التوسل بأمتن المناهج العقلية المعاصرة والتمكن من علوم الآلة، بل والاجتهاد في اختراع مناهج خاصة به، وهذه العقلانية التي تسم منهج طه عبد الرحمن مزجها وخصبها بما سماه “التجربة”، فمشروعه الفكري انبثاق لتجذره في الاشتغال والعمل الصوفي، إذ هذا الأخير يوسع مدارك الفكر ويخصب العقل وينضج رؤى الإنسان، إن مشروع طه عبد الرحمن ينبني على “قاعدة فلسفية منطقية صلبة وتجذر مشروعه الفكري في التجربة الصوفية والعزوف الجلي عن الشأن السياسي”(5)، غير أن الباحث لم يكن دقيقا في حديثه عن هذا العزوف السياسي “الجلي”، فطه عبد الرحمن لا يلغي السياسة من اهتماماته الفلسفية، وكتابه الأخير “روح الدين” يفند هذا الرأي، لكنه يرفض أن تكون السياسة مدخلا للإصلاح، فهو يميز في كتاباته بين “التسييس” و”التوعية السياسية”، إن رفض التسييس كواحدة من آفات العقل المسدد متعلق بالمكانة المركزية التي حباها بها “التسييسيون”، إذ أنهم أفردوا “الجانب السياسي بالقدرة على الإصلاح و التغيير”(6) كما يقول، هكذا – تبعا لفلسفة طه عبد الرحمن التي تعلي من شأن “العمل” و”الاشتغال”- يرفض أن تكون السياسة بما هي “ثقافة قول” مستندا ناجعا للإصلاح.

أما الفرق الجوهري الثاني؛ فطه عبد الرحمن يصنف فلسفته الدينية ضمن الأبحاث الحداثية، أما باقي تيارات الفكر الديني في الساحة الثقافية فترفض الحداثة جملة وتفصيلا، ويعلل طه هذا الإدراج بكون “فلسفة الدين” – التي حولها تنصب جل كتاباته- كمبحث فلسفي، لم يظهر إلا في عصر التنوير، ومقاربته تنسجم مع مقتضيات الفكر التنويري الذي استبدل سلطة مؤسسة الكهنوت بالعقل، والتأمل في الإله في علاقته بالإنسان وبتأمل الإنسان في علاقته مع الله، يقول: “إن عملنا حداثي بموجب منطق الحداثيين، ذلك أن هؤلاء لا يسلمون بالحداثة، إلا لما كان له أصل في الحركة الأنوارية، والفلسفة الدينية لم تبرز إلى حيز الوجود إلا في سياق هذه الحركة المجددة”(7)، أما هذه الفلسفة الدينية فيفصلها عن علم اللاهوت كون هذا الأخير “يتولى فيه فئة مأذونة ذات سلطة مخصوصة من رجال الدين النظر في ذات الإله وصفاته وعلاقاته بالإنسان والعالم من أجل توضيح معانيها ومقاصدها للفئات الأخرى لكي تأخذ بها من دون سواها، بينما فلسفة الدين لا تتوسل بسلطة مؤسسة الكهنوت، وإنما بسلطة العقل، ولا تتفكر في ذات الإله، وإنما في ذات الإنسان في علاقته بالإله، وبفضل استبدال فلسفة الدين سلطة العقل مكان سلطة الكهنوات واستبدالها النظر الإنساني مكان النظر الإلهي، فإنها تكون عبارة عن ثمرة من ثمار حركة التحرر التي اتصف بها عصر الأنوار”(8).

عوائق إبداع العقل الإسلامي:

1.      دعوى كونية الفلسفة:

إنشاء العقل الإسلامي لفلسفة تنطبع بطابع الخصوصية وتحمل في أحشائها بذور الكونية بحيث تكون حبلى بقابليتها لاتخاذها كفلسفة عالمية تصبح مهمة صعبة إن لم يع العقل حقيقة العوائق التي تواجهه وتحد من فاعليته، إن ثمة مجموعة من القناعات – ترسخت في نفوس المتفلسفة وأخذت هكذا تسليما دون نقد- لكفيلة بأن تصيب العقل الإسلامي بالعقم والسقم، وما لم يسارع لإبطالها ونقضها فإن العقل الإسلامي سيظل جامدا مقلدا.

من هذه العوائق الفلسفية دعوى كونية الفلسفة، تلك الكونية التي لا تعترف بأي طابع قومي للفلسفة وترنو لإذابة الفروقات والخصوصيات بغية طرح نمط فلسفي واحد بديل يمهد للهيمنة السياسية. ويمكن التمييز في دعوى الكونية حسب الفلسفة الطهائية بين صورتين؛ الصورة الأولى تنطلق من الزعم بكلية الفلسفة، أي أن قضاياها ومسالكها تخص كل إنسان بما هو إنسان، أي باعتباره كائنا عاقلا، فمادامت الفلسفة تشمل مباحث تخص كل إنسان بغض النظر عن قوميته أو خصوصيته الثقافية، فقد جاز الحديث عن كونية كلية للفلسفة، والصورة الثانية تتخذ طابعا سياسيا وتنطلق من عالمية الفلسفة، ويقصد بها طه عبد الرحمن “أن مسالكها تعم أقطار الأرض جميعا، بحيث تكون هذه الكونية ذات صبغة جغرافية أو بالأحرى سياسية، نظرا لاقترانها بإرادة النفوذ والسلطة”(9).

وقد انتقد طه عبد الرحمن هذه الدعوى نقدا مزدوجا، حيث أورد اعتراضات عامة حول الرأي القائل بكونية الفلسفة، ثم وجه لكل صورة من صور الكونية هذه نقدا خاصا، أي “الكونية الكيانية” و”الكونية السياسية”. أما الاعتراضات العامة، فقد انطلق طه عبد الرحمن من التباس الفلسفة بالسياقات التاريخية الاجتماعية، فمن غير شك، الفلسفة كانت ولا تزال تخوض في إشكالات يمليها واقع معين، يجتاز ظروف تاريخية واجتماعية مخصوصة، ومادامت الفلسفة غير متعالية عن الواقع والتاريخ، بل هي نفسها إفراز لواقع يحمل خصوصيات سوسيوثقافية محددة فلا معنى عندئذ للحديث عن كونية الفلسفة، فحتى لو كان السؤال الفلسفي المطروح واحدا فالمقاربات تختلف من قوم إلى آخر تبعا لمحددات تاريخية واجتماعية، من هنا لا بد من الإقرار بقومية الفلسفة، يقول طه عبد الرحمن: “لابد أن تحمل فلسفة الأمة الواحدة الخصوصية التاريخية والاجتماعية لهذه الأمة كما تحمل فلسفة الفرد الواحد خصوصية ظرفه التاريخي ووضعه الاجتماعي”(10).

كما أن الفلسفة مضمون مصاغ في قالب لغوي، وهكذا فهي حتما متأثرة – مهما حاولت أن تتجرد- بالأساليب اللغوية والأدبية للسان كل أمة، وهذا ما يفسر عسر الترجمة عادة من لغة إلى أخرى والإخلال بشرط تبليغ دلالة النص كما هي في لغتها، يقول فيلسوفنا في كتابه “الحق العربي في الاختلاف الفلسفي”: “معلوم أن اللغة هي المحل الذي يتشكل فيه القول الفلسفي، ولا تشكل لهذا القول بغير تأثر بمحله اللغوي، ولما كانت الألسن التي وضع بها القول الفلسفي متعددة، جاز أن تختلف المضامين الفلسفية باختلاف الألسن التي تنقلها”(11)، وقد فصل فيلسوفنا في موضع آخر المحددات التي تذهب إلى الاعتقاد في أن تلبس الفلسفة بسياق أدبي لغوي يجعلها فلسفة قومية تختلف عن باقي الفلسفات الأخرى، فقد أورد في كتابه “سؤال العمل” ثلاثة مظاهر تزكي تأثير البيان واللغة في المضمون الفلسفي، أولها أن المفهوم الفلسفي يشوبه ما يسميه طه عبد الرحمن بالتأثيل، ومعناه أن أي مفهوم فلسفي إلا ويتأثر بمدلوله اللغوي، وهذا المدلول في آخر المطاف يبلوره رصيد الأمة التاريخي، فالمفاهيم ليست جامدة، وإنما تتوسع دلالاتها مع التجربة التاريخية للأمة، إن التأثيل إذن هو “وصْل المدلول الاصطلاحي أو المفهومي الذي وضع للفظ الفلسفي بأسباب مدلوله اللغوي”(12). بالإضافة إلى التأثيل، ثمة مفهوم آخر ينـزع عن الفلسفة طابع الكونية، وهو التمثيل، فالفيلسوف وهو يقدم تعريفاته وشروحاته يتوسل بأمثلة، وهذه الأمثلة مأخوذة من واقع الفيلسوف المتداولة في محيطه، حتى إنه تقرر الأخذ في الممارسة الفلسفية بنوع من التعريفات أطلق عليه اسم “التعريف بالمثال”(13)، فضلا عن التخييل، وهو جملة الأساليب البلاغية من استعارة ومجاز التي يوظفها الفيلسوف، وهذه الأساليب تكون موغلة في الخصوصية الأدبية واللغوية للسان ما(14).

الاعتراض الثالث يتجلى في الاختلافات ذات الدلالة العميقة بين مختلف الفلاسفة المنتمين إلى الأمة الواحدة، ففي أمة العرب يقال “الغزالية” و”الرشدية”، وفي أمة اليونان يقال “الأفلاطونية” و”الأرسطية”، وفي أمة الألمان يقال “الكانطية” و”الهيجلية”، هذا فضلا عن التصنيفات القومية، وهي لا ترجع إلى أسباب أكاديمية تصنيفية، بل إنما هي انعكاس لتأثر كل قومية بمجالها التداولى الذي يحدد ماهية فلسفتها، فهكذا، الفلسفة الألمانية ليست ألمانية لأنها تنتمي لقطر جغرافي معين، بل لكونها تحددت من جملة مبادئ عريضة نسجت خيوطها، مما جعل التصنيف الفلسفي يطلق عليها اسم الفلسفة المثالية الألمانية، وهي بهذه المثالية تختلف عن العقلانية الفرنسية، كما أن للتجريبية الانجليزية قوامها ونسقها الفلسفي الخاص، لهذا يقول طه عبد الرحمن: “لا نكون محقين لو ادعينا أن هذا التقسيم من جانبهم هو مجرد تقسيم إجرائي يراد به عرض المادة الفلسفية من غير الإخلال بجوهرها”(15).

بعد هذه الاعتراضات العامة، خصص طه عبد الرحمن وأفرد لكل شبهة تتفرع عن كونية الفلسفة نقدا خاصا، فدعوى الكونية الكيانية للفلسفة التي تقوم على مقدمتين، وحدة الطبيعة الإنسانية ووحدة العقل البشري، هذه الدعوى يتدرج طه عبد الرحمن في نقضها، بدءا من الاستدلال على “انفكاك وحدة العقل عن وحدة الطبيعة الإنسانية” إلى “انفكاك وحدة الفلسفة عن وحدة العقل”، ثم “انفكاك وحدة الصفات الفكرية عن الاشتراك في الفلسفة”(16). إن أصل الإشكال في هذه الدعوى هو التوحيد بين وحدة الطبيعة الإنسانية ووحدة العقل، وهو إشكال ناجم عن الاعتقاد في جوهرية العقل، فمادامت الطبيعة الإنسانية واحدة، والعقل متجوهر في هذه الذات، فهو واحد كذلك، بينما الحقيقة التي يستمدها طه مما هو شائع في مجال التداول الإسلامي أن العقل فعالية القلب، وهكذا تبعا للدلالة اللغوية لعضو القلب فهذه الفعالية ستكون متغيرة ومتقلبة، من هنا فلا يلزم من وحدة الطبيعة البشرية على فرض صحتها وحدة العقل، وهذا الدليل كفيل بأن ينقض دعوى كونية الفلسفة في صيغتها الكيانية وينسفها نسفا، أي تلك التي تتكئ على وحدة الكيان العقلي للإنسان. أما “انفكاك وحدة الفلسفة عن وحدة العقل” فتفصيلها أنه لا يلزم وحدة الفلسفة من وحدة العقل، ذلك أن ليس كل فاعليات العقل تتجه جميعا إلى نسج خيوط فلسفة واحدة، بل إن أقصى ما يمكن أن ينجم عن وحدة العقل هو الاشتراك في الفلسفة، والاشتراك غير الاتحاد. أما “انفكاك وحدة الصفات الفكرية عن الاشتراك في الفلسفة” فبمعنى أنه “لا يلزم عن الاشتراك في الفلسفة بالضرورة وجود جملة من الصفات الفكرية المحددة التي تشترك فيها كل الصفات على نحو واحد”(17).

أما اعتراضاته على دعوى الكونية العالمية والسياسية للفلسفة، فقد فندها طه عبد الرحمن من خلال الواقع الفلسفي كما هو منظور إليه في الغرب الذي يعمل على عولمة فلسفته، ومن خلال الحفر كذلك في جذور هذه الفلسفة التي تثبت أنها موغلة في القومية، بل وكذلك إثبات أن هذه الفلسفة مع قوميتها فهي لا توظف إلا في سياق واحد، وهذا ما يجعل الفلسفة كما هي متداولة الآن غارقة في الخصوصية.

إن أوروبا منذ يقظتها في عصر الأنوار وهي تعمل على نشر فلسفتها باعتبارها من المتاح للبشرية جمعاء، لكنها مع هذه الدعوى لا تخفي نظرتها الاستعلائية باعتبارها الوحيدة التي مارست فعل التفلسف، إلى الحد الذي حمل أحد فلاسفتها على الاعتراض على مقولة “فلسفة أوروبية”، ذلك لأن نسبة صفة الأوروبية للفلسفة تحصيل حاصل، ولغو وحشو لا طائل منه، غير أن الأمر لا يتوقف عند حصر الإبداع الفلسفي في نطاق أوروبي بل تجاوزه “إذ أخذ الألمان ينـزعون صفة الأصالة عن نظرائهم من فلاسفة أوروبا، ويخصون بها أنفسهم، ويعتبرون باقي الفلسفات الأوربية عيالا على فكرهم الأصيل، تنقل عنه وتقبس منه، سواء استوعبت مقاصده أو لم تستوعبه”(18)، وفي هذا السياق عمل بعض الفلاسفة الألمان على وَصْل فلسفتهم مباشرة بفلسفة اليونان التي تنحدر منها الفلسفة الأوروبية إمعانا في إثبات أن الفلسفة الألمانية وحدها واصلت هذا الإبداع الفلسفي واستأنف النظر الفلسفي.

ثم الملاحظ في هذه الفلسفة الألمانية أنها تأثرت غاية التأثر باليهودية، فألمانيا في القرون الأخيرة كانت موطنا للثقافة اليهودية، كما كانت إسبانيا في القرون الوسطى تحت حكم العرب موطنا للفكر اليهودي، من هنا يمكن الحديث عن “تهويد الفلسفة الألمانية”، ويورد طه عبد الرحمن جملة من الاستدلالات للتنصيص على هذه الحقيقة، مثل تأثر كبار الفلاسفة الألمان بفلاسفة يهود بطريق مباشر أو غير مباشر “كتأثر ليبنتز بابن ميمون عن طريق نيقولاس دي كيوز، وتأثر كانط بسبينوزا..”(19). ثم إن ألمانيا هي التي احتضنت الإصلاح الديني وأرست قواعد المذهب البروتستاني، بحيث جعلت الدين المسيحي أقرب إلى الدين اليهودي، هذا فضلا عن ترجمة “مارتن لوثر” للتوراة ترجمة ألمانية نالت إعجاب اليهود. كما لاحظ طه عبد الرحمن اقتباس الفلاسفة الألمان بعض المفاهيم المحورية والأفكار الجوهرية من التوراة، سواء صرحوا بذلك أم لم يصرحوا، وسواء احتفظوا لتلك المفاهيم بحمولاتها الدينية أم أضفوا عليها صبغة علمانية. ثم يضرب طه عبد الرحمن المثل بالفيلسوف الألماني إيمانويل كانط الذي اجتمعت فيه كل هذه المقومات التي ذكرها هنا لإبراز دور الديانة اليهودية في بلورة الفلسفة الألمانية، فـ “كانط” تأَثَر بفلاسفة يهود، وأعجب بالإصلاح الديني، ووجد في التوراة مرجعا نهل منه مجموعة من مفاهيمه ورؤاه الفلسفية(20).

هكذا إذن يمكن أن نتحدث عن تهويد للفضاء الفلسفي العالمي في الوقت الذي يصر فيه الغرب على اعتبار فلسفته بضاعة ممكنة التصدير لأي بقعة من بقاع الأرض بدعوى عالميتها، وهذه من مفارقات الفكر الغربي.

2.      أغلال العقل:

كل فكر لا يكون حرا إلا إذا كان أصيلا ينطلق في تصوراته مما هو مأصول في مجاله التداولي، فلا يعد نقل فكر الآخر بلغة جديدة إبداعا فلسفيا، من هنا فإن ابتكار فلسفة إسلامية غير ممكن ما لم نعد النظر فيما سمي بالفلسفة الإسلامية القديمة وتقييمها حتى يتسنى لنا تقويمها، والوعي قبل ذلك بمواطن الخلل، وإلا فإن استسلام المتفلسف العربي لرغبته النرجسية في نسبة فلسفة عربية أصيلة له لن يؤدي في آخر المطاف إلا إلى تزييف الوعي وإقامة حجب بيننا وبين الإبداع الفلسفي الحقيقي.

إن طه عبد الرحمن يميل كما يبدو من كتاباته إلى نفي أن يكون المتفلسفة العرب قد أسسوا وبنوا فلسفة إسلامية تعبر فعلا عن مشاغل العقل الإسلامي وتسهم في حل إشكالاته، إن طه عبد الرحمن يتحدث عن “استئناف العطاء الإسلامي”(21)، وليس من مقتضيات استئناف القول أن يؤدي ذلك إلى إنشاء فلسفة ذات خصوصية إسلامية، ذلك أن الاستئناف يعني بقاء جنس الفلسفة المستأنَفة في جوف الفلسفة المستأنِفة وهو ما ينـزع عنها أي صفة إبداعية ويصمها في المقابل بالتقليد والمحاكاة، كما أن الفلسفة الإسلامية بهذا التقليد تكون قد أخضعت الموروث الإسلامي لمقتضيات الفلسفة اليونانية، وبهذا تكون قد فقدت شروط المبادرة المستقلة في البحث الفلسفي، إذ إن لم يكن استئناف النظر في موروث مغاير منقصة في حد ذاته تخل بمقومات الشخصية الإسلامية فإن إخضاع الموروث الأصيل لمقتضيات الفلسفة المستوردة مظهر من مظاهر الجمود المبتذل، فإثراء الفكر لا يتم إلا من خلال إغناء الإشكالات والأسئلة التي تمخضت من داخل المجال التداولي الإسلامي، وإخضاع الموروث الآخر لهذا المجال، يقول طه عبد الرحمن في هذه الإشكالية “إن العطاء الفلسفي المستأنف يحرص على حفظ الموروث اليوناني داخل الموروث الإسلامي، وهذا يعني أن الإشكالات اليونانية تبقى على صورتها الأصلية دون أدنى تصرف، وتضم إلى الإشكالات اليونانية ضم إيواء لا ضم احتواء”(22).

وقد كان لهذا التأثر بالفلسفة اليونانية ونقل محتوياتها ومضامينها من غير إعمال لمعاول النقد فيها أثر سيئ على العقل الإسلامي، إذ أخذت تلك الأقوال اليونانية تسليما مع معارضتها لمقتضيات المجال التداولي الإسلامي، ومن أهم ما انتقل إلى الفلسفة الإسلامية عبر الموروث اليوناني التعريف الجوهري للعقل، يقول طه عبد الرحمن: “إذا كان لفظ العقل في اللغة العربية يدل على اسم معنى، ويستفاد منه أنه وصف محله القلب مثله مثل السمع و البصر، فإن الترجمة قد جعلت منه اسم ذات يفيد معنى جوهر مخصوص محله الدماغ”(23) ، وفي موضع آخر يقول: “لقد نقل العرب عن اليونان تعريفهم للعقل بكونه جوهرا (…) (حتى) أصبح استعمالها في العربية راسخا، وجوهر الشيء، في استعمال الجمهور يفيد اللب الذي به يتقوم الشيء أو الحقيقة التي يكون عليها، أما تعريف العقل عند الفلاسفة بكونه جوهرا، فيقصدون به معنى أخص، وهو أن العقل عبارة عن ذات موجودة في نفسها، لا في غيرها، وقائمة بنفسها لا بغيرها”(24)، وقد ترتب عن هذه الرؤية الوقوع في عدة شبهات وآفات، من مثل تخليد العقل، ذلك أن اللوغوس اليوناني يتنـزل منـزلة مدبر العالم في التصور اليوناني، ومشهورة هي الرؤية الأنطولوجية للوجود في الفلسفة اليونانية وتسميتها للخالق بـ”العقل الأول”، ومادام العقل البشري قبس من هذا العقل الخالد وجب أن يكون هو كذلك خالدا. الشبهة الثانية يسميها طه عبد الرحمن “التشيء”، ودلالتها أن العقل مادام جوهرا لزم أن ينطبق عليه كل ما ينطبق على الأشياء من صفات الثبات والجمود، وهذا غير حاصل مع العقل، بل واقع الفكر الذي أفرزه العقل يحيل على دوام حركته وتقلبه المستمر، وهذا يتوافق تماما مع الرؤية الإسلامية التي تنسب فعالية العقل للقلب، إذ أن الدلالة اللغوية للفظ “قلب” تنسجم مع ما ينسب للعقل من تقلب. والشبهة الثالثة “تجزيء الإنسان”؛ إن اختزال الإنسان في العقل كفعالية ذهنية، فعالية مثلها مثل فاعلية الذاكرة والعمل، يوقعنا في تجزيء الإنسان، فيقال ذات عاقلة، ذات ذاكرة، ذات عاملة.. إلخ، وهذا يخل بالوحدة التكاملية للإنسان، وهو ما سيؤثر سلبا على النشاط الإنساني الإبداعي، وإقصاء طاقات أخرى كامنة في داخل الإنسان، فتعريف الإنسان بأنه حيوان عاقل نجم عنه استصغار وازدراء الفعاليات الأخرى التي تزخر بها الكينونة الإنسانية.

وقد تسربت عن ترجمة التعريف الأرسطي للإنسان بأنه “حيوان عاقل” للمجال التداولي الإسلامي رؤى خاطئة، فمفهوم “اللوغوس” في اللغة اليونانية التي ترجمت بالنطق لها دلالتان: القول والعقل، ولأنه لا يوجد في البيان العربي مفهوم يجمع بين الدلالتين فقد ترجم “اللوغوس” بالنطق “وفي هذا الاقتران بين عمل العقل وعمل اللسان لبس صريح، ذلك أن التداول العربي لأول وهلة يحمله على مدلول يخالف المدلول الذي يستخدمه فيه التداول اليوناني، فإذا كان اليوناني يقصد بهذا الاقتران أن العقل واللسان وجهان لحقيقة واحدة، فإن العربي يتبادر إلى فهمه أن العقل والقول حقيقتان مختلفتان، بل حقيقتان متضادتان”(25)، كما أدى هذا التعريف إلى اقتران القول والعقل، وهذا خطـأ، فليس كل قول صادر عن تفكير عقلاني، بل إن ثمة من الأقوال ما ليس فيها مسكة عقل، كما أن ثمة حقائق عقلية في منتهى الدقة تستعصي عن التعبير اللغوي ويعجز اللسان عن تأدية معانيها، إضافة إلى هذا فإن اعتبار الفاعلية العقلية ماهية الإنسان أدى إلى اختراق المجال التداولي الإسلامي الذي يجعل من العمل أهم مقومات الذات البشرية من قبل مجال تداولي آخر، فالعقل لا يراد لذاته وإنما للعمل بما يقضيه، بل إن النظر نفسه غير مفصول عن العمل، وإنما هو من الأعمال القلبية، وحتى الفلسفة في الفكر الطهائي ليس هي التفكير العقلي و إنما هي “العمل بالعقل”(26).

ومن الأغلال التي كبلت العقل فصله عن جملة مكونات أخرى حتى استحال عقلا مجردا، حيث استقر في نفوس المتفلسفة أنه كلما أمعن العقل في التجريد كان أشرف، وقد ذكر طه عبد الرحمن من جملة هذه الأغلال التي أسرت العقل الإسلامي وحصرت فعاليته بشكل كبير، فصل العقل عن الحس، وهذا الفصل يعزى إلى التأثر بفلسفة المثل الأفلاطونية، فأفلاطون اعتبر المعقولات أشرف الموجودات ورفعها إلى أعلى رتبة وجودية، بينما وضع المحسوسات إلى أحط المدارك وعدها مجرد خيالات وظلال وأشباح. وهذا الفصل الذي انتقل للعقل الإسلامي من الفلسفة اليونانية لا ينسجم مع ما هو منصوص عليه في النصوص الدينية التي تشكل معينا لأسس المجال التداولي ومحدداته، فالعقل في هذا المجال غير مفصول البتة عن الحس، بل إنه حاضر في أي إدراك حسي، إذ “في النظر عقل، وفي السمع عقل، وفي النطق عقل، وفي الشم عقل، وفي الذوق عقل، أما إذا لم يكن في الحس عقل، فلا يعد حسا، وإنما فقدان للحس، فمثلا النظر بلا عقل يكون عمى، والسمع بلا عقل يكون صمما، والنطق بلا عقل يكون بكما، والشم بلا عقل يكون خشما، والذوق بلا عقل يكون تفها، والشاهد على ذلك الآية الكريمة: (وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ)(27)، وهكذا فأية فاعلية حسية تستوجب حضورا للعقل، وإلا انتفت أية وظيفة للحس، بل وانقلبت إلى ضدها.

ومما تسرب إلى الفكر الإسلامي، ضرورة الفصل القاطع والتام بين العقل والقلب تمهيدا لقيام أي معرفة علمية، فهذا الفصل حسب العقل المجرد من متطلبات الموضوعية، إذ أن القلب منبع الأحاسيس والوجدان والعاطفة، بينما العقل الوسيلة الوحيدة الكفيلة ببناء منظومة فكرية متناسقة ومتوازنة لا تشوبها أية شائبة عاطفية، ومزج فاعلية العقل بفاعلية القلب قد يؤدي إلى إنتاج بضاعة مزجاة حسب تصور العقل المجرد. وقد كان من آفات هذا الفصل بين العقل والقلب إسناد صفة الجوهرية للعقل بدل القلب، وقد أشرنا فيما مضى إلى ما يترتب على اعتبار العقل ذاتا قائمة بذاتها، كما ترتب عن هذا الفصل تفقيه الممارسة الدينية، والمقصود بالتفقيه حصر اهتمامات المشتغلين بالحقل الديني من الفقهاء بالنظر إلى ظاهر الأحكام الشرعية المتعلقة بالمكلفين من غير الغوص في استنباط ما وراء تلك الأحكام الظاهرة من قيم خلقية ومعاني روحية، وهكذا تم إهمال أهم مقصد من مقاصد الدين ألا وهو “الأخلاق”، والسبب راجع كما قلنا إلى الفصل بين العقل والقلب، وهكذا بإعارة العقل أهمية قصوى لا تضاهيها أية فعالية أخرى تم إهمال “الفقه القلبي” اللهم إلا استثناءات نادرة تتعلق بنسبة النية للقلب وإناطتها به، أما ما دون ذلك من أعمال قلبية فلا نكاد نعثر عليها في الكتب الفقهية، وقد أدى إهمال المعاني الخلقية المنطوية في الأحكام الشرعية إلى آفتين:

أ- قصر الأخلاق على جزء محدود من أعمال المكلفين(28)، بينما الأصل أن الأخلاق قيم تحضر في أي عمل، فهي مناط التحسين والتقبيح، بل إن هذه الأعمال نفسها ترفع أو تخفض من منسوب ما يتمتع به الإنسان من قيم أخلاقية، أقصد أن الأعمال بمختلف أشكالها مرتبطة بالقيم الأخلاقية من وجهتين، وجهة قبلية، فأي سلوك إلا ويكون انعكاسا لقيمة خلقية، وجهة بعدية، أقصد أن العمل قد يحفز الإنسان أو يثبطه من حيث سلوكه الأخلاقي، إذ ذاك فلا توجد أعمال يمكن النظر إليها بإزاء المعاني الأخلاقية نظرة محايدة باردة.

ب- اعتبار الأخلاق من المقاصد الكمالية(29)، وهي آفة خطيرة فعلا، فالنظر إلى الأخلاق ككمالات لا ضروريات مشكلة عويصة تتعارض على طول الخط مع الدين كما هو مبسوط في مراجعه الأصيلة، و الذي يعتبر الأخلاق الغاية الأساسية و لب الرسالات السماوية، ونستحضر هنا قول النبي r: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.

أما الإشكال الثالث المترتب عن فصل العقل عن القلب فيتمثل في إلغاء الوظيفة التقويمية للقلب وهي التي يعبر عنها طه عبد الرحمن بقوله: “عدم تبين آفات المعرفة العقلية”(30)، وقد انطلق طه عبد الرحمن في هذه النقطة من نسبة القرآن للقلب أنواعا من الأمراض والآفات، ومادام القلب هو منتج الأفكار والتصورات، فقد فوت العلماء المسلمون على أنفسهم تبين مختلف المعارف التي يفرزها القلب، بله تقويمها على مقتضيات القلب السليم.

ومن أوجه الفصل بين الدين والعقل التي دخلت المجال التداولي الإسلامي من الفلسفة اليونانية، الفصل بين الشرع من جهة والعقل من جهة أخرى، وهذا الفصل يبرز بشكل أوضح أثناء الوقوف على مساعي بعض علماء المسلمين للوصل بين العقل والشرع، مما يقضي ضمنيا باعتقادهم في تنافر المحددين، فطائفة تتحدث عن تبعية العقل للشرع، وأخرى تتحدث عن تبعية الشرع للعقل، وتيار يرى أن الشرع مكمل للعقل، وآخر يقول بتكميل العقل للشرع، وطائفة فصلت بينهما فصلا صريحا على مستوى الكيفية البيانية وإن وصلت بينهما في الغايات والمقاصد. ومن مظاهر الفصل بين النسق العقلي والنسق الشرعي اشتهار تعابير من قبيل “يجوز عقلا وشرعا” و”لا يجوز في العقل ولا في الشرع” و”يوجبه العقل والشرع”.. إلخ، وكلها تعابير توحي بتمييز علماء المسلمين بين العقل والشرع واعتقادهم في تغاير النسقين.

ومن دواعي هذا الفصل التأثر ببعض الفلسفات اليونانية كما أشرنا من قبل، وخاصة فلسفة “أرسطو” التي تضع حدودا بين العبارة البرهانية والعبارة الخطابية، وفلسفة “أفلاطون” التي تميز بين “اللوغوس” و”الميتوس”، وهكذا فتبعا للنظريتين فالدين يتنـزل منـزلة “الميتوس” المتوسل بالقول الخطابي، فما في الدين سوى خيالات وتمثيلات، بينما العقل يتوسل العبارة البرهانية، ومن غير شك فإن هذه الدعوى عارية عن أي برهان، وإنما أخذت تسليما وتقليدا دون تقليب النظر فيها وإمعان التأمل فيها.

وإلا فمتى نظر الفيلسوف في هذه الدعوى بعين ناقدة أدرك أن السر الكامن وراء هذا الفصل إضافة إلى ما ذكرناه من تقليد يرجع بالأساس إلى عدم تمحيص وجوه المقابلة بين العقل والشرع على مستويات ثلاثة: “المصدر الأصلي” و”المضمون الدلالي” و”الكيفية البيانية”(31). أما عن المصدر الأصلي فقد أخذ المتفلسفة بالظاهر من عزو العبارة العقلية للإنسان والعبارة الشرعية للإله سبحانه وتعالى، وهذا باطل غير مسلم، إذ العقل الإنساني صادر عن الإله صدور القول الشرعي عنه. أما إذا اعترض أحدهم بقوله أن العقل صادر من داخل الإنسان والشرع من خارجه، فيعترض على هذا من باب أن الاعتقاد مبني على تصور خاطئ للشرع والعقل معا، فالعقل شرع من الداخل، والشرع عقل من الخارج.

أما عن ادعاء المقابلة بين العقل والشرع من جهة المضمون الدلالي “فإنها تفيد أن المضمون الدلالي العقلي مضمون إنساني صرف، بينما المضمون الدلالي الشرعي مضمون إلهي صرف، وهذا أيضا لا يصح بإطلاق، ذلك أن الإنسان يفهم المضمون الشرعي فهمه للمضمون العقلي”(32)، وعدم إدراك بعض المعاني الدينية تولد عن تجريد العقل وإيغاله في التصورات النظرية، فالعقول البشرية متفاوتة حسب موقفها من العمل الشرعي، وكلما انسلخ العقل عن مقتضيات الشرع وخضع للمحسوس والظاهر قلت معرفته بلطائف الدين واستشكلها، وكلما توغل الإنسان في الاشتغال العملي تبددت سحائب العقل المجرد ونفذ إلى مقاصد الشرع، بل وصار عقله نفسه شرعا. أما عن الكيفية البيانية “فالإنسان يستعمل كيفية البيان على مقتضى الشرع استعماله لكيفية البيان على مقتضى العقل”(33).

ومن أوجه الفصل بين المكونين الديني والعقلي، الفصل بين الوحي والعقل، وقد اتخذ هذا الفصل ثلاث صور مختلفة، توهم بها ذوو العقل المجرد التعارض بين المكونين، وهي؛ أولا أن العقل بما هو رأي يتعارض مع الوحي، فهذا الأخير مكون ثابت ومغلق غير خاضع للسيرورة والمراجعة، بينما الرأي المتولد عن العقل يقبل التعدد والمراجعة، الوجه الثاني أن الوحي “نقل”، والنقل من مقابلات العقل لأنه يقضي بالتسليم بينما الفعالية العقلية تقوم على النقد، الوجه الثالث أن الوحي خبر خارجي، والخبر الخارجي يتعارض مع العقل.

وقد انتقد طه عبد الرحمن هذه الوجوه من خلال مقاربة عقلية منطقية حتى تستعاد علاقة الانسجام والتكامل بين الدين والعقل، فبخصوص الوجه الأول، فالتسوية بين الرأي والعقل لا تصح، إذ أن الرأي حكم يتوصل إليه العقل باجتهاده في مسألة من المسائل، فهو ليس العقل ذاته، بل أحد ثماره، ورد الرأي إلى العقل كرد الجزء إلى الكل، أما الوحي فهو “إمداد للفعل العقلي نفسه، بحيث يورثه علم ما لم يعلم بنفسه”(34). وإذا نظرنا إلى الوحي بمعنى “النقل”، فلا يكون هذا الأخير نقيض العقل، إذ أن النقل ليس إلا تحريك اللسان لتبليغ مضمون ما، فهذا الكلام يبقى على معقوليته الأصلية حتى بعد تحريك اللسان به، ومجرد تبليغه إلى الآخر ليس فيه دلالة على سقوط قيمته العقلية واستحالته خرافات وأباطيل، كما أن المعقولات هي الأخرى ليست كلها نظر، بل في أحيان كثيرة تقوم على نقليات وأخبار، وحياة الإنسان تستحيل إذا هو ألزم نفسه بالأخذ بما توصل إليه بعقله فقط، وإذا استند إلى معقولات الغير صار ما اتكأ عليه منقولات، وهكذا الوحي الإلهي، فهو منقول من جهة تبليغه من قبل ذات، لكنه معقول من جهة مضمونه ومحتواه، ومجرد قيام ذات بحمل رسالة الله إلى العالمين ليس فيها البتة ما ينفي عنها معقوليتها. ولعل من الأسباب التي أوهمت بمقابلة العقل للنقل، الاعتقاد في التضاد بين الخبر والنظر، وهذا لا دليل عليه، إذ يمكن أن يكون الخبر نظرا معقولا كما يجوز أن يكون النظر مبنيا على خبر.

والوجه الثالث للتعارض بين الوحي والعقل، أي اعتبار الوحي سلطة خارجية فنتيجة لالتباس لغوي، إنه من غير شك أن جملة الحقائق الغيبية لا يمكن التعبير عنها بلغتنا التي هي صورة لواقعنا، أي أنها تشكلت لتصويره لنا وتقريبه إلى أفهامنا، والوحي من جملة الحقائق التي أخضعت لأساليب البيان البشري، فوصف الوحي بأنه خارجي قياس للغائب على الشاهد، وإلا فإن القرآن لا يفتأ يتحدث عن قرب الله من العباد فمن باب أولى أن يكون كلامه قريبا من قلوبهم لا أنه سلطة خارجية، لذلك يقول طه عبد الرحمن: “إذا وصف الوحي بكونه خارجيا، فلا ينبغي أن يحمل ذلك على معنى غير مكاني”(35). كما ساد الاعتقاد مع انتشار فكر التنوير الذي يلغي أية وصاية، ومشهور في هذا الصدد التعريف الكانطي للمفهوم، بأن الوحي نوع من الوصاية التي تقضي على استقلالية العقل وتضيق آفاقه وتنقص قدراته، وطه عبد الرحمن يرفض هذه الدعوى لأنها لا تترجم واقع الحال كما هو، فالذي يحد من فاعلية العقل ويشل قدراته ليس الوحي وإنما أوصياءه الذين يزعمون أنهم مستأمنون عليه، وهكذا حمل الوحي وزر من يدعي حمايته، وإلا فإن الوحي يدعو كما يبدو واضحا من استقراء النصوص الدينية إلى الحق والكمال ويطلع العقل على ما لا سبيل له إلى معرفته مثل الأخبار الغيبية، هذا فضلا عن كون الشبهة قامت على أساس باطل، فالوحي ليس سلطة خارجية، لأنه مادام القلب محل الوحي و العقل، فهما معا من جنس إدراكي واحد، ومن شأن تضافرهما في القلب أن يؤدي إلى تكميل القوة الإدراكية للإنسان.

الوجه الآخر للفصل بين الدين والعقل اتخذ شكل فصل الإيمان عن العقل، ومقتضاه أن لا شيء من الإيمان في العقل، ولا شيء من العقل في الإيمان، إذ لكل من الإيمان والعقل براديغمهما الخاص بحيث لا يمكن أن يتوافقا أو يتكاملا، أما الادعاء الأول أي خلو العقل من الإيمان، فلا يصح إذ أن ثمة الكثير من القضايا التي يستند عليها العقل المجرد مسلمات لا دليل عليها، مثل المقدمات التي ينبني عليها الدليل، و”لما كان التسليم عبارة عن قبول القول بغير دليل في كل الأوقات أو في وقت مخصوص، فقد صار هذا التسليم من جنس الإيمان المقلد”(36)، كما أن تقبل جدوى هذا العقل المجرد تسليما يتنـزل منـزلة الإيمان المقلد، حتى إن الفيلسوف “كارل بوبر” تحدث عن ما سماه “الإيمان بالعقل”، فاللازم هو وجود عقل آخر يتجاوز حدود هذا العقل يثبت جدوى هذا العقل ونجاعته، أما عن الدعوى الثانية التي هي خلو الإيمان من العقل فيمكن نسفها من خلال استحضار أن الشارع جعل العقل مناط التكليف، فمن لم يكن عاقلا لم يكن خطاب الشرع موجها إليه.

إن فصل العقل المجرد بين الإيمان والعقل راجع بالأساس إلى إرشاد الدين الناس للإيمان بأدلة وبراهين متنوعة متعددة لا يستوعبها ولا يحيط بها العقل المجرد، ولهذا وقع في ما يسمى “مغالطة فساد التعميم”، يقول طه عبد الرحمن: “بيد أن في النص الديني شيئا آخر غير هذا التنوع في الأدلة والأمثلة، وهو الذي جعل القائلين بهذا الفصل يختزلون المضمون الديني فيه، واقعين في مغالطة فساد التعميم، وهذا الشيء هو بالذات الحث على الإيمان بطرق لا تتسع لها أبنيتهم الاستدلالية المجردة فيصبح حد الإيمان عندهم هو أنه الاعتقاد الذي لا دليل عليه، والصواب أن هذا لا ينطبق إلا على الإيمان المقلد”(37).

تلك كانت أهم العوائق التي وقفنا عليها في كتابات الفيلسوف طه عبد الرحمن والتي تحول دون انطلاقة العقل الإسلامي واندفاعه نحو الإبداع الخلاق والخروج من نفق التبعية وآفات التقليد. إن اختراق المجال التداولي اليوناني للفكر الإسلامي قد أدى إلى عقم العقل الإسلامي، ذلك أن المجالين بمثابة بحرين منفصلين بينهما برزخ لا يبغيان، فأي محاولة للمزج بينهما ستبوء بالفشل، فلا مناص من أجل ضخ دماء جديدة في عروق الفكر الإسلامي من الاستناد على منطلقات خاصة تنتمي إلى مجالنا، وهو ما سنوضحه فيما سيأتي.

منطلقات إبداع العقل الإسلامي

1.      نقد العقل الغربي

يقوم الإبداع على خاصية التمايز، فهو خلْق وابتكار على غير نموذج سابق، وأما النسج على منوال آخر فليس من الإبداع في شيء، بل هو من المحاكاة والتقليد، من هنا فإبداع نظرية في العقل الإسلامي لابد أن تنطلق من نقطة تتجاوز النسق السائد، وتقطع مع النموذج الذي يروجه الآخر، لكن البعض يقدم كبديل – للخروج من حالة التأخر التاريخي والركود المعرفي والجمود الثقافي الذي يتردى فيه العقل الإسلامي- الاحتذاء بخصائص العقل الغربي، وقذ اتخذ هذا المنهج الاتباعي التقليدي شكلين:

الشكل الأول؛ واضح وجلي وصريح، إذ يدعو إلى قطيعة معرفية تامة وشاملة مع تراثنا وتخصيب العقل الإسلامي بمكتسبات العقل الغربي باعتبارها من المتاح للبشرية جمعاء، والصورة الأخرى اتخذت شكلا “مخففا” يحذو حذو التوفيق والوصل بين التراثين العربي والغربي، ويحلو للبعض أن يصف هذا المنهج بالتلفيقي، وهو على العموم يقوم على آلية التأصيل والتبيئة، أي البحث عن أصول للفكرانية الحداثية في تراثنا، من هنا نعي ما ينطوي عليه زخم الاشتغال بالتراث من قبل بعض النخب الحداثية والانخراط فيه، وإذا أخذنا نموذج أحد المفكرين العرب الذين اشتهروا بتأصيل الحداثة وتبيئتها فإننا سنجد أنه أقام نموذجه على آليتين:

1. ضرورة طي قرون الجمود والانحطاط الفكري المسماة في أدبيات الفكر العربي المعاصر بـ “السكولاستيكية”، ومد جسور التواصل واللقاء مع أنضج فكر أنتج في سياق الثقافة العربية، وهو فكر فيلسوف قرطبة أبو الوليد بن رشد، ثم الانطلاق منه واستئناف المسار الذي شقه، بالضبط كما كان هذا التراث الرشدي بمثابة الدفعة الأولى للنهضة الأوروبية التي حركت مياه الثقافة الغربية الراكدة.

2.   تأصيل القيم الحداثية، وذلك بالتنقيب في التراث عن مماثلات لها وتقديمها بالتالي في قالب خصوصي باعتبارها من الذات لا بضاعة مستوردة، ويبدو أن هذه الخطة أملاها واقع التعددية والثراء الفكري في التراث الإسلامي العربي.

غير أن طه عبد الرحمن يرفض رفضا مبدئيا هذه القراءة التجزيئية التقزيعية للتراث، ويدعو لما سماه قراءة تكاملية شمولية بالنظر إلى أن التراث إفراز لقواعد مجال تداولي واحد. وهكذا فالجابري الذي عرف بقراءته التجزيئية للتراث وقع في عدة أخطاء بحسب الرؤية الطهائية؛ الخطأ الأول مزدوج، ويكمن في الهوة الموجودة بين دعوته حين بسط الكلام عن منهجه في “نحن والتراث” إلى ضرورة تجاوز القراءات التجزيئية التي تفصل بين أجزاء التراث واستبدالها بالقراءة الكلية الشاملة، والوقوع في القراءة التجزيئية ذاتها، الوجه الآخر يتمثل في مفارقة تتجلى في دعوته إلى قراءة الآليات التي أنتجت لنا هذا العقل، والتصدي في المشروع لتقييم المضامين والمحتويات التراثية، يقول طه عبد الرحمن في هذا الصدد: “وباختصار، فإن الجابري، وإن دعى في مواضع من كتبه التمسك بما يشبه المبدأين وهما لاتقويم صحيح إلا بالنظرة الشمولية ولا تقويم أصيل إلا بالبحث في الآليات، فإنه ما لبث أن وقع في التناقض عند العمل بهما، فانتقل من النظرة الشمولية إلى النظرة التجزيئية، ومن البحث في الآليات التراثية، إلى البحث في الخطاب التراثي بصدد هذه الآليات”(38). والخطأ الثاني مزدوج كذلك، فالجابري يصرح في كتابه “تكوين العقل العربي” أنه يستند في فحصه للعقل العربي على أرقى النظريات العلمية التي تقارب موضوع العقل، بينما ما اعتمد عليه كان متجاوزا ومتقادما في الساحة العلمية، والوجه الآخر لهذا الخطأ، أن الجابري أساء فهم عبارة لفقيه العلم “غونـزيت” عليها سيبني قوله باختلاف العقول باختلاف الميادين المعرفية التي يتفاعل معها العقل ويحتك بها، يقول طه عبد الرحمن: “إن التصور العلمي الأرقى للعقل الذي يدعي الجابري تحصيله والتوسل به في بناء نظرية للعقل العربي مدخول من جانبين اثنين:

أ. تقادم دراسات فقه العلم أو الابستمولوجيا التي استند إليها.

ب. فساد فهمه لعبارة “غونـزيت” إذ حملها على نقيض ما تدل عليه”(39).

إن هذا الاستطراد لابد منه لفهم حقيقة موقف طه عبد الرحمن من العقل الغربي، فطه عبد الرحمن إذ ينتقد إساءة توظيف المناهج الغربية لا يدعو بلسان حاله إلى تجويد هذا الاستعمال والرقي به، بل إن طه لا يفتأ يدعو إلى الخروج من إسار التبعية ونفق التقليد، لكن لا من منطلق الممانعة الثقافية السلبية، وإنما استنادا على قاعدة فلسفية متينة، وقد ذهب في نقده هذا حدا لم يقتصر فيه على نفض التقليد على المستوى المنهجي بل قام بتقويض نموذج العقلانية الغربية ككل، باعتبارها عقلانية مجردة غير مجدية ولا يؤمن شرها.

إن طه عبد الرحمن قبل أن يؤلف “روح الحداثة” الذي بسط فيه الكلام عن الأسس والقواعد الفلسفية للحداثة الإسلامية، أبرز الخلل الذي يعتري الحداثة الغربية في “سؤال الأخلاق”، فانتقد تمثلات الحضارة الغربية لروح الحداثة من خلال الوقوف على الثغرات والهنات التي أحدثتها في المنظومة القيمية الأخلاقية، وهكذا فعادة طه عبد الرحمن أن يبدأ بهدم النسق الشائع ثم يشرع في البناء، وسيرا على هذا المنهج نرى أنه قبل أن نبسط القول في العقل الإسلامي المثالي كما تصوره طه عبد الرحمن لابد من البدء بنقده للمقاربة الغربية لمفهوم العقل.

إن محاولة طه عبد الرحمن في نقد العقل الغربي محاولة جريئة وفريدة من نوعها، سلك فيها مسلكا جديدا لم يسبقه إليها أحد فيما نعلم. لقد بنى نقده للعقل الغربي على منهج ابتكره، مفاده أن أية عقلانية لا بد أن تستوفي ثلاثة معايير؛ “معيار الفاعلية” و”معيار التقويم” و”معيار التكامل”، وهكذا قرأ التعاريف التي قدمها كبار الفلاسفة الأوروبيين للعقل على ضوء هذه المعايير، واستخلص أن العقل الغربي يخل إخلالا عظيما بهذه المعايير. لنوضح كيف توصل طه عبد الرحمن لهذه النتيجة.

قبل أن نبسط الكلام في النقد الطهائي للتعريفين الأرسطي والديكارتي للعقل، لنشرح المعايير الثلاثة التي يجب أن تتوفر في العقلانية المثالية الناجعة.

إن المقصود بمعيار الفاعلية جملة الوسائل التي يتخذها الإنسان لتحقيق مقاصده، وهي على العموم تتسم بالتنوع والتعدد والمرونة والتغير بتغير المواقف والظروف المكانية والزمانية، يقول طه عبد الرحمن عن مقتضى هذا المعيار: “أن الإنسان يحقق ذاته بواسطة أفعال مجالها متسع ومتنوع؛ ويتجلى تحقق الإنسان بواسطة الأفعال فيما يتخذه من مختلف المواقف التي تتحدد بمجموعها هوية سلوكه”(40).

أما معيار التقويم فيقصد به تلك المقاصد ذات الطابع القيمي التي يهفو الإنسان لتحقيقها، وهي على عكس الوسائل تتسم بالثبات والشمول، وبعارة طه عبد الرحمن مقتضى هذا المعيار أن الإنسان “لا يركن إلى ما هو كائن وما هو واقع، بل يسعى دوما أن يكون موجها بقيم معينة تملي عليه ما يجب أن يكون وما يجب أن يقع، ومشدودا إلى معان تعلو بهمته إلى الخروج عن حالة الحاضر وابتغاء أحوال أخرى غيرها”(41).

أما معيار التكامل فمقتضاه أن الإنسان وحدة متكاملة وأي نموذج عقلاني لا بد أن يرعى هذه السمة، فالإنسان لا يقبل التجزيء والتقسيم إلى أشلاء وشذرات “إنه ليس مجموعة من الأجزاء التي تقبل إيقاع الانفصال بينها وإيقاف تأثير بعضها في بعض، وإنما هو عبارة عن ذات واحدة تجتمع فيها مظاهر القوة مع مظاهر الضعف وصفات العرفان مع صفات الوجدان ومستويات النظر مع مستويات العمل وقيم الجسم مع قيم الروح”(42).

فهل التعاريف الغربية للعقل محتوية لهذه المعايير موفية لها؟

يقول أرسطو في تعريف العقل إنه “عبارة عن جوهر قائم بالإنسان يفارق به الحيوان ويستعد به لقبول المعرفة”.

إن هذا التعريف إذ يعتبر العقل جوهرا، أي ذاتا قائمة بذاتها، فإنه يخل بمعيار الفاعلية، ذلك أن من ملازِمات التجوهر الثبات، وهذا ما يسقط عنه سمات التعدد والتنوع والانسجام مع المتغيرات الزمكانية، وهكذا فالتعريف الأرسطي للعقل يخل بشرط معيار الفاعلية الذي يقتضي كما قلنا التوسل بوسائل مختلفة متعددة ومتنوعة، يقول طه عبد الرحمن: “من حيث معيار الفاعلية، فهذا التعريف يجعل من العقل جوهرا، أي شيئا ينـزل منـزلة الذات، بينما الصواب أن يكون العقل فعلا من الأفعال وسلوكا من السلوكات، بل أن يكون أدل الأفعال على الفاعلية وعلى أوصافها”(43). أما من حيث معيار التكامل، فإن هذا التعريف يغفل ربط العقل بمكونات أخرى لا تقل أهمية عن العقل في إطار وحدة تكاملية، إن التعريف الأرسطي للعقل إذ يجوهر العقل فإنه يجزئ الإنسان ويلغي الوحدة والانسجام بين المكونات التي يزخر بها الكيان الإنساني، أو كما يقول طه عبد الرحمن: “إن تخصيص العقل بصفة الذات يجعله منفصلا عن صفات أخرى للعاقل تشارك في تحديد ماهية الإنسان كالعمل والتجربة؛ فلو جاز التسليم بجوهرية العقل على طريقة اليونان، لجاز التسليم بجوهرية العمل وجوهرية التجربة”(44). أما عن معيار التقويم، فإن التعريف الأرسطي يقترب منه وإن لم يستوفه كاملا، فالتعريف يجعل من العقل مقوما ومقصدا على أساسه يتميز عن الحيوان، غير أن العقل كما تم تصويره في الفكر الغربي قد خرج بحكم الغلو فيه عن حدوده الناجعة وانقلب بالضرر على الإنسان، يتبين لنا هذا عندما نتأمل تلك الآراء الفلسفية التي ألهت العقل على سبيل المثال لا الحصر.

وهكذا فالعقل الأرسطي ليس نموذجا مثاليا للعقل يحتذى به ويُجتهد في بلوغ مراتبه، لأنه يخل بمعيار الفاعلية بحكم تنـزيل العقل منـزلة الجوهر بدل أن يعتبر فعلا من أدل الأفعال على الفاعلية، ولا يستوفي معيار التكامل لأنه لا ينظر إلى القدرات الإنسانية نظرة تستبطن الوحدة والتكامل، بل إن التعريف الأرسطي للعقل يقع في الفصل والتقسيم، وأما معيار التقويم، فإن التعريف الأرسطي إذ ينظر إلى العقل كماهية تميزه عن الحيوان، أي كقيمة على ضوئها يقيم ما يواجهه من قضايا، فإنه يوفه جزئيا، إلا أنه لم يضبط حدوده حتى انقلب إلى شر وضرر.

أما التعريف الديكارتي للعقلانية فمختزل في الإطار المنهجي، يقول “ديكارت” في تعريفها أنها “استخدام المنهج العقلي على الوجه الذي يتحدد به في سياق ممارسة العلوم الحديثة، ولا سيما الرياضية منها”.

ويمكن أن نقول أن هذا التعريف ظل حاضرا في ممارسات العقل الغربي، بل إنه يتنـزل منـزلة الروح بالنسبة له، من هنا فتقييم هذا التعريف لن يكون مجديا إلا إذا أمعنا النظر في الممارسة الإجرائية للعقل الغربي.

إن المنهج العقلي حسب طه عبد الرحمن لا يستوفي “معيار التقويم”، فإذا كان هذا الأخير يستلزم تحقيق النفع في المقاصد، فإن هذا المنهج يوقعنا في عدة آفات، هي “النسبية” و”الاسترقاقية” و”الفوضوية”(45)، والمقصود بالنسبية اختلاف القوانين التي يحتكم إليها العقل اختلافا جوهريا كما هو مشاهد في علم المنطق، والمقصود بالاسترقاقية، استرقاق التقنية للإنسان، فإذا كانت الثورة العلمية التي تحققت بفعل تطبيق المنهج العقلي تروم تحرير الإنسان وتحقيق سيطرته على الطبيعة فإنه على العكس من أحلام الإنسان الغربي الزاهية اكتسحت التقنية حياته واستحالت عالما قائما بذاته يملي على الإنسان ويستعبده، ويرى طه عبد الرحمن أن الاسترقاق نتيجة حتمية لمبدأين شائعين في الفكر الغربي؛ أحدهما لا عقلاني والآخر لا أخلاقي، فالمبدأ اللاعقلاني مفاده “أن كل شيء ممكن”، وهو ما سيؤدي في آخر المطاف إلى استباحة الآلة للإنسان، و المبدأ اللاأخلاقي “أن كل ما كان ممكنا وجب صنعه”، وهذا المبدأ يغتال الجانب الأخلاقي في الإنسان لأنه لا يقيم له وزنا مادام كل ما كان ممكنا واجب.

وأما “معيار التكامل”، فإن النظريات التي يتوصل إليها العقل المجرد لا يكمل بعضها بعضا ولا يركب بعضها فوق بعض مثل الطبقات، بل إن كل نظرية علمية مستحدثة تلغي سابقتها وتهدمها، وهذا ما سماه “غاستون باشلار” بـ “القطيعة الإبستمولوجية” عند حديثه عن تاريخ العلوم والمسار الذي تتخذه المعارف في تطورها، من هنا فالعقل المجرد لا يركن إلى نموذج علمي متكامل بل لا يفتأ يهدم ما بناه، وهذا من الفوضوية والعبث. إذن فمعيار التقويم غير متحقق في التعريف الديكارتي للعقلانية.

أما “معيار الفاعلية”، والذي مقتضاه أن يتوسل الإنسان بوسائل نافعة وناجعة، فإن طه عبد الرحمن يرى أن الممارسة العلمية والعقلية في الغرب أخلت به كذلك، بتكلفها للموضوعية وجمودها على الظاهر واتخاذها للوسائط. فهذه الممارسة العقلانية العلمية تزعم أنها لا تسمح بنفاذ القيم الأخلاقية والمعاني الروحية فيها، وهذا الزعم غير صحيح، ذلك أن “تحصيل تمام الموضوعية غير ممكن، وكل ما تفعله هذه الممارسة العقلانية هو أنها تستبدل بالمعاني الأخلاقية الدينية معاني و قيما أخرى غير دينية وغير أخلاقية بما فيها الموضوعية نفسها”(46)، والمقصود بالجمود على الظواهر تلك الآفة التي أحدثتها المدرسة الوضعية لـ “أوكست كونت”، حيث دعت إلى غض الطرف عن الماهيات وحصر الاجتهاد العقلي في الظواهر، وهذه حسب طه عبد الرحمن تؤدي إلى التسوية بين الشيء وظاهره، كما تغفل البحث في الأشياء الخفية مثل الروحانيات مثلا، وهي بهذا تضيق واسعا وتحجر على العقل طموحه للترقي إلى مراتب أعلى من خلال إدراك لطائف الأمور التي تسهم بالطبع في توسيع مدارك العقل. وأما اتخاذ الوسائط، فيمكن أن نقول بأن طه عبد الرحمن يقرأ هذه الآفة بالذات بمقارنتها مع المعرفة الصوفية، ذلك أن أعلى درجات المعرفة هي العرفان، أي تلك المعرفة التي تنقدح في القلب ككشف صوفي وهبة ربانية، إن المنهج العقلي يقول طه عبد الرحمن: “لا ينفك عن التوسل بالوسائط المادية في كل شيء، (لذا)، فقد امتنع عليه إدراك ما لا يتأتى بطريق هذه الوسائط كالمعاني الروحية، وبالتالي خلا من وصف النجوع المطلوب”(47).

وإذا كانت الممارسة العقلية والعلمية للعقل المجرد تخل بمعياري الفاعلية -الذي يقتضي الارتكاز على وسائل نافعة -، والتقويم – الذي قوامه تحقيق غايات ومقاصد ناجعة، فقد اختل بالضرورة معيار التكامل.

إن العقل الغربي سواء تعلق الأمر بالجانب النظري، أي الدلالات التي ينطوي عليها تعريف العقل وصفته، أو الجانب التطبيقي العملي في ممارساته وخلفيات هذه الممارسة، لا يمكن أن يتخذ كنموذج يحتذى به، من هنا ضرورة التسلح بمقومات الاجتهاد الفلسفي من أجل بناء نظريات في العقل الإسلامي تؤسس لما يمكن أن يعتبر محورا للمجال التداولي الإسلامي، وهو “العمل”.

2. الانطلاق من المجال التداولي أس الإبداع

كان لانتشار القراءات التجزيئية للتراث أبلغ الأثر في إبداع طه عبد الرحمن لنظريته في المجال التداولي، فهذا الأخير يسمح بتكريس الرؤية التكاملية للتراث باعتباره صادرًا عن أصول واحدة وقواعد توحد كل أطياف الفكر الإسلامي مع اختلافها الشديد. لكن ماذا يقصد طه عبد الرحمن بالمجال التداولي؟

لقد نحت طه عبد الرحمن هذا المفهوم استنادا على دلالاته اللغوية، فكلمة التداول من “داول” وتفيد معنى “تناقله الناس وتداوده فيما بينهم”، والنقل والدوران يستعملان في اللغة كما يستعملان في المجال التجريبـي المحسوس، فالنقل والدوران في اللغة يحيلان على معنى التواصل، بينما يؤديان معنى التفاعل في استخدامهما التجربي. وأما المجال فمن “جال” وتفيد معنى الدوران كذلك، وبهذا يكون المجال هو “موضع الدوران”، وإذا انتقلنا من الدلالة اللغوية إلى الدلالة الاصطلاحية، نجد طه يعرف المجال التداولي بأنه: “محل التواصل والتفاعل بين صانعي التراث”(48)، وقد يكون من المهم التنبيه هنا أن طه عبد الرحمن في نحته لمفهوم المجال التداولي ارتكز على إحدى القواعد المشكلة لهذا المجال، وهي القاعدة اللغوية، إذ استعاد دلالاتها اللغوية ثم ربطها بتلك الدلالات الاصطلاحية. إن المجال التداولي يشمل “اللغة المستعملة والثوابت العقدية وجانبا من الممارسة المعرفية”(49)، غير أن المجال التداولي أخص من المجال الثقافي، فهذا الأخير قد تسود فيه رؤى وتصورات لا تمت بصلة لمجال تداول الثقافة، بل قد تكون تغلغلت وترسخت من خلال تأثرها بمجالات معرفية أخرى. إن المجال التداولي يضم أخص خصائص أمة معينة، وقد حصر طه هذه الخصائص في ثلاث، الخاصية اللغوية، والخاصية العقدية، والخاصية المعرفية. فالقاعدة اللغوية هي أساليب البيان التي توظفها أمة معينة، وبقدر ما تكون “هذه الأسباب مألوفة للمخاطب موصولة بزاده من الممارسة اللغوية، فهما وعملا، يكون التبليغ أفيد والتأثير أشد”(50)، وارتكاز المفكرين العرب القدامي على الدلالات اللغوية الشائعة في منظومة بيانية معينة من الأمور المعهودة، فهذا الإمام الغزالي يقول: “فأنا اخترعت (الاصطلاحات) من تلقاء نفسي، لأن الاصطلاحات في هذا الفن ثلاثة، اصطلاح المتكلمين والفقهاء والمنطقيين، ولا أوثر أن أتبع أحدا منهم، فيقصر فهمك عليه، ولا تفهم اصطلاح الفريقين الآخرين، ولكن استعملت من الألفاظ ما رأيته كالتداول بين جميعهم، واخترعت ألفاظا لم يشتركوا في استعمالها، حتى إذا فهمت المعاني بهذه الألفاظ فما تصادفه في سائر الكتب يمكنك أن ترده إليها وتطلع على مرادهم منها”(51).

وأما الخاصية العقدية، فهي الأخرى كان لها تأثير في الخطاب العربي الإسلامي، وتشكل إحدى قواعد المجال التداولي، فلابد من اعتبارها والأخذ من معانيها واستلهام المضامين التي تحتويها، فهي من غير شك من الأسباب التي إن اعتبرت نفضنا عنا غبار التقليد، وقمنا بتحقيق المبادرة الفلسفية التي تحفظ لنا خصوصيتنا. وقد انتقد طه عبد الرحمن في هذا الصدد الأخذ بمناهج تطمس الدوافع العقدية التي كانت وراء بلورة التراث الإسلامي واستبطان اللاعقدي من العقدي، يقول طه عبد الرحمن: “غير أننا بدل أن نطلب فيها (أي الممارسة التراثية) هذا الأصل العقدي ونطلب طرق بعثه بيننا، أخذنا نقلب وجوهها، ونبحث فيها عما نظن أنه يقطع صلته بهذا الأصل كما لو كان من الممكن أن نولد ما هو غير عقدي مما هو عقدي”(52)، وبالفعل فقد بالغ بعض المفكرين العرب في توظيف هذا المنهج، وقد اتخذ صورا عدة، مثل رد الميتافيزيقي إلى الواقعي بحيث يتم فصل السماء عن الأرض، والعقدي إلى السياسي أو الاقتصادي أو القبلي، بقراءة القضايا والإشكالات الدينية قراءة تردها جملة لعوامل اجتماعية، وهي مقاربات مشهورة ومتداولة في الفكر العربي المعاصر، حتى يكاد دور المفكرين أن يكون محصورا في هذه المهمة بالذات، أي استجلاء اللاديني من الديني، من أجل إضفاء نوعا من العلمنة على الممارسة التراثية.

أما الخاصية المعرفية فهي ثمرة تفاعل الخاصيتين السابقتين، أي اللغوية والعقدية، فاللغة والعقيدة يسهمان بشكل فعال في بناء النسق الاستدلالي لأمة معينة، ونذكِّر هنا بقولة السيرافي الذي ربط بين المنطق الأرسطي والنحو اليوناني، فرأى أن الأول هو تجل واضح للثاني، أو بالأحرى استقراء له، يقول طه عبد الرحمن: “لا يخفى أن ما يتناقله المتخاطبون بواسطة لغتهم وما يتعاملون به بموجب عقيدتهم هو جملة مضامين دلالية وطرق استدلالية تتوسع بها المدارك العقلية في أنفسهم كما تنفتح بها آفاق العالم من حولهم”(53).

إن الانطلاق من المجال التداولي الإسلامي العربي في بناء الفكر من شأنه أن يحقق الاستقلال الفلسفي، وينقلنا من الإبداع المفصول إلى الإبداع المأصول، وطه عبد الرحمن يسمي المنقول إبداعا من باب التجوز فقط، وإلا فكل فلسفة لا تتضمن خصوصية المجال التداولي لا يمكن تسميتها فلسفة مبدعة، فالإبداع صفة ذاتية لابد أن تنطلق من الذات، والذات هي جملة الأسباب اللغوية والعقدية والمعرفية التي أشرنا إليها، وباستوحائها والمزج بين عناصرها يمكن أن نؤسس لاستقلال فلسفي، أما استئناف النظر في فلسفة منقولة والاجتهاد في توسيع آفاقها استشكالا واستدلالا فمهما كانت جديتها فإنها ما لم تنظر إلى هذا المنقول استنادا إلى المجال التداولي فستظل فلسفة غريبة عنا لا تمت بصلة إلينا.

لكن هنا قد يثار سؤال، هل يدعو طه عبد الرحمن إلى فلسفة منعزلة لا تتفاعل مع الفلسفة الأخرى وتنطوي على ذاتها، أو فلسفة منغلقة تعتقد أنها آخذة بناصية كل حقيقة؟
إن طه عبد الرحمن لا يدعو لهذه ولا لتلك، وإنما يدعو لاستحضار المجال التداولي في التفلسف من أجل حفظ المبادرة الفلسفية، وهذا على مستوى الأصول التي تقوم عليها كل فكرة، إذ لابد أن ترتكز على حقيقة من الحقائق اللغوية أو العقدية أو المعرفية، وهذا ما يسميه “الانطلاق من الحقائق المأصولة المأخوذة من المجال التداولي”(54)، إذ من شأن هذه المبادرة الفلسفية الطامحة للاستقلال أن تخلصنا من عقدة النقص أو الشعور بالدونية إزاء عطاءات فلسفية أخرى، بل من شأنها أن تدفع الإبداع الفلسفي إلى أقصاه فيطال النظر المبدع في الفلسفات الأخرى، بحيث يدخل تعديلات وتحويرات على الفلسفات المنقولة بما يوفي بمقتضيات المجال التداولي، وهذا ما يسميه طه عبد الرحمن “الاقتدار على إدخال تحويلات على المنقول بما يوفي بمقتضيات المجال”(55)، ثم إن النظر المبدع في الفلسفات الأخرى قد يعين على اقتناص الحقائق التي هي ثمرة التفاعل بين المأصول والمنقول، فنكون بذلك سباقين لجني ثمار هذا التلاقح الفكري.

نحو عقل مؤيد:

1.      تعريف العقل:

لا يقف طه عبد الرحمن كثيرا عند التعريفات النظرية للعقل، وفي الحالات النادرة التي يلتفت إليها لا نجده يقاربها مقاربة نظرية، بقدر ما يفككها على ضوء الفعالية العملية التي تصدر منه، إنه لا يجدي بناء أنساق فكرية نظرية للعقل، وإنما الأهم هو التحقق من قدرتها على الإسهام في بلورة كينونة إنسانية عاملة مبدعة وخلاقة. وبهذا نكون أمام التعريف الطهائي للعقل إزاء تطبيق عملي لمقتضيات المجال التداولي، الذي يحتل فيه “العمل” أو الوصل بين القول والفعل بؤرة مركزية، يقول طه عبد الرحمن ناعيا الانسلاخ عن الخصوصية والانجراف مع مجالات تداولية مغايرة في تعريف العقل: “لقد تعددت هذه المعاني (معاني العقل) في التراث المعرفي العربي تعددا فاحشا وتباينت تباينا شنيعا كان الأصل فيها النقل الآلي لمعاني مقابلاته من اللغات الأجنبية، قديمها (اليونانية واللاتينية والسريانية والفارسية والعبرية) وحديثها (الفرنسية والإنجليزية والألمانية”)(56). إن طه عبد الرحمن عندما يعرف مفهوم العقل يستحضر محددين؛ الأول ضرورة مراعاة ما به قوام هذا المجال التداولي، الثاني، الانطلاق من قاعدة لغوية أصيلة، بحيث تُربط الدلالة الاصطلاحية للعقل بالحمولة اللغوية للمفهوم.

إن المجال التداولي الإسلامي يتحدد من خلال ثلاثة مبادئ أساسية:

الأول:تقديم العمل على العلم، بحيث يكون العلم الذي لا عمل فيه مجرد لغو لا طائل منه.

والثاني: عدم اتخاذ العلم كترف، بحيث يجوز الاستزادة منه دون أن يقترن بالعمل، إنه لابد من استعمال العلم، أي المساوقة بين العلم والعمل كتوأمين متلازمين.

والثالث:ضرورة انتقاء العلم المثمر، فلا يطلب ولا تشرئب الأعناق إلا إلى العلوم النافعة التي يرجى منها خير.

يقول طه عبد الرحمن في جُماع هذه المبادئ: “يأخذ هذا المجال بمبادئ أساسية تحدد العلاقة بين العلم والعمل، أحدهما: مبدأ تقديم اعتبار العمل، و يقضي بأن كل مسألة لا يترتب عليها عمل لا فائدة منها ولا حاجة للبحث فيها، بل يقضي بأن كل كلام ليس تحته عمل، يجب تركه، والثاني مبدأ العلم المستعمل، ويقضي بأن لا يتعلم المرء من العلم إلا ما يعمل به، ولا يندفع في الاستزادة منه، حتى يعمل بما حصل منه، بل عليه أن يقتصر منه على القدر الذي يعرف به العمل، والثالث مبدأ العلم النافع ويقضي بأن لا يتعاطى المرء إلا العلم الذي إذا عمل به، لا تقتصر ثماره على عاجله، بل تتعداه إلى آجله، ولا تقتصر على ذاته، وإنما تتعداه إلى غيره“(57). ويبدو أن هذه الشروط لا تتوفر إلا في العلم الشرعي، فهو العلم النافع المستعمل والذي يمتاز عليه العمل، بحيث يكون العلم مجرد بوابة مؤدية إليه، فهذا العلم ليس غاية في ذاته وإنما يراد من أجل العمل. من هنا فإن العقل ومراتبه ستقيم وتعرف على ضوء المواقف التي يتخذها من العمل الشرعي كما سنرى.

إن طه عبد الرحمن ينطلق في تعريفه للعقل من الدلالات الأصيلة التي يؤديها المفهوم في اللغة العربية، وهكذا فنحن أمام تطبيق عملي لفكرة طالما أكد عليها فيلسوفنا، وهي اشتراط الأخذ بالمبادرة الفلسفية التي تعي ضرورة استحضار قواعد المجال التداولي، والتي تشكل فيها القاعدة اللغوية إحدى الروافد المهمة. إن العرب يستعملون العقل في سياق حديثهم عن الدابة فيقولون “عقل الدابة” أي قيدها، فالعقل يؤدي معنى التقييد، وهذا الأخير كذلك يستعمل للدلالة على ثلاثة معاني متقاربة، سيجمع طه عبد الرحمن بينها من أجل الخروج بتعريف هو بمثابة عصارة امتزاج الدلالات اللغوية مع الدلالة الاصطلاحية الغربية، إن هذه العملية الفكرية هي التي يسميها طه عبد الرحمن “التقريب”، أي جعل فكر الآخر كأنه أصيل وغير مستورد وذلك بأن يبصم بمعالم الذات. وهذه الدلالات الثلاث للتقييد هي “الكف” و”الضبط” و”الجمع”. أما التقييد بمعنى الكف فيقصد به “الفعل الذي يجعل الإنسان يكف عن الخطأ في القول والشر في الفعل”(58)، والتقييد بمعنى الضبط فيعني أن العقل يمنع ما يُحَصله الإنسان من الانفلات والنسيان، فالفاعلية العقلية من مهامها التي تقوم بها ضبط المدركات والحيلولة دون نسيانها، وأما التقييد بمعنى الجمع، فمعناه وعي الإنسان بما وصله كما يعي الإناء ما يوضع فيه. ثم يلاحظ طه عبد الرحمن أنه على الرغم من وجود بعض الفوارق الدلالية بين الألفاظ الثلاثة إلا أنها تشترك في معنى “الربط”، فالكف ربط مانع، أي يمنع المرء من الوقوع في الزلل النظري والعملي، والضبط ربط ماسك، أي أن العقل يمسك مدركاته ويمنعها من الانفلات، والجمع ربط واصل، أي أن العقل يصل ما يعقله ويعيه، وهكذا فالعقل ينسج شبكة من الارتباطات، ومادام الربط بين الأشياء يعني إدراك تلك العلاقات الكامنة بينها، فيكون العقل حسب طه عبد الرحمن هو “إدراك الإنسان للعلاقات القائمة بين الأشياء”(59)، وتبعا للرؤية الكينونية (الأنطولوجية) للعقل في الفكر الطهائي، التي ترى بأن القلب هو المسؤول عن التعقل فإنه سيضيف هذا المحدد في موضع آخر من التعريف، فيقول في الصيغة النهائية لتعريف العقل بأنه “إدراك القلب للعلاقات القائمة بين الأشياء”(60).

2.      هرم العقل:

ليس العقل في فلسفة طه عبد الرحمن مرتبة واحدة، وإنما هو مراتب متباينة متعددة، تختلف باختلاف المواقف الذي تتخذه اتجاه العمل الشرعي، وهكذا فنحن إزاء الفلسفة الطهائية أمام سلم عقلي يضم ثلاث درجات، درجة العقل المجرد، العقل المسدد، والعقل المؤيد. وقبل أن نفصل في هذه المراتب العقلية ونكشف عن آفات كل منها وكمالاته، لابد أن نعرج على مسألة متعلقة بتناول طه عبد الرحمن لموضوع مراتب العقل هذه؛ إنه في اعتقادنا لا يمكن أن نخلص إلى فهم واضح وكامل لهرمية العقل في هذه الفلسفة إذا لم نربط بين كل ما ذكره طه عبد الرحمن ونجمع بينه في سياق البحث عن الرؤية التكاملية؛ فالناظر مثلا في كتاب “العمل الديني وتجديد العقل” سيجد بسطا وافيا لمراتب هذه العقول، لكنه لا يجد ذكرا للمعايير التي أقام عليها قراءته هذه، وإنما نجدها في كتابه “سؤال الأخلاق”، من هنا فنحن سنحاول أن نقدم قراءتنا في مراتب العقول من خلال التنسيق بين ما ذكره طه عبد الرحمن في الكتابين.

لقد أشرنا عند بسطنا الكلام حول نقد طه عبد الرحمن للعقل الغربي إلى المعايير التي اتكأ إليها، وهي معيار الفاعلية أو النجوع في الوسائل، ومعيار التقويم أو النفع في المقاصد، ومعيار التكامل أي انسجام المعيارين السابقين. وطه عبد الرحمن في مقاربته لمراتب العقل سينظر إلى الإشكالية على ضوء هذه المعايير، مع استحضار محدد آخر؛ ألا وهو موقفه من الشرع والعمل.

فأحط مراتب العقل، هو ذلك الذي لا يوفي شيئا من شروط هذه المعايير، ولا يقيم وزنا للعمل في الغالب، ويسميه طه عبد الرحمن “العقل المجرد“. فهذا العقل يأبى الرجوع إلى أصله الذي خلق عليه، إنه عقل مجرد بمعنى “منقطع عن العمل الشرعي”(61). وإذا كنا قد أشرنا إلى نقد طه عبد الرحمن للعقل الغربي وهو يندرج تحت النقد العام للعقل المجرد، أي حدوده العامة، فإننا الآن سننظر في حدوده الخاصة، والمقصود بهذه الآخرة الآفات التي تسبب فيها الأخذ بالتعقل المجرد داخل الفكر الإسلامي.

إن طه عبد الرحمن يرى أن حدود العقل المجرد وآفاته لا تنكشف في مجال معرفي انكشافه في مبحث الإلهيات، فإغفاله للعمل الشرعي وتوسله بالعقل النظري قد جعله يقع في عدة آفات حالت بينه وبين مقصده المتمثل في التقرب إلى الله تعالى.

وذلك أن توسلهم باللغة أوقعهم فيما يسميه طه عبد الرحمن “الوصف الرمزي”(62)؛ إن اللغة نسق من الرموز فهي لا تؤدي وظيفة التبليغ على أحسن وجه في العالم المادي الملموس والمحسوس، فما ظنك بالقضايا الميتافيزيقية، وعلى رأسها الوجود الإلهي، إن “كل ما يمكن أن ينقله النظر من خلال الرموز اللغوية لا يتعدى أن يكون تصورات لأعيان خارجية ليس بينها وبين هذه الرموز أي تقابل يختص فيه كل رمز لغوي بالدلالة على عين خارجة واحدة”(63)، وهكذا فعالم الوجود مستقل عن النسق اللغوي استقلالا تاما، ولما كانت المقاربة المجردة للإلهيات تتوسل باللغة فقد كانت بعيدة عن الوفاء بمطلب المعرفة الإلهية من خلال التحقق العياني لا الذهني الذي يبقى حبيس الرموز والأنساق العبارية.

والآفة الثانية، الوقوع في الوصف الظني، فاستدلالات العقل المجرد على الوجود الإلهي لا تبرح مرتبة الظن ولا ترقى إلى اليقين، إن “أدلتهم تقع فيما يخرج صورتها عن صورة البرهان، فالتصورات التي تقوم عليها معالمها غير محددة، وطريقة تحصيلها غير مضبوطة، وصفتها الإجرائية غير معلومة”(64)، و يعضد طه عبد الرحمن ما ذهب إليه من خلال النظر إلى تنوع هذه الأدلة، فهذا التنوع ينطوي على ابتغاء درء آفة الظن وبلوغ مرتبة اليقين بتعديد الأدلة التي لا تشفي ولا تكفي بمفردها.

والآفة الثالثة هي الوقوع في التشبيه؛ إن أي مقاربة عقلية-لغوية لشيء ما غائب عن الأنظار ومنتم لعالم الغيب لابد أن يقع في آفة التشبيه، وذلك لأن هذه المقاربة لابد أن تتوسل بآلية القياس، ومعلوم أن هذه الأخيرة تسقط حقائق مشاهدة على الحقائق المغيبة، حتى يتسنى للعقل استيعاب هذا الغيب وإلا ظل مجهولا، وهنا ينكشف لنا القصور في المقاربة النظرية للمبحث الإلهي إذ أنهم “أحبوا أم كرهوا واقعون في التشبيه بصنفيه: التشبيه الاضطراري الذي لا تنفعهم معه حيلة، للميل الطبيعي للعقل النظري إلى القياس على المعلوم من الأشياء، والتشبيه الاختياري الذي يسوقهم إلى الخوض المتكلف والشنيع في حقائق لطيفة تستلزم من الأدب والتعظيم ما لا يطيقه العقل المجرد”(65).

نخلص إلى أن العقل المجرد، إذ ينقطع عن العمل الشرعي الذي يوسع من آفاق العقل ويقوي قدراته، وبرفضه للحالة الفطرية التي خلق عليها، لا يتوسل بوسائل نافعة ولا يبلغ مقاصد نافعة، كما أنه في الفكر الإسلامي يعجز هذا العقل عن مقاربة الوجود الإلهي مقاربة يقينية، بسبب توسله بالنظر المجرد واللغة، يقول طه عبد الرحمن في هذا العقل أنه “لا يحصل له اليقين لا في مقاصد أعماله من حيث نفعها، ولا في وسائله من حيث نجوعها”(66).

وعلى طرف نقيض هذا العقل المجرد، نجد أن العقلانية غير المجردة تنقسم إلى قسمين “العقلانية الغير المجردة القادرة على إدراك المعاني الثابتة والشاملة” و”العقلانية غير المجردة القادرة على إدراك الوجوه المتغيرة والخاصة”(67)، فالأولى هي التي يسميها طه عبد الرحمن “العقل المسدد”، فهو عقل مشتغل لا ينفصل عن العمل الشرعي، ويبدو أن طه عبد الرحمن يطلق هذا العقل على الديانيين من سلفيين وفقهيين، يتبين لنا هذا باتضاح عندما ينتقد آفات هذا العقل من خلال الوقوف على آفتي التفقيه والتسلف.

يقول طه عبد الرحمن في تعريف العقل المسدد بأنه “عبارة عن الفعل الذي يبتغي به صاحبه جلب منفعة أو دفع مضرة، متوسلا في ذلك بإقامة الأعمال التي فرضها الشرع”(68)، وعند تفكيك هذا التعريف نجد أن لهذا العقل ثلاثة مزايا، الأولى اشتراط موافقة الشرع وهي التي تقي من سوء التوجيه، فالعقل الذي يستوحي قيما أخرى غير موافقة للشرع لا يأمن أن يقع في نقيض مقصده من حيث أنه ينوي الصلاح والفلاح، وهذا الذي حصل في العالم الغربي، فالإنسان الغربي كان يمني نفسه بالمستقبل الزاهي، لكنه وجد نفسه يتمرغ في جملة من الآفات التي نجمت عن الأخذ بما يسمى في أدبيات مدرسة فرانكفورت “العقل الأداتي”. أما المزايا الأخرى، فيقول عنها طه عبد الرحمن: “وركن اجتلاب المنفعة الذي ينبني على القيم المعنوية، ويتطلب بعد النظر، ونـزاهة النفس، وركن الاشتغال الذي يفيد في تجسيد العمل، وفي رفع قيمة العمل المقترن به، وفي توسيع المدارك، وفي تصحيح السلوك أصلا ومقصدا ووسيلة”.

لكن يبدو واضحا أن هذا العقل على الرغم من مزاياه هذه فإنه لا يرعى شرط نجوع الوسائل، من هنا فهو يقع في آفات تتوزع بين الممارستين الفقهية والسلفية. إن من شرط نجوع الوسائل تعددها وتنوعها، أما الممارسة الفقهية السلفية فترى أن هذا التنوع قد يكون من مداخل الوقوع في البدعة، من هنا الوقوع في آفة التقليد، ويقسمه طه عبد الرحمن إلى ثلاثة أقسام التقليدي النظري والاتفاقي والعادي، كما أن الممارسة الفقهية التي لم تعر اهتماما كبيرا للفقه القلبي والأخذ بالقيم والمعاني الروحية التي تؤطر السلوك الإنساني، وقعت في آفة التظاهر وهي وجود “تفاوت في الأعمال بين واقع الاشتغال وبين المقاصد المتوخاة من هذه الأعمال”(69)، وهذا التظاهر يتخذ شكل “تزلف” أو “تكلف” أو “تصرف”(70).

وأما الآفات العملية للممارسة السلفية فقد كانت نتيجة للإخلال بمقومين ضروريين في التسديد العملي وهما “أن تكون الممارسة السياسية مبنية على الممارسة القربانية” و”أن تكون الممارسة النظرية غير منفكة عن الممارسة القربانية”، أما المقوم الأول فمقتضاه الأخذ بالقيم الأخلاقية التي توجه العمل السياسي ويحتكم إليها، وذلك لتجنب الأخذ بالأخلاق الميكيافيلية التي تتوسل كل السبل، شرعية كانت أو غير شرعية، والمقوم الثاني مقتضاه تغليب البعد العملي على البعد النظري المجرد، وهذا انسجاما مع المجال التداولي الإسلامي.

غير أن الممارسة السلفية أخلت بالتسديد العقلي، عندما عملت بنقيضهما، فوقعت في “التجريد” و”التسييس”، فأما التجريد فيقصد به طه عبد الرحمن “إفراد الفعل العقلي النظري بالقدرة على التأمل في النصوص”(71)، والفكر السلفي بنظره إلى النصوص الدينية من خلال العقل يكون قد تقهقر رتبة إلى الوراء واستحال عقلا مجردا، إذ أن العقل إنما يتسدد بالعمل الشرعي الذي يوفق الإنسان ويرشده للحق.

والآفة الثانية هي التسييس، فالحركات السلفية جعلت من السياسة مدخلا للإصلاح الاجتماعي، غير أن إفراد السياسة بمكانة مركزية في الإصلاح لا يأمن معها أن تتدنس القيم التسديدية التي تأخذ بها، ويرى طه عبد الرحمن أن التسييس يوقعنا في الآفات التالية “ترك الأخذ بالمعاني الروحية” و”ترك العمل بالقواعد الأخلاقية” و”ترك الاستقامة”.

أما العقل المؤيد، فهو العقل الذي استطاع من خلال تغلغله في العمل الشرعي وأخذه بأخلاق الفطرة التي خلق الله الناس عليها أن يتجاوز آفات وحدود العقلين المجرد والمسدد، فهو يراعي شرط النجوع في الوسائل التي يوظفها، والنفع في المقاصد التي يبتغيها، وهذا العقل هو نفسه العقل الصوفي، الذي لا يقف عند ظواهر الأشياء في الماديات المحسوسة، كما أنه يقصد تحقيق الشهود والمعاينة في الغيبيات، وسبيله إلى ذلك العمل الشرعي الذي يجلب التأييد الإلهي.

خلاصة:

كانت فلسفة طه عبد الرحمن ارتدادية وردة فعل على الجو الثقافي الذي طبع الفكر العربي المشحون بالتقليد، إنها لم تكن من جنس رجع الصدى، بل كانت فلسفة اشرأب عنق صاحبها لشق مسار فلسفي آخر يقطع مع عهد التبعية الفكرية ويهفو بها لمعانقة أنوار الإبداع عن طريق انتشال هذا الفكر من نفق التقليد، في هذا السياق ندرك قيمة ملاحمه النقدية، نقد أهم قراءة للعقل العربي، نقد العقل الغربي، نسف دعوى كونية الفلسفة، ضرورة المبادرة الفلسفية، ضرورة الانطلاق من المجال التداولي، إبداع السؤال المسؤول.. إلخ.

لقد كانت فلسفة طامحة فعلا، زرعت بذورا قد تزهر ثمارا يانعة إذا وجدت من يسقيها بماء تأملاته، ويستأنف النظر في مضامينها، مستحضرا أهم الانتقادات التي وجهت إليها. ولعل أكبر عقبة تواجه الفلسفة الطهائية تكمن بالضبط في التخفيف من حدة صوريتها وإضفاء مسحة واقعية عليها، لقد كتب العروي يقول وهو يومئ إلى فلسفة طه عبد الرحمن “إن صناعة المنطق تعرقل التوجه إلى الواقع”(72)، وبالفعل فإن فلسفة طه عبد الرحمن ذات طابع منهجي، ويمكن أن نقول أنها لا تنخرط بعنفوان في الواقع، يضيف العروي “هذا النوع من الفحص، ولنسمه مؤقتا منطق المناظرة، لا يفيد أبدا، لأنه يتوجه بالأساس إلى صاحب السؤال ويحاول إسكاته. وهذا ما نلاحظ حولنا. هدف كل نقاش هو إسكات من يكشف عن الواقع لا التحقق من واقعية الواقع”(73).

إذا كان الجابري عمل في مشروعه الضخم على إثبات مشروعية المناهج الغربية، وذلك من خلال تنـزيلها على تراثنا، والعروي عمل على تيئيسنا من ذواتنا، فإن طه على العكس كرس جهده لإعادة الاعتبار للذات بالاضافة إلى اجتهاده الذي يحسب له في ابتكار مناهج جديدة، لكن يبقى كل فكر ناقصا ما لم يضع النقاط على الحروف كما يقال، لابد أن نضع أيدينا على مكمن الجرح، ونسمي إشكالاتنا بأسمائها من غير مواربة، وبخطاب واقعي صريح..

إضفاء مسحة من الواقعية.. ذلك ما يعوز المشروع الطهائي!

* * *

الهوامش

(1) محمد المصباحي، إشكالية العقل عند ابن رشد. بيروت. المركز الثقافي العربي. 1988. ط1. ص7.

(2) طه عبد الرحمن، سؤال العمل: بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم. الدار البيضاء. المركز الثقافي العربي. 2012. ط1. ص 92 وما بعدها. انظر كذلك في النقطة نفسه: طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية. الدار البيضاء. المركز الثقافي العربي. 2006. ط3. ص 13 وما بعدها.

(3) طه عبد الرحمن، العمل الديني وتجديد العقل. الدار البيضاء. المركز الثقافي العربي. 2006. ط4. ص 9.

(4) السيد ولد أباه، أعلام الفكر العربي: مدخل إلى خارطة الفكر العربي الراهنة. بيروت. الشبكة العربية للأبحاث والنشر. 2010. ط1. ص 71.

(5) نفسه، ص 74-75.

(6) طه عبد الرحمن، العمل الديني و تجديد العقل. ص 103.

(7) طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق، ص 225.

(8) نفسه، ص224.

(9) طه عبد الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي. الدار البيضاء. المركز الثقافي العربي. 2006. ط2. ص 52.

(10) نفسه، ص53.

(11) نفسه.

(12) طه عبد الرحمن، سؤال العمل، ص 42.

(13) نفسه.

(14) نفسه، ص 43.

(15) طه عبد الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي. ص 54.

(16) نفسه. ص 55-56.

(17) نفسه، ص 56.

(18) نفسه، ص 59.

(19) نفسه، ص 60.

(20) نفسه، ص 61.

(21) طه عبد الرحمن، سؤال العمل. ص 46.

(22) نفسه، ص 48.

(23) طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة: 1. الفلسفة والترجمة. الدار البيضاء. المركز الثقافي العربي. 1995. ط1. ص 174.

(24) طه عبد الرحمن، سؤال العمل، 59.

(25) نفسه، ص 56.

(26) طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة. ص 173.

(27) طه عبد الرحمن، سؤال العمل. ص 67.

(28) نفسه، ص 74.

(29) نفسه.

(30) نفسه.

(31) نفسه، ص 90-91-92.

(32) نفسه، ص 91.

(33) نفسه، ص92.

(34) نفسه، ص 95.

(35) نفسه، ص 97.

(36) نفسه، ص 105.

(37) نفسه، ص 106.

(38) طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث. المركز الثقافي العربي. الدار البيضاء. 2007. ط3. ص 34.

(39) نفسه، ص44.

(40) طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق. ص 61.

(41) نفسه، ص 62.

(42) نفسه

(43) نفسه، ص63.

(44) نفسه

(45) انظر: سؤال الأخلاق، ص 65. والعمل الديني وتجديد العقل، ص43 وما بعدها.

(46) طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق. ص67.

(47) نفسه، ص 68.

(48) طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث. ص 244.

(49) طه عبد الرحمن، سؤال العمل. ص39.

(50) طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث. ص 245.

(51) الغزالي، محك النظر، ص 48-49، نقلا عن: طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، ص 245.

(52) طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث. ص 246.

(53) نفسه، ص 246.

(54) طه عبد الرحمن، سؤال العمل. ص 50.

(55) نفسه، ص 50-51.

(56) طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة. ص173.

(57) طه عبد الرحمن، سؤال العمل. ص 14.

(58) نفسه، ص 63.

(59) نفسه.

(60) طه عبد الرحمن، سؤال العمل. ص 73.

(61) نفسه، ص 93.

(62) طه عبد الرحمن، العمل الديني وتجديد العقل. ص26.

(63) نفسه

(64) نفسه، ص38.

(65) نفسه

(66) طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق. ص 93.

(67) نفسه، ص70.

(68) طه عبد الرحمن، العمل الديني وتجديد العقل. ص 58.

(69) نفسه، ص 79.

(70) انظر التفصيل حول أشكال تجليات التظاهر في “العمل الديني وتجديد العقل” ص 80-81-82.

(71) نفسه، ص 99.

(72) عبد الله العروي، مفهوم العقل. المركز الثقافي العربي. الدار البيضاء. 2007. ط4. ص 107.

(73) نفسه، ص 106.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر