أبحاث

تطبيق الشريعة بين “آلية الضبط القانوني” و “آلية الضبط الاجتماعي”

العدد 147

(1)

1- الإنسان كائن اجتماعي؛ إذ طبيعته تدعوه إلى الاختلاط بغيره؛ مشاركةً في المعيشة، وإسهاماً في النشاط، وتبادلاً للمنافع، وهو – فوق ذلك ومعه- لا يمكن أن يقوم بقضاء جميع مصالحه استقلالاً بذاته، ولذلك كله كان وجود المجتمع أمراً حتمياً، ولذلك أيضاً تقرر مبدأ عام خالد: أن الإنسان لا يعيش إلا في جماعة.

2- وفي هذا الاجتماع/ المجتمع: تنشأ علاقات بين الناس مختلفة الأنواع.. والناسُ – فوق ذلك ومعه- مختلفة الأفكار والتصورات والميول والطباع – سنةً كونيةً أزليةً لا تبديل لها ولا تحويل-.. فيقع – ولابد- شيءٌ من تعارض السعي وتضارب المصالح، ولو تُركت بالكليةِ تسويةُ تلك التعارضات والتضاربات والعلاقات لتُحَلَّ بالاجتهادات الفردية (أي: لو تُركت بالكليةِ إقامةُ العدالةِ للاجتهادات الفردية) لغَلَب الهوى وساد الاضطراب وعمَّت الفوضى، مما يؤدي تلقائياً إلى اضمحلال المجتمع وتفككه وفنائه.. إن العدالة من حقوق المجتمع وواجباته في ذات الوقت، ولا يجوز التخلي عنها كليةً للأفراد ليقوم كلٌّ منهم بفرض “عدالته الخاصة” (أي: تصوره الخاص للعدالة)، ولذلك فليس لأحد أن ينتزع كليةً هذا الحق والواجب المجتمعي لنفسه تحت أي غطاء أو ادعاء، فمثل هذه الدعاوى قد تبدأ بدافع الحرص على الفضيلة أو القيم العليا ولكنها تؤول/ تنتهي إلى تعريض المجتمع إلى “الفوضى” وانعدام “العدالة” ذاتها.

3- لذلك كان لابد من نظامٍ يؤطر النشاط، ويضبط السعي، ويُنَظم تحصيل المصالح، ويُحَجم التعارضات، ويَعمل – قدرَ الإمكان- على تفادي وقوعها، وعلى حلها إن وقعت، وبهذا ولهذا وُلدت فكرةُ القانونِ؛ فتلك أسباب وجوده وتلك مقاصده.

4- فليس الغرضُ مِن القانون “تعديلَ السلوكيات والاعتقادات والآراء”، أو “التأهيلَ التربوي والأخلاقي للناس”، وإنما مقصدُه/ الغرضُ منه: ضبطُ وتأطيرُ العلاقات البينية؛ لئلا يقع طغيان أو إخسار، عدوانٌ أو بغي؛ حفظاً لكيان المجتمع أن يضمحل، وكفالةً له أن يتزكى(1).

5- ففارقٌ بين أن يُتصوَّر أنْ يهدف القانونُ إلى “تزكية سلوك الناس” وأن “يُعَبِّد الطريق لذلك”:

الأُولى: وظيفةُ التربية والتعليم والدعوة والإرشاد والتثقيف والتوجيه والحوار (أيْ وظيفة المحيط الأُسْري والاجتماعي؛ أيْ وظيفة “آلية الضبط الاجتماعي” كما أسميها).

والثانيةُ: أعلى وأصعب وأسمى درجات وظيفة القانون (أي وظيفة “آلية الضبط القانوني” كما أسميها).

6- الغرضُ مِن القانون: تنظيمُ المجتمع وحفظُ كيانه؛ ليَسْهُلَ أنْ يتزكى كياناً ومكوناتٍ.

وبتعبير آخَر، مقاصدُ وجود القانون: ألا يطغى الناسُ بعضُهم على بعض، مع الفصل بين قواتهم وفض اشتباكاتهم، مع تقليل وتحجيم تعارض المصالح وتضاربها، وتنظيم شئون الحياة؛ تحقيقاً للحد الأدنى من الانسيابية والسهولة والنظام والانتظام والتناغم.

وبتعبير ثالث، مقاصد وجود القانون: تناغمُ وانتظام حركات وأفعال الأشخاص – الحقيقيين والاعتباريين- مِن خلال ضبطها عبر مجموعة من القواعد العامة الجبرية التي تُؤَطِّر الحركة وتُوَجِّهُ الفعل.

7- وبهذا يتبين أنَّ كلَّ ما يَؤُول/ يؤدي إلى تهديد أو زعزعة أو خلخلة أو اضطراب استقرار وأمن المجتمع عملياً وفعلياً وعلى أرض الواقع: يُمنع قانوناً، وما ليس كذلك فيُضبَط اجتماعياً.

8- ثم إن النواحي الفاسدة أو السيئة المنبثقة عن العادات والتقاليد والآراء والأفكار والتصورات أو المُنظَّمة بها، والتي يمكن أن يقوم على ضبطها “سلطانُ الرأيِ العام والمحيطِ الاجتماعي” (= آلية الضبط الاجتماعي)، إنما يُلجأ في شأن تقويمها وإصلاحها وتغييرها إلى غرس مفاهيم وعادات وتقاليد جديدة بالتربية والتوعية والتعليم والدعوة والإرشاد، لا بِسَنِّ قوانين عقابية مضادة لها؛ لأن ذلك سيأتي بعكس المقصود منه؛ إذ سيزداد المجتمع (أو الطائفة الخاصة منه) تمسكاً بتلك النواحي الفاسدة أو السيئة؛ فإن القوانين إنما تقوم على الجبر والإلزام والإكراه المباشر، بينما تُعالَج النواحي سابقة الذكر بالتفهيم والإقناع والاستمالة والترغيب والتزيين.

9- نعم، القانون – في الرؤية الإسلامية- مبناه على الأخلاق(2)، ولكنَّ نظامَ الأخلاق أوسعُ من نطاق القانون؛ إذ كلُّ قاعدةٍِ أو نصٍّ قانوني إنما يستند إلى أساس أخلاقي (ولو إجمالاً) (3)، بينما ليست كل قاعدة أخلاقية تصلح أن تكون قاعدةً أو نصاً قانونياً(4)، (5).

10- نعم، “القانون” (= آلية الضبط القانوني) و”سلطانُ الرأي العام والمحيطِ الاجتماعي” (= آلية الضبط الاجتماعي): يحكمان سلوك الأفراد في المجتمع، ولكنهما يختلفان في “ماهية الجزاء”؛ حيث هو في الأولِ: ماديٌّ يُوَقَّع بالقوة الجبرية، بينما هو في الثاني: معنوي يُوَقَّع بالاستنكار والاستهجان والمقاطعة والازدراء والسُّخط، أو بالنصح والإرشاد والتواصي بالحق والتوجيه والتعليم والبيان والحوار.. وإنما استُخدمت القوة الجبرية في الأول لكونه ماسًّا – بالخلخلة الفعلية- في القريب العاجل أو في البعيد الآجل- كيانَ المجتمع ونظامه واستقراره(6).

“آلية الضبط القانوني” هي أداة السلطة في الحُكم وللإحكام؛ لتحقيق الاستقرار وتعبيد طريق العمران، بينما “آلية الضبط الاجتماعي” هي أداة المجتمع في احترام، وترسيخ، والدفاع عن ثوابته وقيمه وما استقر عليه ضميره العام من أخلاق وعادات وتقاليد وسلوكيات.

“آلية الضبط القانوني” هي أداة السلطة لضمان استقرار واستمرار المجتمع، بينما “آلية الضبط الاجتماعي” هي أداة المجتمع ذاته – أفراداً وكياناً- للارتقاء والترقي والتزكي.

“آلية الضبط القانوني” تهدف إلى تحقيقِ المصلحة العامة للمجتمع ومنع خلخلتِهِ أو تعكيرِ استقراره (أي إقامةِ النظام الذي هو ضد الفوضى والعبثية، وتوفيرِ الاستقرار الذي هو ضد الاضطراب والاصطراع)، بينما “آلية الضبط الاجتماعي” تهدف إلى إقامة الفرد الصالح والمجتمع الصالح.

“آلية الضبط القانوني” موردها “المنازعات والمشاكل” التي تقع – أو يُتوقع أن تقع- بين الناس، فيأتي القانون لحلها – أو منع وقوعها- بالعدل، بلا ظلم ولا جور.. بينما “آلية الضبط الاجتماعي” موردها “العلاقات الطبيعية” بين الناس بصرف النظر عن وقوع المنازعات والمشاكل من عدمه، فتتصدر قيمة “الإحسان” المشهد؛ ذلك الإحسان الذي يقوم على ساقيّ: تفكيكِ عوامل تفجير العلاقات بين الناس (بالعفو عن خطأ الغير، والتنازل طواعيةً عن الحق)، والعطاءِ بلا انتظار مقابل..

فـ “آلية الضبط القانوني” إنما تقوم على “المقابلة بين الحقوق”؛ حفظاً لها ومحواً للمظالم، بينما “آلية الضبط الاجتماعي” تقوم على أساس “الإحسان”؛ تزكيةً للعلاقات الإنسانية(7).. الأولى تقوم على “التعاقد”، والثانية تقوم على “التراحم”.. الأولى تقوم على مبدأ “التبادل”، والثانية تقوم على مبدأ “العطاء”.. الأولى تقوم على مبدأ “العدل”، والثانية تقوم على مبدأ “الفضل”..

إذاً: “آلية الضبط القانوني” هي الضامن لاستقرار المجتمعات، بينما “آلية الضبط الاجتماعي” هي الضامن لتَزَكِّيها؛ فإن التزكي والترقي لا يقوم بين علاقات حَرِجَة تتحرك على حد السيف.

11- ونخلص من هذا كله إلى:

أ- أن القانون هو “أحد” أدوات مواجهة الآثام والمعاصي، وليس “الأداة الوحيدة”(8).

وبتعبير آخر: القانون “أحد وسائل الوصول” إلى تحقيق مقصد الأخلاق؛ فمنـزلة القانون مِن الأخلاق منـزلة “الوسيلة” مِن “المقصد”، وكثيراً ما تتعدد وسائل المقصد الواحد، ثم إن الوسائل ذاتها تختلف باختلاف الزمان والمكان والحال، كما يُشترط فيها عنصر “الملاءمة والمناسبة” لتصل بنا إلى الغرض المقصود منها.

ب- وأن المجتمعات لا تقوم لها قائمة إلا بـ “آلية الضبط القانوني”، ولا تَرْقى/ تتزكي إلا بـ “آلية الضبط الاجتماعي”.

12/ 1- إن اقتصار القانون على تجريم(9) “بعض” المعاصي والآثام – تلك التي تؤدي، في القريب العاجل أو البعيد الآجل، إلى تعكير الاستقرار الاجتماعي أو الإضرار بمصلحته العامة أو تهديد كيانه أو استمراره – ليسَ تبريراً لغيرها من المعاصي والآثام – أياً كان شكلها أو مظهرها- أو إباحةً أو فسحاً لها، وإنما هو اعترافٌ بأن دور “آلية الضبط الاجتماعي” في التعامل معها ومعالجتها: أنسبُ وأهمُّ وأنجعُ وأقوى وأكثرُ فاعليةً وتأثيراً.

12/ 2- الشريعة الإسلامية – فيما نرى- إنما تُطبَّق عبر آليتين اثنتين: آلية الضبط القانوني، وآلية الضبط الاجتماعي.. وهما آليتان يحق للمجتمع أن يُعمِلَهما في أي مجال من المجالات وفق ما يراه مِن مصلحة، فإن رَأَى الضبطَ القانوني مُفسِداً في مجال ما إن تدخَّل فيه: نَحَّاه جانباً وأعملَ الآلية الأخرى، وإن رأي الآليةَ الثانية أوْلى وأصلح مِن الأُولى – أو العكس-: أعملها، وإن رأى الآليةَ الثانية مُفسدةً في مجالٍ ما إن تُركَ لها: نَحَّاها جانباً وأَعَمَلَ الأُولى، وإن رأى إعمالهما معاً هو ما يحقق المصلحة: أعملهما معاً.

12/ 3- ومن الأخطاء الفاحشة أن يُظن أن انعدامَ ضبطِ شيءٍ بالآلية القانونية يعني تنحيةَ الشريعة جانباً، أو انعدامَ تطبيقها؛ لأن هذا يعني:

– غفلة عن الأمة ودورها ومسئوليتها، بل وتغييب لها(10).

– وغفلة عن الفرق بين “تطبيق الشريعة” الذي يتم عبر “الضبط الاجتماعي” و/ أو “الضبط القانوني، و”تقنين الشريعة” الذي ينحصر في “الآلية القانونية”.

– ولأن حَصْرَ “الشريعة” – الفسيحة الأرجاء والرحبة الميدان- في “القانون”: اختزالٌ فاحش وتبسيطٌ مُخِل لدور الإسلام في الحياة وضبطها وإصلاحها وإنهاضها وتزكيتها.

12/ 4- هناك معاصٍ/ آثام حدد لها الشرعُ بنفسه عقوبات/ جزاءات توقع على مرتكبها في الحياة الدنيا(11).. وهناك معاصٍ/ آثام سَكَت الشرعُ عن تحديد عقوباتها/ جزاءاتها في الحياة الدنيا(12)، وللسكوت ههنا مقاصد في غاية الأهمية والخطورة، أهمها(13): فَسْحُ المجال أمام العقل البشري (وإن شئتَ قلتَ: أمام الأمة كلها) ليقرر بنفسه، حسبَ المصلحة (أي حسب أوضاع الزمان والمكان والإمكان والحال)، ما يَحتاج، في ذلك الظرف والزمان والحال، إلى فرضه بالقوانين والعقوبات والجزاءات، وما لا يحتاج إلى ذلك فيه، دون حَجْر ولا تحجير ولا حرج.. بمعنى أننا لسنا ملزمين ديانةً أن نُجَرِّمَ – بآلية الضبط القانوني الجزائي العقابي- “كلَّ” ما حرَّمته شريعة الإسلام؛ لأن لدينا “آلية الضبط الاجتماعي”؛ فنحن – ههنا- نتحرك بكل حرية بين آليتين شرعيتين يمكن أن نطبق بهما شريعة الإسلام وأوامره ونواهيه.

12/ 5- وعلى ذات النسق، وفي اتجاهه، نقول: لسنا ملزَمين ديانةً كذلك أن نُوجِبَ – بآلية الضبط القانوني الإلزامي الجبري- “كل” ما أوجبته شريعة الإسلام؛ لأن لدينا “آلية الضبط الاجتماعي”.

وكذلك الأمرُ فيما يُسمى – في التراث الفقهي- بالحسبة، إذ ليس في الشرع منها غير أساسها؛ مثل: وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووجوب التواصي بالحق، وأنه لا ضرر ولا ضرار، وأن الضرر يزال، وأن درء المفاسد واجب.. أما “آليات تطبيق ذلك وتفعيله” فمتروكة لنا؛ نقرر فيها ما يناسب أحوالنا حسب المصلحة؛ فنَحتسب على كل مفسدة – وهي كل أمر يترتب عليه ضرر بمقصد من مقاصد الشرع أو بحق من حقوق الناس أو المجتمع- بما يناسبها ويقتضيها حسب المصلحة.

ثم إن آليات تطبيق ذلك منفسحةٌ أمامنا أيضاً؛ بين “آلية الضبط القانوني” و”آلية الضبط الاجتماعي”.

ثم إن الاحتساب – فوق ذلك- لا يستلزم العقاب، ولا يُحتِّم المعاقبة؛ إذ غاية الاحتساب رفع المفسدة – أو المعاونة في ذلك- لا عقاب فاعلها(14).. نعم، يجوز أن يُعاقَب الفاعلُ بشروط(15)، ولكنه غير لازم، أقصد أن العقاب ليس مِن بِنية الحسبة وأركانها، وإنما هو متمم لها عند الحاجة إليه – وفقَ شروط وضوابط-.

13/ 1- وما نرمي إليه ههنا، هو أن لأولياء الأمور، الذين هم وكلاءٌ عن الأمة – والسلطةُ التشريعية في عصرنا مُمَثَّلةً في مجلس الشعب هي المختصة بسن القوانين-، أن يُقَدِّرُوا على المعاصي(16) المتعلقة بالحقوق البينية المتبادلة(17) – والتي خلت في ذات الوقت من تقدير الشرع لعقوبة صريحة محددة عليها- مِن العقوبات ما تقضي به المصلحة العامة، وفق مبدأيْ “المشروعية” و”المناسبَة/ الملاءمة” (فإن مفاسد المعاصي تتفاوت في الخفاء والظهور، والضعف والشدة، والقلة والكثرة).

ولهم – بل وعليهم أحياناً- أن يُمسكوا عن تقدير عقوبات على ما عدا ذلك من المعاصي؛ فإن منها ما لا يُمكن أن يُجبَر فاعلها على منعه من المعاودة إن كان قد تلبس بما لا يجوز فعله(18)، أو أن يُجبَرَ على الأداء إن كان قد تلبس بإهمال ما يجب فعله(19).. إلخ، ومن ثم، يجبُ تَركُ معالجة تلك المعاصي والآثام إلى آلية الضبط الاجتماعي، وإلا آل الأمرُ في مثل تلك الحالات إلى:

أ- خلقِ شعبٍ من المنافقين يُظهرون غير ما يُبطنون، ويزدادون إصراراً وتشبثاً بأفعالهم تلك، وينتهزون الفرص للتفلت من قبضة القانون، بل ويبتغون ذلك كلما أمكن، ومِن ثَمَّ، تتفاقم المشكلةُ المرادُ علاجُها بالجزاء العقابي القانوني وتستفحل بدلاً مِن أن تتقلص(20).

ب- وخدش كرامة وإنسانية الإنسان، والتضييق على حرية اختياره وإرادته – كما سبق البيان وكما سيأتي-، وكلا الأمرين مرفوض في الإسلام – كما نفهمه-.

13/ 2- إن توغل وتغول وتوحش وتفحش القانونِ غفلةُ عن أنَّ “الأمة هي الأصل”(21)، وليست “السلطة التنفيذية أو التشريعية أو العقابية”، حتى ولو كانت منتخبةً مِن الأمة.

وغفلة عن أن مقصد الإسلام الأسمى والأسنى ليس أنْ يُلزمك ظاهرياً، وإنما أن يُزَكيك/ يُرَقيكَ باطنياً فتلتزم ظاهرياً.

وغفلة عن أن “السلطة” في الإسلام إنما تقوم على مبدأ “التعبد لله”(22)– بتعبيد الناس له سبحانه طواعيةً- لا “التسلط على خلق الله” – بقهر الناس على التعبد له-(23)؛ فالسلطة للدين كالوسيلة للغاية؛ فمتى لم تتحقق الغاية بها، فلا قيمة لها (أي لوسيلة السلطة) ولا منـزلة ولا أهمية، ومِن ثم: لنبحث عن وسيلة أخرى نعيد بها نشر وترسيخ وتحقيق مبدأ “التعبد لله” في أنفس الناس أولاً، ولا وسيلة إلا الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة(24)، (25).

14- والخلاصة أنَّ الشريعة وإن فرضت صراحةً عقوباتٍ محددةً على آثامٍ معينة، فإن ذلك لا يُوجِب علينا: فرضَ عقابٍ قانوني على كل ما عدا ذلك مِن معاصٍ وآثامٍ، أو الإلزامَ بكل الأوامر الشرعية إلزاماً قانونياً.. فالأمر – أمر الإلزامِ أو العقابِ القانوني- خاضعٌ لاجتهادنا ومصلحتنا:

أ- رحمةً مِن الله بنا وتوسعةً علينا: فهو سبحانه لم يُرِد أن يُضَيق علينا فَنُحَاصَر – من كل اتجاه- بالقوانين الإلزامية أو العقابية؛ حتى لا يَرغَبَ المرءُ عن دين الله إن وَجَدَ نفسه محاصَرَاً بـ “ترسانة قانونية إلزامية وعقابية” تجعله يتحرك في الحياة – تفعيلاً لمراد الله مِن خَلقه، وتنفيذاً وتطبيقاً لشريعته- كأنه إنسان آلي أوتوماتيكي ميكانيكي مُوَجَّه، أو تُحِيله عروساً يحركها مُخرجُ مسرحِ العرائس بخيوطه؛ مما يخدش إنسانية الإنسان ويقدح في صميمها.

وهو فوق ذلك: “تخفيفٌ” مِن “ثِقَل” التكليف (وكل تكليف فيه نوعُ ثِقَل)؛ بالترغيب فيه والترهيب مِن مخالفته “إجمالاً”، فالقوانين للحياة كالطعام للإنسان؛ لا يمكن أن نعيش دون وجوده، ولكن إكثارنا منه وإفراطنا في تناوله يعيق حركتنا ويثبط همتنا ويصيبنا بالأمراض، وكذلك القانون!

وكم سيكون التحرك في كثير مِن جنبات ميدان الحياة عظيماً وحراً معاً إن انبثق عن “التزام طوعي ذاتي”، خاصةً إذا فَقِهَ المسلمُ(26) أن تكاليف الرحمن لخلقه(27) لا تدل مطلقاً على قهر إرادتهم وسلب حريتهم، وإنما على كمال رحمته بهم، وذلك من وجوه عدة، منها، بل على رأسها: أن مضامين هذه الأوامر والنواهي إنما هي – في التحليل الأخير- “قيمٌ خُلقية” – بالمعنى الواسع الصحيح للأخلاق- و”معانٍ رُوحية”: “تَرقى” بالإنسان في “مدارج الكمال” و”منازل القرب من الحق تبارك وتعالى”؛ وهل مِن شيء “أرحم” بالإنسان مِن “دوام الارتقاء” بإنسانيته!

ب- واحتراماً لآدميتنا وإنسانيتنا ولإرادتنا وحرية اختيارنا(28)، فإنه سبحانه لا يريد “أعناقَ عبيد” وإنما يريد “قلوبَ عباد”.

ج- وعاملاً دالاً على مدى مرونة وسعة الشريعة الإسلامية واستيعابها لمختلف الظروف والأحوال والبيئات والأوضاع.

د- وعاملاً فاعلاً في إحسان تطبيقها وتنـزيلها على الوقائع والأشخاص والمجتمعات.

هـ – وتأكيداً على، وتنبيهاً ولفتاً إلى، أن “سلطةَ الضمير والأخلاق والالتزام الذاتي الطوعي” أهم وأرقى(29) مِن “سلطة القانون السلطاني القهري” في الرؤية الإسلامية؛ وإلا أصبح الناسُ يعبدون القانون ولا يعبدون الله، يَخْشَوْن القانونَ ولا يخشون الله!

و- وفسحاً للمجال أمام الأمة لتنظيم شئون حياتها بحرية (أي حرية تكييف الأوضاع حسب متطلبات الزمان والمكان والإمكان والحال؛ نظاماً وتنظيماً)(30)؛ فَسْحاً للمجال أمام العقل البشري (وإن شئتَ قلتَ: أمام الأمة كلها) ليقرر بنفسه، حسبَ المصلحة، ما يَحتاج إلى فرضه بالقوانين والعقوبات والجزاءات، وما لا يحتاج إلى ذلك فيه، وما يحتاج إلى تشديد العقاب عليه أو تنويعه، وما لا يحتاج، دون حَجْر ولا تحجير ولا حرج(31).

بمعنى أننا – وكما سبق البيان- لسنا ملزمين ديانةً أن نفرض – بآلية الضبط القانوني الإلزامي الجبري- أو أن نُجَرِّمَ – بآلية الضبط القانوني الجزائي العقابي- “كلَّ” ما أوجبته أو حرَّمته شريعة الإسلام؛ لأن لدينا “آلية الضبط الاجتماعي”؛ فنحن ههنا – وكما سبق البيان- نتحرك بكل حرية بين آليتين شرعيتين يمكن أن نطبق بهما شريعة الإسلام وأوامره ونواهيه.

15- وبتعبير آخَر أكثر انفساحاً:

* يجب أن نميز بين “دور السلطتين التشريعية والتنفيذية”(32) و”دور الدعوة/ الأمة/ المجتمع”؛

الأولى: تسن وتنفذ القوانين والسياسات الحافظةَ للاستقرار، والفاضَّة للخلافات والمنازعات، والحاميةَ للحقوق البينية المتبادلة أن تُنتهك، والكافلةَ للمجتمع أن يتزكى(33). وهذه هي آلية الضبط القانوني إنشاءً وتنفيذاً(34).

والثانية: تقوم بحفظ الدين ورعايته وتبليغه ونشره والدعوة إليه، وبالوعظ والإرشاد وغرس القيم ونشر الأخلاق، وبالتربية والتوجيه والتثقيف، وبالتواصي بالحق، وبالإشادة والتكريم، وبالمقاطعة والهجران، وبالتزكية والتنمية والرعاية(35)، وبالبيان للناس وإقامة الحجة وإزالة الشبهة(36). وهذه هي آلية الضبط الاجتماعي.

* يجب أن نميز بين “دور رجل التشريع والتنفيذ” و”دور الفقهاء والدعاة والخطباء والوعاظ والمربين والمعلمين والأدباء والمفكرين والفلاسفة وعلماء النفس والاجتماع”؛

الأول: ينظم العلاقات بين الناس، ولا يتدخل في الاختيارات أو الممارسات الشخصية – فكريةً كانت أو دينية أو سلوكية-. وهذا جوهر آلية الضبط القانوني(37).

والثاني: وظيفته البيان والوعظ والإرشاد والنصح والإقناع والتزكية والحث على الالتزام، لا الفرض والجبر والإلزام والقمع المباشر. وهذا جوهر آلية الضبط الاجتماعي(38).

* يجب أن نميز بين “دور ومقاصد السلطة” و”دور ومقاصد الأمة”؛

الأولى: دورها الأساسي إيجادُ المناخ العام الذي ييسر ويسهل ويسمح للإنسان المسلم بممارسة “مهمة الخلافة”، من خلال التغلب على العقبات السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية التي تعيق ذلك(39)، لا فرضُ “كل” تعاليم الإسلام بالقهر والإرغام والعقاب القانوني(40).

والثانية: دورها الأساسي تربية وتزكية الشخصية الإسلامية لمختلف مكونات المجتمع – أفراداً وجماعات- روحياً وأخلاقياً وسلوكياً، في كافة مناحي وميادين الحياة(41).

16/ 1- وهذا “التمييز التقسيمي” الإجرائي الإداري للأدوار والمهام – أو هذا “التوزيع” للأدوار والمهام- لا يعني أنها منفصلة عن بعضها تماماً، أو منعزلة، بل في هذا التمييزِ والتقسيمِ والتوزيعِ مساحاتٌ مشتركة(42) “تتداخل” و”تتكامل” فيها أحياناً الأدوارُ والمهام.

فضلاً عن “التكامل البنيوي العام” بين “الأمة” و”السلطة”:

أ- فإن وجود سلطة وحكومة ذات مرجعية إسلامية يَفترض أولاً بروز الأمة إلى حيز الوجود؛ بمعنى أن قيام دولة للمسلمين يستلزم قبلُ ظهورَ مجتمع ملتزم بالإسلام مبدأ ومعياراً، ويستلزمُ قبلُ أن تكون السلطة مُوَكَّلةً مِن قِبَل الأمة، لا مفروضةً عليها بالغلبة أو القهر أو الاستبداد أو التزوير أو التوريث؛ يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) [النساء: 59]؛ وليس “منا” مَن هو “مفروضٌ علينا”!

ب- وإن الاستمرار الفعلي للأمة يتطلب تأسيس سلطة/ حكومة تستلهم طموحات الأمة وآمالَها؛ توفيراً للحد الأدنى مِن متطلبات قيام الأمة بمهامها (المنبثقة عن مهمتها الكبرى؛ مهمة الخلافة والاستخلاف). نعم، يمكن استمرار الوجود الإيماني والأخلاقي للأمة استمراراً مؤقتاً هشاً (وزائلاً في المآل لا محالة) حالَ الغياب الطارئ أو الاضطراري أو الاستثنائي للسلطة/ الحكومة، ولكنَّ بقاء الأمة – أية أمة- وظيفياً ونظامياً يتطلب لزاماً وحتماً حضور السلطة/ الحكومة.

فلا وجودَ لسلطةٍ – أيةِ سلطة- إلا بوجود أمة، ولا وجود لأمةٍ – أيةِ أمة- إلا بوجود سلطة.

ولهذا، لمَّا كوَّن رسولُ الله (عليه الصلاة والسلام) نواةَ الأمة في مكة المكرمة، انتقل بها – تحت ضغط الاضطهاد والتعذيب الذي سَيُفنيها ويُبيدُها- إلى المدينة المنورة؛ ليقيم الدولة/ السلطة/ الحكومة. ولولا هذا الاضطهاد والتعذيب لتحولت مكة تلقائياً، وبمرور الزمن، ودون حاجة للهجرة منها، إلى دولة للمسلمين؛ وفقاً لطبائع الأشياء وسنن الاجتماع.

16/ 2- ومع ذلك تبقى الفروق الكبرى وملامحها كما هي، تلك الفروق التي تقضي بـ “التمييز” بين أدوار ومهام هاتين الدائرتين – دائرة الأمة ودائرة السلطة- مِن غير “فصل تام” بينهما(43) ولا “دمج كلي”، ذلك التمييز الحائل دونَ استخدامِ “السلطة ومؤسساتها” في “تجميد حياة” الأمة وأنشطتها و”وقف نموها”، والحائل دونَ تحوُّلِها أخطبوطاً ديناصورياً جباراً يُحاصِر بأذرعه جسدَ الأمة فيمنعها أن تتحرك إلا برغبته!

17- والوقفُ – في تاريخ أمتنا- يقف شاهداً شامخاً، ضمنَ شهودٍ عدولٍ كُثُر، على فقه الأمة ووعيها واستبطانها لطرحنا سالف الذكر والتفصيل.. لقد كان الوقفُ مؤسسةَ الأمةِ التي منها مولت صناعةَ الحضارة، وبها أقامت العدالة الاجتماعية النسبية(44) بين الناس.. لقد امتد الوقف لمختلف أنشطة العمران في دار الإسلام، فشمل:

1. المساجدَ: بيوت الله في الأرض، والتي مثلت وقتها أماكن تجمع المسلمين لمناقشة شئونهم العامة.

2. والمدارسَ: التي جعلت دار الإسلام منارة على الكرة الأرضية لقرون عدة.

3. والمكتبات: التي يسرت الكتب للراغبين فيها دون نفقات.

4. ونَسْخَ المخطوطات: وهو ما يقوم اليوم مقام المطابع ودُور نشر الكتب.

5. والحفاظَ على التحف والآثار.

6. وإنشاءَ كتاتيب تحفيظ القرآن في المدن والقرى والنجوع.

7. والإنفاقَ على العلماء وطلبة العلم في مختلف أرجاء بلاد المسلمين؛ مما حرر الرأي والفكر والفقه من استبداد السلاطين.

8. والإنفاقَ على الحرمين الشريفين والمسجد الأقصى، وعلى علمائهم وطلاب العلم فيهم، وعموم المحتاجين من أهل هذه المناطق والوافدين إليها.

9. وعمارةَ الرِّبَاطَات التي يقيم فيها المجاهدون المقاتلون، وشحنها بعُدة القتال ونفقات المقاتلين، ورعاية أسر الشهداء منهم.

10. وتحريرَ الأسرى بافتدائهم والإنفاق عليهم وعلى عائلاتهم.

11. وإقامةَ المستشفيات (= البيمارستانات بالتعبير القديم) للعلاج والاستشفاء من الأمراض العضوية والنفسية معاً.

12. وإقامةَ أسواق التجارة.

13. وإقامةَ الأسبلة وحفر الآبار والعيون؛ ليرتوي منها المارة وطلاب المياه.

14. وإقامة القناطر والجسور والأسوار وإنارة الدروب

15. وبناءَ العبَّارات التي تنقل الناس عبر الأنهار والترع والرَّيَّاحات.

16. وبناءَ الخانات (= الفنادق بالتعبير المعاصر) التي ينـزل فيها التجار والمسافرون.

17. وبناءَ الحمامات العامة التي تحفظ وتيسر نظافة الناس وطهارتهم.

18. ورصفَ الطرق وتعديلها وصيانتها.

19. ورعايةَ أبناء السبيل حتى يعودوا إلى المنازل والديار.

20. والحدائقَ المخصصة ظلالها وثمارها لعابري السبيل يأكلون منها الفاكهة على مدار العام.

21. والمعاونةَ على أداء فريضة الحج للذين لا يستطيعون إليه سبيلاً.

22. وتجهيزَ الحلي الذهبية وأدوات الزينة للعرائس الفقيرات اللاتي لا يستطعن شراءها عند الزواج!

23. ورعايةَ النساء الغاضبات: اللاتي لا أُسر لهن، أو مَن تسكن أسرهن في بلاد بعيدة.. فتؤسَّس لهن دُورٌ، تقوم على رعايتها نساء، على رأسهن مشرفة تُهَيئ الصلح للزوجات الغاضبات مع أزواجهن!

24. ومؤسسةَ “نقطة الحليب” الخاصة بإمداد الأمهات المرضعات بالحليب والسكر؛ إعانةً لهن على تغذية أطفالهن الرضع!

25. وإعانةَ ورعاية ذوي الأمراض المزمنة والاحتياجات الخاصة.

26. وإيواءَ الحيوانات والطيور ورعايتها وتطبيبها!

27. وتهيئةَ موائد الإفطار والسحور للفقراء والغرباء في شهر رمضان.

28. وتسليفَ المحتاجين وتزويجهم!

29. توفير الأواني والقُدور المخصصة للمناسبات – أفراحاً وأحزاناً- لمن لا يستطيع شراءها.. ومنها كذلك تُعوَّضُ الأواني التي كُسرت مِن الخدم؛ لئلا يؤذيهم ساداتهم!

30. وتجهيزَ موتى الفقراء والغرباء

31. وبناءَ مقابر الصدقة ليُدفَن فيها الفقراء والغرباء وأبناء السبيل.

32. ورعايةَ المحبوسين وكفالة عائلاتهم.

33… إلخ مما لا يمكن حصره ولا الإحاطة به(45)!

(2)

وقبل أن نختم، ووفاءً بوعدنا للقارئ الكريم، نأتي على بيان وتأصيل وتفصيل مبدأ “الأمة هي الأصل”(46)، فنقول:

1- الأمة هي الأصل سواءٌ من حيث توجه الخطاب الشرعي ابتداءً، أو من حيث العموم، أو من حيث الصلاحيات والمسئوليات، أو من حيث الأولوية والتقديم.. وبذلك تأتي الهيئات والمؤسسات والسلطات والأفراد: تبعاً وضمناً.

يقول تعالى:

(شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشورى: 13]

(وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ) [آل عمران: 103]

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ) [النساء: 136]

(فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ) [المائدة: 48]

(وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة: 2]

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [الحجرات: 1]

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا) [العنكبوت: 20]

(فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ) [آل عمران: 137]

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ) [التوبة: 71]

(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) [آل عمران: 110]

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ) [الممتحنة: 10]

(وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ) [النور: 32]

(وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا) [النساء: 35]

(فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) [البقرة: 229]

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ.. وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ) [النساء: 1- 2]

(وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً) [النساء: 5]

(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا) [المائدة: 38]

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ) [النور: 2]

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) [النور: 4]

(وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ.. وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا) [النساء: 15- 16]

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) [البقرة: 178]

(وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الحجرات: 9]

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) [الحجرات: 10]

(وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ) [الأنفال: 60]

(وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ) [الأنفال: 72]

(وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ) [الأنفال: 39]

(فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) [البقرة: 194]

(وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) [التوبة: 12]

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا) [الحجرات: 6]

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ) [الحجرات: 11]

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ.. لَا تَجَسَّسُوا) [الحجرات: 12]

(وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [العنكبوت: 46]

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ) [البقرة: 153]

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) [البقرة: 183]

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ) [البقرة: 267]

(وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ) [النساء: 33]

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا) [البقرة: 278]

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) [البقرة 282]

2/ 1- فهذه النصوص – وغيرها كثير- الخطاب فيها أساساً ورأساً وابتداءً: للأمة؛ لجماعة المسلمين.. ففي هذه النصوص لا يوجَد مخاطَب اسمه: الدولة أو السلطة أو الرئيس أو الحكومة أو المجلس الفلاني أو المؤسسة الفلانية، بل الخطاب فيها: للجماعة، للأمة، لعموم المسلمين.

فالنصوص الشرعية – في أكثر تكاليفها- إنما خوطبت بها جماعة المسلمين.. فخطاب الله يتعامل مع الأمة لا مع السلطة، فالأخيرة إنما هي شأن من شئون الأمة؛ فهي – أي السلطة- مخاطَبَة من خلال الأمة ومكلَّفة مِن قِبَلها؛ فالسلطة مجرد نظام من أنظمة تدبير المجتمع/ الأمة.

الأمة هي محل الخطاب والتكليف الشرعيين بوصفها جماعة متعاضدة متعاونة.. الأمة هي المؤتَمَنة على حمل الشريعة، وهي المكلفة بتحقيقها والعمل بمقتضاها، وهي المطالبة – في مجموعها- بفهم الرسالة وفقهها، وبتنـزيلها على الواقع المَعِيش.. حتى إن القرآن الكريم قد استخدم مفهومي “التمكين” و”الاستخلاف في الأرض” في سياق حديثه عن دور الأمة: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) [النور: 55].. فالخلافة هي مهمة الأمة أصالة، ومهمة السلطة وكالةً – فيما وُكِّلَتْ فيه-.

2/ 2- وعلى هذه الأصالة – أصالة الأمة- ينبني أمران:

الأول: أن توزيع الاختصاصِات يكون بقدر ما يريد/ يقرر السواد الأعظم من الأمة، وبقدر ما يقتضيه النظام وترشد إليه المصلحة وتمليه الضرورة، وبقدر ما تراه الجماعة – أعني أغلبيتها وسوادها الأعظم- على سبيل الضبط والتنظيم والتحديد والتوكيل، بحسب الصيغ أو الإجراءات أو الآليات أو التفاصيل المتعارَف عليها في مثل تلك الأمور.

والثاني: أن فلسفة السلطة في الرؤية المعرفية الإسلامية تقوم على كونها “نظامَ واجباتٍ” (يقوم على مبدأي “الواجب/ التكليف/ المطالبة” و”المسئولية”)(47) لا “نظامَ حقوق” (يقوم على مبدأيْ “الحق/ الامتلاك/ الاستحواذ” و”التحكم/ التسلط”):

* فـ “سلطةُ الواجبِ” – في الرؤية المعرفية الإسلامية- مُطالَبَةٌ (أو تكليفٌ) يَفرِضها على الشخصِ اعتقادُه وإيمانُه – الذي التزمَ به بمحض اختياره وإرادته- تجاه نفسِه وغيرِه والكونِ مِن حولِه.

بينما “سلطةُ الحقِّ” – في الفكر الوضعي- مِن وِجهة أُولى: سلطةٌ يُخَوِّلها القانونُ الشخصَ على شيء معين(48)، ومن وِجهة ثانية: سلطةٌ تُخَوِّلُ شخصاً فرضَ شيءٍ ما على الغير تنفيذاً أو امتناعاً(49)، ومِن وِجهة ثالثة: مصلحةٌ – أيْ: معنىً مُجَرَّدٌ- يحميها القانونُ لا غيرَ(50)، ومِن وِجهة رابعة: مجردُ مُكنةِ إتيانِ فعلٍ ما؛ أي مجردُ وَجهٍ مِن وجوه الإتاحةِ والإباحةِ والإجازةِ والترخيصِ.

ففارقٌ ضخمٌ بين:

– “مطالبةٍ” (أو “تكليفٍ”) تنبُعُ مِن الذات، يفرضها إيمان واعتقاد حر، تجاه النفس والغير والكون كله، لا تتقلب بتقلب الأهواء والرغبات.

– و”سلطةٍ” تُفرَضُ مِن علٍ، بالضغط والترهيب، يمكن للمرء، بل كثيراً ما يتمنى، أن يتملص منها دونَ تأنيبِ ضمير، أو يمكنه أن يقوم بها أو يَذَرَها أنَّى شاء ومتى أحبَّ، أو يمكنها هي ذاتها – أعني ما تبغي السلطةُ فرضَه أو حمايتَه- أن تتبدل حسب أهواء ورغبات مَن في يده أداة السلطة والتشريع.

وفارقٌ ضخمٌ بين:

– تكليفات تقع على عاتق المرء تجاه نفسه وغيره والكون من حوله.. تكتسب شرعيتها مِن العقيدة أولاً وقبل كل شيء (والعقيدة في جوهرها منظومةُ قيمٍ وأخلاقٍ ثابتةٌ مطلقةٌ، لا تبديل لها ولا تحويل، مُلزمة للجميع في كل زمان ومكان، وإن أَمِنَ العقاب السلطوي).. وتؤسس – مِن حيث المجتمعُ كله مُطالَب بها، ومِن حيث هي شبكة تكليفات تشد بِنَى المجتمع بعضَها إلى بعض- لِبِنية جماعية تكافلية تضامنية تعاضدية رَعَوِيَّة شبكية(51).. تؤسس لمجتمع تراحمي في المقام الأول إن شئتَ قلتَ.

– ومزايا يتمتع بها المرء في مواجهة غيره.. تكتسب شرعيتها من الدولة/ السلطة/ الحكومة لا غير (بلا ثوابت ولا مطلقات؛ إذ ما قد يُدعَى ثبوتُه وإطلاقه في زمن ما أو ظرف ما، يمكن أن يعصف به زمن أو ظرف آخَر. ويمكن للمرء متى تمكن من التملص منها، أو الإخلال بحق الغير فيها، وأَمِنَ العقاب السلطوي، أن يخالفها بلا حرج).. وتؤسس – مِن حيثُ هي متعلقة بالذات لا غير، ومن حيث هي امتيازات لمُعَيَّنين لا تتعدى لِمَن عداهم- لِبِنيةٍ فسيفسائية فردية خاصة يتقلص فيها حُضور الغيرِ متكافلاً متضامناً مُعَضِّداً راعياً.. تؤسس لمجتمعٍ تعاقدي لا غير إن شئتَ قلتَ.

وفارقٌ ضخمٌ بين:

– نظامٍ أُسُسُه والسيادةُ فيه للقيم العَقَدية العليا – التي آمنت بها الجماهير واعتنقتها- بوصفها المرجعيةِ العليا الحاكمة، فتتشكلُ أسسُ اجتماعه البشري – بكل جوانبها وميادينها- في ظل تلك القيم، وتصبحُ السلطةُ فيه: كياناً خاضعاً للأسس العامة – مثلها مثل الأفراد والجماعات ومختلف مكونات الأمة- لا مُنشئاً لها، مجردَ مُظهِر لها في التشريعات ومُنَفذ لها في التطبيق، لا مالكاً لرقبتها تقرر ما يصلُح وما لا يصلح. فتُصبحُ السلطةُ بذلك مسئولةً: تُساءَل وتُحاسَب وتُعاقَب وتُنقَض. فههنا: لحدودِ السلطةِ سقفٌ!

– ونظامٍ أُسُسُه والسيادةُ فيه للسلطةِ؛ فهي مَن يقرر ويضع القيم العليا والمرجعية الحاكمة، فتتشكل أسس الاجتماع البشري وفق ما تُقرر السلطةُ، فتصبح السلطةُ: كياناً مُنشئاً للأسس العامة لا خاضعاً لها، مالكاً لرقبتها لا مجردَ مُظهِر لها في التشريعات ومُنَفِّذ لها في التطبيق. وبذلك تُصبحُ السلطةُ: البقرةَ المقدسةَ، والإلهَ الأعلى، الذي يقرر للجماهير المسموحَ والممنوع، والمُباحَ والمُجرَّم، والمرغوبَ فيه والمرغوبَ عنه. وهذا هو ما آلَ إليه مفهومُ الدولة والسلطةِ في الغرب، فالحرام ما حرَّمتهُ الدولة، والحلال ما أحلَّتْهُ! ولا يخفاك أنَّ في هذا من الحلولية ما فيه، فقد استبدلوا الدولة بالله، أحلُّوا الدولة محلَّ اللهَ، فوقعوا فيما هربوا منه، إذ هم يقصدون إلى الهروب من فكرة الله/ المطلق، فوقعوا فيها – ولكنْ مِن الجهة الأخرى- مِن حيثُ لا يدرون؛ سَلَبوا – أو توهموا ذلك- مفهومَ الألوهية من الله الخالق المدبر وأَحَلُّوه في جهاز السلطة. وههنا ليس لحدود السلطة سقفٌ مِن أي نوع كان، أليستْ إلهاً؟!

– نظامٍ: الطاعةُ فيه لا تكون إلا لله.. وسلطةُ الدولة فيه مقيدةٌ بما آمنت به الأمة مِن قيم عليا ونابعةٌ منها.

– ونظامٍ: الطاعةُ فيه للسلطة والنظام القانوني لا غير.. وسلطةُ الدولة فيه مطلقةٌ وقاهرةٌ، لا تقييد لها إلا بما تُقيِّدُ نفسَها به، خاصةً إذا ما قُورنت بِمُكنات الأفراد وإمكانياتهم.

فارقٌ بين:

– أن نتحدث عن: “واجبِ الإنسان في تحصيل العلم، وواجبِه في العمل”؛ فهذا تكليفٌ مُلزِمٌ بالأداء، يرتب – على الجميع- التزامات عقدية/ دينية/ إيمانية لا مفر منها ولا مهرب؛ فهو من صميم الإيمان، ويرتبط بأوثق عُرَىً بمهمة العمران.

فالواجبُ ههنا تكليفٌ، عليه أن يؤديه، وليس له أن يتخلى عنه.

وهو ههنا – فوق ذلك- واجبٌ على الفرد تجاه الأمة (فَوَجَبَ أن يبذل قصارى جهده لأجل القيام بهذا التكليف، ولأجل معاونة الأمة في القيام به)، وواجب على الأمة تجاه الفرد(52) (فوجب أن تُوَفِّرَ للفرد – من خلال آليتي الضبط الاجتماعي والقانوني، أو من خلال المجتمع والجهاز الحكومي إن شئتَ قلتَ- ما يُمَكنه مِن القيام بهذا التكليف)، وواجبٌ على الأمة في مجموعها (فوجب أن تسعى في مجموعها لذلك).

– وأن نتحدث عن: “حقِّ الإنسان في التعليم والعمل”؛ فهذا امتيازٌ للفرد، له – بعد توفير سُبُله له- أن يؤديه أو أن يَذَرَه، أن يمارسه أو أن يمتنع عنه.

فالحق ههنا امتيازٌ، لصاحِبِهِ أن يستفيد منه أو أن يُمسِك عنه.

وهو ههنا – فوق ذلك- حق للفرد على الدولة/ السلطة، فيقع عبءُ توفيرِ هذا الحق، مِن ألفه إلى يائه، على كاهل الدولة/ السلطة، دون أي مشاركة واجبة – مِن أي نوعٍ- للفرد في ذلك.

* وبـ “نظام الواجبات” يكون لكل طرف “واجبٌ له” عند الطرف الآخَر و”واجبٌ عليه” تجاه هذا الآخَر.. ومن ثم، يكون لكل طرف “حقٌّ على الآخَر” – يفرضه الضمير والاعتقاد والإيمان المشترك المنبثق عن الذات الحرة- يقابله “حقٌّ للآخَر عليه” – يفرضه ذات الأمر-.. فهذه التبادلية، لا التسلطية، هي الممثَّلة لأصالة الأمة، وهي عماد الترابط الجماعي، وهي المحققة للتوازن والسكينة معاً، وهي المُحَفِّزُ الكيميائي الأكفأ على الأداء والإبداع والاجتهاد والإتقان(53).. وبهذا يمكننا الحديثُ:

– عن واجبي نحو الآخَر(54)، وواجب الآخَر نحوي.

– وعن مجتمع “المُكلَّفين” لا “المتسلطين”.

– وعن واجب “المُخَالَقَة”(55) قبلَ واجبِ “المواطنة”، بل كأساس عَقَدي له، يقوم عليه، ويَتَقوى به، بل كبديلِ عنه إن شئتَ ادعيتَ.. وإن شئتَ قلتَ: إن “المواطنة” منضوية تحت جناح “المخالقة”، بل إنها لا تزكو ولا تترقى ولا تَرشُد ولا تنضبط ولا تترسخ إلا بهذا الانضواء.

– وعن “وجوب” مساعدةِ السلطات في عملها، وتعضيدِها في قيامها بواجبها، بَلْهَ عدم تعطيلها.

– وعن “وجوب” التصدي للسلطات، ومحاسبتها، وعزلها، إن خرجت عن “الواجب” المُكلَّفة به وفق عقد الوكالة.

وبناءً عليه، يمكن تعريف السلطة في الإسلام بأنها: البنية الحكومية المنبثقة عن الأمة – أو البنية الحكومية للأمة(56)-، والمكلَّفة مِن قِبَلها بتحديد الفعل السياسي وتوجيهه وفق الرؤية المعرفية السياسية الإسلامية وقيمها العليا، والمؤتَمَنة عليه(57).

3- والخلاصة التي يؤكد عليها ذلك كله: أنَّ الأمة هي الأساس المتين والجسم الممتلئ والمكان الوسيع طولاً وعرضاً وعمقاً.. وأنَّ السلطة بالنسبة للأمة بُرجٌ صغير للمراقبة والتفقد والتوجيه والتنسيق، تشغل مكاناً صغيراً ولكنه – لأهميته وضرورته- مرتفعٌ ومُشرِف.. وأنَّ علاقة الأمة بالسلطة كعلاقة قاعدة الهرم وعامة جسمه بزاويته العلوية الصغيرة.. ومن ناحية: لا وجودَ لِقِمَّةٍ دون وجودٍ لقاعدة، ومِن ناحية أخرى: لا يكونُ هرمٌ إلا بقمة.

4- حتى إقامة الدين وحمل رسالته والدعوة إليه ونشره: واجبُ الأمة كلها لا السلطة(58).. بل هو أول وأَوْلى وأهم الواجبات على الأمة كلها بلا استثناء لأحد منها ولا حصر فيه معاً(59)؛ لأن الاستثناء والحصر إفسادٌ لمعنى الدين ذاته الذي خاطب الله به كافة المسلمين والمؤمنين، وحملهم الأمانة والمسئولية، وجعلهم جميعاً خلفاء في الأرض، يقول تعالى: (قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي) [يوسف: 8]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ.. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ) [الصف: 10- 13]، (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) [الشورى: 13].. فإقامة الدين والدعوة إليه وحمل رسالته والتضحية في سبيله بالأموال والأنفس: وظيفةُ كل “مَن اتبعني”، ووظيفة “الذين آمنوا” بإطلاق وتعميم(60).

ثم إن أمانة إقامة الدين – حفظاً ونصرةً؛ أي رعايةً إن شئتَ قلتَ في كلمة جامعة- أعظم وأخطر وأثقل من أن تحملها مجموعة أو بضع مجموعات من الأمة.. بل إن فُرَص إحسانِ أداءِ فرضِ “إقامة الدين ورعايته” ستكون كثيرة وفيرة واسعة متنوعة عند أداء الأمة كلها له – على تنوع وتعدد الطرق والأساليب-.. ومهما أصاب البعضَ مِن محن أو نكبات أو آفات أو انحلال أو اضمحلال أو ضعف أو تقصير، فإن فُرَص الإفلات والانبعاث واليقظة ستبقى قائمة دائمة في هذا الجزء من الأمة أو ذاك، وبذلك يظل الجهاد – بمعناه العام الواسع الشامل- قائماً إلى يوم القيامة؛ إذ لا تزال وسوف تظل “طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم مَن خذلهم إلى يوم القيامة (وفي رواية: حتى يأتي أمر الله)”(61)، وهذا في أسوأ الظروف وأحلكها، فما بالك بما هو أفضل وأحسن!

ثم إن تحميل أمانة “إقامة الدين” للسلطة/ القانون/ الدولة، أو حصرها في ذلك، أو الاستعانة عليها به، كثيراً ما يؤول – في كثير من ميادين الحياة وجنباتها- إلى نقض أو تعطيلِ تحقيق وتحصيلِ مقصد الإسلام الأسمى والأسنى، مقصد “الهداية” الباطنية والظاهرية للناس(62)، فإن الله سبحانه – كما قلنا مراراً وتكراراً- لا يريد “أعناق عبيد” وإنما يريد “قلوب عباد”، وهذا لا يمكن تحقيقه بـ “الوازع السلطاني القهري”، وإنما بـ “الوازع التربوي التزكوي الأخلاقي الروحي الاجتماعي”(63).

باختصار، وفي جملة واحدة: مهمةُ إقامة الدين وحمل رسالته والدعوة إليه ونشره وتبليغه والتمكين لقيمه بين الناس: مسئوليةُ الأمةِ ومؤسساتِها وهيئاتها وكياناتها الثقافيةِ والفكريةِ والدينيةِ قاطبةً، لا السلطةِ التنفيذية.

5- وحتى الشعائر التعبدية – كما في النصوص سابقة الذكر وغيرها- التي تعتمد في أساسها على النية الباطنية للفرد وتنبعث من ضميره وتتجه إليه: نجد فيها أبعاداً جماعيةً متعددة؛ فالأمر بها يأتي جماعياً (وقد يأتي فردياً أيضاً، ولكنَّ القيام بها غالباً ما يكون جماعياً في أصله وأساسه)، وإقامتها وأداؤها، بما تتطلبه من إعداد ووسائل وأدوات وشروط وتعاون وتناصح، تتوقف على الجماعة والعمل الجماعي:

– فهذه الصلاة: عمل جماعي.. وكل مسلم – فوق ذلك- يقرأ فيها بضمير الجمع: “إياك نعبد وإياك نستعين”، ويدعو فيها بضمير الجمع: “السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين”(64).. والصلاة ذاتها لا أداء لها بغير وضوء، ولا وضوء بغير ماء يعمل على توفيره لك شبكة ضخمة من العاملين في مرفق المياه.. والصلاة – فوق ذلك- تلزمها ملابس، ولا ملابس بغير نسيج يوفره لك الفلاح في مزرعته والعامل في مصنعه.. إلخ.

– وهذه الزكاة: علاقة أخوية إنسانية بينية؛ بين ذوي المال وذوي الحاجة.. “تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم”(65).. وكثيراً – فوق ذلك- ما يقوم على جمعها وتوزيعها جهاز أهلي – “العاملون عليها”- يتقصى أرباب الحاجات ليسدها؛ حتى لا يكون في المجتمع جائع ولا عريان ولا مديون.. والزكاة – فوق ذلك- لم تجب في مالك إلا ببلوغه النصاب، وهو لا يبلغه مِن تلقاء نفسه، وإنما بتوظيفه واستثماره فيما ينفع الناس، فينمو المال؛ فهذا نموه لم يكن إلا من خلال عمل جماعي شارك فيه – بطريق مباشر أو غير مباشر- جماعة من الناس.

– وهذا الصيام: جعله الله موحداً: في شهره وبدايته ونهايته، وقد ترتب عليه من الأبعاد والآثار الجماعية ما هو مشاهَد ومعيش ومعلوم في كافة المجتمعات والتجمعات الإسلامية. ولو كان الصيام الفردي هو المطلوب: لكان لكل فرد أن يختار شهره وتوقيته.

– وهذا الحج: أكثر قوة وأشد وضوحاً في أمر جماعيته، نصوصاً ومقاصداً، يقول تعالى: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) [الحج: 27]، (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران: 97](66).

نعم، في جميع هذه الشعائر وغيرها يمكن أن يكون للسلطات أدوار مساعدة، أو وظائف مكملة، أو مواقف مشجعة، ولكنَّ الخطابَ بهذه الشعائر ليس لخصوص السلطة، وليس متوقفاً على تدابيرها ولا على تشجيعها أو مساعدتها، بل كثيراً ما وضعت بعض الدول المتسلطة المتوحشة عراقيل في سبيل أداء بعض هذه الشعائر، ولكنّ مجتمعات هذه الدول قفزت على تلك العراقيل وتخطتها.. وسواءٌ كانت الأمة – أو الشعوب المسلمة- على مستوى المسئولية فهماً وعملاً، أو كانت قاصرةً أو مقصرة، فإن المبادرة إلى حفظ ورعاية وتعظيم الشعائر وتوفير ما يخدمها والقفز على ما يعوقها أو يضر بها: واجبُ الأمة ووظيفتها (من خلال مؤسساتها وتنظيماتها وأعمالها الأهلية)، ساعدت الدولة أم لم تساعد، قصرت أم لم تقصر، تسلطت وتوحشت أم لم تتسلط أو تتوحش.

6/ 1- وحتى فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاتها، فهي تكليف جماعي، تمارسه الأمة كلها عبر “آليتي الضبط الاجتماعي والقانوني” السابق بيانهما وتفصيلهما.. فلا يجوز، ولا يمكن، تخصيص جماعة معينة أو فئة بعينها لأداء مهام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

لا يجوز؛ لأن الأمة بأسرها – فرداً فرداً، بلا استثناء، وكما سيأتي البيان- مكلفةٌ بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن ثم، لا يجوز حصره في هيئة معينة أو تخصيصها به دون غيرها.

ولا يمكن؛ لأنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تكليفٌ ثقيلٌ واسعٌ شاملٌ يعم كافة ميادين الحياة وأرجائها وشُعَبها؛ بما يستحيل معه أن تختص هيئة ما، أو مجموعة ما، أو هيئتان، أو مجموعتان، بالقيام بمختلف أنشطته وأوجهه ومتطلباته، وإنما هو عمل جماعي ومؤسسي منتشر – عبر آليتي الضبط القانوني والاجتماعي- في تضاعيف المجتمع وبنيته.

فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مظلة نظرية مفاهيمية كبرى تظلل كافة أرجاء الحياة؛ ومن ثم، لا يمكن القيام بتنـزيل تلك المظلة على مختلف تلك الأرجاء عبر جماعة أو فئة بعينها، وإنما تُنـزل الأمة كلُّها وبنفسها تلك المظلة، وتَحْقِنُ مفاهيمها ومضامينها في مختلف شرايين الحياة وأوردتها، مِن خلال آليتي الضبط الاجتماعي والقانوني.

6/ 2- يقول تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) [آل عمران: 110]؛ فههنا سبحانه يصف الأمة الإسلامية كلها – لا فئة منها- بأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ولو كان يجوز أن ينحصر أو يتخصص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في فئة أو جماعة أو هيئة معينة، لَمَا وصف سبحانه الأمة كلها بذلك، خاصةً وأن بقية الآية – “وتؤمنون بالله”- أمر مُطالَبٌ به كل فرد مسلم، ولا يجوز قط أن ينحصر في، أو أن تُخَصَّص للقيام به، مجموعة ما!.. فإن ادعى أحد أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مختص بفئة أو جماعة محددة، فيلزمه – في هذه الآية، كما في بقية الآيات التي سترد ههنا- أن يخصص أو يحصر الإيمان بالله في فئة أو جماعة محددة (لأن الكلام في الآية واحد، والجهة المتحدث عنها واحدة)، وهذا في غاية البطلان، وما لزم منه باطل فهو باطل!

ويقول سبحانه: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ) [الأعراف: 157]؛ فههنا يصف سبحانه أنَّ مِن “أصول” رسالة الإسلام “الأساسية” ومقاصده “الكبرى” وكلياته “العظمى”: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وهذا يستلزم مستبطناً ويستبطن مستلزماً: عدم انحصاره في فئة أو مجموعة معينة.

ويقول تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ) [التوبة: 71]؛ فههنا يتحدث سبحانه عن المؤمنين والمؤمنات – كلهم جميعاً- فيصفهم بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله، فإن ادعى أحد أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مختص بفئة او جماعة محددة، فيلزمه – في هذه الآية، كما في بقية الآيات الواردة ههنا سابقها ولاحقها- أن يخصص أو يحصر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله بفئة أو جماعة محددة (لأن الكلام في الآية واحد، والجهة المتحدث عنها واحدة)، وهذا في غاية البطلان، وما لزم منه باطل فهو باطل!

ويقول سبحانه: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ.. وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً.. وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ) [لقمان: 17- 19]؛ وهذه تعليمات وتعاليم للمؤمنين كلهم، لا تخص فئة دون فئة، ولا تنحصر في مجموعة دون مجموعة.

ويقول تعالى: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ) [الحج: 41]؛ فههنا يصف سبحانه حال المؤمنين كلهم إن مُكنوا في الأرض بأنهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فإن ادعى أحد أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مختص بفئة او جماعة محددة، فيلزمه – في هذه الآية، كما في بقية الآيات الواردة ههنا سابقِها ولاحقِها- أن يخصص أو يحصر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بفئة أو جماعة محددة (لأن الكلام في الآية واحد، والجهة المتحدث عنها واحدة)، وهذا في غاية البطلان، وما لزم منه باطل فهو باطل!

ويقول سبحانه: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) [المائدة: 78- 79]؛ فالذين كفروا من بني إسرائيل كلهم ملعونون؛ لأنهم لم يتناهوا عن المنكر فيما بينهم، والتناهي – كما هو بيِّن- فعلٌ “تداولي” غير محصور أو مخصص في فئة دوناً عن الأخرى، ولذلك شملت اللعنة الذين كفروا من بني إسرائيل جميعاً؛ إذ لم يخصص الله سبحانه اللعنة بفئة منهم دون فئة أو مجموعة دون مجموعة.

ويقول تعالى: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [التوبة: 112]؛ فههنا يصف سبحانه المؤمنين كلهم بذلك.

ويقول سبحانه: (وَالْعَصْرِ* إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر: 1- 3]؛ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – بمختلف صوره وأشكاله وأساليبه وآلياته-: مِن “التواصي” الذي هو صفة الذين سينجون مِن الخسران في الآخرة، وهو بذلك صفة مطلوبة مِن الجميع فرداً فرداً، بلا استثناء.

ويقول تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود: 117]؛ فهذا يفيد أهمية عموم وذيوع وشيوع صفة “الإصلاح” – والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المقدمة مِن المعاني المندرجة تحت هذه الصفة- في “أهل القرى”.

(فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) [الأعراف: 165]؛ فههنا بيانٌ لكون “النهي عن السوء” أحد “أعمدة” أسباب النجاة من النار، وهو بذلك لا يمكن أن ينحصر في فئة دون فئة، أو أن تُختص به مجموعة دون مجموعة.

ويقول سبحانه: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) [التوبة: 67]؛ وصفات “المؤمن”، كلِّ مؤمن، هي “النقيض الموضوعي” لصفات “المنافق”، فلزم أن تكون مِن صفات المؤمنين، كل المؤمنين، الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر.

بل إن القرآن الكريم، فوق ذلك كله، يُحَمِّل أمة المسلمين عامةً مسئوليةَ الشهادة على الناس: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة: 143]؛ والشهادةُ على الناس تحمل في أحشائها أربعةَ أمور: الحضورَ، والعلمَ، والبلاغَ، والأمانةَ والعدلَ(67): الحضورَ على الساحة الإنسانية بما ينفع ويُغري ويُؤَثِّر = والعلمَ بالدين وبالكون وبالناس = والبلاغَ البياني والدعوي؛ بياناً لكلِّ خير، ودعوةً إلى كل معروف = والعدلَ في العلاقة بالناس والتعامل معهم؛ معيشةً وقضاءً، والأمانةَ في التعاملِ معهم والشهادةِ عليهم. وبيِّنٌ أنَّ هذه الأربعة تندرج تحت مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فَلَزِمَ أن يكون هذا المفهوم من الواجبات على الأمة كلها لأن مِن عناصره ومكوناته ما ثبت في حق الجميع وجوبُه بلا استثناء.

6/ 3- وبهذا البيان والتحليل يمكن أن نُحسن فقه قوله تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران: 104]؛ فالدعوة إلى الخير لا تنحصر في فئة دون فئة، ولا تقوم بها مجموعة دون مجموعة، وإنما هي مهمة الأمة كلها فرداً فرداً بلا استثناء (عبر آليتي الضبط الاجتماعي والقانوني، على التفصيل السابق لهما)(68).. ومثلها – لزاماً- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الكلام في الآية واحد، والجهة المتحدث عنها واحدة، فلزم ألا يُخصص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في فئة أو جماعة دون غيرها تدعي القيام به.

ثم إن سياق الآيات كالآتي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ.. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ.. وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ(69).. وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ..) [آل عمران: 100- 105]؛ فالسياق من أوله إلى آخره يوجه حديثه إلى جماعة المسلمين كلهم، لا إلى فئة أو جماعة منهم.

و(مِّنكُمْ) [آل عمران: 104] ههنا – بناءً على الفقرتين السابقتين، وبناءً على التفسير الموضوعي السابق للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القرآن الكريم، والاستقراء الشامل لنصوصه ومضمونه فيه(70)، أي بناءً على هذه القرائن كلها – ليست للتبعيض(71)، وإنما هي للبيان، فـ “مِن” ههنا “بيانية” لا “تبعيضية”(72)؛ أي أنها تُبَين جِنْسَ القائمين على هذا الأمر، وهم الأمة كلها، لا أنها تحصر أو تخص هذا الأمر بفئة منهم دون فئة.

فيكون المعنى: وَلْتكونوا كلكم – أنتم أيها المسلمون- أمةً تدعو إلى الخير.. فهو أمرٌ للأمة جميعها بأن تكون في مجموعها موصوفةً بأنها تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؛ فواجبٌ عليها التخلق بهذا الخلق.

وبتعبير آخر، يكون المعنى: ولتكونوا كلكم أنتم أيها المسلمون أمة يدعو مجموعها إلى الخير ويأمر مجموعها بالمعروف وينهى مجموعها عن المنكر.. أي ولِتُكَوِّنوا في مجموعكم أنتم أيها المسلمون أمةً تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.. وأي: ولِتَكُونوا أنتم أيها المسلمون أمةً، مِن صفاتها أنها تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر (= وَلِتَكُونُوا أنتم أيها المسلمون أمةً موصوفةً بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر = وَلِتَكُونوا أمةً داعيةً إلى الخير، آمرةً بالمعروف، ناهيةً عن المنكر)(73).

وبتعبير ثالث نقول: ساعةَ أن تأتي لإنسان فتقول له: “ليكن مِنكَ شُجاعٌ مِقدامٌ”؛ فهذا يعني أن يُجَرِّدَ هذا الإنسانُ مِن نَفْسه، ويُخرِجَ منها، شخصاً شجاعاً مقداماً؛ بتدريبها وتعويدها على ذلك حتى يصير هذا الإنسان كذلك. ومثله أيضاً أن تقول لآخَر: “ليكن منك كريم سخي”؛ أي اجعل مِن نفسِكَ رجلاً كريماً سخياً. وهكذا الآية الكريمة فيما نرى – بناءً على ما سقناه من قرائن مضت-؛ فهي تأمر كلَّ جماعة المسلمين بأن تكون أمة تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؛ أي أنَّ هذه الآية تطالب كلَّ أمة المسلمين بذلك، فلا تختص جماعة منها بذلك، بل الواجب أن تكون الأمة كلها كذلك.

ثم إن سياق الآيات [آل عمران 100- 105]، وبالأخص ما بعد آيتنا الكريمة، يفيد – كما سبقت الإشارة- أن الخطاب للأمة في مجموعها، تدبر قوله تعالى: (..وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ) [آل عمران: 105]؛ فالنهي ههنا يتجه رأساً إلى الأمة بأسرها؛ تحذيراً لها مِن أن يَؤُول حالها إلى ما آل إليه أهلُ الكتاب.. ومثله كذلك بقية الأوامر الواردة في السياق؛ لاتحاد المساق والمَخرَج والمُخاطَب، ولأن المعنى – في السياق كله- لا يناسبه إلا أنْ يكون خطاباً للأمة بأسرها(74).

7- ومن جميع ما سبق، نخلص إلى أن الأمة – قبل السلطة وأكثر منها- هي التي تدبر وتدير شئونها الدينية والفكرية والثقافية والأخلاقية – أو هكذا ينبغي أن تكون-، وهي التي تنهض بمشاريعها العلمية والفكرية والعمرانية والحضارية، وهي التي تلبي حاجاتها الاجتماعية وتحل مشاكلها المعيشية.

نعم، السلطة قد تشجع وتساعد وتنظم، ولكنها قد تضعف فتصبح عالة على المجتمع، وقد تنحرف فتصبح عائقاً في طريقه، ولكنَّ المجتمع (= الأمة) إذا كان واعياً بأنه هو الأصل، وإذا كان قائماً بما ينبغي أن يقوم به وعليه، فسيبقى حياً نشيطاً متجدداً في طاقاته وإبداعاته ومشاركاته وإسهاماته، ولو بالحد الأدنى من الحيوية الذي يحفظه مِن “تصلب الشرايين الحضاري” و”البياتِ الشتوي التاريخي”، والذي يحميه مِن أن يتحول من “نافورة للحضارة” إلى مجرد “بالوعة” و”مَصرف” لها، والذي يُمسكه أن يصبح بيئة إسفنجية ملارية طاردة “تئد” الحضارة بدلاً مِن أن “تلدها”، والذي لا يَضْحَى فيه “الساقطون أخلاقياً”: “ناجحين اجتماعياً”!

إن التمكين للسلطة إنما يكون نتيجةً وفرعاً عن التمكين للأمة.. أما حين يصير التمكين للسلطة على حساب التمكين للأمة، وحين يصبح حكراً على السلطة ممنوعاً على الأمة، حينها: “تَلِدُ الأمَة رَبَّتها”!

إن الأمة حين تتمكن – عن حق-، وحين تكون هي الأصل والمركز – كما هو الوضع الأصلي الطبيعي-: تنطلق حرية المبادرة في الفكر والقول والعمل مِن قُمْقُمها، وتنمو وتزدهر؛ فتتحرك الأمة في كل اتجاه، وتعطي وتبدع في كل جانب، دون أن يؤثر ذلك سلباً أبداً على السلطة وقيادتها ورعايتها، بل لا يؤثر ذلك على السلطة إلا بمزيد من القوة والعافية والرقي وخفة الحركة وسرعتها؛ فتصبح صغيرة الحجم عالية الكفاءة.

والخلاصة أنَّ “الأمة هي الأصل”:

فهي كلها المستخلفَة في حمل خاتم الرسالات والقيام بمهمة الشهود بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة: 143].

وهي المكلفة بتحقيق تكاليف وحي الرحمن وتطبيقها وتفعيلها في حياة الناس: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) [آل عمران: 110]

وهي المسئولة عن ابتكار وتطوير الآليات والأدوات والسبل والوسائل والروابط والتجمعات والجمعيات والأجهزة والمؤسسات اللازمة للقيام بمختلف الوظائف والمهام المنوطة بها، مثل: الجهاد، والتعليم، والدعوة، والزراعة، والصناعة، والتجارة، ومحاربة الاحتكار، ومنع الغش.. إلخ: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ) [الأنفال: 60]، (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ(75) وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ(76) إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ(77)) [التوبة: 122]

ومن شأن هذا الخطاب القرآني – المتوجِّه للأمة بالتكليف- ومقاصده: أن يفرز مجتمعاً ساهراً على مصالحه، ومستنفراً كافة خلاياه الحية للتقويم والإصلاح وإقامة دين الله – بالمفهوم العام الواسع الشامل لإقامة الدين-.. وبهذا يتشارك الأفراد جميعاً مسئولية المساهمة في الإقامة والتقويم والرعاية.

نحن ههنا بصدد أمة/ مجتمع حاضرٍ بأمر الله، لا ينتظر دعوةً من سلطةٍ ولا إذناً مِن حكومة، حيث هو الأصل، وهذه السُّلطات والحكومات فرع عنه.. وحيث حضورُه مفروض بمقتضى التكليف الإلهي.. أما “الشكل” الذي يكون به ومِن خلاله هذا الحضور: فللناس أن يصوغوه حسب ظروف زمانهم.. المهم أن يظل المجتمع محتفظاً بآليات حركته الذاتية، وألا يقع فريسة اجتياح السلطة وتوغلها وتغولها وتوحشها، وألا ينسحق أمامها.. فالتنظيم من خلال الناس/ المجتمع/ الأمة هو الوسيلة الأساسية التي تُحققُ الالتزام بالقيم، وتحفظُ للأمة عافيتها وكرامتها.

والله أعلى وأعلم(78)

***



 

الهوامش

(1) وبتعبير آخر: منعاً أن يتفكك، وتعبيداً للطريق أن يتزكى.

(2) الأخلاق – في الرؤية الإسلامية- منبعها الدين (ولبيان ذلك مقامٌ آخَر). وديننا معقول حتماً، ومعقولنا متدين لزوماً، فإن الدين كلام الله، والعقلُ فعلُ الله (بمعنى أن العقلَ هبةُ الله وخَلْقُه)، فكيف يضادُّ كلامُ اللهِ فِعلَه ؟! وكيف يناقِضُ فعلُ اللهِ كلامَه ؟! الحقُّ لا يضاد الحقَّ، بل يعززه ويؤيده، فالدين والعقل: نور على نور.

(3) ونضرب على ذلك مثالاً توضيحياً، إذ يقال: “القانون مثلاً يضع قواعد للمرور بالسير في اتجاه كذا دون كذا، أو في المنطقة كذا دون كذا. ولا يمكن بحال القول بأن “كذا” الأُولى أكثر أخلاقية من “كذا” الثانية، أو أن السير في جهة اليمين أكثر أخلاقية من السير في جهة اليسار، أو أنَّ شيئاً مِن هذه الأوضاع أكثر أخلاقيةً من غيرها. لا دخل للأخلاق ههنا”.

والجواب: أن تلك القواعد إنما وُضعت لأجل التيسير على الناس وتنظيم حركتهم، والتيسيرُ والتنظيمُ والضبط والتحديد (لئلا يَمُوج الناسُ بعضهم في بعض) مِن المصالح المعتبرة عقلاً وشرعاً، فكان ذلك “سنداً أخلاقياً” لتلك القواعد.

(4) وكيف يمكن مثلاً أن نجرم قانوناً: الغيبةَ والنميمةَ والكذبَ والحسد والحقد وإخلاف الوعد؟! إذاً، لانقلبت حياة البشر جحيماً لا يُطاق!

نعم، الكذب إن كان في شهادةٍ قضائية، أصبح شهادةَ زورٍ يعاقب عليها القانون عند تبيُّنها؛ لإخلالها بمصالح وحقوق لو لَم تُحفظ وتُصان لتخلخل نظام المجتمع وأمنه واستقراره (وعلى منوال ذلك فانسج؛ من مثل: إخلاف الوعد إن صيغ في صورة عقد قانوني). أما ما عدا ذلك، فلا.

(5) وننبه ههنا إلى أمر مفصلي في العلاقة بين القانون والأخلاق، وهو: أن منـزلة القانون من الأخلاق: منـزلة الوسيلة من المقصد.. خاصةً وأن “مقصد” الأخلاق يمكن أن يتحقق عبر “وسائل” أخرى كثيرة، منها ما يَصلُح في تحقيق مقصد الأخلاق في أمور دون أخرى.

(6) وبهذا يتبين أن “الضبط الاجتماعي” فيه نوعُ “إلزام”، ولكنه ليس من قبيل “الإلزام الخَشِن الجبري المباشر”، وإنما من قبيل “الإلزام الناعم المتدرج غير المباشر” (الإلزام الحَنُون إن شئتَ قلتَ، وهو “إلزام” يقود بالتدريج إلى “الالتزام” الذاتي).. وإلا، فإذا لم يكن هناك “إلزامٌ” مِن أي نوع كان، فلن تكون هناك مسئولية، وإذا عُدِمَت المسئولية فلن تكون هناك عدالة، وحينئذ يفسد نظام المجتمع وتتفشى الفوضى.

(7) تدبر قول الحق عز وجل: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) (أي: الفضل)” [النحل: 90]، (وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا (أي: أفضل منها) أَوْ رُدُّوهَا) [النساء: 86]، (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) [المؤمنون: 96]، (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [الإسراء: 53]، و(قُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً) [البقرة: 83]، (وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) [القصص: 77].

(8) فضلاً أيها القارئ الكريم: كُن مِن هذا على ذِكر، فإنه مهم. واستصحبه خلال قراءتك لهذا الطرح كله. هذا رجائي منك مع خالص شكري لك.

(9) المقصود بالتجريم ههنا: المنع القانوني مع توقيع الجزاء/ العقاب المادي على المخالِف.

(10) سيأتي لاحقاً ذكر وبيان وتأصيل مبدأ “الأمة هي الأصل”.

(11) أي الحدود بمعناها الفقهي الواسع: الحرابة – السرقة – الزنا – القذف – القتل العمد – دية القتل الخطأ والإصابة – الكفارات المنصوص عليها لبعض المعاصي.

أما قتالُ البغاة – في رأينا- فليس حداً، وإنما وسيلةٌ، إنْ تعينتْ: وجبتْ.. فالبغيُ: ظلمٌ وعدوان، فإن أمكن وَقْفُهُ وإزالتُهُ بغير قتال: كان بها، وإلا تعينَّ القتال. وللتفصيل مقام آخَر.

وأما شرب الخمر – في رأينا- فليس فيها حد محدود، وللسلطة التشريعية في عصرنا الحقُّ في سنِّ العقوبة المناسبة لها إن ارتأت العقاب على ذلك (وقد ارتأى رسول الله صلى الله عليه وسلم معاقبة شاربها بالضرب بالأيدي والنعال والثياب؛ أي بالإيذاء؛ وليس هذا بحد أبداً؛ لأنه لا يتسم بالتحديد أو الثبات؛ فليس للإيذاء ولا للضرب بما سبق حد محدود أو قدر مقدور، بل هو أمر يختلف باختلاف الضارب والمضروب وآلة الضرب ومدة الضرب، وجميعها أمورٌ تقريبية تختلف وتزيد وتنقص = وإنما هو تعزير (أي: عقابٌ) قرره رسولنا الأكرم عليه الصلاة والسلام سياسةً؛ أي من باب السياسة الشرعية؛ بوصفه حاكماً ورئيساً وقاضياً، ولذلك لمَّا وَجَدَ الصحابةُ الكرام رضوان الله عليهم جميعاً عمومَ بلوى شُربها والافتتان بها، سنُّوا لها عقوبةً: ثمانينَ جلدة = وما تقرر سياسةً – في أي وقت أو زمان أو مكان- يمكن أن يتغير وجوداً وعدماً وتعديلاً؛ فالمدار كله على المصلحة؛ فما حققها أمضيناه، وما صادمها منعناه). ونحن نرى – نظراً لعموم بلوى اشتهائها وتوق الكثيرين إليها، أعاذنا الله وإياكم- وجوبَ سنِّ عقابٍ رادع عليها؛ زجراً عن شربها ومنعاً لانتشارها؛ تفادياً لأضرارها الدينية والصحية والاجتماعية معاً. وللتفصيل مقامُ آخَر.

وأما الردة، وإن كانت أفحشَ معصية، أعاذنا الله وإياكم منها، فإنه لا يجوز- في رأينا- سنُّ عقاب عليها أصلاً؛ لأن ذلك مِن الإكراه في الدين قطعاً، وقد نفاه القرآن الكريم (وإذا لم يكن تهديد مَن ترك الإسلام بجزِّ رقبته إنْ لم يَعُد إليه: إكراهاً؛ فما هو الإكراه ؟!). ولأن الارتداد على عهد صدر الإسلام – كما تَبَيَّنَ لنا من صحيح السنة النبوية المشرفة- إنما كان مرتبطاً ارتباطاً ميكانيكياً بعداوة الإسلام وحربه والانضمام إلى الأعداء المحاربين. ومن ثم: كان العقابُ على العداوة والمعاداة والقتال في صفوف الأعداء لا على تغيير الاعتقاد؛ أي كان العقابُ على المقترِن بالردة من صنوف الإجرام والبغي والتعدي والقتال والحرب، لا على الردة المعلَنَة في ذاتها. وللتفصيل مقامٌ آخَر. (انظر بحثنا: “الردة وحرية الاعتقاد – رؤية إسلامية جديدة”، نُشر على موقع المركز العربي لدراسات وأبحاث السياسات. وبحثنا قيد النشر: “حرية الرأي والتعبير والحرية الدينية – رؤية إسلامية جديدة”).

(12) وبتعبير آخر: لماذا نص الشرعُ على العقاب على محظورات شرعية بعينها دون غيرها رغم كثرة المحظورات المحرمات ؟ والجواب: تجده في المتن أعلاه.

(13) وسيأتي لذلك مزيدُ تفصيل وبيان بعد قليل في النقظة رقم “13/ 1”.

(14) مثال: مهام النيابة العامة في مصر. فهي قائمة على نظرية الحسبة الفقهية الإسلامية، ولكنها غيرُ مخوَّلة بعقاب أحد – إلا في نطاق ضيق للغاية نظمه القانون، ولا يتجاوز الغرامة المالية-، وإنما هي جهة تحقيق وجمع للمعلومات؛ تُعاوِن في رفع ما وقع من مفاسد وتحاوِل أن ترد الحق لأصحابه: عن طريق التحقيق في الوقائع -جمع المعلومات والأدلة-، وتحريك الدعوى العمومية بالنسبة إلى جميع الجرائم، ورفعها إلى القضاء ومباشرتها أمامه.

(15) مثال: إدارات التفتيش والرقابة على السلع التموينية في مصر. فهي قائمة على نظرية الحسبة الفقهية الإسلامية، وهي مخولة بمُكنة الضبطية القضائية، واتخاذِ كثير من التدابير – الوقائية والتقييدية- حيال كثير من المخالفات الواقعة أو المتوقعة، مثل: المصادرة – وهي تدبير وقائي تقييدي عقابي معاً-.

(16) المعصية: هي إتيان كل ما يخالف الأمر أو النهي مطلقاً.

(17) حفاظاً على تلك الحقوق البينية المتبادَلة أن تُنتهك.

ونقصد بـ “الحقوق البينية المتبادَلة”: المعاملات التجارية والاقتصادية، الاحتكار، العقود، الوكالة، الضمان، الديون، القضاء، الزواج، الطلاق، الجنايات، القصاص، الديات، المواريث، التشهير أو السب أو القذف، ترويج الشائعات، الاستبداد.. إلى آخِر ما شابه ذلك.

(18) مثال: كل مُنتمٍ إلى حقل الفنون والآداب ممن تلبس بإنتاجٍ غير أخلاقي فيه.. فالمشكلة ههنا نفسيةٌ فكريةٌ، مشكلةُ قناعات، حتى وإن تَبَدَّت في صورة مخالفات أخلاقية/ سلوكية – ولكنْ بما لا يمس حقوقَ الأشخاص المتبادَلَة في السمعة أو العرض؛ سباً أو قذفاً أو تشهيراً، وبما لا يمس النظام العام في المجتمع أمناً واستقراراً وسلماً وسكينة؛ مِن قبيل: السب أو الاستهزاء المباشر الصريح قطعي الدلالة بالأديان وأهلها، أو الشحن والتحريض الطائفي أو العرقي أو الطبقي-.

فهذا – في رأينا- لا يمكن علاجه بالجزاء العقابي القانوني ينـزل على مَن تلبس به، وإنما يُعالَج بما يناسبه ويقتضيه من حوار ونقاش ودعوةٍ بالحسنى؛ حتى يمكن اقتلاع الجذور النفسية والفكرية للمشكلة؛ فإن مقصدَ عقابِه زجرُه عن معاودة ارتكاب المخالفة، وحثُّه/ حضُّه على الابتعاد عنها في قابل الأيام، ولفتُ انتباهه إلى ما فيها من مفاسد استدعت عقابه.

ومثلُ هذه المقاصد لا يمكن تحقيقها بالجزاء العقابي القانوني في معصيةٍ جذورُها فكرية نفسية، بل قد يزداد الأمر سوءًا وإصراراً على تكرار فعلها (وقد يزداد – فوق ذلك- انتشارُها وتأثيرُها؛ مِن قبيل أنَّ كلَّ ممنوعٍ مرغوبٌ؛ خاصةً وأن تلك الممنوعات تُحدث في الغالب من الضجة حولها ما يلفت أنظار كثير مِن الناس إليها فيطلبها ويبتغيها).

فأي عقوبةٍ والحال كذلك: تفتقد مبدأ “الملاءمة”.. وآلية الضبط الاجتماعي بمعالجة ذلك أوْلى.. فههنا تتصدر تلك الآلية المشهد؛ بنصح الناس وتوعيتهم بحرمةِ تلك الأمور إنتاجاً أو ترويجاً أو مشاهدة، وبمقاطعتها ومقاطعة كل مَن ساهم في صناعتها وإنتاجها وترويجها، وبإنتاج وعرض البديل الفني المتميز الذي يصرف الناس عنها.

وعلى منوال ذلك من الأمثلة فانسج.

(19) مثال: تارك الصلاة؛ فعقابه على تركها، أو إجباره على أدائها، لن يحل المشكلة التي هي في أصلها نفسية تربوية خُلُقية عقدية. بل قد يزداد الأمر سوءًا وإصراراً على تكرار إهمالها.

فضلاً عن أن فرض “إقامة الصلاة” إنما يستوجب “حضورَ النية”، ويستحيل استحضارُ نيةٍ بعقابٍ أو إكراهٍ أو إجبار.

فضلاً عن كون ترك الصلاة الواجبة عدوانٌ خالصٌ على حق من حقوق الله الخالصة المختصة به دون غيره من البشر، فهي علاقة خاصة ومباشرة بين العبد وربه لا يجوز أن يتدخل فيها أحد من الناس، وإلا فسدت.

فأي عقوبة والحال كذلك: تفتقد مبدأ “الملاءمة”، بل و”المشروعية” إن شئتَ أضفتَ؛ لِمَا فيها من إكراهٍ/ إجبارٍ غيرِ ذي جدوى؛ إكراهٍ/ إجبارٍ عقيمٍ غيرٍ مُنتِج، فكان لغواً وعبثاً تنحصر دونه “المشروعية”. وآلية الضبط الاجتماعي بمعالجة ذلك أوْلى. وعلى منوال ذلك فانسج.

والخلاصة – بتعبير آخَر- هي أنها مِن “أعمال القلوب” (وعملُ القلب في الصلاة هو روحها وعمودها، أم تُراكَ تماري ؟!)، وتلك الأعمال بطبيعتها يستحيلُ “تقويمها” بعقاب، وإلا كان عبثاً يتنـزه عنه الشرع والعقل.

(20) القانونُ مرتبطٌ بزمان ومكان وبشر وتَلَبُّس وعقوبة، وكلما أمكنَ للإنسان التفلتُ مِن قبضته، أو سنحت لذلك فرصة، فاستغلها وانتهزها ليحقق غرضه: فقدَ القانونُ قيمتَه وهيبتَه، أما الأخلاقُ المتأصلة في النفس فهي وحدها الكفيلة بدفع الناس إلى الالتزام بالفضيلة وترك الرذيلة؛ لأن الأخلاق والمبادئ والقيم يحملُها المرءُ معه أنَّى ذهب، فتوجهُ سلوكَه، وتضبطُ حركته، لذا كانت المجتمعات الزَّكِيَّة / الراقية هي التي تقوم على الأخلاق قبل أن تقوم على القانون.

[استطراد: ولذلك – ولغيره مما لا مجال لتفصيله ههنا- وجبَ أن ينبثق القانونُ عن أخلاق المجتمع وضميره وثوابته؛ أي عن دينه الذي يدين ويؤمن به ويقدسه، لا أن يصادمه أو يضاده؛ حتى يتوافر للقانون الاحترامُ والمصداقيةُ والفاعليةُ والهيبةُ.

إن “انسجام الأفعال” في مجتمعٍ مَا نابعٌ مِن “انسجام مقاصد مكونات هذا المجتمع”. ومن ثم، فإن خضوع السلوك الإنساني لمقتضى متطلبات هذا الاجتماع: خضوعٌ ناجمٌ عن “التزام” الأفراد بمقاصد هذا الاجتماع، مما يؤدي تلقائياً إلى توافق “مقصد الفعل الإنساني” و”مقصد قانون هذا المجتمع”.

القانونُ كائن حي له جسم وروح؛ أما “جسمه” فـ “النصوص” التي يضعها المتشرع لتحقيق أغراض القانون، وأما “روحه” فـ “سلطانُ” القانونِ على الجماهير (وهذا السلطان لا يكون على أكمل وجه وأتمه وأحسنه وأزكاه وأرقاه إلا إذا انبنى على رُكنيْ “الروحِ” و”الإلزام العقابي” معاً؛ يَنبثق عن الركن الأول، ويَشدَّ عُودَه بالثاني).. وقانونٌ بلا “سلطانٍ”: جسمٌ بلا روحٍ، ونصوصٌ لا قيمة لها.. وصلاحيةُ أي قانون لحكم الناس إنما تُقَدَّر بما له مِن سلطان عليهم.

نعم، يُجبِر القانونُ المرءَ على اتباع مقتضاه، بيد أن هذا الخضوع ليس آلياً حتمياً؛ إذ قد يختار المرء عدم الخضوع ولو أدى ذلك إلى فنائه!.. والمقصود مِن هذا بيانُ أنَّ اختيارَ المرءِ الخضوعَ للقانون إنما ينبثق – في التحليل الأخير- عن مدى انسجام نصوصه مع عقيدة مكونات المجتمع وقيمه ومقاصده، وبدون ذلك يصبح القانون حبراً على ورق، وتصبح السلطات جَلادةً لشعبها.

والخلاصة أنَّ العلاقات القانونية في المجتمع الإنساني علاقات “مقصدية” – لا “سببية”- يتوقف تحقق مقتضى القانون فيها على مدى تطابق/ انسجام “مقاصدِ” القانون مع “مقاصدِ” السواد الأعظم من مكونات المجتمع – أفراداً وكيانات- وعقيدتِهم وأخلاقِهم وقيمِهم].

(21) سيأتي لاحقاً بيان وتأصيل مبدأ “الأمة هي الأصل”.

(22) نستخدم مصطلح “التعبد” ههنا بمعناه الواسع العام الشامل المحيط لا بمعناه الفقهي الاصطلاحي الضيق.

(23) وإن شئتَ قلتَ: السلطة في الفلسفة السياسية الإسلامية إنما تقوم على مبدأ “التقرب للحق” لا “التسلط على الخلق”؛ فإن الله يريد “قلوبَ عباد” لا “أعناق عبيد”.

التغيير يأتي أولاً مِن الناس ويكون فيهم، أي أنه تغيير قاعدي يبدأ من قاعدة الهرم المتمثلة في جمهور الامة، ثم يمتد بعد ذلك إلى قمة الهرم المتمثلة في السلطة والحكومة المنبثقة عن الأمة.

وأيُّ محاولةٍ لفرضِ تصورٍ مِن أعلى – مِن خلال السلطة- لم ينبثق عن “إيمان” الجماهير به وبأهميته وفائدته لهم في دنياهم وأُخراهم، محكومٌ عليه بالفشل في العاجل أو الآجل، وسيُحيلُ السلطةَ جلادةً للشعب، وسيزيد مِن أزمة الأمة وتراجعها؛ لأن الإسلامَ “مشروعُ هدايةٍ” قبلَ أن يكون “مشروعَ سلطةٍ”؛ فالسلطة فيه ليست هدفاً في حد ذاتها، وإنما هي وسيلة لتحقيق هدف الهداية المنشود الذي لا يُتصَوَّرُ تحقيقه بالقمع السلطوي أبداً؛ لأن الهدايةَ عملٌ قلبي تمارسه الجوارحُ بعد مروره بمرحلة الاقتناع العقلي، والقمعُ مُفسدٌ وماحقٌ لذلك كله.

ثم إنَّ فرضَ الهدايةِ عن طريق القمع السلطوي غيرُ ذي قيمة في حد ذاته؛ لأنه لم يَقُم على أساس من الاستقامة والالتزام بخُلُق الإسلام وهَديه، ومِن ثم، فكلُّ ما يُقام على غير هذا الأساس يساوي صفراً في ميزان الرسالة!

والخلاصةُ، إن شئتَ أن تعبر عنها بلغة الأصوليين والمقاصديين، هي أن السلطةَ وسيلةٌ لا غاية، وهي أنها ليست مقصودةً لذاتها، وإنما هي مقصودٌ لغيره.

(24) ولذلك لم يبدأ نـزولُ الوحي على الرسول عليه الصلاة والسلام – ولم يبدأ اللهُ رسالته لرسوله- بتشريع عقابي، وإنما ببناء الإنسان وتربيته وتزكيته؛ فالساجد قبل المساجد، والوعي قبل السعي.

وهو – فوق ما سبق- صريحُ مبدأ “الحاكمية لله” الذي شوهه الكثيرون؛ فحاكميته سبحانه إنما تتحقق بأن “تُحَكِّمه” سبحانه في باطنك أولاً، قبلَ أن تُحَكِّمَه في ظاهرك؛ وإلا آل الأمر إلى صريح النفاق! فليس مبدأ “الحاكمية لله” أن تقهر الناس على شرع الله، وإنما أن ترشدهم وتزكيهم حتى يُحَكِّموه سبحانه – بطواعية ورضا- في باطنهم وظاهرهم.

وبتعبير آخر: “حاكمية الشريعة” إنما تقوم على “الاستدعاء المُجْتَمَعي” لا “الفرض العُلوي السلطوي”.

وقد سبق الحديث عن هذا الأمر، بشيء من التفصيل غيرِ الوارد ههنا، في الهوامش الواردة تحت الفقرة رقم (1/ 7) من بحثنا قيد النشر: “حرية الرأي والتعبير والحرية الدينية – رؤية إسلامية جديدة”.

(25) و”التعبد لله” – الذي هو مقصد دين الإسلام- بالإكراه لا يصح (لا يصح تصوره ولا يصح وقوعه)؛ إذ لا يكون تعبدٌ بإكراه قط، وأنَّى يجد الناس في أنفسهم رِضًا به أو ميلاً إليه؛ ذلك الرضا والميل الذي هو جوهر التعبد وسره وروحه!

(26) وهذا الفقهُ إنما يتأتى ويمكن تحصيله بآلية الضبط الاجتماعي، لا بآلية الضبط القانوني الإلزامي الجبري أو الجزائي العقابي.

(27) ما فَرَض على مخالفتها عقاباً وما لم يَفْرِض.

(28) استحضر – ههنا- كافة التفاصيل الواردة في النقطة “أ” السابقة.

(29) لاحِظ “أفعل” التفضيل؛ فنحن لم ننكر أهمية القانون قط كما قد يتبادر إلى ذهن البعض، وإنما أكدنا – كما سبق مراراً- على ضرورته وأهميته، ولكنْ في حدودٍ وبِقَدَر، دون توغل ولا تغول.

(30) وبتعبير آخر: توسعةً على الأمة في إدارة وتنظيم شئونها وفق مصالحها؛ لاختيار وتقرير ما يناسبها زماناً ومكاناً، بما لا يعارض أو يصادم أياً مِن مبادئ شريعتها أو كلياتها أو مقاصدها أو قواعدها أو قواطعها.

(31) لقد سنَّ الله على بعض المعاصي عقوباتٍ وأمسك عن أخرى؛ ليقرر مبدأيْ “سَنِّ العقوبة” و”الإمساك عنها” معاً؛ فإنَّ المجتمع – أيَّ مجتمع- لا يستقيم إلا بإعمالهما؛ كلُّ بحسبه.

(32) الدولة في العلوم السياسية المعاصرة تتكون من: الأرض (= المكان، الجغرافيا)، الشعب (= الأمة، المجتمع)، السلطة. (بَيِّنٌ تماماً أن هذه المكونات هي ما اعتمده الفكر السياسي الغربي وقامت على أكتافه فلسفته للدولة.. وفي بحثنا هذا – الذي بين يدي القارئ الكريم، على ما سيتبين له بعدُ- ما يخالف هذا الطرح، إذ “الدولة” – في الفكر الإسلامي، كما بدا لنا- هي “إحدى مؤسسات الأمة”، فالأمة هي الأصل، لا أنَّ “الأمة” هي “ثالثةُ ثلاثةٍ” يقوم على أكتافها “هيكل الدولة”، مع ما يستلزمه ذلك من أمور ومواقف وتصورات سيأتي تفصيلها لاحقاً بإذن الله).

والأخيرة مِن مكونات الدولة المذكورة آنفاً (أقصد: السلطة) تتوزع – في مصر- على ثلاث جهات – وهو توزيع لا بأس به نظرياً عندنا-: السلطةِ التشريعية (مجلسيْ الشعب والشورى. وعليهما مهمتا: تشريع القوانين ورقابة السلطة التنفيذية)، والسلطةِ القضائية (النيابات والمحاكم. ومن خلالها يتم بسطُ مبدأ سيادة القانون على الجميع)، والسلطةِ التنفيذية (رئيسِ الجمهورية، ورئيس مجلس الوزراء، والوزراء، والمحافظين. ومن خلالها يتم تنفيذ القوانين ووضع وتنفيذ السياسات والاستيراتيجيات).

وهذه السلطات جميعها – في الرؤية المعرفية الإسلامية- ما هي إلا وكيلٌ عن الأمة في إدارة شئونها، لا يجوز أن تستبد بشيء دونها؛ فإنما هي تستمد شرعيتها منها، فالأمة هي الأصل، والوكيل لا يَجُبُّ المصدر ولا يلغيه ولا يتحكم فيه، وإنما يَتْبَعه.

(33) مِن مثل الأمور:

– المالية (الاقتصاد – النظام النقدي- الضرائب – التجارة).

– والقضائية (المحاكم – النيابات – تطبيق القوانين).

– والسياسية (نظام الحكم – العلاقة بين السلطات واختصاصات كل منها – سن القوانين والتشريعات – العلاقات الخارجية).

– والعسكرية (الأمن الخارجي والحدود والجيش والمخابرات).

– والشرطية (الأمن الداخلي: الشرطة والمباحث).

– والصحية (طباً ودواءً وطعاماً).

– والبيئية (المساهمة في رعاية البيئة؛ تنميةً وتوعيةً وتمويلاً وتخطيطاً وإدارةً وتقنيناً).

– والعمرانية (التخطيط المركزي العمراني – بناء المدن الجديدة – بناء وصيانة المرافق العامة – توفير الخدمات والاحتياجات الأساسية؛ البنية التحتية الأساسية؛ من شوارعَ وطرقاتٍ وجسورٍ وكَبَارٍ وقناطرَ ومتنـزهاتٍ وحدائقَ عامةٍ، وماءٍ وكهرباءٍ واتصالاتٍ وغازٍ طبيعي).. إلخ.

– والاجتماعية (المعاشات – التأمين الصحي – الدعم النقدي و/ أو العيني).

– والأسرية (توقيع: عقد القران – الطلاق والفسخ – النفقة.. إلخ).

– والزراعية (توفير المياه – رسم سياسة زراعة المحاصيل – رسم سياسة استصلاح الأراضي والمساهمة في ذلك).

– والصناعية (تنظيم الإنتاج الصناعي بكافة صوره وأشكاله، والمساهمة فيه؛ خاصةً ما يعزف القطاع الخاص عن الخوض فيه لعِظَم مُؤْنته/ تكاليفه، وقلة ربحه، أو طول أجله).

– والاقتصادية (التخطيط المركزي – الاستفادة من الثروات الطبيعية – تشجيع المشروعات التنموية الاستثمارية الجادة).

– والتنظيمية (قوانين المرور والنقل البري والبحري والنهري والجوي، وقوانين لتنظيم، وليس لتكبيل ومحاصرة، إنشاء وتمويل: المؤسسات الإعلامية المختلفة، ومؤسسات المجتمع المدني/ الأهلي بمختلف أشكالها وأنشطتها، والنقابات، والأحزاب، ونوادي أعضاء هيئات التدريس والبحوث بالجامعات والمراكز والمعاهد البحثية، واتحادات الطلبة).. إلخ.

– والتعليمية (المساهمة في الإنشاء والتمويل والتخطيط لـ: محو الأمية – المدارس والجامعات – نظام التعليم وأنواعه).

– والبحثية العلمية الكونية (المساهمة في الإنشاء والتمويل والتخطيط لـ: مراكز البحوث والتميز العلمي والتكنولوجي في الفيزياء والكيمياء والرياضيات والأحياء، والطب والهندسة والفلك والزراعة، وبقية المناحي البحثية الكونية والتكنولوجية، وتشبيكها/ ربطها بالمشاريع القومية والتنموية) والنظرية (المساهمة في الإنشاء والتمويل والتخطيط للمراكز البحثية السياسية والاقتصادية والفكرية والفلسفية والثقافية والفنية).

– والسياحية والثقافية والترفيهية (بناء وتهيئة وصيانة وتأمين المتاحف والآثار والأماكن التاريخية والمسارح ودور السينما والشواطئ ومختلف أماكن الترفيه والترويح المشروعة. وإنما قيدتها بالمشروعة؛ إذ لا يجوز بحالٍ للدولةِ/ السلطةِ القائمة على المرجعية الإسلامية – ولا للفرد المسلم- بناءُ الخمارات وصالات القمار على سبيل المثال؛ لأنه لا يجوز للدولة/ السلطة مخالفةُ الشريعة. وكذلك الأمرُ في جميع ما سبق ذكره من مَناحٍ. بينما المخالفات/ الآثام/ المعاصي الأخلاقية/ السلوكية التي تقع في مثل تلك الأماكن المشروعة فإنما يُتعامل معها وتُعالَج وَفق آلية الضبط الاجتماعي).. إلخ.

(34) غَنيٌّ عن البيان أن هذه الآلية – في بلاد المسلمين- إنما تنطلق – أو هكذا يجب أن تكون- من الرؤية المعرفية الإسلامية، وتتأطر بها، وتدور في فلكها، تشريعاً وفلسفةً وإدارةً.

(35) بالمعنى العام الواسع الشامل للتزكية والتنمية والرعاية. وسيأتي لذلك مزيد بيان في الهامش القادم.

(36) مِن مثل:

– رفع الوعي الصحي والفكري والديني والسياسي والاقتصادي والقانوني.

– والتدافع الديني والعقدي والفكري والفلسفي بين مختلف الديانات والعقائد والمذاهب والأفكار والتيارات والمدارس (= حرية الرأي والتعبير).

– والقيام بـ (و/ أو المساهمة في) مختلف الأنشطة الزراعية (زراعة المحاصيل – المساهمة في استصلاح الأراضي) والصناعية (إقامة المشروعات الصناعية) والتجارية (الاستيراد والتصدير – البيع والشراء) والسياحية والترفيهية والثقافية والفنية (شواطئ – متاحف – مناطق أثرية – سينما – مسرح – فنون شعبية).. إلخ.

– وتفعيل وتنشيط دور العمل الخيري والتطوعي في مختلف أوجه الأنشطة الحياتية، سواءٌ بالمساهمات المادية أو بالمجهود الشخصي تخطيطاً وإدارةً وتنفيذاً (ويمكن ههنا الاستفادة مِن الإجازات الصيفية لطلبة المدارس والجامعات، والاستفادة مِن خبرات ومساهمات المتقاعدين عن العمل، وأرباب المعاشات، وكبار السن، ممن مَنَّ الله عليهم بصحة جيدة).

– وإحياء الوقف وإدارته بعيداً عن يد السلطة التنفيذية، ومد ظله ليغطي مختلف مناحي وميادين الحياة (أوقاف لـ: دعم مراكز البحوث العلمية الكونية والنظرية – دعم العلماء، وطلبة العلم، والمبتكرين والمخترعين والمُنَظِّرين والمفكرين، وتوفير مساكنهم ومرتباتهم – جوائز تمنح، من خلال مسابقات، أو من خلال لجان اختيار، للمتميزين والمبدعين في كل مجال أفراداً وكيانات؛ تكريماً وتحفيزاً لهم ولغيرهم – دعم المشروعات متناهية الصغر والصغيرة – بناء وتمويل المستشفيات والمساجد والمدارس والوِرَش الحِرْفية – سد حاجات الفقراء والمعوزين، وتسليف وإقراض المحتاجين، والمساهمة في تسديد ديون المديونين – رعاية المسنين، والأيتام، واللقطاء، وأطفال الشوارع – رعاية أسر الشهداء والمصابين في الحروب والحوادث – مساعدة غير القادرين على نفقات الزواج – مساعدة غير القادرين على أداء فريضة الحج – المساهمة في بناء أو توفير المساكن لحل مشكلة الإسكان.. إلخ).

– وإدارة دور العبادة والمؤسسات الدينية بعيداً عن يد السلطة التنفيذية، وكذلك النقابات، ومنظمات وجمعيات ومؤسسات المجتمع الأهلي/ المدني بمختلف أشكالها وأنشطتها، والمؤسسات الإعلامية والبحثية والفكرية المختلفة.

– والمساهمة في إنشاء وتمويل وإدارة والتخطيط لـ: (محو الأمية – نظام التعليم وأنواعه – المدارس والجامعات – مراكز البحوث والتميز العلمي والتكنولوجي في الفيزياء والكيمياء والرياضيات والأحياء، والطب والهندسة والفلك والزراعة، وبقية المناحي البحثية الكونية والتكنولوجية، وتشبيكها/ ربطها بالمشاريع القومية والتنموية – مراكز البحوث السياسية والاقتصادية والفكرية والفلسفية والثقافية والفنية).

– والمساهمة في رعاية البيئة (تنميةً وتوعيةً وتمويلاً وتخطيطاً وإدارةً).

– ورعاية مؤسسة الأسرة (حسن تربية الآباء للأبناء – بر الوالدين – حل المشاكل الأسرية – زيادة الترابط الأسري).

– وترسيخ القيم والفضائل والأخلاقيات (دعوةً ونشراً ودفاعاً وإقناعاً وحثاً) والتواصي بها، وتزكية السلوك، وإحياء وترسيخ مفهوم المصلحة العامة، ونبذ الأنانية، ونبذ الممارسات والسلوكيات والمظاهر الاستهلاكية، وإحسان المعاملة، والحث على تبين والتزام حدود الحلال والحرام في سلوكياتنا وأزيائنا ومعاملاتنا اليومية (الشخصية، والبينية العلنية) سواءٌ في أماكن العمل أو الترفيه والترويح المشروعة، والتواصي بذلك.

– والتواصي برعاية الجيران (بالمفهوم العام الشامل للرعاية)، وعيادة المريض، وكسوة العريان، وإطعام الجائع، وكفالة اليتيم، ورعاية الأرملة، وإيتاء ذوي القربى، وقضاء الحوائج، والإصلاح بين المتخاصمين، وإماطة الأذى عن الطريق، والرحمة بالحيوان (وأكثر هذه الأمور – مثل أكثر ما سبق ذكره مِن مَناحٍ- واجبات شرعية لازمة، لا يُمكن تطبيقها أو تفعيلها أو نشرها أو الحث على الالتزام بها أو إثمارها إلا عبر آلية الضبط الاجتماعي).. إلخ.

(37) راجع الهامشين السابقين.

(38) انظر الهامش السابق.

(39) نعم، إنما يتم هذا التغلب على تلك العقبات – في بلاد المسلمين- من خلال الرؤية المعرفية الإسلامية؛ تصوراً وتعاليماً.

(40) ويمكن أن نكثف دور السلطة – أية سلطة- في الفقرة التالية: الواجب الأساسي الذي ما قامت سلطةٌ إلا مِن أجل توفيره هو: حفظُ الأمن الخارجي للمجتمع، وصيانةُ صيغةِ التوازنِ الداخليةِ الحافظةِ لقُوى تماسكه والكافلةِ له أن يتزكى.

(41) إنَّ “سُبل الشر” لا يمكن تجفيفُ منابعها ولا القضاءُ عليها (لأن الحياةَ ابتلاءٌ بالاختيار بين نَجْدَيْن وطَريقَيْن؛ طريقِ الخير وطريقِ الشر؛ فلا بد – رغم أنف الجميع- من توافرهما أمام المرء ليَختار ويُختبَر، هذا قضاء الله).. وإنما يكون “تحجيمها” و”محاصرتها” و”تحصين” الناس منها بـ “أمصالِ”: التربية الصحيحة، والقدوة الصالحة، والتواصي بالحق والصبر عليه.

(42) راجع هوامش الفقرة رقم “10” على سبيل المثال، ففيها أمثلة لـ “الفروق الكبرى” و”المساحات المشتركة” معاً.

(43) وإن شئتَ قلتَ: مِن غير “عزل” بينهما.

(44) إنما قلنا “النسبية”؛ لأن الكمال المطلق لا يكون إلا لله وحده؛ فإن أفعال البشر – مهما بلغت دقتها- ناقصة، وإنما تكتسب رِفعتها والرضا عنها بتضاؤل نسبة النقص فيها، فإن انمحاءها غيرُ ممكن.

(45) مِن المشكلات الكبرى المعاصرة ضمورُ مبدأ الوقف في حياتنا المعاصرة – نتيجة عدة مشكلات لا مجال لبيانها الآن-، وخاصةً الوقفَ – والتبرعَ والإنفاقَ- على العلم والعلماء – بالمعنى العام الشامل للعلم والعلماء- والمدارس والجامعات والمراكز البحثية بمختلف أنواعها.

(46) أول مَن استخدم هذه العبارة – فيما نعلم- هو فضيلة د. محمد ضياء الدين الريس في كتابه القيم “النظريات السياسية الإسلامية”، (ص 216)، ثم أستاذنا الجليل د. محمد عمارة في كتابه “عمر بن عبد العزيز – ضمير الأمة وخامس الراشدين”، ثم أستاذنا الجليل د. أحمد الريسوني في عنوان كُتيبه القيم “الأمة هي الأصل – مقاربة تأصيلية لقضايا الديمقراطية وحرية التعبير والفن”.

(47) والمسئولية تََنبُع مِن الواجب، وتَكُون بحجمه وفي حدوده.. ومنها يَنتُج الدورُ بكل ما له من صلاحيات وما عليه من تبعات. ولا توجد مسئولية دون واجب، كما لا يوجد واجب دون مسئولية.

(48) وفي هذا مِن معاني الامتلاك والاستحواذ ما فيه.

(49) وفي هذا مِن معاني التحكم والتسلط ما فيه.

(50) وفي هذا مِن معاني التحكم ما فيه.

(51) فأنت ههنا كافلٌ للغير مثلما هو كافلٌ لك، معضد له مثلما هو معضد لك، راعٍ له مثلما هو راعٍ لك.. إلخ.

(52) مِن منطلق واجبِ تنفيذ شرع الله، ومن منطلق واجب التعاون على البر والتقوى، ومن منطلق واجب الأمر بالمعروف وفعل المعروف، ومن منطلق واجب استباق الخيرات.. إلخ.

(53) لأنك لا تبتغي بالأداء إلا وجهَ الله ومرضاتَه وثوابه. وحيثُ هو – جل وعلا- يعلم السر وأخفى، وحيثُ هو الحسيب والرقيب والشهيد، فلا مفرَّ مِن أن تُؤَدِّي، بل ومِن أن يكون الأداءُ على أفضلِ وجهٍ ممكنٍ وأحسنِه؛ حتى تَحصُل بجدارة وعن استحقاق على مرضاته وثوابه، وتتجنبَ غضبَه وعقابَه.

وبتعبير آخَر: الواجبُ

(54) سواءٌ كان هذا الآخَر سلطةً أم فرداً.

(55) نسبةً إلى “الأخلاق”.

(56) لاحظ تعبير: “للأمة”، وليس “على الأمة”، بكل ما يحمله ذلك من دلالات عميقة تؤكد على أن السلطة هي مِن الأمة وإليها.

(57) بكل ما يحمله في أحشائه مفهومُ “الأمانة” و”الائتمان” عقيدةً وشريعة: من مسئوليات وتبعات، ومن واجبات ومهام عملية، ومِن مُكنات وشِحْنات فلسفية فكرية.

(58) راجع حديثنا عن ذلك فيما سبق من صفحات، فقد تعرضنا لهذا الأمر عند الحديث عن آليتي الضبط القانوني والاجتماعي، وعند الحديث عن الفارق بين دور “السلطتين التشريعية والتنفيذية” و”دور المجتمع/ الأمة”.

(59) الاستثناء: فيه منع المكلفين من أداء ما كلفهم الله به، والحصر: فيه إقحام لمعنى الكهانة الكنسي في الإسلام.

(60) نحن هنا لا نجادل في أهمية “التخصص الرسمي” في الدعوة والفقه – بمعناهما الاصطلاحي-، فهذا التخصص فيه من الفوائد ما فيه علمياً وفنياً، وهو – في حد ذاته- “أحد وجوه تنفيذ” فرض إقامة الدين والدعوة إليه ونشره – وليس الوجه الوحيد-، وإنما ننكر مَنع الناس من ممارسة “فريضة إقامة الدين وحمل رسالته والفقه فيه والدعوة إليه ونشره”، فالباب مفتوح لكل مَن وجد في نفسه الأهلية لذلك، ووثق الناس فيه وقبلوه، ولو لم يحمل فيه شهادة رسمية، بل كل فرد مسلم – هو بالأصالة- أهل لذلك في حده الأدنى، بل واجبٌ عليه؛ بالسلوك الطيب والمعاملة الحسنة والأخلاق الحميدة والمظهر الحسن، وهل دخل/ انتشر الإسلام أصلاً في إندونسيا وماليزها وكوريا والصين – وغيرها من البلدان- إلا بذلك!

(61) أخرجه البخاري (7311) ومسلم (1920)، واللفظ للأخير.

(62) لا يمكن أن تتحقق “الهداية الحقيقية” لظاهر الناس إلا باهتداء باطنهم؛ أي إن الاهتداء الحقيقي للظاهر إنما يَنبُع من الإيمان الباطن الداخلي العميق بهذا الظاهر ووجوب التزامه قلباً وقالباً. وهذا – كما سبق- لب مبدأ “الحاكمية لله” ومبدأ “الإيمان بأن له سبحانه الخَلقُ والأمر”.

(63) وهذا فيما نرى – وكما سبق البيان- أحد أهم مقاصد عدم نص الوحي على عقوبات بعينها تَنـزل بكل مَن خالف أمراً من أوامره أو نهياً من نواهيه. إضافة إلى مقاصد أخرى سبق تفصيلها.

(64) أخرجه البخاري (1202) ومسلم (402).

(65) أخرجه البخاري (1496) ومسلم (19).

(66) راجع فصل: “من أسرار الحج – دراسة في فقه الدلالات والمقاصد” ضمن كتابنا: “في فقه الاجتهاد والتجديد – دراسة تأصيلية تطبيقية”.

(67) شَهِدَ الحفلَ: أي حضره.

وشهد أن لا إله إلا الله: أي علم واعتقد.

وشهد فلانٌ في المحكمة: أي أخبر وبلَّغ.

و(شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [فصلت: 20]: أي أخبروا بأمانة وصدق وعدل؛ من غير ظلم ولا تبديل. ونظيرها قوله تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا) [الأنعام: 130]: أي نخبر على أنفسنا ونقر بما كان مِن حقيقة كفرنا.

(68) والدعوة إلى الخير ذاتها، وبالمفهوم الواسع العام الشامل للخير، تتضمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فيكون عطفُ جملة “يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر” على “يدعون إلى الخير” من باب عطف الخاص على العام؛ بياناً لأهمية هذا الخاص.

(69) وإنما اختلف أسلوب التعبير ههنا عن بقية الآيات سابقِها ولاحقِها؛ لفتاً للنظر إليها لأهميتها ومحوريتها- كما سبق البيان في المتن-؛ فإن الدعوةَ إلى الخير والأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر مظلةٌ كبرى يندرج تحتها من الأمور ما لا يُحصى، فناسَبَ أن تتميز في السياق عما قبلها وما بعدها بما يَلفت النظر إليها.

(70) أقصد بالذات الآيات سابقة الذكر.

(71) التبعيض يقتضي الحصر أو التخصيص.

(72) من أمثلة “مِن” البيانية: “لي ثوبٌ مِن القطن”، “لفلان أنصارٌ مِن بَنِيه وقبيلته”، “ليكن لي مِنكَ صديق”.

ومن أمثلة “مِن” التبعيضية: “أنفقت مِن الدراهم”، “أكلت مِن الأَرْز”.

(73) وفي جميع هذه الأحوال تكون جملة “يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر”: في محل رفع نعت لـ “أمة”.

وفي جميع هذه الأحوال أيضاً نحن أمام تكليفين اثنين:

الأول: “أن نَكُون أمةً”. أي أن يَكُون لنا – نحن المسلمين- كيان ونظام مؤتَلِف. وهذا ما أسميه بـ “فرض تكوين الأمة”. ويمكن أن يتم في عصرنا هذا تحت مظلة “منظمة التعاون الإسلامي” بشرط تطويرها وتحديثها وتوسيع مهامها وبسط أنشطتها. (ملحوظة: تأمل العلاقة بين ذلك وبين الآية التالية له مباشرةً والسابقة عليه: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ) [آل عمران: 105]، (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ) [آل عمران: 103]).

والثاني: “أن نَكُون أمةً موصوفة بكذا وكذا”. وهذا ما أسميه بـ “فرض تخليق الأمة” – نسبةً إلى الأخلاق لا الخَلق-، وقد سبق تفصيل ذلك في المتن.

(74) ونقف ههنا وقفتين سريعتين قصيرتين مع حديث رسولنا المصطفى عليه الصلاة والسلام القائل فيه: “مَن رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”. أخرجه مسلم (49، 50) وأبو داود (1140).

– الوقفة الأولى:

التغيير باليد: أي التغيير العملي. والتغيير العملي كما يكون بإزالة عين المنكر، يكون أيضاً ببناء بديل يصرف الناس عنه دون إزالة عين هذا المنكر (وهذا أحد أوجه آلية الضبط الاجتماعي للتصدي للمنكر). فضلاً عن أن اليد من معانيها القوة والسلطان؛ فيكون المقصود: التغيير بآلية الضبط القانوني. فضلاً عن أن من المنكرات ما يقع عدواناً وبغياً؛ كمحاولة اغتصاب امرأة، أو قتل رجل، أو سرقة شخص، ومثل تلك الأمور لا يمكن ان يُتصدى لها إلا باستخدام القوة المباشِرة مِن الحضور ضد مرتكب هذه الاعتداءات.

والتغيير باللسان: أي التغيير الفكري (وهذا يتطلب أسلوباً حسناً، وطول بال؛ فإن تغيير الأفكار تتطاول آماده، ولكنَّ نتائجه ناجعة تستأصل المنكر مِن جذوره)، وليس فقط مجرد الأمر والنهي؛ فإن ذلك اختزال فاحش!

والتغيير بالقلب: أي المقاومة السلبية الأدبية بالمقاطعة والمجانبة. راجع لطفاً فصل “التغيير بالقلب: حقيقته وكيفيته” في كتابي: “في فقه الاجتهاد والتجديد”.

– والوقفة الثانية:

أن “النهي عن المنكر” غيرُ “تغيير المنكر”؛ فهما مرتبتان مختلفتان. ولكلٍّ شروطٌ وضوابط.

وأكتفي بهاتين الوقفتين القصيرتين على أمل في التوسع فيما بعدُ إن يسر الله ذلك.

(75) “التفقه” في لسان القرآن هو تكلف التفهم والتعلم (أي: بذل المجهود في ذلك). والدين: نظام ومنهج عام شامل يرشد إلى كل ما فيه خير وصلاح. ومن ثم، فإن “التفقه في الدين” الوارد في الآية يشمل مختلف العلوم والمعارف النافعة بإطلاق وتعميم؛ أي بذل المجهود في تعلم وتفهم كل ما فيه خير وصلاح ونفع (ومن بابِهِ الحديثُ الشريف الصحيح: مَن يُرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، ولا يقتصر على “الفقه” بمعناه الاصطلاحي.. ويشهدُ لذلك ويزيدُه قوةً سياقُ الآية ذاته؛ فهو يرشد إلى أنه مِن غير اللائق أن ينفر المؤمنون كافة للقتال تاركين بقية مناحي الحياة!

وفي الآية إشارة واضحة إلى أن مكانة “المتفقهين في الدين” لا تقل في الدرجة عن “النافرين للقتال في سبيل الله”. ولبسط تفسير هذه الآية الكريمة مقام آخر، فإنها تحتمل أموراً.

(76) أي: ينذروهم بعاقبة الجهل وترك العمل بالعلم، كل علم.

(77) أي: رجاء أن يخافوا الله ويحذروا عاقبةَ عصيانِه والإعراضِ عن إزالة الجهل وعن العمل بالعلم.

(78) انظر وقارن بـ: المبادئ العامة في القانون، د. عبد المنعم فرج الصدة، (ص 3، 20- 25). وبين الأخلاق والقانون، د. حازم الببلاوي، (ص 12). وبين الأخلاق والقانون، جعفر فضل الله، مقال منشور على موقعه على الإنترنت. والوضع القانوني بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، المستشار/ طارق البشري، (ص 30- 32). والأخلاق، د. طارق السويدان، مقال منشور على موقعه على الإنترنت. وروح القوانين لمونتسكيو، د. حسن شحاتة سعفان. والعقد الاجتماعي لجان جاك روسو، د. حسن شحاتة سعفان. ودراسات في النظام الجنائي الإسلامي، د. عوض محمد عوض، (ص 20، 34، 36، 112- 115). والعرب في مواجهة العدوان، المستشار/ طارق البشري، (ص 8، 9). وأصول الاقتصاد الإسلامي، د. رفيق يونس المصري، (ص 81، 84، 88- 91). والعقيدة والسياسة، د. لؤي صافي، (ص 168- 169، 180، 181- 182، 232، 114، 116، 151- 152). والأحكام السلطانية، الماوردي. وأدب الدنيا والدين، الماوردي. وغياث الأمم في التياث الظلم، الجويني. والمقدمة، ابن خلدون. والنظريات السياسية الإسلامية، د. محمد ضياء الدين الريس، (ص 216- 220، 339، 304- 305، 311، 321). والحوار الإسلامي العلماني، المستشار/ طارق البشري، (ص 97). وإحياء التقاليد العربية، د. رفيق حبيب، (ص 81، 82، 87، 219، 220، 79، 102، 103، 106، 96، 97، 99). والأمة هي الأصل، د. أحمد الريسوني، (ص 12، 13، 15- 19، 22- 26). وللإسلام والديمقراطية، فهمي هويدي، (ص 167، 168، 105- 107). والإسلام والأمن الاجتماعي، د. محمد عمارة، (ص 58- 62). والمؤسسية والمؤسسات في الحضارة الإسلامية، د. محمد عمارة، (ص 45- 52). والوقف الإسلامي أبعاده ومجالاته، د. أحمد الريسوني، (ص 10- 14). ورحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر، د. عبد الوهاب المسيري، (ص 64، 67). وروح الحداثة – المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، د. طه عبد الرحمن، (ص 257- 258). والأمة الوسط والشهادة الحضارية على الناس، د. عبد المجيد النجار، (ص 186- 188، 197، 198، 199، 200، 202، 208، 219). والأعمال الكاملة للشيخ محمد عبده، (5/ 59- 62، 64، 65). وتفاسير: الطبري، والقرطبي، وابن كثير، والبغوي، والشوكاني، والمنار، والتحرير والتنوير، والشعراوي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر