أبحاث

الثقافات وتحدي العولمة

العدد 117

تمهيــد :

الثقــافــة خصــوصيــة تبــدأ مـع الإنســان الفـرد في تفـاعلـه مـع ذاتـه, ومـا يـؤمـن بـه, ويلتـزمــه مـن القيـم النـاظمـة لمفـاهيمــه, والقــائـد لســلوكـه, وبعــدهــا تكـون الثقـافـة قــاعـدة التفــاعـل الاجتمــاعي مـع المحيـط, وتتبـلــور بفعلهـا حضــارة أمـة مــا, وفيهــا خصــائص وسمـات وخصـوصيـات تشكــل العـامـل الحـاســم في تحـديـد الهـويـة.

والثقــافــة تـدفــع باتجــاه أســاليب مـن التعـاطـي مـع المـادة واسـتخـدامـاتهـا فتنتج أنمـاطًا معـاشـية, ومكتشــفـات علميــة, واختـراعــات وصنـاعـات, وفنــون مـن اللبـاس والطعـام والأثـاث مـع أسـاليب في اســتخـدامهــا, وكـل ذلـك ينـدرج تحت عنــوان هــو : الحضــارة. وبـذلــك تكــون الثقـافـة المـوجـه والقـائـد للمسـيرة الحضـاريـة في أمـة مـا.

والثقـافــة والحضــارة غــير المـدنيــة, فالأخــيرة هـي التعبــير عـن الـرقي في عـالــم التقـانــة والمــاديــات والعمــران, وبالتــالي فالمـدينـة تطــلق على كـل مجتمـع نجــد فيــه مظــاهـر التقــدم المــادي والتقنـي دونمـا الالتفـات, إلى الإنســان في ثقـافتــه أو مسـاره الحضـاري.

لكــل أمــة ثقـافتهــا لأنـة لكـل أمـة هـويتهـا, والأمــة التي تُخــترق ثقـافتهـا تصبح فيهــا الأمـور باتجـاه نســخ هـويتهـا لذلـك كـان التصنيف بـأن الغـزو الثقـافي أخطـر أنـواع الغـزو.

«الثقـافـة أمـر ينطـلق مـن ذات الإنســان, ويحمــل معنـى التقــويـم والتنقيــة, وقيًّـا بهــذه الـذات باتجــاه معــانى الخــير والحـق والعـدل والجمــال, وســائـر القيــم. والثقـافـة في جـوهـرهـا عمليــة إطـلاق للطـاقـات باتجـاه تـوليـد وعـي جمعـي يشــكل الهـويـة التس تقـود, وتطبــع الحضـارة بطـابعهـا, وهـي عنـدنـا العقيـدة والنظـرة إلى كـون, ومجمـل المبــادئ والأســس والقيـم التي نؤمـن بهـا ونلتـزمهـا ونعمــل على تطبيقهـا, وهـي كـل مـا يمـيز شــخصيـة الأمـة مـن لغـة وفكـر وفنــون وعلــوم وتقـاليـد وأعـراف…»(1).

وقــد ذهـب مـالـك بن نبي هـذا المـذهب في تحـديـد الثقـافــة وارتباطهـا بالحضـارة فقــال : «فالثقــافــة إذن تعــرف بصــورة عمليــة على أنهــا : مجمــوعـة مـن الصفـات الخلقيـة, والقيـم لاجتمـاعيـة التي تـؤثـر في الفـرد منــذ ولادتــه وتصبــح لا شــعـوريًّـا العـلاقـة التي تربـط سلـوكـه بـأســلوب الحيـاة في الـوســط الذي ولـد فيـه, فهـي على هـذا المحيـط الـذي يشكــل فيــه الفـرد طبـاعـه وشخصيتـه.

وهــذا التعـريف الشـامـل للثقـافـة هـو الذي يحـدد مفهـومهـا, فهـي المحيــط الذي يعكــس حضـارة معينـة, والذي يتحـرك قي نطـاقـه الإنسـان المتحضـر, وهكـذا نـرى أن هــذا التعــريف يضــم بين دفتيــه فلســفـة الإنســان, وفلسفــة الجمـاعـة؛ أي مقـومــات الإنســان ومقـومـات المجتمـع, مـع أخـذ في الاعتبـار ضـرورة انسجــام هـذه المقـومـات جميغًـا في كيـان واحـد, تحـدثــه عمليــة الـتـركيب التي تجـريهــا الشــرارة الأولى عنـدمــا يـؤذن فجــر إحـدى الحضـارات»(2).

الثقــافـة لهــا صفــات ثبــات الأســس والقيــم والضـوابـط والمبـادئ والمقـاصـد؛ لأن الـدينــي أسـاس فيهـا بالإضـافـة إلى اللغـة وســائـر القيـم, بينمـا الحضــارة لهــا خـاصيـة التجـدد ةالتطـور والحـركـة في مســار التقـدم, أو مســار الانتكــاس, والثقـافـات تتبـادل فيمــا بينهـا وتـأخـذ وتعطـى وتتـلاقـح, أمـا الحضـارات فـإنهـا تقـدم منجـزاتهــا مـن أجـل كـل إنســان وليس إنسـان أمتـهـا, وفي هـذا الانتقـال تخضــع المنتجـات الحضـاريــة لخصـائص ثقـافـات الأمـم, وبالتـالي تتكيفمـع المحـيط والـواقــع المعيـش, وفي كــل هـذا تبقـى لكــل أمــة حضــارتهــا, مــا دامـت الثقــافـــة وهـي خصــوصيــة تقــود هـذه الحضـارة وتحـدد مســارهــا.

ويفيـد في هـذا التقــديــم أن نــورد التمـييز الــذي اعتمـد علي عــزت بيجــوفيتش بين الثقــافــة والحضــارة. يقــول : «مــوضــوع الثقـافــة مـوضــوع ثـابت هـو لمـاذا نحيـا؟ الأول ســؤال عـن معنـى الحيـاة, والثـاني عـن كيفيــة هـذه الحيــاة. يمكـن تمثيــل الحضـارة بخـط صـاعـد على الــدوام, مـن اكتشــاف النــار, مـارًّا بـالطـواحيـن المـائيـة, والحـديـد, والكتـابـة, والآلـة, حتـى الطـاقــة الـذريــة ورحـلات الفضــاء. أمــا الثقـافـة, ففـي بحث دائب يعــود إلى الـوراء ثـم يبـدأ مـن جـديـد. إن الإنســان كمــوضـوع للثقـافـة, بـأخطـائــه النمطيــة وفضـائلــه وشـكـوكـه وخطـايـاه, وكــل مــا يشكــل وجـوده الجـوانـي, يــبرهـن على أولـويتــه الفـائقــة, ونســتطيـع أن نقــول أيضًــا وعـدم قـابليـتـه للتغييـر»(3).

تـأسـيسًـا على مـا تقــدم تكـون الثقـافـة خصـوصيــة في كـل أمـة, وبالتـالي فـإن لكــل أمـة ثقــافتهـا, وبنــاء عليــه تكـون لكــل أمـة شخصيتهـا وهـويتهـا.

وقـد جــاءت النصوص القــرآنيـة تـؤكـد أن ذلـك سنـة كـونيــة أرادهـا الله سبحـانـه وتعـالى. قــال تعـالى : }وَمِـنْ ءَايَـاتِــهِ خَـلْقُ السَّـمَــوَاتِ وَالأَرْضِ وَاختِلاَفُ أَلْسِنَتِكُــمْ وَأَلْـوَانِكُــمْ إِنَّ أَكْـرَمَكُــمْ عِنْـدَ اللهِ أَتْقَـــاكُــمْ إِنَّ اللَّــهَ عَلِيــمٌ خَـبِير{(الحجــرات : 13).

العــولمــة Globalisation  :

شهــدت بـدايــة عقــد التســعينيـات مـن القــرن العشــريـن انهيــار الاتحـاد الســوفيـاتي, وبذلــك تـوقفـت الحـرب البــاردة بيـن معشكــري الأطلســي ووارســو, وكـانت قـد دامـت قـرابـة نصف قـرن, لتبـرز مقـولـة : «النظــام العـالمــي الجـديـد» مـع جــورج بـوش الأب, والتـى تحــولت إلى مصطــلح العــولمــة لاحقًــا, وبــدل أن كــان الســعي لـلاســتقطـاب والهيمنــة ضمــن الثنـائيـــة القطبيــة, بـات العمــل هـذه المـرة أمـريكيًّــا ومـن أجـل ســيادة وهيمنــة أمـريكيـة, حتـى بـدون أعضــاء الحـلف الأطـلسي.

ولأن مصطــلح العـولمــة قـد أحـدث ولا يـزال لبسًـا وغمـوضًـا يكـون ضـروريًّـا إبـراز مقــاصـده, والتمـييـز بينــه وبيـن مصـطــلح العـالميـــة  Universalisme, فالعـالميـــة انفتــاح مـن الأمـم على بعضهــا وهـي ضـرورة مـن أجــل التـلاقــح الثقـافي, وتبـادل المعـارف والخبـرات, وتضـافـر الجهـود في تطـويــر منتجــات الحضــارة, وقـد حـصّ الإســلام على العـالميــة مـن خـلال النـص القــرآنــي, مـن ذلـك قــولـه تعـالــى : }وَجَعَلْنَــاكُــمْ شُعُــوبًـا وَقَبَـائِلَ لِتَعَــارَفُـوا{(الحجــرات : 13) ولأن مـن مقــاصـد الشـريعـة في الإســلام إسعـاد الإنسـان, ومـن أوامـر الشــريعــة تكــريـم بني آدم, فــإن الإســلام وجّــه إلى العـالميــة, وإلى الإقـرار بـالآخــر وبخصــوصيـاتـه, وقبــولــه أيًّــا كــان معتقـده ومـوقفـه وثقـافتـه شــرط ألا يتـوجـه بعـدوان على الـديـن أو الـوطـن.

قــال تعــالى : }لاَ يَنْهَــاكُــمُ اللَّــهُ عَـن الَّذيِـنَ لَــمْ يُقَــاتِلُــوكُــمْ فِــي الـدَّيـنِ وَلَــمْ يُخْـرِجُـوكُــمْ مِـنْ دِيَــاركُــمْ أَنْ تَـبَـرُّوهُــمْ وَتُقْسِــطُـوا إِلَيْهِــمْ إِنَّ اللَّــهَ يُحِـبُّ الْنُقْسِطِين{(الممتحنــة : 8), أمــا العـولمــة فهـي هيمنـة وتســلط وعمـل لتنميـط الآخـر وفق إرادة صــاحب دعــوة العـولمـة أو النظـام الأمـريكـي المســمى تظـامـاً عـالميًّــا جـديــدًا, وهـو أمـر تعــودتــه الأمـم حيث طـرحــه كـل مـن عمــل لفكــر تـوســعي إمـبراطـوري تحت ستــار أنـه يـريـد نظـامـاً عـالميًّـا جـديـدًا, أي يـريـد صيـاغــة العـالـم إن استطــاع وفـق نمـوذجــه الثقـافي ومــا يسـتتبـع ذلـك لجهـة الاقتصـاد والسيـاســة والاجتمـاع والفنـون والآداب وكــل متعلقــات المجتمــع البشــري, وهـذا نفســه مـا عمـل لـه النظـام الأمـريكـي ــ اليـوم ــ تحت سـتار العـولمـة, ولا أدل على ذلـك مـن المفــاهيـم التي طـرحهـا فـرانســيس فـوكـويـامــا في كتـابـه المعنـون : «نهــايـة التــاريـخ», والتـى خـلص منهـا إلى زعــم مفــاده أن الشــعـوب كلهــا ســتنتهـى إلى التســليـم بعـولمــة عمــادهــا الليبـراليــة وفـق النمــوذج الأمـريكـي, وإذا كــان هيجـل قــد زعــم بنهـايــة التــاريخ مـع الـدولـة الـرأسمـاليــة, ومــركـس مـع الشـيوعيـة وإلغــاء الـدولــة, فــإن فـوكـويـامــا يقـول : «ويبــدو لي ــ أخيـرًا ــ الجنـس البشــري كمـا لـو كـان قطـارًا طـويـلاً مـن العـربـات الخشبيـة التى تجـرهـا الجيـاد متجهـة إلى مـدينــة بعينهـا عــبر طـريق طـويــل في قلـب الصحــراء, بعـض هـذه العـربـات قـد حــددت وجهتهـا بـدقــة ووصـلت إليهــا بـأســرع وقـت ممكـن, والبـعض الآخـر تعـرض لهـجـوم مـن الآبـاش (الهنــود الحمــر), فضّل الطـريق, والبعـض الثــالث أنهكتــه الـرحـلــة الطـويـلـة فقـرر اختـار مكـان وســط الصحــراء للإقـامـة فيـه, وتنــازل عـن فكــرة الـوصــول إلى المـدينــة, بينمـا مـن ضـلّــوا الطـريق راحــوا يبحثـون عـن طـرق بـديـلــة للـوصـول إلى المـدينــة, وفي النهـايـة يجـد الجمـيع أنفسـهـم مجبـريـن على اســتعمـال نفس الطـريق ــ ولـو عبــر طـرق فــرعيــة مختلفــة ــ للـوصــول إلى غــايتهــم, وفعــلاً تصــل أغـلب هـذه العـربــات إلى المـدينـة في النهـايـة, وهـذه العـربـات عنـدمــا تصــل لا تختلـف عـن بعضهـا البعـض إلا في شــيء واحــد هـو تـوقيـت وصـولهـا إلى المـدينــة, أي ســرعــة أو بطء وصـولهــا إلى الـديمقــراطيــة الليبـراليــة, ومـن ثــم نهـايـة رحلتهــا الطـويلـة .. نهـايـة التــاريـخ»(4).

إن هـذه الفـرضيــة العـولميــة بنهــايـة التــاريـخ, وتنميـط الثقـافـات والحضــارات على أســاس قطب آحــادى التســلط والهيمنـة, وهـذه المــرة أمـريكــي يعتمـد ليبـراليــة رأسمـاليـة متـوحشــة, جـرائمهــا بـاديــة للعيـان, إن في استخـدام القـوة العسكـريـة, أو القـوة الاقتصـاديـة, أو في طـرح الأنمـاط الاجتمـاعيــة للفـرد أو الأســرة أو المجتمــع.

لقــد زعـم الغــرب الأوروبـي بــأن نمـوذجــه الحضــاري هـو الـذي يجب أن  يســود, وقـد تحـدث أرنـولـد تـوينـبي عـن خطــأ وقعت فيــه أوروبــا الغـربيـة وتقــع فيـه اليــوم الـولايـات المتحـدة الأمـريكيـة فقــال : «ومــا نظـريـة وحـدة الحضـارة هـذه إلا رأي خــاطـئ, تــردّى فيــه المـؤرخـون الغـربيـون المحـدثــون تحـت تـأثيـر محيطهـم الاجتمـاعـي, وأوحـى بـه مظهــر الحضـارة الغـربيــة الخــدّاع. إذ استطــاعت في العصـور الحـديثـة أن تلقي شبكـة نظـامهـا الاقتصـادى على جميـع أنحـاء العـالـم. وتـلا تـوحيـد العـالـم اقتصـاديًّـا على أسـاس غـربي توحيـده سيـاسيًّـا على نفس المـدى تقـريبـاً وعلى نفس الأسـاس الغـربي. وذلـك لأن فتـوحـات الجيوش والحكـومـات الغـربيـة لـم تكـن مـن الشــمـول أو الحســم كفتـوحــات رجــال الصنـاعـة والفنييـن الغـربيين ..

وإنــه وإن كــانت هـذه حقــائق لافتــة للنظـر, إلا أن اتخـاذهــا دليـلاً علـى وحـدة الحضــارة رأى ســطحـي, لأنــه وإن اصطبغـت المصــورات الاقتصــاديــــة والسيــاســية بالصبغـــة الغـربيــة, إلا أن المصـور الثقـافي مــا يــزال في جـوهـره على حـالـه؛ منــذ أن اتخـذ المجتمـع الغـربي سـبيلـه إلى الغـزو الاقتصـادي والسيـاســى. وفي وســع كـل ذي عينــين يبصـر بهمـا, أن يشــاهـد تقــاطيـع الحضــارات الأربع القــائمـة .. مـا خـلا العـربيــة ــ مــا تـزال واضحـة المعـالـم في المستـوى الثقـافي»(5).

وتـوينبي الـذي يبيـن سـطحيـة التحـليل الأوروبـي الغـربي سـابقًـا يقــرر بـأن هـذا نــابـع مـن تجـاهـل هـذا الغــرب لثقــافـات الشــعوب, وانتمـائهــا الـوطنـى الذي يتـأسس على هـذه الثقــافــة, ويعيــد تـوينبــي هـذا الـوهــم الغـربي إلى ثـلاثـة جـذور هـي :

1«ــ وهـم حـب الـذات.

2 ــ وهــم الشـرق الـراكـد.

3 ــ وهــم التقــدم كحــركـة تلتزم خطًّــا مستقيمًـا»(6).

وإذا كــان تـوينبـي يتحـدث عـن الغـرب الأوروبـي قبــل قـرن مـن الـزمـان, فــإن كـلامــه يصـح على الـولايــات المتحـدة الأمـريكيــة التي تعيش الأوهــام نفسهــا, وعلى أســاس أوهـامهـا تـزعــم بـأنهــا ستستطــيع فـرض عـولمـة يســود قـرارهـا مـن خـلالهـا.

إن المســتغــرب حـالــة بعـض مـن التبـس عليهــم المـوضــوع فيــلّمـوا بـالأمـر الـواقــع, وأخـ1وا يتحـدثـون عـن العـولمـة, وكـأنهـا أمـر واقــع لا منـاص منـه, ومـا على الأمـم إلا أن تتكيف مـع متطلبـاته, وقـد أسهــم في عمليـة الخـداع التقــدم التقنـي في ميــدان الاتصــال والتـواصــل فســلمـوا ــ مثـلاً ــ بمقــولـه مفـادهـا أن العـالـم بـات قـريـة كـونيــة, ومـردّ الخطـأ عنـد هـذا القبيـل أنــه افتــراض بـأن التقنيــة والآلــة والأســـاليب تلغـي الثقـافـــة والخصــائص الشخصيـة في كـل أمـة.

والــرد علـى هـؤلاء يــأتي مـن تحـديـد الثقـافــة ومـوقعهــا في حيــاة شعـب أيـة أمـة, حيث الثقـافـة تكـون في أسـاسـات تكـوين الشخصيــة لشعـب كـل أمــة بمختــلف فئـاتـه ومســتويـاتـه, وبالتـاللا فنظـريــة سـيـادة طبقـة على أســاس أممـي عـولمـي نظـريـتة عقيمــة, ســواء لبست عبــاءة البـروليتـاريـا المـاركسيـة, أو لبست عبـاءة الـرأسمــاليــة المتـوحشـة.

إن المقــام الأســاســي للعـولمـة هـو الثقـافــة, لأنهــا «روح الأمــة وعنـوان هـويتهـا, وهـي مـن الـركـائـز الأســاس في بنـاء الأمــم وفي نهـوضهــا, فلكــل أمــة ثقـافيـة تســـتمـد منهــا عنـاصـرهــا ومقـومـاتهــا وخصــائصهـا, وتصطبغ بصبغتهــا, فتنتسب إليهــا. وكــل مجتمــع لـه ثقـافتــه التي يتســم بهـا, ولكـل ثقـافـة مميـزاتهـا وخصـائصهـا .. والثقـافــة ليست محمـوعــة مـن الأفكــار فحسب, ولكنهــا نظـريـة في السـلوك بمـا يـرســم طـريق الحيــاة إجمـالاً, وبمـا يتمـثل فيـه الطـابع العـام الذي يتطبع عليـه شعب مـن الشعــوب, وهـي الـوجـوه المميـزة لمقـومـات الأمــة الـتي تُمـيز بهــا عـن غيـرهـا مـن الجمـاعـات, بمـا تقـوم بـه مـن العقـائـد والقيـم واللغـة والمبـادئ, والســلوك والمقـدســات والقـوانيـن والتجـارب»(7).

تـأسيسًـا على مــا تقـدم تكـون العـالميــة مقبـولــة لأنهــا تحتــرم ثقـافــة كـل أمــة وهـويتهـا, وتتعـاطـى معهــا على أســاس النـدّيــة, أمــا العـولمــة المشحـونـة بالفكــر الإلغــائي, وباتجـاهــات الاختــراق والاســتلاب لهـويـة الآخـر, وهـذا مـا تسعـى إليـه الـولايـات المتحـدة الأمـريكيــة, فـإنهــا مـرفـوضــة ومحكــوم عليهــا بالفشــل لأنهـا تخـالف ســنن الكـون في تنـوع الثقـافـات والخصــائص الحضــاريـة المنبثقــة مـن هـذا التنــوع.

العـولمــة : الأسـس الفكـريـة ودواعــي السقــوط :

لقــد انتشــر الكـلام بقــوة مـع تـوقف الحـرب البــاردة حـول ضــرورة اعتمـاد منهـج «قبــول الآخــر» و «حــوار الحضـارات» و«حـوار الأديـان», ومــا يشبــه ذلـك مـن عنـاويـن, والعـولمــة /الأمــركــة ذهبـت مـذهبًـا آخــر حيث طـرح مفكــرهــا صـامـويــل هنتنجـتون عنـوانًـا لكتـابـه الذي يــروح فيــه للهيمنــة الأمـريكيــة أو العـولمـة هـو : «صـدام الحضـارات», وكـأتـه أراد أن يقـول : إن صـدام الحضـارات واقــع مـن أجــل أن ينتهـى هــذا الصــدام عنــد الليبـراليــة الـرأسمـاليــة الأمـريكيـة فتكـون نهـايـة التـاريخ كمـا زعــم فـوكـويـامـا.

ولقـد راح كثيـرون يتحـدثــون عـن زمـن العـولمـة والتكيف مـع العـولمـة في مـؤتمـرات للحـوار, وقــد أغفـلـوا أن العـولمـة ضـد الحـوار والتـلاقي. فالعـولمــة قـد انطلقت مـن مـرجعيــة النمــوذج الـواحـد الأمـريكـي, ولـم تكـن مشــروعًـا أو ورقـة عمــل خـرجت بهـا مجمـوعـة تحــاورت فتـوافقـت على نقـاط ومنطلقــات.

«إن ممـكن الخطــر في عمليــة العـولمــة كـونهــا تستمـد مـرجعيتهـا مـن تصـورات وممـارسـات أوروأمـريكيـة, أو باأحـرى أمـريكيــة ممـا يعنـى أنهــا ليسـت نتـاجًـا لتفـاعـلات بين الحضـارات والمـذاهب المختلفـة على مستـوى العـالـم ككـل, وهـو الأمـر الــذي يكشف بشكــل أو بـآخــر, وعلى حـد قــول البعـض أن العـولمـة هـي الهجمـة الأخيـرة الـرأسمـاليــة والتي تستهـدف تنميـط العـالــم بالشــكـل الـذي يخـدم مصـالح القـوى الـرأسمــاليـة العـالميـة المسيطـرة»(8).

والسـتؤال الـذي نطــرحــه : مـا الأسـس الثقـافيــة لهـذه المـرجعيـة الأمـريكيـة؟

نتــرك لأمـريكــي أمــر التعـريف بالثقـافـة الأمـريكيــة والإجـابــة عـن الســؤال, هـو جــورج مـارســدن الــذي قــال : «كـان بيـوريتـان(9)القـرن الســابـع عشــر أكثــر مســتوطنـى أمـريكــا الشــمـاليــة الأوائــل زضـوحًــا في التعبيـر, وعمقًــا في الثقـافـة لذلـك تمتعـوا بتـأثـير هــائل يفــوق حجـمهـم على الثقـافــة الأمـريكيــة في العصـور التـاليـة. وكثــيراً مـا قـام ورثتهــم في نيـوإنجلنــد بمهمـة المعلميــن المـربيـن في الأمــة الجـديـدة, وذلـك نجحـوا في عــرض التقليــد البيـوريتـانـي على أنـه الـتراث القـومـي. ولـم يكـن ذلـك كلــه تضـليلاً. إذ كــان البيـورتــان مـن غــلاة البـروتستــانت في أمـريكــا شمـاليـة بريطــانيـة يغلب عليهـا الطـابـع البـروتستـانتـى بـدرجــة كبيــرة, ويعبـرون عـن وجهـات نظـر تتـلاءم مـع آراء العـديـد مـن المســتعمـريـن (بكســر الميـم) الآخــريـن في أمـريكـا. ولذلــك عنـدمــا تشـكلت الأمـة الجـديـدة تقبـل الأمـريكيـون بســرعــة حـديث الميثــاق المتعــلق بالحصــول على مبـاركــة الله أو التعـرض لخطـر أحكـامـه. وقــد أحـب الأمـريكيـون النظــر إلى أنفســهـم على أنهـم حملـة رســالـة خـاصـة. وتحـدثـوا فــورًا, بصـتورة تكــاد تمـاثـل مـا كـان البيـوريتـان قـد تحـدثـوا بــه, عـن الـولايـات المتحـدة بـوصفهـا إســرائيـل الجـديـدة, اختــارخـا الله لتقـوم بـدور قيــادي في حقبـة جـديـدة مـن اقتـداء العـالـم»(10).

هـذه المنطلقــات الثقـافيـة المتهـودة أو قــل المتصهينــة التـى أشــبعت عقــول قــادة الـولايـات المتحـدة الأمـريكيــة ولـدت قنـاعـة بـأنهــم الأمـة المختـارة التي يجب عليهـا أن تخضـع كـل الأمـموالشـعـوب وتسـخـرهـم, كمــا الأمـر بالنسـبة لمـزاعـم اليهـود بـأنهـم الشـعب المختـار, وأن الأمـم والشعـوب مـن الغـوييـم (الأغيــار) يجـب أن تســخـر لهـم. ويكمــل مـارســدن قـائـلاً : «وقـد رفــع الشعــور بكـونهــم أمـة مختـارة, أو إســرائيــل جـديـدة, إحســاس أمـريكـي القـرن التـاســع عشــر بالـرسـالـة أو المصـير الـواضـح بـأنهــم ســيصبحـون قـوة يعبـر نفـوذهــا القـارات. وتـمّ الاســتيلاء على أراضٍ شــاسعـة مـن السكــان الأمـريكيـين الأصليـين ومـن المكسـيك, ويعـود بعـض السـبب في ذلـك إلى تفــوق الـولايـات المتحـدة الأخـلاقي المفتـرض. وفي القـرن العشــريـن عنـدمــا أصبـح الأمــريكيــون قـوة عـالميــة كـان مثـل الأمــة المختـارة الأعـلى أسـاسًـا منطقيًّــا ومــبررًا هـامً في السيـاســة الأمـريكيــة الخـارجيــة»(11).

ومـع الســنوات الأولى مـن القـرن الحــادى والعشـريـن نجـد سيـاسـة الاستعـلاء القـائمــة على عقـدة التفــوق قـد أوصلت الأمـريكــي على عقـدة التفــوق قـد أوصـلت الأمـريكــي إلى السعـى لاستبـاحـة سيـادات الــدول وحقــوق الشــعـوب دونمـا رادع أو ضـابط.

لقــد أعـربت هـذه الثقـافـة عـن نفسهــا بعمليــة الإبـادة التى مـارسـهـا المهـاجـرون ضـد سكـان البــلاد الأصلييـن مـن الهنـود الحمـر تصــل بعـض التقـديـرات إلى أنهـا قتـلت مـا يـزيـد على 30 مليــون, ومنهــم مـن قـال بـرقــم يتجـاوز 80 مليـون شخـص, وك=مـن ثــمّ حـرب اســترقـاق الأفـارقــة, ولـذلـك تـأصلت فيهـم عقـدة التفـوق على أســاس لـون البشــرة. يقـول الأمـريكـي روبـرت كــرونـدن في هـــذا المـوضــوع : «وبحــلول عــام 1682, أصـبح الهنــود والعبيـد يخضـعـون لقـوانيـن واحـدة ربطت لـون البشــرة بـدرجــة الحـريـة. وبعـد ذلـك التـاريخ, أصبحت البشــرة الـداكنــة تعنـى أن صـاحبهــا إمـا عبـد أو أصلـه مـن العبيـد, أمــا البشــرة البيضـاء فتعنـى أن الأصـل أفضــل, وأن صـاحبهــا يملـك الحــريــة لتحسـين وضعـه الاجتمـاعـي»(12).

هكــذا, إذن, تقــوم أســس الثقـافــة العـولميــة في تـربــة العنصــريـة, وفلسفــة الاسـتعـلاء المستمـدة مـن الفكـر المتصهيـن, وقـد نمــا هــذا الفكــر في الـربـع الأخــير مـن القــرن العشــريـن مـع بـدايــة انتخـاب رونـالـد ريغـان رئيسًــا للـولايـات المتحـدة الأمـريكيــة, حيث حصلت حـركـة انبعـاث لفكــر الصهيـونيــة غــير اليهـوديــة والـذي يقـود تيـاره قســاوســة متصهينـو المفــاهيــم, منهــم : جيــري فالـويـل, وبات روبـرتسـون, وفـرانكليـن غـراهــام, وآخــرون؛ في هـذا المنــاخ قــامـت العـولمــة مـع بـدايــة عقـد تسـعينيـات القـرن العشــريـن مشحـونـة بهـذا الفكـر, وفيــه أن دعــم الصهيـونيــة اليهـوديـة واجـب دينـي تمهيـداً لمعـركــة هـرمجـدون(13). وكــي تحصــل العــودة الثـانيــة للمسـيح ويكــون بعـدهــا العهـد الألفـى السعـيد. لـذلـك نـرى العـولمــة /الأمـركـة بـأن إسقـاطهــا في الأمــة العـربيـة هـو مـا يسمـونـه حلف الشـرق الأوســط, وعلى أســاس ذلـك كتب شمعـون بيــزر رئيس وزراء العـدو الإســرائيلي الســابق كتـابـه : «الشــرق الأوســط الجـديـد» وهـذا الحـلف ــ حسـب زعمهـم ــ يـريـدونـه بـديـلاً لهـويـة الأمــة في العـروبـة والإســلام.

وينـدرج في أســس العـولمـة الاقتصـاد, حيث يـريـد الأمـريكــي الإمســاك بثــروات الأمـم وشــركـاتهــا الكبــرى, وأن تحـول أســواق العـالـم إلى مـواقــع اســتهـلاكيـة للمنتجـات الأمـريكيــة, وتستغــل لهـذه الغـايـة وصفـات البنــك الـدولـى, وبهــذه الطـريقــة يـريـدون اسـتعبـاد الأمـم, وجعــل الشعــوب عمـالاً يقـدمـون لهــم الخـامـات ويعمــل بعضهــم في شــركـاتهـم, ومـن ثــم تعـود الأمـوال كلهــا إلى دائـرتهــم ثمنًــا للســلـع الاستهـلاكيــة.

قــال صـاحبـا كتـاب «فـخ العـولمـة» : «إنهــا الليبـراليــة الجـديـدة neolib-eralisme. والمقـولــو الأســاســية لهـذه النظـريـة الجـديـدة هـي ببســاطـة : مــا يفــرزه السـوق صــالح, أمـا تـدخـل الـدولــة فهـو طـالح. وانطـلاقـًـا مـن أفكــار أهـم ممثـل هـذه المـدرســة الاقتصــاديــة, الاقتصـادي الأمـريكـي وحـامــل جـتائـزة نـوبــل ملتـون فـريـدمــان Milton Friedman, اتخـذت في الثمـانينــات (مـن القـرن العشــريـن) الغـالبيــة العظمـى مـن الحكـومـات الغـربيـة هـذه الليبراليـة النظـريـة منــارًا تهتـدى بـه في سيـاســاتهـا. وهكـذا صــار عـدم تـدخــل الـدولــة (Dere gu lierung) إلى جـانب تحـريـر التجـارة, وحـريــة تنقــل رءوس الأمــوال, وخصخصــة المشــروعــات والشــركـان الحكـوميـة, أسلحــة اسـتراتيجيـة في تـرســانـة الحكـومـات المؤمتــة بــأداء السـوق, وفي تـرســانـة المـؤسسـات والمنظمـات الـدوليــة المسيّـرة مـن قبــل هـذه الحكـومـات, والمتمثلـة في البنـك وصنـدوق النقـد الـدولي (IMF), ومنظمـة التجـارة العـالميــة (WTO). فقــد غــدت هـذه المـؤسسـات الـوســائـل التى تحـارب بهـا هـذه الحكـومـات في معـركتهـا الـدائـرة رحـاهـا حتى الآن مـن أجــل تحـريـر رأس المـال .. وأعطـى انهيــار دكتـاتـوريـة الحـزب الـواحـد, في أوروبــا الشــرقيـة, هـذه العقيـدة دفعــة إضـافيـة, ومنحهــا القـدرة لتصبح ذات أبعــاد عـالميــة. فمنـذ نهـايـة خطـر الـدكتـاتـوريـة البـروليتـاريـة, فـإن العمــل جـار على قــدم وســاق, وبكــل جـديـة وإصـرار على تشـييـد دكتــاتـوريـة الســوق العـالميـة»(14).

إن نظـريـة الأمميـة التي تســود فيهــا طبقـة البـروليتـاريـا وتحكـم دكتـاتـوريًّــا وتســيطـر عنـد المـاركســيين, قابلتهــا نظـريـة تســود فيهــا طبقـة الـرأسمـاليين المتـوحشين وتسيطـر فيهــا سيـاســة اقتصـاد الســوق عنـد الأمـريكييـن مـن خـلال العـولمـة.

إن مســاعـي الهيمنــة الأمـتريكيــة على اقتصــاد العـالـم مـن خـلال نظـريـة اقتصـاد الســوق والشـركـات متعـددة الجنسـيات مضـافًــا إلى ذلـك الإمســاك بقــرار المـؤسســات الــدوليــة آنفــة الـذكــر إنمـا هـي مخططـات لاختـراق ســيادات الـدول, ونهـب ثــروات الشعـوب, ولهـذه الغـايـة نجـدهـم يـرفعـون سـلاح الحصــار ضـد كـافــة مـن يتمـرد على القــرار الأمـريكـي, فلقــد حـاصـروا ليبـيا وبعـدهــا العـراق, وفي مـرحلـة التهـديـد بــالعـدوان على العـراق حيث وقفـت دول عـديــدة تـواجــه العـدوان الأمـريكـي, ومـن هـذه الـدول فــرنســا وألمـانيـا نجـد وســائـل الإعــلام صبيحـة الخميس في 13/2/2003 تطـالعنـا بنبــأ ينص أن الـولايـات المتحتدة الأمـريكيــة تـدرس مســألـة إنــزال عقــوبـات اقتصـاديــة ضـد فـرنســا وألمـانيــا, وتـدرس عمليــة اســتبـدال الهنــد بفـرنســا في عضـويـة الـدول دائمــة العضـويـة في مجلـس الأمــن وصـاحبـة حــق النقض «الفيتـو».

الـولايـات المتحـدة الأمـريكيـة مـن خـلال هـذه الإجــراءات تـزيـد العـداء ضـدهـا بحيث تصبح إجــراءات العـولمـة الاقتصـاديـة خطيرة عليهــا وعلى ســواهـا. جـاء في كتـاب «فـخ العـولمـة»: في «أســواق المــال, على أقــل تقـديـر, تعنــى العـولمـة, حتـى الآن أمـركــة العـالـم إلى حـد مــا .. وفي الـواقــع فــإن الضـرر الاقتصـادي الـذي تفــرزه هــذه التبعيـة عظيــم بـلا مـراء, علمًــا بـانـه لا يخـلـو بالنســبة للـولايــات المتحـدة الأمـريكيــة نفسهــا مـن مخـاطـر ومجـازفـات, فكلمــا كـان العمـلاق الأمـريكــي أشــد بطشًــا في اســتخـدام قـوتـه, زادت احتمـالا ردود الفعــل العـدائيـة»(15).

لكــن الســؤال المطــروح : هــل تستطيــع الـولايـات المتحـدة الأمـريكيـة أن تنمـط الأمـم وفـق نمـوذجهـا الثقـافي اللاإنسـاني؟ وهــل تسـتطيع أن تتحـول إلى شـرطـي العـالـم ومصـرفـه؟

إن قــراءة واقــع الـولايـات المتحـدة الأمـريكيـة, والعـلاقـات الـدوليــة, وتلـك الإمكـانـات الكبيـرة التى يتطلبهـا مـوضـوع مخـطط العـولمـة, تبّين كـل هـذه الأشيــاء استحــالـة تنفيـذ متطلبــات سيـاسـة أمـريكــا واستـراتيجيتهـا؛ لأن فــوق طـاقـة أيـة أمـة أن تسيطـر على امبراطـوريـة باتســاع العـالم كلـه, ودروس التـاريخ في هـذا الباب أكثـر مـن أن تُحصـى.

وأبــرز مثــال على ذلـك حـالـة بـريطـانيـا الاستعمــاريـة في القـرن التـاســع عشـر يـوم كـانت تسمــى بريطـانيـا العظمـى, وقـد تـوافـرت لهـا يـومهــا إمكـانات أكبـتر بكثيـر ممـا هـو متـوافـر للـولايـات المتحـدة قيـاسًـا مـع قــوى كـل مـرحلــة ومـع ذلـك لم تســتطع بريطـانيـا أن تنفـذ مشـروع عـولمــة خـاضـع لسلطتهـا.

قــال بــول كينــدي في كتـابـه : «نشــوء وســقـوط القــوى العظمـى» مبينًــا ذلـك : «بـين عــامـي 1760 و 1830 كـانت المملكـة المتحـدة (بـريطـانيـا) مســؤولـة عـن مـا يقـارب ثلثــي حــاصـل الإنتــاج الصنـاعي الأوروبـي, ووثبت حصتهـا مـن إجمــالي النــاتـج الصنـاعـي العـالمـي مـن 1,9% إلى 9,5%؛ … وأنتجت المملكـة المتحـدة في عـام 1860 الـذي ربمـا كـان ربيـع بـريطـانيـا الصنـاعي 53% مـن إنتـاج الحـديـد العـالمـي, و 50% مـن الفحـم الحجـري, واستهلكت أقــل بقليــل مـن نصــف الإنتـاج العـالمـي مـن القطـن الخــام … وكـانت لـوحـدهــا مســؤولـة عـن خمـس تجــارة العـالـم وخمسـي تجـارة البضـائـع المصنّعـة, ومخـرت أكثـر مـن ثـلث الســفن التجـاريـة في العـالـم عبــاب البحـار رافعـة العلـم البـريطـاني»(16).

إن بـريطـانيــا بكــل مـا كـان تحت يـدهـا مـن مسـتعمـرات وإمكـانـات لـم تتمكـن مـن صيـاغــة نظــام عــالمـي خــاضـع لهيمنتهــا, فكيـف بالـولايـات المتحـدة الأمــريكيــة التي تعتـريهــا عـوامـل ضعف ومشـكـلات أكثـر مـن أن تحصـى.

ولــو أردنــا الحـديث في الشــأن الاقتصـادي فالمعلـوم أن ديـونهــا قـد بلغت 4 تـريليــون دولار, ونـاتجهــا القـرمـي الســنوى بحـدود 6 تـريلـون دولار, وفي مـراجعـة خمسـينيـا القـرن  العشــريـن نجـد أن دخــل الـولايـات المتحـدة كـان قـرابـة 50% مـن إجمـالي النـاتـج العـالمـي, وقـد تـدنـى مـع العــام 1996 إلى 20%؛ وربمـا بــات حـاليًــا في العـام 2003 أقــل مـن ذلـك, وبالنسبــة لإنتـاج التكنـولـوجيـا ــ حسب إحصـاءات الأمــم المتحـدة ــ كـانت الـولايـات المتحـدة الأمـريكيــة تنتـج في عـام 1977 بحـــدود 75% مـن إنتـاج العــالـم, وقـد تـدن،ى هـذا الإنتــاج في عـام 1996 إلى 36%, وربمـا تـدنـى أكثــر مـن ذلـك مـع الأعـوام الحـاليـة.

أمـا العسكـر, وقـد حـاولـت الـولايـات المتحـدة تكبيـر دوره لتستخـدمـه في أغـراض مـد النفــوذ أولا الاحتـلال وإقـامــة القــواعـد فـإنهـا تنفق عليـه سـنويًّـا مـا يقــارب 300 مليــار دولار مـن أصــل 950 مليـار دولار هـو مجمـوع الإنفـاق العـالمـي.

إن هـذا التــراجـع يشكـل قليـلاً مـن كثـير مـن المشكـلات الأمـريكيـة التى التى عـدد بـول كينـدي بعضهــا, ولنتــرك لـه أمـر الحـديث عنهـا, حيث يقـول :

«وممـا يفـاقـم المشـكـلـة كميـة المخـدرات التي يستهلكهـا الأمـريكيـون’ فحـس أحـد التقـديـرات تستهـلـك الـولايـات المتحـدة, التى يبـلغ عـدد سـكـانهـا مـا بيـن 40% إلى 5% مـن سكـان العـالـم, 50% مـن استهـلاك الكـوكــاييـن العـالمـي .. وتغـذي المخـدرات بـدورهــا الجـريمـة التى يعتـبر معـدلهـا أكبـر بكثـير مـن أي معـدل في العـالـم المتطـور, وبفضــل القــوة السيـاسيـة لمـؤسسـة البنـادق القـوميــة تتـاح الفـرصـة للأمـريكييـن لحيـازة الأسلحــة القـاتلـة واسـتعمـالهـا إلى درجــة تـدهش المـراقبيـن في الخـارج. ويقـدر أن الأمـريكيــين يمتلكــون 60 مليــون مســدسًــا و120 مليــون بنـدقيــة متنـوعـة, وهـم يقتلـون بعضهــم البعـض بمعـدل يصـل إلى 19000 جـريمـة كــل عـام وأسـاسًـا بـواسـطـة البنـادق. وتبلـغ معـدلات جـرائـم القتـل أربعـة أو خمسـة أضـعـاف مثيـلاتهــا في أوروبــا الغـربيــة, وتبــلغ معــدلات الاغتصــاب سبــعـة أضعـاف معـدلاتهـا في أورويــا الغـربيـــة, وتبــلغ معـدلات الاغتصــاب سبعــة أضعـاف معـدلاتهـا في أوروبـا الغـربيـة, أمـا عمليـات السـرقـة بالقــوة فتبــلغ مـن أربعــة إلى عشــرة أضعــاف»(17).

هـذه النسـبـة المـرتفعـة لمعـدلات الجـريمـة الإدمـان على المخـدات تـرافقهــا حـالـة انحـدار علمـي وثقـافـي تظهــر مـن خــلال تـدنــي المستـوى أو تســرب الطـلاب خــارج الصفـوف الـدراســيـة, فعلـى «الـرغــم مـن الفـرص التي يمنحهـا نظـام التعليـم العـام المجـاني يتـرك الطلبـة المـدارس العـامـة بـأعـداد كبيـرة؛ ففـي كـل عــام يــترك المـدارس الثـانـويـــة مــا بيـن 600000 إلى 700000 طـالب؛ ويشكــل هـذا الـرقــم خمس مجمـوع كـل الطلبــة الثـانـويين, وقـريبًـا مـن نصف عـدد طلبـة المـدارس الثـانـويـة في أواســط المـدن … وحسـب إحـدى الـدراســات لا يســتطيع 25 مليـونًـا مـن  البــالغين القــراءة بشــكـل جيـد ليفهمـوا تخـذيـرًا على زجـاجــة دواء, كمـا أن 22% مـن البـالغين غـير قـادريـن على عنـوانـة رسـالـة بشكــل دقيق.

… وكشــف اســتطلاعـات لمعـرفــة متـوســط المعـرفـة الأسـاسيـة بالتـاريخ لطلبــة المـدارس الثـانـويــة جهـلاً كبيـراً بالتـاريـخ, وعلى ســبيل المثــال لـم يعـرفـوا مــا تعنيـه حـركــة الإصــلاح الدينـي في القـرن السـادس عشـر. ولا يطغـى على هـذا الجهـل إلا أميـة الطلبـة الأمـريكييـن بالجغـرافيـا, فـواحـد مـن كـل ســبعـة بالغـين أمـريكيــن لـم يســتطع تحـديـد مـوقــع بلـده على خـارطـة العـالـم, ولـم يستطـع 75% تحـديـد مـوقــع الخليـج العـربي, علمًـا أن العـديـد منهــم فضّل في نهــايـة الثمـانينـات إرسـال القـوات الأمـريكـة إلى تلـك المنطقـة»(18).

إن هــذا المستــوى العلمـي, وهـذه, الأنمـاط تبيّـن حجــم المعوقــات الـداخليـة في الـولايـات المتحـدة التى تجعلهــا عـاجـزة عـن مـد نفـوذهـا مـن خـلال نظــريـة العـولمـة كفلسفـة استعمـاريـة جــديـدة.

ولــو راجــع المتهـم كتــاب زبغنيـو بـريجنسكـي الـذي شغــل منصـب مستشــار الأمـن القـومـي زمـن الـرئيس جيمـي كـارتـر المعنــون : «الفـوضــى», لـوقف على معوقــات ووجـوه أخـرى للعجــز الأمـريكــي والاضطــربـات الـداخليــة, بحيث تكـون الـولايـات المتحـدة كمـن يمــارس الهـروب إلى الأمــام بــدل التصــدى لإيجــاد الحـلول المنـاسبــة, أو أن أمـريكــا تحــاول بسـط نفـوذهـا لنهب ثـروات الشـعـوب, وبالتـالي حــل مشــاكلهـا على حســاب الأمـم الأخــرى. وممــا يعـدده بـريجنســكي : المـديـونيـة, وتــردى العنـايــة الصحيـة, وتـدني مستــوى التعليــم الثـانـوي, وحــالــة البنـي التحتيــة كـالطـرق والجســور وســكك الحـديـد وشبكـات صـرف الميـاه المبتـذلــة, والتـي تصــدعت وبـاتت تحتأج لتأهيـل لا قبـل للإدارة الأمـريكيـة بـه, وخطــر الإبـاحيـة الجنسيــة والفســاد الأخـلاقي, ويضيف بريجنســكي مـوضــوع ظـاهـرة الفقـر حيث يعيش 32,7% مـن الســـود تحت خـط الفقـر, و11,3% من البيض(19)؟

إننـا نســأل مجــددًا : أيـة ثقـافيــة أو حضـاريـة سينشــرهـا دعــاة العـولمـة /الأمـركــة؟ وهـل يـوجـد في العـالــم مـن يقبــل التنميــط الأمـريكـي وهـو نمـط إفســاد ورذائــل وجهـل وتخلف وفقـر وعنصـريـة وإجـرام؟

تـأسيسًــا على مـا تقــدم نخــلص إلى القـول : إن الـولايـات المتحـدة الأمـريكيـة عــاجـزة عـن تنفيـذ أمميـة تتســلط مـن خـلالهـا على الكـون, وليس بمقـدورهــا أن تلغـى حضــارات الأمـم النـاتجـة عـن خصـوصيـاتهـا الثقـافيــة, وهــي بــلا ثقــافـة. ولنـترك بـريجنسكــي المفكــر الاستـراتيجـى الأمـريكــي يقـرر ذلـك. يقــول بـريجنســكي : «في الـوقت الحــالي الـذي لا تـواجــه فيــه الـولايـات المتحـدة نظـرًا أو خصـومًـا قــادريـن على تبـوء قـوتهـا الهـائلـة, تعيق معضـلات أمـريكــا الـداخليــة المـدى الفعـاي لهـذه القــوة, وتعـترض ســبيل تـرجمتهـا إلى ســلطـة عـالميـة معــترف بهــا. ونتيجــة لمـا ســلف, لا يمكـن لأمـريكــا أن تكـون شــرطـّي أو مصـرفّي العــالــم, ولا حتـى الأخـلاقـيّ الكـونــيّ, فـــالأولى تقتضــي الشـرعيـة, وتستنـد الثـانية إلى السيـولـة, بينمـا ينبغـي أن تنهـل الثـالثـة مـن مثـال نقي»(20).

إن الأمـريكـي المثقــل بالـديـون والفســاد والإجــرام, والـذي نحــا منحـى العـدوانيــة والاسـتعـلاء ضـد كـل الأمـم وضـع نفسـه في مـوقــع لا يحسـد عليـه, وبالتـالى فـإن أوهـامـه الامبـراطـوريــة ســتبقـي مجــرد أحــلام غيــر قابلــة للتحقيق, وأمـا مـن يعتقـدون بحتمـية العـولمـة مـن غيـر الأمـريكـان, ويجنـدون أنفسهــم لهــذه الـدعـايـة مجـانًا فنـقـول لهـم : راجعـوا التـاريخ فيمـا يتعلق بعـولمـة بـريطـانيـا وهتلـر والشــيوعيـة, وتفحصــوا بعيـن النـاقـد واقــع الـولايـات المتحـدة, ولا تكـونـوا منبهـريـن ومخـدوعيـن بالمظـاهـر البراقـة.

العولمـة : التحـديـات وسبــل المـواجهـة :

يـدعــو فـرانسـيس فـوكـويامـا بشكــل ســافـر إلى تخلى الأمــم عـن ثقـافـاتهـا ومـوروثـاتهـا الحضـاريـة؛ لأن القيـن النـاظمـة لمسيـرة الأمـم الحضـاريــة ــ حسـب زعمـه ــ تشـكل عـائقًــا في طـريق الـديمقـراطيـة, لا يـرى ســوى البـروتستـانتيتة المكـون الـرئيسـي للثقـافـة الأمـريكيـة ــ كمـا سـبق القـول ــ ميـدانًـا رحبًـا لقبــول الليبراليــة والـديمقـراطيـة حسب زعمـه. لذلـك دعـا المسيحيـة لإلغـاء ذاتهـا, وأشهـر ســلاح العـدوانيــة ضـد الإســلام.

يقــول فـوكـويـامـا : «ولكـن الـديـن في حـد ذاتــه لا يخلق مجتمعــات حــرة, فالمسيحيـة بمعنـى معيـن كـان عليهـا أن تمحـو وجـودهــا مـن خـلال علمنــة أهـدافهــا قبــل أن تظهــر الحـريـة. المثـل العـام المقبـول لهـذه العلمنــة في الغـرب كــان المـذهب البـروتستـانتي (Protestantisme). فعـن طـريق جعــل الـديــن شـيئًـا خـاصًّــا بين المسيحـي وربــه, اسـتبعـدت البـروتستـانتيـة الحـاجـة إلى طبقـة منفصــلة من الكهنـة, وبصفـة أكثـر عمـوميــة تحـويل الـديـن إلى سياسـة»(21).

ويـدعــو فـوكـويامـا إلى إزاحـة الإسـلام والمسيحيـة لأنهـمـا ــ حسب زعمـه ــ لا يمكـن أن يتعـايشــا مـع العـولمــة /الأمــريكيــة ونظـامهـا الليبرالي ورأسمـاليتهـا المتـوحشــة, فيقــول : «فالإســلام بصفـة خـاصـة, لا يقبـل عـن المسيحيــة في إقـامتـه لمبــدأ المســاواة الإنســانيـة العـالميـة, ولكنهمـا مـن الصعب أن يتكيفـا مـع المـذهب الليبرالي والاعتـراف بالحقـوق العـالميـة, وخـاصــة حـريـة الفكــر والـديانـة»(22).

وفـوكـويـامـا الذي لـم يقف على حقيقــة الإســلام على أنـه ديـن الـرحمـة, وفيـه ضمـانـة حقــوق الإنسـان المستخلف في الأرض, والتــاريخ منـذ عهـد النبـوة يـؤكــد بالممـارسـة سمـاحـتة, وقبـولـه للأخـر, وإقــراره لقـاعـدة تنــوع الثقـافـات, ونجـد يعـادى الإســلام مـن خلفيــة فكــريـة أمـريكيــة متصهينـة فيقـول : «وقــد هــزم الإســلام في الـواقـع الـدمقـراطـيـة الحـرة في أجــزاء كثيـرة مـن العـالـم الإســلامـي مـوجهًــا تهـديـدًا خطـرًا للممـارســات التحـرريـة»(23).

إن دعــاة العـولمـة يـريـدون إخضـاع الأمـم لنمطهـم الثقـافي, وبالتـالي إلغـاء التنـوع الثقـافي. وإشــاعـة فـوضـى ثقـافيـة وقيميـة تمكنهـم مـن السيطـرة والتســلط, لذلـك تكـون المـواجهـة معهـم حتميـة, وفي مقـدمتهـا المـواجهـوالثقـافيـة.

لقـد عــالج هـذا المــوضــوع هـوبير فيـدريـن وزيـر خـارجيــة فـرنســا الأسبق فقـال : «مـا إذًا هـدفنـا الحقيقـي ؟ إنـه الحـافظـة على الهـويـات الثقـافيـة في العـالـم أجمـع, وبالتـالي على تنــوع هـذا العـالـم. يقلق الأمـريكيــون مـن قيــام حـالات الاحتكـار عنـدمــا تفسـد المنـافســة في سـوقهـم الـداخـلي. كمــا حصـل مـع شــركـة ميكــروســوفت. والحـال أن الـولايـات المتحـدة في صـدد التحـول على صعيـد الصنـاعـات الثقـافيـة الجمـاهيريـة إلى ميكـروسـوفت المستـوى العـالمـي. تشــكـل الثقـافـة والمنتجـات الثقـافيـة مصـدر خـلاف رئيسـي مـع الـولايـات المتحـدة. ســواء داخــل منظمــة التجــارة العـالميـة, أو منظمـة التعـاون والتنميـة, أو في مـا يخص البــلدان المـرشحـة لـدخــول الاتحـاد الأوروبي. المؤكــد أننـا نطـرح حـول قضيــة التنـوع الثقـافي في العـالـم سـؤالاً كبيرًا جـدًّا يتخطـى اللغـة والثقـافـة الفـرنسـيتيـن : إنهمــا إحـدى أكــبر معـارك الغـد»(24).

تتجــلى هـذه المعـركـة الثقـافيـة ضـد الأمـة العـربيـة مـن خـلال المخـطط الأمـريكـي ــ الصهيـوني الذي يهـدف إلى إلغـاء ونســخ هــويــة الأمــة ودورهــا الـرسـالي مـع زرع الشقــاق والفـرقــة في الاجتمـاع العـربي مـن خـلال فتنــة يـريـدونهــا بـين المســلميـن والمسيحيين.

لقــد كــان م،وفقًـا الـدكتـور محمـد عبـد الشفيع عيسى في تصـويره لهـذه الحـالات, حيث يقــول : إن أمـريكــا والصهيـونيــة لـن تكتفيـا «بـإقـامــو ثقـافــة وســيطـة وسـطيـة الطـابـع على الأنـموذج الشــرق ــ آسيـوى, وإنمـا ستسـعى, إمـا إلى طمس هـويـة المنطقـة العـربيـة طمسًــا كـأولـويــة أولـى, وإمـا إلى مسـحهـا وإهـدارهـا كحـديـن أدنـى وأبعـد للطمس ..

… أمــا الثقـافـة الإســلاميـة ــ العـربيـة المتصـالحـة وطنيًّـا مـع المسيحيــة الشـرقيـة فهـي عصيـة على ذلـك؛ لأنهـا تقـوم على ربـط معيـن للـديـن بالمجتمــع, ودمـج المجـال الـديني في المجـال السيـاسـي, وإن بـدرجـات وأشكــال متفـاوتـة .. وهكـذا يتعين إسقــاط نعــالـم الهـويــة العـربيـة ــ اإلإســلاميـة, أي إسقــاط العـروبـة والإســلام, بعـد أن تـمّ إسقـاط الاشــتراكيـة, وقبــل كـل ذلـك أو بعـده إسقـاط حلـم الحـريـة.

وبهـذا الإســقـاط يتـوفـر الشــرط الضـروري لإقـامــة نمـو اقتصــادي في بعـض البـلـدان العـربيـة, يمرّ عبـر الكيـان العبـرى, وعلى قـاعـدة تبعيـة مـركبـة عبر وسـيط هـو إســرائيـل.

كمــا تقـوم هـويـة جـديـدة, ليست عـربيـة ــ إســلاميـة, ولا هـي متصـالحـة مع القبطيـة والمسيحيـة الشـرقيـة والعـربيـة, بـل هـويـة انطمست, يـدعـونهـا شــرق أوسطيـة, تقـوم على سـاق واحـدة, هـي طمس الهـويـة العـربيـة الإســلاميــة»(25).

إن العـولمــة تعمــل كـي يســود نمطهـا في فلسفــة الاستهـلاك, وتقـديـم الاقتصـاد على السيـاسـة خــارج بـلادهـا, كمـا أنهـا تعمـل على نشــر نظـام اجتمـاعي أدى ويـؤدى إلى تفكـك الأســرة وفـوضــى اجتمـاعيــة في العــلاقـات وغيـر ذلـك كثير بسبب سيـادة القيـم مـاديــة الطـابع بـدل تلك الإنســانيـة الأبعـاد.

والعـولمة ليست حتميـة, ولا هـي تطـور طبيعـي كمـا يحصـل لأي كــائـن, وإنمــا هـي مشــروع ومخـطط استعـاري يعمـل النظــام الأمــريكـي مـن خـلالـه كــي يتفـرد بقيــادة العـالـم, وكـي يحقق مـا يريـد مـن اختـراق لحـدود الـدول وسيــادتهـا وللقيـم النـاظمـة للحضـارات.

إن «رفعــي رايــة العـولمـة, إنمـا يحـاولـون بمـا يختـارون مـن عبـارات وصـور, الإيحــاء بـأن الأمـر يتعلق بحـدث شـبيـه بالأحـداث الطبيعــة التـي لا قـدوة لنــا على ردهــا والـوقـوف بـوجههـا, أي أنهـا نتيجــة حتميـة لتطـور تكنـولوجـي واقتصـادي ليس بـوسعنـا إلا الإذعــان لـه. والـواقــع أن هـذا ليس إلا ثـرثـرة»(26).

إن العـولمــة الـثـرثـرة لـن تســتطيـع إلغــاء التنـوع الثقـافي ولا السـنن الكـونيــة في اختـلاف الألســنة رغــم تطـور وســائـل الاتصـال والـتـوصيـل, لذلـك نقــول : «إن التنــوع الثقـافي واللغـوى والحضـاري حقيقـة وسنّـة كـونيـة لا يمكـن للأمـركـة أن تلغيهـا بـاســم العـولمـة, والخصـائص القـوميـة للأمـم ثـوابت حضـاريـة لايمكـن لـوســائـل الاتصـال والمـواصـلات أن تتجـاوزهــا مهمــا تطـورت, وبالـتـالي تكـون الـولايـات المتحـدة الأمـريكيـة, لكـل هــذه العـوامـل, عـاجــزة عـن تحقيق مشـــروعهـا الحلـم المسمـى العـولمـة /الأمـركــة»(27).

أمــا ســبل الـمـواجهــة فيمكـن أن تكـون بينهــا المقتـرحـات التـاليـة :

1 ــ إن التنــوع الثقــافي حقيقــة, وحـروب الإلغـاء في هـذا الميـدان لـم تستـطع أن تحقق نجـاجًـا على مـدى التاريخ, لذلـك نقــول : لـن يكـون حـظ الأمـريكـي أحسـن مـن ســواه, فمـا عجـزت عنــه المشــارع الاستعمـاريـة سابقًـا لـن يستطيـع الأمـريكـي تحقيقـه. والكــل مطـالب بالإقـرار بالتنــوع والتـزام سيـاسـة قبـول الآخـر كمـا يـريـد هـذا الآخـر أن يقـدم نفســه, وكـذلـك مطلــوب مـن كـل الأمـم ومنهــا أمتنـا العـربيـة والإســلاميـة أن تتمسـك بثقـافتهـا وقيمهـا الإيمـانيـة الإنســانيـة, ونظمهـا الاجتمـاعيــة التي تحفـظ الإنسـان وكـرامتـه من الفـرد إلى الأسـرة إلى الأمـة.

2 ــ مقـاومـة فلسفــة الاستهـلاك التى ينشـرهـا دعـاة العـولمـة, وبالتـالى فض النظــم الاجتمـاعيـة القـائمـة على أسس مـاديـة لا تهتم بغــير الأرقــام والكميـات, والعمـل بـدوافــع اجتمـاعيــة ومـاديـة, وبمشــاريع لا تهمـل الـرقـم والكــم ولكـن تـوجههمـا  لتحقيق مصـالح البشــر وسعـادة الإنســان الذي كـرمــه الله تعـالى واســتخلفـه في الأرض, والعمـل في إطـار خطـة يكــون الإنســان محـورهـا لا الآلــة والتقنيـة, وهـذه الأخيــرة يجب أن تخضـع للقيـم والمبــادئ الســاميـة ولا يجـوز أن تكـون هـدفًــا بحـد ذاتـه.

3 ــ مقــاومــة فلسفــة اقتصــاد الســوق, وذلــك الاعتمـاد المبــالغ فيــه في تقــديـم الاقتصــاد على كـل شــيء, فهـذا لـن يقــود إلا إلى المـزيـد مـن الفـوضـى والمشــاكـل والإربـاكـات. «مـن هنــا فـإن اسـتعـادة الإرادة السيـاسيـة, أعنى استعـادة أولـويـة السيـاســة على الاقتصـاد, هـي المهمـة المستقبليــة الأسـاسيـة, فقـد صــار جليًّـا ــ الآن ــ استحـالـة الاستمـرار في السير على هــدى التـوجــه الســائـد الآن. فالتكـيف الأعمـى مـع الضـرورات التي تعـزز السـوق العـالميـة يقـود المجتمعـات ــ التي تتمتع بالثـراء الآن ــ إلى فـوضـى لا منــاص منهـا, إنـه يقــود إلى هــدم البنــي الاجتمـاعيـة, هـذه البنى التى تشكــل ســلامتهـا ضـرورة حتميـة لهـذه الـدول(28).

4 ــ مقـاومــة منطـق العـولمـة الذي يـركـز على الإنسـان الفـرد مـاديًّـا لا بـل يقـدس الأنـا, ويطلق العنـان للغـرائـز والشهـوات بـاســم الحـريـة الشخصيـة, وقـد سعـت العـولمـة في مـؤتمــر الســكـان في القـاهـرة (1994) والمــرأة في بكــين (1995) لإشــاعـة فـوضـى اجتمـاعيــة تـدعـو إلى عـلاقـات بين نـوعــى ابــن آدم الذكــر والأنثـى خــارج رابطــو الـزوجيـة, وإلى إبـاحيــة خطيـرة تصــل إلى حـد إقــرار المثليــة في العــلاقـات الجنسيـة, وتـدعــو إلى الإجهــاض, وإلى سـائـر أنمـاط التحليـل مـن حيـاة أســريـة مسـتقيمـة, وكــل هـذه الأمــور تحـط مـن كـرامــة الإنســان وأمـانــه الاجتمـاعي, واستقـرار حيـاتـه, ولا منـاص أمـام كـل الأمـم والاجتمـاعـات الإنســانيـة مـن مقــاومــة منطـق العـولمـة هـذا.

5 ــ تستنـد العـولمـة إلى مفـاهيــم عنصـريـة تستعلي على الشعــوب والـدول ولا تحتـرم كـرامــة الإنســان, ولا أدل على ذلـك مـن الشــراكــة الأمـريكيــة الكـاملــة مـع العـدو الصهيـوني في جـرائمــه ضـد العـرب وفي فلســطين المحتلـة خـاصـة, هـذا مـع التصـعد الأمـريكــي ضـد كـل من يخـالف سيـاستهـم, ومــا يجــرى بشــأن الـوضـع العـرافي خيـر دليل, حيث يصـر الأمـريكــي على رؤيتـه ضـاربًــا بعــرض الحـائط مـواقف الـدول والشعــوب في أنحـاء العـالـم كلـه, هـذا المنهـج الانفــرادي العـدوانـي النـزعــة لابـد مـن مـواجهتـه, حـرصًـا على استقـرار العـلاقـات بين الشعــوب, ومـن أجــل وقف العـدوان والظلـم, ورد كــل حــق مغتصب إلى أصحـابـه, بـدءًا من فلسطين المحتلـة إلى أي مـوقـع في العـالـم كلــه, لأن وقف الظـلم والعـدوان هـو الذي يـوطـد الاستقـرار, ولا استقـرار مـع الظـلم والعـدوان, ســواء باســم العـولمـة أو باســم غيـرهـا.

6 ــ مقــاومــة منطــق العـولمــة الـلاديني بالتـدين بلا تعصب. إن إشـاعـة ونشـر قيـم الـديـن في السمـاحـة والاعتـدال وفي صيـانـة الإنســان والأســرة والاجتمـاع البشـري عمـومًـا ضـرورة عصـريـة لإنقـاذ الإنســان مـن بـروز ظـواهـر وبــدع وأشــكـال مـن الإدمـان والفسـاد تهـدد حيـاتـه وهنـاءتــه, وهـذا التحصين لا سـلاح فيــه إلا ثقـافــة محـورهـا الإيمـان الدينـي؛ لأن القيــم الإلهيـة المصـدر هـي الحـل, وهـي الثـورة الحقيقيـة التي تقضـى على الراذائــل والمفـاسـد, وتنشـر الفضــائـل ومحــاسـن الخلق, وبذلـك تتحقق مصـالح الإنسـان, وهـي في مقـاصـد الشـريعـة والـديـن الأســاس الذي لا يتقـدم عليهــا شـيء.

***

الهــوامــش

(1)السحمـرانـي, د. أسعـد, ويـلات العـولمـة على الديـن واللغـو والثقـافـة, بيـروت, دار النفـائس, 1423هـ/2002م, ص 82 ــ 83.

(2)بن نبي, مـالك؛ مشكـلـة الثقـافـة, دمشـق, عالـم الفكـر, 1399هـ/1979م, ص74.

(3)بيجـوفيتش, علي عـزت, الإســلام بين الشــرق والغـرب, تـرجمـة : محمـد يـوسف عـدس, القـاهـرة : مـؤسسـة بافـاريـا, ط2, 1997, ص231 ــ 232.

(4)فـوكـويـامـا, فـرانسـيس, نهـايـة التـاريخ, تـرجمــة د. حسيـن الشـيخ, بيـروت, دار العلـوم العـربيـة, 1413هـ /1993م, ص 278 ــ 279.

(5)تـوينبي, أرنـولـد, مختصـر دراســة للتـاريخ. ج1, ترجمـة فـؤاد محمـد شـبل, راجعـه أحمـد عـزت عبـد الكـريـم, القـاهـرة : منشــورات الإدارة الثقـافيـة في جـامعـة الـدول العـربيـة, 1960, ص 59 ــ 60.

(6)المـرجـع السـابق, ص61.

(7)التـويجـري, د. عبـد العـزيـز عثمـان, الحـوار مـن أجـل التعـايش, القـاهـرة ــ بيـروت : دار الشـروق, 1419هـ /1998م, ص99.

(8)نصـر الـديـن, د. إبـراهيــم, العـولمـة وانعكـاسـاتهـا على دول العـالـم الثالث, في : العـولمـة (نـدوة), ليبيـا, جمعيـة الـدعـوة الإســلاميـة العـالميـة, 1998, ص44.

(9)البيـوريتـان Puritain؛ التطهــريـون : فــريق مـن غـلاة البـروتستـانت نشــا في بريطـانيـا وانتقـل بثقـافتـه إلى أمـريكــا الشمـاليـة, ومـدار فكــرهـم التقليـد والقنـاعــات المستمـدة مـن العهـد القـديـم, وكـانـوا متعصبين لمفــاهيـمهـم التهـويـديـة, وقـد أطلقت عليهـم لأول مـرة كلمـة «أصـوليـة» Fundamentalism.

(10)   مـارسـدان, جــورج, الـديـن والثقـافـة الأمـريكيـة, تـرجمـة صـادق إبـراهيـم عـودة, عمّـان : دار الفـارس, 2001, ص26.

(11)   المـرجـع السـابق, ص27.

(12)   كـرونـدن, روبـرت, مـوجـز تــاريـخ الثقـافـة الأمـريكيــة, تـرجمـة مــازن حـداد, مـراجعـة د. أحمـد يغقــوب المجـدوبـة, عمـان : الأعليـة للنشـر 1995, ص77.

(13)   هـرمجـدون : مجـدو أو مجـدون منطقـة بين جبـال والضفـة الغـربيـة تسمـى سهــل بنـى عـامـر يـزعـم أتبـاع الصهيـونيـة أنـه سـتحصـل فيهـا معـركـة نـوويـة تقـرر نهـايـة الـواقـع السيـاسي والاجتمـاعي وتكـون بعـدهــا العـودة الثانيـة للمسيح المنتظـر وعنـدهـا يكـون العهـد الأفـي السعيـد أي الألف سنـة من انتفـاء الحـروب والشـرور ويعــم العـدل.

(14)   ييترمـان, هــانس, وشــومـان, هــارالـد, فخ العـولمـة, ترجمـة د. عـدنـان عبــاس علي, مـراجعـة وتقـديـم أ.د رمـزي زكـي, الكـويت : سلسـلـة عـالـم المعـرفـة, العـدد 238, تشــريـن أول /أكتـوبـر 1998, ص34.

(15)   المـرجـع الســابق, ص145.

(16)   كينـدي, بـول, نشـوء وسقــوط القـوى العظمـى, تـرجمـة مـالـك البـديري, عمـان, الأهليـة للنشــر والتـوزيـع, ط2, 1419هـ/1998م, ص225.

(17)   كينيـدى, بـول, الاســتعـداد للقـرن الحـادي والعشــريـن, تـرجمـه محمـد عبـد القـادر وغـازي مســعـود, عمـان, دار الشــروق, 1993, ص376.

(18)   المـرجـع السـابق, ص 378 ــ 379.

(19)   للتفصيـل يـراجـع :

بـريجنســكي, زبغنـيو, الفـوضـي : الاضطــراب العـالمـي عنـد مشــارف القـرن الحـادي والعشــريـن, تـرجمـة فـاضـل مـالـك البـديري, عمـان, الأهليــة للنشــر والتـوزيـع, 1998, ص89 ومـا بعـدهـا.

(20)   المــرجـع السـابق, ص131.

(21)   المـرجـع السـابق, ص245.

(22)   المــرجـع السـابق, ص245.

(23)   المـرجـع الســابق, ص61.

(24)   فيـدريـن, هـوبيـر, فـرنســا ومســار العـولمـة, حـوار مـع دومينيــك مـويـزي, تـرجمـة جبـور الـدويهـي, بيــروت, دار النهـار, 2001, ص 55 ــ 56.

(25)   عيسـى, د. محمـد عبـد الشفيـع, مســارات غـامضــة ومصــائـر غيـر مـؤكـدة؛ بحث في الخيـار الشـرق أوسطـى وبـدائلـه. في المستقبـل العـربي, بيـروت, العـدد 194, السنـة 17, نيسـان /أبـريـل 1995, ص13.

(26)   بيتـرمـان, هـانس, وشــومـان, هـارالـد, مـرجـع سـابق, ص33.

(27)   السحمــرانـي, د. أسعـد, صــراع الأمم بين العـولمـة والـديمقــراطيـة, بيــروت, دار النفـائس, 1420هـ /2000م, ص48.

(28)   بيتـرمـان, هـانس, وشـومـان, هـارالـد, مـرجـع سـابق, ص291.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر