مقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وبعد
في عصر الأزمات المالية وسرعة حركة رؤوس الأموال وما ينجم عن ذلك من تقلبات تعصف بالاقتصاديات الوطنية، تبرز الحاجة ماسة إلى وجود أوعية ائتمانية مستقرة تسهم في تحقيق الاستقرار الاقتصادي، هذه الأوعية احتياطيات يلجأ إليها عندما تشح رؤوس الأموال، كي تسهم بدور المسعف وتحافظ على دوران عجلة النهوض الاقتصادي.
وفي مجتمعاتنا التي تعاني أصلاً من شح في الأوعية الادخارية، تشير التوقعات إلى وجود مدخرات فردية عائلية وغيرها ليست باليسيرة يمكن – لو أحسن سحبها إلى الدورة الاقتصادية – أن تسد شيئًا من ذلك العجز وتسهم في دعم النشاط الاقتصادي وطنيًّا.
استطاعت التجربة المصرفية العالمية والإسلامية، على نطاق محدود، من سحب تلك المدخرات من خلال ما يسمى بالصناديق الاستثمارية، تلك الاداة التي يتمكن من خلالها عدد من المدخرين من تجميع مدخراتهم المحدودة، لتصبح أكبر مقدارًا وتدار بشكل يضمن تحقيق مزايا يعجز عن تحقيقها لو كانوا منفردين.
من جهة أخرى يذخر التاريخ الاقتصادي والتجربة المعاصرة بنجاحات كبيرة استطاعت أن تحققها مؤسسة الوقف في مجالات مختلفة أسهمت في توفير أو إشباع العديد من الاحتياجات الأساسية للمجتمع، ساهمت في تخفيف الأعباء الاقتصادية الملقاة على عاتق الدولة.
ولعقدين خلت أو يزيد برزت على عاتق بعض دولنا الإسلامية (الكويت، الإمارات العربية المتحدة، قطر، ماليزيا، البنك الإسلامي للتنمية وغيرها) تجربة رائدة للأوقاف، اصطلح على تسميتها – الصناديق الوقفية- الغرض منها تجميع رغبات الواقفين ممن لا يمتلكون أموالاً او عقارات كبيرة وتوجيهها نحو إشباع حاجة معينة أو النهوض بقطاع معين أو سد ثغرة قائمة، بعد نية الحصول على أجر لا ينقطع ثوابه حتى بعد الموت.
هدف البحث:
لا يهدف الباحث من خلال بحثه هذا إلى استعراض آفاق ونتائج تجربة الصناديق الوقفية- فقد قام بذلك العديد من علماء هذه الأمة، إنما يسعى إلى الارتقاء بـ (الصناديق الوقفية) من خلال محاولة جعلها استثمارية وبالتالي نضمن استدامتها والحيلولة دون تعطلها وضمان تحقيق الغاية المرجوة من تكوينها.
مبررات الهدف:
تتمثل مبررات هدف البحث في الآتي:
1- تفوق تجربة الصناديق الاستثمارية عالميًّا وإسلاميًّا من خلال تحقيق مزايا الوفرة وتجنب المخاطرة.
2- إحياء سنة الوقف والنهوض بها كي تصبح سلوكًا جماهيريًّا، خاصة إذا ما علمنا أن طبقة الأغنياء محدودة في مجتمعاتنا، وشيوع ظاهرة الدخل المحدود.
3- نجاح تجربة الصناديق الوقفية من حيث ديمومتها والنهوض بالغايات التي أنشئت من أجلها.
4- اتسام الصناديق الوقفية القائمة بصفة الاستثمار، إما بشكل مباشر من خلال الاستثمار في رأس المال البشري (كالصندوق الوقفي للقرآن الكريم وعلومه، الصندوق الوقفي للتنمية العلمية والاجتماعية) في الأمانة العامة للأوقاف في الكويت، أو (كالمصرف الوقفي للتنمية العلمية والثقافية والمصرف الوقفي لخدمة القرآن والسنة وغيرها) في قطر، أو الاستثمار بشكل غير مباشر من خلال الصناديق والمصارف الوقفية للتنمية الصحية وغيرها.
5- ندرة الأوعية الادخارية اللازمة لتمويل النمو الاقتصادي في العالم الإسلامي.
هيكلية البحث:
لتحقيق هدف البحث، فقد تم تقسيمه إلى ثلاثة مباحث، تطرق الأول إلى استثمار الوقف من حيث حكمه وضوابطه، بينما تناول الثاني صيغ تمويل الأوقاف عن طريق الاكتتاب العام، أما المبحث الثالث فقد حاول إسقاط تجربة الصناديق الاستثمارية على الصناديق الوقفية لتشكيل الصندوق الوقفي الاستثماري، كما تضمن البحث خاتمة عرضت أبرز نتائج البحث.
المبحث الأول
استثمار الوقف حكمه وضوابطه
المطلب الاول: بين صندوقين
قبل التطرق إلى أوجه الشبه أو الاختلاف ما بين الصندوق الوقفي والصندوق الاستثماري، لابد من تحديد مفهوميهما ابتداءًا. عرَّف الدكتور محمد الزحيلي الصندوق الوقفي بكونه عبارة عن تجميع أموال نقدية من عدد من الأشخاص عن طريق التبرع والأسهم، لاستثمار هذه الأموال، ثم إنفاقها أو إنفاق ريعها وغلتها على مصلحة عامة تحقق النفع للأفراد والمجتمع، بهدف إحياء سنة الوقف وتحقيق أهدافه الخيرية التي تعود على الأمة والمجتمع والأفراد بالنفع العام أو الخاص، وتكوين إدارة لهذا الصندوق تعمل على رعايته والحفاظ عليه، والإشراف على استثمار الأصول، وتوزيع الأرباح بحسب الخطة المرسومة(1).
أما صناديق الاستثمار، فهي مؤسسات تتعامل بأدوات مالية جديدة تهدف لزيادة عوائد الاستثمار مع الحفاظ على رأس المال، لذا تعد وسيلة مناسبة لتوظيف أموال صغار المستثمرين. ولذا يمكن تعريف صناديق الاستثمار بأنه: (مؤسسة مالية في شكل شركة مساهمة، تتولى تجميع المدخرات من الجماهير بموجب صكوك أو وثائق استثمارية موحدة القيمة، تعهد بها إلى جهة أخرى لإدارتها، لاستثمارها في الأوراق المالية أساسًا ومجالات الاستثمار الأخرى نيابة عن المدخرين لتحقيق أعلى عائد من الربح بأقل مخاطرة وفق شروط متفق عليها)(2).
يظهر من التعريفين وجود تباين بين الصندوقين، فالغاية من إنشاء كل صندوق تختلف بين الاثنين، فالغاية من إنشاء الصندوق الاستثماري تتمثل في تجميع المدخرات وربطها بأسواق المال بقصد استثمارها في الأوراق المالية أو أي مجالات اقتصادية. أما غاية الصندوق الوقفي فهو إحياء سنة الوقف بتجديد الدعوة إليه من خلال مشاريع ذات أبعاد تنموية قريبة من المجتمع وقادرة على تلبية رغباتهم وحاجاتهم.
الهدف المرجو من الصندوق الاستثماري هو تحقيق عائد اقتصادي للصندوق يتحول ريعه إلى المساهمين في الصندوق الاستثماري، وتهدف الصناديق الوقفية إلى الهدف ذاته، إلا أن المستفيدين من ريع أو عائد الصناديق الوقفية هم الجهة الموقوف عليهم والمنشأ الصندوق لأجلهم.
أما من حيث المشروعية، فلا خلاف في أن كلاً من الصندوقين مشروع، ما التزمت بضوابط الشريعة الإسلامية من حيث أحكام البيوع ومراعاة الحلال والحرام.
إدارة الصندوق الاستثماري تستند إلى وجود مجلس إدارة يتكون من حملة الأسهم من النوع الأول، وهم بدورهم يسندون ذلك إلى مدير يقوم بتوجيه الأسهم حسب نوعها لتحقيق المرجو منها، فيكون المدير وكيلاً عن المستثمرين. أما إدارة الصندوق الوقفي فتسند إلى مجلس إدارة أيضًا، إلا أنه يتكون من عدد من العناصر الشعبية يختارهم رئيس مجلس شؤون الأوقاف، ويحدد للصندوق مدير يعينه الأمين العام لشؤون الأوقاف من موظفيه، ويتولى مجلس الإدارة إقرار سياسات وخطط وبرامج الصندوق في نطاق أحكام الوقف.
الدعوة إلى تشكيل الصندوق الاستثماري يكون إما عن طريق المصارف الإسلامية أو الشركات الاستثمارية الإسلامية المختلفة ويكون شكله قريبًا إلى شكل الشركات المساهمة من نوع خاص.
بينما تتم الدعوة للاكتتاب في الصناديق الوقفية عن طريق إدارة الأوقاف العليا في الدولة.
مكونات الصندوق الاستثماري هو الأسهم الاستثمارية، ويستطيع صاحب السهم بيعه ونقل ملكيته والخروج من الصندوق متى شاء. والضابط لذلك هو سعر السهم في الأسواق المالية يحدده الوضع المالي للصندوق ودرجة قبوله في السوق المحلية.
أما الصندوق الوقفي فيضم إلى جانب الأسهم الوقفية، تبرعات يمكن قبولها من جهات البر المختلفة، أضف إلى ذلك عدم قدرة صاحب السهم التحول عنه أو بيعه على رأي جمهور العلماء.
ويمكن تصفية الصندوق الاستثماري عن طريق بيع أسهمه في الأسواق المالية وفقاً لقواعد تلك الأسواق، بينما لا يمكن تصفية الصندوق الوقفي إلا من خلال تشريع من رئاسة الأوقاف في ذلك البلد، ينص بموجبه على السماح بتحويل الأسهم الموقوفة إلى جهة أخرى عملاً بشروط الواقفين، وعلى وفق شروط استبدال الوقف.
تنمية أملاك الوقف:
ينبغي النظر إلى مسألة تنمية أملاك الأوقاف على إنها قضية جديدة حديثة، سواء أكانت جدتها من حيث العوامل التي أدت إليها، أم من حيث أهميتها وحجمها في الواقع الاجتماعي والاقتصادي المعاصر، وإن كانت قديمة بطبيعتها وأصولها وجذورها(3).
وعلى قدر علمي المتواضع، فإن الفقهاء السابقين لم يتطرقوا في بحثهم لمواضيع الوقف وأحواله إلى إفراد بحث عن زيادة رأس مال الوقف نفسه عن طريق أعمال تنموية مقصودة تتضمن استثمارًا ماليًّا جديدًا يضاف إلى أصل المال الموقوف.
إلا، أنهم (الفقهاء)، قد تحدثوا عن صورتين مهمتين من صور تنمية مال الوقف؛
أولهما: حفر بئر في أرض الوقف الزراعية من أجل التمكين من زراعتها، أو لزيادة مردودها، بتحويلها من أرض تزرع بعلاً إلى أرض مسقية، ولا شك أن الوسائل التي كانت متوفرة لحفر الآبار لم تكن لتجعل تكلفة حفر البئر عالية، بحيث يمكن تغطيتها، في العادة من إيرادات السنة نفسها(4). ومن الواضح، إن هذه العملية هي عملية تنموية دونما أدنى شك، لأنها ستؤدي إلى رفع إنتاجية الأرض وقيمتها الرأسمالية.
أما الصورة الثانية فهي صورة إضافة وقف جديد إلى مال وقف سابق.
إن النظر لحال الأوقاف منذ سَنِّها إلى وقتنا الحاضر، سيظهر أنها لا تخلو من ثلاث حالات:
1- أوقاف مخططة:
وهي أوقاف يزمع الواقفون وقفها، إلا أنهم يبحثون عن صيغ معاصرة، تحقق لهم ضمان استمرارية استثمار أوقافهم، وتنميتها.
والواضح من شروط الوقف وأركانه، إن للواقف أن يوقف من ماله القابل للوقف ما شاء، وأن يشترط ما شاء من الشروط التي لا تخالف كتاب الله وسنة رسول الله r. ومن أهم ما يسمح للواقف هو أن يشترط في وقفه ما يضمن بقاءه وتنميته والحفاظ عليه، كأن يجعل جزءًا من غلته لعمارته وصيانته والحفاظ عليه، أو أن يحيل إلى الناظر حسب ما يراه ليختار ما يراه مجديًا لمصلحة الوقف من وسائل الاستثمار المباحة.
2- أوقاف قائمة منصوص عليها:
وهي تلك الأوقاف القائمة والتي نص الواقفون في شروطهم على استثمارها بصيغ استثمارية نافعة مجدية، وخصوا في شروطهم جزءًا من ريع أوقافهم لتنمية أصول أوقافهم.
3- أوقاف قائمة غير منصوص عليها:
وهي تلك الأوقاف القائمة ولكنها جاءت بمعزل عن شروط الواقف فيما يتعلق باستثمارها.
إن هذا الأمر يحتم البحث في حكم استثمار هذه الأوقاف بصيغ استثمارية مناسبة. وعليه فإن المطالب الاخرى ستبحث في حكم استثمار أصول الوقف، وحكم استثمار ريع الوقف، أو في تخصيص جزء من ريع الوقف لتنميته.
المطلب الثاني: مشروعية استثمار أصول الأوقاف
لا يخفى على أحد أن الأموال الموقوفة إما أن تكون عقارا أو غيرها. فأما الأصول الموقوفة عقارا ً فالمرجو منها وحسب شرط الواقف إما للانتفاع وإما أن تكون موقوفة للاستغلال. فان كانت موقوفة للانتفاع بها، فان الوقف يتحقق بالتمكين من تلك المنفعة. فمثلاً إن كان الموقوف مسجدًا فبالصلاة فيه، وان كانت مقابر فبالتمكين من الدفن فيها…. وهكذا.
وإن كان غرض الواقف كما يفهم في شرطه توزيع غلة الوقف أو ريعه على جهة الوقف، فالأصل أن يستثمر بالإجارة وهذا لا نـزاع فيه بين العلماء والعمل عليه عند المسلمين من عصورهم الأولى دون نكير، فالأصل في أصول الأوقاف أن يتبع فيها غرض الواقف وشرطه وأن يستثمر في ضوء ذلك بالوسيلة المناسبة(5).
أما إذا كان المال الموقوف منقولاً كالعتاد والسلاح والآلات وغيرها، فاستثماره يكون بتمكين الموقوف عليه من استخدامها والانتفاع بها، إلا إذ تعطلت منفعتها فيما وقفت له، فيجوز بيعها وتصرف في جنس ما وقفت له. كما يجوز استثمار الآلات والدواب الموقوفة ونحوها – إذا لم يكن هناك مستفيد من الموقوف عليهم – بإدخالها في مشروعات بأُجرة أو بنسبة معينة من هذا المشروع.
إن الأصل هو استثمار الأوقاف على الجهات العامة أو الموقوفة للاستثمار وتوزيع الغلة على معينين بالوسيلة المجدية ومما يدل على مشروعية استثمار أصول الأوقاف ما يأتي(6):
1. إن الوقف هو تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة أو الغلة أو الريع.
وهذا يفيد أن الموقوف عليهم لا يملكون رقبة الوقف، وإنما لهم منفعته وغلته. ولا يمكن الحصول على الغلة إلا باستثمار الوقف بوسيلة من وسائل الاستثمار المناسبة.
2. إن استثمار أموال الوقف طريق من طرق المحافظة على هذه الأوقاف من الاضمحلال والخراب، فاستثمار العقار بتأجيره طريقة من طرق المحافظة عليه وصيانته، وبقاؤه لزمن أطول يحقق الغرض منه.
3. تحقيق قصد الشارع من الوقف، وغرض الواقف منه ونفع الموقوف عليهم وما يترتب على ذلك من فائدة للمجتمع.
أما قصد الشارع من الوقف فهو فتح باب للقربة يتقرب بها إلى الله، وإيجاد مورد مالي لسد حاجات المجتمع، وأما نفع الموقوف عليهم ففي تنمية مورد من مواردهم تقوم بكفايتهم وتلبي حاجاتهم. وأما الفائدة العائدة على المجتمع فبما يتحقق من خلال استثمار الأوقاف وتنميتها من آثار جليلة للمجتمع تتمثل في ازدهار الأوقاف مما يتيح للمجتمع بفئاته المقصودة بالوقف سد حاجاته والقيام بكفاياته.
4. ما ثبت من أن رسول الله r والخلفاء الراشدين كانوا يستثمرون أموال الصدقة، حيث كان يخصص الحمى للحفظ والرعي والدر والنسل كما دل عليه حديث العرنيين، فإنه يدل على أن النبي r لا يقسم الصدقة على المستحقين(7) حال وصولها وإنما يضع لها الرعاة وتستثمر، ومثله ما ورد عن عمر رضي الله عنه أنه حمى الربذة لنعم الصدقة(8).
وإذا جاز استثمار أموال الزكاة وهي أخص من الأوقاف وأضيق نطاقاً، فانه يجوز استثمار أموال الوقف على جهات البر المختلفة.
المطلب الثالث: حكم استثمار ريع الوقف
اوجب الفقهاء العمل بشرط الواقف، سيما فيما يتعلق بصرف غلة وقفه، لذا فإن صرف غلته واجب ما لم يخالف النصوص والقواعد الشرعية. فإن شرط الواقف في وقفه توزيع غلته على شخص أو جهة معينة أو في أعمال البر، فالأصل أن توزع هذه الغلة فورًا في مصرفها المشترط في الوقف. ولكن ما هو عليه الحال لو زادت إيرادات الوقف عن حاجة مصرفه، أو فيما إذا اشترط الواقف تخصيص جزء من ريع وقفه لعمارته؟ تشير الأدلة التي سيتم ذكرها لاحقًا إلى عدم وجود مانع من استثمار ذلك الريع بالوسيلة الملائمة. أما الأدلة على ذلك فتتمثل بالآتي:
1. حديث عروة البارقي رضي الله عنه(9).
نص الحديث على أن عروة اتجر في مال ولم يكن موكلاً في الاتجار، مما يدل على جواز استثمارات مال الغير بغير إذن مالكه إذا أقره على ذلك. وقياسًا على جواز استثمار المال الخاص، جاز لمن يلي الأوقاف سواء كان ناظرًا عامًا أو خاصًا، أن يستثمر الأوقاف بما يعود بالمنفعة على الوقف والموقوف عليه.
2. ما رواه الإمام مالك في موطئه من اتجار عبد الله وعبيد الله ابني عمر رضي الله عنهم بمال من أموال الله، وقد أقرهما عمر ومن حضر من الصحابة، مما يدل على جواز استثمار أموال الله والأوقاف منها(10).
3. قياس استثمار أموال الوقف من قبل الناظر على أموال اليتامى من قبل الولي، وحيث قد اتفق الفقهاء على جواز استثمار أموال اليتامى(11) فيما يعود عليهم بالمصلحة وهي مملوكة لهم فإنه يجوز استثمار أموال الوقف فيما يعود عليهم بالمصلحة. بل إن الرسول r قد أمر الولي بالاتجار في مال اليتيم (ولا يتركه حتى تأكله الصدقة)(12)، وهذا يشير إلى جواز الاستثمار بأموال الأوقاف قياسًا.
4. ما فعله عمر رضي الله عنه حيث لم يقسم أرض العراق ومصر والشام بين الفاتحين وإنما وقفها وتركها بأيدي أهلها يزرعونها وضرب عليهم الخراج، بقصد تأمين موارد ثابتة للدولة. وهذا أيضًا يشير إلى جواز استثمار الأوقاف لمصلحة الموقوف عليهم(13).
5. إن الفقهاء رحمهم الله، نصوا على أن ناظر الوقف ملزم ببناء ما تخرب منه وترميمه وصرف جزء من الريع في عمارته، بل يبدأ بها قبل توزيع الريع على الموقوف عليهم، شَرَطه الواقف في شروطه، أم لم يشترطه. وذلك ضمانًا لاستمرارية استثمار الوقف، ليكون مصدرًا مدرًا للغلة(14).
المطلب الرابع: مشروعية استثمار جزء من ريع الوقف لتنمية أصله
من المعلوم، أنه لا ينبغي الخروج عن شروط الواقف والعمل بمقتضاها بما يضمن مصلحة الوقف والموقوف عليهم. وفي ضوء جهدي القاصر، فإني لم أجد ما يشير صراحة إلى أن الفقهاء قد أجازوا تنمية أصل الوقف، بل إن بعضهم قد منع ذلك، إذ يقول ابن الهمام في فتحه بعد حديثه عن عمارة الوقف، بأن العمارة اللازمة (إنما هي بقدر ما يبقي الموقوف بها على الصيغة التي وقف عليها)، ويؤكد ذلك بقوله (فأما الزيادة فليست مستحقة)(15).
لذا يعد أمر تنمية أصل الوقف من المستجدات، التي ينبغي البحث فيها، وبناء عليه فإن هذا المطلب سيتناول موضوع فيما إذا أورد الواقف شرط التنمية صراحة أو ضمنًا أو فيما إذا لم يذكر ذلك.
1. إذا ذكر الواقف في صيغة وقفه تنمية أصله بجزء من غلته. وهنا على ناظر الوقف أن ينظر في هذا الشرط وتأثيره على مستقبل الوقف ومصلحة الواقفين، فإن كان ذلك ايجابيا كان على الناظر لزامًا العمل بشرط الواقف بمقتضاه.
2. إذا ما نص الواقف في شرطه على عدم تنمية أصله بجزء من غلته، بل يصرف جميع الريع في عمارة ما تهدم في الوقف وتوزيع الباقي على جهة مصرف الوقف. وحينئذ فالذي يظهر والله أعلم هو اتباع شرطه، وعدم جواز تنمية الأصل بجزء من غلة الوقف، مراعاةً لشرط الواقف، فيما لا يخالف النصوص الشرعية(16).
3. أن ينص الواقف في شرط وقفه على أن النظر في تنمية الأصل بجزء من الغلة للناظر، إن رأى المصلحة في ذلك فعله، وإلا فلا، وحينئذ، فعلى الناظر اتباع ما تقتضيه مصلحة الوقف فيعمل بموجبها، مع مراعاة الضوابط التي لابد منها عند استثمار الوقف.
4. أن لا يذكر الواقف في صيغة وقفه قيدًا يسمح أو يمنع تنمية أصل وقفه. والراجح هنا -والله أعلم – هو إتباع المصلحة في ذلك والنظر إلى هذا الجانب من جميع الاعتبارات التي تكتنف الوقف من حيث مصلحة أصل الوقف ومصلحة الموقوف عليهم.
فالقاعدة التي ينبغي ألا نحيد عنها هي أنه لا يصح تخصيص أي جزء من الإيرادات لإنماء رأس مال الوقف، إلا بموافقة الموقوف عليهم، لأن حق الموقوف عليهم متعلق بهذه الإيرادات، أيضًا، هذا هو الأصل أو المبدأ العام في إنماء أموال الأوقاف(17).
إلا أنه يمكن النظر في تنمية مال الوقف من إيراداته في بعض الحالات التي تتولد عن الظروف والأحوال المستجدة مما قد يشكل استثناءات لهذا المبدأ، حيث تعد المصلحة هي الفيصل في القيام بالتنمية من عدمها.
المطلب الخامس: ضوابط استثمار الوقف
يحكم استثمار الأموال الوقفية مجموعة من الضوابط العامة المستنبطة من مصادر الشريعة الإسلامية، والتي تتمثل بالآتي:(18)
1- أساس المشروعية، ويقصد بذلك في أن تكون أموال الوقف مطابقة لأحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية والتي تعد المرجعية الأولى في هذا النشاط، حيث يتم تجنب استثمار الأموال الوقفية في المجالات المحرمة شرعًا ومنها: الإيداع في البنوك بفوائد، أو شراء أسهم شركات تعمل في مجالات الحرام، أو شراء ما يسمى بالأسهم الممتازة كونها من الربا، أو الاستثمار في بلاد تحارب الإسلام والمسلمين أو تتعاون مع من يحاربهم.
2- أن لا يؤدي الاستثمار إلى مخالفة شرط الواقف، فمثلاً لو شرط الواقف عدم الاستثمار فلا يجوز للناظر الاستثمار، ولو شرط الواقف وجهًا معينًا للاستثمار وجب على الناظر التقيد بهذا الوجه، لأن شرط الواقف كنص الشارع فلا تجوز مخالفته.
3- أن يهدف الاستثمار إلى تحقيق النفع الأكبر للجهات الموقوف عليهم ولاسيما الطبقات الفقيرة منهم، إذ ينبغي أن يوجه الاستثمار نحو مشروعات تحقق نفعًا للطبقة الفقيرة، وتوفر فرص عمل لأبنائها بما يحقق التنمية الاجتماعية، لأن ذلك من مقاصد الوقف الخيرية والاجتماعية.
4- يجب ترتيب المشروعات الاستثمارية المراد تمويلها من أموال الوقف وفقًا لسلسلة الأولويات الإسلامية، الضروريات فالحاجيات فالتحسينات، وذلك حسب احتياجات المجتمع الإسلامي والمنافع التي سوف تعود على الموقوف عليهم.
5- توثيق العقود، ويقصد بذلك أن يعلم كل طرف من أطراف العملية الاستثمارية مقدار ما سوف يحصل عليه من عائد أو كسب، ومقدار ما سوف يتحمل من خسارة إذا حدثت، وأن يُكتب ذلك في عقود موثقة حتى لا يحدث جهالة أو غرراً أو يؤدي إلى شك وريبة ونـزاع.
6- أن يكون الاستثمار مأمونًا غير محفوف بالمخاطر حفاظًا على أموال الوقف من الضياع، والاستثمار المحفوف بالمخاطر عند الاقتصاديين نوعان:
أ – الاستثمار لآجال طويلة في مشروعات معرضة للخطر مثل مشروعات المجازفة في ميادين عمل مستحدثة.
ب- الاستثمار في مشروع جديد يقوم به أشخاص غير أصحاب رأس المال.
ولا يقصد بذلك انتفاء المخاطرة بدرجة قطعية فان ذلك متعذر في الاستثمار فكل استثمار يواجه درجة من المخاطر، ولكن المقصود ألا تكون المخاطر عالية.
ويمكن تقليل المخاطر باتباع الإجراءات الآتية:
أ- التاكيد على دراسات الجدوى الاقتصادية ومعاييرها بخصوص الاستثمار لأموال الصندوق.
ب- أن يكون الاستثمار مع جهة عندها خبرة كبيرة بإدارة الأموال واستثمارها ولها سمعة طيبة عند المستثمرين معروفة بنجاحها.
ج- أن يكون الاستثمار مع جهة يوثق بها ويطمئن لها الناظر، وأن يكون القائمون على الاستثمار معروفين بالاستقامة والصلاح.
7- المتابعة والمراقبة وتقويم الأداء من المسؤول عن استثمار الوقف، سواء كان ناظرًا أو مديراً أو مؤسسة أو هيئة أو أي صفة أخرى، بمتابعة عمليات الاستثمار للاطمئنان على أنها تسير وفقًا للخطط والسياسات والبرامج المحددة مسبقًا، وبيان أهم الانحرافات، وبيان أسبابها وعلاجها أولاً بأول، وهذا يدخل في نطاق المحافظة على الاستثمارات وتنميتها بالحق.
المبحث الثاني
صيغ تمويل الأوقاف عن طريق الاكتتاب العام
إن الأسلوب المتبع في تكوين صندوق الوقف وكذلك صندوق الوقف الاستثماري المقترح يكون عادة عن طريق الدعوة للاكتتاب العام وقبل البدء في استعراض الأشكال المقترحة لتمويل صناديق الوقف الاستثمارية، لابد من الإشارة إلى الجهة التي تتولى إدارة الصندوق، ويقترح في هذا المجال أن تبقى الإدارة بكاملها في يد ناظر الوقف مما يمكنه من إصدار الحصص أو الأسهم التي سيتضمنها الصندوق حسب نوعه.
وينبغي أن يتضمن عرض الإصدار (the prospectus)، ثم عقد الاكتتاب بعده، وكالتين هما: وكالة من مشتري الورقة المالية لناظر الوقف باستعمال نقوده في عملية البناء، ووكالة أخرى من المشتري تقر وتقبل إدارة الناظر للمشروع الوقفي الذي تم تمويل بناءه بأموال أصحاب الحصص والأسهم(19)، وسيتم تناول بعض الأشكال المقترحة لتمويل الأوقاف عن طريق الاكتتاب العام في المطالب اللاحقة.
المطلب الأول: الأسهم الوقفية
يقصد المساهم من شراء الأسهم الوقفية، الاشتراك في وقف الأسهم في مشروع وقفي معين. أما معالم فكرة وقف الأسهم عن طريق الاكتتاب العام فتتجلى في الآتي:(20)
1- أن تتبنى جهة أو مؤسسة خيرية أو إدارة حكومية، كوزارة الأوقاف، أو حتى فرد معين، فكرة إنشاء مشروع وقفي خيري خاص أو عام يخدم المجتمع بأي نوع من الخدمات الخيرية كما تم ذكره في الصناديق، أو المشاريع الوقفية أو مشروع استثماري يصرف ريعه في وجوه البر معينة أو عامة.
2- دراسة هذا المشروع أو ذاك دراسة وافية بالتخطيط له وتقدير تكلفته، ومن ثم تحديد رأس المال اللازم لهذا المشروع الوقفي، وأخذ الإذن اللازم لإقامته من جهة الاختصاص.
3- إصدار أسهم وقفية على غرار الأسهم في الشركات المساهمة وعلى غرار صكوك الاستثمار يوزع عليها رأس المال لتصبح هذه الأسهم ذات قيم اسمية متساوية.
4- يعرَّف عامة الناس بهذا المشروع عن طريق وسائل الإعلام المختلفة، وعن طريق إصدار نشرة اكتتاب تعرف الناس بالمشروع وأهدافه وطبيعته ومصرفه وطريقة إدارته وطريقة الاكتتاب فيه، وتحديد الجهة المعنية لتلقي الاكتتاب من العامة…. إلخ.
5- تبدأ الجهة المعنية باستقبال المساهمات العامة، وتعطيهم إيصالات بقدر أسهمهم.
6- يدعى بعد ذلك جميع المساهمين لاجتماع تأسيسي لتكوين مجلس إدارة، وتعيين مدير عام لهذا المشروع الوقفي عن طريق الاختيار (الانتخاب). وينتخب من يلزم للقيام بمهام هذا المجلس، كنائب للمدير أو الرئيس، وأمينًا للمجلس، وممثلاً ماليًا…إلخ.
ومن ثم يتولى مجلس الإدارة ورئيسه مهمة إقامة المشروع واستثماره، وتوزيع غلته في مصارفه المحدودة بالوكالة عن المساهمين.
وعلى هذا فالعلاقة بين المساهمين ومجلس الإدارة علاقة وكالة كونه وقفًا خيريًّا، إلا أنه يمكن أن تنشأ علاقة مضاربة بين ناظر الوقف الذي هو رئيس مجلس الإدارة وبين مؤسسة أو شخص لاستثمار الوقف أو جانب منه، إذا كان من النوع الاستثماري الذي يقصد ريعه لتوزيعه في مصارف الوقف.
7- وبعد الانتهاء من تنفيذ مشروع الوقف يبدأ في الانتفاع به في مصارفه المحددة.
فإن كان المشروع للانتفاع المباشر، فتح للمستحقين، وإن كان بالاستثمار في إجارة أو غيرها استثمر على حسب ما حدد في نشرة الإصدار إما عن طريق مجلس الإدارة، أو عن طريق إرجاع العائد إلى المساهم على حسب أسهمه ليوزعه في مصارفه.
أسباب ودوافع مثل هذه المشروعات الوقفية(21):
بعد النظر فيما كتب من طرح أصل هذه الفكرة وبعد الدراسة والتأمل تتبين أهميتها وشدة الحاجة إليها ولا سيما في هذا العصر لما يأتي:
1- اختلاف أنماط الحياة في هذا العصر، وتنوع الخدمات التي يحتاجها المجتمع، مما يستدعي التفكير في مشروعات وقفية تفي بهذه الخدمات المتنوعة.
2- إن غالب الناس في المجتمعات المختلفة يعيشون حياة اقتصادية متوسطة أو دون المتوسطة، بحيث لا يستطيعون الإسهام في الأوقاف مع أهميتها في المجتمع، ومع ما ترتب عليها من الفضائل. وفتح المجال لعامة الناس، وغالبيتهم ممن ذكر، للمساهمة في مشروعات وقفية نافعة ولو بجزء يسير عن طريق المساهمة بما يستطيعون، يفتح المجال لشريحة كبيرة جدا في المجتمع للإسهام في هذه المشروعات.
3- إن تبني مشروعات وقفية وطرحها لعامة الناس للاكتتاب يفتح الآفاق لإقامة مشروعات وقفية كبيرة تسهم إسهامًا فاعلاً في سد حاجات المجتمع المختلفة.
4- في هذه المشروعات وأمثالها إحياء لسنة الوقف بأساليب معاصرة يتقبلها الناس ويستطيعون الإسهام فيها.
5- إن الدول بدأت تفتح المجال للقطاعات الخاصة للإسهام في الكثير من مجالات الخدمات المختلفة كالكهرباء والاتصالات، والتعليم والصحة…. وحيث إن القطاع الخاص – في الغالب – يبحث عن الربح والاستثمار، وليس كل فئات المجتمع يستطيع دفع رسوم هذه الخدمات إذا أسندت للقطاع الخاص، ففتح المجال لإنشاء مشروعات وقفية عن طريق الاكتتاب الميسر لكل واحد، يسهِّل القيام بهذه الخدمات أو ببعضها لغير المستطيع.
6- تنظيم التبرعات الصغيرة المختلفة التي لا يمكن من خلالها إنشاء مشروعات ذات جدوى كبيرة في المجتمع، لها أثرها الواضح في مجالات البر المختلفة.
7- إن إقامة هذه المشروعات على النحو المطروح أبعد عن تلاعب المتلاعبين بالأوقاف الباحثين عن مصالحهم الشخصية لأنه عن طريق إقامة هذه المشروعات الوقفية تسند النظارة على الوقف إلى مجلس يختار من المساهمين، ولاشك أن النظارة الجماعية ليست كالفردية.
كيفية إصدار الأسهم:
سبقت الإشارة إلى فكرة وأسباب ودوافع مثل هذه المشروعات من حيث تكونها، كفكرة، إلى إصدار أسهمها ودعوة الناس للاكتتاب، ثم الدراسة والتنفيذ….. يمكن أن يتولى إصدار الأسهم واحد من هؤلاء:
1- جهة حكومية كوزارة الشؤون الإسلامية، أو وزارة الأوقاف أو دواوينها.
2- جهة خاصة كمؤسسة أهلية، أو جمعية خيرية.
3- فرد، بحيث يدرس شخص ما فكرة إنشاء مشروع وقفي على النحو السابق، ودراسته ويخطط له ويدعو للاكتتاب فيه، ثم يدعو المساهمين إلى اجتماع لتوكيله أو غيره للقيام بتنفيذ المشروع والنظارة عليه، أو تكوين مجلس إدارة للقيام بذلك.
حكم وقف الأسهم عن طريق الاكتتاب:
يرى الباحث جواز وقف الأسهم عن طريق الاكتتاب العام لما يأتي:
1- إن المساهمة في المشروع الوقفي عن طريق الاكتتاب مشاركة في وقف معين، وقد سبق ذكره، أنه يجوز وقف الجزء المشاع في عين مشتركة، ومنه يعرف جواز مبدأ المشاركة في الوقف بحيث يتعدد الواقفون لوقف واحد.
2- أنه يجوز وقف الأسهم في الشركات المساهمة المباحة بناءً على جواز وقف الأسهم الشائعة في العين المشتركة لما سبق عرضه من شروط صحة الوقف الراجعة إلى الموقوف، وأنها تنطبق على الأسهم في الشركات المساهمة، فيجوز وقف الأسهم ابتداءً عن طريق الاكتتاب من باب أولى.
4- ما سبقت الإشارة إليه من الأسباب والدوافع إلى إنشاء مشروعات وقفية عن طريق الاكتتاب في الأسهم، وما يؤدي إليه هذا الأسلوب من فتح مجالات جديدة معاصرة للوقف. وإن ذلك طريق لإنشاء مشروعات وقفية كبيرة تسهم في خدمات جليلة متنوعة للمجتمع، قد لا يستطيع الأفراد إنشاء أوقاف مماثلة لها.
5- وما يترتب على جواز هذا النوع من الأوقاف من فتح المجال أمام ذوي الدخل المحدود أن يسهموا في الأوقاف ولو بقليل.
المطلب الثاني: أشكال أخرى مقترحة للاكتتاب العام
أولا: سندات الأعيان المؤجرة(22):
سندات الاعيان المؤجرة هي صكوك أو أوراق مالية تمثل أجزاء متساوية من ملك بناء مؤجر، حيث يقوم متولي الوقف بإصدار هذه السندات وبيعها للجمهور وبسعر يساوي نسبة حصة السند من البناء إلى مجموع تكلفة البناء المزمع إنشاؤه. فلو كانت كلفة البناء عشرة ملايين دينار وقسم البناء إلى مليون وحدة صدر فيها مليون سند اعيان مؤجرة، لكان سعر بيع السند الواحد عند إصداره من ناظر الوقف هو عشرة دنانير.
ويتضمن السند إذنًا لمتولى الوقف من حملة السندات بالبناء على الوقف. كما يعطي السند توكيلاً من حامله لناظر الوقف بالبناء على أرض الوقف للمشروع الإنشائي المحدد وبكلفة محددة، بحيث يقوم الناظر بالبناء وكالة عن حملة السندات. كما يتضمن السند أيضًا اتفاقًا مع الوقف لتأجيره المبنى عند اكتماله بأجرة محددة متفق على مقدارها والمواعيد الدورية لدفعها، وتوكيلاً للناظر بتسليم المبنى للوقف نفسه، مع التصريح بقبول ذلك بالأجرة المحددة المتفق عليها بدءًا من تاريخ اكتمال البناء وصيرورته في حالة يصلح فيها للاستعمال.
ولايجوز تداول هذه السندات قبل أن يحول اكثر ما تمثله من حالة النقود إلى حالة الاموال العينية والحقوق. أي ان على الناظر أن يعلن للجمهور تاريخ بدء جواز تداول السندات.
بالرغم من أن حقيقة هذه السندات هي أنها تمثل حصة في ملكية أعيان مادية مؤجرة، إلا أنها تصبح، في السوق، اشبه بسندات الخزينة(23) من حيث تثمينها عند التداول، لأنها تباع بسعر سوقي يتأثر تحديده بالفرق بين عائدها المحدد مسبقًا وعائدية الفرصة البديلة في السوق المالية. والسبب في هذا التشابه هو أن هذه السندات تمنح الحق لحاملها بالحصول على الأجرة المحددة مسبقًا.
ويمكن لهذه السندات أن تصدر بآجال متعددة. فمنها ما يمكن إصداره بحيث يكون السند دائما يحتسب فيه ضمناً تكلفة تجديد الأصل الثابت الذي تمثله السندات. ويكون عقد الإجارة فيه لآجال طويلة متجددة على مبدأ عقود الإجارة المترادفة كما هو معروف في الفقة الإسلامي.
كما يمكن أن تصدر السندات بآجال محددة، تنتهي إما بشراء الأصل الثابت بسعر السوق من قِبَل ناظر الوقف، أو بتحويله إلى وقف بعد عشرين سنة من التأجير مثلاً، فيكون ذلك في أصل عقد اصدار سندات الإجارة وهو ما يسمى عادة على وفق المصطلح الشرعي الاجارة المنتهية بالتمليك.
ثانياً- أسهم التحكير(24):
أسهم التحكير هي درجة بين سندات الأعيان المؤجرة وأسهم المشاركة؛ لأنها تشبه كلاً من أسهم المشاركة وسندات الإجارة من بعض الوجوه. فهي تشبه سندات الاعيان المؤجرة في أنها تمثل حصصًا متساوية من ملكية بناء ملتزم بعقد إجارة لمدة الاستثمار، وهذا البناء يقام – بطريقة التوكيل – على أرض الوقف.
وهي تشبه أسهم المشاركة في أن عوائدها تمثل الربح الصافي الذي هو الفرق بين الإيرادات والمصروفات للمشروع الاستثماري، فهي غير محددة مسبقًا – خلافًا لعائدات الاعيان المؤجرة. ولكن أسهم التحكير مرتبطة – من جهة أخرى – مع الوقف بأسهم إجارة على الأرض تقتطع بموجبه أجرة الأرض – لصالح الوقف – من عائدات المشروع بكامله، من أجل الوصول إلى معرفة عائدات المشروع الصافية التي تستحق لأصحاب أسهم التحكير.
فأسهم التحكير هي إذن أسهم تمثل حصصًا متساوية في بناء يقوم على أرض وقفية مستأجرة من الوقف بعقد إيجار طويل الأجل هو عقد التحكير، وبأجرة محددة لكامل فترة العقد(25)، ويدير الناظر استثمار البناء وكالة عن أصحابه ولصالحهم، ويوزع الأرباح الصافية على أصحاب الأسهم، وبالتالي، فان ناظر الوقف – بصفته وكيلاً، بأجر أو بدون أجر، لأصحاب أسهم التحكير – يقوم ببناء الإنشاءات على أرض الوقف، ثم إدارة واستثمار الوقف، ثم إدارة استثمار المشروع بأكمله (أرضًا ومبنى)، ثم يقتطع الأجرة المتفق عليها للأرض لصالح الوقف، ويوزع العائد الصافي على أصحاب أسهم التحكير.
ويمكن أن تكون أسهم التحكير دائمة أو محددة المدة، تنتهي بشرائها بسعر السوق من الوقف أو بوقفها بنص في أصل العقد، بعد استعادة أصل رأس المال النقدي والعائد المرغوب به من خلال الأقساط الإيرادية.
ثالثاً- سندات المقارضة(26):
وتعتبر هذه السندات من أقدم وأشهر السندات الوقفية، وترجع فكرتها الأولى إلى الدكتور سامي حمود، عند وضع قانون البنك الإسلامي الأردني، وفي مرحلة تالية عَرَض هذه الفكرة على وزارة الأوقاف الأردنية وذلك من أجل إعمار الممتلكات الوقفية، فتشكلت لجنة لهذا الغرض وصدر قانون خاص مؤقت برقم (10) لعام 1981 ونشر في الجريدة الرسمية. ويمكن القول بأن معظم السندات الإسلامية التي وجدت في دول عديدة فيما بعد ترجع في كثير من مضامينها وجزئياتها إلى فكرة سندات المقارضة. فقد أصدرت حوالي 37 شركة ومصرفًا إسلاميًّا شهادات مضاربة تقترب في فكرتها من سندات المقارضة(27).
تقوم فكرة سندات المقارضة على عقد المضاربة، شأنها في ذلك شأن الودائع الاستثمارية لدى المصارف الاستثمارية، ففي سندات المقارضة يتقبل ناظر الوقف الأموال النقدية – بصفته مضاربًا- كما يتقبل البنك الإسلامي الودائع النقدية الاستثمارية. ولكن ناظر الوقف يقبل هذه الأموال ويصدر فيها وثائق متساوية القيمة، كل سند بمئة دينار مثلاً.
فسندات المقارضة هي إذن سندات بقيمة اسمية متساوية تمثل رأس المال مضاربة مع الوقف. ويستحق أصحابها أرباح المشروع الوقفي حسب الاتفاق، ويتحملون الخسائر حسب حصصهم في رأس مال المشروع.
ويستعمل الناظر هذه الأموال في استثمار محدد متفق عليه مع أربابها. وهذا الاستعمال هو تنمية أموال الوقف كأن يبني مستشفى على أرض الوقف ثم يستعملها تجاريًّا، ويقوم بحساب الربح أو الخسارة في آخر كل دورة مالية وتوزيعها على الحساب ريثما تنتهي المضاربة، حيث يتم حساب الربح والخسارة النهائية وتوزيعها حسب الاتفاق، ثم يعيد القيمة الاسمية ناضة عند انتهاء المضاربة إلى أصحاب سندات المقارضة، وذلك بتنضيض(28) أموال المضاربة.
فإذا كان حساب الأرباح عن كل مدة مالية دورية صحيحًا ودقيقًا، بحيث يعكس جميع الأرباح العادية الرأسمالية، فإن القيمة الحقيقية لسند المقارضة ينبغي أن تلتقي مع القيمة الاسمية عند تاريخ حساب الأرباح والخسائر، إلى ما بعد توزيع الأرباح (أو الخسائر) مباشرة، كما يحصل فعلاً بالنسبة للودائع الاستثمارية لدى البنوك الإسلامية، التي ترد بقيمتها الاسمية عند انتهاء المدة المالية المحددة، وبعد توزيع الأرباح أو الخسائر.
كل ذلك يعني أنه إذا ما تم احتساب الأرباح أو الخسائر بالمعنى الشرعي عند انتهاء كل مدة مالية، فإن القيمة الاسمية بعد دفع الأرباح عند نهاية كل مدة تمثل القيمة الحقيقية لسند المقارضة، فيصبح عند شرائه من السوق، أو إطفائه بالقيمة الاسمية سيان، لأن القيم الاسمية ستكون متماثلة مع القيمة الحقيقية في السوق، شأنه في ذلك شأن الودائع الاستثمارية ذات الأجل، التي ترد بقيمتها الاسمية عند انتهاء آجالها على أساس التنضيض الحكمي، أي بعد احتساب الأرباح بشكل تقديري صحيح.
ومن جهة أخرى فإن العوامل التي تؤثر على سعر سند المقارضة في السوق المالية منها ما هو حقيقي يرتبط بالوضع المالي والاقتصادي للمشروع نفسه، وبيئته الاقتصادية التي يعمل ضمنها. وهذه العوامل كلها مما ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار عند إجراء التنضيض الحكمي اللازم لحساب الأرباح والخسائر في جميع أنواع عقود المضاربة، سواءً منها ما كان بشكل ودائع استثمارية، أم بشكل سندات مقارضة.
أما العوامل التي تبنى على التوقعات والتخمينات فهي مما يختلف فيه الناس، ولكنها تؤول إلى الواقع الفعلي مع إعلان الأرباح الفعلية(29)، مما يجعل سعر السوق يؤول إلى القيمة الاسمية مضافًا إليها الأرباح المتوقعة قبل إعلانها. وبمعنى آخر، فإن القيمة السوقية تؤول إلى القيمة الاسمية عند تاريخ احتساب الأرباح ودفعها، شريطة أن يكون التنضيض الحكمي قد أخذ بعين الاعتبار العوامل الداخلية في المشروع نفسه والعوامل الاقتصادية المحيطة به مثل اتجاهات السوق فيما يتعلق بمنتجاته وأصوله.
لابد من الإشارة إلى أن العبرة في العقود والمعاملات هي المعاني والمقاصد، لا الالفاظ والمباني، فالمعول عليه في الجواز والتحريم هو السلامة من المحاذير الشرعية أو وجودها، فجواز الاكتتاب بالسندات مبني على سلامتها من المحاذير الشرعية. وتحريم السندات لما يترتب عليها من القرض بالفائدة، لا لكون اسمها سندات.
وقد أجاز مجمع الفقه الاسلامي إصدار ما يعرف بصكوك الاستثمار وسندات المقارضة بضوابط معينة تنتفي فيها المحاذير الشرعية التي ترد على السندات الربوية، وتحقق بها قواعد وضوابط المضاربة الشرعية، وأفضل أن يطلق على سندات المقارضة صكوك الاستثمار، بدلاً من سندات المقارضة.
المبحث الثالث
إسقاط تجربة الصناديق الاستثمارية على الصناديق الوقفية
هناك صور للصناديق الاستثمارية، بحسب مكوناتها هي (الصناديق الاستثمارية لبيع وشراء الأسهم، الصناديق الاستثمارية لبيع وشراء وتأجير العقار، الصناديق الاستثمارية لبيع وشراء العملات، وصناديق السلع).
وذكر المبحث السابق بعض الصور المقترحة على ألسن العلماء المعاصرين لإنشاء أوقاف جديدة أو دعم أوقاف قائمة، وتمثلت في (الأسهم الوقفية وسندات الأعيان المؤجرة وأسهم التحكير وسندات المقارضة)، وجميعها من صيغ الاكتتاب العام.
وبمراجعة ضوابط استثمار الوقف في المبحث الأول تبين مراعاة كون الاستثمار مأمونًا غير محفوف بالمخاطر قدر الإمكان.
لذا أرى، تأسيسًا على عدم تعريض أموال الوقف إلى الضياع والمخاطرة، استبعاد بعض صور الصناديق الاستثمارية المتمثلة في (صناديق الاستثمار لبيع وشراء الأسهم، وصناديق الاستثمار لبيع وشراء العملات) بالرغم من مشروعيتها، ذلك لارتفاع درجة المخاطرة فيهما، إذ أنها تكون عرضة لتقلبات الأسعار في الأسواق المالية، إن ضمان درجة أمان عالية لأموال الوقف وعدم تعريضها لمخاطر الهبوط المفاجئ أو الارتفاع على وفق أحوال السوق، حتَّم على الباحث التوصية بذلك، والله اعلم.
يتبقى من صور صناديق الاستثمار (الصناديق الاستثمارية لبيع وشراء وتأجير العقار، وصناديق بيع السلع) ويلاحظ على صناديق بيع وشراء وتأجير العقار اقترابها مما طرحه الدكتور منذر قحف حول تمويل الأوقاف القائمة والمتمثلة بسندات الأعيان المؤجرة أو أسهم التحكير أو سندات المقارضة، وذلك إذا ما أريد تأجير مشاريع قائمة.
لكن ماهي مشروعية أشكال الاكتتاب العام؟ وما هو عليه الحال لو أن هيئة ما أرادت طرح أسهم وقفية جديدة للاكتتاب العام وأريد منها إنشاء عقار أو شيء ما؟ هذا ما ستعالجه المطالب القادمة.
المطلب الأول: حكم وقف النقود
حيث إن أشكال الاكتتاب العام تمثل تعاملاً نقديًّا، لذا فإن هذا المطلب سيتناول مشروعية وقف النقود. اختلف الفقهاء في حكم وقف النقود الورقية، ويعود سبب الخلاف(30) إلى:
1- إن الدينار من الأموال المنقولة، والمال المنقول قد جرى في وقفه الخلاف، فالخلاف الجاري في المنقولات بصيغة عامة، جاء أيضًا في الدراهم والدنانير، إلا أن النقود المسكوكة لما تميزت باسمها لغة وعرفًا وشرعًا واستعمالاً جرى الخلاف في وقفها بصورة مستقلة.
2- إن الدراهم والدنانير ونحوهما من المثليات، مما لا يمكن استعماله على وجهه وغرضه إلا باتلافه (استهلاكه)، وكل ما يتلف بالاستعمال جرى الخلاف في حكم وقفه.
3- إن من شروط الوقف التأبيد، والدراهم والدنانير ونحوها مما لا يتأبد. وقد تنوعت أحكام الفقهاء في وقف النقود على خمسة أقوال:
القول الأول: أن وقف الدراهم والدنانير لا يصح مطلقًا. وبه قال متقدمو فقهاء الحنفية، وهو قول المالكية، وبه قال أكثر الشافعية والحنابلة وهو الظاهرعند الإمامية. قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله (لا يجوز وقف المنقول أيًا كان، وقال الصاحبان يجوز من المنقول مما كان تابعًا للعقار، أو ورد به النص، كالكراع والسلاح، واستثنى الإمام محمد بن الحسن – رحمه الله تعالى – أيضًا جواز وقف النقود وما جرى فيه التعامل، وتعارف الناس وقفه كالفأس والمنشار، لأن القياس يترك بالتعامل والنقود من المنقولات(31).
أما عند الشافعية، فقد قال الإمام الغزالي – رحمه الله تعالى: (وشرطه أن يكون مملوكا معيناً تحصل منه فائدة أو منفعة مقصودة دائمة مع بقاء الأصل)(32)، وأضاف: (وقولنا مقصودة) احترزنا به عن وقف الدراهم والدنانير للتزين، وفيه خلاف، كما في إجارته، لأن ذلك هو المقصود منها(33).
وذكر الخطيب الشربيني، (دوام الانتفاع به انتفاعًا مقصودًا. وأوضح أنه قصد بقوله، مقصودًا، وقف الدراهم والدنانير للتزين، فإنه لا يصح على الأصح المنصوص)(34) وذلك عند ذكره لشروط الموقوف.
وفي قول للمالكية (وأما إن وقف مع بقاء عينه فلا يجوز اتفاقًا إذ لا منفعة شرعية تترتب على ذلك)(35).
وعند الحنابلة، عدم الجواز أيضا، قال ابن قدامة (وجملته: إن كان ما لا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه كالدنانير والمطعوم والدراهم والمشروب والشمع وأشباهه لا يصح وقفه في قول عامة الفقهاء)(36). وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – فكثير من أصحابه – ويعني أصحاب الإمام احمد- منعوا وقف الدراهم والدنانير، لما ذكره الخرقي ومن اتبعه)(37).
وجاء في المحلى وهو يتحدث عما لا يجوز وقفه: (لاسيما الدنانير والدراهم، وكل ما لا منفعة فيه إلا بإتلاف عينه أو إخراجها عن ملك إلى ملك فهذا هو نقض الوقف أو إبطاله)(38).
القول الثاني – وهو كراهية وقف الدنانير والدراهم وهو قول عند المالكية(39) نسب إلى ابن رشد، جاء في التاج والإكليل نقلاً عن ابن رشد: (وأما الدنانير والدراهم وما لا يعرف بعينه فتحبيسه مكروه)(40).
القول الثالث– انه يصح وقف الدنانير والدراهم اذا جرى بوقفها التعامل في عرف الناس، وبه قال محمد بن الحسن وزفر، وذهب إليه عامة علماء الحنفية. قال ابن نجيم في البحر الرائق: (وقال محمد: يجوز وقف ما فيه تعامل من المنقولات واختاره أكثر فقهاء الأمصار وهو الصحيح(41))، جاء في حاشية ابن عابدين: (ولما جرى التعامل في زماننا في البلاد الرومية وغيرها في وقف الدراهم والدنانير دخلت تحت قول محمد المفتى به في وقف كل منقول فيه تعامل كما لا يخفى، فلا يحتاج على هذا إلى تخصيص القول بجواز وقفها لمذهب زفر)(42)، وقال: (وقد أفتى صاحب البحر بجواز وقفها ولم يحك خلافًا)(43).
القول الرابع – جواز وقف الدراهم والدنانير إن صيغ منها حلي، وعدم جواز وقفها إن أريد بها الإقراض أو الاتجار، وهو قول عند الشافعية والأصح في مذهبهم، وقول عند الإمامية.
جاء في روضة الطالبين (ويصح وقف الحلي لغرض اللبس وحكى الإمام أنهم ألحقوا الدراهم ليصاغ منها الحلي بوقف لعبد صغير، وتردد هو فيه)(44) وفي كتاب تيسير الوقوف: (يصح وقف الحلي للبس النساء، والدراهم لتصاغ حليًّا مباحًا)(45) أما الإمامية فقد ورد في شرائع الاسلام، وقيل: يصح، لانه قد يفرض لها نفع مع بقائها(46).
القول الخامس – وهو جواز وقف الدنانير والدراهم لغرض قرضها، أو للاتجار بها وصرف أرباحها في الموقوف عليهم، وهذا هو المعتمد عند المالكية، وقول عند الحنفية وقول عند الشافعية وقول عند الحنابلة، اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية.
روى الإمام البخاري عن الإمام محمد بن شهاب الزهري رحمهما الله معلقًا قال: (قال الزهري فيمن جعل ألف دينار في سبيل الله ودفعها إلى غلام له تاجر يتجر بها وجعل ربحها صدقة للمساكين والأقربين، هل للرجل أن يأكل من ربح ذلك الألف شيئًا، وإن لم يكن جعل ربحها صدقة في المساكين؟ قال: ليس له أن يأكل منها)(47). وقال الحافظ بن حجر،عند شرحه لكلام الزهري: (هو ذهاب من الزهري إلى جواز مثل ذلك، وقد أخرجه عنه هكذا ابن وهب في موطئه عن يونس عن الزهري)(48).
قال بعض الحنفية وعلى رأسهم محمد بن عبد الله الأنصاري، إذ جاء: (وعن الأنصاري – وكان من أصحاب زفر – في سَنّ وقْف الدراهم أو الدنانير أو الطعام أو ما يكال أو يوزن أيجوز؟ قال نعم: وكيف؟ قال: تدفع الدراهم مضاربة ثم يتصدق بها في الوجه الذي وقف عليه، وما يكال وما يوزن يباع ويدفع ثمنه مضاربة أو بضاعة)(49) وقد خرج بعض الحنفية جواز وقف النقود على رأي الإمام محمد بن الحسن الذي أجاز ما تعارفه الناس.
وصحة وقف النقود هو المعتمد عند المالكية، بناء على أن المعتمد عندهم صحة وقف كل منقول(50)، جاء في المدونة: (فقلت لمالك: فلو أن رجلاً حبس مائة دينار موقوفة يسلفها الناس ويردونها على ذلك جعلها حبسًا هل ترى فيها الزكاة، فقال نعم أرى فيها الزكاة)(51).
أما الشافعية، فلهم وجهان في وقف النقود، احدهما بالجواز، وآخر بالمنع، قال الشيرازي رحمه الله تعالى: (اختلف أصحابنا في الدراهم والدنانير، فمن أجاز إجارتها أجاز وقفها، ومن لم يجز إجارتها لم يجز وقفها)(52). وكذا قال الامام النووي رحمه الله: (في وقف الدراهم والدنانير وجهان كإجارتهما، إن جوزناها صح الوقف لتكرى)(53).
وجواز وقف النقود مرويّ عن الإمام أحمد رحمه الله، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فقد روي عن اسماعيل بن سعيد قال: سألت أحمد عن الوقف؟ فقال: هو جائز في كل شيء(54).
وذكر شيخ الإسلام في مجموع الفتاوي أن أحمد نص على جواز الوقف في الدراهم والدنانير وذلك في رواية الميموني، فعن أحمد أن الدراهم إذا كانت موقوفة على أهل بيته ففيها صدقة، وإذا كانت للمساكين فليس فيها شيء. قلت إن وقفها على الكراع والسلاح قال هذه مسألة لبس وأشباه)(55). ثم نقل الشيخ عن جده أبي البركات ابن تيمية قوله: (وظاهر هذا الجواز وقف الأثمان لغرض القرض أو التنمية والتصدق بالربح)(56).
الأدلـة:
بعد استعراض الأقوال الخمسة في حكم وقف النقود، لابد من مناقشة الأدلة لكل قول وبعدها يتم الترجيح والتعديل.
أما أدلة القول الأول وهو المنع فهي كالآتي:
1- أن النقود، في قول الفقهاء (الدراهم والدنانير) من المنقولات، ولا يصح وقف المنقول، إلا ما ورد به نص، ولا نص في النقود. ويرد على هذا الدليل، بعدم التسليم بمنع وقف المنقول، بل الصحيح صحة وقف المنقول، كما دلت على ذلك النصوص الصحيحة.
2- التأبيد هو من شروط الوقف، والتأبيد لا يكون إلا في العقار أو ما ورد به النص، ولم يرد في وقف الدراهم والدنانير نص.
ويناقش، بأن النصوص دلت على وقف غير العقار، مما ينتفع به مع بقاء عينه، ويعتبر البقاء نسبيًّا على حسب الموقوف.
إن الوقف لا يكون إلا فيما يمكن الانتفاع به مع بقاء أصله وهذا مما لا يتوفر في النقود، إذ إن الانتفاع بها يتم بصرفها. جاء في العناية: (احتراز عن الدراهم والدنانير فإن الانتفاع الذي خلقت الدراهم والدنانير لأجله وهو الثمنية لا يمكن بهما مع بقاء أصله في ملكه)(57)، ويجاب على ذلك، بأن وقف الدراهم والدنانير للاتجار بها وصرف ربحها في جهة الوقف وحينئذ فالأصل ثابت وباقي والصرف من الربح لا من الأصل، وإنما كان الأصل ثابتًا باعتبار أن النقد من المثليات التي لا تتعين بالتعين ويقوم البدل مقام العين. وهذا ما قرره الفقهاء في مختلف المذاهب(58).
أما أدلة القول الثاني وهي الكراهة فقد اقتصرت على ان وقف النقود يمثل تحجيرًا للمال بلا منفعة تعود على أحد، وكذلك كون الدراهم والدنانير تتلف بالاستعمال، وقد تمت مناقشته في أدلة القول الأول.
استدل أصحاب القول الثالث على الجواز بالعرف إذا جرى بوقفها التعامل.
وذهب اصحاب القول الرابع إلى أن الدراهم والدنانير مما يتلف بالاستعمال فلا يصح وقفها لأن الوقف يقتضي فيه الدوام. وإذا قصد بوقفها أن تصاغ حليًا، جاز ذلك لأن الحلي مما يدوم ويصح وقفه.
أما أصحاب القول الخامس وهو الجواز فقد استدلوا بالآتي:(59)
1- دخول النقود في عموم الأدلة الدالة على جواز الوقف، ولا مخرج لها من كتاب ولا سنة فبقيت داخلة في العموم.
2- قياس النقود على ماورد به النص من المنقولات الأخرى بجامع أن كلا منهما منقول يوجد فيهما غرض الوقف، وهو انتفاع الموقوف عليهم به في الدنيا، وحصول الأجر والثواب للواقف في الآخرة.
الترجيح والاختيار:(60)
مما تقدم اتضح للباحث رجحان القول الخامس وهو جواز وقف النقود ويرجع السبب في اختيار هذا القول إلى الآتي:
1- قوة الأدلة التي جاء بها من أجاز الوقف.
2- الردود والمناقشات التي ذكرت آنفا على أدلة الاقوال الأخرى.
3- أظهر البحث أن المذاهب تتفق على القول بالجواز إذا لم يكن الوقف متوجها إلى ذات الدراهم والدنانير لتكون موقوفة بأعيانها.
4- إن وقف النقود يتحقق به غرض الواقف ومصلحة الموقوف عليها ومقصود الشارع، اما غرض الواقف فهو مقصد القربة، وأما مصلحة الموقوف عليه فهو عود المنفعة عليه بالاستقراض أو بالاستفادة من الربح في حال استثمار النقود الموقوفة بالمضاربة أو غيرها، وأما مقصود الشارع فبتحقق هذين الغرضين مع بقاء الأصل.
5- ولئن كان عند الفقهاء القدامى نوع عذر في ترددهم في صحة وقف النقود، حيث إن صور وفرص استثمار النقود وكذلك المنافع المتوقعة من وقفها كانت محدودة، ولكن في عصرنا الحاضر، وبعد أن طرأت تطورات هائلة على جميع مناحي الحياة، ومنها النقود وطرق استثمار الأموال النقدية، وكذلك إدارة الأوقاف، والخدمات والمنافع التي يمكن أن تقدمها الأوقاف النقدية، وبعد ذلك لم يعد القول بصحة وقف النقود سائغًا ومقبولاً فحسب، بل أصبح حاجة ماسة لابد من تلبيتها بخاصة الأوقاف الجماعية التي يمكن أن تقوم بتنفيذ مشاريع خيرية كبيرة لا يستطيع فرد واحد القيام بها(61).
كما أجاز مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الاسلامي في دورته الخامسة عشر بمسقط (سلطنة عمان) في 14-19 المحرم /1425هـ، وقف النقود حيث جاء في ثانيًا ما نصه:
1- وقف النقود جائز شرعًا، لأن المقصد الشرعي من الوقف وهو حبس الأصل وتسبيل المنفعة متحقق فيها، ولأن النقود لا تتعين بالتعيين وإنما تقوم أبدالها مقامها.
2- يجوز وقف النقود للقرض الحسن، وللاستثمار إما بطريق مباشر، أو بمشاركة عدد من الواقفين في صندوق واحد، أو عن طريق إصدار أسهم نقدية وقفية تشجيعًا على الوقف، وتحقيقًا للمشاركة الجماعية فيه.
3- إذا استثمر المال النقدي الموقوف في أعيان، كأن يشتري الناظر به عقارًا أو يستصنع به مصنوعًا، فإن تلك الأصول والأعيان لاتكون وقفًا بعينها مكان النقد، بل يجوز بيعها لاستمرار الاستثمار، ويكون الوقف هو أصل المبلغ النقدي.
المطلب الثاني: حكم تغيير الأصل النقدي الموقوف إلى أصل آخر
هذا المطلب يتطلب تسليط الضوء على مسألتين(62):
الأولى: شروط الواقفين:
اتفق الفقهاء على وجوب مراعاة شروط الواقفين والالتزام بها، ووضعوا في هذا الشأن ضابطًا مشهورًا يعتبر المنهج الفقهي المتبع في شروط الواقفين، وهو قولهم: (إن شرط الواقف كنص الشارع)، أي في الفهم والدلالة وفي وجوب العمل به، لكن هذا الضابط ليس على عمومه، بل من الشروط ما هو صحيح ومقبول يجب احترامه والعمل بمقتضاه، ومنه ما هو باطل ومردود لا اعتبار له، والكلية الفقهية في ذلك، هي: أن كل شرط وافق مقتضى العقد ولم ينافه، ولم يخالف نصًّا شرعيًّا فإنه شرط صحيح، وهذا القدر متفق عليه بين الفقهاء(63)، غير أنهم اختلفوا في تطبيق هذه القاعدة، بين موسع في الشروط التي تخالف مقتضى العقد وبين مضيق(64)، والذي يهمنا هنا هو رأي الموسعين من الفقهاء الذين يربطون شروط الواقف بالمصلحة، وعلى رأسهم الحنفية الذين قالوا: إن كل شرط كان فيه تفويت لمصلحة الوقف أو المستحقين فهو شرط باطل(65)، واستثنى الحنفية من شرط الواقف الواجب الاتباع مسائل، منها: ما لو شرط الواقف أن لا يؤجر وقفه أكثر من سنة والناس لا يرغبون في استئجاره سنة، أو كان في الزيادة نفع للفقراء، فللقاضي المخالفة دون الناظر. ومنها أيضًا: ما إذا شرط الواقف عدم الاستبدال، فللقاضي الاستبدال إذا كان أصلح(66).
واليه ذهب أيضا بعض من متأخري المالكية(67)، وبعض الشافعية(68)، وبعض الحنابلة، وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى، الذي قال – في باب الوقف -: (ويدار مع المصلحة حيث كانت)(69)، وقال ابن القيم – رحمه الله تعالى -: (ويجوز، بل يترجح، مخالفتها – يعني شروط الواقف- إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله منها، وأنفع للوقف والموقوف عليه، ويجوز اعتبارها والعدول عنها عند تساوي الأمرين ولا يتعين الوقوف معها)(70).
إن هذه العبارة هي الأقرب إلى الواقع، اعتبارًا لمصلحة الوقف ودرء المفسدة عنها، وقد اختاره عامة الباحثين المعاصرين، ممن تيسر الاطلاع على آرائهم، وبه أخذ قانون الوقف الكويتي، حيث جاء في مادته 14: (يجب العمل بشرط الواقف، ويجوز بقرار من اللجنة مخالفة الشرط الصحيح إذا أصبح العمل به في غير مصلحة الوقف، أو الموقوف عليهم، أو كان يفوت غرضاً للواقف، أو اقتضت ذلك مصلحة أرجح)(71).
المسألة الثانية: مدى جواز استبدال العين الموقوفة:
هناك صور وحالات للموقوف تحدَّث عنها الفقهاء بإسهاب، ولهم في ذلك تفصيلات كثيرة ليس هذا مجال إيرادها، والذي يهم في البحث هو جواز استبدال الوقف العامر مع كونه يمكن الانتفاع به.
لم أر خلافًا بين الفقهاء في أن الوقف العامر لا يجوز استبداله، لكن بعض الفقهاء استثنوا من هذا المنع مسائل أجازوا فيها استبدال الوقف العامر، وعلى رأس هذه المسائل المسوغة للاستبدال وجود مصلحة حقيقية في ذلك.
فالقاضي أبو يوسف -رحمه الله تعالى- يرى ومن وافقه من الحنفية، أن المسائل التي يجوز فيها مخالفة شرط الواقف جواز الاستبدال للقاضي إذا كان ذلك أصلح للوقف. وفي الموضع نفسه: (استبدال الوقف العامر لا يجوز إلا في مسائل: الأولى: لو شرط الواقف………..، الثانية: أن يرغب إنسان فيه ببدل أكثر غلة وأحسن وصفًا، فيجوز على قول أبي يوسف -رحمه الله- وعليه الفتوى، كما في فتاوى قارئ الهداية)(72).
أما ابن عابدين فقد أشار إلى صور للاستبدال، فذكر منها: (أن لا يشترطه أيضًا – أي لم يشترط الواقف الاستبدال– ولكن فيه نفع في الجملة، وبدله خير منه ريعًا ونفعًا، وهذا لا يجوز استبداله في الأصح المختار)(73)، ويبدو أن في المفتى به في هذه المسألة خلاف، كما أشار إليه ابن عابدين نفسه(74).
وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- ومن وافقه أيضًا إلى جواز استبدال الوقف العامر للمصلحة الراجحة، ورأى أنه مذهب الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-، ومما قاله في هذا الشأن: (أما قول القائل: لا يجوز النقل والإبدال إلا عند تعذر الانتفاع فممنوع، ولم يذكروا على ذلك حجة، لا شرعية ولا مذهبية، فليس عن الشارع ولا عن صاحب المذهب النفي الذي احتجوا به، بل قد دلت الأدلة الشرعية وأقوال صاحب المذهب على خلاف ذلك) إلى أن قال: (وإذا ثبت في نصوصه -يعني نصوص أحمد- وأصوله جواز إبدال المسجد للمصلحة الراجحة فغيره أولى، وقد نص على جواز بيع غيره أيضًا للمصلحة لا للضرورة)(75).
ومن خلال ما تقدم فإن تغيير الأصل النقدي إلى غيره كالعقار،-مثلاً- قد يكون بقصد الاستثمار في العقارات مؤقتًا، فهذه الصورة لا إشكال في جوازها، بل لقد أوصى بعض الباحثين الاقتصاديين الجهات القائمة على إدارة الأوقاف النقدية بالعمل قدر الإمكان على تحويل الأصول النقدية إلى الأعيان واستثمارها استثمارًا مباشرًا، نظرًا لما يواجه الاستثمار في النقود من مخاطر أكبر من الاستثمار في العقارات(76)، ولا تكون العقارات وقفًا بعينها مكان النقد، كما جاء ذلك ضمن قرار مجمع الفقه الإسلامي 140/ 6/15، والصادر عام 1425هـ.
وأما فيما يخص صناديق السلع، فإن الباحث لا يرى مانعًا في تحويلها إلى صناديق وقفية استثمارية إذا ما توفرت الشروط الآتية:
1. ضبط ومراعاة المخاطرة وتوخي الدقة فيها إلى أبعد الحدود.
2. أن تكون مسألة البيع والشراء خاضعة لأحكام الحلال والحرام في الشريعة الإسلامية.
3. أن تكون هناك حسابات دقيقة تحدد الأرباح والخسائر.
4. أن تكون هناك جهة (ناظر) مسؤولة عن هذا الصندوق.
5. تحديد الجهات التي توزع عليها الأرباح سلفاً.
6. يمكن أن يكون شكل الصندوق كما ذكر بخصوص الأسهم الوقفية، وكذلك من حيث تحديد العلاقة ما بين الواقفين والناظر والمدير.
المطلب الثالث: الضوابط الشرعية للوقف الجماعي وأهميته
من خلال، ما تم طرحه من أشكال لوقف الأسهم عن طريق الاكتتاب العام، اتضح أنها تمثل صورة من صور الوقف الجماعي. ويرى الباحث ضرورة الأخذ بمقررات منتدى قضايا الوقف الفقهية الثالث المنعقد في دولة الكويت للمدة 11-13/ربيع الأول 1428 الموافق 28-30/4/2007 والتي توصلت إلى الآتي:
1. الوقف الجماعي: هو اشتراك أكثر من شخص أو جهة في وقف مال على جهة من جهات البر، محددة أو مطلقة.
2. الوقف الجماعي صورة من صور التعاون على البر والتقوى، وفيه تجميع للحصص الصغيرة والأنصبة المحددة في الشركات والمواريث والحقوق، لخدمة مشروعات الخير المتعددة، وفيه تشجيع على الوقف بين قطاعات عريضة من الناس، ويؤمّن مصادر لتمويل مشروعات الخير من غير موازنات الدول، وقد يخص منطقة أو دولة أو أكثر من ذلك.
3. من صور الوقف الجماعي: الاشتراك في بناء المساجد والمدارس والأربطة، والصكوك الوقفية، والأسهم الوقفية، والصناديق الوقفية.
4. تأصيل الوقف بالصورة الجماعية هو تمامًا كتأصيل الوقف الفردي، إلا أن صورته أعم وأشمل، ويحكم أمره في إطار القاعدة المعتمدة: (شرط الواقف كنص الشارع) ما يتفق عليه الواقفون من شروط فيما بينهم، أو عن طريق اشتراكهم في إنشاء وقفية أَعْلنت عن شروط إنشائها جهة مهتمة.
5. يطبق على الوقف الجماعي ما قرره فقهاؤنا من أحكام للوقف الفردي، ويمكن للواقفين فيه أن يحددوا شروطًا خاصة بهذا الوقف إنفاقًا لغلته، أو إدارة لشؤونه، أو إنهاء له.
المطلب الرابع: أثر تصفية الصندوق على تأبيد الوقف
إن الصيغ التي تم عرضها فيما يخص الاكتتاب العام، قد تكون موقوفة بأكملها، أو قد تكون على شكل أسهم موقوفة في شركات مساهمة لغرض بيع السلع أو لغرض الربح، وهي مجازة عند الفقهاء.
لكن السؤال الذي يثير نفسه هو: ما هو حال الوقف لو أريد تصفية الصندوق الذي يضم فيه أسهم موقوفة إلى جهة ما؟.
ابتداءًا، لابد من ذكر أنه سبق الإشارة إلى أن الفقهاء قد أجمعوا على تأبيد الوقف، على خلاف من المالكية الذين يجيزون التأقيت فيه.
إن قسمة الصندوق لا تؤثر، من حيث المبدأ، على وقفية الأسهم، بل هي موقوفة على التأبيد – اللهم إلا إذا كان الواقف قد أخذ بقول من أجاز عدم التأبيد، ووقفه إلى حين تصفية الشركة-، وقد قال ابن الهمام – رحمه الله-: لو اقتسم الواقف وشريكه المشاع، فوقع نصيب الواقف في محل مخصوص كان هو الوقف، ولا يجب عليه أن يقفه ثانيا(77).
لكن ما يمكن أن يثار هنا هو أن وقف الأسهم سيتوقف عن الريع بعد قسمة الصندوق وانحلاله مؤقتًا، بلا شك، فهل يأخذ في هذه الحالة حكم الوقف الذي تعطل ريعه، وبالتالي يحكم عليه بالانتهاء بناء على رأي بعض الفقهاء، على ما تقدم؟
كلا، لأن هناك فرقًا ظاهرًا بين الوقفين، فالوقف الخرب الذي تحدثوا عن انتهائه إنما يعود الخراب إلى عينها، بحيث لم تعد صالحة للاستفادة منها البتة، بخلاف وقف الأسهم الذي تعطل ريعه فقط دون أصله، فهذا تعطل مؤقت حتى يدبر الناظر أمره ثانية، فإن أمكن للناظر وقفه بحصة من الأعيان والنقود في شركة مماثلة فعل، وإلا استبدله بأصل آخر – كالعقار – بعد القيام بما يلزم من تحويل الأعيان إلى نقود، وما شابه ذلك لأن الاستبدال يجوز عند المصلحة الراجحة، فضلاً عن الضرورة وإن أدى ذلك إلى قلة الريع والنفعة، صيانة لمقصود الواقف عن الضياع مع إمكان تحصيله، ومع الانتفاع به- وإن قل- لا يضيع المقصود(78).
وإن تعذر الأمران، لقلة حصة الوقف أصلا أو ما إذا كانت الشركة قد تكبدت خسائر كبيرة، فإن ما بقى من حصة الوقف يُضَم إلى وقف آخر مماثل في مصرفه للوقف الأول، كما قال الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – من أن الفرس الحبيس للجهاد إذا كبرت فلم تصلح للغزو، إنها تباع ويشترى بثمنها غيرها تكون موقوفة على الجهة نفسها، وإذا لم يف ثمن الفرس الحبيس لشراء فرس أخرى أعين به في شراء فرس حبيس، يكون بعض الثمن، لأن المقصود استبقاء منفعة الوقف الممكن استبقاؤها وصيانتها عن الضياع، ولا سبيل الى ذلك الا بهذه الطريقة(79)، بل لقد ذهب بعض فقهاء المالكية إلى أن أنقاض الحبس يجوز نقلها لوقف عام المنفعة، ولو كان غير مماثل للأول(80).
ومجمل القول أن وقف الأسهم شأنه شأن غيره من الأوقاف الخيرية وقف مؤبد ولا يحكم بانتهائه بمجرد تصفية الشركة، بل ينتفع به ما أمكن، اللهم إلا أن يصل في قلة النفع إلى حد لا يعد نفعًا في عرف الناس، فيكون ذلك كالعدم(81).
وقد نص قانون الاوقاف الكويتي في مادته (52) على انه (لا ينتهي الوقف الخيري إلا إذا كان مؤقتًا بزمن محدد وانقضت مدته)(82)، والله أعلم.
إن تحويل الصناديق الوقفية إلى صناديق استثمارية ليس بالشيء الهين، إلا أنه غير مستحيل، إذ يتطلب ذلك إعادة النظر في الإطار القانوني للصناديق الوقفية، وكذلك تعميق توعية الجمهور بتشكيل مثل هذه الأنواع من الصناديق.
الخاتمة:
لقد لخص هذا البحث، أوجه التشابه والاختلاف بين كل من الصندوق الوقفي والصندوق الاستثماري، وكان من المهم قبل الخوض في إجراء هذا التحويل، عرض وجهة نظر الشرع في استثمار أصول الوقف الذي تبين مشروعيته، وكذلك مشروعية استثمار ريعه. أما تخصيص جزء من الإيرادات لإنماء رأس مال الوقف فتبين عدم جوازه إلا بعد استحصال موافقة الموقوف عليهم مع وجود بعض الاستثناءات تضبطها المصلحة.
كما استعرض البحث صيغ الاكتتاب العام المقترحة لتكوين الصناديق الوقفية الاستثمارية والمتمثلة بالأسهم الوقفية أو سندات الأعيان المؤجرة أو أسهم التحكير أو سندات المقارضة وخصوصية كل نوع من ذلك.
ولمعالجة بعض الإشكاليات التي تعترض تكوين الصناديق الوقفية الاستثمارية، كان لابد من معرفة آراء الفقهاء في حكم وقف النقود وفي تغيير الأصل النقدي للوقف إلى أصل آخر والذي اتضح مشروعيته. وحيث إن الصناديق الوقفية الاستثمارية هي من صور الوقف الجماعي لذا توجب على الباحث تبني مقررات منتدى الوقف الفقهي الثالث بهذا الخصوص. وبقصد تبيان مستقبل الصندوق الوقفي الاستثماري، بيّن الباحث أثر تصفيته على مسألة تأبيد الوقف.
مما تقدم يتضح بأن إمكانية إنشاء الصناديق الوقفية الاستثمارية ممكنة، خصوصًا مع توافر الأرضية الخصبة التي تتطلب إصدار التشريعات الملائمة والواضحة، ووجود القيادة الكفوءة إداريًّا واستثماريًّا للنهوض بالمشروع.
* * *
الهوامش
(1) محمد مصطفى الزحيلي، الصناديق الوقفية المعاصرة، تكييفها، أشكالها، حكمها، مشكلاتها، بحث مقدم إلى اعمال مؤتمر الأوقاف الثاني في جامعة أم القرى للمدة 18-20 ذي القعدة 1427هـ، ص4.
(2) عصام خلف العنـزي، صنا ديق الاستثمار الإسلامية والرقابة عليها، أطروحة دكتوراه مقدمة إلى كلية الشريعة، الجامعة الأردنية، 2004، ص15 وما بعدها.
(3) منذر قحف، الوقف الإسلامي، تطوره، إدارته، تنميته، دار الفكر، دمشق، 2000، ص221.
(4) ا المصدر نفسه، ص219.
(5) عبد الله بن موسى العمار، استثمار أموال الأوقاف، منتدى قضايا الوقف الفقهي الأول، الأمانة العامة للأوقاف بالكويت، 2003، ص214.
(6) المصدر نفسه، ص 215- 216.
(7) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب المحاربين.
(8) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب البيوع باب خمس الكلاء وبيعه 7/304.
(9) البخاري في صحيحه كتاب المناقب.
(10) مالك الموطأ كتاب القراض.
(11) أحكام القرآن للجصاص 2/93 المغني 6/338.
(12) سنن الترمذي باب الزكاة/ زكاة مال اليتيم تسلسل 580.
(13) كتاب الأمول لأبي عبيد ص134-137.
(14) استثمار أموال الوقف، عبد الله بن موسى العمار، ص218.
(15) الفتح القدير 6/280.
(16) استثمار أموال الوقف عبد الله العمار ص220.
(17) الوقف الإسلامي، منذر قحف، ص222.
(18) استثمار أموال الوقف، حسين حسين شحاته ص159-160، استثمار أموال الوقف، خالد عبد الله الشعيب ص255-256.
(19) الوقف الإسلامي لمنذر قحف ص 267.
(20) معالم هذه الفكرة مستوحاة من الوقف الإسلامي لمنذر قحف ص 265-277 وبحث سندات الوقف للدكتور عبد الحليم عمر ص 76-79 وعبد الله العمار ص 101- 102.
(21) وقف النقود والأوراق المالية لعبد الله العمار ص 102-103.
(22) الوقف الإسلامي، منذر قحف،272-274.
(23) سندات الخزينة هي سندات بقيم مالية تصدرها وزارة الخزانة والمالية، متساوية وهي تمثل قرضاً من حامل السند للحكومة. بالقيمة الاسمية للسند. وتدفع الحكومات على هذه السندات فوائد. بمعدل محدد مسبقاً ومكتوب على السند نفسه.
(24) الوقف الإسلامي، منذر قحف، 274- 275.
(25) يمكن أيضا أن ينص عقد التحكير على مراجعة مقدار الأجرة باتفاق الطرفين كل خمس سنوات مثلاً أو على أن يتجدد العقد كل سنة بحيث تزيد أجرة كل سنة عن التي قبلها بنسبة معلومة.
(26) الوقف الاسلامي، منذر تحف، ص 275 – 277.
(27) الصكوك الوقفية ودورها في التنمية، كمال توفيق حطاب، 2006، ص12.
(28) التنضيض:- تحول العروض إلى نقد (سيولة) وهي مأخوذة من النض وهو الذهب والفضة، أو تحويل اصول الصندوق إلى نقود حقيقية أو حكماً.
(29) الواقع ان التوقعات السوقية وعوامل الطلب والعرض على سندات المقارضة يمكن ان تكون شبيهة جداً بتلك التي تؤثر على أسعار الأسهم وتقييمها السوقي. وإذا أريد لسندات المقارضة أن تبقى مرتبطة بقيمتها الاسمية مثل الودائع المصرفية، فلا بد من ربطها بحق معلوم للوقف باطفائها بالقيمة الاسمية عند نهاية كل فترة محاسبية؛ لأن مثل هذا الربط يمنع عوامل السوق من دفع الاسعار بعيداً عن القيمة الاسمية مضافاً إليها الربح المتوقع أو محسوماً منها الخسارة المتوقعة.
(30) وقف النقود والأوراق المالية، عبدالله بن موسى العمار، بحث متقدم إلى اعمال منتدى قضايا الوقف الفقهية الثاني (تحديات عصرية واجتهادات شرعية) الكويت 8-10 مايس 2005، ط 1، 2006، الكويت ص 75-76.
(31) الهداية شرح بداية المبتدي برهان الدين الميرغيناتي مع نصب الراية تخريج أحاديث الهداية جمال الدين الزيلعي، اعتنى بها ايمن صالح شعبان دار الحديث، القاهرة، ط1/1995 3/14-15، وفتح القدير 6/217-218، حاشية بن عابدين 4/64.
(32) الوسيط 4/239.
(33) المصدر نفسه4/241.
(34) مغني المحتاج 2/377.
(35) الشرح الكبير للدردير بهامش حاشية الدسوقي 4/120.
(36) المغني 8/229.
(37) مجموع الفتاوى 31/234.
(38) المحلى 9/176.
(39) شرائع الاسلام 2/167.
(40) التاج والإكليل 7/631.
(41) البحر الرائق 5/218.
(42) البحر الرائق 3/374.
(43) المصدر نفسه وينظر رسالة في وقف النقود ص26- 31.
(44) البحر الرائق 5/315.
(45) المصدر نفسه 1/46.
(46) شرائع الإسلام 2/167.
(47) صحيح البخاري، كتاب الوصايا /باب وقف الدواب والكراع والعروض والصامت 3/1020.
(48) فتح الباري 5/405.
(49) فتح القدير 6/219 وحاشية ابن عابدين 4/364.
(50) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4/120.
(51) المدونة الكبرى 2/343 .
(52) المذهب 3/673.
(53) روضة الطالبين 5/315.
(54) كتاب الوقوف من مسائل الإمام أحمد بن حنبل الشيباني 1/288-288.
(55) الفتاوي 31/234.
(56) المصدر نفسه.
(57) العناية على البداية 5/431-432.
(58) وقف النقود والاوراق المالية، عبدالله العمار، مصدر سبق ذكره ص80
(59) وقف النقود والاوراق الماليه وأحكامه في الشريعة الإسلامية، ناصر بن عبدالله الميمان، بحث مقدم إلى أعمال منتدى قضايا الوقف الفقهية الثاني، مصدرسبق ذكره، ص120.
(60) صناديق الوقف الاستثماري، اسامة عبد المجيد العاني، دار البشائر الاسلامية، ط1، 2010، ص94.
(61) وقف النقود والاوراق المالية، ناصر الميمان، مصدر سبق ذكرة، ص123.
(62) وقف النقود والأوراق المالية، ناصر الميمان ص132-135.
(63) حاشية ابن عابدين 4/343، 350، 386، 389، عقد الجواهر الثمينة 3/41، روضة الطالبين 5/334، والمغني 5/353، 366، ومجموع الفتاوى 31/ 43،47.
(64) وقف النقود والأوراق المالية، ناصر الميمان ص132.
(65) حاشية ابن عابدين 4/343، 350، 386، 389، وأحكام الوقف 144-146.
(66) الأشباه والنظائر لابن نجيم،ص225، 226.
(67) وقف النقود والأوراق المالية، ناصر الميمان ص132.
(68) يدل على ذلك ما جاء في مغني المحتاج 2/385.
(69) مجموع الفتاوى 31/261.
(70) أعلام الموقعين 3/292.
(71) مشروع قانون الوقف الكويتي، ص172.
(72) الأشباه والنظائر لابن نجيم، ص225، وذكر نحوه في البحر الرائق 5/241.
(73) حاشية ابن عابدين4/384.
(74) المرجع نفسه 4/388.
(75) مجموع الفتاوى 31/220، وينظر أيضاً ما قبله وما بعده.
(76) وقف النقود والأوراق المالية، ناصر الميمان، ص134.
(77) ينظر: فتح القدير 6/212، والبحر الرائق 5/123.
(78) النقود والاوراق المالية، ناصر الميمان، ص149.
(79) ينظر المغنى 5/369.
(80) تنظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4/91.
(81) ينظر المغنى 5/369.
(82) مشروع قانون الوقف الكويتي، ص 313.