منذ أن نشأت الحياة الإنسانية على الأرض وكان فى خاطر الإنسان أن يعرف الكثير عما حوله من كائنات وظواهر طبيعية، وكانت غاياته متباينة حول سبب تلك المعرفة، فتارة يكون السبب هو المعرفة دفعا للضرر الحاصل من بعض الكائنات والظواهر كالبراكين والزلازل، وتارة يصبو إلى تحقيق النفع والفائدة لتحسين معيشته وأساليبها كرغبته فى معرفة سر طيران الطائر وسباحة الأسماك والبرمائيات وسرعة الحيوانات ونمو النباتات وسقوط الأمطار وغير ذلك.. ومع محاولاته الدؤوبة للتعرف على علل وأسباب كل مايحدث حوله ارتقى الإنسان بعقله كى يعرف بوجه عام الإجابة على سؤال لايسأله فى واقع الحال إلا كائن مميز وموجود مختلف عن باقى الموجودات..
والسؤال هو “ماهى العلة الأساسية لإيجادى وإيجاد ذلك الكون من حولى؟ هل هناك سبب مرئى أم غائب؟ وما الغاية من خلقى؟ ومن واقع تميزى عن غيرى فهل هناك دور أو وظيفة ينبغى على أن أقوم بها؟؟”.
ومع التطور البشرى وزيادة عمر الإنسان وخبراته التراكمية فى التعامل مع ما حوله من كائنات وظواهر كونية مختلفة، زادت تطلعاته ونما أمله فى أن يجد ضالته فى معرفة العلل الأساسية لما حوله، ومع يقينه بأن ثمة قوانين غائبة عنه تحكم حركة ماحوله ونواميس حتمية للطيران والسرعة والبناء الهندسي والقوة وغيرها، بذل الإنسان على مر الأزمنة والأمكنة جهودا كبيرة لتحليل تلك القوانين، فحاول الطيران ظانا أن الأجنحة هى السبب الرئيسي والعلة الذاتية للطيران، وتنبه بعد فشل تلك التجربة بأن الريش والجناحين ماهى إلا علل عرضية تساهم فى التحليق ليس إلا وأن ثمة علل ذاتية أكثر قوة هى العامل المؤثر بالفعل فى تحقيق حلمه الأزلى بالصعود عاليا.. إلى أن أتم الإنسان مراده ليس فى التحليق عاليا فحسب بل وخارج إطار كوكبنا أيضا.. فبات الإنسان الأسرع والأقوى والأكثر سيطرة على كل ماحوله والأكثر معرفة بأغلب مسببات مايحدث حوله من ظواهر طبيعية.. حتى وصل بتحليله لأسباب مايحدث بأن يتنبأ بالأمطار وبالزلازل والبراكين بعد فترة كذا من الزمن!!
والسؤال المفصلى الهام “مالذى آمن به الإنسان واعتقد بحتميته فأوصله يقينه إلى تحقيق العديد من تطلعاته؟” إنهما فى الواقع عاملان وليسا عاملا واحدا..
الأول هو علمه اليقينى بأن جميع ما يحيط به يرتبط بأسباب وقوانين تحكم تواجده وحركته وعلاقاته، فآمن الإنسان بقانون السببية أو أصل العلية، وتمادى إيمانه به بأن جعل هذا القانون هو الذى يقوم عليه نظام الكون كله بما فيه الإنسان نفسه.. ففضلا عن الاكتشافات العلمية والتى هى نتيجة تصديقه بوجود قانون العلة والمعلول.. فإن الأثر والمؤثر يلعب دورا أساسيا فى تحليل العلاقات الإنسانية وتفسير التطور التاريخى والمجتمعى، وهو القانون الذى يستفز عقل الإنسان نحو التفكير ومحاولة الوصول إلى نتائج لكل شيء عبر تحديده لأسباب كل شيء!!
والعامل الثانى هو ثقة الإنسان فى عقله بالتوصل إلى العلل الأساسية وقدرته على الوصول إلى نتائج ملموسة تدر عليه الفائدة وتجلب له السعادة والراحة.. هذه الثقة هى التى جعلت منه مخلوقا إيجابيا متفائلا يسعى لنيل المعرفة والاغتراف من بحر علل الكون اللامتناهى، بل ويتجه للطبيعيات والفلسفة ويعلن بجرأة شديدة بأن السعى للعلم هو أقصى أمانيه وغاية أحلامه..
ولأن هناك ارتباطا قوياً بين هذين العاملين فقد استفاد منهما الطبيعيون فضلا عن الفلاسفة الذين – ومن خلال قانون السببية – تطرقوا إلى الكلام عن وجود سبب عاقل وإله غير مرئى هو المسئول عن إيجاد الكون بكل ما فيه.. وفى ذلك يقول المؤرخ البريطانى جون بيورى: “وقد كان من فلاسفة الإغريق القدماء من اقتنع بهذه النظرية التى يبدو لنا أن العلم الحديث يؤيدها بأبحاثه فى كل ميدان من ميادينه، ولكن العلماء قد أخذوا منذ عهد قريب ينظرون إلى هذه القاعدة بقليل من الجزم وكثير من الاحتياط.. وهم يفضلون أن يثبتوها على أنها (إطراد التجربة) لا على أنها قانون السببية لأن فكرة السببية تقودهم إلى ماوراء الطبيعة!!”(1).
ولأن قانون السببية بطبعه يفضى إلى ضرورة البحث عن الخالق والإله الحكيم الذى دبر تلك النواميس المنظمة للكون، ورغم ذلك فهو القانون الذى ينبغى أن يعترف التجريبيون بوجوده لأن من خلاله وصلوا إلى قمة انتصاراتهم العلمية فى عصر الحداثة، فإن انتقادات أكثر الحداثيين إنكارا للميتافيزيقا لذلك القانون لم تصل إلى حد إنكار القانون نفسه.. بل فقط التشكيك فى بعض تفاصيله مثلما هو الحال مع ديفيد هيوم فى قوله: “إننى أشك كثيرا فيما إذا كان ممكنا أن نعرف علة عن طريق معلولها فقط”(2)، فهو لم ينكر وجود العلة بل شكك فى أن تصير النتائج طريقا موثوقا للوصول إلى العلل الذاتية للأشياء.
ورغم أن المقام لايتسع للرد على ذلك التشكيك ومدى موضوعيته، وكذلك على الإشكالية الأخرى التى قدمها قائلا: “الحجة الرئيسية على وجود الله مستمدة من نظام الطبيعة.. فأنت تقر بأن تلك حجة تسير من معلولات إلى علل.. وإن لم تستطع أن تبين هذه المسألة فإنك تقر أن نتيجتك فاشلة”(3)، إلا أن إنكار قانون العلة لم يجرؤ أحد من التجريبيين فى عصور النهضة أن يقترب منه وإلا صار مجنونا وغير معترف بحقيقة التقدم العلمى الحاصل بفضل ثقة العلماء بذلك القانون الذى لم يخذلهم أبدا فى أى موقف من المواقف العلمية وفى أى تجربة من التجارب.. وهو ما أكده هنتر ميد فى كتابه “الفلسفة، أنواعها ومشكلاتها”(4) قائلا: “كشفت نظرية دارون عن تلك العملية المنتظمة الهائلة التى تتحكم فى أشكال الحياة ذاتها، بدا كأن الزحف المطرد للحتمية قد بلغ أقصى مداه، فقد تبين عندئذ أن كل الحوادث فى المجال الطبيعى هى نتائج مباشرة لحوادث سابقة، وأن الظواهر الواقعة فى نطاق تجربتنا تكاد تكون قابلة للتفسير أو يلوح أنها ستكون قابلة للتفسير على أساس قوانين العلة والمعلول الصارمة، وظهر بوضوح متزايد أن العمل الرئيسي للعلم إنما هو صياغة هذه القوانين العلية. واقتنع العلماء أنفسهم بأن فى استطاعتهم تلبية كل مايطلبه الذهن من تفسيرات وذلك إذا أمكنهم إعلان الاندماج التام بين مختلف أوجه تجربتنا فى نسق واحد هائل من علاقات العلة والمعلول. وفى هذه الأثناء ازداد الفلاسفة اهتماما بمشكلة العلية وأصبحوا بدورهم يشعرون بأن مفهوم العلة مفهوم رئيسي فى التجربة البشرية، وهكذا أصبح نطاق الحتمية عند نهاية القرن التاسع عشر، يكاد يكون شاملا”.
بقيت فقط الإشكالية المعرفية قائمة “هل قانون العلة فطرى ومستمد من العقل الإنسانى أم مستمد من التجربة كنتيجة لها وليس دافعا وسببا للتجارب مثلما يؤكد الفلاسفة الميتافيزيقيون؟”.
ولكن على أبواب دخولنا عصر مابعد الحداثة اجترأ المفكرون لا على النيل والإنكار المطلق لذلك القانون فحسب، بل على كل الحتميات والقوانين الأخرى أيضا.. بما فى ذلك التشكيك المطلق فى الوجود نفسه، وهل أفكارنا تمثل الوجود على هيئته أم هناك اختلاف بين مايدور فى ذهننا وبين الحقيقة ذاتها.. ووصل التشكيك مداه بالتساؤل هل مايدور فى ذهننا هى أفكارنا نحن؟ وهل الذهن المفكر الذى صنع اللغة ليعبر بها عن أفكاره وما يدور بخلده.. هل اللغة صنيعة التفكير أم التفكير هو صنيعة اللغة!! لا نستطيع أن نقول إن هذا العصر هو عصر قلب الحقائق رأسا على عقب لأن هذا الانعكاس لو كان متعمدا لاحتاج المفكرون إلى دليل عليه.. ولكن هيهات أن يأتوا بأدلة على آرائهم فيسقطون مرة أخرى أسرى لحتمية أن لكل شيء سبباً فيصبح نقدهم لذلك القانون يحتاج هو الآخر إلى علة!! لم يقع مفكرو عصر مابعد الحداثة فى ذلك الفخ المضحك ولكن أعلنوا ضمنيا تشكيكاتهم المطلقة فى القوانين والحقائق حتى يخرجوا من مطب اليقينية والحتمية ولو بالإنكار.. فباتت معالم ذلك العصر الرئيسية تحمل اللافتات المعروفة الثلاثة والتى نسمعها كل يوم عبر جميع وسائل الإعلام حتى تكاد تخرق آذاننا وهى “كل شيء نسبى” و”التحرر المطلق” و”الشك فى المعرفة والعلم”..
بالتالى قدم مفكرو ذلك العصر ثلاثة تحديات أمام قانون العلة وغيره من القوانين الحاكمة للتفكير الإنسانى وهى:
1- القوانين بشكل عام جبرية وتقيد حرية الإبداع.
2- حتمية القوانين تعنى أن هناك حقائق مطلقة فى حين أن الحق نسبى.
3- هناك أشياء لانعرف لها قوانين وعلل.
وأمام تلك التحديات لايسعنا إلا أن نفرد أمامها ردودا قاطعة تزيل الإبهام قسمناها على أربعة عناوين كالتالى:
أولا- القوانين حتمية وليست جبرية:
رغم الخلط الكبير بين مفهومى الجبرية والحتمية والذى يقع فيه الفوضويون، إلا أن الفارق كبير بين الحتمية والجبرية بحيث لايدركه إلا الحتميون أنفسهم، كما قال هنتر ميد: “كان من العوامل الأخرى التى أدت إلى زيادة تعقيد النـزاع الناشب حول الحتمية، عدم القدرة على التمييز بين هذا الرأى وبين القدرية FATALISMمن البداية، فخصوم الحتمية قلما كانوا يستطيعون أن يدركوا أو أن يعترفوا على الأقل أن هناك فارقا بين الموقفين، على حين أن الحتمى ذاته كان يشعر بأن الفارق بين الإثنين عميق، ولو شئنا الدقة لقلنا أن القدرية هى مذهب الحتمية المقدرة PREDETERMINISMكما أن المصطلح الشائع الجبرية PREDESTINATIONيصلح بدوره مرادفا”(5).
وعلى هذا تكون القوانين حتمية بمعنى أنه عمليا لايمكن التحرر من قوانين العلة, واستحالة جمع النقيضين فى أى مجال من مجالات العلوم, ومع هذا فهى ليست جبرية بحيث تحيلك إلى نتيجة واحدة مقدرة سواء عملت بتلك القوانين أم تملصت منها. وهذا الفارق الجوهرى بين الحتمية والجبرية نلخصه فى مقوله شهيرة جدا وهى “من جد وجد ومن زرع حصد” فتلك القاعدة قانون نتيجته ليست واحدة فى جميع الأحوال بحيث تسرى على من لم يجتهد أو من لم يزرع أيضا!! بل وكما يقول الدكتور عصمت سيف الدولة: “لو لم يكن كل شيء خاضعًا فى حركته لقوانين ونواميس حتمية لما استطاع الناس أن يعدوا بالنـزول على سطح القمر وأن يصمموا ويصنعوا أداته المتفقة مع ظروفه وأن ينـزلوا عليه.
إن حتمية القوانين أو النواميس التى تضبط حركة الأشياء والظواهر لا تعلمنا أكثر من أنه إذا حدث كذا.. حدث كذا، وإذا لم يحدث كذا.. لم يحدث كذا، وهو أمر يعرفه الفلاحون الذين يعلمون علم اليقين أنهم إذا لم يرفعوا الماء من النهر إلى مزارعهم جفت الأرض وإذا جفت الأرض مات الزرع وإذا مات الزرع لايحصدون شيئا.. هذه الحتمية لازمة ليتصور الناس المستقبل الذى ينتظرهم إذا لم يتدخلوا فى تغييره.
أما الذين لايعرفون تلك القوانين أو النواميس أو الذين لايحترمون حتميتها، فسيبذلون جهودا عشوائية لتغيير واقعهم أو يستسلمون لقدرهم”(6).
أيضا فإن وجود تلك القوانين لايحرم الإنسان من قدرته الإبداعية، بل على العكس فتلك المعايير هى الوحيدة التى تكفل للناقد أن يحكم من خلالها على إبداع المبدع وإخفاق الفاشل، فمن أين لى أن أعرف أن تلك المعزوفة الموسيقية لبيتهوفن رائعة؟ وقصة طه حسين متميزة؟ وقصيدة الفرزدق مبدعة؟ إنها بسابق معرفتى بأن الإبداع فى الموسيقا يكون عبر قواعد السلم الموسيقى التى لم تكن أبدا مانعة لإبداع المبدع وتميز الموسيقيين، بل إن قواعد القصة أو الشعر هى التى تساعد الناقد على أن يصنف المبدع فيقول هذا شاعر وذلك روائى.. هذه فقط أمثلة نقرر منها بأن القوانين لم تمنع السائر على هديها من الإبداع ولكن من خلالها نستطيع التمييز بين الإبداع والعبثية.. فكيف نميز إذن بين إبداع فرضية علمية تتكلم عن نشأة الأرض وبين فشل نظرية أخرى؟ إنه عن طريق حجم وقوة الأدلة التى ساقها الأول تأييدا لفرضيته بالمقارنة مع هشاشة وضعف أدلة الآخر.. فقوة وضعف الأدلة تحتاج إلى قوانين للتمييز بين الأدلة الموضوعية والأدلة غير العلمية.. فهل كانت القوانين مانعا للإبداع!؟ أم معيارا للإبداع نفسه ودافعا للتميز؟
ثانيا- حتمية القوانين تعنى وجود الحق المطلق!
بدأ التشكيك فى المطلق و إلحاق النسبية بالفضائل الأخلاقية والعلم وقوانين التفكير مبكرا فى عصر اليونان بأن انتشر التيار السوفسطائى محاربا لكل اليقينيات والحتميات، تارة بالإنكار التام, وتارة بالتشكيك المطلق, وتارة بأن يدعى بعضهم بأن الحقيقة لا تتعدى وجهة نظر الشخص الواحد فيها إلى أن يتم تعميمها بين جميع الأفراد، وبالتالى فلكل شخص مقياسه وميزانه للحقيقة كما يقول السوفسطائى الشهير بروتاغوراس “الإنسان مقياس الأمور فى وجودها وفى عدم وجودها.. ولا يتعدى هذا الحكم إلى غيره”(7).
وذلك المذهب أسماه حكماء الإسلام بالمذهب “العندى”، بمعنى أن الحقيقة ليست كذا بل هى عند فلان كذا وعند علان كذلك وعند خلان هكذا.. ورغم خطورة تلك الإدعاءات وقتها والتى كادت أن تقضى على العلم والفلسفة كما نوه الدكتور يوسف كرم: “هذا مثال من عبث السفسطائيين، ومهما يقال من أنهم أخرجوا الثقافة من المدارس الفلسفية ونشروها فى الجمهور وأنهم مهدوا للمنطق والأخلاق، فقد كادوا يقضون على الفلسفة لولا أن أقام الله سقراط ينتشلها من هذه الورطة المهلكة”(8), إلا أن ردود سقراط وأفلاطون ومن بعده أرسطو كانت كافية جدا للرد على تلك المحاولات السلبية والعقيمة للتشكيك فى المعرفة.
ومع انتهاء عصر الحداثة، عاد مفكرو مابعد الحداثة إلى نفس ذات السفسطة القديمة وربما استعملوا نفس المصطلحات والتساؤلات مع صبغها ببعض المصطلحات العلمية المناسبة لطبيعة العصر نفسه، مثلما جاء فى كتاب “أقدم لك الفلسفة” بأن “ربما كان فى استطاعتنا أن نفهم فلسفة مابعد الحداثة على نحو افضل على أنها تسيطر عليها ثلات (إذا) كبيرة هى كالآتى:
– إذا كانت الأفكار البشرية لم تعد مضمونة على أنها أفكارنا نحن…
– إذا كانت اللغة التى نفكر بها لايمكن أن تشير بطريقة ذات معنى إلى العالم الذى يقع خارج ذواتنا…
– إذا كانت معانى الدلالات اللغوية المستقلة ذاتيا تتبدل باستمرار…
فلابد إذن أن نحمل أنباء سيئة للفلسفة، والمنطق، وحتى للعلم نفسه…”(9).
ومثلما قال الفرنسي المعاصر جان بودريار عندما شكك فى واقعية العالم وأطلق عليه مصطلح “عالم فوق الواقع” قائلا: “نحن نعيش فى عالم مغالى فى واقعيته، وهمى! بين إشارات ليس لها علاقة بالسطح المؤقت للواقع”(10).
والمضحك أن ما لا يعرفه النسبيون – سواء القدماء أو الحاليين – أنّهم وضعوا بأنفسهم أكبر نقض يواجهون أنفسهم به عندما أقروا أن (كل علم نسبي) فهل أن هذه القضية مطلقة أم نسبية؟ فإن قالوا أنها مطلقة، فهو اعتراف بعلم مطلق لا يخضع لرأي شخص أو إيحاء ظرف ما. فإنهم أرادوا إثبات نسبية كل القضايا فتورّطوا بإثبات إطلاق قضية لم تسلم من النقض، وإن قالوا: إنها نسبية، فتفقد بذلك صلاحيتها كقانون كلي مطلق لسائر القضايا والأحكام، بل وينبغى أن يواجهوا أيضا بسؤال آخر “ما مدى يقينكم بنسبية حكمكم على نسبية تلك القضية؟ فالقول بالنسبية أيضا هو “حكم وتقرير” قد يكون قطعيا هو الآخر فيتأكد وجود القطعيات إذا قرروا ذلك!! ويستمر مواجهة النسبيين إلى درجة تجعلهم يعترفون بشكهم فى تلك القضية (فالنسبية تعد شكا فى قطعية أى قضية)، وهنا يستمر نفس التساؤل “هل أنت موقن بشكك هذا؟” فإن وافق فهاهنا أيضا يصدر حكما قطعيا لا احتمال للنسبية فيه، أما إن انتهى إلى قوله: “لا أدرى إن كنت أشك فى هذا المبدأ أم لا” فلا يصلح معه إلا العلاج العملى الذى قرره الكثير من حكماء الإسلام ومتكلموهم ويلخصه الدكتور راجح الكردى قائلا: “بل ويرى أكثر من اشتغل بمناهج العقل وأنظاره من المعتزلة للرد على الفلاسفة المنكرين أنه لامناظرة مع هؤلاء بل إنه من الغلط مناظرتهم لأن من يزعم أنه (لايعلم أيناظر أم لايناظر، بل لايدرى موجود هو أم لا) كيف يُرد عليه؟ وهل مخاطبته إلا كالسكوت عنه؟ ولايجوز فيمن هذا حاله إلا التأديب دون غيره من الأساليب، يقترح البغدادى من أهل السنة (أن يعاملوا بالضرب والتأديب وأخذ الأموال منهم، فإذا اشتكوا من ألم الضرب، وطالبوا أموالهم قيل لهم: إن لم يكن لكم ولا لأموالكم حقيقة، ولِمَ تشتكون من الألم، فما هذا الضجر؟ ولم تطلبون مالا حقيقة له؟)”(11).
وعمليا، حكم النسبيون على أنفسهم بأنفسهم، حينما نفوا الإدراك المطلق والقواعد الكلية، فلا يحق لهم بعد ذلك إصدار حكم كلي أو قاعدة عامة بنسبية جميع القضايا، إذ يبقى هذا أمر نسبي وخاص بهم، لا ينبغي فرضه على الآخرين، حقا إن فرض النسبية فى كل شيء هو ضرب من الجنون يجعل كل النظريات العلمية والعقائدية والأخلاقية فى حالة سيولة، وبالتالى لو تعممت النسبية لسادت الفوضى الشاملة كل جنبات حياتنا الإنسانية، يقول الدكتور عثمان أمين: “والواقع أن المتشكك مضطر أن يعترف – لو أمكن أنه يعترف بشيء – أن كل حياة إنسانية تنقرض بالضرورة إذا سادت مبادؤه الشكية واعتنقها الناس جميعا، وأن كل استدلال وكل عمل يقف توا ويصير الناس إلى مايشبه النوم الشامل، ويلبثون على تلك الحال إلى أن تضطرهم ضرورات الحياة إلى الحركة والعمل.. مهما يحاول المتشكك باستدلالاته العميقة أن يلقى فى روع الناس قدرا من الحيرة والبلبلة والاضطراب فإن أتفه حوادث الحياة تقضى على هواجسه وشكوكه، وتتركه شبيها بغيره ممن لم يشتغلوا ببحث فلسفى قط!”(12).
والخلاصة أن وجود الحق المطلق فى ذاته هو مترتب على وجود قوانين حتمية تمكننا من إدراكه والوصول إليه مع شرط مراعاة تلك القوانين والإبداع فى الوصول إلى تفصيلاتها.. وفى الوقت نفسه فإن وجود حقيقة مطلقة لاتعنى أن معرفتنا بها مطلقة.. كذلك لايمكن أن تكون باعثا نحو سيطرة ثقافة “احتكار الحق” على الجميع.. تلك الثقافة التى عانى منها الإنسان الغربى فى العصور المظلمة كثيرا لأسباب عديدة، من الظلم أن نضع من بينها وجود الحق المطلق فى نفسه..
أيضا وجود حقائق مطلقة لايلغى وجود النسبى، فالذوق الإنسانى فى الألوان والألبسة والأطعمة والمقطوعات الموسيقية والفن ومظاهر الجمال المادى عموما هى فى ذاتها نسبية ولا إطلاق فيها..
إن الرغبة فى الإحاطة بالحقائق الكاملة ينبغى أن تكون باعثنا الأساسي، والالتزام بتواضع العلم مع التسليم بمحض افتقار الإنسان ومحدودية عقله ينبغى أن تجعل الجميع يخوض بحر المعرفة “كمحاولات” يبنيها كل إنسان فيحيط بالقدر الضئيل من اليقين بكل ماهو حوله وبالقدر الأكبر من نسبية معرفتنا بباقى الحقائق فى القدر الآخر، إلى أن يجيء فلاسفة وعلماء لاحقون للبدء مما انتهى إليه السابق بتأكيد بعض الحتميات والإضافة عليها والخوض فى تحصيل نتائج نسبية أخرى لموضوعات يبحثون فيها عن إجابات قاطعة.. هذا ماينبغى أن يكون عليه العلماء والمفكرون، فلا هم يقعون أسرى للدفاع عن قضايا لم تكف الأدلة لحصول اليقين بها، وفى الوقت نفسه لايلحقون النسبية فى كل القضايا فيميتون داخل كل مفكر وعالم الرغبة فى الوصول للحقائق بأن يؤسر المبدع تحت سلبية النسبية المحبطة..
ثالثا- غياب معرفتنا بالقوانين والعلل لايعنى انتفاءها:
هذه القضية مجرد فهمها وتصورها يعد كافيا للتصديق بها، ولكن ومع الأسف انبرى بعض ضيقى الأفق لقلب تلك القضية وتحويلها لفظا ومعنى إلى ما مفاده (مالم نعرف قوانينه وعلله فهو غير خاضع لقوانين!) ولا أدرى بم أحكم على هؤلاء الذين قلبوا الآية وعكسوا المعيار فتعجلوا بتغليب الإنكار على وجود علل من مجرد أننا لم نكتشف تلك العلل والقوانين حتى الآن.. أىّ عقل سليم يدرك بلا فذلكة أن المحاولات المتكررة والتراكمية للعلم والمعرفة والتى يخوضها الإنسان منطلقها الأساسي معرفته بجهله بالعلل مع يقينه بوجود أسباب وقوانين يحاول اكتشافها.. فالدافع للعلم هو الجهل والدافع للكمال هو الإيمان بالنقص، عندئذ تصير القاعدة هكذا (مالم نعرف قوانينه حتى الآن، نجتهد لكى نعرف قوانينه لأننا موقنون بأن لكل شيء علة وسببا..) هذه القاعدة جعلت أحلام الإنسان بالفضاء تتحول إلى واقع وقد تجعل أحلام الإنسان بالسفر عبر الزمان واقعا أيضا.. لم لا طالما حاولنا معرفة قوانين الزمن..
أما شبهة أن هناك أشياء لانعرف لها قوانين وعللا، فهى شبهة العاجز السلبى الذى لايؤمن بقدرته على المعرفة ولاإرادة التعلم لديه بل ولايشعر بتميزه وتفاضله كإنسان يستطيع الخوض فى النتائج وصولا إلى عللها، والحمد لله أن ذلك المرض لم يصب الإنسان منذ فجر التاريخ وإلا لكان مانعا قويا من خوضه الناجح فى العلوم كالطب والهندسة والميكانيكا والزراعة والصناعات والدواء والفضاء والرياضيات والاجتماع والتاريخ والفلسفة وغيرها..
لاشك أن فكرة نفى العلل بمجرد عجزنا عن الوصول إليها فى الوقت الحالى هى فرضية واهية مقيتة جدا من الفرضيات القاتلة للفلسفة وللعلم والمتحدية لإرادة حب المعرفة والبحث عن غموض المسببات، وهى الإرادة المحفورة فى وجدان الإنسان المميز والتى عبر عنها العديد من الفلاسفة بأقوال مختلفة، فمما ذكره أرسطو حول ذلك الخصوص يؤكد أن غاية الإنسان هى معرفة العلل فيقول:
* “لسنا نعرف الحق دون أن نعرف علته.
* من الصواب أن تسمى معرفة الحق من الفلسفة، الفلسفة النظرية، لأن غاية المعرفة النظرية الحق، وغاية المعرفة العملية الفعل..
* أى علم من العلوم ينبغى أن يسمى حكمة؟ يجب أن يسمى كل علم حكمة، فأما الحكمة العالية المتقدمة الفائقة التى بقية العلوم تابعة معترفة لها فواجب أن يكون علم علة التمام والخير، فإن باقى العلل هى بسبب هذه العلة “(13).
وفى الإسلام يبنى القرآن الكريم مصداقية التوحيد والتصديق بآيات الكتاب على ثقته فى وجود “قوم يعقلون ويتفكرون” و”أولى ألباب” وفى إمكان العقل الإنسانى أن يدرك العلل الغائبة ويستدل بها على وجود الإله والتصديق بماجاء به الأنبياء والرسل، يقول تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) العنكبوت: 20، وفي آية أخرى: (وَفِي الأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ) الذاريات: 20.. وعلى هذا فالعقل الإنسانى راسخ الإيمان بقدراته التى أكدها الوحى/ الدين، فكلاهما كما يقول الفارابى “يعطى المبادئ القصوى للموجودات، فإنهما يعطيان علم المبدأ الأول والسبب الأول للموجودات، ويعطيان الغاية القصوى التى لأجلها كون الإنسان وهى السعادة القصوى”(14).
رابعا: التحرر الحقيقى ليس بإلغاء القوانين
إن فى واقع الأمر ليس هناك تحرر مطلق، بل إنه تخلص من قيد للوقوع فى قيد آخر.. فإما أن تتخلص من قيد التجرد الذى يحيلك إلى قوانين العقل الجمعى الإنسانى لتقع أسيرا لقيدك الفردى الأنانى الذى يضع لك قوانينك الخاصة المستجيبة لنـزعاتك الفردية وتطلعاتها.. فتتخلص من سيطرة العقل الجمعى وقوانينه لتسقط تحت فخ فرديتك ونـزواتك التى تمثل قوانينك أنت.. وإما أن تتجرد وتتحرر من نـزواتك وهواك وآرائك الفردية المتأثرة بعوامل عديدة.. لتتجرد بعقلك الذى وقتها سيكون عقلا إنسانيا خالصا لايمثلك أنت فقط، بل يسرى تجرده وتفكيره على الجميع, وبالتالى يحيلك تحررك من نفسك إلى تسليمك لقوانين العقل المجرد..
فإن كنت مجبرا على الاختيار فاختر لنفسك التسليم بالقوانين العقلية المنـزهة والمجردة حتى تكون إنسانا فاضلا، لا أن تختار قوانينك الفردية المنـزهة تحت شعار “الحرية” المزيف، فالتحرر الحقيقى “التجرد” هو تحرر من العلائق المادية والحسية والركون للعقل المجرد البعيد عن الاهواء والمتعلقات المادية الخاصة بالأنا ولواحقها.. ليس عقل الأنا.. ولكنه “العقل نفسه”.. أما التحرر المزيف فمعناه التحرر من قوانين “العقل المجرد” والركون إلى الأنا..
وبمعنى مقارب لتعريف الحرية الحقيقية، عمد علماء الأخلاق والرقائق إلى تقديم تصور معنوى رائع عن مفهوم التحرر والأسر، يقول أبو حامد الغزالى: “اجتهد فى معرفة أصلك، حتى تعرف الطريق إلى الحضرة الإلهية، وتبلغ إلى مشاهدة الجلال والجمال، وتخلص نفسك من قيد الشهوة والغضب، وتعلم أن هذه الصفات لأى شيء ركبت فيك، فما خلقها الله تعالى لتكون أسيرها، ولكن خلقها حتى تكون أسرك وتسخرها للسفر الذى قدامك، وتجعل احداها مركبك، والأخرى سلاحك حتى تصيد بها سعادتك، فإذا بلغت غرضك فقاوم بها تحت قدميك، وارجع إلى مكان سعادتك، وذلك المكان قرار خواص الحضرة الإلهية، وقرار العوام درجات الجنة..”(15).
نخلص من كل ماسبق من عناوين ومحاور للحديث إلى عدة نقاط تبين لنا وهم مزاعم الفوضويين والنسبيين وهى:
1- التفكير عبر القوانين الحتمية ليس جبريا، بل هو دعوة للتأمل والإبداع ومظهر من مظاهر تميز الإنسان.
2- القوانين تؤكد وجود المطلق وتبرز أهمية العلم وسمو السعى نحو المعرفة، وإطلاق النسبية دعوة للفوضى.
3- لذة المعرفة هى فى كشف غموض العلل واكتشاف القوانين والموازين.. وإنكار القوانين والعلل هو تمويت للعلم والفلسفة.
بأى منطق نفكر؟
خلصنا فى العنوان السابق إلى وجود قوانين تحكم عملية التفكير الإنسانى بحسب كونها إحدى الظواهر الموجودة بالكون، شأنها شأن قوانين الجاذبية والحركة وغيرها.. وانطلاقا من مبدأ السببية باعتبار أن الفكر الإنسانى هو نتيجة ومحصلة لتفكيره، فمن المنطقى أيضا أن نتساءل عن القوانين التى تحكم تفكيرنا الإنسانى والتى بموجبها نستطيع الحكم على طرائق التفكير المختلفة إما بالانضباط أو العشوائية وهو مايعود فى النهاية على حكمنا النهائى بسلامة أو خطأ الأفكار الناشئة عن ذلك التفكير.. فعالم اليوم يموج بآلاف الأفكار والنظريات التى تخص الإنسان والمجتمع ومن زوايا عديدة، سياسية واجتماعية وأخلاقية واقتصادية، والكل يقيم دلائل حول صحة فكرته وجدوى نظريته وقوة أطروحته.. لذلك وجب على الإنسان المدقق والناقد إذا أرد أن يبنى نقدا موضوعيا على صحة فرضية أو شائبة نظرية أن يبدأ من النقد الموضوعى لطريقة تفكير المفكر نفسه وليس لإنتاجه الفكرى.. فإذا اعتبرنا العقل هو المنوط بتصنيع الفكرة والتى هى عبارة عن المنتج المصنوع مثلا، فمن ينتقد المنتج بإبراز عيوب فى صناعته بالطبع يكون على دراية بطرق تصنيع المنتجات، وهو أفضل على مستوى الوعى والتخصص ممن ينتقد نفس المنتج ولكن من زاوية استهلاكه أو شكله ولونه ومظاهره الغير مرتبطة بطريقة التصنيع وجودة الخامة ذاتها.. فالأول ينتقد موضوعيا بحكم تخصصه والثانى يفتقد المعيار العلمى السليم للنقد، فربما أيضا ينخدع بلون أو شكل المنتج فيطلق أحكاما خاطئة بسبب عدم مهنيته وتخصصه..
بأى منطق نفكر؟ هو استعراض لمدارس ومعايير فى التفكير ذاته وتمثل كل مدرسة منها قانون يعود إليه المفكر لإدراك الصواب من الخطأ ولتقييم الأفكار الأخرى على طبقه، وعلى حسب ذلك فهناك أربعة قوانين متناحرة يعتبرها أصحابها المعيار الأسلم للحكم على جميع القضايا المطروحة وتصنيفها للحقانية أو البطلان، وتلك القوانين هى:
أولا: قانون أو منطق القوة
أصحاب ذلك القانون يعبرون عن صحة فكرة أو ممارسة سياسية أو سلوك إنسانى بأنه “صحيح” لكونه يحقق القوة لصاحبه، والآخر “خاطئ” لكونه يسلب القوة نفسها، وقد ارتبط ذلك المعيار بالقادة المتسلطين كأمثال هتلر ونابليون وغيرهم، فالعديد من أقوالهم تفوح منهم رائحة تمييز الصالح من الطالح بمعيار القوة والضعف فقط.. كذلك من المفكرين فى المجال السياسي ارتبطت تلك النظريات بالإيطالى ميكيافيللى صاحب كتاب الأمير والذى رسخ فيه ضمنيا لأصالة ذلك المبدأ وكيف أن الغاية وهى الوصول للسلطة باعتبارها مصداقا لإرادة القوة، تبرر أى وسيلة يلجأ إليها السياسي لضمان الحصول على السلطة والبقاء فيها أيضا..
وفى عصر الحداثة ارتبطت تلك الفكرة بشكل أكثر تأصيلا باتجاهين كبيرين:
الاتجاه الأول:هو اتجاه الفيلسوف الألمانى نيتشه فى كتابه الإنسان الأعلى، والذى عرف الإنسان النبيل بأنه “فى جوهره تجسيد لإرادة القوة”، ولم يكتف نيتشه بذلك بل استخدم نفس المعيار فى رفض دعائم الدين المسيحى لأنها فى نظره تعبر عن إزكاء روح الضعف فى الإنسان وعندها تطالبه بالخضوع والافتقار إلى الإله!، يقول برنارد لويس محولا وجهته حول آراء مفكرين آخرين حول نفس الموضوع: “واعتراض نيتشه على المسيحية هى أنها السبب فى قبول مايدعوه “أخلاق الرقيق” ومن الغريب أن نلاحظ تعارضا بين حججه وحجج الفلاسفة الفرنسيين الذين سبقوا الثورة الفرنسية. فقد احتجوا بأن العقائد المسيحية غير صادقة، وأن المسيحية تعلم الخضوع لما يحسب أنه إرادة الله بينما البشر الذين يحترمون أنفسهم لا ينبغي أن يحنوا هاماتهم أمام أية قوة أعلى..”.
كذلك من غير المستغرب أن يعبر نيتشه عن أيديولوجيته السياسية بأن يبغى – كما يقول لويس “عنصرا عالميا حاكما، يكون منه أسياد الأرض، أرستقراطية جديدة ضخمة مؤسسة على نظام ذاتى أصرم مايكون، تحمل لآلاف السنين طابع رجال السلطة الفلاسفة والطغاة الفنانين”، فلاعجب هنا أن يقول نيتشه نفسه: “إن الآمال العالية فى هذا القرن تكاد كلها تعزى إلى نابليون”(16).
الاتجاه الثانى: هو اتجاه الدارونيين الذين يرون أن إرادة البقاء لدى الإنسان – وليست إرادة القوة فى ذاتها – هى التى تحتم عليه أن يصير قويا كى يكون منتصرا فى صراعه الأبدى مع الطبيعة، وحول تلك الفكرة المهيمنة على عديد من السياسيين الغربيين يقول المفكر الراحل عبد الوهاب المسيرى: “إن النموذج الفعال في الحضارة الغربية الحديثة والمهيمن عليها هو الداروينية. والداروينية بحكم منطقها لا يمكنها أن تقبل الحوار العقلاني، فهي ملتزمة بالتطور الخطي وترى أن جوهر الحياة الإنسانية هو الصراع وأن البقاء للأصلح أي للأقوى، والطريقة الوحيدة لحل الخلاف عندها هي القوة.
الإنسان إما أن يكون متفوقا (سوبرمان) فيسيطر، أو أن يكون إنسانا متدنيا (سبمان) يتواءم ويرضخ. وإسرائيل هي المثال الحي على ذلك، فهي قلعة مسلحة تدك المنازل وتكسر عظام من يطالبون بحقوقهم مثل حق تقرير المصير. وهي في الوقت نفسه تعطي ليهود العالم حق العودة بعد غياب عدة آلاف من السنين، وتنكر هذا الحق على الفلسطينيين الذين لا يزالون يمسكون بمفاتيح منازلهم التي تقطنها أسر يهودية! أليس هذا تعبيرا فاضحا عن ثنائية السوبرمان والسبمان، الإنسان المتفوق والإنسان المتدني!”(17).
والحقيقة أن الرد على معيار القوة الباطل بسيط جدا، فالقوة فى ذاتها تحتاج إلى تعريف دقيق حتى تكون معيارا يصلح للحكم.. فهل معناها القوة المادية كما يفهم من فلسفة نيتشه أم الرغبة فى البقاء كما يقرر الدارونيون أم القوة الذاتية فى الحق نفسه والتى عندما يدركها الإنسان يصير قويا مستأنسا بالحق فى ذاته كما وصفها الميتافيزيقيون؟ حقا إن معيار وقانون القوة يحتاج هو الآخر إلى معيار يسبقه ويعرفنا عليه وإلى قانون يحدد ماهية ذلك القانون ويخرجه من نسبيته العقيمة، ولكن بأى قوانين تستطيع إقناع من يسيرون على درب نيتشه ودارون بأن يقبلوها كمعايير حاكمة تفسر لنا ماهية القوة ، فالأول أشار بشكل واضح أن “الحقيقة مثل الأخلاق، مسألة نسبية.. فليس ثمة حقائق، بل هناك فقط تأويلات”(18).
ثانيا: منطق المنفعة ولغة المصالح
“جاءت اللفتة البراجماتية الجديدة التى شدت الأعناق وجذبت الأنظار مما (كان) ومما هو (كائن) إلى ما (سوف يكون).. وذلك بأن جعلت معيار صدق القول هو مايترتب عليه ذلك القول من نتائج، فأعطنى من القول مايهدينى سواء السبيل فى حياة عامة أو فى صناعة وزراعة وتجارة، أسلم لك من فورى أنه قول حق، بغض النظر عما كان وماهو كائن بالفعل”(19).
هكذا تكلم الدكتور زكى نجيب محمود بشكل واضح ومبسط عن اتجاه البراجماتية غير الملتفت إلى ماهية أى شيء أو نظرية أو فكرة فى ذاتها، بل سلط الضوء فقط عما سوف نستفيده منها معتبرا أن هذا هو المعيار الأصوب للحكم على المصداقية من عدمها، فالبراجماتى كما يقول وليام جيمس: “ينأى بعيدا عن التجريد وعن عدم الكفاية ويعرض عن الحلول الكلامية وعن التعليلات القبلية الدرئية (السابقة على التجربة) وعن المبادئ الثابتة وعن ضروب المطلق والأصول المزعومة .. وهو يولى وجهه شطر الاستنادية والمحسوسية والكفاية، شطر الحقائق والوقائع، شطر العمل والأداء والمزاولة وشطر القوة”(20)، ولا أدرى لماذا لفت نظرى ذلك البائع الذى يبيع صورا للسيسي ومحمد مرسي معا وفى آن واحد مع عدم اكتراثه بأيهما على حق، تذكرت فورا ما قاله ويليام جيمس عن البراجماتية بأنها “اتجاه تحويل النظر بعيدا عن الأشياء الأولية، المبادئ، النواميس، الفئات، الحتميات المسلم بها وتوجيه النظر نحو الأشياء الأخيرة، الثمرات، النتائج، الآثار، الوقائع”(21).
وكما قلنا فى الرد على معيار القوة، فإن قانون المنفعة نفسه يحتاج أيضا إلى معيار لتحديد ماهية المنفعة سواء للفرد أو المجتمع ككل، وهل يدخل فى إطارها العلم النافع واكتساب الملكات الفاضلة مثلما يقرر المثاليون والمتدينون وكافة الفلاسفة الإلهيين، أم تكتفى المنفعة بالمتطلبات المادية للمجموع ككل مثلما يقرر الاشتراكيون، أم أن أساس المنفعة بأن يسعى الفرد لتلبية مطالبه المادية وهو مايعود بالنفع على المجتمع ككل كما يقرر الرأسماليون؟ حقا إن معيار المنفعة أيضا فضفاض ونسبى باعتراف الماديين أنفسهم، ومهما حاول البراجماتيون أن يهربوا من طبيعة ماهو كائن، فقد سقطوا أيضا فى مطب حتمية تعريفهم لمفهوم المنفعة عبر “ما هو كائن” والخوض النظرى فى تحديد “مفهوم المنفعة” مما جعلهم بحكم رؤيتهم النظرية للمنفعة ينتمون للمدرسة المادية التجريبية ذاتها رغم محاولاتهم المستميتة إبراز أنفسهم كمفكرين متجاوزين للخلاف النظرى بين التجريبيين والإلهيين!!
ثالثا: منطق الأغلبية والقانون الطبيعى
وضعت الأكثرية كمعيار نسبى لتحقيق النفع والإرضاء لا كمقياس يحدد لك الصحيح من العليل فى الفكر والنظريات والأخلاق، ولكن التغير المستمر فى اختيارات الأغلبية والتى قد تصل فى بعض الأحيان إلى اختيار الشيء ثم نقيضه بعد ذلك قد أفضت بأولى تجارب الديمقراطية فى أثينا إلى الانهيار مثلما تنبأ لها سقراط وأفلاطون من قبل، فالأول انتقد قيام الجماهير بوضع القرارات في سرعة وجهل. وتساءل أليس من الجهل أن يحل مجرد العدد محل الحكمة؟، والثانى أقام تصورا لنظام يحمل ثبات القيم والمنطلقات الأخلاقية للمجتمع لكن تحت حاكمية الفلاسفة والحكومات، بحيث “يتصور أفلاطون دولة تبنى على مثال الإنسان، وصورة الأجزاء الثلاثة. فكما الرأس والقلب والبطن، للدولة حراسها، ومقاتلوها (أو جنودها)، وعمالها (كالفلاحين مثلا).. من الواضح أن أفلاطون يعتمد هنا على الطب الإغريقى، فكما أن الإنسان الذى يعمل جسده وعقله جيدا يكون متوازنا ومنضبطا، كذلك المدينة الفاضلة هى التى يكون فيها كل فى موضعه، ليشكل الجميع كلا واحدا.
إن فلسفة أفلاطون فى الدولة تقع، ككل فلسفته، تحت عنوان العقلانية, فالمهم فى مدينة فاضلة أن يحكمها العقل.. وتماما كما يحكم الرأس الجسد، يجب أن يناط بالفلاسفة حكم المدينة”(1).
ولكن مع مرور الزمن أعاد الإنجليزى جون لوك فكرته السياسية عن منطق الأغلبية باكتشافه مايسمى بقانون الطبيعة والذى مفاده بأن تراكم اختيار الناس للأنظمة سيتم بطريقة التجربة والخطأ إلى أن يصل فى نهاية الأمر ومن تلقاء نفسه إلى التطور المنشود للبشرية فى تحقيق العدالة، ورغم أن لوك كما يقول الدكتور الطيب بوعزة “لم يؤكد نسبية المعرفة وأصلها التجريبى فحسب، بل حرص أيضا على التوكيد على كون العقل مجرد صفحة بيضاء (tabula rasa)، فكيف يمكن أن ينسجم موقفه الإبستمولوجى الذى يشرط العقل بالمكتسب التجريبى، وبين قوله فى كتاب (المقالتان فى الحكم) بأن كل شخص له معرفة بالقانون الطبيعى حيث يرى أن (كل الناس الذين يمتلكون الإدراك الحسي ويعقلون هم قادرون على معرفة القانون الطبيعى)، بل كشفت طبعة لوفلاس لمخطوطاته عن إشارة صريحة إلى أن هذا القانون يدرك بنور طبيعى!”(23)..
إن المشكلة أن قانون الطبيعة ليس حتما فحسب فى رأى لوك، بل إنه جبرى أيضا يرسم نتائج التطور والتقدم من تلقاء نفسه وكأنه يقول “دع الناس تختار بأى طريقة ومعيار وفى النهاية سيتولى الأصلح ولو بعد حين!!” وماذا لو اختبار الناس ألا يختاروا؟ وماذا لو تسافل اختيار الناس لأسباب قهرية تتعلق بمؤثرات لادخل لهم فيها؟
إننا نرى أن القانون الطبيعى ليس جبريا يعطيك النتائج من تلقاء نفسه مثلما يقرر لوك، بل إن له شرطا وعلة وهى كون العقل الجمعى يتصاعد وينضج بطريقة التجربة والخطأ، وتلك الأخيرة لن تحصل إلا بأن يلتزم الناس بقوانين ومعايير أخلاقية وسلوكية لايحيدون عنها وبضوابط تحكم طبيعة الممارسة الديمقراطية، ووقتها وحينئذ حدثنى عن النضوج والتطور المجتمعى.
فالأكثرية ليست معيارا لتحديد الحق من الباطل، بل هى مقياس يعكس اختيارات الناس ومايريدونه عمليا إرضاءا لمتطلباتهم من الحياة، وهذا الاختيار لما يمثل الناس أيضا ينبغى ألا يحيد عن المبانى الإنسانية العامة والقواعد العقلية والأخلاقية، بل هو أيضا مثلما قلنا عن القوة والمنفعة “معيار يحتاج إلى معيار يضبطه ويحدد طبيعته”، وما أجمل رد المسيرى على الأمريكى فوكوياما بخصوص المشروع المتجاوز للأكثرية بقوله “إن لدينا مشروعا. فنحن نؤمن بالله ونعتقد أن بإمكاننا تغيير العالم. نعم، ما زلنا نحلم بإقامة حكومات تحافظ على العدالة وإنسان غير ملتزم بالضرورة باللذة ومصلحته الشخصية. ونؤمن بأن بإمكاننا تحقيق قسط من التقدم مع الحفاظ على العائلة، ويمكننا تضمين الإجراءات الديمقراطية في نظام يسلم بالقيم الإنسانية العامة التي تتجاوز ديمقراطية عد الأصابع”(24).
أخيرا: منطق الحق والبحث عبر قوانينه
هى محطتنا الأخيرة التى من خلالها ينبغى على الإنسان أن ينشد الحقائق المجردة ويبحث عن ماهيات الأشياء من حوله، فيرفض جميع الأطروحات المتعارضة مع الحقيقة والواقع ويقبل ماهو حق فى ذاته وواقعى فى وجوده، وتلك غاية الحكماء والعقلاء منذ قديم الأزل وحتى الآن والتى من أجلها يخوضون فى قوانين التفكير وعبره لإيصالهم للحقائق حول الوجود والحياة..
إن غاية مراد الإنسان هو البحث عن الحقيقة مثلما يقول أرسطو “الباحث بأقصى جهده عن الحقيقة هو الذى ينفرد بأكمل حياة ممكنة”، وكما يؤكد سقراط “إن الحياة الخالية من التأمل والنظر لحَياة لا تليق بالإنسان”(25)، ومثلما عبر أفلاطون “إن من يعشق المعرفة حقا شخص ينـزع بطبيعته إلى الحقيقة ولا يقف عند تلك الكثرة من الأشياء التى يتوهم الناس أنها حقيقة، بل يظل يسعى وراء الحقيقة بلا كلل، ولايفتر عشقه حتى يصل إلى ماهية كل شيء فى ذاته”(26)، ذلك الحق هو الكاشف للواقع أو المطابق للواقع كما يقول الحكماء وليس كما يضع البعض من معايير أخرى للحق مثل القوة أو ماينفع الناس فى معايشهم المادية أو ما أجتمع عليه غالبيتهم!
والخلاصة إن التفكير عبر الضوابط القانونية لمنطق البحث عن الحقيقة:
1- هو المقدَم على كل المعايير السابقة بأن يضع لها شروطها فيبرز الفرق بين قوة الحق وحق القوة، ويضع مفهوما تصوريا سليما للمنفعة والسعادة وأيضا يضع ضوابط لوضع ديمقراطية سليمة.
2- هو البداية الصحيحة من المطلق – القوانين البديهية – إلى البحث عن الحقائق المطلقة.
3- هو المعيار الوحيد لإرساء القيم الفاضلة وتغيير المفاهيم السائدة وخلق ثورة فكرية حقيقية على المتعارف عليه من مفاهيم “كالممارسة السياسية والحقوق والعدالة والمنفعة والوطنية ووو…”.
4- هو السبيل الأفضل لخلق نخبة جديدة تبدأ من التفكير وضوابطه لتنتج فكرا قويا حقيقيا يدرك الواقع فى ذاته ويصنع فارقا فى حياة المجتمع للأفضل..
* * *
الهوامش
1- حرية الفكر، جون بيورى، تعريب: محمد عبد العزيز إسحاق ط المركز القومى للترجمة 2010 صـ 137.
2- تاريخ الفلسفة، فريدريك كوبليستون مجلد 5، ترجمة: محمد سيد أحمد، ط المجلس الأعلى للثقافةصـ 387، 388.
3- المصدر السابق.
4- الفلسفة أنواعها ومشكلاتها، هنتر ميد، ترجمة: د. فؤاد زكريا، ط دار نهضة مصر- الفجالةصـ 312.
5- المصدر السابق صـ 315.
6- انظر نظرية الثورة العربية 3، المنطلقات، د. عصمت سيف الدولة، ط أولى دار المسيرة بيروت 1979صـ15، 16.
7- انظر تاريخ المذاهب الفلسفية، د. عصام الدين محمد على ط منشأة المعارف بالإسكندرية صـ 50.
8- انظر تاريخ الفلسفة اليونانية، يوسف كرم، ط لجنة التاليف والترجمة والبحث 1936صـ62.
9- أقدم لك الفلسفة ” ديف روبنسون، وجودى جروفز، ترجمة: إمام عبد الفتاح إمام، ط 2001 المجلس الأعلى للثقافةصـ160.
10- المصدر السابق صـ 71.
11- نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة، د. راجح الكردى ط أولى مكتبة المؤيد، الرياض 1992صـ 79.
12- محاولات فلسفية، د. عثمان أمين ط مكتبة الأنجلو المصرية 1953صـ 64-65 بتصرف يسير.
13- انظر نصوص واصطلاحات فلسفية عربية، د. مصطفى لبيب عبد الغنى ط دار الثقافة للنشر والتوزيع 2002 صـ24،25.
14- المصدر السابق.
15- كيمياء السعادة للغزالى ص3 PDF: www.al-mostafa.com
16- كل أقوال نيتشة وراسل فى كتاب تاريخ الفلسفة الغربية، (الكتاب الثالث: الفلسفة الحديثة) برتراند راسل، ترجمة: محمد فتحى الشنيطى، ط المصرية العامة للكتاب 1977 من صـ396 إلى 400.
17- حوار بين المسيرى وفوكوياما، انظر موقع الدكتور المسيرى: http://www.elmessiri.com
18- أقدم لك، الفلسفة، ديف روبنسون، وجودى جروفز، ترجمة: إمام عبد الفتاح إمام، ط 2001 المجلس الأعلى للثقافة صـ 90.
19- البراجماتية، وليام جيمس، ترجمة: محمد على العريان، تقديم: زكى نجيب محمود ط المركز القومى للترجمة 2008 صـ 3.
20- المصدر السابق صـ 71.
21- نفس المصدر صـ 76.
22- جوستاين جاردر، رواية عالم صوفى رواية حول تاريخ الفلسفة، ترجمة: حياة الحويك عطية ، ط. دار المنى ص 101.
23- نقد الليبرالية، الطيب بوعزة، ط أولى 2009 مجلة البيان مكتبة الملك فهد الوطنية، صـ 56.
24- حوار بين المسيرى وفوكوياما، انظر: موقع الدكتور المسيرى: http://www.elmessiri.com
25- دعوة للفلسفة، أرسطو، ترجمة: د. عبد الغفار مكاوى، ط الهيئة المصرية للكتاب 1987 صـ 7.
26- انظر كتاب نصوص واصطلاحات فلسفية عربية للدكتور مصطفى لبيب عبد الغنى، ط دار الثقافة للنشر والتوزيع 2002 صـ 22.