أبحاث

قواعد تغيير الفتوى بين الحدث الكائن والزمن: قراءة أصولية

العدد 143

ركن الفتوى الرئيس سؤال وجواب يعبران عن حاجة مستفهم ووظيفة معلم، وقد قيل إن أصل الفتوى السؤال ثم سمي به الجواب كما في قول الله تعالى: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ  يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَـةِ)(النساء: 176)، والرأي عندي أن الفتوى هي الجواب لا السؤال؛ لأن السؤال استعلام عن حكم شرعي، والجواب هو إعلام بحكم شرعي، ومنطقي أن تكون الفتوى هي الإخبار بالحكم وليس الاستفسار عن الحكم، وللفتوى مفهوم عام يصح فيه قول الإمام “اللقاني” في “منار الفتوى” أن الفتوى لا تقتصر على الإخبار في الفقهيات فحسب، بل تستوعب أيضًا الإخبار عن اللغويات والعقليات، ولها مفهوم خاص هو الإخبار بالشرعيات فحسب، وهو المفهوم المعتمد في هذا البحث، وقد عرّف العلامة “يوسف القرضاوي” الفتوى بقوله “الفتوى شرعًا بيان الحكم الشرعي في قضية من القضايا جوابًا عن سؤال سائل، معين كان أو مبهم، فرد أو جماعة”. والتعريف في رأيي دقيق إلا أن في نفسي شيء من كلمة مبهم، لأن إبهام السائل قد يفقد المفتي بعض وسائل الإلمام بعناصر الزمان والمكان والظرفية العينية والشخصية وهي عناصر ضرورية لابد من تجليتها عبر المستفتى حتى يمكن تنـزيل الأحكام على وقائعها من جانب المفتي.

وسوف تنقسم هذه الورقة إلى مبحثين:

المبحث الأول: في سياق الفتوى.

المبحث الثاني: في قواعد تغيير الفتوى.

المبحث الأول

في سياق الفتوى

لا ينحصر السياق في الدراسات الأصولية والفقهية – أو هذا ما ينبغي أن يكون – في سياق الحال وسياق المقال وما لهما من دلالات مفتوحة عند البعض ومغلقة عند البعض الآخر، إن السياق الذي نعنيه في بحث الفتوى يعني عالم النص وما يحيط به من عوامل بشرية وزمانية ومكانية، وهو لا يتعامل فحسب مع معجمية الحروف، ولكنه يتفاعل أيضًا مع حركية الظروف، فالسياق هنا ليس مجرد نظرية في المعنى، ولكنه وثيق الصلة بنظرية في الحركة ومالها من أبعاد مقاصدية واجتماعية ووظيفية.

أولاً: في العنوان وماهية تغير الفتوى

1- في ضبط العنوان

“قواعد تغيير الفتوى بين الحدث الكائن والزمن” يبدو عنوانًا ملتبسًا ينبغي ضبط عناصره، ولملمة الشارد من معانيه.

فالقاعدة تعني الحكم الكلي – وأيضًا الأغلبي – الذي يستغرق كل جزئياته أو معظمها، والتغير يعني الانتقال من حكم إلى حكم، وهو في الفتوى تغير يفرضه تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد على حد تعبير “ابن القيم”، وهذا يعني التغير في الظرف فيما يعد استثناءًا، والتغير في العرف فيما يعد تبدلاً واختلافًا، وكلاهما من سنن الله التي خلت في عبادة كما يقول “ابن خلدون”، والتغير هنا تغير حال وزمان ومكان وليس تغير دليل وحجة وبرهان، أما الحدث الكائن فهو في مجال علم الفتوى الحاضر الذي تحتاج واقعاته الجديدة إلى تنـزيل حكم، أو تفعيل اجتهاد، والزمن في بنية الفقه يعني الماضي والحاضر والمستقبل في حركة اعتبارية متصلة لا تنفصل فيها الجغرافيا عن التاريخ.

فالموضوع الذي يشير إليه العنوان إذن هو “القواعد الحاكمة لتغير الفتوى في الزمان والمكان والأشخاص والبيئات”.

2- ماهية تغير الفتوى:

إن التغير في الفتوى ميدانه الأحكام الفقهية الجزئية، وهي أحكام تنـزل على واقعات ينبغي وصفها قبل قيدها تحت حكم أو إدراجها في مسلك اجتهاد، أما الحكم بالمعنى الأصولي والذي هو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييرًا أو وضعا فهو وصف لخطاب جوهره الديمومة والبقاء، فالتغير في الفتوى هو تغير في الحكم الفقهي تفرضه سيولة المحل عبر الزمان والمكان، وهو في بعض صوره تغير في مناط الحكم يبعده عن دائرة التنـزيل ولا يستبعده من مجموع الأحكام، يقول “الشاطبي” في “الموافقات”: (إن ما جرى ذكره من اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد فليس في الحقيقة باختلاف في أصل الخطاب لأن الشرع موضوع على أنه دائم أبدي لو فرض بقاء الدنيا من غير نهاية والتكليف كذلك لم يحتج في الشرع إلى مزيد، وإنما معنى الاختلاف لأن المصالح والعوائد إذا اختلفت رجعت كل عادة إلى أصل شرعي يحكم به عليها).

والحقيقة – كما يقول العلامة “مصطفى الزرقا” – أن الأحكام الشرعية التي تتبدل بتبديل الزمان مهما تغيرت بتغيره، فإن المبدأ الشرعي فيها واحد وما تبدل الأحكام إلا لتبدل الوسائل والأساليب الموصلة إلى غاية الشرع، فإن تلك الوسائل والأساليب في الغالب لم تحددها الشريعة الإسلامية لكي يختار منها في كل زمان ما هو أصلح في التنظيم نتاجًا، وأنجح في التقويم علاجًا.

فالتغير في الفتوى يفرضه أمران:

الأمر الأول: شمول الشريعة الإسلامية وصلاحيتها لكل زمان ومكان.

الثاني: تجدد الوقائع في زمن القادم فيه مجهول، لأن المستقبل في عالم الواقعات غير معلوم.

وكما يقول يحيى محمد في كتابه “جدلية الخطاب والواقع” فإن “تغير الفتوى تارة يستند إل ما قد يؤثر فيه العثور على دليل شرعي أقوى من النص والقياس وما إليه مما ليس له علاقة بالواقع، وتارة أخرى يستند إلى فعل الواقع وتأثيره، وذلك باعتبارات إما مردها كشف الواقع عن خطأ الفتوى جملة وتفصيلاً، أو لاعتبارات تقدير الواقع من الضرورة والمصلحة ونفي العسر، أو لاعتبارات تخص تغير أحوال وظهور فهم، وفي جميع هذه الاعتبارات نلاحظ أن للواقع دورًا أساسيًا في عملية التغير وإنشاء الأحكام الجديدة”.

ثانيًا: مصادر مشروعية التغير(1):

مشروعية التغير لابد لها من دليل معترف به في مبحث أدلة الأحكام من أصول الفقه، وحسبنا هنا، الأدلة الأصلية وهي القرآن والسنة.

1- مشروعية التغير في القرآن الكريم

كثيرة هي الآيات التي تعد مصدرًا قرآنيًا لمشروعية التغير، من ذلك قوله تعالى في سورة الأنفال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ) (الآية: 65). ثم قال: (الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الآية: 66).

وقد ذهب كثير من المفسرين إلى أن هاتين الآيتين من قبيل الناسخ والمنسوخ إلا أن العلامة رشيد رضا في تفسير “المنار” والعلامة يوسف القرضاوي في كتابه “مدخل إلى الشريعة الإسلامية” رأيا أن الآيات عند التحقيق ليست ناسخة ولا منسوخة وإنما لكل منهما مجال تعمل فيه “فقد تمثل أحدهما جانب العزيمة والأخرى جانب الرخصة، أو تكون أحدهما للإلزام والإيجاب والأخرى للندب والاستحباب، أو أحدهما في حالة الضعف والأخرى في حالة القوة”. ويعقب العلامة القرضاوي قائلاً: “ومعنى هذا أن الآية الثانية تشرع لحالة معينة غير الحالة التي جاءت لها الآية الأولى وهذه أصل لتغير الفتوى بتغير الأحوال”.

2- مشروعية التغير في السنة النبوية

في السنة النبوية أحاديث كثيرة تؤكد ما جاء في القرآن الكريم من مشروعية تغير الأحكام بحسب تغير الأمكنة والأزمنة والنيات والمصالح والعوائد والأحوال.

منها ما جاء في سنن أبي داود عن أبي هريرة t أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القبلة للصائم فرخص له، وأتاه آخر فسأله فنهاه، فإذا الذي رخص له شيخ وإذا الذي نهاه شاب.

والحديث كما ورد في مسند الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: “كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء شاب فقال يا رسول الله أقبل وأنا صائم قال لا، وجاء شيخ فقال يا رسول الله أقبل وأنا صائم قال نعم فنظر بعضنا إلى بعض فقال صلى الله عليه وسلم قد علمت نظر بعضكم إلى بعض إن الشيخ يملك نفسه”.

وهذا الحديث أصل في باب تغير الفتوى بتغير حال الشخص، ومنها ما روى عن سلمة بن الأكوع t قال: “قال النبي صلى الله عليه وسلم من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثلاثة أيام ويبقى في بيته منه شيء، فلما كان العام المقبل قالوا يا رسول الله نفعل كما فعلنا في العام الماضي، قال: كلوا وأطعموا وادخروا فإن ذلك العام كان بالناس جهد – أي شدة – فأردت أن تعينوا”، وفي بعض الأحاديث – كما في الموطأ – “إنما نهيتكم لأجل الدافة التي دفت”، وهذا الحديث أصل في باب نفي الحكم بانتفاء علته، وهو ما أشار إليه الشافعي في “الرسالة” وتابعه الإمام القرطبي في الجامع لأحكام القرآن فقال: “هو حكم ارتفع بارتفاع علته لا لأنه منسوخ، وفرق بين رفع الحكم بالنسخ ورفعه بارتفاع علته، فالمرفوع بالنسخ لا يحكم به أبدًا والمرفوع بارتفاع علته يعود بعود العلة، ولو قدم على أهل بلدة ناس محتاجون في زمان الأضحى ولم يكن عند أهل ذلك البلد سعة يسدون بها فاقتهم إلا الضحايا لتعيَّن عليهم ألا يدخروها فوق ثلاث كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال الحافظ بن حجر في “فتح الباري” “والتقيد بالثلاث واقعة حال، وإلا فلو لم نسد الحاجة إلا بتفرقة الجميع لزم عدم الإمساك ولو ليلة واحدة”.

فالرسول كما جاء في السنة أفتى في حال بمنع ادخار لحوم الأضاحي وفي حال أخرى أفتى بالإباحة تطبيقًا لقاعدة التغير.

وهنا ينبغي التنبيه إلى أمرين:

الأول: أن التغير لم يكن حكمًا بالعقل المحض وإنما استجابة لأوامر جاءت في الكتاب والسنة.

الثاني: أن التغير ليس هدفه التيسير – وهو مبحث له أصوله وقواعده – وإنما هدفه تحقيق الأحكام لغاياتها ومقاصدها سواء كان التغير إلى التخفيف أو إلى التشديد.

المبحث الثاني

في قواعد تغير الفتوى

انتقال المفتي من حكم إلى حكم لا يأتي ارتجالاً، وإنما هو ثمرة معرفة دقيقة بالواقع، واستخدام محكم للقواعد التي تضبط حركة المسلم في ضوء خطاب النص، والفتوى في حقيقتها استنباط علم جزئي من معرفة كلية، ولذلك تحرم الفتيا على الجاهل بصواب الجواب – كما يقول العلامة أحمد المنقور – لقوله تعالى: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ  الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا  حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ  إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ) (النحل: 116)، ولقوله صلى الله عليه وسلم: “من أفتى بفتيا من غير علم – غير ثبت -، فإن إثمه على الذي أفتاه” رواه الإمام أحمد وابن ماجه، وكان أعلام الفقهاء يقولون، من أجاب في مسألة، فينبغي قبل أن يجيب فيها أن يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة، ثم يجيب فيها، وسئل الإمام مالك عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل له: إنها مسألة خفيفة سهلة، فغضب، وقال، العلم كله ثقيل، قال الله تعالى: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) (المزمل: 5)، فالعلم كله ثقيل، وخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة، والفتوى يراد بها حضور حكم الله في دنيا الناس، لهذا كانت الفتيا فرض عين إذا كان البلد ليس فيه مفت، وفرض كفاية إذا كان فيه مفت فأكثر، وعلى المفتي ألا يتعجل في الفتوى، وقد نسب إلى بعض التابعين قوله إن الرجل يسأل عن المسألة ويعجل في الجواب فيصيب فأذمه، ويسأل عن المسألة فيثبت في الجواب فيخطئ فأحمده، وقال بشر الحافي من أحب أن يسأل فليس بأهل لأن يسأل، ورأى رجل ربيعة الرأي يبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقال: استفتي من لا علم عنده، وظهر في الإسلام أمر عظيم، ومن مأثور كلام التابعين، إن أحدكم ليفتي في المسألة لو وردت على عمر ابن الخطاب لجمع لها أهل بدر.

أولاً: قواعد تغير الفتوى في الظروف العادية:

يرتبط الفقه بالواقع، فالحكم الشرعي وظيفته حسم الواقعات وبيان صفتها الشرعية، وقد قيل الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، والعلة هنا هي همزة الوصل بين حجية الدليل، وحاجة التنـزيل، من هنا أصبح الاعتراف بتغير الفتوى من قواعد الفقه الكلية، وهو ما أشارت إليه المادة 39 من مجلة الأحكام العدلية بقوله: “لا ينكر تغير الأحكام بتبدل الأزمان”، وقد حسم الإمام القرافي الرأي الفقهي المعتمد في هذه المسألة في كتابه “الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام” بقوله: “كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد، يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة، بل إن القرافي يشير في موسوعته الفقهية الشاملة وهي كتاب “الذخيرة” إلى أن هذه القاعدة ليست إلا سنة من سنن الله في خلقه تجد أصولها في الشرائع الإلهية السابقة على الإسلام، يقول القرافي: “فقد اختلفت الأحكام والشرائع بحسب اختلاف الأزمان والأحوال، وظهر أنها سنة الله في سائر الأمم، وشرع من قبلنا شرع لنا، فيكون ذلك بيانًا على الاختلاف عند اختلاف الأحوال في زماننا، وظهر أنها من قواعد الشرع، وأصول القواعد، ولم يكن بدعًا عما جاء به الشرع”.

وقد اختلف في تأصيل هذه القاعدة إلى ثلاثة اتجاهات:

الاتجاه الأول: يربطها بمقاصد الشرع الكلية، وهو اتجاه يعبر عنه ابن القيم في “إعلام الموقعين” وبالتحديد في فصل “تغير الفتوى واختلافها باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد” يقول وهذا فصل عظيم النفع جدًا، وقد وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه، ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة في شيء وإن أدخلت فيها بالتأويل”، وهذا التخريج نجد له شواهد كثيرة في فروع الأحكام عند كافة المذاهب الإسلامية ولا خلاف في ذلك بين المذاهب الأربعة، وبين الأباضية، وهو من المعتمد عند الزيدية والإمامية.

الاتجاه الثاني: يجعل من التغير سنة كونية، وتصبح قاعدة اختلاف الأحكام مرتبطة بالتغير في كل المجالات باعتبارها قاعدة عامة تستوعب كل مجالات الحياة في الكون والشريعة والإنسان، وهي عند أصحاب هذا الاتجاه من السنن الإلهية العامة في مسائل التشريع لا تختص بها شريعة سماوية دون أخرى، بل إن إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد هي – كما يقول الإمام القرافي – خلاف الإجماع وجهالة في الدين.

الاتجاه الثالث: ينظر إلى هذه المسألة من زاوية تخريج المناط، فهي مجرد تغير صوري يرتبط بواقع التنـزيل، فالإسلام – كما يرى “العلامة البوطي” – بما تضمنه من عقائد وأحكام كله ثوابت ولا متغيرات فيه “فالتغير هنا ليس حقيقيًا، ولكنه تطبيق ظرفي لأحكام ثابتة تتغير صورتها مع تغير مناطات الأحكام.

والرأي عندي أن الاتجاه الثالث ليس إلا وجهًا من وجوه الخلاف حول الحق بين الواحدية والتعدد في النظرة الإسلامية، وهو منظور كلامي، وليس منظورًا تشريعيًا، خاصة وأن قاعدة التغير تعني – كما يقول العلامة “أحمد فهمي أبو سنة”- رفع تطبيق الحكم السابق لعدم مناسبته، لا رفع الحكم المشروع، والحاصل أن للواقعة الواحدة ذات الأحوال المختلفة حكمين أو أحكامًا ثابتة، لكل حكم تطبيق في ظرفه الذي يختص له، قال الشاطبي في “الموافقات”، وإنما معنى الاختلاف – في العوائد – أن العوائد إذا اختلفت رجعت كل عادة إلى أصل شرعي يحكم به عليها.

وهذا يعني أن العادات أسباب اعتبرها الشارع وبني عليها الأحكام، فهي تابعة لها بقاء وانتهاء. خاصة وأن المتغير من أحوال الناس هو البعض لا الكل، فجرى أمر التغير في واقع التنـزيل على “التبعيض” لا الشمول.

والأصل في تقسيم الأحكام الشرعية أن منها القطعي ومنها الاجتهادي، وقاعدة التغير في أبعادها المختلفة الواقعية والعقلية هي جزء من النسق الاجتهادي في الظروف العادية، ترتبط به عضويًا، ويتكامل به تشريعيًا، أما في النسق القطعي فلا عمل لقاعدة التغير إلا عند ما تفرض الضرورة فقه الاستثناء، ومن تطبيقاته قاعدة إذا ضاق الأمر اتسع، ويقدم القرافي صورًا من مفرداتها في هذه الحالة بقوله: “أن الشرع وسع للواقع في النجاسة، وفي زمن المطر في طينه، وجوز ترك أركان الصلاة وشروطها إذا ضاقت الحال عن إقامتها، وكذلك كثير في الشرع … ما ضاق شيء إلا اتسع، يشير إلى هذه المواطن، فكذلك إذا ضاق علينا الحال في درء المفاسد اتسع في تلك المواطن”.

وللإمام الجويني نظرية متكاملة في هذا السياق نجد أصولها وتطبيقاتها في مجالات الفقه العام والخاص في كتابه “غياث الأمم”.

وقواعد تغير الفتوى في الظروف العادية تجد مجالات تطبيقها، وتفاصيل ضوابطها في المصالح وصلتها بالأحكام، والأعراف وصلتها بالأحكام، وقد حاول البعض إفراد فساد الزمان بمبحث خاص باعتباره من أبعاد التغير المؤثر في الفتوى، وهذا البحث في نظري ليس إلا من تطبيقات مبدأ الذرائع فتحًا وسدًا، كما أصَّل له الباحث نفسه(2).

1- العرف وقواعده في تغير الفتوى

إن رعاية العرف الصحيح – كما يقول العلامة “أحمد فهمي أبو سنة” – في الاستنباط من الأدلة، وتطبيق أحكام الله على المكلفين، والتخريج على قواعد الأئمة، والترجيح بين أقوالهم في كل زمان، قاعدة محكمة، ونظرية صحيحة سامية، فيها تحقيق لمقاصد الشرع، وفيها صيانة للحقوق، وحفظ للعدالة، ومن قواعده العادة محكمة. والمعروف عرفًا كالمشروط شرطًا، وتترك الحقيقة بدلالة العادة، والعبرة للغالب الشائع لا القليل النادر.

2- المصلحة وقواعدها في تغير الفتوى:

المصلحة هي مقصود الشرع، وقد يستدعى حفظ المصالح تغير الأحكام، ذلك أن المصلحة هي الحكمة التي تترتب على شرع الحكم مع حال خاصة، سواء أكانت جلب منفعة أو تكميلها، أو دفع مفسدة أو تكميلها، والمصالح على المستوى العملي تنقسم إلى ضرورية وحاجية وتحسينية، وعلى المستوى النظري هي مقاصد للشارع ومقاصد للمكلفين، وقد تتغير الحاجات في حالات جزئية فتتلاشى المصلحة، وتنخرم المناسبة بين الحكم والحال التي كانت مفضية إلى تشريعه، فلم يعد يلائمها هذا الحكم، ولا تترتب المصلحة المقصودة منه مع بقائه، فتقضي أصول الشريعة بتبديله بحكم آخر لتدرأ تلك المفاسد وتتحقق المصلحة المقصودة، ولذلك قال مالك t: “تحدث للناس فتاوى بقدر ما أحدثوا”، قال الزرقاني في شرح الموطأ: “ومراده أن يحدثوا أمورًا تقتضي أصول الشريعة فيها غير ما اقتضته قبل حدوث ذلك الأمر”.

ثانيًا: قواعد تغير الفتوى في الظروف الاستثنائية:

يقال إن كل قاعدة لها استثناء، وهذا يجري في الأمور الفقهية كما يجرى في غيرها، وهو في حقيقته انتقال من قاعدة عامة إلى قاعدة خاصة، لأن وصف الوقائع قد يخضعها لحكم جديد، وفقًا لحالتها الظرفية، أو وفقًا للضرورة، أو وفقًا للمآل وما يفصح عنه، وكلها أسئلة يستدعى حسن الإجابة عليها فقهًا ألا يلتصق المفتي بظاهر النص بل يراعي أبعاده الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهذا يعني أن يتحرك في الفضاء الواسع للعلوم الإسلامية بحيث يلتقي الفقيه مع عالم الاجتماع، وعالم الاقتصاد، وعالم السياسة، وعالم النفس، بل قد يجد أجوبته لا تصح دون استشارة العلم الطبيعي الذي قد يفك طلاسم النوازل، وغموض الحوادث.

وفقه البدائل الشرعية، يفتح الباب واسعًا أمام تغير الفتوى في الظروف الاستثنائية، خاصة وإن فقه الرخص فيه بيان الإسقاط، وبيان التغيير، وبيان الجمع، وبيان التخفيف، وبيان التشديد، وكلها موجهات منهجية لقواعد العمل في الظروف الاستثنائية وقواعد الفتوى في هذه الظروف تجد تأصيلاً لها في مبدأ الذرائع سدًا وفتحًا، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما يترتب عليه مآل ممنوع فسده مطلوب ومشروع. وهنا تتحرك فكرة المناط الخاص الذي ينظر إلى مكلف معين بما يصلحه وهو مبحث لدقته مزلة أقدام وأفهام.

1- نظرية الظروف الطارئة:

تقوم نظرية الظروف الطارئة في الفقه الإسلامي على فكرتين رئيسيتين هما العدل والإحسان، وهو ما أشارت إليه الآية القرآنية في قوله تعالى: )إِنَّ اللّهَ  يَأْمُرُ  بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ( (النحل: 90)، والفقه الإسلامي في هذا الاتجاه يربط ربطًا محكمًا بين القاعدة الأخلاقية والقاعدة القانونية، والصلة بين العدل والإحسان هي صلة بين العدل وحدوده، يقول الزمخشري في تفسير الكشاف “إن العدل هو الواجب، والواجب أمر الشرع، وقد يقضي بتكليف ما لا يطاق وفي ذلك ظلم وجور لا يتصور صدورهما من الله، فكان الأمر بالإحسان للتخفيف من تفريط العدل”، وعلى فكرة العدالة والتوازن بين الأحوال والنتائج قامت نظرية الأعذار أو الجوائح أو الظروف الطارئة في الفقه الإسلامي، وهي مجال واسع لتطبيق قواعد تغير الفتوى في الظروف الاستثنائية ومن قواعدها العامة قاعدة لا ضرر ولا ضرار وما يتفرع عنها من قواعد، وقاعدة عموم البلوى، وقاعدة يجوز في الانتهاء ما لا يجوز في الابتداء، وقواعد الموازنة بين المفاسد والمصالح في المنظومة الأصولية المقاصدية.

2- نظرية الضرورة

يحدد الإمام الغزالي نظرية الضرورة ومجالاتها التشريعية فيما وصل إليه الاستقراء من ضرورات خمس هي مقصود الشرع للحفاظ على مصالح الخلق، وهي أن يحفظ عليهم “دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة مصلحة واقعة في رتبة الضرورات، وكل ما يفوت هذه المصلحة فهو مفسدة ودفعها مصلحة”.

ومضمون هذه النظرية هو أن الشريعة لا يجوز أن ينشأ من تطبيقها ضرر عام أو خاص، وفي مجال الفتوى جاءت هذه القواعد لتكون حاكمة لكل تغير، ومنها قاعدة “الضرورات تبيح المحظورات” وقاعدة “الضرر يزال” وقاعدة “الحاجة تنـزل منـزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة، وقاعدة “الضرر يدفع قدر الإمكان”.

ونظرية الضرورة – كما يقول الدكتور “عبد السلام الترمانيني” بكل قواعدها التي تفرعت عنها، ذات شمول واسع، فهي تسود علاقة الفرد بالمجتمع، وعلاقة الأفراد مع بعضهم بعضًا، وبما أن هذه العلاقات تتبدل بتبدل الظروف بحيث ينشأ عنها عند التطبيق ضرر غير متوقع، فإن إزالة الضرر منها لا يتأتى إلا من تعديلها، أي من تغير الحكم الجزئي في خصوصها.

والفتوى في هذا المجال هي استثناء من القاعدة العامة، أو خروج عن العزيمة أو الرخصة.

3- مآلات الأفعال وأثرها في الفتوى.

يقول الإمام الشاطبي في “الموافقات” النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعًا سواء كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، ذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة من المكلفين بالالتزام أو الانسجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه الفعل.

واعتبار المآل – كما يقول “الدكتور أحمد الريسوني” – له أهمية كبرى في الفتوى، حتى يعرف المفتي متى يقدم ومتى يحجم، فمهمته لا تنحصر في إعطاء الحكم الشرعي، بل مهمته أن يحكم في الفعل وهو يستحضر مآله”. وهذا لون من الرسوخ في العلم ذلك لأن صاحبه “ناظر في المآلات قبل الجواب”.

وقاعدة المآلات – كما يقول “الدكتور عبد المجيد النجار” – يقدر الحكم الشرعي فيها على أي فعل من أفعال الناس باعتبار ما يؤول إليه عند التطبيق، من تحقيق المصلحة التي وضع من أجل الحكم العام المتعلق بجنسه أو عدم تحقيقها، فإذا تبين عدم تحقيقه المصلحة لخصوصية من الخصوصيات استثنى ذلك الفعل من الحكم الشرعي الموضوع له في الأصل، وعدّل به إلى حكم آخر يتحقق به المقصد الشرعي، وقد حاول “الدكتور عبد المجيد النجار” أن يضبط هذا الأصل حتى لا تفلت الفتوى عن تحقيق مقاصد الشريعة، فرأى أن من ضوابط هذا الأصل ما يلي:

1-     تحرى مقاصد الأحكام، ومسالك هذا التحري:

أ‌-        التحري بالتعيين الاستقرائي.

ب‌-   التحري بدلالة الأصل على الفرع.

ج- التحري بالتعيين السكوتي.

2-     تحري أيلولة الأحكام: ويقصد به نتائجها أي تحقيق الأحكام لما شرعت له من مصالح، فيجب على المفتي والمجتهد النظر فيما يلي:

1- أيلولة الأحكام إلى غير مقاصدها:

وهو ما يبرر شرعًا استعمال قاعدة اعتبار المآلات في منهج الاجتهاد والفتوى ليصرف الفعل عن حكمه الأصلي الذي يحقق فيه مقصده إلى حكم آخر يحققه، وهو ما أشار إليه الشاطبي بقوله: “أن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها، وإنما انتهت بأمور كلية، وعبارات مطلقة تتناول أعدادًا لا تنحصر، ومع ذلك فلكل معين خصوصية ليست في غيره ولو في نفس التعيين، وليس ما به الامتياز معتبرًا في الحكم بإطلاق، ولا هو طردي بإطلاق، بل ذلك منقسم إلى الضربين، … فلو أعرض عن الجزئيات بإطلاق، لدخلت المفاسد، ولفاتت المصالح، وهو مناقض لمقصود الشارع، ولأنه من جملة المحافظة على الكليات، لأنها يخدم بعضها بعضًا،… فالحاصل أنه لابد من اعتبار خصوص الجزئيات مع اعتبار كلياتها، وبالعكس وهو منتهى نظر المجتهدين بإطلاق.

2- المؤثرات في أيلولة الأحكام:

ويقصد بها العوامل التي تجعل الأحكام تتخلف عن تحقيق مقاصدها ونجمل أهميتها فيما يلي:

أ‌- الخصوصية الذاتية: وهي تلك التي توجد صفات منافرة لطبيعة المقصد الشرعي تحول دون الوصول إليه، وفي هذا السياق تأتي فتوى ابن تيمية بترك التتار يشربون الخمر قائلاً: “إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس، وسبي الذرية، وأخذ الأموال”.

ب‌- الخصوصية الظرفية:

وهي ظروف زمانية أو مكانية تعوق تحقيق الحكم لمقاصده، وفي هذا السياق جاء منع العقاب على الجرائم الحدية في الغزو والجهاد، لأنه قد يؤدي إلى مفسدة أعظم من مفسدة ترك إقامة الحد.

ج- الخصوصية العرفية

وهذه الخصوصية التي تكسبها بعض الأفعال قد تجعلها حينما يطبق عليها الحكم الشرعي المتعلق به غير آيلة إلى تحقيق المقصد الذي يبتغيه الحكم، وهذه الخصوصية قد تستدعي التدرج في تطبيق بعض الأحكام الشرعية(3).

والحقيقة أن قاعدة المآلات – كما يقول الدكتور عبد الحميد النجار – مناط اجتهاد واسع ودقيق من قبل فحول الأئمة والفقهاء، وكانت لها تطبيقات كثيرة في الفقه الإسلامي، أفضت إلى إثراء أحكامه، وتوسيع آفاقه، وبتعقد الحياة الإنسانية الفردية والجماعية، وتشابكها وتوسعها، يكون لهذه القاعدة المجال الأوسع للاجتهاد، وتكون الحاجة إليها أوكد، ذلك لأن وجوه الحياة كلما مالت إلى البساطة اشتد التماثل بين أفرادها، فتتناقص خصوصياتها المفرقة بينها، وعلى العكس من ذلك كلما مالت إلى التعقيد اشتد الخلاف لتكاثر الخصوصيات المفرقة مما يؤدي إلى اختلاف المآلات، فيكون للاستثناء المبني على تلك الخصوصية، وما تفضي إليه من اختلاف المآل مجال واسع.

ثالثًا: بعض القواعد العلمية للفتوى:

الذي يستعرض كتب الفتاوى، وهي منجم علمي، وكنـز للمعلومات التاريخية والحضارية، يرى أن فن الفتوى استوعب بعض القواعد العلمية التي لا يخلو منها عصر، ولا يغفل عنها المفتي الواعي الفطن، ومن هذه القواعد ما يأتي:

1- الفتوى بالرأي المشهور:

المشهور في علم الفروع الفقهية هو الرأي الذي قوي دليله فرجح بذلك، فقوة الدليل لا كثرة الدوران على ألسنة الفقهاء هي أساس صفة الرجحان والشهرة، وإلى ذلك يشير “محمد بن خويز منداد” أحد كبار المالكية في القرن الرابع الهجري بقوله: “إن مالكًا كان يراعى من الخلاف ما قوي دليله”، وهذا هو المعتمد عندي بدلاً من ترجيح رواية كتاب، أو رأي فقيه، وقد أصبح الاعتماد على الراجح آلية لمواجهة الفراغ التشريعي عند سكوت النص أو غيابه.

ومثال ذلك ما نص عليه القانون رقم 1 لسنة 2000 الخاص ببعض إجراءات التقاضي في مسائل الأحوال الشخصية في جمهورية مصر العربية، في مادة الإحالة إلى أرجح الأقوال في مذهب أبي حنيفة فيما لا نص فيه. ومقتضى هذه القاعدة يحرم على المفتي العمل بالضعيف، إلا إذا كان المفتي مجتهدًا وظهر له رجحان الرأي الضعيف فلا يبقى ضعيفًا عنده، وقد يفتى بالضعيف للضرورة، أو المصلحة، وهي إفتاء يعني رجحانًا ما في خصوصية الواقعة، نظر فيها المفتي إلى حال المستفتي.

2- الحسم في الفتوى:

ويقصد به اختيار المفتي جوابًا حاسمًا للواقعة محل الفتوى، فلا يجوز له مجرد رواية الآراء الفقهية في المسألة يختار منها المقلد، فلا ينبغي – كما قيل – أن يقتصر المفتي في جوابه على قوله: في المسألة خلاف أو قولان أو وجهان أو روايتان، لأن غاية المستفتي البحث عما يعمل به، وما يقوله المفتي ليس بجواب إلا إذا أفرد الواقعة برأي مفرد هو الراجح في النازلة التي يستوعبها السؤال.

3- الفتوى بما جرى به العمل:

ويراد به – كما أشار “الدكتور محمد بن يونس” في كتابه الفتاوى التونسية – “هو بعض المسائل التي يقع فيها خلاف بين فقهاء المذهب، فيعمد بعض القضاة والمفتين إلى الحكم والإفتاء بقول يخالف المشهور لدرء مفسدة أو لخوف فتنة، أو جريان عرف في الأحكام التي مستندها العرف لا غيرها، أو نوع من المصلحة، أو نحو ذلك، فيأتي من بعده ويقتدي به مادام السبب الذي من أجله خولف الرأي المشهور موجودًا في مثل تلك البلد، وذلك الزمن، وهذا مبني على أصول المذهب المالكي، فإذا كان العمل بالضعيف لدرء مفسدة فهو على أصل سد الذرائع، أو جلب مصلحة فهو على أصله في المصالح المرسلة، … ويشترط في الفتوى بما جرى به العمل أن لا تصادم نصًا من نصوص الشريعة ولا مصلحة أقوى منها”، وما جرى به العمل يقبل التخصيص بمكان أو أشخاص.

4- الفتوى بتقليد مذهب آخر:

الأصل أن يفتي المقلد وفقًا لمذهبه، ومن الفقهاء من تشدد فحرّم الانتقال من مذهب إلى مذهب، وهو غلو لا ترتضيه سماحة الإسلام، ولا تدعمه القراءة المتأنية لتاريخ الفقه وتراجم الفقهاء، والرأي عندي أن الالتزام المذهبي هو جزء من ثقافة الفقيه، وليس من موجبات الشريعة، والذي رجحه الفقهاء كما يقول “العلامة محمد الطاهر بن عاشور”: “هو أنه يجب على العامي الالتزام بمذهب معين … إلا إذا نزلت به ضرورة فيجوز الانتقال في تلك الجزئية بناء على قاعدة أن المشقة تجلب التيسير”.

والرأي عندي أن المسألة يحكمها أمران:

الأمر الأول: ثقافة المجتمع التي تفرض على المفتي أن يجيب المستفتي بمذهب أهل بلده مراعاة للمذهب وعادات أهله.

الأمر الثاني: حاجة المستفتي: والتي تلزم المفتي باختيار الأصلح لحال المستفتي، حتى لو أفتاه بقول في غير مذهبه الأصولي، وهذا وجه في العمل قواعد الافتاء توجبه، ورحابة الشريعة الإسلامية ترتضيه.

5- عدم الاستدلال بالفتوى في فتوى جديدة:

لكل واقعة ظرفيتها التاريخية، وشخصيتها الواقعية، وحكم المفتي يحمل في داخله بعض عناصر الواقعة بظرفيتها وشخصيتها، وهو ما أسماه الشاطبي “بالخصوصية التي ليس في غيره” أو الخصوصية الذاتية بتعبير معاصر، وفي ضوء هذا التحليل لا تكسب الفتوى السابقة حجية مطلقة أو نسبية على أي فتوى قادمة ولو كان السؤال من ذات المستفتي وكان الجواب من ذات المفتي. فهذا على ما قضيناه وهذا على ما نقضي، وهذه القاعدة الإجرائية والموضوعية معًا تتجذر أصولها في روح القانون الإسلامي ومقاصده، وهنا يصح ما قاله المفكر والدبلوماسي العربي المعروف “الشاذلي القليبي” – في كتاب الشرق والغرب السلام العنيف” – إن روح القوانين قبل “مونتسكيو” بكثير كان مفهومًا ذا حظوة لدى كبار المفكرين المسلمين، ولقد بيّن المفكرون البارزون منذ القرون الأولى للهجرة، أن كل حكم من تشريعات القرآن يتضمن ما نسميه اليوم فلسفة، وليس بالإمكان تطبيقه تطبيقًا صحيحًا إذا لم ندرك هدفه المقصود، أليس ذلك هو الطريق المفتوح نحو التطور حسب ظروف الزمان والمكان؟

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ،،،،

***

الهوامش

(1) راجع في ذلك د. محمد حامد الكبيسي: الضوابط الأصولية لتغير الأحكام الشرعية، دار الإرشاد للنشر، سوريا، 2006، وخاصة من ص 298- 318، وهو أطروحة للدكتوراه من كلية الدراسات الإسلامية بجامعة بغداد وفيه بحث جيد في هذا الموضوع تحت عنوان حجية التغير في الأحكام والعنوان يحتاج إلى ضبط لأن الحجية تكون في الدليل مثل حجية السنة وحجية الإجماع ولا تكون في التغير.

(2) يوسف بلمهدي: البعد الزمني والمكاني وأثرهما في الفتوى، ط1، دار الشات – سنة 2000، دمشق، ص203.

(3) الدكتور عبد المجيد النجار – فقه المواطنة – المجلس الأوربي للافتاء – بدون تاريخ من ص153- 180، وفيه تفاصيل مهمة، ومعالجات جديرة بالنظر والاعتبار – وفي ذات المعنى يراجع كتابه مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط1، 2002، ص267- 282.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر