توطئة:
مما لاشك فيه أن هناك اليوم أ كثر من سبب يحفز العالم والباحث في العلوم الاجتماعية على دراسة الثقافة Culture لمحاولة التعمق في فهم طبيعتها وتجلياتها في سلوك الأفراد والمجتمعات والحضارات.
فالحديث عن العولمة عند الخاصة والعامة أصبح موضوع الساعة منذ بداية القرن الحادي والعشرين(1).
فهناك بالطبع حضور بارز في عالمنا اليوم للعولمة الاقتصادية. ولكن ليس من المبالغة القول بأن أغلبية الناس في القارا ت الخمس يشعرون بحضور أكبر للعولمة الثقافية. فثورتا المعلومــات والاتصـالات تلعبان بالتأكيد دورًا حاسمًا في الازدياد المتواصل لانتشار معالم العولمة الثقافية شرقا وغربا وشمالا وجنوبا.
أما على مستوى التخصصات المعرفية في العلوم الاجتماعية، فإن الاهتمام بدراسـة الثقافـة يتصدر اليوم العديـد منـها. فقد ظهر حديثـا في هاته العلوم ميدان خاص يسمى بالدراسات الثقافية Cultural Studies يركز اهتماماته على دراسة التجليات والممارسات الثقافيـة للمجموعات البشرية(2).
وعندما نسأل اليوم عن فرع التخصص الطلائعي في علمي النفس والاجتماع فإننا نجد، من ناحية، علم النفس المعرفي Cognitive Psychology (ذا العلاقة الوثيقة بالإنسان ككائن ثقافي في المقام الأول) يحظى بمكانة الريادة بين الفروع المتخصصة في علم النفس(3). ونجد، من ناحية ثانية، فرع علم الاجتماع الثقافيCultural Sociology يأخذ اليوم صدا رة متزايد ة بين علماء الاجتماع الأمريكيين على الخصوص(4).
تعطي هذه العوامل وحدها مشروعية للاهتمام بتكثيف دراسة الثقافة والمساهمة للكشف خاصة عن بعض جوانبها التي أغفلتها بحوث العلوم الاجتماعية المعاصرة . وهي جوانب، كما سوف نرى، ذات أهمية كبرى للقيام بالبحث المتعمق في جوهر الثقافة: كبرى ميزات الجنس البشري التي منحته وحده السيادة الكاملة على هذه الأرض وفي هذا العالم.
موضوع البحث ومقاصده :
تهدف وتطمح هذه الدراسة إلى القيام بما يسمى بالبحث الأساسي Basic Research المتعمق في جوهر الثقافة من خلال منظور الرؤية المعرفية (الإيبستيمولوجيا) الإسلامية. وهذا مايعنيه مصطلح أسلمة في عنوان هذا البحث. وربما تكون هذه الدراسة هي الأولى من نوعها في أيامنا هذه التي تطرح مفهوم الثقافة من خلال منظور معرفي إسلامي يختلف في إيبستيمولجيته عن نظرائه في العلوم الاجتماعية المعاصرة. ولا يكتمل القيام بذلك على أسس متينة ذات مصداقية علمية دون التعرض إلى مفهوم الثقافة في أدبيات العلوم الاجتماعية الإنسانية الغربية المعاصرة، إذ اهتمت هذه الأخيرة بالبحث في الثقافة وتجلياتها منذ القرن التاسع عشر خاصة من طرف علمي الأنثروبولوجيا والاجتماع. وكما أشرنا، فإن البحث في ميدان الثقافة يزداد الاعتناء به أكثر من طرف علماء الاجتماع(5).
وبالطبع ستقود نا مثل هذه المنهجية إلى المقارنة بين مفهوم الثقافة في المنظور المعرفي الإسلامي ونظيره الغربي. والدراسات المقارنة طالما تلقي أضواء جديدة على الظاهرة قيد الدرس تعزر الفهم والتفسير عند الباحثين في العلوم الاجتماعية وبالتالي تدفع بمسيرة المعرفة العلمية إلى الأمام. ويمثل هذا الشغف المعرفي/العلمي الهدف الأكبر الذي يسعى البحث إلى بلوغه أو القرب منه. فطموحنا هنا يتطلع في المقام الأول إلى المساهمة في بناء أرضية متينة لما سماه أصحاب الاختصاص بعلم الثقافة Cuturology(6) الذي يحتاج، في نظرنا إلى رؤية نقدية فاحصة تشمل إيبستيمولوجيا ونظريات ومفاهيم هذا العلم حتى يمكن أن يتحسن حظه في كسب وتعزيز رهان المصداقية العلمية الناتجة عن مثل هذا الطرح الفكري الذي يمكن أن يساهم في إصلاح فكر دراسة الثقافة.
العلوم الاجتماعية وتعريفها للثقافة:
يجمع الباحثون اليوم أن عدد تعاريف علماء الأنثروبولوجيا والاجتماع لمفهوم الثقافة عدد كبير يتجاوز المائة. ويشير ذلك إلى أمرين على الأقل:
1- إما أن الثقافة ذات طبيعة يصعب تعريفها بمقاييس العلوم الاجتماعية الوضعية على الخصوص.
2 – وإ ما لأن الثقافة ظاهرة معقدة في حد ذ ا تها.
نقتصر هنا على ذكر ثلاثة تعاريف من علمي الأنثروبولوجيا والاجتماع. فأشهر تعريف لمفهوم الثقافة أتى به عالم الأنثروبولوجيا البريطاني إدوار تيلور Edward B.Tylor في نهاية القرن التاسع عشر. فقد جاء في كتابه الثقافة البدائية 1871 Primitive Culture تعريف للثقافة / الحضارة الذي يعتبر التعريف المرجعي الأول للعلوم الاجتماعية المعاصرة. فالثقافة عند تيلور هي “ذلك الكل المعقد الذي يشمل المعرفة والعقيدة والفن والتقاليد وأي قدرات وعادات أخرى يتعلمها الإنسان كعضو في المجتمع”(7). أما عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي لسلي وايت Leslie White فإنه يربط مفهوم الثقافة عند الإنسان بقد رته على إعطاء معان للأشياء. ويسمى ذلك بالقدرة الترميزية ability to symbol التي تسمح للإنسان بفهم معاني الأشياء وكذلك خلقها واستعمالها . ومن ثم يعرف وايت الثقافة باعتبارها تلك القدرة الترميزية عند الإنسان. ويخلص وايت إلى القول بأنه لا يوجد إنسان بدون ثقافة ولا توجد ثقافة بدون إنسان. أما بالنسبة لعالم الأنثروبولوجيا الشهير ألفرد كروبر Alfred Kroeber فان زملاءه الأمريكيين
الذين درسوا الثقافة وعلاقتها بالشخصية Culture and Personality قد فشلوا في إعطاء تعريف نهائي وواضح لطبيعة الثقافة. ومن ثم، فالنقاش يبقى في رأ يه مفتوحا حول هذا الأمر(8) رغم الدراسات والمؤلفات التي قام بها رواد علماء الأنثروبولوجيا الأمريكيون أمثال مارجريت ميد Margaret Mead وروث بندكت Ruth Bendict وادوارد صبير Edward Sapir ورالف لنتن Ralph Linton وابرام كردنر Abram Kardiner وفرنز بواس Franz Boas . ولم تقتصر المسألة على غياب تعريف أنثروبولوجي ذي مصداقية للثقافة بل تجاوز الأمر عند البعض إلى تساؤل خطير حول صعوبة دراسة الثقافة بروح ومنهجية العلم الحديث. فعالم الأنثروبولوجيا راد كليف براون Radcliffe-Brown يرى أن ليس للثقافة حضور مادي بل لها حضور مجرد جدا. ومن ثم يتساءل آخرون مثله كيف يمكن أن يوجد علم حول شيء لا يمكن رؤيته؟ إذ لا وجود لعلم ينبني على واقع غير محسوس وغير مرئي / غير مادي(9).
تتجاوز صعوبة درا سة الثقافة عند علماء الأنثروبولوجيا تعريفها إلى جوانب أخرى مهمة. فيتساءلون مثلا: هل للثقافة من وجود؟ وأ ين توجد الثقافة؟ وقد تنوعت إجاباتهم على تلك التساؤلات فقال البعض بأنها توجد في العقل، وذهب فريق آخر إلى أن الثقافة هي سلوك، وأكد البعض الآخر بأن الثقافة هي ملمح مجرد عن السلوك، ويوجد حتى من أنكر وجود الثقافة نفسها(10). ويتبين من كل ذلك أن ا لباحثين يجدون صعوبة في تحديد موضع انبثاق وجود الثقافة. ويرى عالم الأنثروبولوجيا وايت أن الثقافة توجد على ثلاثة مستويات: توجد الثقافة في الأعضاء البشرية كالأفكار والمشاعر وغيرها، وفي السلوكات بين الأفراد وفي الأشياء وذلك وفقا لمفهومه للثقافة باعتبارها تتكون من أشياء وأحداث حقيقية قابلة للملاحظة(11).
أما علماء الاجتماع فقد ضيقوا من معنى مصطلح الثقافة فأصبحت تعني عندهم ما أطلقوا عليه بالأفكار الرئيسية للمجتمع والتي تشمل عقائد ورموز وقيم وأعراف المجتمع. وهذا التعريف السوسيولوجي النموذجي للثقافة نجده متداولا، مثلا، في معظم كتب علم الاجتماع الأمريكية الموجهة إلى طلبة الجامعات.
يشير العرض السابق الموجز لمفهوم الثقافة خاصة في علم الأنثروبولوجيا المعاصر بأن تعريف هذا المفهوم يبقى غير شفاف المعالم، من جهة، وصامتا صمتا شبه كامل، من جهة أخرى، عما نريد أن نسميه هنا بالجوانب المتعالية / transcendental غير المادية / الميتافيزيقية(12) للعناصر الثقافية أو ما نطلق عليه نحن بالرموز الثقافية وهي اللغة والفكر والعقيدة والمعرفة /العلم والقيم والأعراف الثقافية والأساطير … نستعمل في بقية صفحات هذه الدراسة مفهوم الرموز الثقافية كمرادف لمفهوم الثقافة الواسع الاستعمال في العلوم الاجتماعية المعاصرة. فالرموز الثقافية تمثل عندنا وعند أغلبية الباحثين في العلوم الاجتماعية العناصر الرئيسية المميزة للجنس البشري عن بقية الأجناس الحية الأخرى.
الصمت عن الأبعاد المتعالية للثقافة:
هناك بالفعل غياب شبه كامل للتطرق إلى الطبيعة المتعالية / الميتافيزيقية للرموز الثقافية لدى علماء الأنثروبولوجيا والاجتماع المعاصرين. فلا نجد عند القلة القليلة من هؤلاء إلا بعض المفردات النادرة والغامضة توحي بأن الثقافة هي عنصر بشري متعال على الجا نب فوق العضوي superorganic أو أسمى منه كما ذهب إلى ذلك كل من عالم الاجتماع هربرت سبنسر Herbert Spencer وعالم الأنثروبولوجيا ألفريد كروبر Alfred Kroeber(13)، أو هي تلك الأشياء غير البيولوجية nonbiological things كما ورد على لسان عالم الأنثروبولوجيا إدوارد تيلور Edward B.Tylor أو هي أشياء تتجاوز جسد الإنسان extrasomatic things، كما سماها عالم الأنثروبولوجيا لسلي وايت Leslie White، أو هي أخيرا تلك الأشياء الخارجية المتجاوزة لبيولوجيا الإنسان external suprabiological things كما تبنى هذا المصطلح البعض من علماء الاجتماع.
إن هذه الإشارات القليلة والمحتشمة إلى أن الثقافة عنصر بشري يتخطى عضوية وبيولوجيا جسد الإنسان تبقى إشارات مبهمة بخصوص دلالات تلك المفردات حول طبيعة جوهر الرموز الثقافية التي يتميز بها الجنس البشري. ولا يتحسن الأمر أيضا عندما ينظر بعض علماء الأنثروبولوجيا والاجتماع إلى الثقافة بصفتها شيئا مجردا abstraction أو شيئا ليس له علاقة بالوجود “culture has no ontological reality “. وبالقصور العام عن إيضاح معاني تلك المصطلحات جاءت أدبيات العلوم الاجتماعية المعاصرة خالية من أطروحات إيبستيمولوجية تحاول التعمق في كنه منظومة الرموز الثقافية. فكان الرصيد الفكري الهائل الذي جمعته العلوم الاجتماعية المعاصرة حول الثقافة رصيدا يكتفي بوصف العناصر الثقافية دون الحرص على التعمق في طبيعة الثقافة بطرح الأسئلة الإيبستيمولجية عن ذات الثقافة نفسها التي أقر جل علماء الأنثروبولوجيا والاجتماع بأن عالم الثقافة عالم يختلف عن عالم بيولوجيا الإنسان كما ورد في بعض من تلك المفردات السابقة الذكر. وبناء على ذلك فإن الثقافة كمفهوم غربي معاصر كثير الاستعمال في العلوم الاجتماعية على الخصوص لم يتعامل معها بشفافية بالتصورغير المادي / المتعالي transcendental الذي سنجده في المنظور الإسلامي كما هو مبين في الجزء الكبير لبقية صفحات هذه المقالة.
وبذلك الإغفال / الغياب لحضور اللمسات المتعالية / الميتافيزيقية في منظومة الرموز الثقافية تكون العلوم الاجتماعية المعاصرة – رغم ادعائها – بعيدة عن الموضوعية objectivity. إذ تعرف هذه الأخيرة على أنها تلك الحالة المعرفية التي تسمح بالتعرف على الحقيقة في حد ذاتها باستقلالية كاملة عن عقل الباحث(14).
إن صمت العلوم الاجتماعية الغربية المعاصرة عن اللمسات المتعالية للرموز الثقافية ينسف كثيرا الوثوق في تبني هذه العلوم للموضوعية في دراستها للثقافة. فحضورالمعالم المتعالية، كما سيأتي بيانه، حقيقة ذاتية في صلب الرموز الثقافية. إن العوامل المختلفة المؤثرة في عقول الباحثين الغربيين في العلوم الاجتماعية حالت دون قيامهم بتحليلاتهم ودراساتهم للثقافة برؤية إيبستيمولجية تعطي مشروعية كاملة لحضور اللمسات المتعالية. أي أن الرصيد الفكري الهائل حول الثقافة الذي جمعته تلك العلوم منذ القرن التاسع عشر لا يمكن أن يتمتع بمصداقية علمية كما تنادي بذلك تلك العلوم نفسها. لأنه يغيب، وفي أحسن الأحوال يهمش حقيقة المعالم المتعالية / الميتافيزيقية للرموز الثقافية. وهو بهذا الاعتبار يقدم لنا واقعا منقوصا للمواصفات الحقيقية للرموز الثقافية. وبالتالي، فهذا الرصيد الفكري يعكس بقوة دور آثار العوامل الشخصية والاجتماعية للباحثين الغربيين في العلوم الاجتماعية في تشكيل مفهوم الثقافة والتنظير حولها أكثر من اعتمادهم على الواقع الذاتي للثقافة الأمر الذي جعل الرؤية الموضوعية للثقافة هي الضحية.
الرموز الثقافية وسماتها المتعالية:
وبالنظر المتعمق إلى جوهر طبيعة الرموز الثقافية عند الجنس البشري تبين لنا أنها تتسم بلسمات غير مادية/ متعالية/ميتافيزيقية تجعلها تختلف عن صفات مكونات الجسم البشري وعالم المادة. فهوية الإنسان هي هوية ثنائية: منظومة الرموز الثقافية، من ناحية، والعناصر العضوية البيولوجية والفيزيولوجية، من ناحية أخرى. وتبقى الرموز الثقافية هي الطرف الأبرز والأكثر حسمًا في تحديد هوية الإنسان ومن ثم سلوكه. ولشرح ما نعنيه باللمسات المتعالية/الميتافيزيقية للرموز الثقافية، نقتصر هنا على ذكر خمس منها نعتبرها رئيسية:
1- ليس للرموز الثقافية وزن وشكل كما هو الأمر في المكونات البيولوجية الفيزيولوجية للكائنات الحية وعالم المادة الجامدة. إن فقدان الرموز الثقافية لعاملي الوزن والشكل يبدو أنه الأساس في تأهل الرموز الثقافية للاتصاف بالأبعاد المتعالية، الأمر الذي يجعل عالمها مختلفا عن كل من العناصر البيولوجية الفيزيولوجية وعالم العناصر المادية.
2- تتمتع الرموز الثقافية بسهولة سرعة إنتقالها عبر المكان والزمان بسبب ما ورد في 1. ينطبق هذا بصورة مجسمة كاملة على استعمال آلة الفاكس اليوم. فما يرسل في لمح البصر بهذه الأخيرة من رسائل ووثائق كان يحتاج في الماضي القريب إلى أيام أو أسابيع أو شهور حتى يصل إلى المرسل اليه بسبب إرساله بالبريد الجوي أو البري أو البحري. فلماذا هذا الفرق المدهش بين الإرسال بالفاكس وبالبريد في سرعة وصول نفس الشيء المكتوب المرسل؟ لأن الإرسال بالفاكس يلغي بكل بساطة صفتي الشكل والوزن من الشيء المرسل.
يجوز أيضا تعميم قانون سهولة سرعة الانتقال على كافة الرموز الثقافية الخالية من عاملي الوزن والشكل كالكلمة المنطوقة المرسلة عبر صوت الإنسان أو عبر الهاتف أو عبر المذياع أو التلفزيون أو أجهزة الاتصال الأخرى الحديثة. وينطبق ذلك أيضًا على كل من الكلمة المكتوبة والمرسلة إلكترونيًّا بواسطة الإنترنت، وعلى سـرعة انتقال الصورة الحية أو الجامدة اليوم في لمح البصر عبر آلاف الأميال الفاصلة بين مكان الإرسال ومكان الاستقبال. ويرجع ذلك في المقام الأول إلى نزع عاملي الشكل والوزن منهما. فالكلمة المنطوقة والمرسلة مكتوبة على الإنترنت وصورة الفضائيات تفتقد كلها لعاملي الوزن والشكل. ويساعد أيضًا فقدان الرموز الثقافية لعاملي الوزن والشكل على فهم وتفسير القدرة الضخمة الحاوية لدى العلب الإلكترونية الحديثة Flash Disks. فرغم صغر حجمها المادي تستطيع تلك العلب أن تحوي عشرات ومئات الأطنان من المطبوعات المكتوبة في جرائد ومجلات وكتب ووثائق. يعود ذ لك إلى كون أن الطبيعة الأصلية لكلمات اللغات هي طبيعة لا وزن لها ولاشكل، أي غير مادية. وهي بذ لك كأنها لا تحتاج إلى فضاء مادي لاحتوائها مهما كانت ضخامة حجمها. وهكذا يتجلى أن عجائب الثورة الإلكترونية يتحسن فهمنا وتفسيرنا لها من خلال اعتبار الرموز الثقافية خالية من عاملي الوزن والشكل.
3- لا تتأثر الرموز الثقافية بعملية النقصان عندما نعطي منها للآخرين كما هو الأمر في عناصر عالم المادة. فإعطاء الآخرين خمسين دينارًا من رأس مالنا وقنطارًا من قمحنا وعمارة من عماراتنا… كلها عمليات تنقص مما هو عندنا من ممتلكات مادية. أما إذا علّمنا (منحنا) الآخرين شيئًا من معرفتنا وعلمنا وفكرنا وعقيدتنا وقيمنا الثقافية ولغتنا… فإن ذلك لا ينقص شيئًا من كل واحد من رموزنا الثقافية هذه.
4- للرموز الثقافية قدرة كبيرة على البقاء طويلاً عبر الزمان في المجتمعات البشرية إذ قد يصل مدى بقائها درجة الخلود. فاللغة، وهي أم الرموز الثقافية، لها قدرة فائقة على تخليد ما يكتب بها بغض النظر عن محتوى المكتوب . فالفكر البشري لا يكتب له الاستمرار والخلود الكاملين دون أن تحتضن مضمونه اللغات المكتوبة. فما كان لفكر كل من إخناتون وسقراط وأرسطو وابن رشد والغزالي وابن خلدون وروسو وديكارت وهيوم وغيرهم من المفكرين والعلماء… أن يتمتع بمدى حياة طويلة من البقاء بدون تسجيله في حروف وكلمات اللغات البشرية المتنوعة التي تؤهله لكسب رهان حتى الخلود. أما على مستوى الحفاظ وتخليد التراث الجماعي للمجموعات البشرية، فإن للغات دورًا بارزًا بهذا الشأن. فاللغات المكتوبة على الخصوص تمكن المجموعات البشرية من تسجيل ذاكرتها الجماعية والمحافظة عليها وتخليدها رغم اندثار وجودها العضوي والبيولوجي ككائنات حية ورغم تغييرها للمكان وعيش أجيالها المتلاحقة في عصور غير عصورها. فمحافظة لغة الضاد محافظة كاملة على النص القرآني خير مثال على مقدرة اللغة التخليدية بالنسبة لحماية الذاكرة والتراث الجماعيين من واقع الفناء المتأثر كثيرًا بعوامل الزمن والبيئة والوجود الجسمي العضوي البيولوجي لذات تلك المجموعات البشرية.
ولا تقتصر هذه الأبعاد المتعالية/المتافيزيقية للغة المكتوبة فقط، بل إن الاستعمال الشفوي للغة يقترن هو الآخر بدلالات متعالية/ميتافيزيقية. أفلا يلجأ البشر من كل العقائد والديانات إلى استعمال الكلمة المنطوقة في تأملاتهم الكونية وتضرعاتهم وابتهالاتهم إلى آلهاتهم أو إلى أي شيء آخر يعتقدون في أزليته أو قدسيته؟ فبانفرادهم بنوعية اللغة البشرية عن بقية الكائنات الحية الأخرى يستطيع أفراد الجنس البشري أن يحرروا أنفسهم من العراقيل المادية لهذا العالم ويقيموا علاقات وروابط مع العالم المتعالي/الميتافيزيقي. فبهبة اللغة البشرية ينجح بنو البشر في فك حصار المشاغل الدنيوية والآنية. وهكذا يصبح لقاءهم بالبعد الميتافيزيقي في شتى مظاهره أمرًا لا مفر منه، فهم يرونه في أحلامهم ويحفل به خيالهم ويلتقون به عن قرب في تجاربهم الدينية.
5- تملك الرموز الثقافية قوة هائلة تشحن الأفراد والمجموعات بطاقات كبيرة تمكن أصحابها من الانتصار على أ كبر التحد يات بكل أصنافها المتعددة. فعلى سبيل المثال، قد أثبتت قيم الحرية والعدالة والمساواة عبر التاريخ البشري الطويل على أنها رموز ثقافية قادرة على شحن الأفراد والمجموعات بطاقات هادرة جبارة تشبه إلى حد ما القوى الماورائية الصاعقة التي لا يستطيع اعتراض سبيلها أحد. وهذا ما يوحي به قول الشاعر العربي التونسي أبي القاسم الشابي:
إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلا بد أن يستجيب القدر
فمصدر إرادة الشعوب الحقة يكمن في عالم الرموز الثقافية. أي عند ما يجمع الناس أمرهم للدفاع عن الحرية والمساواة والعدل وغيرها من القيم البشرية وعن حقهم في الاستقلال واحترام الذات يصبح رد فعلهم كرد فعل القدر الذي لا يبقي ولا يذر. وهذا ما يفسر لجوء الناس إلى الحديث عن المعجزات في بعض الأحداث الفردية أو الجماعية التي تدخل سجل التاريخ بالرغم من عدم توفر المعطيات المادية لذلك. إنها تجليات لأثر الرموز الثقافية الحاسم في ميلاد وتفعيل حركية السلوكات البشرية في المجتمعات والحضارات الإنسانية على مر العصور.
يمثل هذا التحليل كشفًا لمعالم خفية في صلب الرموز الثقافية لا تكاد تشير إليها ولو بالقليل العلوم الاجتماعية المعاصرة(15). إنه كشف يمكن الباحثين من قراءة جديدة متكاملة ومعمقة لخفايا أبجدية عالم الثقافة، وبالتالي يؤهلهم إلى فهم أفضل وأكمل لمنظومة الرموز الثقافية، الأمر الذي يساعد على طرح تفسيرات أكثر مصداقية للعديد من الظواهر في المجتمعات البشرية.
الثقافة في المنظورالمعرفي الإسلامي:
وإذا رغبنا في التعرف على الرؤية المعرفية الإسلامية للرموز الثقافية/ الثقافة فإن أفضل طريق لتحديد معالمها والفوز بكسب رهان جوهر طبيعتها هو الرجوع إلى القرآن الكريم المصدر الأول للإسلام على شتى المستويات.
ومن ثم، فنحن نقدم هنا الرؤية المعرفية القرآنية لطبيعة الثقافة / الرموز الثقافية. وإذا نجحت قراءتنا في فهم مضمون الآيات القرآنية التي لها علاقة بالرموز الثقافية فإننا نكون قد كسبنا الرؤية المعرفية الإسلامية الأصح عن طبيعة الثقافة. بذلك نكون قد سلحنا أنفسنا بأقوم مفهوم إسلامي للثقافة يشجع الباحث على ترشيحه للمقارنة وربما المنافسة مع مفهوم الثقافة كما وقع ويقع استعماله في العلوم الاجتماعية المعاصرة. ويجوز أن تساعد هذه العملية المعرفية على بناء مفهوم للثقافة ذي مصداقية أكبر بالنسبة للباحثين المهتمين بالشأن الثقافي من وجهة الرؤية المعرفية الإسلامية على الخصوص. وإذا وجدنا أن الرؤية القرآنية للرموز الثقافية تتشابه أو تتطابق مع تحليلنا السابق لها، فإننا نكون قد وفقنا للجمع بين العقل والنقل وهي المنهجية المثالية في الفكرالإسلامي الأصيل. وفي ذلك درء للتناقضات في هذا البحث. إن منهجيتنا في استكشاف الرموز الثقافية ومعالم طبيعتها في النص القرآني تتكون من ثلاث خطوات:
– هل هناك إشارات واضحة في القرآن تميز الإنسان عن غيره في خلافة الله؟.
– العثور على آيات قرآنية تتحدث بصراحة مطلقة عن تميز الجنس البشري عن بقية الأجناس الحية الأخرى.
– إلى أي شيء ترجع الآيات القرآنية تميز وتفوق الجنس البشري؟
1- يحفل النص القرآني بالآيات التي تعطي مكانة خاصة ومتميزة للإنسان من بين كل المخلوقات الأخرى سواء كانت كائنات روحية كالملائكة أو حيوانات ودواب أخرى تعيش على هذه الأرض مثل الإنسان. وبعبارة أخرى، فصورة الإنسان في القرآن هي صورة الكائن الفريد الذي يحتل المرتبة الأولى من حيث الأهمية بعد الله في هذا الكون. ومن ثم فلا منازع له على الإطلاق في تأهله لإدارة شؤون هذا العالم وأخذ مقاليد السيادة (الخلافة) فيه. ولندع آيات القرآن تشخص لنا بقوة تلك المكانة الفريدة التي يتمتع بها الجنس البشري وحده بين كل الكائنات الأخرى. ونقتصر هنا على إبراز ذلك عبر خمس حالات تحدث فيها القرآن بكل وضوح عن تميز الإنسان عن غيره من المخلوقات الأخرى. ففي الآية 30 من سورة البقرة يصف القرآن آدم الإنسان بأنه وحده خليفة الله في الأرض: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً …) ولا يحتاج المرء هنا إلى شرح مدى أهمية هذا المنصب (خلافة الله في الأرض الذي وليه الإنسان دون سواه من الملائكة والمخلوقات الأخرى على الأرض).
2- أما ميزات الإنسان المطلقة التي تتحدث عنها الآيات القرآنية الثلاث (31-32-33) من نفس السورة، فهي تتمثل في اصطفاء الله لآدم بالمعرفة والعلم أكثر من غيره بما فيهم الملائكة (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ).
ونتيجة للميزتين السابقتين اللتين حرمت منهما الملائكة وبقية الكائنات وحصل عليهما الإنسان وحده جاء أمر الله للملائكة بالسجود لآدم دون غيره كعلامة تكريم وتمييز ثالثة لآدم: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ). أما الآية (70) من سورة الإسراء فهي تستعمل فعلي “كرم” “وفضل” لأبرز سمتين تميز بني آ دم عن غيرهم من مخلوقات الأرض: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً).
فهذه الآيات القرآنية توضح بما لا يدع مجالا للشك بأن الإنسان كائن خاص متميز ومتفوق على غيره من مخلوقات الأرض والملائكة. ومن ثم فالرؤية القرآنية للجنس البشري تمثل قطيعة معرفية (ايبستيمولجية) كاملة مع نظرية التطور عند داروين وأصحابه، إذ إن خلق آدم في الرؤية القرآنية يمثل حالة خاصة في الخلق هي في قطيعة مع كل من الملائكة وعوالم المخلوقات هنا على الأرض. إن خلق آدم تميز عن غيره بواسطة هبة المعرفة / العلم التي أعطاها إياه الله دون سواه. فبهذه المقدرة المعرفية العالية جاءت مشروعية خلافة آدم لله بتكريمه وبتفضيله في الأرض وسجود الملائكة له.
3- تربط آيتان من القرآن سجود الملائكة لآدم بنفخ روح الله فيه فآية: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ). نجدها مكررة مرتين في سورتي الحجر (15) وص (38).
إن التساؤل عن معنى كلمة “روحي” الواردة في السورتين تساؤل مشروع جدا لأن الصيغة التركيبية لكلمات الآية تفيد بأن طلب سجود الملائكة لآدم تلى نفخ روح الله فيه. أي أن هناك علاقة قوية، إن لم تكن سببية بين عملية نفخ الروح الإلهية في آدم ودعوة الله الملائكة إلى السجود له. وكما هو معروف فإن كلمة الروح في القرآن أتت بمعان مختلفة وفي طليعتها بث الحياة في الكائنات. إن اطلاعي على عدد من كتب المفسرين لكلمة “روحي” في هذا الآية يشير أن معظمهم رأى أن لفظ “روحي” هنا يعني القدرة على بث الحياة في الكائنات. فتفسير الجلالين يقول… “وإضافة الروح اليه تشريف لآدم. والروح جسم لطيف يحيا به الإنسان بنفوذه فيه …”(15). أما المفسر السوري المشهور اليوم عفيف عبد الفتاح طبارة فيقدم لنا هذا الشرح التفسيري لمعنى كلمة “روحي” في الآية: “ونفخت فيه من قدرتي أو بعبارة أخرى فإذا أفضت عليه ما يحيا به من الروح التي هي من أمري … فخروا له ساجدين”(16).
ونختم بتفسير الشيخ متولي الشعراوي أشهر المفسرين المصريين في العصر الحديث فيصوغ معنى روح الله ونفخها في آدم كالتالي: “والنفخ من روح الله لا يعني أن النفخ قد تم بدفع الحياة عن طريق الهواء في فم آدم. ولكن الأمر تمثيل لانتشار الروح في جميع أجزاء الجسد وقد اختلف العلماء في تعريف الروح، وأرى أنه من الأسلم عدم الخوض في ذلك الأمر لأن الحق سبحانه هو القائل (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً)(17).
فواضح من مضمون هذه التفا سير أن معنى لفظ “روحي” اقتصر على مجرد معنى قدرة الله على بث الحياة في آدم التي لا يعرف البشر أسرارها ومن ثم دعا الشيخ الشعراوي إلى تحاشي الخوض فيها.
إن الاقتصار فقط على هذا التفسير لمعنى كلمة “روحي” لا يسمح لآدم الإنسان بتبوء منصب خلافة الله في الأرض وسجود الملائكة له تكريما لخصوصية وتميز خلقه. إذ إن الله لم يبث الحياة في الإنسان فقط بل بثها أيضا في كل الكائنات الحية. وبالتالي فمجرد بث الحياة في الإنسان لا تؤهله وحده إلى خلافة الله هنا على الأرض. فلا بد إذن من البحث عن معنى آخر للفظ “روحي” يفسر بقوة مكانة تميز الإنسان وتقوقه على بقية المخلوقات في إدارة شؤون الأرض كخليفة لله فيها.
وهنا يأتي، في رأينا، دور العلوم الاجتماعية في مساعدة مفسري القرآن وهديهم إلى المعنى المناسب الذي ينبغي أن يعطى إلى كلمة “روحي” في آية: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ). فالكثير من المفسرين المحدثين يستعينون باكتشافات العلوم الحديثة في التفسير للعديد من الآيات القرآنية التي لها علاقة بخلق الإنسان وفهم عمل مخ وجسم الإنسان أولها علاقة بالظواهر الطبيعية في الكون مثل الشمس والقمر والنجوم والجبال والبحار والبراكين والزلازل، مما عزز من فكرة إعجاز القرآن. فازدادت المؤلفات وكثر انعقاد الندوا ت والمؤتمرات في هذا الميدان في العالم الإسلامي الحديث. وإننا نتفق مع المفكر الإسلامي وعالم الجيولوجيا الكبير الدكتور زغلول النجار الذي يؤكد على أن فهم الكثير من الآيات القرآنية لا يمكن أن يتم بدون الاعتماد على الاكتشافات العلمية ذات المصداقية العالية حول الإنسان والظواهر الطبيعية للكون.
وفي نظرنا فإن المفسرين المحدثين مطالبون هم أيضًا، وبنفس الدرجة، بالإفادة من الرصيد المعرفي العلمي ذي المصداقية للعلوم الاجتماعية المعاصرة في ما له علاقة بفهم سلوك الأفراد والجماعات وحركية المجتمعات والمعالم الثقافية البشرية. فهذه العلوم تساعد بالتأكيد على القرب من معنى كلمة “روحي” في الآية المشار إليها أعلاه. فعلوم الأنثروبولوجيا والاجتماع والنفس تجمع على أن الإنسان يتميز ويتفوق على غيره من الكائنات الأخرى بما تسميه تلك العلوم بالثقافة Culture أو ما أطلقنا عليه نحن بالرموز الثقافية: اللغة، الفكر، المعرفة / العلم، الدين، القيم والأعراف الثقافية … أي أن الجنس البشري ينفرد بتلك المنظومة من الرموز الثقافية وهي التي أهلته وحده في الماضي وتؤهله اليوم وفي المستقبل إلى لعب دور خليفة الله في الأرض . وبعبارة أخرى، فمعنى (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي) تصبح تدل على أن النفخة الإلهية في آدم هي في المقام الأول نفخة ثقافية بالمعنى المعاصر الذي تعطيه العلوم الاجتماعية لمصطلح الثقافة. إذ بهذه الأخيرة يفسر علماء العلوم الاجتماعية تميز الإنسان وسيادته في هذا العالم على بقية المخلوقات. ومن ثم، فمعنى (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي) لا بد أ ن يعنـي أولا وبالذات نفخة الرموز الثقافية في آدم وحده التي أعطته، دون سواه، مقاليد الخلافة في الأرض وما تبعها من سجود الملائكة له. بهذه القراءة الثقافية لمعنى كلمة “روحي” في الآية يتضح مدى تحسن مصداقية تفسير معاني آيات القرآن لواستعان المفسرون بالرصيد العلمي الحديث الرصين والموثوق به لكل من علوم الطبيعية وعلوم الإنسان والمجتمع على حد السواء.
الثقافة في الرؤية المعرفية القرآنية:
يتجلى مما سبق أن للقرآن رؤية معرفية (إيبستيمولجية) بخصوص الرموز الثقافية كمعلم مميز للجنس البشري. فالنفخة الثقافية الإلهية في آدم دون غيره من الكا ئنات هي إذن نفخة ذات جذور وطبيعة ميتافيزيقية حسب الرؤية القرآنية. فمصدرها ليس عالـم الأرض وإنما عالم السماء الذي حرم منها كائنات الأرض ووهبها فقط للإنسان. فالقرآن يتحدث بصراحة كاملة عن الطبيعة الميتافيزيقية للنفخة الثقافية التي اختص بها الإنسان وحده فيقول: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ). أي أن النفخة الثقافية في صميم آدم صادرة من الذات الإلهية نفسها. فلا مجال إذن للشك في الرؤية القرآنية في جوهر الطبيعـــة الماورائيــة (الميتافيزيقية) للرموز الثقافية التي يتميز بها الجنس البشري عن سواه من الأجناس الحية.
وفي المقابل، فإن جل أدبيات العلوم الاجتماعية الغربية المعاصرة حول مفهوم الثقافة تصمت صمتا شبه كامل عن الجوانب الميتافيزيقية للثقافة. فهي تدرس وتحلل ثقافات المجتمعات بطريقة وصفية أو وضعية Positivist دون أن تهتم بإثارة الأسئلة المعرفية (الإيبستيمولجية) عن طبيعة الثقافة كمعلم متعال ينفرد به أفراد الجنس البشري ومجتمعاته. لقد نجحت تلك العلوم في إرساء رصيد علمي ضخم حول الثقافة من الدراسات المتعددة لعلماء الأنثروبولوجيا والاجتماع على الخصوص في القرن العشرين. وهورصيد فكري يغلب عليه الوصف الوضعي للثقافة وعناصرها. فلا يكاد المرء يجد أي إشارة واضحة، كما هو الأمر في منظور تحليلنا وفي الرؤية المعرفية الإسلامية، إلى الطبيعة المتعالية / الميتافيزيقية للرموزالثقافية. أي أن هذه الأخيرة وقعت وتقع دراستها في علمي الأنثروبولوجيا والاجتماع الغربيين بالمنظور الوضعي أو غيره الذي ينفر من النظر في ملامح الأشياء التي لا تخضع إلى عالم الحس والكم أوالوزن والشكل، كما أشرنا سابقا. فلا مناص، من وجهة المنظور العلمي الموضوعي، أن يكون لهذا الموقف المنكر حضور اللمسات غير المادية / المتعالية الميتافيزيقية – رغم وجودها القوي – في صلب الرموز الثقافية انعكاسات سلبية جدا على مصداقية المفاهيم والنظريات الكثيرة التي تستعملها العلوم الاجتماعية المعاصرة في دراسة الثقافة وتجليات آثارها في سلوك الأفراد وحركية المجتمعات والحضارات. فالمأخذ الإيبستيمولوجي على هذه العلوم مأخذ خطير، إذ أنه يتجاهل معلما جوهريا للرموز الثقافية. فكيف ينتظر كسب رهان الثقة في ما تتوصل إليه بحوث العلوم الاجتماعية التي تدرس الثقافة عارية – بسبب إيبستيمولجيتها – من معالمها الجوهرية والمتمثلة في لمساتها المتعالية/ الميتافيزيقية؟. ومن هنا نرى أن لا تقتصر عودة العلوم الاجتماعية الغربية اليوم على مجرد الاهتمام بدراسة العوامل الدينية لفهم سلوكات الأفراد وحركية المجتمعات(18)، بل ينبغي أيضا أن تصبح، مثلاً، الرؤية المعرفية (الإيبستيمولوجيا) للديانات مصدرا لفهم طبيعة الأشياء والتنظير حولها في هذه العلوم كما تحاول هذه الدراسة إبراز ذلك حول طبيعة الثقافة.
الرموز الثقافية ومعالمها المتعالية/ الميتافيزيقية:
إن ما ذكرناه من قبل بأن الرموز الثقافية البشرية ذات جذور ميتافيزيقية في المنظور القرآني تحتاج إلى تجسيم أكبر في دنيا واقع الإنسان والمجتمع بحيث يمكن استعمال المعالم الميتافيزيقية للرموز الثقافية في ميدان البحث الميداني للعلوم الاجتماعية اليوم. إن دراستنا لطبيعة الرموز الثقافية منذ بداية التسعينات (1990) من القرن الماضي سمحت لنا بتحديد مؤشرات نرى أنها صالحة لقياس ما نسميه بالجوانب الميتافيزيقية (الجوانب التي تتصف بها الكائنات الماورائية) للرموز الثقافية، وهي: طول أو سرمدية أمد حياتها وسرعة تنقلها وقوتها الجبارة في تحريك سلوك الفرد والمجتمع وفقدانها للشكل والوزن وعد م نقصا نها رغم العطاء منها، كما بينا من قبل.
إن تحويل المعنى المجرد لميتافيزيقيا الرموز الثقافية إلى صياغة ميدانية لتجليات ملامحها الميتافيزيقية يعطيها تصورًا إجرائيًّا يؤهل الباحث في العلوم الاجتماعية من استعماله في صلب بحوثه الميدانية والنظرية. ويساهم هذا التصورالإجرائي في بداية المصالحة مع كل العوامل غير الموضوعية والمؤثرة في سلوك الفرد والمجتمع والتي يتحاشى المنظور الوضعي على الخصوص أخذها بعين الاعتبار في فهم وتفسير الظواهر الجماعية والفردية. نحلل ونناقش بطريقة متداخلة أو منفصلة هذه السمات للرموز الثقافية في ما تبقى من صفحات هذا البحث لزيادة إيضاح فكرة الجوانب المتعالية / الميتافيزيقية للرموز الثقافية.
تجليات المعالم الميتافيزيقية في الرموز الثقافية:
إن التأكيد على أن الرموز الثقافية هي جزء مركزي من نفخة الروح الإلهية الثقافية في الإنسان ليس بالأمر الكافي في هذا الصدد. فنحن نحتاج إلى بيان كيف أن نفخة الروح الإلهية الثقافية تتجلى في بعض الرموز الثقافية نفسها. نقدم هنا ثلاثة أمثلة للرموز الثقافية التي تعكس بعض الملامح لجوانب نفخة الروح الإلهية الثقافية . فالتجليات الثلاثة هي:
1- اللغة ولمساتها الميتافيزيقية:
يؤكد القرآن الكريم خلود الذات الإلهية: (هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ)، (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ). إن بعض الرموز الثقافية تتصف هي الأخرى بالبقاء الطويل أو حتى الخلود. فدعنا نلقي نظرة قصيرة على اللغة كأهم الرموز الثقافية جميعا لنرى كيف أنها قادرة على إطالة أو تخليد حياة الأفراد والجماعات البشرية. نعتبر اللغة أهم كل الرموز الثقافية إذ بدونها لا ينتظر وجود بقية الرموزالثقافية في دنيا البشر. ومن ثم، فاللغة في رؤيتنا الفكرية الجديدة المطروحة في هذا البحث هي أم الرموز الثقافية جميعًا.
إن ملامح اللمسات الميتافيزيقة في الأنساق اللغوية لا تحتاج إلى عناء لإثباتها. فاللغة مهيأة أكثر من غيرها لحمل ومضات عالم اللا محسوس/ المتعالي وفقا للرؤية المعرفية الإسلامية لعالم الرموز الثقافية للإنسان. ويمكن الاقتصار على ذكر وتحديد أربعة ملامح في تشخيص الملامح المتعالية/الميتافيزيقية للغة كرمز ثقافي يتميز به الجنس البشري:
أ- لا تخفى بالتأكيد المنزلة التي تتبوأها اللغة في ثورة المعلومات التي تحدث عنها توفلر Toffler وغيره من المختصين في هذا الميدان. فسرعة التواصل الآني وفي لمح البصر بين الأفراد والمجتمعات اليوم تتم أساسا بواسطة الوحدة الرئيسية التي تكون النسق اللغوي والمتمثلة في الكلمة (الاسم، النعت والفعل والحرف والرقم والرمز…) فإن سرعة تنقل الكلمة المكتوبة والمنطوقة في عالم اليوم لا ترجع إلى تقنيات الاتصال العصرية فحسب وإنما تتأثر هذه السرعة في العمق بطبيعة اللغة نفسها كأهم رمز ثقافي يملكه بنو البشر. فالتواصل باللغة في شكلها المنطوق والمكتوب حول عالمنا هذا تحولا جذريا وأضفى عليه مع تحسن تقنيات الاتصال (عن طريق الهاتف والفاكس والإنترنت) صفات العجائب والغرائب. فأصبح تخاطب الناس والتقاط الخبر في حينه رغم المسافات الشاسعة يوحي بما يمكن أن نسميه بالبعد الميتافيزيقي لوجود الكائنات البشرية في هذا العالم، ومنه تتجسم بطرح جديد لثنائية كينونة الإنسان. فالصياغة التقليدية لطبيعة الإنسان تتمثل في كونه جسما وروحا. أما التصور الجديد لكينونة الإنسان والذي بلورته ثورة المعلومات فهو يتمثل في أن الإنسان جسم قابع هنا على سطح الأرض أو سابح في الفضاء … لكنه متصل ومتواجد عن طريق اللغة هناك على بعد خيالي على هذه الأرض وفي ذلك الفضاء الرحب. فهذه الثنائية الجديدة الملامح تطرح الجانب الميتافيزيقي القديم (الروح) لهوية الإنسان في ثوب جديد يظل مع جدته ذا وشائج صلبة مع عالم الماورائيات واللامحسوسات التي لم يقدر الإنسان بصفة عامة عبر تاريخه الطويل أن يلغيها تماما من إحساسه ومن حدسه ومن تفكيره العقلي والعلمي في القديم والحديث على حد سواء(19).
ب- أما على مستوى قدرة اللغة على تخليد الأفراد والجماعات رمزيا عبر الزمان والمكان فالمعطيات الميدانية تؤكد ذلك. فعلى المستوى الجماعي تمكن اللغة المكتوبة على الخصوص المجموعات البشرية من تسجيل ذاكرتها الجماعية والمحافظة عليها وتخليدها وذلك رغم اندثار وجودها العضوي والبيولوجي كمجموعات ورغم إمكانية تغييرها للمكان وعيش أجيالها المتلاحقة في عصور غير عصورها. فمحافظة لغة الضاد محافظة كاملة على النص القرآني خير مثال على مقدرة اللغة التخليدية بخصوص حماية الذاكرة والتراث الجماعي من واقع الفناء المتأثر بالتأكيد بعوامل الزمن والبيئة والوجود العضوي المادي لذات تلك المجموعات البشرية. وكذلك الأمر بالنسبة للأفراد. فالكُتَّاب العباقرة في كل الحضارات الإنسانية وعبر العصور المتلاحقة ما كانوا ليستطيعوا تخليد أفكارهم ونظرياتهم بالكامل لولا توفر اللغة المكتوبة المتطورة على الخصوص في ثقافاتهم(20). فأفلاطون وأرسطو وأخناتون والمعري وابن خلدون وابن رشد وروسو وماركس … ما كان لأفكارهم أن تصمد أمام عوادي الزمن لقرون طويلة وربما لأجل غير مسمى لو أنها لم تحفظ في لغات مكتوبة. وباختصار، فالأنساق اللغوية تسمح لرصيد ذاكرات الشعوب وأفكار الشخصيات اللامعة بالتمتع بالقليل أو بالكثير من سمات الخلود والأزلية. يمثل ذ لك بقوة جا نبا متعاليا للغة المكتوبة.
ث- لقد تحسنت مقدرة الرموز الثقافية على السماح للإنسان بالتمتع بنوع من الخلود بسبب استمرار توالي الاكتشافات التقنية الحديثة في ميدان الإلكترونيات المتقدمة. فتسجيل الصوت والصورة الملونة عبر عملية الترميز codification يعد مثالاً حيًّا على مقدرة الرموز الثقافية على تخليد الكلمة والصوت والصورة الحية الطبيعية للكائنات الحية والظاهرات الجامدة. فصناعة الفيديو هي أكمل طريقة إلى حد الآن في تخليد الإنسان عبر الرموزالثقافية. فبه يتم اليوم تسجيل الكلمة ونبرات الصوت وحركة جسم الفرد أو الجماعة في أكمل صورة عفوية طبيعية.
ث- فعلى المستوى الثقافي يقترن الاستعمال الشفوي للغة أيضًا بدلالات ماورائية. أفلا يلجأ البشر من كل العقائد والديانات إلى استعمال الكلمة المنطوقة في تأملاتهم الكونية وتضرعاتهم وابتهالاتهم إلى إلههم أو أي شيء آخر يعتقدون بأزليته أو قدسيته؟ بتميزه باللغة المكتوبة والمنطوقة عن بقية الكائنات يستطيع الإنسان أن يحرر نفسه من العراقيل المادية لهذا العالم ويقيم علاقات وروابط مع العالم المتعالي /الميتافيزيقي. فبالمقدرة اللغوية ينجح بنو البشر في فك حصار المشاغل الدنيوية والآنية. وهكذا يصبح لقاؤهم بالبعد الميتافيزيقي في شتى مظاهره أمرا لامفر منه. فهم يرونه في أحلامهم ويحفل به خيالهم ويلتقون به عن قرب في تجاربهم الدينية على الخصوص.
2- اللمسات المتعالية لقيم الحرية والعدالة والمساواة:
وكمثال ثان لتشخيص ما سميناه باللمسات المتعالية/ الميتافيزيقية التي ينطوي عليــها عالم الرموز الثقافية نعرض لقيم العدالة والمساواة والحرية … أي كيف أنها تحول سلوكيات البشر خاصة في بعض الحالات إلى سلوكيات وكأنها متأثرة بقوى ماورائية. ولتبيان ذلك بأكثر ما يمكن من الوضوح يتحتم القيام ببعض الملاحظات الأولية الأساسية:
إن الملاحظة الميدانية لكل من عالم الأجناس البشرية وعوالم بقية الدواب الأخرى تفيد، من ناحية، بأن سلوكيات هذه الأخيرة تتأثر في العمق بالمؤثرات الغريزية وأن سلوكيات بني الإنسان تتأثر في المقام الأول، من ناحية أخرى، بعامل الرموز الثقافية. وهذا ما يفسر استمرارية التطابق الكامل أو شبه الكامل في سلوك كل نوع من أنواع الحيوانات والحشرات والطيور والزواحف … عبر الأجيال المتلاحقة عبـر الزمان والمكان. وأما بالنسبة لنوع الجنس البشري، فهناك تنوع كبير في نمط السلوكات الرئيسية والهامشية على حد سواء من حضارة إلى حضارة ومن مجتمع إلى مجتمع ومن جيل إلى جيل. إن علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا المعاصرين متفقون على أن هذه الاختلافات في أنماط السلوك بين هذه التجمعات البشرية وداخلها تعود أساسا إلى تأثيرات عالم الرموز الثقافية (الثقافة) عندها من ديانات وتقاليد وأعراف وقيم ومنظومات معرفية(21) … وبعبارة أخرى، فالكائن الإنساني يستمد من عالم الرموز الثقافية حرية العمل والاختيار والاختلاف عن الآخر. ومن ثم فالسلوك البشري يتمتع بإمكانيات ضخمة من المرونة. أي أنه سلوك مرن لا تحكمه حتمية قاهرة كما هو الأمر في عالم سلوك الحيوانات والدواب. إن تميز أفراد الجنس البشري بتلك السمات يجد تفسيرا سهلا له في منظومة الرموز الثقافية، إذ أن هذه الأخيرة، كما أوضحنا، هي الفاصل الحاسم بين عالمي الجنس البشري وأنواع الأجناس الحية الأخرى. فظلال الجانب الإيبستيمولوجي الميتافيزيقي الإسلامي حاضرة بقوة في هذا التفسير. فالذات الإلهية، في الرؤية المعرفية الإسلامية، لها مطلق الحرية والإرادة والاختيار (فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ) ومن ثم فمعنى آية (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي) لابد أن يشمل سمات الاختيار والحرية والإرادة في حدودها النسبية بالطبع عند بني البشر مثلما هو الأمر عندهم – وفقا للرؤية الإسلامية – في ميدان العلم (وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً). وليس من العجيب إذن أن تفشل تنبؤات مختصي دراسات السلوك البشري في الكثير من الحالات في تقييمها للتوقعات الحقيقية لسلوك الناس. إذ أن علماء النفس أو علماء الاجتماع طالما يبنون تلك التنبؤات المنتظرة حول السلوك الإنساني على أرضية حتمية صلبة ذات قوانين لا تعترف بمبادئ الحرية والإرادة والاختيار.. في معادلة المؤثرات على السلوك البشري. ويأتي ذلك من رؤيتهم الإيبستيمولوجية الخاطئة التي تجعلهم لا يميزون بين طبيعة تأثيرات الرموز الثقافية والعوامل الغريزية والمادية على سلوكات أفراد الجنس البشري. وبالتحديد فإنهم لا يعترفون –أصلا – بوجود المعطى الميتافيزيقي، كما هو وارد في صفحات هذا البحث، في صلب الرموز الثقافية. ومن ثم، فمنطق المؤثرات على السلوك البشري عندهم منطق واحد تتساوى فيه الرموز الثقافية مع بقية المؤثرات الأخرى بالرغم من أن الرموز الثقافية تتمتع بمركز الثقل الأقوى في تشكيل هوية الأفراد والجماعات وتوجيه سلوكاتهم في مجتمعاتهم. ومما يلفت النظر بهذا الصدد أن قيم الحرية والعدالة وغيرها من القيم التي نادى بها الإنسان على مدى تاريخه الطويل لم تلق أي اعتناء علمي يذكر من طرف علماء السلوك الفردي والجماعي المحدثين. ورغم ما لتلك القيم من دور رئيسي في تحريك سلوك الفرد والجماعة في القديم والحديث، فإن أهل الاختصاص في العلوم الاجتماعية قد استنكفوا ويستنكفون عموما من فهم جذورها ومدلولاتها العميقة في التأثير على السلوك الإنساني. فخيل إليهم أنها عبارة عن أشياء ميتافيزيقية يختص بدراستها الفلاسفة لا العلماء. وهذا مثال آخر من بين العديد من الأمثلة يعكس القطيعة الإيبستيمولوجية التي يشكو منها العلم الوضعي المعاصر في تضايقه من إحداث مصالحة بين العالم المحسوس والعالم الماورائي مهما كانت طبيعة هذا الأخير(22). إن تمتع الإنسان دون سواه بالحرية والقدرة على الاختيار.. ميزة تربط الكائن البشري بعالم الميتافيزيقيا. فالإله في معظم الديانات والعقائد يختص بتلك الخصال. فالإنسان هو الوحيد الذي يشترك بصورة نسبية مع الإله في تلك الخصال. فالنص القرآني يشير بالبنان إلى الرباط الماورائي الــذي هو مصدر الحرية والإرادة والمقدرة على الاختيار.. عند الإنسان، فكل ذلك يرجع إلى.. (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي …)(23) فاجتمعت بذلك الظروف في نظر القرآن (بإعطاء الإنسان نصيبًا من الحرية والإرادة والاختيار) عند هذا الكائن العاقل لكي يكون المترشح الوحيد للخلافة بواسطة رصيد الرموز الثقافية على الخصوص، (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) .
3- شحن الرموز الثقافية للإنسان بطاقات ماردة:
وهكذا فلا عالم الحيوانات ولا عالم الدواب ولا عالم الآلات والأجهزة ذات الذكاء الاصطناعي الحديثة يتمتع بكم ونوعية طبيعة عالم الرموز الثقافية التي يملكها الإنسان. ومن ثم، فضرب من الخيال التحدث عن معاني الحرية والمساواة والعدل بين تلك الكائنات والآلات الاصطناعية بنفس المستوى الذي طرحت به من طرف الجنس البشري على مر العصور. فالعامل الحاسم الذي يميز بين عالم الإنسان وعالمي الدواب والآلات الذكية هو عالم الرموز الثقافية. ومن هذه الأخيرة تأتي مشروعية ربط كينونة الإنسان بالعالم الميتافيزيقي، إذ بدون عالم الرموز الثقافية ودلالاته يظل تشخيصنا للإنسان وعلاقاته بما حوله هنا على الأرض وبما في السماء وما وراءها تشخيصا منقوصا على مستوى العلمي والعملي.
إن الكائن البشري عندنا هو كائن رموزي ثقافي بالطبع، أي أن دور ما سميناه بعالم الرموز الثقافية من حيث فهم الإنسان والمؤثرات على سلوكه دور رئيسي يتمتع بثقل لا يكاد يضاهيه في نهاية الأمر أي عنصر آخر مؤثرعلى السلوك البشري. وهذا ما يفسر في رأينا منطق السلوكات الفردية والأحداث الجماعية التي أثبتت قدرتها على تحدي المعطيات المادية القاهرة كما رأينا ذلك في معالم الانتفاضة الفلسطينية. إن مقاومات حركات التحرر في العالم الثالث في القرن العشرين عينة أخرى شاهدة على مدى مصداقية ثقل الرموز الثقافية في خلق ودفع وتوجيه السلوك البشري الفردي والجماعي نحو أهداف قد يبدو تحقيقها – ماديا – صعبًا جدًّا أومستحيلاً. فإلقاء العديد من قادة العالم الثالث في السجون في العصر الحديث لم يمنعهم من الكفاح والصمود أمام القوى المادية العاتية والضخمة للمستعمر الغربي والمتمثل خاصة في بريطانيا وفرنسا. وليس هناك من تفسير ذي مصداقية لانتصارهم في النهاية على المحتل أفضل من عامل تدرعهم بالسلاح المعنوي أو بسلاح عالم الرموز الثقافية وفقا لمفهومنا للرموز الثقافية في هذا البحث وفي غيره من مؤلفاتنا وكتاباتنا. وما الانتفاضات الشعبية ضد الطغاة في القديم والحديث إلا تصديق لمدى أهمية الذخيرة التي يمكن أن يمد بها عالم الرموز الثقافية الجنس البشري بحيث تصبح طاقات هذا الأخيـر تحديا لأضخم قوة عسكرية يمكن أن يملكها الطاغية أو المستعمر. فقوة الرموز الثقافية قوة هادرة وهائلة لا يكاد يقف أمام جبروتها أي شيء مهما كانت طبيعته القاهرة. فعنفوان هذه الطاقة التي يستلهمها الإنسان من عالم الرموز الثقافية تستمد قوتها من عالم السماء لا من عالم المحسوسات كما ترى إيبستيمولوجيا الثقافة الإسلامية المشار إليها سابقا. ومن هنا يأتي المدلول الميتافيزيقي لقيم الحرية والعدالة والمساواة … كرموز ثقافية قادرة على شحن الأفراد والجماعات بطاقات ماردة جبارة تشبه إلى حد ما القوى الماورائية الضاربة التي لا يستطيع اعتراض سبيلها معترض. وهذا ما يوحي به بيت الشاعر العربي التونسي المعروف أبي القاسم الشابي:
إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلابد أن يستجيب القدر
فمصدر قوة إرادة الشعوب، كما بينا، هو عالم الرموز الثقافية. فالناس عندما يجمعون أمرهم على الدفاع عن الحرية و المساواة والعدل والاستقلال واحترام الذات … يصبح فعلهم كرد فعل القدر الذي لا مرد له. وهذا ما يفسر لجوء الناس إلى الحديث عن المعجزات في بعض الأحداث الفردية أو الجماعية التي تدخل سجل تاريخ الأفراد والمجتمعات رغم عدم توفر المعطيات المادية لذلك.
4- فقدان الوزن والشكل في الرموز الثقافية:
وكما أشرنا من قبل، تعود سهولة نقل ونشر الرموز الثقافية على بساط الأرض إلى فقدانها بعض المعطيات المادية المحسوسة، فالوزن والشكل الماديان للأشياء يمثلان المعطيات الأساسية المحسوسة/الكمية لعالم المادة ويتطلبان في نهاية الأمر جهدا بشريا في عملية نقل الأشياء المادية من مكان إلى آخر.
أما بالنسبـة للرموز الثقافية ذاتها فإنها بطبيعتها فاقدة للوزن والشكل الماديين. إن حركتها ونشرها السريعين من مكان إلى آخر يمكن تفسيرهما بمعطيات فقدان الشكل والوزن، ومن ثم يكون نقل ونشر الرموز الثقافية أسهل وأسرع. وعلى سبيل المثال، يصبح للرموز الثقافية وزن وشكل عند طباعتها على الورق الذي له وزن وشكل. فحمل عدد هائل من الموسوعات والكتب والوثائق والمجلات والجرائد … عبر فضاء معين سوف يحتاج إلى وقت طويل وجهد كبير إذا كانت المسافة شاسعة ووسائل النقل بدائية. لقد سهلت وسائل النقل الحديثة نقل وحمل أثقل الأشياء من مكان إلى آخر. ولكن يبقى عاملا الوزن والشكل عاملين حاسمين بالنسبة للحركة السريعة للأشياء وللجهد الجسيم الذي يحتاج اليه نقلها. ويصبح هذا الأمر واضح المعالم عند التخلص من عاملي الوزن والشكل في عملية بث الرمـوز الثقافية: أي عندما تسترجع الرموز الثقافية حالتها الطبيعية الأولى الفاقدة للشكل والوزن. فاختراع آلة الفاكس قد ألغى معطيات الوزن والشكل. ومن ثم، فإرسال نص الوثائق المكتوبة في لمح البصر وبدون جهد يذكر إلى أقصى مكان في العالم أصبح أمرا في غاية السهولة اليوم وذلك عن طريق آلة الفاكس. إن فقدان الرموز الثقافية للشكل والوزن الماديين يجعلها لا تتبع نفس مجريات الإرسال التي تتحكم في عالم الأشياء الطبيعية المادية التي لها وزن وشكل، ويضعها بدلا من ذلك في فلك الكائنات غير المحسوسة/المادية التي ليس لها وزن وشكل. ويبدو أن حالة فقدان الشكل والوزن لا تترك مجالا للعراقيل التي يمكن أن تقف أمام حرية الحركة الحينية للرموز الثقافية. فالتواصل الصامــت عبر التخاطر Telepathy والتخاطب الشفوي بالهاتف والتواصل الكتابي بالفاكس والإنترنت بين بني البشر كلها أمثلة للتواصل الحيني. ويحدث هذا بكل سهولة حتى عندما تفصل الصحاري والجبال والمحيطات بين الأطراف المعنية، ويجمع بين هذه الأنواع الثلاثة من الاتصالات عامل مشترك يتمثل في الفقدان الكامل لتلك الوسائل التواصلية لعراقيل الشكل والوزن.
إن تحليلنا لهذه المظاهر الأربعة للرموز الثقافية يشير أن لهذه الأخيرة ملامح تجعلها تشبه إلى حد كبير الكائنات الميتافيزيقية / المتعالية . ويتفق هذا كثيرا مع رؤية القرآن لطبيعة الرموز الثقافية البشرية. وباختصار، فالرموز الثقافية هي جزء من النفخة الروحية الإلهية الثقافية الخاصة التي نفخها الله في آدم. إن مزج الطين بالنفخة الروحية الإلهية الثقافية في خلق آدم جعل آدم مزدوج الطبيعة: مادة وروح. إن البيان الوارد أعلاه للمظاهر الأربعة للرموز الثقافية يشير بقوة إلى أن الرموز الثقافية حبلى بالعنصر الميتافيزيقي/ المتعالي Transcendental في التركيبة الازدواجية لطبيعة الإنسان. وتمثل هذه الرؤية للرموز الثقافية صلب المنظور الإسلامي لظاهرة الثقافة، وهو الإطار الفكري paradigm الرئيسي والمشروع الذي ينبغي تأصيل علم اجتماع الثقافة فيه في الوطن العربي والعالم الإسلامي بصفة عامة.
الحاجة إلى علم اجتماع ميتافيزيقيا الرموز الثقافية:
يتجلى مما سبق في صفحات هذا البحث أننا بصدد التأسيس لما يمكن أن نسميه بعلم اجتماع ميتافيزيقيا الرموز الثقافية ذي الأرضية الإيبستيمولوجية الإسـلامية. وقد استنتجنا ميتافيزيقيا/تعالي الرموز الثقافية من التحليل المنهجي السابق لطبيعة الرموز الثقافية نفسها، من جهة، ومن الاستعانة بالايبستيمولوجيا الإسلامية للرموز الثقافية، من جهة ثانية. ومن ثم كانت رؤيتنا في هذه الدراسة تشكل إطارا نظريا ذا أسس ثقافية وإيبستيمولوجيا إسلامية، وهو بذلك منظور يختلف كل الاختلاف عن المنظورالوضعي positivist على الخصوص. إن هذه الرؤية الجديدة للرموز الثقافية تستجيب بقوة إلى المناداة أكثر فأكثر من طرف مفكري العلوم الاجتماعية بدمج الدين والاستعانة به في فهم وتفسير الظواهر المدروسة والقيام بالفكر التنظيري في صلب هذه العلوم(24).
أولا: إن الاعتناء بدراسة كنه الرموز الثقافية يندرج في صنف البحوث الأساسية Basic Research العلمية. فالرموز الثقافية –كما رأينا- هي ما يميز الإنسان عن غيره من الكائنات. وبعبارة أخرى، إنها تمثل جـوهر الإنسان. فالكشف عن طبيعتها وخفاياها هو، إذن، أمر ذو أولوية، ما في ذلك شك، إذ أن عمق فهمنا لها يقربنا أكثر من كسب رهان فهم سلوك الفرد وحركية المجتمع البشري. ولذلك فهي جديرة بالبحث المتعمق الذي يحاول إماطة اللثام عن أعمق جوانبها.
ثانيا: إن اختيارنا للمنظور الثقافي الإسلامي (دراسة الثقافة برؤية إسلامية معرفية = أسلمة دراسة الثقافة) لدراسة الملامح الميتافيزيقية لمنظومة الرموز الثقافية يرجع، من ناحية، إلى عدم اهتمام وعجز المنظور الوضعي وغيره على دراسة موضوع هذا البحث، كما بينا ذلك في صفحات هذا العمل، ومن ناحية ثانية، فإن منظورنا سباق (1990) في تجسيم إدماج الفكر الديني الفلسفي في صلب العلوم الاجتماعية والذي تتزايد الدعوة إليه اليوم في تلك العلوم، كما رأينا. إذ أن المهم، في نظرنا في تقدم مسيرة العلوم ليس الإصرار والتشبث برؤية ما ومنهجية ما وإنما الأهم في استعمال الرؤية والمنهجية المناسبتين لفهم وتفسير الظاهرة قيد الدرس. ومن ثم، فهناك مشروعية قوية لتبني المنظور الثقافي الإسلامي كبديل عن المنظور الوضعي التقليدي الذي أسست مبادئه في القرن التاسع عشر ولم يعد في نظر العديد من علماء الاجتماع اليوم المنظور الذي يجب التقيد برؤيته وإيبستيمولوجيته. ويرى هؤلاء العلماء أن الوقت قد حان لإحداث تغيير في صلب علم الاجتماع المتأثر في العمق بالإيبستيمولوجيا الوضعية فيدعون إلى تغيير ثلاثة أمور أساسية في صلب علم الاجتماع:
1) يجب إقناع علماء الاجتماع بأنه ليس هناك منهجية علمية واحدة للقيام بالبحوث في العلوم الاجتماعية. أي هناك دعوة اليوم إلى مشروعية التنوع في المناهج العلمية التي يمكن أن يستعملها علماء الاجتماع في دراسة الظواهر التي يهتمون بها(25).
2) يعتقد هذا التوجه الجديد بين صفوف علماء الاجتماع بأن علم الاجتماع قادر على تبني واستعمال مجموعة من الأطر الفكرية النظرية دون أن تتضرر من ذلك الرؤية المركزية لهذا العلم . فمنظورنا الثقافي الإسلامي [أسلمة دراسة الثقافة] في هذه الدراسة يتماشى أيضا مع مبدأ الدعوة إلى تعددية الأطر الفكرية النظرية داخل صلب علم الاجتماع، وأن منظورنا يبقى وفيا في موضوع بحثه إلى صميم علم الاجتماع. فهذا الجزء من الدراسة يركز تحليله على منظومة الرموز الثقافية التي كانـت دائما ذات أولوية في دراسات علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا على الخصوص. ومما يزيد في ولاء هذه الدراسة إلى علم الاجتماع والأنثروبولوجيا هي محاولتها القيام بإضافة علمية جديدة في فهم منظومة الرموز الثقافية وذلك بتركيزها على دراسة الجانب الآخر للرموز الثقافية والمتمثل في ميتافيزيقيا الرموز الثقافية المستوحاة من كل من الملاحظة المنهجية للرموز الثقافية ومن الرؤية المعرفية الإسلامية. إن الكشف عن التجليات الميتافيزيقية في منظومة الرموز الثقافية يبرر ما كان مفقودا في صلب الرصيد المعرفي السوسيولوجي والأنثروبولوجي الحديث، وبذلك يتحسن اكتمال فهمنا لأهم ما يميز أفراد الجنس البشري عن غيرهم من أفراد الأجناس الأخرى.
3) يعتقد هذا الجيل الجديد من علماء الاجتماع بأن علم الاجتماع هو علم يتصف إيبستيمولوجيا بالخلق والابتكار، الأمر الذي يجعله متأهلا ليكون طلائعيا في طرح طرق جديدة للقيام بالعمل العلمي. إن المهم بهذا الصدد ليس تبني منهجية معينة في البحث العلمي وإنما الأهم يتمثل في استعمال منهجية قادرة فعلا على بناء صرح متين للعلوم. إن المنهجية الكفأة في تشييد علم اجتماع ذي مصداقية علمية يجب أن تكون أولا قادرة على كسب رهان التعرف على العوامل الاجتماعية والثقافية التي تقف وراء ميلاد الظاهرة قيد الدرس. إذ أن تفسير الظواهر من خلال المؤثرات الاجتماعية والثقافية يندرج في صلب المنظور السوسيولوجي الذي يعتمد أساسا في تفسيراته للظواهر على مفهومي البنية الاجتماعيةSocial Structure والثقافة Culture. وهذا ما يميز المنظور السوسيولوجي عن كل من المنظور النفسي والبيولوجي في تفسيرهما للسلوك البشري. فالمنظور النفسي يفسر السلوكات الفردية والجماعية انطلاقا من عوامل نفسية في شخصيات الأفراد. أما المنظور البيولوجي فيرجع بعض السلوكات البشرية إلى مؤثرات بيولوجية وموراثتية Genetics في تركيبة شخصيات الأفراد. إن ما يسمى اليوم بعلم الاجتماع البيولوجي Sociobiology يفسر السلوكـات الاجتماعية لبني البشر استنادا على عوامل بيولوجية. أي أن اختيارنا لأي منهجية بحث يجب أن يبقى هدفه النهائي هو الكشف عن السبب (أو الأسباب) التي عملت وتعمل على بلورة وميلاد الظاهرة. وبعبارة أخرى. فالمنهجية التي يستعملها عالم الاجتماع ينبغي أن تكون متبنية لمبدأ السببية في تفسير الظواهر الاجتماعية، وهو مبدأ ثابت لكل العلوم الحديثة، ولكن البحث عن العوامل المسببة للظواهر الاجتماعية لا ينبغي أن يقتصر على تلك العوامل الكمية التي شدد عليها العلم الوضعي Positivism منذ القرن التاسع عشر، بل يجب أن يطمح البحث عن علل الظواهر الاجتماعية إلى التعرف أيضا على الأسباب الكيفية التي لم يهتم العلم الوضعي باستعمالها. وهذا قصور واضح المعالم في إيبستيمولوجيا ومنهجية العلوم الاجتماعية الوضعية، إذ كيف يمكن أن يكون لمفاهيم ونظريات واستنتاجات هذه العلوم مصداقية إذا هي تركت جانبا عوامل رئيسية يتأثر بها السلوك البشري؟.
ومقارنة بمنظور علم الاجتماع الغربي، فإن منظورنا في هذه الدراسة حول طبيعة الثقافة يمكن أن يندرج في ما سماه عالم الاجتماع الأمريكي رندل C.Randal بعلم الاجتماع غير الجلي(26) الذي يكشف عن العمليات الخفية وراء ما هو جلي، إنه علم يبرهن أن المسائل الجلية ليست هي بالضرورة أهم المسائل.
إن استعمالنا للمنظور الثقافي الإسلامي ذي الايبستيمولوجيا الميتافيزيقية للرموز الثقافية هو ضرب جديد من الأطر الفكرية paradigms للقيام بالبحث العلمي والكشف عما وراء ما هو واضح وجلي في ميدان العلوم الاجتماعية. فمجهودنا في هذه الدراسة يحدد طريقة جديدة في بلورة العمل العلمي في ما خفي عن أنظار معظم علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا المعاصرين في دراستهم للثقافة Culture. وهو ما يضفي على علم الاجتماع لمسة الابتكار التي تسمح له كعلم أن يكون طلائعيًّا في قدرته على تحديد طرق جديدة للقيام بالبحث العلمي.
انسجام رؤيتنا مع علم الاجتماع المتأمل في ذاته:
مما لاشك في أن منظورنا الثقافي الإسلامي المطروح في هذا البحث لدراسة الثقافة هو منظور يجمع بين عدة رؤى معرفية تتمثل أساسا في علم الاجتماع والفلسفة والدين، وهي صياغة يرفضها العلم الوضعي التقليدي ولكن يقبلها ويرحب بها التوجه الجديد في صلب علم الاجتماع(47). ولعل علم الاجتماع الذي يدعو إليه بيار بورديو Pierre Bourdieu يدعم كثيرا رؤية منظورنا في هذا البحث. فمشروع بورديو الفكري المعرفي يتمثل في ما أطلق عليه بعلم الاجتماع المتأمل والناقد لنفسه Sociologie Réflexive(48)، فهذا الأخير لا يحترم كثيرا الحدود التي وقعت إقامتها بين التخصصات المعرفية(49)، ومن ثم فعلم الاجتماع هذا يدعو إلى ابتكار واستنباط طرق جديدة تفي بفهم وتفسير الظاهرة الاجتماعية بكثير من المصداقية. فهو يمثل، إذن، تحديا للتقسيمات الحالية ولأنماط التفكير السائدة في العلوم الاجتماعية(50)، كما أن بورديو يدعو بقوة إلى تبني واستعمال مناهج متعددة في دراسة الظواهر الاجتماعية والبحوث التي يقوم بها علماء الاجتماع(51). ويرى بورديو أن علم الاجتماع، كرؤية معرفية، يجب أن يتصف بالشمولية: La sociologie doit être une science totale des(52). وبتعبير مارسال موس، يجب على علم الاجتماع أن يمدنا بوقائع اجتماعية شاملة faits sociaux totaux قادرة على إعادة الوحدة الأساسية للبحث العلمي الذي طالما مزقته الحدود المتواجدة بين التخصصات المعرفية والميادين الإمبريقية وتقنيات الملاحظة والتحليل(53)، وعلى هذا الأساس عارض بورديو بشدة الفصل بين الجانب المنهجي الميداني والجانب النظري في العمل السوسيولوجي. ويعرف بورديو المنهجية السلبية Le méthodologisme بأنها ذلك التوجه لدى الباحث بفصل الجهد الفكري الذي يتطلبه استنباط المناهج عن استعمالها المفيد في العمل العلمي ذاته، الأمر الذي يجعل إنشاء المنهجية يقتصر على مجرد المنهجية فقط. يعتقد بورديو أن التفنن في التقنيات البحثية طالما يؤدي إلى فقر في الجانب النظري السوسيولوجي حول الظاهرة قيد الدرس. فالعمل السوسيولوجي الحق هو، إذن، ذلك الذي يحافظ دائما على الرباط الوثيق بين المنهج والفكر(54).
ويخلص بورديو من طرحه لمفهوم علم الاجتماع المتأمل والناقد لنفسه إلى أن هذا الأخير ليس بالعدو للرؤية العلمية الحديثة ولكنه يقف ضد العديد من التصورات conceptions الوضعية للعلوم الاجتماعية وضد أيضا الفصل المطلق الذي تقوم به العلوم الاجتماعية الوضعية بين الجوانب الكمية والكيفية للظواهر المدروسة(55). وهكذا يتبين أن نموذج علم الاجتماع هذا يدعو بقوة إلى الربط والحوار بين جانبي الازدواجية في الظاهرة المدروسة وفي العمل العلمي السوسيولوجي. أي أن هذا الأخير يجب، من ناحية، أن يعطي أولوية لدراسة كل من الجانب الكيفي والكمي للظاهرة الاجتماعية وأن يفتح الحوار، من ناحية أخرى، بين العمل الميداني والعمل التنظيري في مسيرة كسب رهان الفهم والتفسير للظواهر والعمليات processus الاجتماعية.
ومما تقدم يمكن القول بأن منظورنا الثقافي الإسلامي في دراسة الثقافة يندرج في فلسفة رؤية علم الاجتماع الذي يدعو إليه بورديو وغيره(56). فنحن ننتقد بشدة علم الاجتماع الغربي المعاصر الذي يكاد يهمل بالكامل المعالم الميتافيزيقية للرموز الثقافية التي أشرنا إلى البعض منها في هذا البحث. وفي المقابل، فنحن ندعو اليوم علماء الاجتماع المسلمين على الخصوص إلى عدم الاستمرار في التقليد شبه الكامل على المستويات الايبستيمولوجية والمنهجية والنظرية لنظرائهم الغربيين القدماء والجدد. فعلم الاجتماع الغربي يشكو اليوم من أزمة وحدة الايبستيمولوجيا التي طالب والرستاين بقوة كل علماء الاجتماع بتجاوزها(57). إن علماء الاجتماع في العالم الإسلامي هم بحق مؤهلون كثيرا للاستجابة إلى هذه الدعوة الملحة ووضعها موضع التنفيذ في الفكر السوسيولوجي الإسلامي للقرن الحادي والعشرين. إذ رؤية الثقافة الإسلامية سباقة في هذا المضمار: توحيد كل المعارف والعلوم. وبالتالي فلا مكان في هذه الثقافة لظاهرة “الثقافتين” Two Cultures والجفاء والعداء بين التخصصات المعرفية والعلمية. وبعبارة أخرى، فعلم الاجتماع الإسلامي القائم على قوة الإيبستيمولوجيا التوحيدية المطلقة للمعرفة البشرية مؤهل بحق أن يكون منيعا كل المناعة من الأزمة الإيبستيمولوجية التي يعيشها علم الاجتماع الغربي وبقية أصناف المعارف والعلوم اليوم.
أما على مستوى دراسة الثقافة أو الرموز الثقافية بالرؤية المعرفية الإسلامية فالأمر مشروع جدا بالنسبة لعلم الاجتماع الإسلامي كما يتجلى ذلك في صفحات هذه الدراسة. فمن جهة، يساهم ذلك في توطين هذا العلم في رؤية وإيبستيمولوجيا الثقافة الأم للمجتمعات الإسلامية. ومن جهة ثانية، تساعد المعالم الميتافيزيقية للرموز الثقافية على فتح آفاق معرفية جديدة كانت غير جلية في تراث الفكر السوسيولوجي المعاصر حول الثقافة: ذلك الكل الضخم والمعقد كما وصفه عالم الأنثروبولوجيا البريطاني تيلور E.B. Tylor.
تجلي العصبية الثقافية في الأمة العربية:
فمفهومنا للرموز الثقافية (الثقافة) بلمساتها الميتافيزيقية يسمح لعالم الاجتماع العربي أن يتحدث، مثلا، عن مجتمعات الوطن العربي بصفتها منطقة توحد بين أجزائها المتباعدة والمتقاربة الرموز الثقافية الإسلامية العربية الرئيسية: الإسلام واللغة العربية وثقافتهما. إذن، فالأمة العربية هي في المقام الأول حصيلة لتلك الرموز الثقافية التي تتجاوز عوامل القرب الجغرافي والتبادل الاقتصادي والتحالف العسكري بين الأقطار العربية. فالشعور والتضامن العربيان والإسلاميان العفويان عند العامة والخاصة في مجتمعات الوطن العربي يعودان، في منظور الرموز الثقافية، إلى ما يمكن أن نطلق عليه بالتعبير الخلدوني بالعصبية الثقافية. فصاحب المقدمة يرى أن صلة الرحم بين الناس هي أهم أسس التضامن والوحدة (العصبية) بينهم “وذلك أن صلة الرحم طبيعي في البشر إلا في الأقل. ومن صلتها النعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة، فإن القريب يجد في نفسه غضاضة من ظلم قريب أو العداء عليه، ويود لو يحول بينه وبين ما يصله من المعاطب والمهالك، نزعة طبيعية في البشر مذ كانوا”(58)، فالعصبية كسلوك تضامني مع أهل صلة الرحم هي في التصور الخلدوني، ظاهرة ذات جذور بيولوجية مورثاتية biogenetic.
إن ما نعنيه “بالعصبية الثقافية” هو أن اشتراك الأفراد والجماعات والمجتمعات في رموز ثقافية (لغة، عقائد، فكر، قيم ومعايير وأعراف ثقافية، معرفة/علم …) متجانسة ومتشابهة يدفعهم إلى التقارب والتضامن مع بعضهم البعض بطريقة تلقائية يغلب عليها التحمس العاطفي في المساندة والدفاع عن الذين يشتركون معهم في تلك الرموز الثقافية. ومما يميز “العصبية الثقافية” عن عصبية صلة الرحم الخلدونية هي أن الأولى أرحب صدرا وإنسانية بكثير من الثانية من حيث قدرتها على استيعاب عدد هائل من ملايين البشر قد يصل إلى ضم البشرية جمعاء من كل الأجناس والأمم والمجموعات العرقية والعشائر والقبائل … إن اشتراك الأجناس البشرية في رموز ثقافية واحدة يخلق بينهم بواسطة ما يشبه عصا سحرية أو بما سميناه بالروح الثقافية الرموزية(59) عرى الأخوة والتضامن بين الأفراد والجماعات والأمم التي لا تعرف بعضها البعض وتفصلها عن بعضها البعض مئات وآلاف الأميال. إن الشعور التضامني العفوي الإسلامي العربي الكاسح بين أبناء وبنات مجتمعات الوطن العربي الكبير لا يستطيع تفسيره مفهوم عصبية صلة الرحم الضيقة عند ابن خلدون، ومن ثم يتصف مفهوم “العصبية الثقافية” بكثير من السداد والمصداقية في تفسير اختلاف درجة التضامن والتوحد وطول أمد حياتهما بين الجماعات والشعوب والأمم. ومن ثم، يمكن القول بأن الشعور بالتضامن بين المجتمعات العربية التي تشترك في رموز ثقافية رئيسية هو حقيقة واقعية ثابتة طالما حافظت الشعوب العربية على انتمائها إلى رموز متجانسة والتي يأتي في طليعتها الدين الإسلامي واللغة العربية وثقافتهما. وقد يضعف هذا الشعور كثيرا أحيانا ويقوى كثيرا أحيانا أخرى تحت ضغط عوامل مختلفة، ولكنه لا يلفظ أنفاسه أبدا. فهو ذو طبيعة خالدة ما خلدت الرموز الثقافية الإسلامية العربية بين شعوب الوطن العربي. ففي حالة أقصى ضعفه، يكون الشعور التضامني على الأقل قوة كامنة وصامتة في أعماق اللاشعور الجماعي الإسلامي العربي. وفي حالة عزة قوته وعنفوانه يصبح الشعور التضامني بين تلك الشعوب قوة عاتية وصاخبة تشبه القوى الماورائية الماردة في دنيا الشعور الجماعي الإسلامي العربي ضد أعداء الأمة العربية والإسلامية. ومما لاشك فيه أن تلك التجليات في الروابط الوثيقة وشبه الأزلية بين الشعوب العربية تجد تفسيرا متينا في رؤيتنا المعرفية الإسلامية لطبيعة الرموز الثقافية المطروحة في صفحات هذه الدراسة.
إن الحديث عن قضية الوحدة العربية في الماضي والحاضر يأخذ مشروعيته بقوة من الوحدة الثقافية الصلبة التي تربط مجتمعات المنطقة العربية. فتحدث الغالبية الساحقة لهذه الشعوب باللغة العربية وتدينها بالعقيدة الإسلامية يقيم أساسا للتضامن والوحدة لا يضاهيه في القوة والمتانة والتواصل عبر الزمن لا وحدة الشعوب الاقتصادية أو العسكرية أو السياسية … إذ أن اللغة والدين هما عنصران رئيسيان مما سميناه بالرموز الثقافية: اللغة، الفكر، المعرفة / العلم، العقائد، القيم والأعراف الثقافية والأساطير … وهي كلها عناصر قادرة، من ناحية، على التمتع بأمد حياة طويل عبر الزمان والمكان قد يصل إلى درجة الخلود. ومن ناحية ثانية، فقد أثبتت ملاحظات أصحاب الرأي في العلوم الاجتماعية بأن اشتراك الأفراد والجماعات والشعوب في لغة وعقيدة وثقافة واحدة يقوي بينـها عرى التواصل والتقارب والتضامن أكثر من غيره من العوامل الأخرى. ومن ثم يمكن القول بأن تأهل المجتمعات الأوروبية للوحدة الطويلة المدى هو أضعف مما تتمتع به المجتمعات العربية في هذا الصدد. فدول الاتحاد الأوروبي، على سبـيل المثال، تتحدث لغات مختلفة: الإنجليزية، الفرنسية، الألمانية، الإسبانية، الإيطالية إلخ … أما اللغة العربية، فهي اللغة المشتركة التي تتحدثها المجتمعات العربية. فنحن هنا أمام صنفين مختلفين للوحدة بين الشعوب:
1- يمثل الاتحاد الأوروبي محاولة لتوحيد أعضائه على المستوى الاقتصادي والسياسي والقانوني على الخصوص. وهي وحدة تسعى لتحقيق مصالح آنية ملحة تؤمن مسيرة التقدم في تلك المجتمعات. أما على مستوى توحيد اللغة والدين بين تلك البلدان، فذلك أمر غير وارد في خطة توحيد أوروبا في الوقت الراهن. بل هناك احترام للتنوع اللغوي والديني في دستور الاتحاد الأوروبي. ونظرا لغياب التوحد في اللغة وضعفه في العقيدة الدينية المسيحية (بسبب تعدد مذاهبها وكنائسها) فيجوز القول بأن الاتحاد الأوروبي الناشئ ليس إلا توحدا ظرفيا ومؤقتا لا يسمح بالاطمئنان على استمرار قيامه على المدى البعيد، إذ التوحد الكامل في الرموز الثقافية الرئيسية (اللغة والدين) هو وحده الذي يؤهل الشعوب للتوحد الطويل المدى الذي قد يصل إلى الخلود على مستوى الوحدة الثقافية.
2) أما بلدان المنطقة العربية بين الخليج والمحيط فإنها تفتقد، من جهة، إلى الكثير من عناصر الوحدة الاقتصادية والسياسية والقانونية. ولكنها تتفوق، من جهة أخرى، على مجتمعات الاتحاد الأوروبي على مستوى الوحدة الثقافية، إذ أن أغلبية سكان الوطن العربي يتحدثون اللغة العربية ويدينون بالإسلام. ومن ثم، فمشروع الوحدة العربية يجد قوة مشروعيته في الشعور بالتقارب والتضامن والوحدة بين الشعوب العربية وذلك بسبب الأرضية الثقافية المشتركة بينها منذ قرون عديدة. فمعطى الوحدة العربية الثقافية بين الشعوب العربية هو إذن أمر سابق ومستقل عن عوامل الوحدة الجغرافية والاقتصادية والعسكرية والسياسية ومتغيرات الزمان والمكان.
وكما رأينا في حالة قوة تواصل الوحدة الثقافية بين الشعوب العربية (العصبية الثقافية)، فنحن لا نظن أن قارئ هذا البحث سيفاجئ في نهايته بتأكيدنا أن تفوق الرموز الثقافية عن سواها من عوامل توحد المجتمعات والشعوب على مستوى طول زمن ذلك التوحد وقوته بينها يجد مشروعية كبيرة في طرحنا هنا للرموز الثقافية برؤية معرفية إسلامية تعطي مكانة بارزة للمساتها الميتافيزيقية. وهكذا يتجلى أن استعمالنا لمفهومنا للرموز الثقافية لفهم وتفسير أسس صمود تضامن الأمة العربية عبر العصور، من ناحية، وتحليلنا المعمق لطبيعة الثقافة في بقية صفحات هذا البحث، من ناحية أخرى، قادران ليس فقط على المساهمة في تجديد آفاق الفكر السوسيولوجي الأنثروبولوجي العربي الإسلامي(60) بل يتجاوزان ذلك فيؤثران أيضا في رؤى الفكر السوسيولوجي الأنثروبولوجي الغربي الحديث المهتم بدراسة الثقافة والتنظير حولها.
مشروعية تأسيس علم الاجتماع الإسلامي:
وفي نهاية هذا البحث ما هي – بالتعبير الخلدوني – العبر المستفادة من محاولتنا أسلمة دراسة الثقافة/الرموز الثقافية، كما وقع طرحها وتحليلها ومناقشتها في صفحات هذه الدراسة(61)؟
تتمثل كبرى العبر الواضحة المعالم التي يمكن استخلاصها من معطيات هذا البحث في قدرة الرؤية المعرفية الإسلامية على مدنا بفهم مختلف وأفضل ومتكامل لمفهوم الثقافة/الرموز الثقافية من ذلك الذي نجده في أدبيات العلوم الاجتماعية الغربية الحديثة. وبعبارة أخرى، فقد حاججنا وأثبتنا في هذا البحث مدى ضرورة تجاوز منظور تلك العلوم في دراسة مفهوم الثقافة. لأن هذا المنظور يبقى صامتا تقريبا بالكامل في دراسته للثقافة على الجوانب الداخلية/الكيفية لها والمتمثلة في ما سميناه باللمسات الميتافيزيقية/ المتعالية transcendental(62).
ومن هنا تأتي الحاجة الماسة إلى أسلمة معرفتنا في دراستنا للثقافة/الرموز الثقافية. وهي أسلمة تعززها منهجية العقل التحليلي كما رأينا. أي أنها أسلمة يتفق عليها العقل والنقل(63). وهو ما يعطي مشروعية كبيرة إلى تأسيس علم الاجتماع الإسلامي أو الأنثروبولوجيا الإسلامية للثقافة. يتميز هذان العلمان بخاصيتين رئيسيتين:
1) دراسة الجوانب الظاهرة (الخارجية/ الموضوعية) والباطنية (الداخلية/الذاتية) للظواهر المدروسة، أي أنهما يتبنيان مبدأ التوازن الذي يعطي في تحليله للظواهر الحق الكامل لمعرفة وفهم المعالم الخارجية والداخلية للظواهر. وبعبارة أخرى، فإن علم الاجتماع الإسلامي والأنثروبولوجيا الإسلامية للثقافة لا يسمحان لنفسيهما بالتركيز على بعض الجوانب للظاهرة على حساب جوانب أخرى مهمة منها. إن أخلاقياتهما ethics تدعوهما وتملي عليهما دائما الحرص على دراسة كل جوانب الظاهرة. إذ بالرؤية الشمولية الكاملة للأشياء يأتي الفهم الأحسن والتفسير الأفضل لها، كما يؤكد على ذلك منطق الأشياء ومنظور العلم الحديث الذي تزداد فيه المناداة بالنظر إلى الأشياء كظواهر معقدة، ومن ثم فهو يحرص على الدعوة إلى منهجية متعددة الرؤى.
2) تتمثل الخاصية الثانية لعلم الاجتماع الإسلامي وعلم الأنثروبولوجيا الإسلامية في كونهما يعتمدان في تأسيس معرفتهما حول الفرد والمجتمع على مصدرين أساسيين يصطلح عليهما في الحضارة العربية الإسلامية بمفردتي العقل والنقل. فمن جهة، تنادي الرؤية الإسلامية بشدة باستعمال العقل لفهم وتفسير ظواهر الكون والمجتمع صغيرها وكبيرها، وهذا ما يتجلى بكل وضوح وشفافية في الآيات القرآنية المتعددة الداعية إلى التدبر في ظواهر الكون والمجتمعات والحضارات البشرية. أي أن الرؤية الإسلامية تنظر إلى العقل البشري على أنه وسيلة رئيسية أولى لكسب رهان المعرفة حول ظواهر الكون الطبيعية والبشرية. ومن جهة ثانية، يتمثل المصدر الثاني للمعرفة الإسلامية حول ظواهر الكون والمجتمع في ما ورد في القرآن والسنة الصحيحة (أحاديث الرسول وسلوكه) حول تلك الظواهر. يطلق على المصدر الثاني للعلم/المعرفة في الثقافة الإسلامية مصطلح النقل. ومن ثم فالمعرفة الإسلامية حول ظواهر الكون والمجتمع هي نوعان: معرفة عقلية ومعرفة نقلية. وهناك إجماع في التراث الفكري الإسلامي بأن هذين النوعين من المعرفة لا ينبغي أن يتعارضا أو يتناقضا وهذا ما نجده في فكر أبرز الفلاسفة والفقهاء والعلماء والمفكرين المسلمين أمثال الغزالي وابن رشد وابن تيمية وابن سينا وابن خلدون(64)، أي أنهم عملوا جميعا في مجالاتهم المعرفية والفكرية المختلفة وفقا لمبدأ انسجام التحليل العقلي مع الرصيد المعرفي النقلي المستند على الوحي القرآني وعلى ما نجده في السنة النبوية. ومن ثم، فأسلمة المعرفة هي بالتأكيد النمط الشائع والأصيل في التراث الفكري الإسلامي حتى مجيء الهيمنة الفكرية المعرفية الغربية في العصر الحديث إلى نخب العلماء والمفكرين والمتعلمين بالمجتمعات العربية والإسلامية. فكانت النتيجة واضحة في تأثر هؤلاء العلماء والمفكرين والمتعلمين تأثرا كبيرا في عهد الاستعمار الغربي لبلدانهم وبعده بأخلاقيات ethics المنظور الغربي المعاصر الذي يعتمد على العقل فقط في كسب رهان المعرفة. وبالتالي يرفض هذا المنظور المعرفة النقلية بمفهومها الإسلامي.
وبالتوازي مع الهيمنة الغربية سياسيا واقتصاديا وعلميا وثقافيا منذ عصر النهضة تمت عولمة هذا المنظور الغربي للعلم والمعرفة في أغلب مجتمعات العالم بما فيها المجتمعات العربية والإسلامية. فمعظم علماء الاجتماع العرب، على سبيل المثال، يتبنون اليوم ذلك المنظور الغربي الذي يفصل بقوة بين المعرفة العقلية والمعرفة النقلية. وهم بالتالي يعارضون فكرة أسلمة المعرفة أو تأسيس علم الاجتماع الإسلامي(65).
ويمكن للمرء أن يحاجج بإطناب أغلبية علماء الاجتماع العرب في هذا الأمر لكي يشكك على الأقل في أسس نكرانهم لمشروعية قبول وجود علم الاجتماع الإسلامي كفرع معرفي ذي صدقية في فهم وتفسير شؤون الأفراد والمجتمعات البشرية. نقتصرهنا فقط على ذكر ومناقشة ثلاثة معالم ذات علاقة بمدى مشروعية إنشاء علم الاجتماع الإسلامي.
أولا: لا يجوز على المستوى النظري إقصاء الإسلام من إمكانية إنشاء علم الاجتماع الإسلامي. إذ أن للعقيدة الإسلامية بكل تأكيد رؤية شاملة وتفصيلية حول الإنسان وسلوكاته، من ناحية، وحول المجتمع كنسق اجتماعي متكامل، من ناحية ثانية. ومن ثم، فالإسلام مؤهل مثله مثل الرأسمالية أو الاشتراكية لتأسيس علوم اجتماعية تتماشى مع رؤيته للفرد والمجتمع اللذين يعتبران الركيزتين الرئيسيتين لنشأة علم العمران البشري الخلدوني أو علم الاجتماع المعاصر(66).
ثانيا: لقد نجح ابن خلدون في اكتشاف علمه الجديد (علم العمران البشري) وإرساء أسسه عبر الملاحظات الميدانية والمفاهيم والنظريات الجديدة التي توصل إليها من خلال دراسته لمكونات المجتمعات العربية الإسلامية في المغرب العربي على الخصوص. لقد أنجز ذلك التفكير الاجتماعي الرائد دون أن يفصل بين معرفته العقلية ومعرفته النقلية في تحليله وفهمه وتفسيره لشؤون الأفراد والمجتمعات. ويكفي التوقف عند مثال واحد يطبق فيه ابن خلدون بالكامل منهجية العقل المسلم الأصيل الذي يجمع بين تحليل وتفسير العقل البشري للظواهر، من جهة، وتفسير النقل (القرآن في هذه الحالة) من ناحية أخرى. فبتعبير العلوم الاجتماعية الحديثة، لقد وجد صاحب المقدمة علاقة ارتباط قوية correlation بين انتشار ظاهرة الترف في المجتمعات العربية الإسلامية وظهور عديد المشاكل المقترنة بحضارة الترف التي تقود في نهاية الأمر إلى انهيار تلك المجتمعات. فبعد قيامه بمشاهدة الآثار السلبية لثقافة الترف على الأفراد والمجتمعات في مدن منطقة المغرب العربي والإفاضة في تحليلها بالمنظور العقلي، يذهب ابن خلدون إلى المعرفة النقلية (القرآن) ليعزز بها صدقية ملاحظاته الميدانية وتحليلاته العقلية كعالم مسلم ومؤسس لعلم العمران البشري (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً) (الإسراء: 16)(66).
وهكذا يصدق القول بأن النشأة الأولى لعلم الاجتماع – كفرع/كتخصص علمي مستقل وناضج – كانت نشأة إسلامية الطبيعة. فهناك إجماع قوي في الشرق والغرب أن ابن خلدون العلامة المسلم هوالمؤسس الأول في تاريخ البشرية جمعاء لفكر اجتماعي/سوسيولوجي (علم العمران البشري) عملاق قبل قرون من ميلاد أوجست كونت August Comte في فرنسا. يتحدث ابن خلدون نفسه عن الجذور الإسلامية لعلمه الجديد “وأنت إذا تأملت كلامنا في فصل الدول والملك، وأعطيته حقه من التصفح والتفهم، عثرت في أثنائه على تفسير هذه الكلمات، وتفصيل إجمالها مستوفى بيّنا بأوعب بيان وأوضح دليل وبرهان، أطلعنا الله عليه من غير تعليم أرسطو ولا إفادة موبدان“(68). ويؤكد المؤلف مصطفى الشكعة بأن نظرية العمران عند ابن خلدون هي إسلامية الطبيعة من البداية إلى النهاية(69).
إن نشأة علم العمران الخلدوني انطلاقا من مرجعية ثقافية إسلامية يعطي مشروعية كبيرة للمناداة والعمل على أسلمة العلوم الاجتماعية في العالمين العربي والإسلامي كما يتمثل ذلك اليوم في المسيرة الثقافية للمعهد العالمي للفكر الإسلامي على الخصوص(70).
وفي الواقع إنها لمفارقة تدعو إلى التعجب والدهشة أن ينكر الكثيرون من علماء الاجتماع العرب وغيرهم في الشرق والغرب قدرة الفكر الإسلامي على إنشاء علم الاجتماع الإسلامي والحال، كما رأينا، أن ميلاد علم العمران البشري/علم الاجتماع كتخصص علمي مستقل بذاته تم أولا وبالذات في أرض وثقافة إسلامية من طرف العلامة المسلم عبد الرحمان ابن خلدون الذي اعتمد تفكيره العمراني الجديد على نور العقل وهداية النقل، كما أكدنا ذلك مرارا في مؤلفاتنا(71).
ثالثا: إن النجاح الباهر الذي حققه العقل الخلدوني – الجامع بين العقل والنقل- في ميلاد ووضع الحجر الأساس لعلم العمران/علم الاجتماع الجديد يطرح أسئلة فيها الكثير من التحدي لمسلمات وقناعات العقل العلمي الغربي الحديث. فهذا الأخير يعتقد ويدعي أن كسب رهان العلم الحقيقي والمعرفة الأصيلة والصحيحة لا يمكن تحقيقهما إذا لم يقع الفصل الكامل بين الدين والعلم. لكن الشهرة العالمية لفكر ابن خلدون العمراني/السوسيولوجي ذي الأرضية الإسلامية كما نجده في مقدمته يفند مسلمات واعتقاد العقل الغربي الحديث بالنسبة للعلاقة بين الدين والعلم. فهما ليسا بالضرورة دائما في حالة تناقض وعداء كما هو الأمر في الثقافة الغربية المعاصرة. وإنما هما قد ينعمان بالتعاون والانسجام كما عرفت ذلك الثقافة العربية والإسلامية عند أبرز علمائها ومفكريها وفي طليعتهم ابن خلدون. ومن ثم ينبغي فهم ادعاءات العقل الغربي المعاصر انطلاقًا من التجربة الغربية الصراعية الخاصة بين الكنيسة، من ناحية، والعلماء والمثقفين، من ناحية أخرى. فليس من الموضوعية إذن تعميم هذه التجربة الغربية على تجارب ديانات وثقافات أخرى مع علمائها ومثقفيها. فالعقل المسلم لصاحب المقدمة يطرح بالتأكيد تحديًا جوهريًا على ادعاءات العقل الغربي المعاصر، ومن ثم يفتح الباب عريضا للعلماء والمفكرين في كل الثقافات للبحث عن أكثر من طريق ودرب من أجل إنشاء وإرساء علوم ومعارف صلبة العود والصدقية في ما يسميه العالم البريطاني سنو C. P. Snow بالثقافتين: the Two Cultures(72).
إن مقولة بحثنا في هذه الورقة تعزز بدون شك مشروعية فكرة إسلامية المعرفة في العلوم الاجتماعية. فالرؤية المعرفية (الإيبستيمولوجية) الإسلامية التي طرحنا وحللنا وناقشنا من خلالها مفهوم الثقافة/الرموز الثقافية أبرزت معالم جديدة تشد الانتباه حول طبيعة هذه الأخيرة. إنها معالم لا نكاد نجد لها ذكرًا في العلوم الاجتماعية الحديثة، ناهيك عن استعمالها في البحوث الميدانية وفي التنظير حول الثقافة نفسها أو حول ما له علاقة بالرموز الثقافية. ومن ثم، نعتقد أن ما قمنا به – بمساعدة المنظور الإسلامي – في هذا البحث من حفريات حول طبيعة الثقافة وفي طليعتها ما سميناه باللمسات الميتافيزيقية/المتعالية للرموز الثقافية يساهم في الدفع إلى بناء صرح متماسك لما يدعى بعلم الثقافةCulturology (73). وبعبارة أخرى، فدراستنا بالرؤية الإسلامية لمفهوم الثقافة في صفحات هذا البحث توسع آفاق فهمنا للثقافة، كبرى ميزات الجنس البشري، كما تجلى ذلك في تحليلنا للقضايا المختلفة التي تعرضنا لها في متن هذه الدراسة. فعلماء الاجتماع والأنثروبولوجيا المعاصرون بقوا عموما صامتين على اللمسات الميتافيزيقية في منظومة الرموز الثقافية، كما بينا ذلك في مطلع هذه الدراسة. إن إنكار وجود تلك اللمسات المتعالية، رغم وجودها المكين في صلب الرموز الثقافية جميعا، ليس هو بالتأكيد في صالح الموضوعية العلمية ولا هو في خدمة مسيرة التقدم العلمي في الكشف عن أعماق وألغاز طبيعة الثقافة، تلك الميزة البشرية الفريدة والعنصر المفتاح لفهم وتفسير سلوكات الأفراد وحركية المجتمعات. فمحاولتنا الكشف عن الجوانب المنسية (الأخرى) في دراسة الثقافة بعيون الرؤية الإسلامية تساهم، من ناحية، في تأصيل مفهوم الثقافة في أدبيات العلوم الاجتماعية الحديثة وتنهي ما يجوز تسميته بحالة الاغتراب في مفهوم الثقافة في تلك العلوم، من ناحية أخرى(74).
الهوامش
(1) الخولي، أسامة أمين، العرب والعولمة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط3،2000، 515 ص.
(2) During, s, (ed) The Cultural Studies Reader, London, Routledge, second edition, 1999, pp 610 and Long, E.From Sociology to Cultural Studies, London, Blackwell Publishers, 1997, pp 529.
(3) Martin , B, Rumelhart, D, (eds) Cognitive Science, San Diago, Academic Press, second edition, 1999, pp, p 391.
(4) Bonnel, V,Hunt, L. (eds), Beyond the Cultural Turn, Berkeley, University of California Press, 1999, pp 350.
Smith,P (ed) The New American Cultural Sociology, Cambridge/UK, 1998.
(5) المصدر السابق.
White, L,A, Dillingham , The Concept of Culture, Edina
(6) Alpha Editions: A.Division of Burgess International Group, 1973,pp32-39.
(7)Encyclopedia of Sociology , Guilford, Conn. (USA) The Dushkin Publishing Group 1974, p 69.
(8) مصدر سابق: The Concept of Culture ص 29.
(9) مصدر سابق The Concept of Culture، ص 9.
(10) المصدر نفسه ص 15-16.
(11) Cuche, D, La notion de culture dans les sciences sociales. Paris, La Découverte 1996, p. 117.
(12) مصدر سابق The Concept of Culture ص 26.
(13) المصدر نفسه.
(14) وردت مفردات supraorganic و suprabiological superorganic عند علماء الأنثروبولوجيا والاجتماع الغربيين لوصف الجانب الثقافي للإنسان دون أن يشير هؤلاء في تحليلاتهم للثقافة بوضوح بأن هذه الأخيرة لها لمسات ميتافيزيقية كما سنبين في هذا البحث .
(15) أنظر مقالتنا المؤسسة في هذا الميدان: في الدلالات المتيافيزيقية للرموز الثقافية، عالم الفكر، المجلد 25، العدد 3، يناير /مارس 1997، ص 9-43.
(16) مصدر سابقThe Concept of Culture ص 47.
(17) المصدر نفسه، ص 22.
(18) المصدر نفسه، ص 28.
(19) المصدر نفسه، ص 10.
(20) المصدر نفسه، ص 24.
(21) المصدر نفسه، ص 26.
(22) Fay, B., Contemporary Philosophy of Social Sciences,
Oxford, Blackwell Publishers, 2001 ; pp.202-220.
(23) جلال الدين بن أحمد بن محمد المحلي وجلال الدين عبدالرحمن بن أبي السيوطي، ط 7، دار ابن كثير، بيروت، 1993، ص 457.
(24) طبارة عفيف عبدالفتاح، تفسير جزء يس (ج23)، دار الملايين، بيروت، ص 145 (بدون تاريخ).
(25) تفسير الشيخ متولي الشعراوي، المجلد 12، ص 7694.
(26) انظر الهامش 14.
(27) Religion and New Immigration , Los Angeles, M.Heath, Center for Religion and Civic Culture, University of Southern California, Los Angeles, 2000.
(28) H.R. Ebaugh, Return of the Sacred: Reintegrating Religion in the Social Sciences Journal for The Scientific Study of Religion, Vol.41, n°3, Sept.2002, pp.385-95.
(29) سورة الحديد، 3.
(30) سورة الرحمن، 55.
(31) White, L., The Evolution of Culture , New York Mc Graw Hill Inc 1959.
(32) Hunt, M, The Universe Within , New York , Simon and Schuster 1982 pp 315-353.
(33) Parsons , T, Societies: Evolutionary and Comparative Perspectives, Englewood Cliffs, NJ Prentice- Hall , 1966.
(34) Smelser, N, Smelser.W. Personality and Social Systems, New York, John Wiley and Sons. Inc. 1967pp80-87.
(35) عالم النفس الأمريكي B.F Skinner من المدرسة السلوكية وعالم الاجتماع الفرنسي Emile Durkheim رائد الحتمية الاجتماعية مثالان على ذلك.
(36) Philips , D,C Philosophy, Science and Social Inquiry , New York , Press, 1985.
(37) سورة الحجر،15.
(38) سورة الأحزاب، 33.
(39) إن الهجوم على المركز التجاري العالمي في نيويورك ووزارة الدفاع الأمريكية (البنتجون) في واشنطن 11-9-2001 أحدث ذعرا ودهشة لا نظير لهما في الشرق والغرب. فالانتحار المحقق للمهاجمين بالأربع طائرات كان بالتأكيد مدفوعا بقوة صلبة وعارمة لمنظومة الرموز الثقافية للمهاجمين.
(40) مصدر سابق Ebaugh, Return of the Sacred…pp.385-95
(41) B.J. Riesman and al (1998) , Window on the Discipline, Contemporary Sociology, Vol.127,no.1pp.1-2,
(42) المصدر السابق ص 10.P.H. Collins , On Book Exibits and New Complexities Reflections on Sociology as Science/
(43) المصدر السابق ص 1.
(44) المصدر السابق.
(45) Randal, C , Sociological Insight: An Introduction To Non- Obvious Sociology, Oxford, Oxford University Press, 1982.
(46) مصدر سابق، ص 1، Contemporary Sociology
(47)Ibid, I,10 , II , and Bunge M, The Sociology- Philosophy Connection, New Brunswick (USA) Transaction Publishers, 1999.
(48) Bourdieu, P. et Wacquant, L.J.D La Sociologie Réflexive , Paris, Le Seuil, 1992, 43-70p.
(49) المصدر السابق ص 13.
(50) المصدر السابق.
(51) المصدر السابق ص 32.
(52) المصدر السابق ص 30.
(53) المصدر السابق.
(54) المصدر السابق ص 31-32.
(55) المصدر السابق ص 39.
(56) المصدر السابق ص 43-70 أنظر أيضا الملفين الهامين حول فكر بورديو في مجلتي: Magazine Litéraire n° 369,1988 18-70p, et Sciences Humaines, Numéro spécial , 2002.
(57) Wallerstein, I., The Heritage of Sociology and The Promise of Social Sciences, Current Sociology, Vol 47,n° 1, Jan 1999 pp. 1-16.
(58) ابن خلدون، عبد الرحمان: المقدمة، بيروت، دار الكتب العلمية 1993- ص 102.
(59) Dhaouadi, M. , The Culturel Symbolic Soul: An Islamically Inspired Research Concept for the Behavioral and Social Sciences. The American Journal of Islamic Social Sciences, Vol, 9 no 2, 1992, pp 153-72.
(60) أنظر “مسؤولية من … تجديد الفكر العربي…؟” للمفكر محمد جابر الانصاري، بمجلة البحرين الثقافية، العدد 30، أكتوبر 2001 ص 140-144.
(61)al-Faruqi, I.R (1982) Islamization of Knowledge: General Principles and Workplan, Brentwood, Maryland (USA) International Institute of Islamic Thought.
(62) الذوادي، محمود (1997) “ في الدلالات الميتافيزيقية للرموز الثقافية”، عالم الفكر، المجلد 25، العدد 3، يناير-مارس، ص 9-43.” في أبجدية الرموز الثقافية”، الآداب، 6/7 – 2005، ص 8-12.
(63) أبوالعلا ماضي، الوسطية بين التراث والعقل والنقل والمرجعية، وجهات نظر، السنة الحادية عشرة، سبتمبر2009، ص 64 ـ 66.
(64) الجليند، محمد السيد، شاهين، عبد الصبور (1988) درأ تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام ابن تيمية، القاهرة، مركز الأهرام للترجمة والنشر.
(65) خضر، أحمد إبراهيم (1993) علماء الاجتماع وموقفهم من الإسلام، لندن، المنتدى الإسلامي.
(66) وافي، علي عبد الواحد (1977) بحوث في الإسلام والاجتماع (ج الأول) ط 1، الفجالة – القاهرة، دار نهضة مصر للطبع والنشر، رضوان، زينب (1982) النظريات الاجتماعية في الفكر الإسلامي: أصولها وبناؤها من القرآن والسنة، القاهرة، دار المعارف.
(67) ابن خلدون، عبد الرحمان (1993) مقدمة ابن خلدون، بيروت، دار الكتب العلمية، ص 294.
(68) المصدر السابق، ص 30.
(69) الشكعة، مصطفى (1992) الأسس الإسلامية في فكر ابن خلدون ونظرياته، بيروت، الدار المصرية اللبنانية، ص 100-130.
(70) Al-Faruqi مصدر سابق.
(71)Dhaouadi, M. (2005) « The Ibar: Lessons of Ibn Khaldun’s Umran Mind », Contemporary Sociology, vol.34, n°.6, pp.585-591.
(72)Snow, C.P. (1963) The Two Cultures: And a Second Look, New York, Cambridge University Press.
(73) مصدر سابق White, The Concept of Culture، ص 32-39.
(74)Dhaouadi, M. (1996) Toward Islamic Sociology of Cultural Symbols, Kuala Lumpur, A.S.Noordeen.