حوار

لماذا عقدنا أبوة الإدارة العلمية عالمياً لابن تيمية

العدد 11

فى حديث جمعته الصدقة بيني وبين الأستاذ الدكتور عيسى عبده والأستاذ الدكتور جمال الدين عطية في مدينة الرياض أثناء انعقاد مؤتمر الفقه الإسلامي الذى دعت إلية جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية والذي عقد بين 1, 10 ذي القعده من عام 1396ه الموافق 24 – 10 إلى 2 – 11 – 1976 , وبينما كنت أستمع باهتمام إلى ضيفي المؤتمر فيما كان يلحقان به في أجواء المؤتمر الشتى, متناولين أهميته وأهدافه, متبادلين الجدل المحتدم البناء حول ما تناوله المؤتمر من بحوث, ووصل إليه من آراء , وما تبلور فيه من أفكار , إذا بالدكتور جمال يشدنا فجأة إلى ” المسلم المعاصر” . فيشير إلى بحثنا عن ” منطق الإدارة في ثقافة الإسلام” , تلك الدراسة المقارنة المتواضعة التى قدمتها وطالبت فيها بعقد ” أبوة الإدارة العلمية عالميا” لعالمنا المسلم أبو العباس أحمد ابن عبد الحليم بن عبدالسلام المعروف بتقى الدين ابن تيميه, والذى ولد بحران عام 661 ه ومات في دمشق عام  728 ه, وذلك عن كتابة ” السياسة الشرعية في إصلاح الراعى والرعية (1) “.

وهنا أجد الحديث يتحول فجأة إلى موضوع ” الإدارة الإسلامية” , ويخرجنى الدكتور جمال بلباقته المعهودة من دائرة الاستماع الهين إلى دائرة تبادل الرأى والحجة حول الحوار الذي أفتتح, والذي يحتاج الأمر فيه إلى شد الوثاق والتحفز للدفاع والنقاش, واختيار أسهل الألفاظ وأفحمها لمؤازرة رأى للإقناع بنظرية أو تفنيد أوجه النظر فى قضية من قضايا الفكر, ولما لم أجد بابا مواربا أهرب منه, أضطررت أن أفتح صدرى إلى أسئلة عالم متمكن من علماء الإدراة الإسلامية , وهو الأستاذ عيسى عبده, حينما وجدته يسألني فى قوة – وكأنه قد اعتلى المنضدة التى نجلس عليها, وهو ينظر لى شذرا متفرسا في انفعالات وجهى – هذا السؤال ”  ولم لا نعقد أبوة الإدارة العلمية عالميا لعلى بن أبى طالب كرم الله وجهه؟؟”. ونجدنا  نأتى على رسائل بن أبي طالب الإدارية التى كتبها لعماله, والتى بلغت أوج العظمة فيما حوته من نصائح, كما يجب أن تكون مرجعا لكل حاكم فى أى مستوى اشرافي كان وفى محيط أى مجموعة بشرية يكون, ثم يتطرق الحديث بنا إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب, ونتناول إبداع فكره الإداري وتصرفاته الفورية فى أدق القضايا المصرية لأمة المسلمين, ثم يقودنا الحديث إلى خلافة عمر بن عبد العزيز واسط عقد الأمويين والمثل الأعلى للعدل الإسلامي , وإذا بالحديث يرتج بي وقد كنت مطالبا بالرد الفورى, وأجدني وقد ضاعت منى الحجة وتعثربي الدليل أسارع فأقول : إن فكر الصحابة كان امتداد لفكر المصطفى عليه السلام, وهم إن كانوا قد حكموا المسلمين وأداروهم بعد مماته فإن الإيمان كان يغمر المحكومين وكانوا لا يزالون حكاما ومحكومين مشدودين إلى فترة الوحى ويتذكرونها في كل مناسبة وقد كانوا شهودا عيانا لها, ومع أنى اقتنعت من أول إلقاء السؤال : أن الأمر سوف يحتاج منى إلى جلسة هادئة أخلو فيها إلى نفسي ومراجعى لألقى مزيدا من الضوء والتدليل عن صحة ما قدمته من رأى, إلا أننى رآيتنى أشير إلى تلك الكلمات التى وردت فى مقالى السابق الإشارة إليه وقد كنت أوردتها محتاطا إلى مثل هذا التساؤل حينما قلت ” لم يأت منطق ابن تيمية فى الإدارة فى صدر الإسلام أثناء قيام الرسول بإدارة الدولة الإسلامية , ولا في عهد خلفائه الراشدين وهم صحابته , وكان الله قد هداهم إلى الإيمان وقام الرسول بنفسه بتثقيفهم وتعلموا على يديه أصول الحكم والإدارة , ولم يأت ابن تيمية في هذه الأوقات, ولو جاء ما أظن إلا أنه كان سيبقى للصحابة مستمعا أو تابعا, ولكنه جاء بعد اتساع الدولة الإسلامية وتعاشقها مع فلسفات النظم التى وجدتها في البلاد الإسلامية كنظم الفرس والإغريق, وبعد أن غزى منطق فلاسفتهم عقول المسلمين , فمنهم من ضلوا ومنهم من ظلوا متمسكين بعقيدتهم , ففى وقت كان قد انطبقت فيه المحن على الدول الإسلامية , جاء ابن تيمية برسالته الإصلاحية في الإدارة, فكان منهجه هو المنهج الإصلاحي لرد الأمة إلى عقيدتها ودينها, وليثبت لها أن التمسك بأصولها فيه النجاة والدواء بأيسر كلفة وأن الأمة الإسلامية لا يصلح حاضرها إلا بما صلح به أولها” (1).

هنا أجدني أربط بين اصطلاحات ثلاثة لها مدلولها العلمى فى مجال أى علم من العلوم وسيطرت وساعدت في مجال الإدارة كما سيطرت وساعدت من قبل على دفع أى علم من العلوم الحديثة الأخرى, وهذه الإصطلاحات الثلاثة هى المنطق , والفلسفة , والمنهج , التى ربط بينها ابن تيمية وبين شريعة الله , جعلها خادمة أمنية في حقل الإدارة الإسلامية.

أما المنطق فقد اخترنا له من التعريف أعم تعاريفه وهو القائل بأنه : يعنى ” تحليل مفاهيم العلم وطرائقه تحليلا يبرز صورها” (2) , وارتباط المنطق بالعلم أمر لا شك فيه , فمنذ ” أرسطو” الذي  سموه ” صاحب المنطق والواضع الحقيقي لأسسه ومبادئه”  لم يكن المنطق عنده إلا ” آلة العلم” , وعندما سماه بالأورجانون ” organon”, إنما قصد به ” القانون” (1), وإستدلالنا بتصور أرسطو للمنطق لا يحمل منا رأيا للبت حول الخلاف القائم عند علماء المنطق الإسلامي فيما إذا كان منطقة قد سيطر على جميع دوائر الفكر الإسلامي – فلاسفة وعلماء وفقهاء ومتكلمين – أو أن هناك أدلة قوية على عدم قبول مفكرى الإسلام للمنطق الأرستطاليسى, وذلك أن هذا ليس موضوع بحثنا, ولكن استخدامنا لكلمة المنطق (Logic) , مقرونة بكلمة ” إدارة ” ومسنودة إلى ” ابن تيمية” , إنما أردنا بذلك أن نقول أن ابن تيمية, كان بجانب أنه عالم اللأصول والفقه كان عالما للمنطق أيضا, فإذا جاء ابن تيمية ووضع رسالته الإصلاحية فى الإدارة مؤصلة على أحكام الشريعة الإسلامية, وهى أحكام عالمية صاغها الله عز وعلا ليهدي البشر عامة إلى سواء القصد والسبيل وحمل المسلمين المؤمنين منهم عبء الإبلاغ بها, فإن ذلك يدحض القول بأن منطق الإدارة إنما هو وليد القرن العشرين, وتشدق علماء الإدارة من أهل الغرب بهذا الرأى إنما أساسه غياب منطق القرآن الكريم عن عقولهم, وتسليم علمائنا الناطقين بالضاد معهم بذلك, إنما هو تسليم خاطئ لا شك فيه, وعقدهم معهم أبوة ” الإدارة العلمية” عالميا, سواء للعالم الأمريكي ” فردريك تايلور” (2) , أو العالم الفرنسي ” هنرى فايول ” (3) مرده أنهم سلموا بتبعية منطق الإدارة الإسلامية للفكر الغربي الإداري وحده, تماما كما سلم من قبل كثير من المسلمين بتبعية المنطق الإسلامي فى طرائقه للمنطق الأرسطى (1), وبذلك سوف يعيشون في بحث مشاكل الإدارة المنطقية على لغات غربية عن لغتهم, ومن أجواء من المجتمعات يستهان فيها بحرية الشريعة الإسلامية , وهم بذلك سيقضون حياتهم العلمية ناهلين وليسوا مبدعين, وستسمر جهودهم مصابة بنزيف دموى حاد في قاع عيونهم يعتم لهم الرؤيا في واقع مجتمعهم , ما دامت أحكامهم (Indgements) وتصوراتهم (concepts) وتعاريفهم (depinitions) وتصانيفهم (classifications) .. الخ العمليات المنطقية التى يقصدون من وراء إنشغالهم بها الوصول إلى حقائق العلم الإدارى وإجادة الكم من قضاياه, هي حصيلة الفكر الغربي وغريبة من عالمهم الإسلامي , وسيظل هذا حالهم طالما باعدوا بأنفسهم عن ساحة العلم القرآني , وما دامت لم تجمع مظلته بينهم وبين فقهاء الشريعة , لبدلوهم على دور الفكر الإسلامي الإدارى.

إننا حينما نقرر لابن تيمية فضله على منطق الإدارة في ثقافة الإسلام لا يعنى هذا إنتزاع أصول هذا المنطق من جذورها الأولى, ذلك أنه كان كاشفا لها بعد أن ارتج على المسلمين القول, وتفرقت بهم المذاهب, وتنازعتهم صنوف المناطق. إن أحدا لا يمكن أن ينكر فضل الخلفاء الراشدين على هذا المنطق الذى صاغه في طفولة النبي صلى الله عليه وسلم , بتوجيه موحى إليه به من الله سبحانه وتعالى, ليرشده إلى صحيح قضايا الحكم والإدارة غاية ما في الأمر أنه لا يمكن أن تقاس الحركة الفكرية في الجزيرة العربية فى بدء الفتوح الإسلامية , بالحركة الفكرية بعد أن اتسعت رقعة الإسلام ودخل ساحته كثير من أصحاب الديانات الأخرى من المسيحين واليهود والصابئة والمجوس وغيرها, وبعد أن اختلطت ثقافة الإسلام بثقافات المدنيات القديمة كاليونانية والهندية والفارسية, فحاولت أن تعلو أرائكها , وتهدم مقوماتها , وتردها إلى دين الحق بإسلام تفكيرها , فلجأت في ذلك إلى القرآن والحديث وتراث السلف لتستلهم منها الأصول التى تقوى حجتها, ووجدت بذلك تفسيرات وتأويلات للنصوص هدفها دفع اللبس والغموض حجتها, ووجدت بذلك تفسيرات وتأويلات للنصوص هدفها دف اللبس والغموض وإزالة الشبهات, ولكن النتيجة : أن افتتحت دروب للفكر الإسلامي معقودة, وكثر نتاجه, وتناثرت طرائفه, فتكونت أحزابه, واستقوى فريق كل حزب برأيه, وتعدى التمسك بالرأى إلى التراشق باللفظ, وهنا يحتاج الأمر إلى مصلح ديني, خصوصا إذا عفنت الإدارة بسبب ذلك, وصارت متباعدة عن قيمها ومثلها وأهدافها, لأنه لا يمكن أن يفصل في الإسلام, الدين عن الدنيا, فكان ابن تيمية أحد كبار المصلحين, لا فى الفقه والأصول فحسب, بل فى الإدارة أيضا, ولكن علماء الأصول حصروا جهود ابن تيمية عندهم, ولم ينتبه علماء الإدارة الذين بهرهم علم الغرب ونظرياته الإدارية إليه , فكان لابد أن ينبرى من ينبههم له, علهم يجدوا في حوارنا هذا فتحا لمنطق جديد يصححون لنا فيه رأيا , أو يرشدون لنا به فكرا.

لقد كان يناؤي الرسول صلى الله عليه وسلم هؤلاء الذين انشقوا عليه في مكة المكرمة , فكانت مناقشته لهم بحجية القرآن الكريم كثيرا ما تقنعهم وحينما حاول أهل الكتاب بالمدينة مجادلته كانوا سرعان – أمام إقناعه لهم – أن يستسلموا أو يسكنوا إليه, كما أن أبا بكر وعمر وعثمان وعلى رضى الله عنهم ومن تبعهم من الصحابة في حكم الأمة الإسلامية, وكانت الشورى التى دربهم الرسول صلى الله عيله وسلم على سلوكها هى مصدر إبداعهم الفكري , فقد كانوا ملتفين بمجموعة من التابعين وتابعي التابعين, يقوموهم , ويقيموهم , ويقاوموهم, وكانوا يقدرون لهم الراى والنصيحة ولهذا كانت أحكامهم تصدر وفق الآراء الجمعية التى كانت تكمل إحداها الأخرى بمشهد لرسول الله لم يشهده الآخر, أو قول لم يسمعه أو سلوك لم يلحظه , وكانت عهودهم في الحكم والإدارة لصيقة بعهد رسول الله صلى عليه وسلم حينما كان يسعفه الوحى بالحجج تلو الحجج, لإفحام الكفار وأهل الكتاب فما كانوا يجادلونه فيه, فلا مجال إذن للإبداع الفكري البشري خارج دائرة القرآن والسنة, مادام الله سبحانه وتعالى لم يترك لهم قضية من قضايا الدين والدنيا لم يدلهم على أحكامها وما دام الرسول كان بينهم يفسر ويشرح لهم ما غمض على فهمهم منها, وما دام الإسلام قد ارتضاه الله للبشر كافة ليكون دين الحق ” أفغير دين الله يبغون؟ وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون ؟” (1).

فإذا عاد الناس يحرفون من جديد في ديانة أبيهم أبى الأنبياء التى وضحت صورتها كاملة في آيات القرآن الكريم التى أنزلها الله على خاتم أنبيائه محمد عليه الصلاة والسلام, فلا بد أن يأتى الإبداع الفكري بعد ذلك من ” الراسخين في العلم” أمثال ابن تيميه , ليرد أهل عصره إلى زمن الوحى وحكم الأولين من الصحابة الراشدين, وليقول للمكلفين – بحكم إيمانهم إن صح – بارشاد الناس إلى تعاليم الإسلام , هذا كان تصرفهم فى مثل هذه المشكلة, فما بالكم نسيتم أو تناسيتم أقوالهم وأفعالهم, وسنتكم, وقرآنكم , ورضيتم تلبيس الحق بالباطل, استجابة لجاه أو سلطان, أو طمعا لرضاء مخلوق فان , سيلاقى ربه مهما بلغ عتاه وغناه وهو عار إلا من عمله , مشدودا إلى غاياته المعلنة أو المخفاه.

لم يتقدم لنا أبو بكر وعمر وعثمان وعلى, ولا عمر بن عبد العزيز الذي وضع في صف الخلفاء الراشدين لورعه وتقاه وعدله, ولم يتقدموا لنا بنظرية للإدراة فلفسوا لنا داخل إطارها مبادئها, واستخدموا لنا صياغتها منهجا معينا, حتى يمكن أن تعقد لهم أبوتها, ولكنهم تقدموا لنا بسير صالحة تضرب لنا مثلا تحتذي , لأنه لم يكن هناك شئ يشغلهم عن التفكير فى الإيمان بالله ورسوله ورسالته, ولم يخرج تفكيرهم عن إطار فكر الرسول, ولم يكن قد ظهر بينهم صناع المنطق الإسلامي , كالمتكلمين الذين ادعوا بأنهم أهل الرأى والنظر, أو الباطنية الذين زعموا أنهم أصحاب التعليم والمتخصصون بالاقتباس من الإمام المعصوم, أو الفلاسفة الذين زعموا أنهم أهل الفطن والبرهان, أو الصوفية الذين ادعوا أنهم خواص الحضرة وأهل المشاهدة والمكاشفة (1), أو الطوائف الأخرى التى تنازعتها الفلسفات المتبانية في البقاع التى عاش فيها الإسلام بعد انتشاره خارج الجزيرة العربية, وكل هؤلاء وسعوا من دائرة التفكير الإسلامي سواء بإضافتهم المفيدة التى توافقت مع المبادئ الصحيحة للشريعة الإسلامية, أو انحرافهم عن جادة الصواب في بعض ما عنى لهم من فكرة فأخذوا يناضلون بالإقناع بفكرتهم خصوصا ومنهم من حاول أن يطوع القرآن الكريم لرأية بدلا من أن يخضع رأية هو لما جاء فى القرآن , فناضل أهل الفكر الصحيح لهدم معتقداتهم , وكل هذه الآراء تاه فيها الحكام والمحكومون, واحتاج الأمر فيها إلى الترشيد , خصوصا وأن كل فريق كان يدلل بالحجج أن رأيه هو الذي يتفق مع القرآن الكريم. هذه البلبلة في الفكر الإسلامي لم تكن موجودة في صدر الإسلام أثناء حكم الخلفاء الراشدين, إذ لم يحصل في زمنهم أن تلاعب أحد بأيات الله الكريم أو فسرها كما يجب ويهوى , أو استخدم منطقة فى الاقناع على غير ما وردت به, كان دون هؤلاء السيف أو الإيمان, ولا مهادنة معه إذا استمر في غيه. لقد ألقى على عاتق هؤلاء الخلفاء عبء تثبيت العقيدة الإسلامية في نفوس معتنقيها , وصيانتهم من الردة إلى ما كانوا عليه, ومقاومة أدعياء النبوة في غيهم, وإحاطة منطق الإسلام في طفولته بسياج متين من الإيمان لم يقدر على اختراقه أحد من المتفلسفين فى عهدهم , فكان عمالهم ومحكوموهم مؤمنين أصحاء, ما امتعضوا من حكم العدل أذا نزل بمراكزهم أو مالهم أو بأهلهم , وما جموا من إقامة الحد على أعز الناس لهم والقصاص حتى من أنفسهم, وما جزعوا من نقد مهما كان لاذعا ما دام غاب عن بصيرتهم سوراتهم, ولا جدال فى أن طريقتهم فى الإدارة هى التى حفظت عليهم – حكاما ومحكومين – إيمانهم , فهؤلاء ” قوم كمل ” عاشوا مع رسول الله سعداء بصحبتهم له, وكان رسول الله سعيدا بصحبته لهم ومشورته معهم فى الحكم والإدارة , ونحن نضعهم فى إدارتهم من بعده فى قمة التصرف الإنساني: أرأيت – مثلا – خليفة رسول الله أبا بكر, وقد صرف كل ماله على المسلمين وكان من ثراة القوم , يوم تؤول إليه الراية ليحتل مقعد القيادة فى الإسلام بعد رسول الله صلى اله عليه وسلم, فلا يجد نفسه يملك درهما يقتات به ومفاتيح بيت المال في يده, فيجمع المسلمين ويقول لهم: اجعلوا لى راتبا, فلما جعلوا له ألفين وفى رواية ” ثلاثة دراهم كل يوم” من بيت المال, جمعهم ليقول لهم ” زيدونى, فإن لى عيالا, وقد شغلتمونى عن التجارة, فزادوه خمسائة” , ولو لم يزيدوه لحكم بالقليل حتى مات جوعا, لأن حكم الجماعة هو النافذ , وليس له أن يستقل برأى فيما يخرجه لنفسه من بيت المال. ويروى أنه لما مات ابنه فى خلافته حصرت تركته في سبعة دنانير فاستكثرها أبو بكر عليه, لأنه عز عليه. كيف لا يعرف أن لإبنه مالا فاض عن حاجته, قيمته هذه الدنانير السبعة, ولم يصرفه في حياته على فقراء المسلمين, مع أنها لا تغنى ولاتسمن من جوع فكيف يمكن أن يوجد فى مثل هذا المجتمع الاسلامي : المحتاج والجوعان والعريان, إذا كان هذا هو أخذ الحكام لأنفسهم على أتفه المسائل في المعاملات.

إن أى عالم فى الإدارة مهما تباعد دينه عن الإسلام , ومهما شتتت أفكاره العقائد لا يمكن أن يشبع من القراءة في سيرة الخلفاء الراشدين, وطريقتهم في تعيين عمالهم, وعزلهم, ووصاياهم إياهم, ومصادراتهم لأموالهم التى فشت له بعد ارتيادهم باب السلطة, واستغفارهم لربهم ليل نهار على خطأهم في حق شعوبهم, ولو كان بسيطا لا يلحظ, إنهم كانوا يعيشون مع ضمائرهم قبل أن يعيشوا مع علانيتهم, ومن أراد أن يتزود من ذلك , فليرجع إلى أمهات الكتب الإسلامية التى روت عنهم سيرتهم, ومع ذلك لا يمكن أن نخرجهم عن دائرة إدارة الرسول, هم – كما قلت – امتدادا له في الفكر, هم تلاميذ تلميد الوحي, هم الواصلون مباشرة بفكر من فضل ربه على جميع الخلق, ولم يكن بهم حاجه لاستخدام منطقهم فيى التأليف والتبويب والتقسيم.

إن الباحث في تاريخ العقائد لا يخطئه البحث في الإلمام : إن كل دين من الأديان السماوية كانت تمر أصوله ومصادره بمرحلتين هامتين : مرحلة الإيمان القوى بهذا الدين , والانشغال بنشر دعوته , ومرحلة الإستقرار والتفرغ للتفكير في أصوله ومحاولة تفسيرها , وفى المرحلة الأولى : يسود فيها النصيون على عداهم, وهم الذين يتحاشون التأويل والتفسير , لما عمض عليهم فهمه خشية أن تخطئ أفهامهم الإنسانية فيما كان منزلا من عند الله, وهؤلاء يمثلهم في الاسلام : أهل النقل والسلف . أما المرحلة الثانية : فيسود فيها العقليون , المؤولون الذين يدخلون شخصيتهم في فهم ما جاء عن الله, وتحديد ما أراده منه , وأبرز هؤلاء في الإسلام : المتفلسفون من علماء الكلام, وبين هؤلاء وهؤلاء , وجد في الإسلام فريق من المعتدلين شديدى التدين , يقدسون المصادر النصية لعقائدهم , ولكنهم – في نفس الوقت – لا يهمنون عقولهم , بل يلجأون إليها في حذر وبقدر يقل ويزداد حسب خطورة ما يعرض لهم من شبه ومشاكل وتبعا للصورة التى تتشكل بها, وخير من يمثل هؤلاء , هو إمامنا ابن تيمية : إذ كان يؤمن بأن النقل الصحيح لا يمكن أن يخالفه عقل صريح (1) . فنحن عندما عقدنا أبوة الإدارة العلمية لأبن تيمية لم نعقدها لأحد النصبين, ولا لعالم من علماء الكلام المتفلسفين, ولكن لأحد السلفين الملتزمين بالنص , الواعين بالمنطق , والذين كتبوا رسائلهم في المنطق لتبيه المسلمين إلى بميتافيزيقية القرآن الكريم , بعد أن كانوا قد انخدعوا – عن طريق فلاسفة المسلمين – بميتافيزيقية أرسطو السرمدية . لقد كان ابن تيمية رحمة الله عليه فيلسوفا مسلما متمكنا من نفسه , أعد رسالته في المنطق أثناء إقامته بالإسكندراية في خلال الفترة التى قضاها في مصر بين عام 705 حتى 712 ه , ولو لم يكن قد درس عن وعى منطق الهلينين, لما أمكن أن يكشف عن نقاط الضعف عندهم , وما لم يكن قد عاش طويلا مع كتابات فلاسفة المسلمين من قبله , الذين دانو للمنطق الأرسطى بالتبعية والذين تاهوا فى فلسفة أفلاطون , وأبدعوا لنا الأفلاطونية الحديثة , لما أمكنه أن يقحم نفسه في معمعتهم, ثم أين يختار موقع المعمعة ؟ في الإسكندرية , عقر دار الفلسفة الإغريقية فى هذا الوقت , ولم يكن عالم منطق صبغ منطقة بفلسفة القرآن الكريم – بل كون عجينتها كلها دقيق كتاب الله العزيز – لما أمكنه أن يخوض في البحر الزاخز من المعرفة, الذى خلفه فلاسفة اليونان , مبينا أن معظم أخطاء الفلاسفة في الإلهيات صادرة عن خطأ أفكارهم في المنطق.

ثم لابد هنا أن نوضح – وقد كان ابن تيمية فيلسوفا عملاقا من فلاسفة القرآن الكريم, بز أهل عصره جميعا في هذا المجال – : أن الفلسفة هى النتاج الرئيسي لعالم المنطق , بل هى المداد الذي يدون به أفكاره , ويصيغ به تعاريفه , ويعرف بها قضاياه, وهى مقدمة كل منطقى, لأن المنطق ما لم يكن فيلسوفا , ما اكتسب لنفسه صفة المنطقين, والفيلسوف ما لم يكن منطقيا : ما نعت بأنه فيلسوف, فهما يمثلان – في رأينا – الأخوان الساميان المرتبطان بعمود فقري واحد وبحركة موحدة في الزمن والخطوة , وكلاهما يبحثان عن الحقيقة بمنظار واحدا أخذ أسمه منها ويمسى ” منظار الحقيقة” , تختلف فيه الرؤيا حسب عدساته, التى قد تقرب البعيد , وتبعد القريب, وتجسم الصغير وتصغر المجسم, من هنا فإن المنطقي الفيلسوف تقع عليه تبعة اختيار العدسات حتى لا يخطئه القصد , وهذه العدسات في نظرنا هى المناهج , التى أصبح لها علم مختص يقال له الميثودولوجيا methodologie أو طرائق البحث, لأن المنهج يعني الطريقة (method) , ويقصد بها الطريقة التى تدل المنطقى : أنه رجل المناهج أو الطرائق , ولم يخرج العلماء تعريف المنهج عن مجال المنطق أو الفلسفة, فعرفوه في أبسط صوره بأنه يعنى  “طريق البحث عن الحقيقة في أى علم من العلوم, أو في أى نطاق من نطاقات المعرفة الإنسانية” (1), وعالمنا ابن تيمية نجده يمزح بين الاصطلاحات الثلاثة ” المنطق , والفلسفة , والمنهج ” , التى لا غنى لإحداها عن أن تكون ملتحمة بالإثنين الأخرين بفلسفة القرآن الكريم, فرد الناس في عصره ومن بعد – لأن كتابه الذى عقدنا له عنه أبوة الإدارة وهو ” السياسة الشرعية فى إصلاح الراعي والرعية ” يجب في عصرنا هذا أن تبدأ من عنده ( الف باء) الدراسة للإداريين في أى مكان – ردهم ويردهم باستخدام هذه الاصطلاحات في إطار آيات القرآن الكريم ومفاهيم السنة المحمدية , وأحكام الإجماع من فقهاء المسلمين إلى دينهم المختار من الله ليكون دين البشرية عامة, فكان عالما بكل مقومات العالم المعاصر, له منطقة وفلسفته ومنهجه , التى يجعلها أنها تسيطر عليها قرآنية الفكر عنده.

لقد قام ابن تيمية بتأليف كتابه ” السياسة الشرعية ” فى إصلاح الراعى والرعية ” بعد جولة شاقة في بحار العلم , وبعد تضحياته الكبيرة في الدفاع عن رأية, وبعد نزوله ساحة السجون, فما منعه ظلمها عن كلمة الحق, فلم يكن به حاجه إلى حشوه بما يبعده عن غرضه, إذ يقال: إنه قام بتأليفه أثناء وجوده بمصر. فى رأينا أن هذا الكتاب جاء حاويا لتكنيكية ” الإدارة المسلمة”, أوما يقال عنه إذا أردنا التعبير عنه باللغة الإنجليزية “The Technique of Islamic Mangement”  بكل ما يحويه هذا اللفظ من اصطلاح علمى وما يهدف إليه من معنى. إن التركيز الشديد فى هذا الكتاب , وقلة الصفحات, يجعلان الدراس يشعر بصعوبة المهمة لتحصيل معانية وبكبر الجهد المطلوب منه لتفهم بيانه, ولكن لم يكن لغير ابن تيمية رجلا من المسلمين – أفنى عمره في التحصيل العلمى مخلصا لوجه الله وحده, ووهبة الله قوة الصبر والجلد على تحمل المشاق التى شدتها إليه أفكاره – بقادر على أن يخرج لنا مثل هذا الكتاب . لقد وضع المستشرق الأوروبي هنرى لاوست هذا الكتاب فى مستوى واحد مع الأحكام السلطانية للمواردي (1) ولكننا نرى أنه بز المواردى في : أن جعل – قبل غيره – من الإدارة علما وفنا , علما يدرس في تخصصه داخل داخل إطار الأصول, وفنا هو حصيلة تطبيق هذه الأصول زمن السلف الصالح.

إن أحد ألا يمكن أن يدرك قيمة كتاب ابن تيمية المشار إليه , إلا إذا عرف حقيقة نشأته العلمية وجهاده , لقد ولد كما قلنا في حران عام 661 هجرية واستقر في دمشق سنة 667 ه وفي هذه المدينة التى كانت عاصمة العباسيين وفيها أشع على العالم وبقاعه زخائر العلم الإسلامي , نجده يلتقي العلم في ( مدرسة السكرية) للحنابلة, التى كان يديرها أبوة , فخصه بالعناية , ووضع فيه آماله وملخص تجربته , فباشر تعليم ابنه – منذ الصغر – القرآن الكريم , والحديث الشريف , ومبادئ الفقه , ولما توفى أبوه في عام 682 ه وعمره واحدة وعشرون سنة, تولى هو زمام المدرسة السكرية مكان أبيه, فتعلم كيف يدير ويوجه من صغره. لقد تعلم فقه الحنابلة على يدي أستاذه الأكبر قاضى قضاه الحنابلة في دمشق الشيخ شمس الدين عبدالرحمن المقدسي, الذى تولى هذا المنصب عقب الإصلاح القضائي الذي أحدثه السلطان بيبرس, فعرف ابن تيمية معنى التنظيم, وفائدة إعادة بنائه على أسس إصلاحية, وتردد وهو في دمشق على مجالس الفقه والحديث مستمعا إلى عدد كبير من العلماء. وبدأ الإمام ابن تيمية التأليف وهو صغير السن, فيقال : إن كتابه الأول ” الصارم المسلول على شاتم الرسول” ألف في دمشق عام 693ه , وأن ” الرسالة الحموية الكبرى ” التى تتعلق بمسألة الصفات ألفها في عام 698 , وإلى هذا التاريخ يرجع تأليف رسالة في العقائد عن ” العقيدة الواسطية” وأنه انتقد سياسة المغول في الفترة من سنة 699 إلى سنة 703 حينما كانت دمشق مهدده باحتلالهم الأجنبي , وذلك في فتاوية المشهورة التى انتقد فيها سياستهم وحض مواطنيه على قتالهم, وأنه بدأ حملته ضد الأحمدية الرفاعية سنة 705 ه في دمشق , وأنه أصدر وهو في مصر ” الفتاوى المصرية” التى تعطى الدليل على اطلاعه الواسع, ومعرفته الشاملة لعلوم الفقه وذلك إلى جانب المؤلفات الأسبق ذكرها. ولعل أهم مؤلفاته التى لها وثيق الصلة ببحثنا – غير كتاب ” سياسة الشرعية في إصلاح الراعى والرعية” – هو رسالته في “الحسبة” التى ضمنها البحث فى ” سلطة ولى الأمر في مجال الحياة الاقتصادية لإقامة العدل الذي هو غاية النبوات والرسالات – كما يصرح ابن يتيمة – وأمورا أخرى هى أيضا من واجب الدولة (1), وكذلك مؤلفة في “منهاج السنة” الذى تضمن رأية فى الإمامة وشروطها, وكيفية تعيين الإمام, وما تثبت به إمامته, وموقف الرعية منه من حيث الطاعة” وهو الكتاب الذي وضعه في الرد على كتاب ” منهاج الكرامة” لابن المطهر الحللى, الذى تضمن رأى الشيعة الإمامية وشروطها وصفات الأئمة (1), فنحن إذا أردنا نأخذ الإدارة بمعناها الضيق الذى يحصرها في السلطة التنفيذية فكتاب ” السياسة الشرعية في إصلاح الراعى والرعية” فيه الكفاية لعقد أبوة الإدارة العلمية عالميا لابن تيمية , وإذا برز منادى ليقول لنا إنه لا يوفى بمضمون الإدارة العامة فى وسعها فقد أصبحت تشمل كل سلطات الدولة وتعنى فن وعلم الإدارة كما تديرها الدولة, فنحن نحليه على الكتابين الآخرين ” الحسبه ومنهاج السنة”، فإن بهما تعقد للإدارة حقها في وسعة مجالها الفكري باعتبارها مسئولة عن إنجاح جميع مناحى الحياة فى الدولة المعاصرة, وباعتبارها المخططة الأول للأهداف العامة, وراسمة السياسة العامة ومنفذه هذه السياسة لتحقيق أهدافها , وذلك بكل ما تعنيه اصطلاحات التخطيط والتنفيذ والمتابعة من وسع فى التفكير.

قد نجد فرصة أخرى قادمة نحلل فيها افكار ابن تيمية الإدارية , مقاسة بأفكار الذين عقدوا لهم في الغرب أبوة الإدارة العلمية عالميا, وإذا قدمنا هذه الدراسة سوف نشير بطفافة إلى ” فردريك تايلور” الأمريكي , لأن الأرائك اهتزت من تحته, وبدأ الأمريكيون بعد أن غزى فكر ” هنرى مايول” الفرنسي لم يتنكرون لتابلور ويعقدون هذه الأبوة لفايول (2), ذلك أن تايلور قد حصر منطقة فى محيط ضيق وهو محيط ” المشروع الصناعي” أما فايول فقد كان عالم منطق دخل الإدارة كابن تيمية من باب إجادة اللغة وسيطرته على منطقة وتكوين فلسفة خاصة به واتباعه المنهج التجريبي الذي اتبعه ابن تيمية فى تحليله يجعله صالحا لأن نعقد بينهما المقارنة , وسنجد أى أوجه للشبه كبيربينهما, ولا أدرى إذا كان أمام فايول وهو يضع إطار فكره الفلسفي الإدارى الذي منح لأجله أبوة الإدارة فى كتابه النظرية العامة للدولة, كان يوجد كتاب مترجم لابن تيمية , ولم يرد إليه , أم أنه توارد خواطر, بفارق هام:  أن ” فايول ” لم يكن من الممكن أن يكون تلميذا مثابرة لينهل من علم ابن تيمية, لقد كفاه الاصطلاحات والقشور , لأن دونه أن يتعلم اللغة العربية أولا لأنها شرط أصيل عند ابن تيمية لفهم دين الإسلام والمتفقه في لغة القرآن الكريم, وأن يكون قادرا على دراسة الفقه والأصول ليعرف حقيقة علة الأحكام.

أننا نعذر فلاسفة الغرب القدامى الذين لم ينتبهوا إلى ابن تيمية بنفس القدر الذى انتبهوا به إلى فلسفة ابن سينا والفارابى وابن رشد فلأنهم وجدوا في كتاباتهم ملامح الفلسفة الهيلينية فقد أنشدوا إليهم خصوصا أن كتاباتهم هى التى حافظت على هذه الفلسفة من الضياع وكان على الغرب أن ينتهل من كتاباتهم عن أرسطو وأفلاطون قبل أن يرجعوا إلى مصادرهم فى لغاتهم الأصلية, أما الحداث فلماذا تعميهم النظرة عن فلسفة ابن تيمية , ربما لأنهم لازالوا يعيشون حتى اليوم عبادا للمنطق الأرسطى وخداما أمينين للفسلفة الأفلاطولية, وليس أدل على ذلك في علم الإدارة العامة المستحدث المعرفة فى آذان الغرب, من صيحة علمائه بأن يتجهوا إلى كتاب السياسة لأرسطو وإلى جمهورية أفلاطون لتكون فاتحة علمهم (1), ولكن أين هم من أن يعرفوا قيمة إمامنا ابن تيمية وهو الذى لا يخطو إلا بالآية القرآنية ولا يمشي إلا بالحديث النبوي ينير شفتيه, وهو الذى سفه منطق أرسطو , وإن لم يبخس قيمته بقوله عن كلامه في الإلهيات بأنه ” لحمل جمل غث فى رأس جبل وعر وأنه لا سهل فيرتقي ولا سمين فيقلي”, أما رأية فلاسفة المسلمين القدامى الذين أشادبهم الغرب كالفارابى وابن سينا, فإنه أيضا قدرهم ولام عليهم بقوله: ” مزجوا الحق الذى أخذوه عن الدين الباطل الذى بنوه على أصولهم الفلسفية الفاسدة, وحاولوا التوفيق بين الدين والفلسفة ولكن على حساب الدين, فهم يعمدون إلى النصوص فيؤولونها بتأويلات بعيدة ومتكلفة, حتى تتلاءم مع قواعدهم الفلسفية” (1), ثم نجده يحمل على أصحاب المذهب العقلى “Rationa Iism” الذي ينشد إليه الآن أكثر علماء الإدارة العامة فيراهم ابن تيمية بأنهم أسرفوا في تفاؤلهم بقدرة العقل في الوصول إلى الحقائق الإلهية ولذلك نجده ينادى بالتحرز من استعمال العقل فيما وراء المعقول إلا عندما تؤيده شواهد المنقول من الكتاب والسنة والمأثور من الصحابة دون تأويل يلجئه إلى الافتراض العقلي (1).

لقد ولد ابن تيمية في عام 661 ه كما قلنا وكان موافق هذا العام 1217م وكان في هذا الوقت بذور النهضة الأوروبية “La Renassanu” تنثر تربتها مبشرة بنمو زرع جديد يتمثل فى إحياء التراث القديم لزعماء المناطقة الأغريقيين , ولم يكن أمام الأوروبيين إلا حصيلة الفلاسفة العرب الذين أدلو بدلوهم بقوة واقتدار فى هذا التراث ونقلوه سهلا إلى العربية وكان الفكر العربي ينازعه أمران إفراط وتفريط, إفراط يتمثل فى مذهب العقلين الذين أسرفوا فى استعمال العقل وجدوا الفضيلة, الأرسطية وتفريط يبدو في صورة الحرفيين الذين وقفرا عند النص فجاءت عبارته ” موافقه صريح المعقول لصحيح المنقول” توجز اتجاهه الفكرى وهو المذاهب الذى يساير العقل ويتمشى مع الفطرة السليمة التى تتحكم فيها الأهواء , ولم يطغ عليها التقليد والترديد وبذلك أقام ابن تيمية الأدلة على توافق العقل والنقل وأنهما أخوان لا يختلفان (1), وكان هو الحنبلي المذهب ” حرا فى تفكيره له منهجه فى الاستقراء والاستنتاج فإذا صحت عنده المقدمات فلابد أن تصح النتائج ولو خالف بها رأى من سبقه من ذوى الأفكار الثابتة والعلم الغزير فهو إنما يعتمد على قواعد دقيقة أحاطها بسياح من سلامة التفكير وسعة الاصلاع مرتبطة بكتاب الله وسنة رسوله لا يبغى عنهما حولا, ولا يقبل بهما بديلا فإن رأى أحدا وصل من أى طريق كانت إلى ما يخالف نصا من نصوصها فهو مخطئ ولا ريب عنده في ذلك ولابد من العودة إلى الطريق السوى, مستضيئا بنور الكتاب وسنة الرسول ولا يضل من مشى فى ضوئهما سبيله “. ولا ننكر أنه قد سبقه فحول فى العلم الإسلامي ولكنه بالنسبة للإدارة حده منهجه وأقام دليله وأخضع فكرها للمفاهيم التى استنتجها لها عن حجة محاطة بقوة الدليل.

لانجد شيئا نختم بهى كلمتنا إلا أن نردد كلمة في مقالنا السابق الذى أشرنا إليه عن ” منطق الإدارة فى ثقافة الإسلام” وهو أن عالمنا الإسلامي يجب أن يكون فى دراسته لمنطق الإدارة ” على عكس النتيجة التى توصل لها علماء الإدارة ( وهى أن لكل أناس منطقهم فى الإدارة) , إذ لابد أن يسلم أهل الإدارة – أولا و قبل كل شئ– أن للإسلام نمط موحد “unified Style”  يجب أن يلتقي عليه – أن آجلا أو عاجلا – منطق شعوبهم في فكرهم الإدارى وأن هذا المنطق بدأ طفلا وليدا على لسان النبي صلى الله عليه وسلم حينما نطق بعلم القرآن وأوضحت سنته تفسير قضايا هذا العلم الإلهى , وأن هذا النمط لا مناص من ضرورة أن يذوب فى إطاره كل فكر معاصر لأى أبوة فى الإدارة , لأن مردة العقيدة والشريعة الإسلامية التى كمل للدين الإسلامي تمامه بهما , وأنه إذا كانت الشعوب الإسلامية تحاول فى هذه الأيام أن تكون مبادئ الشريعة الإسلامية مصدرهم الرئيسي والأعلى لقوانينهم الوضعية, فإن هذا يعني تحديد إطار منطقهم فى أى علم من علوم الحياة داخل هذه المبادئ . والله الموفق .

 

هوامش

  1. يرجع إلى العدد السابع من مجلة ” المسلم المعاصر” ( رجب – شعبان – رمضان سنة 1396 يوليو – أغسطس – سبتمبر سنة 1976 ) ص 91 – 116.
  2. المرجع السابق ص 10
  3. جون ديوى ” الظن – نظرية البحث ” ترجمة د. زكي نجيب محمود 1960 انظر مصدر الكتاب ص 11
  4. د. قبارى محمد اسماعيل – علم الاجتماع والفلسفة – الجزء الأول – المنطق 1961 ص 31 وبعده.
  5. سلم له بذلك عن كتابه “The Principles of Scientfic Management” الذي أصدره عام 1911.
  6. سلم له بذلك عن كتاب Administration Industrielle et Generale الذى أصدره عام 1916 والذى ترجمته الأستاذه سارة جرير تحت عنوان “The

Administrative Theory of The State” وذلك عام 1923 فاتجهت بالمؤلف إلى إدارة الدولة ” أكثر منها إلى الإدارة الصناعية” عامة ولم ينتشر الكتاب المترجم واصله الفرنسي على شكل واسع بين العلماء الأمريكين قبل عام 1949.

  1. أقرا كتاب الأستاذ الدكتور إبراهيم بيومي مدكور “L Organon d Aristob dans

le Monde Arabe الذى يقرر فيه ” سيطرة منطق أرسطو على جميع دوائر الفكر الإسلامي – فلاسفه وعلماء وفقهاء ومتكلمين ” و ” أن هذا المنهج كان أرسططا ليسيا أن في كلياته, وأن في تفصيلاته” وذلك فى كتاب الأستاذ الدكتور على سامي النشار ” نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام, الجزء الأول, 1965 ص 9 وما بعده ولو أننا نرى في كتابات الدكتور مدكور المحدثة ميلا إلى نقض هذا الرأى.

  1. الآية 83 سورة أل عمران.
  2. يرجع فى ذلك للاستزادة إلى كتاب ” المنقذ من الضلال” لحجة الإسلام الغزالى مع أبحاث فى التصوف ودراسات عن الإمام الغزالى , لفضيلة الدكتور عبدالحليم محمود 1385 ص 77 وما بعده, ويرجع إلى الكتاب الذى أصدره المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الأخرى عن الإمام الغزالى, أبو حامد الغزالى فى الذكرى المئوية التاسعة لميلاده , 1380 – 1960 .
  3. ارجع إلى بحث الأستاذ محمد سعيد ابن إسماعيل عبده ” مشكلة المبرد والاختبار ,    ورأي الإمام ابن تيمية” المنشور في كتاب أسبوع الفقه المقارن, ومهرجان ابن تيمية  السابق الإشارة إليه من ص 759 – 822 .
  4. د. على سامى النشار ” نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام ص 7″.
  5. هنرى لاوست: النشأة العملية عند ابن تيمية وتكوينه الفكرى بحثه المنشور في كتاب أسبوع الفقه المقارن ومهرجان الإمام بن تيمية , دمشق 16 -21 شوال . 1380 ه , 835.
  6. ارجع إلى بحث الأستاذ محمد المبارك عن ” الدولة عند ابن تيمية” في المرجع السابق ص 847- 878 وبحث الأستاذ عدنان الخطيب عن الفكر القانوني عن أبن تيمية نفس المرجع ص 882 – 898 .
  7. Harold Komty 8 Cyril 6 Donnell, Principles of Management, 1959 pp 20 – 92 .
  8. أنظر في هذا كلام روبرت هاتشتنز في كتاب “Ideas & Jssues In Puplic Administration ” الذي نشره الأستاذ الدكتور روايت رالد.
  9. ارجع إلى بحث الأستاذ محمد د كرورى عن ” العقل ومجاله عند ابن تيمية ” وكتاب أسبوع الفقه المقارن ومهرجان ابن تيمية السابق الإشارة إليه إلى ص 913 – 924 وبحث الأستاذ أحمد القشيري ” الإمام ابن تيمية العالم الاجتماعي” في هذا المرجع ص 903 إلى 909.
  10. يرجع إلى بحوث علماء المسلمين نشرته في المرجع السابق عن ” ابن تيمية”
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر