تقديم د. محمد عبد الستار نصار(**):
بسم الله الرحمن الرحيم … الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. ها نحن نستأنف مسيرتنا العلمية في الندوة النصف شهرية بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية.
وقبل أن أدخل إلى صميم التقديم .. أريد أن أقول أن الإطار الزمني الذي تستغرقه الندوة لن يتجاوز – إن شاء الله – الساعتين، واحدة منها للأستاذ المحاضر، والأخرى للمناقشة وإبداء الآراء والملاحظات.
وأثنّى فأقول إن موضوع اليوم موضوع خطير، ذلك لأنه يتصل بمنهج الفكر عند المسلمين، فعلم أصول الفقه علم أصيل في الثقافة الإسلامية الواسعة وكلنا يعلم أن أول من ألف فيه … على سبيل التأليف المدون والدقيق – هو الإمام الشافعي t في كتابه العظيم “الرسالة”. وإن كانت قد سبقته بعض عناصر هذا العلم، إلا أن الإمام جمعها ورتبها وأضاف إليها الكثير، وقد صدق – إلى حد كبير – ما ذكره الفخر الرازي في كتابه “مناقب الشافعي” من أن نسبة الشافعي إلى علوم الشرع كنسبة أرسطو إلى علوم العقل .. إذن فالشافعي هو مؤلف منهج الفكر الإسلامي – أي علم أصول الفقه.
ولهذا العلم علاقة بالعلوم الاجتماعية الأخرى، ولعل القرابة الوثيقة بين هذا العلم وبين علم اللغة تكاد تكون موصولة، لأن مبحث الدلالات، أي ما تدل به الألفاظ على معانيها – له نصيب كبير في هذا العلم، وقد قرأنا في الرسالة أن الله سبحانه وتعالى يقول: )الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ( [آل عمران: 173]، فقد وردت كلمة “ناس” هنا مرتين، ولكل لفظ منهما معنى خاص، إذن فعلاقة علم أصول الفقه بدلالة الألفاظ على معانيها علاقة وثيقة جدًا، فضلاً عما أضافه علم أصول الفقه من تأصيل للمنهج العلمي الصحيح، وهو المنهج التجريبـي، فيما خلفه أسلافنا في هذا المجال عندما بحثوا مسالك العلة، وهو مبحث طريف جدًا.
لا أريد أن أطيل … ولكنني سأترك المجال لفارسه وهو الأستاذ الدكتور جمال الدين عطية محمد … والحق أقول إن محاضرنا رجل جمع بين عدة ثقافات، بين ثقافته الإسلامية الأصلية، ثم الثقافات الغربية في أكثر من مجال، وله مشاركات طيبة في الفقه والقانون والاقتصاد، وهو بحكم عالميته يحضر كثيرًا من المؤتمرات العلمية العالمية، وله كثير من المشاركات في كثير من الأكاديميات المتصلة بالفكر الإسلامي، وهو الآن متربع على عرش المعهد العالمي للفكر الإسلامي – فرع القاهرة – وله جولات وجولات مع المفكرين في القاهرة وغيرها.
أقدمه لكم كمحاضرًا فليتفضل مشكورًا.
د. جمال الدين عطية:
بسم الله الرحمن الرحيم … الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. بداية فأنني أتفق مع د. نصار على أهمية الموضوع، ولكنني لا أتفق معه في التقديم الخاص بشخصي … والحقيقة أنني قد ترددت – بعد أن اقترحت هذا الموضوع – في الإقدام عليه، ولكن تشجيع د. نصار والإخوة الزملاء هو ما جعلني أستمر في الإعداد له.
ولا أدعي أني قد أشرفت فيه على البداية، فضلاً عن النهاية، فمازالت أمامي أكداس من الكتب والمراجع التي كان لابد لي من الاطلاع عليها قبل أن أقف هذا الموقف لأعرض هذه الفكرة التي تدور في ذهني من فترة ليست بالقصيرة.
وأحب أن أنبه منذ البداية إلى أنني أعالج موضوعًا يتعلق بصميم الاجتهاد ومن هنا فنحن نفترض سلفًا أننا في مجال الاجتهاد، وبالتالي فلا مجال للاعتراض على أساس أن ما نقوله لم يقل به أحد من قبل؛ لأن هذه مسلمة … وهي أننا لو التزمنا بمنهج التقليد لما أتينا إلى هنا ولما فتحنا هذا الموضوع، وهذه مسلمة أود أن أنبه إليها حتى نكون جميعًا في صف واحد.
الأمر الآخر يتمثل في صعوبة هذا الموضوع – فالموضوع من الموضوعات التي تتناول أكثر من علم، ومن المعروف أن هذه الموضوعات أو الفروع أو الموضوعات التي بين الفروع كما يتم ترجمتها “Interdisciplinary” شائكة وجديدة بطبيعتها. وإذا أضفنا إلى ذلك أنها تتعلق بمناهج العلوم فإنها تزداد – بالتالي – صعوبة. وعلى كل حال فإنني أعترف سلفًا بالتقصير، وأرجو أن نعتبر الأمر مجرد طرح آراء للنقاش لم نصل فيها إلى نتيجة بعد، ولعلنا نتعاون في الوصول إلى الخطوط الرئيسية للموضوع – على الأقل!
وأحب أن أقدم للموضوع الذي يتحدد في ذهني في العلاقة المتبادلة بين علم أصول الفقه ومناهج العلوم الاجتماعية. ويدعوني هذا إلى تقسيم حديثي فيه إلى قسمين:
الأول: هل يمكن أن يقدم علم أصول الفقه شيئًا إلى مناهج العلوم الاجتماعية؟!
والثاني: بالمقابل: هل يمكن أن يستفيد علم أصول الفقه شيئًا من مناهج العلوم الاجتماعية؟!
وقبل أن أدخل في هذين الشقين، أود أن أقدم مقدمة نضع فيها علم أصول الفقه في مكانه التاريخي بين مناهج العلوم المختلفة.
إن علم أصول الفقه ليس هو العلم الوحيد من علوم المناهج في الفكر الإسلامي … فهناك علوم كثيرة سوف نشير إليها إشارات سريعة ونحن نتحدث، ولكن لن تحظى بالتفصيل الذي قد يحظى به علم أصول الفقه في هذا العرض.
وأول ما يلفت النظر أن مسألة العلوم ومناهجها المختلفة لا تمتد في التاريخ حتى اليونان فقط -كما يتبادر إلى الذهن في معظم الحالات- وإنما الحضارات السابقة على اليونان – والتي كانت فيها علوم متقدمة – تشعر بأن هذه العلوم ما كان ليصل إليها قدماء المصريين – مثلاً – في العمارة والطب والفلك وغير ذلك، ما لم تكن هناك مناهج يتبعونها في بحوثهم. والذي يتبادر إلى الذهن كذلك أن هذه المناهج ليست هي مناهج الاستنباط العقلي، وإنما هي مناهج تجريبية لأنها في مجالات لا يمكن الوصول إلى النتائج التي وصلوا إليها بمناهج العقل فقط، فعلوم الطب وعلوم الفلك وغير ذلك تدل على أنه كانت هناك مناهج تجريبية لجأوا إليها، وإن كانت طبيعة العلماء في هذه المرحلة طبيعة خاصة يحيط بها كثير من الأسرار، ولذلك لم تدون نظريات أو أبحاث، أو على الأقل لم تصل إلينا هذه النظريات والأبحاث؛ لأن الكهنة كانوا هم الذين يقومون بهذه العلوم.
وجاء علماء اليونان فاحتكوا بالحضارات السابقة عليهم، وتتلمذوا عليها. وحتى أرسطو كان تجريبيًا قبل أن يتجه الاتجاه العقلي والفكري. ومن هنا نجد أن المناهج المختلفة كان لها – بصورة قليلة أو كبيرة – دور في مختلف هذه المراحل.
وإذا انتقلنا بعد ذلك إلى الفترة الإسلامية، وقبل أن نتحدث عن وجود بعض العلماء الإسلاميين في مسائل المناهج، نجد أن القرآن الكريم نفسه، وهو كتاب الإسلام الأول، فيه تنبيه إلى كثير من قواعد المنهج التي كانت بلا شك هي المرتكزات الرئيسية للعلماء المسلمين الذين تكلموا بعد ذلك في هذا الموضوع، فالآيات الكثيرة التي تدعو إلى النظر والمشاهدة، وبالذات النظر الواعي، فيها دلالات كثيرة في هذا الموضوع، ففي الآية الكريمة )وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ( [الأعراف: 198]، )لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا [الأعراف: 179](، فالمقصود هو النظر الواعي، أما النظر الذي لا يرتبط بالوعي، ولا يؤدي إلى نتيجة معينة، فهو أمر نبه إليه القرآن الكريم. وحول إعمال العقل نفسه وردت كثير من الآيات التي تنهي عن تعطيل العقول والانحراف بها، وتدعو إلى الموضوعية في التفكير، حتى مع الاختلاف مع الآخرين في الرأي أو في العقيدة، والتي تدعو أيضًا إلى التحرر من سلطان الضالين، سواء من الآباء أو من الرؤساء أو من غيرهم. وكل هذا مما يؤكد معنى الموضوعية. كما أن العديد من الآيات الكريمة قد حذرت من اتباع الهوى، وبالتالي تُحرر النفس من أي سلطان آخر يمنعها من الوصول إلى الحق. كما أن الإسلام يحفظ العقول من دراسة ما يشق عليها دراسته وما يتجاوز حدود طاقتها )وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً( [الإسراء: 85]. وهذه أمثلة للضمانات التي قدمها القرآن الكريم في مجال العقل.
وهناك كذلك إشارات واضحة إلى روافد أخرى للمعرفة، خلاف الروافد التي نعلمها – فالآيتان الكريمتان )وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ( [البقرة: 282]، و)يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً( [الأنفال: 29]. أوضح المفسرون في تناولهما كيف أن تقوى الله يمكن أن تكون من طرق المعرفة. وأيًا كان تفسيرنا العلمي لهذا الاتجاه فإنه لاشك يؤكد على ضرورة التفكير في هذا الاتجاه كذلك!
ومما ينسب إلى الإمام الشافعي البيتان:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي
فنبهني إلى ترك المعاصي
وأعلمني بأن العلم نور
ونور الله لا يهدي لعاص
وهناك الكثير من الآيات التي تضع قواعد أساسية في مسائل مناهج الفكر والعلم، ومن أهمها أن الظن لا يغني من الحق شيئًا، وضرورة وجوب الرجوع إلى المتخصصين والعلماء، ومعاني التدبر والتفكر ووجه التقارب بينها وبين عملية جمع البيانات في المناهج الاجتماعية الحديثة، وكذلك المعاينة العملية التي هي من أدوات البحث الاجتماعي المعاصر، ففي مسند أحمد “ليس الخبر كالمعاينة” وفي هذا إشارة واضحة إلى هذا المنهج!
وفي إطار هذا التوجيه القرآني، ومع تقدم العلوم، كان لابد لعلماء المسلمين أن يتناولوا مسائل المنهج، وهم بذلك لهم إسهامات كبيرة ومبكرة، ومن أول هذه الإسهامات، إسهام جابر بن حيان – المتوفى سنة 161هـ -، ثم الحسن بن الهيثم والبيروني، وصاعد الأندلسي الذي تكلم عن المنهج البيئي وتأثير التضاريس والجغرافيا وغير ذلك في طبيعة الإنسان وعاداته وشكله ولون شعره … إلخ، ثم إن الإمام النووي الشافعي في كتابه “شرح المهذب” وشرح “صحيح مسلم” كان له كثير من النظريات الخاصة بالمنهج، وأخيرًا ابن خلدون.
وهذه مجرد أمثلة لا تعني الحصر بأي حال من الأحوال.
ولا أظن أن الوقت يتسع للإشارة إلى العلامات الرئيسية التي وضعها كل من هؤلاء العلماء. فالبيروني معروف باستخدامه لكثير من المناهج التي عرفت وتبلورت في العصر الحديث، كالمنهج التاريخي والمنهج المقارن، ودراسة الشعوب حيث يعتبر أبا علم الإنسان أو “الأنثروبولوجيا” المعاصرة، بدراسته التي قام بها عن الهند وتحقيقه لها. ولديه مبادئ الملاحظة المباشرة والتجارب المعملية والميدانية ورفض التقليد والرجوع إلى المصادر الأصلية، وغير ذلك من المسائل التي يضيق الوقت عن بيانها.
والإمام النووي، ولو أنه معروف في مجال الفقه والحديث، إلا أن له نظراتٍ صائبةً في مسائل المنهج، وبالذات في مجالات التربية. فقد تكلم عن أدوات البحث العلمي وأشار إلى التحقيق والتثبت والاستنباط، واستخدام اللغة الصحيحة وتحديد المشكلة بدقة، وفحص الأدلة، واجتناب الواهية منها، وتنقيح أو تهذيب البحث عدة مرات قبل أن يخرج إلى الجمهور، كما تكلم عن مجالات البحث العلمي واشترط – في نصيحته للباحثين والعلماء – ألا يكون الموضوع قد سبق بحثه بحثًا مستوفيًا، واستخلصت منه حقائقه على الوجه الأكمل، فإن لم يكن ذلك فلا مانع من بحثه. أما إذا كان الموضوع قد استوفى من قِبَل الآخرين – أو على حد تعبيره – ألاّ يكون هناك مصنف يغني عن مصنفه، فإن كان هناك مصنف آخر يغني عن مصنفه فلا مجال لأن يبحث في هذا الموضوع، كما نبه النووي أيضًا إلى ضرورة التوجه إلى المواطن التي تبرز الحاجة إليها، وعلى حد تعبيره: “ليكن تصنيفه فيما يعم الانتفاع به ويكثر الاحتياج إليه”. كما تكلم عن قواعد المنهج ومعوقات البحث العلمي كلامًا يصعب – حقيقة – أن نتحدث فيه كله.
أما ابن خلدون فقد كثر الحديث عنه، وأعتقد أنكم على علم بما قال عنه الأوربيون قبل أن يتكلم عنه المسلمون.
وبعد ذلك نقفز مئات السنين لنبدأ رحلة العلم المعاصر أو العلم الحديث مع بداية عصر النهضة الأوربية، وسوف لا أتناول في هذه العجالة – بحكم أنه من المعلوم – التأثير الذي كان لعلوم العرب والمسلمين على النهضة الأوربية. ذلك أن هذا ليس موضوع هذه الندوة. ولكن المناهج كما تبلورت الآن، وكما رأينا أنها كانت موجودة من قبل، وقام المسلمون ببلورتها، يمكن أن تجمل في المنهج الاستنباطي العقلي، والمنهج الاستقرائي التجريبي، والمنهج التاريخي، والمنهج المقارن، والمنهج الإحصائي. ولا أظن أنني أضيف جديدًا إذا شرحت وعرّفت هذه المناهج، حيث إنني أرى من بين الحاضرين أعلام علماءِ الاجتماع والتربية وعلم النفس والتاريخ والإعلام وغير ذلك من العلوم الاجتماعية، ومن هنا لا أظن أنني بحاجة إلى الدخول في تعريف هذه المناهج.
والذي فاتني أن أنبه إليه هو أن علم أصول الفقه – كما أوضح د. نصار في تقديمه – يعتبر هو علم المنهج الأساسي في العلوم الإسلامية، وذلك لأنه العلم الذي يضبط عملية التكليف، وينظم عملية الاستمداد من الوحي. ولا يعني هذا أنه هو علم المنهج الوحيد بين العلوم الإسلامية. فهناك علوم كثيرة أخرى مكملة، كعلم القواعد – مثلاً – وهو علم استقرائي نجمع فيه الكل من الأجزاء، خلافًا لعلم أصول الفقه وهو علم استنباطي بالمعنى الكامل. وهناك كذلك علم “اختلاف العلماء” وهو علم المقارنة، وقد ظهر قبل أن يكون هناك علم المقارنة في أي علم من العلوم في الغرب. فقد بلور العلماء الإسلاميون هذا العلم، وكانت لهم فيه إسهامات كبيرة.
ونفس الأمر في المناهج التاريخية – أيضًا – سواء على مستوى علوم الحديث والمصطلح والرجال وغير ذلك … أو على مستوى التحقق من الواقعة التاريخية، ومسائل التفسير والتحليل للوقائع التاريخية أيضًا !
ومن هنا يتبين أن المسلمين قد استخدموا كافة هذه المناهج سواء في مجالات العلوم الدينية – إن صح هذا التعبير – أو في مجالات العلوم الطبيعية والاجتماعية الأخرى.
لا أقف كثيرًا – بسبب الوقت – وأتجاوز تاريخ المناهج، كما أتجاوز التأثير المتبادل بين الحضارات واستفادة المسلمين من حضارات اليونان وغيرها من الحضارات السابقة، وما أدخلوه عليها وأضافوه وصححوه منها، وما العلاقات المختلفة بين العلوم والتأثير المتبادل بينها. أتجاوز هذا كله لأنبه إلى بعض المحاور الرئيسية التي تهمنا في هذا الموضوع:
المحور الأول: ضرورة تصحيح المقولات والتعميمات الشائعة عن بدايات المناهج العلمية حيث يعد هذا من المسائل التي تحتاج إلى كثير من البحث، حتى يتم تجلية الشكوك القائمة والتي تتضارب المراجع حولها.
المحور الثاني: هو أن ما نعرفه جميعًا من استقلال العلوم المنضبطة بمناهجها المختلفة عن الفلسفة يعد انعكاسًا لفكرة الانطلاق من المفاهيم العقلية إلى الحقائق الملموسة، فطالما ظل العلم في إطار المفاهيم العقلية فهو جزء من الفلسفة، فإذا انضبط بعد ذلك وصارت له مناهجه وحقائقه وقوانينه، فإنه يصبح علمًا مستقلاً عن الفلسفة.
المحور الثالث: هو أن المسلمين لم يكونوا مجرد مترجمين أو تابعين أو تلاميذ لمنطق أرسطو وغيره من علوم اليونان، فقد مارسوا وجربوا المنهج التجريبي في ذاته، وأنشأوا كثيرًا من علوم المنهج الأخرى التي أشرت إليها، كما أنهم ضبطوا أخلاق العلم وآدابه وقواعده، وكيف يكون الباحث موضوعيًّا في بحثه.
ولعلي قد أشرت في ذلك إلى بعض ما قاله “النووي”، و”البيروني”، و”جابر بن حيان”، و”الحسن بن الهيثم”، وغيرهم !
وكل هذه مجالات تحتاج إلى بحث حتى نوضح إسهام علماء المسلمين فيها !
المحور الرابع: أن العلماء المسلمين في هذه المحاولات المنهجية لم يحاولوا اتخاذ منهج معرفي واحد وينسبونه إلى الإسلام. ولعل المقارنة بين كتاب “المنقذ من الضلال” للغزالي، و”شجرة الكون” لابن عربي، و”فصل المقال” لابن رشد، توضح تعدد النظرة المعرفية بين علماء المسلمين. فكل منهم له مدرسته ونظريته وفلسفته للعلوم. وهذا يدعونا إلى الحديث عن إسهامات المسلمين في المعرفة وفلسفة العلوم، وليس عن فلسفة أو نظرية إسلامية واحدة في هذا المجال.
فاهتمام كل من هؤلاء العلماء بناحية معينة وتسليط الأضواء عليها هو ما يجعلنا ننسب إلى فئة معينة من العلماء منهجًا معينًا. ولكن هذا لا ينفي – كما هو معروف في فقه الرأي وفقه الحديث – أن من ينسبون إلى فقه الرأي لا يهملون الحديث، ومن ينسبون إلى فقه الحديث لا يهملون فقه الرأي، وكذلك الأمر في مناهج العلوم … فالفلاسفة مثلاً قد اهتموا بالعقل، فقام الفلاسفة المسلمون بتصحيح وتطوير فلسفة اليونان. أما الأصوليون فقد اهتموا بالنقل، وكان همهم هو المناهج التي نصل عن طريقها إلى استنباط الأحكام من الوحي، وجاء المتكلمون فمزجوا بين الأمرين، فبحثوا – بالذات – في موضوع العلاقة بين النقل والعقل، وتكلم الصوفية عن الحدس والتجربة النفسية والكشف والذوق وغير ذلك كروافد للمعرفة. أما العلماء الذين اهتموا بالطب والفلك وغيرهما من العلوم التطبيقية فقد ركزوا – بطبيعة الحال – على المناهج التجريبية. ولم يستقل أحد من هؤلاء العلماء برسم منهاج واحد، وهذا يقودنا إلى المشكلة التي تعاني منها العلوم الاجتماعية المعاصرة. فهناك مرونة فيما كتبه علماء الإسلام في مسائل المنهج حيث اكتفوا بوضع الضوابط والقواعد، ولكن لم يرسموا طريقًا حديديًّا لا يجوز أن نتجاوزه.
وإذا انتقلنا إلى الإسهام الأوروبي في هذا الموضوع ووضعنا في أذهاننا الصلة بين العلم الإسلامي والعلم الأوربي في بداية عصر النهضة الأوربية، فإننا نلمس – بوضوح – أن الأوربيين لم يحسنوا نقل المناهج عن المسلمين، وذلك بتركيزهم على جانب واحد هو الجانب المادي فقط مما حرمهم من كثير من المفاهيم التي تناولها الإسلاميون، ولعل هذا من ضمن الأسباب التي أدت إلى الأزمات الحالية التي تعاني منها العلوم الاجتماعية عمومًا وعلم الاجتماع على وجه الخصوص، فجمود منهج البحث – على سبيل المثال – سواء عند فرنسيس بيكون، أو ستيوارت ميل، أو ديكارت يعد من العيوب الواضحة في المناهج المعاصرة، كما تبين في مسيرة الفكر الإنساني أن الاعتماد على العقل وحده لا يكفي، ولابد من تحرر الفكر من أهواء النفس، ولعل الإشارات القرآنية في هذا المجال تفيدنا (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً)، (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ) … فالعقل إذن وحده لا يكفي، كما أن الحواس وحدها أيضًا لا تكفي، ولابد من الملاحظة والتجربة وإعمال العقل، ثم إن البحوث الجزئية المستقلة والتي اتجهت إليها الحضارة الغربية في تقسيمات العلوم المختلفة، لا تكفي إذا أهملنا النظرة الكلية الشاملة التي تضع كل فرع من هذه الفروع في الإطار المعرفي أو الكوني الشامل، وهذا ما يقدمه الوحي برسم النظرة الكلية عن الكون والحياة والإنسان.
والفصل بين العلوم الإنسانية والعناصر اللاهوتية ومحاولة تطبيق المنهج التجريبـي عليها ودراستها دراسة كمية، هو الذي بلور بداية العلوم الاجتماعية في أوروبا. وبالتالي أهملت ثنائية الروح والجسد، مما أدى إلى تخبط معظم هذه العلوم، حيث إن إهمالها لعنصر الروح وطبيعة الإنسان المعقدة قد أدى إلى صعوبة تفسير الكثير من الظواهر النفسية والاجتماعية وبالتالي الوصول إلى قوانين تحكمها، ومن هنا تعددت المدارس التي أرادت معالجة هذه الثغرة، وللدكتور الحسيني(*) إسهامات واضحة في هذا الموضوع في بيان أزمة العلوم المعاصرة.
كما أن للدكتورين توفيق الطويل وحسن الساعاتي إسهاماتهما في بيان إشكالية هذه العلوم الاجتماعية، والذهاب إلى أنها ليست علومًا على اعتبار أنها تتجاهل حرية الإرادة البشرية وتدخلها في سير الظواهر الاجتماعية، وتعذر إجراء التجارب عليها، وتجاهلها للفروق بين الأفراد والأزمنة بالإضافة إلى انعدام الناحية الموضوعية في القوانين التي يتم التوصل إليها.
وهذه الإشكاليات قد وصلت بالبعض إلى إنكار علمية هذه العلوم، ووصلت بالبعض الآخر إلى رفض فكرة المنهجية أصلاً، والقول بعدم إمكان الفصل بين المنهج والعلم، على اعتبار أن كل حقيقة علمية ترتبط بمنهج معين، وأن كل إضافة في العلم ناتجة عن تغيير في المنهج، وأنه لا يمكن لنا أن نرسم منهجًا حديديًّا يعوق التقدم العلمي.
هذه لمحات سريعة عن المشكلات التي وصلت إليها العلوم الاجتماعية المعاصرة، وأختتم هذا القسم بعرض لمشكلة وحدة المناهج أو تنوعها. وهي إحدى المشكلات التي بُحثتْ وما تزال تُبْحث في مجال مناهج العلوم الاجتماعية. هل يمكن أن يكون هناك وحدة في المناهج أم أنه من الطبيعي أن تتنوع المناهج حتى في داخل العلم الواحد، وخاصة علم الاجتماع الذي يعد من أكثر العلوم تنوعًا في مناهجه؟ والذين يدافعون عن هذا الوضع يبينون أن تنوع علم الاجتماع ليس ناتجًا عن عدم نضجه كعلم، وإنما عن تنوع أغراضه.
وإذا ختمنا هذا الجزء من البحث بالإشارة إلى أن المنهج هو الطريق الذي يوصل إلى الحقيقة، فإنه من ثَمَّ لا معنى لأنْ يصر بعضُنا على منهج معين إذا كان في منهج آخر أو في مناهج أخرى إعانة على الوصول إلى الحقيقة، وعجز هذا المنهج عن الوصول إليها، فلا يصح أن يتعصب أصحاب كل علم لمنهجهم، ويغلقوا الأبواب دون الاستفادة بالمناهج التي يعمل بها غيرهم، لأن المنهج ليس إلا وسيلة والغاية هي الوصول إلى الحقيقة، وهذا لا ينفي – كما قال جابر بن حيان – أن لكل صنعة أساليبها الفنية؛ فبعض العلوم لها طبيعة معينة تجعل منهجًا معينًا أقرب إلى تحقيق الغرض منها من غيره، وهناك بعض المناهج التي يتعين الأخذ بها كما في المسائل المرتبطة بالغيب على سبيل المثال، وفيما عدا هذه المسائل فإنه لاشك أن المناهج الأخرى – مجتمعة أو منفردة – يكون من المستحسن الاستعانة بها حتى نصل إلى الحقيقة المنشودة.
بعد هذا التقديم الذي أخذ مني أكثر مما كنت أتصور … سوف أحاول طرح بعض التساؤلات في الاتجاهين الرئيسيين للموضوع:
الاتجاه الأول(*): ماذا يمكن أن يقدمه علم أصول الفقه إلى مناهج العلوم الاجتماعية؟! وبداية أقول إن هناك مواقف متطرفة في الرد على هذا السؤال …
موقف يرفض تمامًا منهج أصول الفقه، وموقف يأخذ بضرورة تطبيق منهج أصول الفقه.
والموقف الأول هو موقف العلماء المتخصصين في العلوم الاجتماعية، والذين يرون أن ازدهار العلوم الاجتماعية لا يمكن أن يستمر إذا قيدناه بالضوابط الحديدية لعلم أصول الفقه، وذلك لأن علم أصول الفقه بطبيعته وُضع لغرض معين، وبالتالي لا يمكن أن يحكم علومًا تختلف في طبيعتها عن العلوم التي وضع علم أصول الفقه لضبطها.
ويقابل هذا على الجانب الآخر، موقف علماء الشريعة الذين يرون في هذه العلوم الاجتماعية الحديثة فروعًا جديدة من الفقه. وبالتالي يجب أن تنضبط بمقاييس وضوابط علم أصول الفقه، بل أنهم لا يرون – وهذا ما فاجأني في بعض المواقف – أحقية علماء الاقتصاد – مثلاً – في الحديث عن الاقتصاد الإسلامي، على أساس أنه يجب أن يقتصر على من كان عالمًا بالفقه وأصوله، باعتبار أن الاقتصاد الإسلامي هو باب المعاملات من الفقه، ونفس الشيء في علم النفس الإسلامي، وعلم الاجتماع الإسلامي وغير ذلك من العلوم.
هذان هما الموقفان المتطرفان في هذه القضية … والرأي الذي أذهب إليه يحسن أن أقدم له بمسألتين:
المسألة الأولى: هي ضرورة اعتماد الوحي مصدرًا للمعرفة في الشق الموضوعي للعلوم، ذلك أننا نعلم أنه قد وردت إشارات واضحة وحاسمة في القرآن والسنة في مجال إقرار حقائق علمية معينة أي في الشق الموضوعي للعلوم، والأمثلة كثيرة عن ذلك فيما يعبر عنه الإسلاميون بالسنن … (سنن الكون والمجتمع والنفس … إلخ)، ومن هنا لابد من أن نقبل أن هذه الإشارات مصدر للمعرفة في هذا الشق الموضوعي في كل علم من هذه العلوم، ولكن يجب أن نفصِّل هنا بعض الشيء، فالقول بأنها مصدر للمعرفة لن يفيد كثيرًا في تقدم العلم نفسه، وإنما يجب وضعها في موضعها من المناهج التي توصل إلى القوانين العلمية التي تنقل هذه الإشارات إلى استنباط قوانين منها يمكن استخدامها في حياتنا العملية، وعلى سبيل المثال فإن القول بأن العسل فيه شفاء للناس، أو القول بأن النساء ناقصات عقل ودين وغير ذلك من الإشارات في مختلف المجالات، لا تقرر حقيقة منضبطة بحيث نستخرج منها قانونًا يمكن أن نطبقه في حياتنا العملية، وإنما هي إشارات تطرح فرضيات يجب وضعها موضع التجربة والإحصاء والقياس وغير ذلك حتى نصل إلى استنباط القانون الذي يصلح للتطبيق في حياتنا العملية.
هذا عن المسألة المبدئية الأولى المتعلقة بالشق الموضوعي.
المسألة الثانية: تتعلق بالشق القيمي أو المعياري في العلوم الاجتماعية المختلفة – وهنا لا مفر من اعتبار الوحي مصدرًا للتوجيه في هذا الشق. بل إنه مصدر تأسيسي … لأن ما فيه من قيم وأحكام تكليفية هي الضابط لهذا الشق في العلوم، وبطبيعة الحال فإن تطبيق منهج علم أصول الفقه في هذا المجال يعد أمرًا واردًا، ولا أظن أن هناك إشكالاً له قيمته في هذا المجال.
بعد هذين المبدأين … فإن السؤال التالي: هل يبقى بعد ذلك فائدة لعلم أصول الفقه في الشق الموضوعي للعلوم المختلفة ؟!
إن الذي أشعر به أن علم أصول الفقه قد وضع أصلاً لضبط التكاليف (افعل ولا تفعل)، واستنباط الأحكام المتعلقة بهذه التكاليف من النصوص، وبالتالي فهو لم يوضع أصلاً لتفسير الظواهر الاجتماعية وبيان العلاقات السببية بينها أو التوصل إلى القوانين التي تحكمها، ومن الظلم أن نحمله ما لا يحتمل. وهذا ما يبرر تخوف العلماء الاجتماعيين من فرض علم أصول الفقه على العلوم الاجتماعية وما يؤدي إليه هذا من تجميد وتقييد هذه العلوم، تقييدًا لا يبرره العلم أو الدين. ولكن … هناك في رأيي بعض المباحث الموجودة في علم أصول الفقه والتي تصلح نبراسًا ومعيارًا للعلوم الاجتماعية في مناهجها، وبالتحديد في تحليل الظواهر الاجتماعية وبيان علاقات السببية بينها. ولا يتسع الوقت لشرح هذه المواضع. ولذلك سوف أشير إليها فقط، خاصة وأن معظمنا له معرفة بها، ويكفي الإشارة إليها.
– فموضوع العلة – مثلاً – الذي أشار إليه الدكتور نصار في تقديمه، والمراحل التي يمر بها الأصولي حتى يصل إلى تحديد العلة، وما أوضحه د. النشار، ود. مصطفى عبد الرازق قبله من أن هذا هو بداية العلم التجريبي، والمقارنة التي أجرياها بين “ستيوارت ميل” وبين هذه المراحل المختلفة في التوصل إلى علة الحكم.
وإلى جانب مباحث العلة، هناك ما يسمى بالأحكام الوضعية في علم أصول الفقه. فمباحث الركن والسبب والعلة والأمارة والمانع … الخ فيها ضبط للمسائل تحتاجها العلوم الاجتماعية أشد الحاجة. فلو عكف علماء العلوم الاجتماعية على هذه المباحث لوجدوا فيها كنوزًا تعينهم في ضبط علومهم.
وهناك القواعد اللغوية التي أشار إليها د. نصار، وهي جزء من القواعد التي يستخدمها علم أصول الفقه لضبط تفسير النصوص والمفاهيم والمصطلحات، وهذه القواعد اللغوية نادرًا ما نجدها في العلوم العصرية، ويحتاج إليها العلماء، لأن اللغة بطبيعتها وسيلة للتعبير عن الرأي، وضبط اللغة من أهم المسائل لضبط العلم نفسه.
والمباحث المتعلقة بالاستحسان وبعلم الفروق تعد من المسائل التي تصقل الذهن وأدوات البحث لدى العالم.
والقواعد الفقهية والطريقة التي استنبطت بها تعد كذلك من المسائل المفيدة جدًا للعلوم الاجتماعية.
والمقاصد الشرعية تعد من العلوم التي أهملت … وقد ذهب بها ابن عاشور خطوة أبعد مما وصل إليه الشاطبي والعز بن عبد السلام، حيث حاول أن يجد المقاصد الشرعية، ليس على مستوى الشريعة ككل، وإنما على مستوى كل علم من علومها، وهذا إذا طبقناه في العلوم الاجتماعية فإنه يضبط لنا فلسفة هذا العلم ومقاصده، وفي هذا فائدة كبيرة في ضبط العلم!
وإذا خرجنا من علم أصول الفقه – بمعناه الاصطلاحي، إلى المناهج التاريخية سواء من علوم الحديث أو من علوم التاريخ، فلاشك في فائدتها كعلوم شرعية لعلماء العلوم الاجتماعية.
ولا يعني كل ما سبق أني أرى الخلط بين الشق الموضوعي والشق التكليفي في العلوم الاجتماعية، وإنما من الضروري التمييز الواضح بينهما. وما أدعو إليه هو التفاعل بين هذين الشقين.
هناك مناطق تستعصى على مناهج العلوم الاجتماعية، وهذا يستبعد المناطق التي تتعلق بالغيبيات والتي تتعلق بالأحكام التعبدية، وذلك رغم اعترافنا بأن الأحكام التعبدية نفسها إنما شرعت لتحقيق مصلحة العباد، فإننا لا يمكن أن نتجاوزها إلى محاولة إيجاد العلة منها، وبالتالي فإنها تستعصى على الإخضاع لمناهج العلوم الاجتماعية، وفي مقابل هذه المناطق هناك مناطق تتسع لمناهج العلوم الاجتماعية، وقد يكون هذا الاتساع بالغ البعد عن الصورة الحالية التي وقف عندها علم أصول الفقه والعلوم الشرعية عمومًا منذ توقف تطور الفكر الإسلامي منذ عدة قرون.
وأقصد بهذا أننا إذا ركزنا على علاقة السببية بين الأحكام وبين مقاصد الشريعة من هذه الأحكام … فإن كل حكم في الشريعة له علة وجاء لتحقيق مصلحة معينة، وحتى الأحكام العبادية – كما قلنا – فإن الله سبحانه وتعالى غني عن العالمين وعن هذه العبادات، وشرعت لمصلحتنا نحن، فالربط بين الحكم والمصلحة قد يصل إلى اعتبار هذه العلاقة السببية، ونزيل بذلك التفرقة بين الشق التكليفي والشق الموضوعي، وأعني بهذا أننا لسنا فقط بصدد قانون تكليفي في الآية )إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ( [العنكبوت: 45]، ولكننا يمكن أن نعتبره قانونًا حتميًا .. أي علاقة بين سبب ونتيجة، وإذا توصلنا إلى ربط المسببات بنتائجها بهذه الصورة فمن الممكن الوصول إلى إزالة التفرقة بين الشق التكليفي والشق الموضوعي، ويبقى هذا – على كل حال – أملاً بعيدًا لا أظن أنه في متناول الأجيال الحاضرة من العلماء.
وبين هاتين المنطقتين – المنطقة المستعصية والمنطقة البعيدة التحقيق – هناك مجالات كثيرة يمكن قبول مناهج العلوم الاجتماعية فيها، ومن هذه المجالات:
مجال إعمال العقل كمصدر للأحكام، فالمباحث التي تكلم فيها الكلاميون في مسألة العقل يمكن تطعيمها بكثير من مناهج العلوم الاجتماعية وما وصلت إليه من أدوات، وذلك لتحقيق أيسر لمقاصد هذه المسألة.
وكذلك مجال إعمال العقل كمنهج – وليس كمصدر – للأحكام … وهي ما يعبر عنه “بالمصادر المختلف فيها” … كالقياس والاستحسان والاستصحاب والمصلحة المرسلة وسد الذرائع وغير ذلك، فجميع هذه المصادر يقوم بتوظيفها العقل البشري … وتعطي مجالاً لتدخل مناهج العلوم الاجتماعية في هذه المصادر.
وهناك أيضًا مجالات اعتماد التجربة الإنسانية للشعوب والبلاد المختلفة في عدة نواح … وعلى سبيل المثال في تحويل القيم والأحكام إلى مؤسسات. فبدلاً من أن نظل نتحدث عن الشورى كمبدأ يمكننا أن نترجم هذا المبدأ إلى مؤسسة مستفيدين من التجارب الأخرى، ونفس الشيء في الزكاة وغيرها، ولعل تجربة البنوك الإسلامية خير دليل على ضرورة ترجمة المبادئ إلى مؤسسات.
وأخيرًا هناك مجالات الصلة بين الحكم التكليفي والواقع، ففي عدة مراحل يقف الفقيه أو المجتهد أمام الواقع، حيث يستدعي الإعمال الصحيح لقواعد أصول الفقه، بالتعرف على الواقع، فأول هذه المراحل هي تعرف المجتهد على الواقعة محل الاجتهاد … وهذه الواقعة الآن لم تعد معاملة بسيطة وإنما أصبحت ظواهر معقدة … لابد أن يستعين بمختلف المناهج حتى يتعرف عليها. ثم تأتي مرحلة تحديد مضمون العرف، فإذا اعتبرنا العرف مصدرًا من مصادر التشريع، فإنه لا يمكن أن يصل إليه المجتهد وهو في برجه العاجي، ولكن لابد من التعرف إليه، وهذا من صميم عمليات البحث الاجتماعي التي يتم التوصل إليها بمناهج علم الاجتماع.
وهناك القواعد اللغوية التي وجدت بداياتها في علم أصول الفقه، ولكن علم اللغة عمومًا لم يتطور التطور الذي بلغته علوم اللغة في الغرب، والتي بدأ ينظر إليها على أنها علم اجتماعي يرد عليها كثير من الأساليب البحثية المتغيرة، مما أنتج داخليًا علومًا حديثة مثل دلالات الألفاظ وتطورها Semantics، وقد يقول البعض إن اللغة مرتبطة بالقرآن ولا يجوز عليها التطور … ونرد فنقول إنه لم يقل أحد بتطوير لغة القرآن، وإنما تطوير ما يطرأ على اللغة نفسها ومضامينها نتيجة تعامل الأشخاص بها، وما تخضع له من مباحث مختلفة بدأ تدريسها – الآن – في كلية دار العلوم وغيرها من الكليات التي انفتحت على هذه العلوم الحديثة.
وعند تطبيق الحكم الشرعي على واقعة معينة فإنه يلزم لمن يقوم بالتطبيق – سواء كان من السلطة التنفيذية أو من السلطة القضائية – التعرف على الواقعة التي يطبق عليها الحكم، وهنا نجد أنفسنا أمام مجال آخر لتطبيق مناهج العلوم الاجتماعية.
ثم تأتي آخر مرحلة يصل إليها القاضي أو المجتهد، وهي مرحلة تطبيق الحكم على الواقعة بعد أن تثبت لديه، فالقاضي يقوم أولاً بالتحقيق في الواقعة وإثباتها، ثم التحقق من الحكم الشرعي الذي يطبق على هذه الواقعة، ثم يقوم أخيرًا بتطبيق الحكم الشرعي على الواقعة، وهذا التطبيق نفسه يدخل فيه – إلى جانب الناحية الشرعية أو القانونية – كثير من النواحي النفسية والاجتماعية والاقتصادية التي يراعيها القاضي حتى يكون حكمه مصيبًا للحقيقة، ومحققًا للعدالة.
… إنني أعلم أن هذه الإشارات السريعة تفتقد إلى الأمثلة التي توضح مراميها ولكن الوقت لم يسمح بذلك !
وأشكركم والسلام عليكم ورحمة الله.
د. نصار:
أعتقد أنكم تتفقون معي في أن د. جمال الدين عطية قد فتح كثيرًا من المجالات وهذا شأنه، وأود أن أقول إن هذا البحث الذي أمامكم سوف يطور عما قريب إلى كتاب، لأن الرجل صاحب باع طويل في البحث، وعندما يلمس أي موضوع لا يتركه حتى ينهيه.
وكما ترون فإن الموضوع متشعب، ونقاطه متعددة، حيث أراد د. جمال أن يثيرنا ويشحذ فكرنا لكي نناقش … والباب مفتوح أمام حضراتكم لمن يريد أن يستوضح أو يستفسر أو يعلق.
أ.د. محمود قنبر(*):
بسم الله الرحمن الرحيم … لقد سعدت كثيرًا بسماع هذه المحاضرة الثرية وبهذا العرض الطلي والجلي لأستاذنا الكبير د. جمال عطية. والواقع أنه يجمع في شخصه عقلية الفقيه، والأصولي، والمحدث، والعالم الاجتماعي، والمجرب، والخبير. ولذلك كان عرضه جامعًا شاملاً لجوانب كثيرة على درجة كبيرة من الأهمية.
ولقد أثارت هذه المحاضرة في خاطري كثيرًا من التساؤلات والملاحظات، وسأكتفي في نقاط سريعة بالإشارة إلى بعض منها:
أولاً: كان الفقه في العصر القديم هو كل شيء في العالم الإسلامي، فالفقيه كان يجمع بين النقل والعقل وبين العقيدة والشريعة والمجتمع. فكان علم التوحيد هم علم الفقه الأكبر، وكان الفقيه على درجة كبيرة من العلم بالحديث، ويدل مسند ابن حنبل على اتصال الفقيه الوثيق بالحديث وعلم الحديث، وكان الفقه أيضًا هو النظر في المجتمع والسلوك والأحوال الاجتماعية، كما كان الفقه مشرعًا عظيمًا في المجتمع الإسلامي، ولهذا لم يكن غريبًا أن قالوا إن الحضارة الإسلامية كانت حضارة فقهية، وإن عظمة الإسلام انحصرت في هذا الرقي والتفتح الفكري للفقهاء الذين استوعبوا أصول الشرع ومعطياته وأغراضه ومقاصده، ثم انفتحوا على العالم وأحوال النفس والمجتمع وطبقوا الشريعة في مجتمعات تنمو وتتحرك وتتطور، ولكن جاءت عصور تجمدت فيها الشريعة في معطياتها الاجتهادية أو الابتكارية أو الإبداعية أو المتطورة كما كانت في العصر القديم. ولعل هناك من الظروف السياسية والدينية ما أدى إلى هذا التجمد في الفقه. واليوم، ومع هذا التقدم العلمي المذهل – الذي أشار إليه د. جمال عطية – أصبح لنا وقفة مع الفقه، فالفقه اليوم – على كثير من ألسنة الفقهاء المسلمين – أصبح تقليديًّا جامدًا. ففقيه اليوم لم يعد كفقيه الأمس، هذا العالم الموسوعي المستنير العقلاني والنقلي، العقيدي والفلسفي. فأصبحنا عندما نستفتي فقيهًا نستمع منه فقط إلى ما قاله أبو حنيفة، وما قاله الشافعي، وما قاله فلان … وفلان … ويتجاهل العصرَ ومعطياتِه وروحَه. فهل هذا يرجع إلى قصور الفقهاء عن مجاراة التطور العلمي المذهل والسريع في هذا العصر ؟!
إن في هذه المحاضرة دعوةً إلى أن تكون لنا أرضية فكرية جديدة لطرفين من العلماء … علماء الدين وعلماء العلوم الاجتماعية الحديثة. فليس لعالم اجتماع يعيش في أرض إسلامية أن يتجاهل الدين وأصوله ومعطياته، وإلا جاءت نظرته غريبة ومشوهة ومبتورة. كما أنه ليس لعالم الدين أن يتجاهل الروح العلمية، فالإسلام دين علم، وقد حثنا على طلب العلم حتى ولو كان في الصين، وعلى طلب الحكمة حتى ولو كانت عند المشركين.
وهذه الفجوة الكبيرة بين علماء الدين وعلماء العلم الحديث هي التي أدت إلى تجمد الفقه في هذا العصر.
وحقيقة فإن الدعوة التي أطلقها د. جمال عطية فيها كثير من التأمل والنظر، وفيها أيضًا نقاط جدلية وربما خلافية، ولكنه شيء صحي وسليم ولابد منه.
فقد قالوا إن الحضارة الفقهية قد جمدت حضارة الإسلام بشكل عام في العصور الأخيرة، لأن الاجتهاد في النص أو في اللغة كان محدودًا، ولم يأت بجديد، في حين أن العالم الغربي قد أدخل المنطق التحليلي في التطور العلمي. فنحن نريد تطويرًا لغويًّا يستند إليه فالعلم لم يعد كما كان في القديم “ذات عارفة وموضوع مدروس”.
كما أن الصفات الأخلاقية – التي أشار إليها د. جمال عطية – مثل أن يتحلى العالم بالصبر والموضوعية والقدرة على التجريب والابتكار، قد اختفت في الابستمولوجيا الحديثة، فالعلم قد أصبح “صُنْعي”، أي يصنع أشياء جديدة لم تكن معروفة بالمرة. ولم يعد العلم مجرد موضوعات مقروءة، فالواقع لا يتكلم عن نفسه والعلم لا يقدم نفسه في آيات. وإنما أصبح معايشةً وخلقًا وصنعًا وابتكارًا. وهذا يتطلب مهاراتٍ وقدراتٍ جديدةً، وليس صفاتٍ أخلاقيةً فقط.
وباختصار فإن المعرفة الدينية الاجتماعية التي تقيم حضارة، يجب أن تقوم على أسس علمية موسعة وكبيرة، وهذه هي الركيزة التي أكد عليها أستاذنا الدكتور جمال الدين عطية. وشكرًا.
د. أحمد حمد أحمد(*):
السلام عليكم … وبسم الله.
إنني لن أضيف شيئًا إلى ما قاله د. محمود قنبر في وصف الدكتور جمال عطية … أريد أولاً أن أركز على النقطة التي أثارها د. قنبر، والخاصة بالخلط بين الفقه بمعناه العام، والفقه عند النظر لفقهاء اليوم أو لفقهاء العصر المتخلف. فالفقه بمعناه اللغوي فهم كل شيء. وبذلك يدخل تحت نطاقه أي مجال من مجالات الحياة. والفقه في الشريعة هو استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، أي من مصادر الوحي، وفي كل مجالات الحياة. ومن هنا فإنني لا أوافق على قول د. جمال عطية بإخراج الاقتصاد والمجالات الأخرى من الفقه. فهي داخلة فيه وكلها مجالات حياة لابد من تسليط نور الفقه والفهم عليها.
النقطة الثانية: أن الإجماع عبارة عن رأي جماعي، والاستفتاء أو الفتوى عبارة عن رأي فردي. بمعنى أن المفتي يرى رأيًا فرديًّا، أما الإجماع فإنه رأي جماعي، وكلاهما لابد أن يتم في نور القرآن والسنة.
النقطة الثالثة: أثار د. جمال عطية موضوع “أن النساء ناقصات عقل ودين” وموضوع “أن العسل شفاء للناس”، وقال إن هذين الموضوعين يحتاجان إلى بعض الضبط والإحصاء.
والواقع أن هذه المسألة ليست في حاجة إلى إحصاء … لأن القرآن هو الذي قال بها.
النقطة الأخيرة … أن د. جمال عطية يكاد يفرق بين الرأي والوحي، فالوحي عند نزوله كان يتم انتظاره حتى يقول كلمته، رغم أنه كانت هناك فرصة لاجتهاد الرسول r في هذا الوقت. ولكن بعد تكامل الوحي الذي دعا إلى تحرك جميع الإمكانيات العقلية، أصبح الرأي جزءًا من الوحي. وعندما نعود إلى العقل فإننا نجد أن هناك عقلاً منضبطًا، وعقلاً غيرَ منضبط، والعقل المنضبط بالوحي هو الذي يجب أن نسير عليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
د. جمال عطية:
بالنسبة لموضوع خروج الاقتصاد من الفقه، فأنا لم أقل بهذا.
واعتقد أن د. حمد قد جاء متأخرًا وبعد أن شرحت التفرقة بين الشق الموضوعي والشق القيمي في كل علم من العلوم.
فما يوجد من أحكام المعاملات في الفقه هو الشق القيمي الذي نلتزم به، ويجب أن يظل جزءًا من الفقه ومنضبطًا بقواعده. ولكن علم الاقتصاد شيء آخر غير هذا … فهو تحليل للظواهر الاقتصادية وعلاقتها ببعضها البعض، أي أنه علم اجتماعي غير خاضع لهذا. وإكمال الشقين هو الذي يكوِّن علم الاقتصاد الإسلامي. وخلاصة القول إن هناك شق موضوعي نتوصل إليه بالبحث، وشق قيمي أو معياري وهو موجود في كتب الفقه.
– بالنسبة للمثال الخاص بالنساء والعسل … فقد ضربته بسرعة لأن الوقت لم يتسع للشرح. فالحديث الشريف عندما يقول “إن النساء ناقصات عقل ودين” فإن هذه حقيقة، ولكنها لا تصلح لاستمداد قواعد يمكن تطبيقها عمليًّا … فهل حجم العقل أقل … أم وزنه أنقص … أم وظائفه أقل … هل الذاكرة أضعف ؟
وهذا هو المجال الذي يفتحه هذا الحديث الشريف! فالحديث ينبه إلى وجود فارق … ويجب ألا نقف عند هذا، ونحاول أن نفهم هذا الحديث. وفهمنا له هو الذي يؤدي بنا إلى اكتشاف الحقيقة العلمية. ونفس الأمر في موضوع العسل.
وقد عالج ابن القيم هذا الموضوع في كتابه، وقال إنه قد تبين أن الأمراض المتعلقة بالكبد يضرها العسل …
وقال إننا في هذه الحالة نكون أمام نص آخر يقول: “لا ضرر ولا ضرار”، ويجب تطبيق قواعد التعارض بين النصوص عليها. وأنا لا أتفق معه في ذلك، حيث إنني أنظر إلى المسألة بمنهج مختلف … فهذه الآية المتعلقة بمسألة علمية موضوعية وليس بمسألة تكليفية يجب ألا تفسر بمنهج التعارض بين النصوص، وإنما يجب فحص هذا العسل علميًّا في المختبر لنعرف ما هي الأمراض التي يعالجها، والأمراض التي لا يعالجها، وهذا لا يصادم الحقيقة العلمية التي نص عليها القرآن. فالآية الكريمة تنبه إلى كيفية الاستفادة من العسل وما هو وجه العلاج فيه إلى آخره، وأعتقد أن هذا المنهج هو ما جعل المسلمين الأوائل روادًا في العلوم المختلفة، وهو ما نبه إليه ابن خلدون في مقدمته حين قال إنني لن أقف عند التفسير اللفظي كما ذهب غيري، وإنما سأحاول تجاوز هذا التفسير اللفظي إلى بحث العلوم المختلفة.
– بالنسبة للموضوع الأخير الخاص بأن الرأي جزء من الوحي، فإنني لم أقل بغير هذا، واتفق مع د. حمد تمامًا في أنه بعد انتهاء الوحي قد أصبحت التوجيهات الواردة فيه قاعدة لنا في سلوكنا.
أ. د. محمد محمد حسنين(*):
بسم الله الرحمن الرحيم … هناك مسائل أتناولها بالتعليق.
المسألة الأول: وتتعلق بموضوع تأثير المسلمين في الغرب.
فدائمًا وأبدًا نسمع من المحاضرين كلما اقترب أحدهم من موضوع تأثير المسلمين في الغرب قال: وسنمر مرورًا سريعًا !! حتى أصبح تأثير المسلمين في الغرب غير معروف حتى الآن. وأريد أن يكون لدى أحدهم الشجاعة ليتوقف لكي يقول بالضبط ما هي الأشياء التي أثرنا فيها في الغرب !
المسألة الثانية: وتتعلق بتركيز الباحثين الغربيين في عصر النهضة على المناهج الإسلامية العملية. ففي الواقع أنهم ركزوا أيضًا على المناهج النظرية البحتة. ففي مسألة الأديان، فإن ابن حزم معروف في الغرب بمنهجه في نقد الأديان … وكل من بدأ في دراسة الكتاب المقدس ونقده مثل سان سيمون وغيره قد اعتمدوا جميعًا على ابن حزم، ونبهوا – من حسن الحظ – إلى ذلك، فالمسألة إذن لم تقتصر على المناهج العملية وإنما تجاوزتها إلى المناهج النظرية.
أما المسألة الثالثة: فخاصة بمنهج أصول الفقه والمناهج الاجتماعية.
والحقيقة فإنني أعترف بعدم معرفتي بأي منهج من المناهج التي تحدث عنها د. جمال عطية، وكان يجب إعطاء الحاضرين فكرة مبسطة عن هذه المناهج حتى نكون على دراية بماهية الموضوع الذي نتحدث فيه.
المسألة الأخيرة … ما هي العلاقة بين علم أصول الفقه وعلم الاجتماع …
فمن المعروف أن علم الاجتماع، علم علماني … وعلم أصول الفقه علم ديني …
فهل تريد أن تجعل علم الاجتماع علمًا دينيًّا. أم تريد أن تجعل علم أصول الفقه علمًا علمانيًّا ؟! أم تريد إحداث نوع من الدمج بينهما.
أرجو توضيح هذه المسألة … وشكرًا.
د. جمال عطية:
– بالنسبة لموضوع تأثير المسلمين في الغرب، فإنني أرى أنه لا يحتاج إلى شجاعة لعرضه، وإنما يحتاج إلى تخصيص ندوة له. تفصَّل فيها الأمور.
– وفي موضوع تفصيل المناهج فقد ظننت أن المناهج المختلفة معروفة للحاضرين مثل منهج الاستنباط والاستقراء والتجربة التاريخية والمناهج الإحصائية المختلفة. كما أن الوقت لم يتسع لشرحها وشرح مراحل وتطبيقات كل منها في العلوم المختلفة! فهذه مسائل يطول شرحها.
– لو وقفنا عند كون أصول الفقه علمًا دينيًّا، والاجتماع علمًا علمانيًّا، لما كان هناك داعٍ لعقد هذه الندوة. لتظل القطيعة والازدواج الثقافي قائمين. ونحن نحاول تجاوز هذه المرحلة. وما قلته ليس إلا محاولة متواضعة في هذا الاتجاه.
د. علي محيي الدين القرة داغي(*):
بسم الله الرحمن الرحيم
حقيقة نشكر أ. د. جمال عطية على إثارته لهذا الموضوع الحساس … وهو الربط بين العلوم التكليفية والعلوم الاجتماعية. حيث إن هذا الربط يعد شيئًا رائعًا جدًا … فلو أمعنا النظر في حضارتنا الإسلامية لوجدنا أن هذا الربط كان موجودًا وسائدًا فيها. فالعلوم التكليفية لم تنفصل يومًا من الأيام عن العلوم الاجتماعية. وكان ازدهار أحدهما مرتبطًا بازدهار الآخر. فحينما كان هناك محدثون وفقهاء مجتهدون، كان هناك أطباء ومهندسون. وحينما كان المسلمون يوقفون أموالهم على مدارس الطب كان هناك أيضًا ازدهار لمدارس الحديث. وهذا شيء يشهد عليه التاريخ.
النقطة الثانية أن علم أصول الفقه – كما لا يخفى على حضراتكم – يتضمن ثلاثة أمور. وقبل أن نذكرها، يجب أن نحرر محل النـزاع – كما يقول العلماء !
فما المراد بالفقه هنا ؟! والمراد بالفقه هنا عندما يكون مضافًا إليه لعلم أصول “الفقه” … ليس الفقه العام الذي فسّره الإخوة الفضلاء. صحيح نحن معهم في أن لفظ الفقه قد حدثت له عدة تطورات. فكان يشمل الفهم بمعناه العام الذي يشمل جميع العلوم … ولكنه هنا يراد به علم خاص وهو معرفة الأحكام الشرعية، وأصول الفقه تعني أصول معرفة الأحكام الشرعية، وهذه الأصول كما ذكرها العلماء تتضمن ثلاثة أمور: دلائل الفقه، وكيفية الاستفادة، وحال المستفيد. واعتقد أن هناك علاقةً مباشرة بين هذه الأمور ! وهذه الأمور يمكن الاستفادة منها في العلوم الأخرى، ويمكن استفادتها من العلوم الأخرى. فعلى سبيل المثال فإن القواعد الطبية قد أثرت في تفسير الآية )فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ( [النحل: 69]. فعندما وصل الطب إلى أن العسل ليس شفاء لكل الأمراض، بدأ علماء أصول الفقه في إعادة التفكير في معنى الآية، وقالوا إن الآية لم تقل إن العسل فيه شفاء لجميع الأمراض. وأن كلمة شفاء جاءت “منكرة”، ولم تقع هذه الكلمة المنكرة في حدود النفي حتى تكون عامة. والفكرة تدل على مطلق الماهية.
وهنا نلاحظ إفادة علوم الطب وعلوم الاجتماع في أصول الفقه !
النقطة الثالثة: أنه في قضية العلاقة بين العقل والنقل. فإنني أرى أن قضايا العقل والنقل توأمان كما عبَّر عنهما الإمام الغزالي. فالعقل خادم للنقل الصحيح، وكل أصول الفقه حتى في النصوص القاطعة لا تخلو من استعمال العقل في الفهم والاستنباط واستثمار النص – ومن هنا فإن العقل يدخل دائمًا في النقل. كما أن النقل يفيد العقل. فهو يرشده. وعلى سبيل المثال فإن النقل قد حدد أماكن العقل ومجالاته … حتى إنه وفر جهوده في البحث فيما وراء الطبيعة حتى يستثمرها في الأمور المادية. وشكرًا.
د. سيد الحسيني(*):
الواقع أن هذه المحاضرة تعكس تمكنًا واضحًا من مناهج البحث في العلوم الاجتماعية ومناهج البحث في العلوم الإسلامية.
والحقيقة أن لي عليها تعليقات أكثر منها تساؤلات …
ففي معالجة د. جمال عطية لمشكلات العلوم الاجتماعية المعاصرة، فإنني رغم اتفاقي معه، أريد أن أضيف أن هناك سببين في تخلف العلوم الاجتماعية حتى الآن … وهما:
1- سيطرة نموذج العلم الطبيعي على العلوم الاجتماعية التي أخذت نموذج العلم الطبيعي الذي يقوم على المعارف الكمية الدقيقة والتفسيرات الضيقة النطاق. وقد جعل العلوم الاجتماعية علومًا محدودة وقاصرة في الموضوعات والتفسير.
ولذلك وصلت هذه العلوم إلى مراحل الأزمة ! حيث إنها قامت على منطق التراكم، بمعنى أن البحوث المتراكمة سوف تؤدي في النهاية إلى مزيد من الفهم، وهو ما يسيطر على العلوم الطبيعية، ولكنه غير ملائم للعلوم الاجتماعية التي تحتاج إلى نوع جديد من الفهم وإلى منهجية جديدة.
2- قضية الموضوعية، المستعارة – إلى حد كبير – من العلوم الطبيعية. ففكرة الموضوعية تعني أن تكون حياديًّا، وتنظر إلى الظاهرة من الخارج. وكان لهذه الفكرة تأثيرها البالغ السوء على العلوم الاجتماعية. فالموضوعية في العلوم الاجتماعية – كما أعتقد – تعني أن تثبت منطلقاتك، لا أن تخفي منطلقاتك. أما التضليل الذي حدث في الفترة الأخيرة فإنه يعود إلى الموضوعية المزيفة المأخوذة من نموذج العلم الطبيعي ولم تؤد إلى شيء. فقد ساعدت هذه الموضوعية المزيفة على تفريغ العلوم الاجتماعية من الموضوعية.
النقطة الثانية: أنني أعتقد أن الإسلاميين كانوا على درجة عالية من الإبداع في أسلوبين منهجيين … الأول هو أسلوب الإسناد، والثاني هو أسلوب الإجماع. فقضايا الإسناد وقواعده يعد جزءًا من تاريخ طويل جدًّا في مناهج البحث الاجتماعي، لا نجد له نظيرًا في أي حضارة أخرى – فهو إنجاز إسلامي منهجي.
النقطة الأخيرة: هي أنني كنت أود أن استمع لرأي د. جمال عطية في أعمال “على شريعتي” وكتاباته. ومحاولاته لإيجاد حلقة وصل بين الثقافتين الإسلامية والغربية. وشكرًا.
د. جمال عطية:
– لقد أشرت إلى مناطق الإسناد والإجماع، وذكرت أن علم الإسناد يدخل ضمن المنهج التاريخي فيما يتعلق بالتثبت من الواقع، وتحليل الواقعة. وبالتالي يمكن الاستفادة من العلوم الاجتماعية !
– أما فيما يتعلق بمحاولات على شريعتي فإنني اعتبرها محاولات لم تكتمل؛ لأنه استشهد وهو في مقتبل إنتاجه العلمي، ونرجو أن يكمل علماء الاجتماع المسيرة إن شاء الله.
د. محمد السيد دسوقي(*):
بسم الله الرحمن الرحيم …
أود أن أشير إلى قضية لعلها تكون – كما أرى – الفيصل في كل المشكلات … وهي أن العلم في الإسلام له منطلق أساسي وله غاية واحدة بصرف النظر عن تنوع العلوم واختلاف المناهج الموصلة إليها. ومشكلتنا في المجتمع الإسلامي المعاصر أن هناك علومًا كثيرة مازالت تعيش – حتى الآن – على منطلقات غير إسلامية، وبالتالي ظهرت الثنائية أو محاولات إقامة الجسور بين العلوم.
وينبغي أن نحدد أولاً مهمة العلم أو الفكر في الإسلام … وإذا اتضح ذلك فإن المشكلة سوف تنتهي، وتصبح المناهج الفرعية الخاصة بكل علم قضية إسلامية لا شيء فيها، بل ويكون هناك لون من التعاون بين المناهج، حيث إن من أساسيات المنهج العلمي، أنه لا يمكن لأي فرع من الفروع أن يستقل بمنهج واحد. وعلى سبيل المثال فإن المنهج التاريخي لا يمكن أن يستقل بعلوم التاريخ التي تحتاج إلى المنهج الاستقرائي أحيانًا، ويحتاج الاستقرائي إلى الاستنباطي والتاريخي. إذن هناك تعاون وتكامل بين المناهج العلمية كلها. فعندما نصل إلى أسلمة المعرفة، بحيث تصبح المعرفة كلها إسلامية، فسوف تنتهي المشكلة، ويصبح الطبيب والمهندس والاجتماعي والفقيه والأصولي، على أرضية واحدة وإن اختلفت الوسائل في تخصصاتهم. وشكرًا.
د. جمال عطية:
ليس لدي اعتراض، ولكن هناك فقط توضيح يتمثل في أن ما قلته عن علم القواعد والخلاف وغيره إنما هو إشارة إلى علوم تكاد تكون قد اندثرت، ولا تدخل ضمن مقررات أصول الفقه الدراسية. وهذا فضلاً عن التنبيه إلى اختلاف المناهج المستخدمة. بمعنى أن علم الاختلاف يستخدم أصلاً المنهج المقارن، بل إنه هو المنهج المقارن نفسه. أما علم القواعد فإنه يستقرئ الجزئيات ويخرج منها بالكليات، وبذلك فإنه علم استقرائي يختلف في منهجه عن علم أصول الفقه. ولا يغني هذا عن أن جميع هذه العلوم يكمل بعضها بعضًا.
د. عبد الستار محمد علي نوير(*):
بسم الله الرحمن الرحيم …
أولاً: نشكر الأستاذ الدكتور جمال عطية على هذا الجهد العلمي … وبارك الله فيه. لي ملاحظات ثلاث ..
الأولى: خاصة بتعبير جرى على لسان د. جمال عطية في قوله تعالى: )فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ( [النحل: 69]، حيث قال بأن نأخذ الآية كفرضية علمية ثم نجرب …
وأقول إنه مادامت الآية صريحة فلابد من الإيمان بها سواء أثبتت التجربة أو لم تثبت، فنحن نتهم التجربة ولا نتهم كلام الله. فقد تقصر التجربة أو قد يضلل أصحابها لأنهم كفار يكيدون للإسلام، أو قد يعجزون، ومثال هذا أنه لما نزل قوله تعالى: )وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ( [الذاريات: 49]، لم يكن أحد يعرف الزوجية إلا في الإنسان والحيوان والنخل، ولكن “قالوا آمنا به كل من عند ربنا” … حتى جاءت العصور التالية والحديثة فأثبتت هذه الكلية. كما أن الآية لا تستدعي التعارض. كما أن الفكرة في سياق إثبات وليست في سياق النكرة. والواضح هنا أن القرآن لم يقل إن العسل شفاء للناس، وإنما قال: )فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ(، وهذا لا يمنع أن يكون ضارًّا في بعض الجوانب، وحينئذ ينتفي التعارض الذي قال به ابن القيم، ولا يحتاج الأمر إلى تأويل.
الملاحظة الثانية: أنه كان بودي أن يفرق د. جمال عطية بين علم الاجتماع والعلوم الاجتماعية. وهل يمكن أن يفيد الأصولي من كل منهما على مستوى واحد ؟!
فهناك فارق بين علم الاجتماع والعلوم الاجتماعية.
أما الملاحظة الثالثة والأخيرة: فإنها تتعلق بعلم أصول الفقه والعلوم الاجتماعية. فأنا أقول إنه لا يستطيع علم الأصول أن يحل مشكلات العلوم الاجتماعية كلها. ولابد من اشتراك علم العقيدة معه. حيث إن جانبًا كبيرًا من العلوم الاجتماعية يقوم على الاستقراء، ونحن نعلم أن الاستقراء له مشكلة عتيدة لم يستطيعوا في الغرب حلها، وهي كيف تجري التجارب على عينات معدودة، وتأتي النتيجة كلية ؟!
ولا يحل هذه المشكلة سوى العقيدة، على أساس أن الله سبحانه وتعالى له نظم مطردة لا تتخلف، كما قال: )وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً( [الأحزاب: 62]، )وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً ( [فاطر: 43].
والسلام عليكم ورحمة الله.
د. جمال عطية:
– فيما يتعلق بآية العسل، فإننا لسنا في مجال الإيمان أو عدم الإيمان فنحن مؤمنون بالآية وإنما نحن نريد أن نستفيد منها.
أما التعبير بالفرضية فإنه لا يعدو أن يكون استخدامًا للمصطلح في العلوم التجريبية.
ونفس الأمر في الآية الخاصة )وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ(، فلو أننا اكتفينا بالموقف السلبي. وهو الإيمان بها، لما وصلنا بالبحث إلى اكتشافه عن طريق العلم الصحيح وهو أن الزوجية موجودة في كل شيء. ويجب في هذا الصدد أن نكون نحن الرواد، وذلك لن يكون إلا بالوقوف عند كل آية وكل نص يتعلق بالسنن، ونحاول أن نتقدم إلى إثباته كقانون، والاستفادة منه في حياتنا.
– أنا لم أتكلم عن علم الاجتماع وحده وإنما قصدت العلوم الاجتماعية جميعًا، وأشرت إلى علوم الاقتصاد واللغة والنفس والسكان … الخ.
– لا يستطيع علم الأصول – بالفعل – حل جميع المشاكل … ويلزم العقيدة بجانبه بطبيعة الحال، ولكن لا هو ولا العقيدة مجتمعين يكفيان كمنهج، إذ لابد من تكامل المناهج جميعًا. لأن الحقيقة يجب أن تتضافر عليها جميع السبل !
د. حامد طاهر حسنين(*):
نشكر الأستاذ الفاضل الكريم الدكتور جمال عطية على هذه المحاضرة القيمة التي أفادتنا كثيرًا، وأتاحت الفرصة لإبداء الملاحظات.
– في موضوع علاقة أصول الفقه باللغة، فقد ورد أن أصول الفقه هو الذي اخترع وعرفنا كيف نحدد المصطلحات اللغوية حتى نستفيد منها في فهم النصوص. والواقع أن هذا الموضوع جزء من علاقة اللغة بالمنطق، وبصفة خاصة، بمنطق أرسطو، وقد استفاد الإمام الشافعي t من هذا وحدد في كتابه موضوع الدلالة.
– بالنسبة لحاجة أصول الفقه إلى العلوم الاجتماعية، فإنني أرى أنه ليس في حاجة إلى كثير من العلوم الاجتماعية. ولكن الفقيه نفسه هو الذي يحتاج إلى كثير من هذه العلوم وغيرها. وبالتالي فإن هذا الموضوع إنما يدخل في ثقافة الفقيه المعاصر.
– أرى أن من الموضوعات التي تستحق الدراسة موضوع المنهج عند المسلمين في تطوره وازدهاره وتطبيقه في كثير من المجالات الدينية والدنيوية، ثم تعثره، فليس هناك شجاعة لبحث كيفية وأسباب هذا التعثر عند المسلمين ! وشكرًا.
د. محمد عبد الغني شامة(**):
بسم الله الرحمن الرحيم …
نشكر الأستاذ الدكتور جمال عطية على هذه المحاضرة.
.. الحقيقة أنني أريد أن أعلق على ما ذكره بعض الإخوة من آراء، وهي تتعلق بالعلاقة بين النقل والعقل. فقد ظهرت نغمة هنا تقول إن العقل والوحي واحد … وقال البعض انه بعد انقطاع الوحي أصبح العقل هو الوحي … وهذه في الحقيقة عبارات مطاطة. فلا شك أن العقل يقع في مشكلات وصراعات كبيرة جدًّا مع الوحي، وستظل هذه الصراعات إلى أن تقوم الساعة. فحتى علماء الكلام المختصون بالعقل، كان هناك خلاف بين الأشاعرة وبين المعتزلة حول العقل. فقد كان المعتزلة يستعملون العقل في مدى أوسع مما يستعمله الأشاعرة. كما أن البعض يقول بأن الحركة العقلية التي وجدت في المجتمع الإسلامي لم تكن عامة لدى العلماء، ولكنها كانت محور اهتمام الخاصة فقط. وحتى فيما اثرتموه الآن، هناك دليل على أن هناك صراعًا بين العقل وبين النصوص، وحتى لا يساء فهم ما أقوله، فإن الصراع ليس من أول سلم العقل، ولكنه يبدأ من درجة معينة. بمعنى أن العقل يفهم النص ويتماشى مع كثير من النصوص ولكنه يقف عند بعض الأشياء. والدليل على ذلك أن الكثيرين مازالوا يرفضون الإجماع الذي يعد مصدرًا من مصادر التشريع.
خلاصة القول إن العقل ليس دائمًا مع النص أو مع الوحي أو مع الفقه، وإنما هو يسير معه إلى درجة معينة ثم يفترقان.
وهذه سنة الله في الخلق التي ستظل إلى أن تقوم الساعة. وشكرًا.
د. جمال عطية:
في الحقيقة فإن موضوع العلاقة بين النقل والعقل موضوع كبير، ولكن تسليمنا بأن الله هو الذي أرسل الوحي، وهو الذي خلق العقل، يجعلنا نسلم مبدئيًّا بأنه لا يوجد بينهما تعارض، مادام المصدر واحدًا. ولكن افتراض حالات التعارض بينهما تم بحثه.
ويوضح مؤلَّف ابن تيمية الكبير “درء تعارض العقل والنقل” أنه حتى إذا حدث هذا – بشروط معينة – فيجب أن تكون الحقيقة العقلية أو العلمية مقطوعًا بها، وأن يكون النص الشرعي قطعيًّا في وروده وفي دلالاته، لكي يكون هناك تعارض، وحتى إذا حدث هذا التعارض المشروط – وهو مستبعد – فإنه يجب أن يُقدم العقل على النقل. فهناك إذن قواعد للتعارض ولا أرى داعيًا لتضخيم المسألة حيث إنها أقرب إلى النظرية منها إلى الواقع !
د. شعبان محمد إسماعيل(*):
بسم الله الرحمن الرحيم …
بعد تقديم خالص الشكر والتقدير لأستاذنا الدكتور جمال عطية … أقول إن لدي استفسارًا في قضية الاتساع في اللغة العربية، وهي قضية خطيرة. ويجب ألا نقيس أنفسنا إلى الغرب الذي يضيف كل يوم جديدًا إلى لغاتهم، فهم لهم ما يشاءون.
الأمر الآخر … أن الربط بين علم أصول الفقه وبين العلوم الاجتماعية يدخل تحت موضوع أسلمة العلوم، وذلك لأن علم أصول الفقه ما هو إلا خليط من علوم مختلفة … من علوم اللغة والكلام والجدل … والفقه نفسه كتطبيق. ومن هنا يجب أن يكون الربط شاملاً بين علوم الشريعة والعلوم الإسلامية ككل، حتى نصل إلى الحلقة المفقودة وهي الربط بين العلوم التي لا غنى للمسلم عنها وبين هذه العلوم. وشكرَا.
د. جمال عطية:
– يثير موضوع اللغة العربية دائمًا حساسية – كما قلت – على اعتبار أنها لغة القرآن. وأن مسها بأي كلام يجعل البعض يتصور أن القرآن في خطر. والواقع أن هذا ليس هو المقصود. فالأبحاث التي يقوم بها مثلاً د. عبد الصبور شاهين في علم الأصوات واستخدام الكمبيوتر فيها وتحليل الألفاظ، وغير ذلك من المباحث اللغوية التي تستخدم فيها المناهج والأدوات الحديثة، تعد إثراء لعلم اللغة لم يكن موجودًا من قبل.
ولو أننا أغلقنا باب اللغة بالصورة التي وقف عندها في كتب اللغة القديمة ولم نسمح بأي زيادة أو إضافة، فإننا بذلك نكون قد جمدنا علمًا اجتماعيًّا مهمًّا.
– كنت أتوقع أن يقول د. شعبان أنه يجب تطبيق علم أصول الفقه على العلوم الاجتماعية. ولكن يبدو أنه يؤثر البعد بين الفريقين. وفي الحقيقة فإنني أرى أنه لابد من التفاعل وضرورة إيجاد قنوات للاستفادة المتبادلة بين جميع علوم المنهج، حتى نصل إلى الحقيقة.
د. محسن عبد الناظر(*):
بسم الله الرحمن الرحيم …
أشكر أستاذنا الكريم د. جمال عطية على ما قام به من جهد لكي يجعلنا نتساءل عن الأشياء التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه من قضايا.
وأعتقد أنه ما أوصلنا إلى ذلك يتمثل في أمرين:
الأمر الأول: هو جمود الفكر الإسلامي في وقت من الأوقات، ذلك الجمود الذي جعل بعض نصوص يُسَلّم بها دون السعي إلى إقامة الحجة والدليل عليها، بدعوى أنها من الوحي. وما سمعناه حول قضية العسل يؤكد ذلك … حيث وقفنا عند دراسة اللفظ ولم ننطلق إلى المختبر وهو ما سبقنا إليه الآخرون، وفي القرآن الكريم إشارات كثيرة لو اتبعها المسلمون وسعوا إلى فهمها الفهم الصحيح والمقنع لكانوا هم الذين اكتشفوا كثيرًا من الآلات التي اكتشفها الغرب.
الأمر الثاني: هو أن الآخرين قد جعلونا ننظر إلى ثقافتنا وإلى منهجنا وإلى حضارتنا – أحيانًا – بعين الاستصغار. فقد ذكر أستاذنا الكريم قضية الإسناد، وهو أول منهج في الإسلام، وهو الذي أقامه المحدثون للتحقق من الخبر، وقد شكك فيه “شاخت” ثم أخذنا عنه هذا التشكيك !، وقد مر د. جمال مر الكرام بمنهج المحدثين، الذي ربما يكون قد تقدم على منهج الأصوليين في الفقه. والذي يذكر مقولة “مالك”: “لا يؤخذ العلم من أربع ويؤخذ ممن سواهم” يدرك أن هذا هو بداية المنهج الذي وضعه المحدثون. وشكرًا.
د. جمال عطية:
الحقيقة أنني لم أمر مر الكرام، وإنما فقط كان لابد أن أحدد موضوعي – كما أشرت في البداية – في أصول الفقه. ولو أدخلنا علوم المناهج الأخرى التي استعان بها المسلمون لطال الموضوع …
تعليقات الطلاب
الطالب الأول:
بسم الله الرحمن الرحيم … الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. جزي الله د. جمال عطية خيرًا عن هذه المحاضرة القيمة. لقد فرق د. محمود قنبر بين علماء الشريعة القدماء والمعاصرين وقال إنهم كانوا قديمًا يمثلون علماء الطب والهندسة .. الخ، وأن المعاصرين ليسوا مثلهم – وأعتقد أن ظروف الفترة الحالية لا تسمح بذلك. ولكن كل في تخصصه عليه أن يطبق قواعد الأصول والشريعة في علمه. فمن المؤسف أن نجد كتبًا تدرس تم نقلها حرفيًّا من الكتب الأجنبية رغم مخالفتها لأمور العقيدة ومبادئ الشريعة.
ونتمنى أن تكون هناك محاضرة أخرى للتوسع في موضوع العلاقة بين علوم الدين والعلوم الدنيوية. وشكرًا.
الطالب الثاني:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته …
الواقع أن لدي استفسارًا أوجهه في الأساس للدكتور شامة … هل النصوص الشرعية، والعقل يسيران في خطين متوازيين تمامًا لتحقيق العدالة؟! وشكرًا.
د. نصار:
أشعر أننا قد أفدنا كثيرًا في هذا اللقاء وإن كان لي من كلمة أخيرة، فهي أن المحاولات التي بذلها د. جمال الدين عطية لإيجاد جسور تفاهم بين علم أصول الفقه كمنهج للتفكير الإسلامي وبين العلوم الأخرى، إنما أرادت أن تقول لنا: إن هذه المحاولة ما جاءت إلا من الرؤية الازدواجية لمعنى العلم في الإسلام. وهذا خطأ بلا شك … فالإسلام لا يعرف علومًا إسلامية وعلومًا غير إسلامية. حتى العلوم التي يقال إنها تجريبية بحتة.
وأذكر بهذه المناسبة أن “عضد الدين الإيجي” صاحب كتاب “المواقف” وهو أكبر كتب علم الكلام عندما أراد أن يحدد موضوع علم الكلام لم يقل ذات الله وصفات الرسل والكتب، وإنما عمم فقال إن موضوع هذا العلم هو الممكن من حيث يتوصل منه إلى إثبات حدوث العالم ثم إثبات أن الله سبحانه وتعالى موجود.
ومن هنا فحتى العلوم التجريبية إذا انطلقت من منطلق صحيح فإنها تخدم العقيدة والإسلام … وعليه فإن الرؤية المزدوجة هي التي أوقعتنا في هذه الإشكالية. ويوم أن تتوحد الرؤية وننظر إلى العلوم كلها على أنها علوم تخدم الإسلام وواقع المسلمين فإننا لن نعنون علم الاجتماع بعلم اجتماع إسلامي أو علم نفس إسلامي، بل يكون علم الاجتماع أو علم النفس في دائرة الإسلام !
أيها الإخوة … في النهاية أشكر باسمكم جميعًا الأخ الدكتور جمال الدين عطية ثم أشكركم مرة ثانية، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
***