ترددت كثيرًا في الكتابة عن المادة الثانية في الوقت الذي تشهد فيه مصر أعظم ثورة في تاريخها على الإطلاق، بل في تاريخ العالم أجمع، غير أنني حسمت ترددي حين وجدت الجدل حول المادة الثانية يتصاعد بشكل عبثي يبدو أنه يسعى إلى تحويلها إلى مصدر إلهاء لأبناء الوطن الذين توحدت دماؤهم في سبيل الدفاع عنه وحمايته على مدى التاريخ بصفة عامة، وأثناء هذه الثورة بصفة خاصة، بدلاً من أن تكون هذه المادة مصدر “إلهام” لهم.
وأبدأ أولاً بإعطاء نبذة عن المادة الثانية والمقصود بها وآثارها، وبعض الإشكاليات التي تحوم حولها، ثم أشير لتصوري عن كيفية جعل المادة الثانية مصدرًا لإلهام المصريين في هذه الظروف المباركة التي نحياها.
المادة الثانية من الدستور تنص على أن: “الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع”. وقد ورد هذا النص في كافة الدساتير المصرية السابقة على دستور 1971م، ما عدا دستور 1958م (دستور الوحدة مع سوريا)، غير أنه لم يكن يتضمن العبارة الأخيرة التي تنص على أن “مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع”، والتي أضيفت في دستور 71 دون الألف واللام، ثم أضيفا إليها في التعديل الأول للدستور عام 1980م، في عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات.
والنصوص الدستورية المتعلقة بالشريعة الإسلامية هي نصوص “كاشفة”، و”مقررة” وليست “منشئة” لمرجعية الشريعة الإسلامية في مصر؛ حيث كانت الشريعة الإسلامية قبلها هي المصدر الأساسي للتشريع فيها منذ فتحها سنة 640م، وحتى إقصاؤها عنوة في عهد الاحتلال البريطاني لمصر سنة 1882م، باستثناء قوانين الأحوال الشخصية التي لم تفلح أيًا من محاولات عزلها عن مصدرية الشريعة الإسلامية.
المقصود بالمادة الثانية:
أما عن المقصود بنص المادة الثانية من الدستور فإنه من المعروف أن هناك اختلافًا كبيرًا بين الفقهاء في تحديد تعريفات جامعة مانعة لما ورد بها من مصطلحات ومفاهيم نتيجة غموض بعضها، ولذا سأورد هنا ما انتهيت إليه من تحديد لمعانيها بشكل مختصر:
“الإسلام دين الدولة” يقصد به أن الدولة تكون ملتزمة في تصرفاتها المختلفة بمراعاة ما يقرره الدين الإسلامي من قيم ومبادئ ومقاصد وأحكام. ونسبة دين للدولة ليست بدعًا بل هي أمر معمول به في كثير من الدول الأوروبية (كالسويد والدنمارك) وأمريكا اللاتينية (كبوليفيا وبيرو)، أما نسبة الفعل لشخص معنوي كالدولة والمؤسسة والشركة هو أمر متعارف عليه وغير منكر.
وبخصوص النص على أن “اللغة العربية لغتها الرسمية” فهو يعني التزام الدولة باللغة العربية في مكاتباتها باعتبار أن هذه اللغة هي الوعاء الذي حفظ القرآن الكريم والسنة النبوية وتراث الأمة وتاريخها، والتخلي عنه يؤدي إلى الانقطاع عن كل ذلك.
و”مبادئ الشريعة الإسلامية” أي كلياتها التي هي ليست محل خلاف بين الفقهاء، كما عرفها العلامة عبد الرزاق السنهوري، أول من وضع هذا المفهوم في النظام القانوني المصري وبالتحديد في القانون المدني الذي صدر سنة 1947م، والذي لازال مطبقًا في مصر حتى الآن، وأنا اختاره هنا كتعريف أدق من ذلك الذي وضعته المحكمة الدستورية العليا في أحكامها بأنها الأحكام الشرعية قطعية الثبوت والدلالة باعتبار أن من الشريعة ما يكون مستمدًا من طريق الاستقراء التام من طرائف نصوص الشريعة (مثل مقاصد الشريعة الإسلامية).
ومعنى أنها “المصدر الرئيسي للتشريع” أي الأصل الذي يتعين على السلطة التشريعية أن تستمد منه تشريعاتها أو على الأقل ألا تصدر أي تشريع مخالف له.
الآثار العملية:
أما عن الآثار العملية لنص المادة الثانية فإنها قد ساهمت إلى حد كبير في الحفاظ على ركن أساسي للهوية الحضارية والثقافية للشعب المصري، غير أنه لم يتم تفعيله بصفة شاملة حتى الآن، ويرجع السبب الأكبر في ذلك إلى تبني المحكمة الدستورية العليا اتجاهًا وصف من بعض الفقهاء أنه جاء لاعتبارات سياسية وليست قانونية، أدى إلى تحجيم آثار نص المادة الثانية زمنيًا وموضوعيًا، بأن جعلت إلزاميته قاصرة على التشريعات اللاحقة للتعديل الذي طرأ على النص سنة 1980م دون السابقة عليه، وكذلك باتجاهها إلى أن الخطاب في المادة الثانية موجه للسلطة التشريعية وحدها، دون أن تفعل شيئًا حيال امتناع تلك السلطة عن تفعيل هذا النص حتى الآن، وهو ما ساعد على إفراغ النص من مضمونه، وعزله عن الواقع التشريعي إلى حد كبير.
وعلى الرغم مما سبق فإن المادة الثانية من الدستور المصري الصادر سنة 1971م، لا زالت هي صاحبة النصيب الأكبر من الجدالات والاتهامات عند أي تعديل مزمع للدستور سواء كانت مدرجة ضمن المواد المراد تعديلها أو لم تكن كذلك، وعادة ما تلقى عليها مسئولية التأصيل للدولة الدينية، وإهدار مبدأ المساواة بين أبناء الوطن الواحد من مسلمين ومسيحيين، فضلاً عن كونها مسئولة عن التهديد بتكبيل الحريات العامة والخاصة لاسيما حريات الفكر والعقيدة والرأي، وتلك الحريات المتعلقة بالملبس والمأكل والمشرب!
وعلى الرغم من أنه مرَّ على وجود المادة الثانية في الدستور المصري أربعون عامًا دون أن تقوم في مصر دولة دينية، أو توجد حالة واحدة حدثت فيها تفرقة حقيقية بين المسلم والمسيحي استندت بشكل قاطع إلى المادة الثانية ونصها، أو حصل اعتداء منها على حرية الفكر وغيرها من الحقوق والحريات، وأن الواقع المصري ينطق بأن المشكلة الحقيقية التي كان يعاني منها الوطن تكمن في “الدولة البوليسية” التي تغولت فيها السلطة التنفيذية حتى صارت مهيمنة على كافة سلطات الدولة، وتقف حائلاً بين الشعب وحريته؛ ولذلك فإنني أذكر باختصار ما يؤكد على براءة المادة الثانية من تلك الجرائم التي تنسب إليها، ثم أتبعه ببيان كيف يتسق وجود المادة الثانية مع أحلام المواطنين جميعًا والتي بدأت تتحقق على أرض الواقع بفضل الله ثم ثورة الخامس والعشرين من يناير.
شبهة الدولة الدينية:
فبخصوص ما أثير حول أن النص يؤصل للدولة الدينية في مصر، فإنه إذا كان المقصود بذلك أنه يؤدي إلى قيام دولة على النسق الغربي في العصور الوسطى أي دولة كهنوتية يتحكم فيها رجال الدين باعتبارهم واسطة بين الناس ورب الناس، فإنه كما هو معلوم بالضرورة “لا كهنوت في الإسلام”، ومن يدّعي أنه وسيط بين الله سبحانه وتعالى وخلقه فإنه يخالف أصلاً من أصول العقيدة الإسلامية، وهو “التوحيد”.
وأما إذا أريد به أنها قد تمثل غطاءً لاستبداد تيار سياسي معين في حكم الدولة استنادًا إلى الدين دون رقيب أو حسيب، فإن هذا تخوف مشروع يتعين أن يكون لدى المسلم وغير المسلم على السواء؛ لأن الاستبداد مدمر للجميع أيًا كان سنده، غير أن هناك أمران يمكن أن يحولا دون حدوث ذلك وهما: أن الحلال في الإسلام بيّن والحرام بيّن، والعلم به متاح للجميع وتقتصر مهمة الحكام على تنفيذ تلك الأحكام تحت رقابة المجتمع الذي أثبتت الثورة مدى نضجه وحنكته.
والأمر الثاني أن تعود عملية الاجتهاد في الإسلام مستقلة عن الدولة كما كانت كائنة على مدى التاريخ الإسلامي؛ فكان يقوم به علماء مختصون بذلك مستقلون – عضويًا وفكريًا – عن السلطة الحاكمة في الدولة، ويستمدون شرعيتهم من ثقة الشعب في علمهم وإخلاصهم، غير أنه حين نشأت الدولة الحديثة في مصر في عهد “محمد علي” تغلغلت في كل شئون الحياة حتى هيمنت بالكامل على التشريع، وزاد الأمر سوءًا أن وقعت هذه الدولة في تحالف مع الاستعمار الغربي قام بإقصاء الشريعة الإسلامية عن المرجعية التشريعية في مصر عدا قوانين الأحوال الشخصية، وأفضل من يقوم بذلك هو مؤسسة الأزهر، على أن تستكمل استقلالها عن الدولة، وأن يتم تمويلها عن طريق الأوقاف الأهلية كما كان الوضع قبل “محمد علي”، وأن يكون شيخ الأزهر منتخبًا من علمائه، وهذا سيسهم بالتأكيد في حرمان أي تيار سياسي من استغلال الدين لتحقيق مآرب سياسية فانية.
المادة الثانية والأقباط:
أما عن الموضوع الأكثر إلحاحًا وهو المتعلق بالإخوة المسيحيين فإن المادة الثانية لا تمسهم بشيء سوى بتقرير أمر يستند إلى الواقع التاريخي الذي لا يمكن التشكيك فيه وهو أنهم ينتمون إلى الحضارة الإسلامية العربية، أو بتعبير السيد مكرم عبيد هم “مسيحيون ديانة مسلمون وطنًا” فهو بالنسبة لهم يتعلق بهويتهم وليس بديانتهم أو شريعتهم، والتي يقر الإسلام بحقهم في أن يحتكموا إليها مع مراعاة النظام العام في الدولة، ولا إشكال حقيقي يمكن أن يعانون منه في ظل وجود المادة الثانية لاعتبارين، أحدهما شرعي والآخر دستوري.
أما الأول: فإن المادة الثانية تتحدث عن مبادئ الشريعة والتي من ضمنها أنه “لا إكراه في الدين”، وأن “لغير المسلمين من أهل الكتاب ما للمسلمين وعليهم ما عليهم”، وأن الأصل في معاملتهم البر والقسط، وهذه من المبادئ الحاكمة للعلاقة بين المسلمين وغيرهم من أهل الكتاب في الدولة المسلمة.
والثاني: أن الدستور نفسه ينص في المادة (40) منه أن “المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة” وهذا نص شامل للمواطنين المصريين جميعًا، وبما أن نصوص الدستور وفقًا لأحكام المحكمة الدستورية العليا لا تتنافر أو تتناقض، فإن نص المادة الثانية يتم تفسيره بصورة لا تتناقض مع المادة (40) من الدستور، ومن ثم لا يترتب على نص المادة الثانية حرمان أي مسيحي من تولي أي وظيفة في الدولة سوى الوظائف ذات الطبيعة الدينية الخاصة، فليس لقسيس، مثلاً، أن يتولى منصب شيخ الأزهر، أو لمسلم أن يكون بابا للأرثوذكس.
وإذا كان الواقع فيه بعض التناقض مع ذلك، بأنه لا يوجد مسيحي يتولى بعض المناصب العليا في الدولة، كقيادة الجيش، أو رئاسة الدولة، أو رئاسة الوزراء، فإن ذلك لا علاقة له بنص المادة الثانية بل يتعلق بأمور أخرى، مثل كون المسيحيين أقلية (عددية) في البلاد والمسلمون أغلبية، والقاعدة هي “حكم الأغلبية وحقوق الأقلية”، وكذلك كون الثقافة الاجتماعية السائدة لا تسيغ تولي غير المسلم بعض الوظائف الحساسة، وهذا أمر تتم معالجته بالعمل الدؤوب لنشر ثقافة المساواة الكاملة بين المواطنين، وعدم تصنيف الناس على أساس دياناتهم إلا فيما يتعلق بالوظائف الدينية بطبيعتها كما سلف، بجانب العمل على اعتماد المؤسسية الكاملة في كافة الوظائف بما يمنع من هيمنة انفراد شخص واحد بالقرار في الدولة، الأمر الذي يخفف من الاعتراض على تولي شخص مثل هذه المناصب أيًا كانت ديانته أو مذهبه.
أما عن الخشية من تسبب المادة الثانية في الاعتداء على الحقوق والحريات العامة للمواطنين باسم الدين، فإن هذا الأمر مردود عليه بأن الفهم الحقيقي للمادة الثانية يجعل المناداة بتفعيلها هدفًا لجميع المواطنين ومنظمات المجتمع المدني باعتبارها تجعل من حقوق الناس (فروضًا) يتعين على الجميع السعي المشروع للحصول عليها، وهذا أمر تتفوق فيه الشريعة الإسلامية على المواثيق الدولية التي ينادي البعض بتحكيمها عوضًا عن مبادئ الشريعة الإسلامية، والتي تجعل كذلك من الحرية مناطًا للمسئولية وترفع التكليف عمن لا يتمتع بها، وتجعلها هي الأصل “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا”.
تفسيرات خاطئة:
أما عن الانشغال بقضايا ومسائل فرعية، كرغبة البعض في فرض الحجاب على النساء عن طريق السلطة الحاكمة، فإن إثارة مثلها يدخل ضمن مشاكل كبرى تتعرض لها المادة الثانية، قد تجد تفسيرها في العناصر الآتية:
1- عدم التمييز بين الشريعة الإسلامية والفقه المأخوذ عنها، سواء كان ذلك ناجمًا عن جهل أو تجاهل، مما يحسب على الشريعة ما ليس منها، كالاعتماد على اجتهاد يتناسب مع زمنه والسياق الاجتماعي والفكري المحيط به، ولا يتناسب مع زماننا.
2- الخلط بين الشريعة الإسلامية والخطاب الإسلامي، وهذا يؤدي إلى أن يظن الناس أقوال بعض الدعاة هي المعبرة عن الشريعة بينما يعاني خطاب هؤلاء الدعاة من جهل فادح بفقه الواقع، وفقه الموازنات، وفقه المآلات، وفقه الأولويات، وفقه التدرج… إلخ.
3- التوظيف السياسي غير الأمين لقضية تعديل المادة الثانية، وهذا التوظيف يكون في الغالب – عكس ما هو سائد – عن طريق الدولة، أكثر منه لدى بعض الحركات الإسلامية، ومن أراد أن يجد البرهان على ذلك يبحث كيف ألهى إثارة الموضوع عن إطلاق مدد رئاسة الدولة في عهد “السادات”، وكيف شغل الناس عن تعديلات الدستور في عهد “مبارك” التي استهدفت إطلاق يد الدولة أكثر في الهيمنة على المجتمع وعلى مؤسساته وحقوقه وحرياته استغلالاً لرغبته المشروعة في أن يُحكم بشريعته، بحيث يرضى بأي تعديل طالما بقيت المادة الثانية في مكانها، حتى ولو كان التعديل يمهد لتوريث الحكم في الدولة!
دعوى التعطيل والتعديل:
إذا كان الأمر كذلك، وكانت المادة الثانية تُحمَّل ما لا تحتمل، ويُنسب لها ما ليس فيها، وتُستغل في إلهاء الناس ومنع توحدهم، فما هو منهج التعامل معها، هل نلغيها أم نعدلها أم نتركها معطلة إلا قليلاً، أم نُفعلها؟
اقتراح الإلغاء طرحه قد يثير من الفتن ما لا قبل لأحد بعلاجها، فضلاً عن أنه لا يمكن أن يُطلب من 90% من الشعب المصري – على الأقل – أن يتخلوا عن شريعتهم، أو من الشعب المصري بمسيحييه ومسلميه أن يتخلى عن هويته الثقافية التي تعبر عنها المادة الثانية أصدق تعبير. ولو حملنا النص جريرة سوء تطبيقه من البعض لجاز لنا أن نلغي غالبية نصوص الدساتير لشيوع التفريط أو الإفراط في تطبيقها!
وأما خيار التعديل، فإن التعديل لابد أن يستند إلى أسباب منطقية وضرورية، ولا أرى فيما يثار الآن من إضافة ما يتعلق باحترام الشرائع السماوية أو ما يتعلق بأحقية المسيحيين في الاحتكام لشريعتهم إلا تَزيُدًا لا داعي له باعتبار أن مبادئ الشريعة الإسلامية متضمنة لذلك فعلاً، بالإضافة إلى المادة (40) وغيرها من المواد التي ضمت الحقوق والحريات بلا تفرقة بين المصريين دينية أو غير دينية، كالمادة (46) التي تنص على أن: “تكفل الدولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية”.
وأما خيار التعطيل فالمادة الثانية معطلة بالفعل إلى حد كبير، واستمرار هذا التعطيل يضر ولا ينفع؛ لأنه يهدر حق غالبية المصريين في التواؤم بين ما يعتقدون وبين ما يخضعون له من قوانين قد تخالف شريعتهم، ولهذا فالحل في نظري هو التفعيل لا التعطيل.
والتفعيل لا يحتاج فقط إلى قراءة واعية لنصوص الشرع بل لابد من فقه عميق للواقع المعيش حتى لا يتعارضا “فالفقيه من يطبق بين الواقع والواجب، وينفذ الواجب بحسب استطاعته، لا من يُلقي العداوة بين الواجب والواقع، فلكل زمان حكم، والناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم” كما يقول الإمام ابن القيم في كتابه “إعلام الموقعين”.
ولهذا أعجب ممن كان حين يُسأل عن تطبيق الشريعة فلا يجد فيها سوى الحدود الشرعية وإلزام المرأة بالحجاب في مجتمع كان يطغى عليه تحالف عجيب بين الاستبداد والتبعية والفساد، وإذا حدثته عن السعي للقضاء على ذلك الثالوث المخيف الذي أنتج الفقر والمرض والعجز والقهر والظلم بكافة أنواعه، لم ير في الشريعة سوى أن هذا سيحدث فتنة – في زعمه – و”الفتنة أشد من القتل”، وأن الإسلام حرم الخروج على الحاكم!
وينسى أن الأولى والأوجب هو السعي إلى تحقيق مقاصد الشريعة من حفظ النفس، والدين، والعقل، والمال، والنسل، والعمل على تحقيق مبادئ أساسية لأي دولة “مستقلة” ينشدها الإسلام من تحقيق للعدل، والتزام بالشورى (أو قل إن شئت “الديمقراطية” كنظام معزول عن أصوله الفلسفية)، ومساءلة حاسمة وفعالة للحكام (وألا يتم تقويمهم بسيف تداول السلطة)، وحماية للحقوق والحريات، وإيجاد الآليات الضامنة للتفعيل الجاد لتلك المبادئ، وبعد ذلك يأتي دور الجانب العقابي كسياج يحمي ما حققته الدولة من مكتسبات، وعندئذ تصبح المادة الثانية مصدر إلهام للمصلحين لا إلهاء للمواطنين.