حوار

جدلية الفقه والواقع: حوار مع أ. د. طه جابر علواني، وأ. د. جمال الدين عطية

العدد 136

نبدأ في هذا العدد من المسلم المعاصر إحياء باب الحوار، وهو الباب الذي تميزت به المجلة في فترة سابقة من تاريخها وشهد معارك فكرية حقيقية كانت من أكثر عناصر القوة والجاذبية في المجلة وأثرت الحياة الفكرية والعلمية والثقافية بقدر كبير، نذكر منها مثلا المعركة الفكرية حول اليسار الاسلامي في اواخر السبعينات، وكذلك السجال حول فترة ميلاد الحضارة بين الدعوة للعزلة / والدعوة للتواصل في اوائل الثمانينات، وغيرها من القضايا الخلافية التي اثيرت معاركها  ودا رت حواراتها على صفحات المسلم المعاصر.

وإيمانا منا بما لهذه السجالات والحوارات الفكرية من دور في إثراء الحياة العلمية والفكرية، وفي تحقيق تقدم علمي حقيقي، وتواصل بين الجماعة العلمية وكذلك  بين المدارس الفكرية المختلفة ؛ سعينا لإحياء هذا الباب في المجلة.

ونبدأ في هذا العدد بقضية قديمة حديثة، طالما طرحت للنقاش وما زالت مطروحة حتى الآن ؛ هي علاقة الفقه بالواقع! كيف نتعامل مع الواقع.. خاصة ذلك الواقع المفروض قسرا من الآخر، الواقع المخالف للمنظومة والرؤية الاسلامية، وقد سبق ان طرحت هذه القضية في المجلة في يوليو 1995 من خلال دراسة  قدمها الدكتور جمال الدين عطية بعنوان : كيف نتعامل مع الواقع؟ . ونحن هنا نفتح النقاش مجددا حول هذا الامر: كيف نتعامل مع الواقع !، كيف ينبغي ان تكون علاقة الفقه بالواقع؟ كيف نضبط الميزان بين التكيف والمقاومة  حتى لا نقع لا في الاستسلام التام للواقع، ولا في الانعزال عنه والانكفاء على الذات؟. حول هذه التساؤلات نبدا الحوار مع اثنين من العلماء الاجلاء، ذوي الخبرة الواسعة والعلم الغزير، لكل منهما تاريخ علمي وعملي طويل في كلا الرافدين : الفقه والواقع. وهم خير من يمكنه افادتنا في هذا المجال. هما : الاستاذ الدكتور طه جابر العلواني، والاستاذ الدكتور جمال الدين عطية.

الحوار الأول : أ. د. طه جابر العلواني

المحاور: الحوار هو عن علاقة الفقه بالواقع، و نقصد بالواقع ما هو عكس (الرؤية الاسلامية) الناتج عن تغيرات ناتجة عن أجندة معينة، فهناك نوعان من الواقع، واقع ناتج عن تطور طبيعى للأمور، كاختراع السيارة مثلا، وواقع غير طبيعى ناتج عن تغيرات نابعة من أجندة معينة، ونتاج للفصام بين ما هو على الأرض وما هو داخل الرؤية الإسلامية، أصبحنا نجد فئتان من الناس، فئة تتمسك بالرؤية (المثال) فتبتعد تماما عن الواقع وتنعزل، وفئة تتصالح مع الواقع بحيث تتوائم مع سلبياته وتبتعد تماما عن المثال والرؤية الصحيحة.

نشهد كثيراً تغيير الواقع على الأرض أولا ثم يتحرك الفقه والفكر بعد ذلك، فنجد أن الفقه يتعامل مع هذا التغير كأمر واقع ومعطى عليه أن يتعامل معه، وإذا أردتم مثالاً على ذلك، نضرب المثل بقضية المرأة. فقبل طرح هذه القضية فكرياً وفقهياً، نجد أن التغيرات الاجتماعية التى تشمل نمط الحياة والسلوك، قد تمت على أرض الواقع، وهكذا الأمر عند الحديث عن مواجهة قضايا الرشوة والفساد فى بلد كمصر، حيث من المعروف أن الدفع قد أضحى أسلوباً متبعاً وعرفياً لقضاء المصالح، فى مثل هذه الحالات يتعامل الفقه مع أوضاع شاذة وكأنها أمر واقع. فما السبيل لمواجهة هذه المعضلة؟

د/ طه: أولاً، إذا أردنا رصد معالم واقعنا نحن بوصفنا بقايا أمة مسلمة، سيكون من الصعب جداً توصيف الواقع، لماذا؟، لأن الأصل فى الواقع أنه نمط حياة وسلوك ونظام وروابط تمت صياغتها وفقاً لنموذج ما وانطلاقاً من رؤية كلية للكون، للإنسان، للحياة، ولدور أصحاب ذلك الواقع فى هذه المنظومة الكلية. وهذا مالم يتحقق لأى جزء من أجزاء الأمة المسلمة اليوم. فكل بلد وكل جزء وكل واقع قد أخضع لجملة من المؤثرات قليل منها جداً هو داخلى أو بأيدى أهله، وأكثره بأيدى الخارج، هو الذى يرسم الصورة، الذى يضعها لهؤلاء الناس، وبعد رسمه للصورة، يقرر أن يسلط كل شيء فى إمكاناتهم ومن إمكاناته، لتحقيق ذلك الواقع الذى رسمه هو أو رسم نموذجه هو. فمثلاً، واقعنا يقول أننا أبناء (شرق أوسط) وصرنا أبناء الشرق الأوسط، بعد أن كنا أجزاء من الدولة العثمانية ترتبط برابطة الإسلام، وعلائق معينة. غير لنا هذا الواقع بسايكس بيكو، وهزيمة العثمانيين فى الحرب العالمية الأولى، ورسم واقع جديد لم نسهم فيه بأى شيء من الأشياء، إلا بحركة المنفعل، والمنفعل لا يخلق واقعاً، ولا يؤسس لواقع، الفاعل هو الذى يفعل ذلك كله، وحين وجدنا أنفسنا فى ما سمى واقعاً وهو ما يزال مهزوز لأن رفض فطرتنا وعلاقتنا ورؤيتنا الكلية له لا يعطيه الاستقرار ولا يمنحه الشرعية ولا يمنحه الدافعية الكافية للاستمرار، وبالتالى بقى واقعاً ليس ذا أصل ثابت، ولكن القوى المستفيدة منه تحاول تثبيته بشكل أو بآخر أو تبقيه أو أن تطيل فى عمره أو أن تدخل عليه من التعديلات بحسب ما تراه مناسباً لمتغيرات الظروف. وعرفنا بعد أن سمينا بالشرق الأوسط أن هناك وعد بلفور وأن هناك كيان دولة طارئة وهى إسرائيل ستوجد فى المنطقة وتلعب الدور الأكبر فى المنطقة، وبعد أن كنا أمة مسلمة – أو عالماً إسلامياً أو دار الإسلام أو جزء منسلخ من الدولة العثمانيه، انتهى كل ذلك ولم يعد له فى تكوين هذا الواقع تأثير.

مداخلة: هل رُفض هذا الواقع بالفطرة فقط أو بالانفعال، أم كان للفقه دورًا في هذا الرفض؟

د/طه: أساساً هذا الرفض هو بالانفعال حيث أن قدرات الفعل قد سلبت منا، فأصبح الآخر يقوم بالفعل ونحن ننفعل معه. أما الفقه فقد أسس من قبل أعاظم الفقهاء أبو حنيفة، مالك، الشافعى، أحمد بن حنبل وسواهم وذلك للاستجابة لكل المتغيرات الطارئة، وحين أسسوه على هذا الأساس لم يدر بخلدهم أن الأمة ستتحول إلى أمة منفعلة وليست فاعلة، حيث كانت الأمة الإسلامية هى الأمة والقوة العظمى فى العالم كله، ولم تكن لتتخيل إلى فرق وأجزاء ممزقة الأوصال ومشوهة التكوين، فكان التحدى المطروح هو كيف يجعل المسلم غير منفصل عن الإسلام؟، وكيف يجعل النظام غير منقطع الصلة بالإسلام، وعندما تحولت الخلافة من خلافة راشدة إلى مُلك، انتبه الفقيه إلى هذا وخشى من أن يحُول طغيان الطغاة وزعمات القبائل وطالبى الملك الدين ضحية لمطالبهم، فأوجد مواءمة تكون بإهماله النظام السياسى فى مقابل التركيز على النظام القضائى على أساس إسلامى، فتسامح وتساهل فى النظام السياسى فى مقابل التركيز على القضاء، ففى ظن المجتهد والفقيه أن النظام القضائى هو المسؤول الأول عن إيجاد المشترك الثقافى للأمة، فإذا حافظنا عليه، سنحافظ على ثقافة الأمة التى من الممكن فى لحظة تاريخية معينة أو فى مجال من المجالات أن تؤدى إلى توحد ونهوض الأمة، فأفتى بإمامة المتغلب وقبلها وأفتى بالصلاة خلف أئمة الجور وقبلها وتجاوز لهم عن أشياء كثيرة، إلى أن أصبح الإسلام من الاتساع بحيث يقبل كل أنظمة السياسة التى وجدت فى البوذية والنصرانية واليهودية وغيرها، والتى وجدت الطريق لها فى التاريخ الإسلامى، فالفقهاء كان همهم الأكبر الحفاظ على المشترك بين الأمة وعلى رأسه الثقافة.

المحاور: هل كان الحفاظ على المشترك الثقافي للأمة مبررا كافيا للتصالح مع الواقع والاستسلام له؟

د/طه: لم يكن استسلاماً أو تصالحاً، وإنما كانت التركيبة الفقهية قد جعلت الفقيه يلاحظ مبادئ وأصول الفقه المتمحورة حول المصلحة فى الواقع، حيث لاحظ سد الذرائع ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح وغيرها من المبادئ والتى فى إطارها تكونت عقليته، فنجده تحت ضغط موقف ما يقدم (المصلحة) حسبما يتخيل أنها مصلحة، فقد أسس الفقه للإجماع ولم يخلق آلياته، فلم تكن هناك مجامع فقهية تجتمع لتقرير ما تراه مصلحة وما تراه غير ذلك، فأصبح الفقيه- وحده – يفتى ويرى المصلحة من وجهة نظره، ونجد أن هذه العقلية الفقهية قد كونتها مؤثرات مختلفة بعضها منسجم والآخر متناقض، وجعلت الفقيه من المرونة بحيث يقبل الشئ ونقيضه حتى أضحى الأمر بمثابة النكتة؛ فقيل مثلاً أنه ما من شيء إلا وللفقيه عنده حل وفتوى يرجع إليها فيه.

المحاور: تقولون أن هناك قصوراً فى تقويم الفقه للمصلحة، وبالتحديد فى إيجاد آليات وأدوات لتقويمها وتحديدها.

د/طه: نعم فالفقيه قد يصل إلى مصلحة متخيلة، في النهاية المصلحة الحقيقية لا يعلمها إلا الله، فقيل أن الفقه هو ما غلب على الظن.

المحاور: ألا يعنى هذا أن هناك حالة تراجع مستمر عن الرؤية الاسلامية، طالما أن الفقيه، يتوائم مع الواقع باستمرار دون حد أدنى لهذا التواؤم؟

الأمر محكوم بالوظائف، فالقاضى يتحاكم لديه المتخاصمون وهو يقضى على حسب ظاهر الحجة، وهو مأمور بذلك حتى لو هناك بواطن لا يعلمها، وهكذا الفقيه يفتى حسب السؤال الموجه إليه، أما المعلم الأكاديمى أو الباحث فهو يعرض للآراء ويقررها دون أن يتبنى أياً منها، والحاكم هو الذى يتبنى الأراء التى يقررها الباحث أو أو تبنى غيرها فى شكل سياسات، فقضية الصلح مع إسرائيل، يقوم الباحث بعرض وإيضاح المصالح والمضار من ورائها، والحاكم يقرر، وهكذا يفعل القاضى حيث يتبى رأياً فقهياً دون غيرها، ونجد أن الباحث المعلم هو وحده الحر حيث يطرح الآراء ويطرح الاحتمالات بشكل حر بحيث يقدم مادة خام للفقيه والقاضى والمفتى يتصرفون حسبها طبقاً للاحتياجات، ومن ثم يقوم هو بصياغة الحلول لقضايا الواقع لا الفقيه.

المحاور: لقد قصرتم دور الفقيه على تقديم الفتوى، أليس هو مسؤولاً أيضاً عن تشكيل الرؤية وصياغة العقول مثله مثل الباحث الحر؟

د/طه: تشكيل الرؤية وصياغة العقول هو دور الفقيه فى إطار مرجعية ورؤية وكيان وبيئة إسلامية، ففى هذه الحال يصبح الفقيه مرجعية، فالإطار الإسلامى يضعه فى هذه المثابة مثابة المرجع، أما فى واقعنا الحالى الفقيه هو مجرد وكيل فى وزراة العدل أو ما يشبه ذلك ويقوم بالتصديق على الإعدامات، أما القاضى فينظر فى الأحوال الشخصية وإذا ما نظر فى غيرها يقال أنه يحكم بغير الاختصاص، أما القضايا المرجعية الحقيقية المتعلقة بالأمة كقضايا فلسطين وقضايا الحكم والدولة والقانون فلا يمارس دوراً فى تشكيلها، ودوره المرجعى هو دور تاريخى، فحينما يطالب المفتى بلعب دورالمرجع بسبب الصورة التاريخية له حينما كانت الأمة موحدة والدولة الإسلامية هى الأولى عالمياً وتعطى الفقيه الدور الأكبر وتسميه شيخ الإسلام والصدر الأعظم تمنحه الألقاب وتحمله سلطة البرلمانات اليوم، فكان برلماناً عندما يمارس دوره، أما حينما نطالبه بما كان عليه فهو لا يملك هذا، فالفقهاء الآن يتظاهرون لأن مرتباتهم لا تكاد تكفيهم شراء الخبز وحده.

المحاور: أعتقد أنكم تتحدثون عن الفقهاء المؤطرين بإطار السلطة أو الموظفين لديها، ولكن هناك فقهاء خارج الإطار وهم يمارسون دوراً أكبر من مجرد الإفتاء!، مثل هؤلاء العلماء يتحركون بحرية أكبر وقادرين على القيام بدورهم فى تشكيل الثقافة وصياغة العقول.

د/طه: نعم هناك خطباء يتمتعون بقدر من الجرأة يتناولون موضوعات ساخنة لا تقدر على تناولها الصحف ووسائل الإعلام العادية فيذكِّرون المستمعين بشيء من الصورة التاريخية للفقيه المرجع فيكسبون احترام الناس وتتعلق بهم الآمال. ولكنه عندما تحدث مواجهة مع السلطة يتخلى عنهم الجميع، على عكس الحال عند الشيعة لننظر إلى السيستانى مثلاً فى العراق، السلطة ترجع إليه والقادة يأخذون رأيه، وولاية الفقيه جعلت من الفقهاء سلطة فوق السلطة، أما الفقيه السنى لا يملك مرجعية ولا بطيخ، فهو مجرد إمام مسجد راتبه بضع مئات من الجنيهات.. يزيد قليلاً لو أصبح إمام مسجد كبير ويخضع للرقابة والتفتيش.

المحاور: اذن لقد وضعت مسؤلية تكوين المرجعية على الأمة.

د/طه: نعم بالطبع فالأمة هى التى تقوم ببناء قياداتها، وهنالك جدلية تفاعلية بين القيادة والأمة، فإذا كان لدى شخص ما الاستعداد للقيام بعبء القيادة فعلى الأمة أن تدعمه، أما الآن فالأمة تتخلى عن دورها والفقيه الجرئ هو مجرد فرد، إذا ما تحدث فى الشأن العام لا أحد يدعمه.. بمقدور مدير الشرطة أن يطيح به فيدمر مستقبله وتشرد عائلته ولا أحد من الناس يعولهم أو يتكفل بهم، وبعد قضاء فترات الاعتقال يعود مثل هذا الفقيه وقد تبدل إلى شخص آخر نادم على حديثه فى الشأن العام.

المحاور: ولكن تاريخنا الإسلامى مليئ بمن يقف فى مواجهة السلطة ويجد عنتاً واضطهاداً.

د/طه: كان هناك الوقف، وعندما كانت مالية الفقيه الذى كان له بيت ومال وخدم من وقف على مدرسته يقوم بتمويله التجار الموسرين وأهل الخير، بحيث يعيش الفقيه معززاً مكرماً لا يمد يده للسلطة بل يمد قدميه، كما حدث مع أحد علماء الشام والحاكم الفرنسى فى دمشق الذى استدعى العلماء إليه، فجاؤوا كلهم إلا بعضهم، فسأل عن الغائبين وذهب إلى أحدهم فوجده فى مدرسة يديرها ويجلس بين تلاميذه ماداً رجله، وعندما مثل أمامه الحاكم الفرنسى ظلت رجله ممدوة، ولما سأله الأخير عن أحواله وعرض عليه مالاً قال له الشيخ: خذ معك مالك فمن يمد قدميه لا يمد يديه.

أما الآن وقد أخذ الوقف من الفقهاء وأصبحت أحوالهم وأسرهم مزرية وقد قطعت صلاتهم بالناس فالحال مغاير، فقد كان الوقف هو ما يربى الاستقلالية عند العالم. الآن تقدر ثروة السيستانى بما يتراوح من 10 إلى 15 بليون يستثمرها فى كافة مجالات الأعمال، وله جامعتان فى قم والنجف ينفق على طلابها وتغطى ثروته نفقاتهم وذلك من خمس الزكاة، أما العالم السنى فلا يملك هذه الميزة بعد أن سلبت منه أوقافه.

المحاور: هل كان هذا الحال فى قضية أحمد بن حنبل؟

د/طه: نعم فالوقف والمحسنون هم من وقف وراءه وقد استقوى بتلاميذه الذى كانوا يرابطون عند محبسه ينتظرون كلمة منه يدونونها.

المحاور: بالفعل هى جدلية تفاعلية، فإذا كانت الأمة بحاجة إلى مرجعية يجسدها الفقهاء، فهى من يكوِّن ويدعم هذه المرجعية، وهى الآن غير قادرة على القيام بهذا الأمر.

د/طه: الأمر يحتاج فى النهاية إلى أمة عندها تصميم على أن يكون لها مرجعية وتحيط هذه المرجعية بما ينبغى لها من احتياجات وتقدير.

المحاور: ومن عليه إذن الدور فى بث هذه الروح فى الأمة إذا ما فترت كما تصفون.

د/طه: في جميع الأحوال لن يكون الفقيه.. فالفقيه هو موظف فى وزارة الأوقاف أو ديوان الوقف السنى أو الشيعى وهو فى النهاية محكوم بالدولة التى تعلو وتعلو تلاميذه وباستطاعتها أن تحجم دوره وتقمعه.

المحاور: هناك نماذج قامت بتكوين تيار خاص بها والتأثير فى محيطها من خارج إطار الفقهاء، كعمرو خالد الذى خلق حالة مست الواقع بقدر كبير.

د/طه: كما قلت فى بداية الحديث أن الواقع الذى نعيشه لم نخلقه نحن، وجزء مما يقتضيه هذا الواقع عمليات تنفيس، وعمرو خالد ليس مرجعاً وإنما شاب جيد يتحدث ويتواصل مع الشباب ولو حدث ووقف موقفاً واحداً وتم اقتلاعه لن يدافع عنه أحد وهو ما حدث بالفعل، فهذا واقع يخلقه آخرون. ومثل هذه الحالات هى لمجرد التنفيس عن الواقع المأزوم والمختنق. والمثل على المرجعية دور السيستانى، فأزمة العراق حالياً هى فى تشكيل الوزارة والكل ينتظر بركة السيستانى ويقبل يده ليأخذ منه الموافقة، إلا أنه يقف بمسافة متقاربة من الجميع، هذه هى المرجعية عندما تلجأ السلطة السياسية للفقيه، وهو ما شاهدنه أيام بريمر الحاكم الأمريكى للعراق بعد الحرب الذى كثيراً ما لجأ للسيستانى وجلس على الأرض أمامه ليتدخل فى الأزمة المتلاحقة، أقول أن الذى أعطى هذا الدور للسيستانى هم الناس الذى يدعمونه ويلتفون حوله.

المحاور: نود أن نسأل عن قاعدة “درء المفاسد مقدم على جلب المصالح”، هل تؤدى مثل هذه القاعدة الفقهية إلى شيوع السلبية فى الأمة؟ فهي تعبير عن العقلية المنسحبة؛ عقلية المسلم الذى يكتفى بعدم ارتكاب المحرمات ولكنه لا يقوم بما هو مأمور به وما يجب عليه فعله.

د/طه: هذه القاعدة في المواقف التي يحدث فيها تعارض بين جلب المصالح ودرء المفاسد فيقدم درء المفاسد على جلب المصالح. أما بالنسسبة لشيوع السلبية فنعم.. المسلم بشكل عام فاقد للفاعلية، ولكن دور الفقه فى هذا محدود للغاية، فهذا الفقدان هو نتيجة لتربية طويلة ساهم فيها علم الكلام والجدال عن الجبر والقدر الذى جعل من الفعل الإنسانى فعلاً مضطرباً ومشوشاً، وهناك أيضاً دور يتعلق بالعقيدة والرؤية، أما الفقه فقد سوغ هذا الفقدان، فالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مرتبط بقدرات معينة فإذا لم تتوافر لدى الفرد فهو غير مطالب به، وهكذا كان الحال إذا ارتكب السلطان جريمة أو اجترح محرمة، والفقه يحمل دوراً أقل بكثير من دور علم الكلام فى هذا الصدد إلى جانب دور التفسير والحديث والتربية والأسرة والتعليم وغيرها من عوامل، والفقيه دوره محدود ومهمش، ولكنه يظل جزءاً من المنظومة التى تحرك الفاعلية فى الأمة.

المحاور: إذن مرة اخرى انتم تجعلون الدور الأكبر فى الفاعلية للأمة كلها بكافة فئاتها.

د/طه: إيجاد الأعذار للأمة أسوأ من إيجاد الأعذار للفقهاء، فهم مجرد فصيل فى الأمة، والأمة هى التى تحتاج إلى عمليات إيقاظ وهذا الإيقاظ لا يحتاج مجرد فتى وفتوى، فأحسن أحوال التعليم لا يلعب فيها المعلم دوراً يزيد عن 10% وبقية العملية تتوزع على وسائل التعليم والإيضاح والأسرة والكتاب وغيرها من العوامل، فالمسؤولية موزعة على هذا وذاك، وإذا ما تحدثنا عن عملية إعادة بناء وعى الأمة؛ نجد أن الفقهاء يلقون 50 خطبة جمعة فى السنة وهى وفقاً لمقرر، وإذا ما حضر المرء فى حياته 5000 خطبة فى حياته كلها، سيكون هذا المقرر كفيلاً بجعله كمن يدرس فى الدراسات العليا، ورغم هذا نجد أن المنظومة المحيطة بها خلل. (ولا تأثير يذكر لهذه الخطب)

المحاور: خطبة الجمعة مؤثرة: بعض المفكرين كمصطفى محمود تحدث عن دور خطبة الجمعة فى حياته وأثرها فى أفكاره.

د/طه: هناك حالة تأثير والخطبة قد تمثل شرارة، هذه الشرارة إذا ما التقت مع منظومة متكاملة وصالحة تنتج حالة تفاعل وفعل.

المحاور: تعنى أن عملية إيقاظ وعى الأمة عملية تضامنية وأن للفقيه مجرد دور، فماذا عليه أن يفعل؟

د/طه: سأضرب لك مثلاً،قضية مياه النيل التى ثارت مؤخراً بين مصر ودول المنبع، إذا ما تناولتها أستاذ متخصصة فى العلاقات الدولية، فإنها ستتحدث عن الأمر يتعلق فى المقام الأول بفشل مصر فى بناء علاقاتها الدولية مع دول المنبع وهنا يأتى دور وزارة الخارجية ومؤسسة الرئاسة، فعلى هذه الأجهزة أن تعيد النظر فى هذه العلاقات لتتحاشى مصر الخطر القادم على الأجيال القادمة وزراعتها وصناعتها ومعيشتها، أما الفقيه فلن يتحدث من هذا المنظور، وإنما عليه أن يؤيد الرأى المتخصص، وأن يدعمه وذلك من خلال تقديم الحكم الشرعى المساند لهذا الرأى المتخصص وذلك من منطلق أن شيئاً ضرورياً إذا لم يفعل بطريقة معينة سيشكل تهديداً لحياة الإنسان والنبات والحيوان.

المحاور: ولكن، ألا توجد رؤية موحدة للنهوض الحضارى لدى الفقهاء؟

د/طه: لا توجد مثل هذه الرؤية، لأنهم موظفون، فالفقهاء فى مصر يشكل رؤيتهم شيخ الأزهر، وعندما يتخرجون تتلقفهم وزارة الأوقاف وتضع أمامهم رؤية، ولا يستطيع الخروج عن إطارها.

المحاور: إذا لم تكن هناك رؤية فكرية موحدة لدى الفقهاء، ألا توجد مدرسة فكرية إسلامية حضارية متفقة على أهداف نهضوية.

د/طه: للأسف، أغلب المدارس الإسلامية منخرطة فى الإسلام السياسى لا الثقافى والحضارى والاجتماعى الهادف لإعادة بناء الأمة، والأخوان المسلمون والتيار السياسى بصورة عامة يعتقدون أنه إذا ما تسلموا السلطة ستنصلح كل الأمور، إلا أنهم إذا ما حازوا السلطة سيصبحون أسوأ من النماذج الموجودة فى الحكم. أما الإسلام الثقافى فهو منقسم بين اتجاهات السلفية والصوفية والإصلاحية وغيرها، وكل منها ينفرد برؤية خاصة.

المحاور: هل ترى أن هذا التشتت بين الاتجاهات الفكرية كل على حدى هو الذى سبب التشتت فى طريقة تعاملنا مع الواقع. وما السبيل لتكوين مثل تلك الرؤية؟

د/طه: نعم. لا يوجد بالأساس هم فكرى لتكوين رؤية موحدة للمستقبل، والحل هو أن الأمة كلها عليها أن تستعيد تعاليم القرآن الكريم التى تُجمع عليها، فلا أحد يعمل الآن على استخلاص حلول للمشكلات المعاصرة من القرآن. رغم أن القرآن فيه تبيان لكل شيء، والعلاقة بين الأمة والقرآن علاقة فاترة، ونحن بحاجة إلى إعادة الصلة بينهما، فالذي يعيد للامة فاعليتها هو القرآن الكريم؛ عندما نعرض عليه المشكلة ونقول: هذه امتك أصابها الفتور ونريد ان نحييها بك هل سيعطينا حلول؟ أقول نعم.. سيعطينا بدايات ويعطينا نهايات ومن البدايات الأولى: ادراك قيم القرآن العليا والأساسية وبناء مشروع (رؤية) نهضوي عليها وليس على التراث الاسلامي؛ فالتراث ادى دوره ويبقى رصيد لنا نرجع اليه وننتقي منه، نحن نحتاج ان نعود للتعامل مع القرآن مباشرة وبتدبر مثلاً، هل يسأل أحدنا نفسه لماذا أسهب القرآن فى الحديث عن بنى إسرائيل وبأدق التفاصيل العقلية والنفسية والحياتية، حتى أكثر من الحديث عن المسلمين أنفسهم، أعتقد أن القرآن يقول لنا أن هذه الأمة هى التى سنصترع معها عبر التاريخ إلى يوم القيامة، وأيضاً ألا يمكننا استخلاص مؤشرات لكيفية الانتصار على إسرائيل من القرآن، إن أحداً من علماء السياسة لم يعنى بهذه المؤشرات، فقط كتب الشيخ محمد سيد طنطاوى عن بنى إسرائيل فى القرآن، وقدم عبد الوهاب المسيرى موسوعته عن اليهود واليهودية، وأعتبر أن ما توصل إليه هو ذو جذور قرآنية، والدكتور حامد ربيع انطلق فى كتاباته عن الحروب بين العرب وإسرائيل من التراث، وكتاباته هذه تعد من أفضل ما كتب، أما ما امتازت به منى أبو الفضل عن حامد ربيع أنها اعتمدت على القرآن الكريم وكتبت من خلاله عن مصادر التنظير وكيفية الاعتماد على القرآن فى بناء النظرية السياسية والعلوم السياسية، لكن أحداً لم يبن على ما بدأته أو يقوم بإتمامه، وكذلك الحال مثلاً فى النظم السياسية هل استطعنا أن نقدم بدائل من القرآن للنظم السياسية التي ننتقدها فالقرآن يوجد به نموذج الظاهرة الفرعونية فى الحكم.

إذن تدعون إلى تقديم رؤية نهضوية نابعة من القرآن. فما رأي سيادتكم في تجربة تركيا؟ ألا تبدو هذه الرؤية واضحة في ذلك النموذج؟

أفضل ما عملته تركيا أو مدرسة جول هو خلخة أركان النظام العلماني.. ولم يكن ذلك ممكنا لولا الحفاظ على القرآن في الصدور طيلة فترة العلمانية.

المحاور: ما دور الفقه تحديداً فى الخروج من حالة السكون والفتور في ظل عدم الفاعلية للامة؟

د/طه: الفقهاء أنفسهم هم جزء من هذا الواقع المنقسم الذي نعيشه وننتقده، فقد وضعوا فى دائرة العلماء التراثيين الغارقين فى التراث، وعلماء الاجتماعيات في الجانب الآخر غارقون فى المعاصرة، ولكن لا يوجد علماء القرآن الذين يتعاملون مع القرآن ككتاب هداية واستخلاف وبناء للكون، فالقرآن أُنزل ليكون قائداً فى الاستخلاف، والاستخلاف يشمل السياسة والدولة وكل شيء.

المحاور: نعم يشمل هذا كله ولكن ليس كل الفقهاء يقولون هذا؛ ففي أحيان كثيرة نجد الفقه يأخذ دورا تبريرياً للواقع وتابعا له.

د/طه: نعم هذا يحدث.. ولكن متى صار له هذا الدور التبريري؟ عندما غابت الأمة.. هناك مثال على ذلك في القرآن عندما تحدث عن أهل الكتاب:

(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ * فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ) (البقرة: 78، 79)، ألا ينطبق هذا على علماء السلطان؟ ومثلاً هؤلاء الفقهاء الذين يشغلون المجتمع بقضايا رضاع الكبير والصغير وغيرها من القضايا ألا يعدون من هؤلاء، والله يقول في بنى إسرائيل أنهم (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة: 31)، هذه إشارة إلى ضرورة عدم اتخاذ الفقهاء مرجعاً يشرع، وعندما يكون الأمر هكذا سيكون له اعتبار شيطانى، الأمة هي حامية الشريعة وليس الفقهاء وحدهم.

المحاور: إلى أن يحدث أن تقوم كل فئة من الأمة بواجبها، هل سيظل دور الفقيه يقوم بدوره الطبيعى فى مجرد الاستجابة للمتغيرات دون تجاوز هذا؟

د/طه: دعك من الفقه، انظرى مثلاً إلى المحامين والقضاة، يساهمون فى تغيير القانون؛ فالقانون يستجيب إلى المتغيرات الواقعية الجديدة، وهذه هى مهمة الفقه فى العصر الحالى.

المحاور: ولكن دور الفقيه تاريخياً كان يتجاوز دور الموائمة ومجرد الاستجابة للمستحدثات.

فى الأصل، كل ما تحتاجه الأمة الآن هو الموائمات، فمثلاً: إذا احتاج شخص ما إلى شراء بيت أو سيارة وذهب إلى الفقيه ليسأله عن القرض البنكى سيجد أن الجواب سلبياً دون أن يطرح أمامه الفقيه حلاً بديلاً، إلى أن تحدث ضغوطات من المجتمع والسلطة ويضطر الفقيه إلى تحليل الفوائد البنكية، وقديماً، كانت الأمة تقوم بالإقراض الحسن والإحسان والمنح، أما الآن فالأفراد لا يساعدون بعضهم البعض والمشاعر الإسلامية بينهم غائبة، لذلك يلجأ الأفراد إلى البنوك، وفى النهاية هذه موائمة لا يختارها الفرد، أى أن الواقع الذى يتحرك فيه الفقيه ليس من صنعه وهو لا يفهم مفاهيم الاقتصاد والتضخم والفوائد والربا، فهذه مفاهيم من خارج ثقافته، والموائمة التى يصنعها ليست من اختياره أو إرداته.

المحاور: وفي ظل هذه البيئة الضاغطة ألا يبقى هناك أي دور مقاوم للفقه؟

د/طه: هذا الدور المقاوم قليل وضعيف، وغالباً ما تستغله الجماعات الجاهلة والمتطرفة والمتعصبة، ونحن نعيش حالياً حالة من الافتئات على الأمة، فلم تعد الأمة كمحضن نرجع إليه وإنما صار أى شخص قادر على الصراخ والقول أنه يتحدث باسم الأمة.

المحاور: فى النهاية كيف يمكننا الوصول إلى وضع المقاومة وعدم الاستسلام التام للمتغيرات المفروضة علينا؟

د/طه: علينا العمل على جعل بعض الناس يستغنون عن السلطة ومال السلطة، وأعنى بهؤلاء الرموز من الفقهاء.

المحاور: أى أن هذه المعادلة تتحق عندما يكون للفقهاء استقلالية مادية ومعنوية عن السلطة؟

د/طه: هذا صحيح، وهنا يأتى دور الوقف وتغطيه للعلماء والفقهاء والدارسين والمدارس والأربطة.

المحاور: ولكن الوقف مادى بالأساس، فهل هو كافٍ؟

د/طه: نعم الوقف مادى، ولكنه يؤكد الشعور بالاستغناء والاستقلال عن السلطة والفقيه من خلاله لا يكون مجبراً على الخضوع للسلطة.

***

الحوار الثاني : أ. د. جمال الدين عطية

أ/ منال: اطلعنا فيما سبق على دراسة كتبتموها عن علاقة الفقه بالواقع وعنوانها “كيف نتعامل مع الواقع؟” وهى دراسة رغم مرور فترة زمنية كبيرة عليها، إلا أنها لا زالت حية ولا نشعر بمرور الزمن عليها، نحن هنا نهتم تحديداً بعلاقة الفقه بالواقع فكيف ترون هذه العلاقة؟ وهل ينبغى أن تميل للتواؤم أم للمقاومة؟، بمعنى: هل على الفقه أن يتواءم مع المستحدثات التى يشهدها الواقع أم أن عليه أن يقاوم إذا كان في الواقع ما يتعارض مع المثال أو الرؤية أو النظرية؟

د/ جمال عطية:

أعتقد أن من يقومون على الفقه التقليدى يحاولون أن يفرضوا منطق عصره على واقعنا المعاصر، وهذا ليس صحيحاً، وليس ما ينبغى أن يكون. ولذا أعتقد أن المعركة الحقيقية هى بين حملة الفقه التقليدى، وأقصد بهم هؤلاء الذين لا يقومون بدور أكبر من مجرد حمل الفقه مع أن السى دى يحمل أكثر منهم، وبين أى فكرة تجديدية.

أ/منال: هل ينبغي أن تميل هذه العلاقة للتواؤم أم للمقاومة؟ بمعنى: هل على الفقه أن يتواءم مع المستحدثات التي يشهدها الواقع أم أن عليه أن يقاوم خاصة إذا كان في هذا الواقع ما يتعارض مع الرؤية الإسلامية؟ وينبغى أن نفرق هنا بين واقع طبيعى هو نتاج التطور الطبيعى للأمور أو التغيرات العصرية، وبين واقع ناتج عن أجندة معينة أى أنه واقع مفروض بصورة أو بأخرى، ويمكننا أن نلاحظ حالة الاستقطاب الاجتماعى بين فئة تُغلب المثال والرؤية فتنعزل عن الناس، وفئة أخرى تتصالح مع الواقع تحت مبرر أنه واقع يجب مسايرته فتبتعد عن الرؤية تمامًا. فنريد أن نعرف كيفية تعامل الفقه مع الواقع المفروض خاصة أن الذي يحدث غالبًا هو أن الواقع يتغلغل ويترسخ بين الناس أولاً، ثم يأتى الفقه ليتعامل معه على أنه أمر مستقر.

د/جمال عطية:

نحن نتحدث عن واقع مخطط له من قبل جهات معينة تقوم بالتخطيط والإعداد، وللأسف نحن لا نملك القيام بمثل هذه الأعمال، لأن كل تحركاتنا تبدأ بعد حدوث الواقع وبعد أن ننتبه أنه مخالف لقيمنا وأصول شريعتنا وثوابتها، ثم نبدأ فى التفكير فى كيفية مقاومته وتغييره، وبذلك نصبح متخلفين عن امتلاك مستلزمات المعركة.

أ/منال: إذن كيف يتعامل الفقه مع مثل هذا الواقع، ووجوده دائما فى موقف رد الفعل؟

د/ جمال عطية:

درج الفقه التقليدى أن يكون ملتصقا بالواقع وغير مفارق له، إلا أن بعض الفقهاء كان يضيق ذرعاً بمثل هذا الالتصاق ويود أن يخرج من إساره وأن يبدأ فى التفكير فى المستقبل ويفترض مجموعة من الافتراضات والتنبؤات ليجد لها مجموعة من الحلول وهى بعد لم تحدث، أى كان هناك تفكيراً مستقبلياً، هؤلاء كان يطلق عليهم (الأرأيتيين) من (أ رأيت إذا حدث كذا وكذا…؟)، وكان هذا يعد عيباً فى وقتها، فعلى عكس معنى التخلف عندنا اليوم، كان من يفكر فى المستقبل البعيد الافتراضى هو المتخلف.

أ/ منال: وحالياً؟

د/ جمال عطية:

لا يحدث شيء من هذا، عندما يكون هناك سؤال موجه إلى فقيه، فإنه يجيب بسرد كافة الآراء ويأخذ فى قياس الحالة على ما ورد من اجتهادات فى الكتب.

أ/ منال: ولكن هناك مستحدثات لا يوجد لها حلول فى الكتب!!!

د/ جمال عطية:

هناك مستحدثات جزئية، مثل ما طرأ على العقد والتعاقد، فقديماً كانت هناك مجالس للعقد تطرح فيها الصفقات ويتم التعاقد فيها، وحالياً أدت وسائل الاتصال الحديثة مثل المكالمات التليفونية الى الكثير من التغيرات وهو ما نراه فى البورصة، ولكن مثل هذه المستحدثات هى طبيعية بحكم التطور، ولكن هناك مستحدثات كلية مثل ما طرأ على مفهوم السرقة، فقديماً حدد العلماء مفهوماً معيناً للسرقة وذلك لتطبيق الحد، وكان الحديث دائماً عن شيء مادى محسوس فى مكان ما فإذا لم يكن كذلك ما كان الحد ليطبق، أما الآن فالسرقات اختلفت بما لا ينطبق عليها هذا المفهوم، وهناك سرقات للمياه والكهرباء والدش، والسرقات الأدبية والفكرية، بعض الفقهاء حاول أن يحل هذه الإشكالية بالقول بالفرق بين الحد والتعزير، إلا أن هذا لم يحسم الأمور، وهكذا تأخر الفقه عن اللحاق بالواقع، وذلك على عكس القوانين الوضعية التى تعالج هذه المتغيرات بشكل أسرع.

المهم، أن الواقع دائماً سابق على التشريع، فمثلاً قضية نقل الأعضاء تم الحديث فيها من وجهة النظر الشرعية بعد أن تم نقل المئات من الأعضاء، وكذلك الحديث عن وسائل منع الحمل، فبعد أن تنتشر ويتكون رأى شعبى حولها يبدأ المشرع فى التحرك.

أ/ منال: أليس هذا نوعاً من التراجع إزاء الواقع، فالمشرع يتحرك بعد أن يكون هناك عرف وحكم شعبى يحكم الأمور فيتأثر به بدلاً من أن يكون مبادئاً؟

د/جمال عطية؟

انه يتحرك متأخراً ومتثاقلاً، لم يعتد أن يفكر وإنما يبدأ الناس باثارة المسائل فيبدأ الفقيه فى التفكير اضطراراً وليس اختياراً أو رغبة فى التجديد، وهناك دائماً شعار مرفوع هو أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، كيف هذا مع التأخر الزمنى فى التعامل مع الواقع؟، والمسألة أكبر من مجرد التأخر الزمنى، اذ اننا نجد علماء نعتبرهم جزءاً من حركة التجديد الفقهى، يحضرون مؤتمرات ومجامع فقهية ويقدمون أوراقاً وبحوثاً فيها، ثم لا يُضمِّنون أفكارهم التجديدية فى أبحاثهم أو كتبهم، وكأنهم لا يعترفون بها.

أ. منال: لماذا؟ هل هذا خوف من تضمين الأراء الجديدة ونشرها فيتعرضون إثرها للهجوم من الناس أو العامة؟

د/جمال:

فى الغالب هذا الخوف يكون من الزملاء، فهم يتسائلون دائماً عن مصادر الآراء الجديدة، فالآراء عندهم يجب أن تكون تقليدية ومعتادة ولها مصدر معتمد.

أما الناس فأظن أنهم سيقابلون الآراء التجديدية بالترحاب والتشجيع وهذا ما ينبغي أن نقابل به الأفكار التجديدية.

أ/منال: نأخذ قضية جزئية كمثال لمزيد من التوضيح، هناك قضية مثل الرشوة، أصبحت أمراً واقعاً فى المصالح الحكومية، فلا مصلحة تقضى بدون أن يدفع المواطن للموظف، والفقه يتعامل معها على أساس أنها واقع، أى أنه يتوائم معها ويتراجع ويتنازل فيجيز الأمر بدلاً من أن يستمسك بالثوابت ويبث روح المقاومة بين الناس لهذا السلوك.

د/جمال:

آخر ما توصل إليه الفقه فى هذا الامر أن هناك فرق بين الذى يدفع رشوة ليحصل على حقه، ومن يدفع ليأخذ عدا ذلك، فاعتبر من يدفع لينال حقه غير آثم، ويحمل الوزر من يقبل الرشوة. ومع هذا، هناك أمور لا يحيط بها هذا الاجتهاد، فهناك فارق بين موظف صغير يأخذ رشوة حيث مرتبه لا يكفيه، وموظف آخر قد يكون بدرجة وزير ينهب الآلاف من الأموال والأراضى ليصبح مليارديرًا أو مليونيًرا…

أ/منال: ولكن ألا يعد هذا استسلامًا للواقع؟.

د/جمال:

ولكن اللوم يقع أكثر على الحكومة التى لا تدفع جيداً للموظف الذى يضطر الى اللجوء الى الرشوة، فالتقصير هنا على الحكومة.

أ/منال: أليس للفقه دور أن يشيع ثقافة معينة مقاومة، وأن يقوم بتوجيه الحكومة وتوجيه الناس، أى أن عليه عبئاً فى تكوين رأي عام مقاوم.

د/جمال:

التخلف يبدأ من أن الفقه لا يهتم بالمسائل السياسية، فى القانون نميز بين قانون عام وقانون خاص، القانون الخاص مثل القانون المدنى والتجارى والأحوال الشخصية، اما القانون العام هو الذى تكون الدولة طرفاً فيه، مثل القانون الجنائى والقانون الإدارى والقانون الدستورى والمالية العامة والقانون الدولى، هذه الفروع، الفقه فيها تقلص دوره فأصبح مستسلماً للواقع السياسى الذى تعالجه هذه الفروع، وكذلك نتائج هذا الواقع في جزئيات حياتنا. فإذا تصدى للحكومة من البداية وقام بتوجيهها لن تصل الأمور إلى أن يأخذ الناس الرشوة ولكنه لا يريد أن يتصدى لمثل هذا الدور.

أ/ منال: أى أنه ترك الكليات وانسحب من مجالات السياسة والاقتصاد وأصبح يتعامل أكثر مع الفتاوى، ولكن أما من سبيل لمواجهة هذا؟ كنتم قد تحدثتم فى البداية عن الفقهاء التقليديين والمعاصرين، فهل ترى أن المعاصرين قد يكون من بينهم من يحاول أن يخرج من هذه الدائرة الضيقة للفقه؟

د/جمال:

دعينى أخبرك عن تجربة شخصية عايشتها منذ عشرين أو ثلاثين سنة، حيث أرجعنا هذه المشكلة إلى وجود ثقافتين: ثقافة معاصرة تمثلها العلوم الحديثة، وثقافة تقليدية تمثلها العلوم الشرعية، فمثلاً فى المجال الاقتصادى هناك متخصصون فى علم الاقتصاد ومتخصصون فى البنوك يقومون بإدارة الحياة الاقتصادية بعيدا عن الضوابط الشرعية، وهناك شيخ فقيه صلته بالعلم الحديث منقطعة، فالعقليتان مختلفتان تمامًا ورأينا أن الحل قد يكون فى إيجاد ثقافة واحدة تجمع الفريقين فتخرج لنا اقتصادي متفهم للإسلام وشرعي (فقيه) متفهم للاقتصاد، هذه هي المشكلة كما رأيتها ووصلت إلى أن مناهج التعليم هي التي يجب أن تحل المشكلة فلا ينبغي أن يكون لدينا اتجاهين في التعليم وإنما اتجاه واحد، وليس المقصود أن يكون مضمون الدراسة واحداً، ولكن أن يخرج عقلية واحدة. اذ ينتج عن الانفصام فى الثقافة فى أحسن الأحوال أننا نجد فى المؤتمرات أو المجامع الفقهية أو أى ظروف يجتمع فيها الفقه بالواقع، أن يكون هناك متخصص فى العلوم الحديثة وأن يكون هناك فقيه يتحدثان ولكن فيما يشبه حوار الطرشان، إذ أنهما يتصارعان أو يتفقان ولكنه اتفاق شكلي لا يحل المشكلة.

وأكثر من ذلك، كان هناك اقتراح بإنشاء دبلوم عالى يدرس فيه خريجو الشريعة العلوم الحديثة، ويدرس فيه المتخصصون فى العلوم الحديثة الفقه والشريعة، وهذا يخرج فئة ممن يطلق عليهم في أصول الفقه المجتهد الخاص، فالمجتهد العام هو الذى يفتى فى أى قضية تعرض له، والمجتهد الخاص تخصص في الإفتاء في مسائل بعينها: اقتصادية/تربوية… إلخ. كان هذا تفكيرى، أنه بتشجيع مثل هذه المعاهد العليا يمكن للمتخصص فى العلوم الحديثة والمتخصص فى الشريعة أن يكمل ما ينقصه من العلم الآخر.

أ/ منال: ولكن المتخصص فى الاقتصاد إذا ما درس الشريعة سيقع فى حالة من التشويش؛ فقديماً كان العلم يبدأ بدراسة القرآن والتفسير والحديث والفقه ثم يأتى بعد ذلك العلم المتخصص (اقتصاد / سياسة / طب ..)، أما إذا درس طالب الاقتصاد بعد إنهاء دراسته المتخصصة الشريعة سيجد أن بعض أسس ما درسه من علم (الملكية الاقتصادية أو مشكلة ندرة الموارد) تتناقض مع أصول الشريعة!. أفلا ينبغى أن تكون الشريعة سابقة؟

د/جمال:

هذا ما اكتشفناه بالفعل، فالكتب الشرعية التى تُدرس للمتخصص لا تعطى له جديداً إذ أنها كتب قديمة تقدم له المبادئ ولا تفيده كثيرًا، وهو ما ينتج عنه استمرار الازدواج فى المعرفة، يظهر فى الانفصال بين الاقتصاد والشريعة، وينتج من يتكلم في الاقتصاد جيداً وفي الشريعة أيضًا ولكن دون أن يصل أحدهما بالآخر ودون أن يمتزجا وينتج منهما الشيء الجديد. وهذا ينبه إلى أن ما ينقصنا في المقام الأول هو التأليف؛ أي وجود كتب تجمع المفهومين (الاقتصاد والشريعة) متفاعلين معًا وهذه التي تدرس للطالب المتخصص.

أ/منال: تقصدون وجود نقصان فى المادة العلمية الجامعة؟

د/جمال:

نعم، لا يوجد بحوث بإمكانها سد هذا الفراغ. ولم نصل إلى هذا الرأى إلا بعد أن جربنا الفكرة الأولى المتعلقة بإنشاء مثل هذه المعاهد ولم تنجح.

أ/منال: ربما يكون هذا أحد سبل استعادة الدور التاريخى للفقيه الذى يستشرف المستقبل ويفكر فى الكليات، وهناك نماذج مؤثرة لا نجد لها حالياً مقابلاً كأحمد بن حنبل والعز بن عبد السلام وغيرهما ممن ساهموا فى تكوين الرؤية وتشكيل الوعى.

د/جمال:

هؤلاء كانوا مشايخ يحضر في مجلسهم عدد من العلماء المتخصصين في مجالات المعرفة المختلفة (النحو/ البلاغة/ التجارة…) ومنهم من كان هو نفسه تاجرًا.. فكان ملامسًا لهذه المجالات كافة مع تبحره في المجال الشرعي.

أ/ منال: فكيف نستعيد هذا الدور؟

د/جمال:

هذا هو السؤال الصعب. ويمكننى القول أن فى إسلامية المعرفة منشأ الحل لهذه القضية.

أ/ منال: أى أننا نحاول أن نبذر البذرة التى توحد العقلية والتى تجمع هذين الفرعين من العلوم. ننتقل إلى سؤال آخر يتعلق بحالة الانحسار الحضارى التى نعيشها، إذا ما سلمنا أنها نتاج خلل فى إدراك العقل المسلم الذى هو فاقد الفاعلية بدرجة أو بأخرى، فهل ترى أن الفقه مسؤول عن هذا الخلل؟ وكيف نعالج هذا الخلل فى ظل قواعد مثل “درء المفاسد مقدم على جلب المصالح” والتى قد تفهم وكأنها باعث على السلبية؟

د/جمال:

مثل هذه القاعدة تعالج حالة التعارض بين وجهين، فهي حالة علاجية وليست الحالة الأصلية أو العادية. والمسؤولية عن الانحسار الحضارى ليست مسؤولية الفقه، فهى مسؤولية الإعلام والتعليم وجهات أخرى….، وإذا قامت كل جهة بواجبها سنجد أن شخصية المسلم ستتغير، والفقيه فى رأيى يجب أن يكون مسؤولاً كغيره.

أ/ منال: ولكن، ألا يجب أن يكون له دور فى تشكيل الثقافة؟. خاصة أننا كشعب نقدر الفقهاء، وكلامهم مسموع لدينا وله ثقله.

د/جمال:

المفروض من كل إنسان أن يكون فقيهاً، السياسى يستطيع أن يكون فقيهاً، وكذلك الإعلامى والاقتصادى، وإمام المسجد يجب أن يكون فقيهاً متخصصاً فى أحكام الشريعة، ولا أريد أن نصل لصورة الحكومة الدينية حيث الفقهاء فيها وحدهم هم الحكام والمفكرون، أريد أن يكون كل الناس فقهاء، كل فى مجاله أى يعرف أحكام الشريعة فى مجاله، كان سيدنا عمر بن الخطاب يختبر الناس في الأسواق والذي يجده ليس له علم بأحكام البيع يخرجه من السوق، فلا يكون هناك شخص واحد هو الذى يملك العلم وتكون كلمته وحده هى المسموعة، هذا هو شكل ومبدأ الحكومة الدينية التي يجب أن نرفضها.

أ/ منال: تقصد أن يأخذ الفقهاء شكل من أشكال السلطة، لكن المعهود في مجتمعاتنا أن الفقهاء المسموعى الكلمة والأكثر تأثيراً هم البعيدون عن الحكومة والسلطة!.

د/جمال:

نعم لكن النظم التي انتشر فيها الاتجاه الديني أصبح الفقهاء فيها هم رأس السلطة، كما حدث فى إيران بعد الثورة، فالملالى هم من استلموا السلطة، وهو شكل من أشكال الحكومة الدينية.

أ/منال: ولكن، أليس من الصعب أن يصبح أفراد الأمة كلهم فقهاء؟

د/جمال:

لا أقصد فقهاء بالمعنى التقليدى أو الحرفى، وإنما كل يعرف أحكام الشريعة فى تخصصه، فالسياسى يعرف الشريعة فيما يقوم به، وحالياً مثلاَ نجد أن وضع الجماعات الدينية المشتغلة بالسياسة منتقد، ويقال أن الدين يجب أن يبتعد عن السياسة والسياسة عن الدين، إذ أنها سيئة وستسئ إلى الدين، ولكن هذا ليس علاجاً، وكذلك ليس العلاج أن يكون الفقهاء حكاماً، ولكن يجب أن يحكم الجميع أصول واحدة ساعتها سيكون بينهم تعاون لا تعارض أو تنافي أو فصل.

أ/منال: فى رأيكم، هل هناك رؤية موحدة لدى العلماء المجددين للنهوض الحضاري؟، وما أثر وجودها أو غيابها على طريقة التفاعل مع الواقع؟

د/جمال:

يرى الفقهاء أن التخلف لدى المسلمين أو حتى ما وصل إليه العالم المتقدم من مشاكل هو بسبب الابتعاد عن أوامر الله، وهم بذلك يبسطون المشكلة والحل أيضاً، إلا أن الأمر ليس بهذه البساطة، ولذلك هم لا يملكون رؤية حضارية، وتوجد فقط شعارات من قبيل (الإسلام هو الحل)، ولكن عندما تسأل ما هو الإسلام؟ هذه بداية الدخول فى متاهات، فوجدنا من يتحدث عن طبعات مختلفة من الاسلام: المصرى والسعودى والإيرانى وغير ذلك، مع أن الإسلام واحد، وهناك مغالطة فى الأمور، والمقصود أن هناك طرق عديدة لفهم الإسلام والالتزام به.

أ/منال: الرؤية الحضارية المقصودة هى هدف محدد.

د/جمال:

إن قيام المذاهب الإسلامية هو نتاج للخلاف فى الرأى الذى أدى إلى انقسام الناس إلى مذاهب، هذه التعددية إيجابية وليست سلبية، ومعناها أن هناك حرية أدت إلى التنوع. وبالتالى إذا حاولنا توحيد الفقه فعلينا أن نوحده على الأصول، بما لا يعنى وجود طريقة ديكتاتورية تفرض رأياً معيناً وتلغى غيره من الآراء، لأنه من الطبيعى أن تؤدى حرية الرأى والتعبير إلى تعدد الآراء وهذا شيء إيجابى، لا ينبغي أن نخاف منه، لكن يجب أن تكون أصول واحدة نجتمع عليها، فى ضوء هذه الأصول قد تتعدد الرؤى والاتجاهات.

لذا، أرى أن الخطأ الرئيسى لدى الحركات الإسلامية أنها تريد جعل الحزب الإسلامى واحداً، أنا أرى أن الأفضل أن تعدد الأحزاب التى ينطلق كل منها من الإسلام ويكون لكل منها رؤية وفهم وتطبيق للإسلام فى واقع معين وفى مكان معين وفي زمن معين.

أ/ منال: ولكن مع تعدد الأحزاب يجب أن يكون هناك اتفاق، ففى تجارب تركيا وماليزيا كان هناك اتفاق على النهوض الحضارى ولكن الاختلاف على أسس وأساليب العمل.

د/جمال:

هناك أصول تسمى فى النظم المعاصرة بالدستور. مثلاً هناك العديد من القضايا الرئيسية التى تواجه المجتمع المعاصر، وأحد هذه القضايا هو البحث عن دور الدولة فى الاقتصاد، وللرد على مثل هذا التساؤل هناك ثلاثة اتجاهات، الاتجاه الأول يقول أنه لا دور للدولة فى الاقتصاد وهو اتجاه اقتصاد السوق، وآخر يتحدث عن أن الدولة تقوم بكل شيء وهو الاتجاه الشيوعى، واتجاه يجمع بين الاتجاهين السابقين وهو اتجاه اشتراكى اجتماعى يتحدث عن المزج بين القطاع العام والخاص والاقتصاد الحر والموجه. أى أنه عند طرح هذا السؤال الواحد لابد من توقع ثلاثة اتجاهات للإجابة وإذا كان كل منها يحاول الرد من منطلق إسلامى، تكون الثلاثة أحزاب إسلامية وأنا كمواطن أختار بينها وأستطيع الانضمام إلى أى منها.

أ/منال: هذا مع افتراض وجود أساس واحد تنطلق منه الأحزاب الثلاثة هو الأرضية الشرعية؟

د/ جمال:

نعم. هذا مثال لقضية واحدة، وستجدين العديد من القضايا المشابهة مثل علاقتنا مع المجتمع الدولي. فهل هي علاقة عداء؟ أي عليّ أن أحمل السيف أمام العالم من أجل أن ينتشر الإسلام، (رغم أننا فعلنا هذا من قبل ولم يدخل جميع الناس الإسلام، فقد كان المقصود من حمل السيف هو الإطاحة بالسلطات التى تحول دون وصول رسالة الإسلام إلى الناس، كان هذا هو هدف الغزوات والفتوحات، وبعد ذلك يترك الناس أحرارًا في اعتقادهم)، هل امتداد هذا التفكير يعنى أن نقف بعداء أمام جميع دول العالم؟.

أم على أن أفكر أن الجهاد كتعبير عن علاقتى بالآخر سببه حرية تلقى الدعوة، فإذا كانت وسائل الاتصال تتيح لى الوصول إلى الآخر، وبإمكاننا أن نقيم قنوات فضائية وأن نطلق أقماراً صناعية لنصل إلى جميع العالم بدون سيف، فما الموقف؟

حمل السيف بالطبع يكون فى حالة الدفاع عن النفس وهذا أمر طبيعى وفطرى، وشيء لا خلاف فيه.

امام هذه القضية لدينا رأيان، أحدهما ينطلق من عالمية الإسلام وأن جميع البشر من آدم، وأن رسالة الإسلام هى عمران للبشرية وبالتالى توجب التعاون، وأن هناك أمور جميع البشر يتفقون عليها. وينطلق هذا الرأى من رسالة تعاونية إنسانية للإسلام.

الرأى الآخر هو إجابة متشنجة على السؤال نفسه، يرى أصحابه أن الآخر عدو لنا ويريد أن يدمر ديننا وأن يغزونا ثقافيا. علينا فى البداية أن نخفف من مخاوف هذا الاتجاه وأن نمتص هذا التشنج ونوضح أن الآخر علينا أن نحترمه مع الاحتفاظ بحق الدفاع عن أنفسنا، فعندما يأمرنا الله بـ “أعدوا لهم ما استطعتم من قوة…” “ترهبون” يعنى هذا أن الإعداد ليس بغرض الحرب بالضرورة، وإنما لاتقاء الحرب.

أ/ منال: ترون أن الرؤية الموحدة لدى الفقهاء ليست موجودة، وأن علينا فى البداية أن نختار القضايا الرئيسية وأن نجتمع على المشترك!.

د/ جمال:

لا، القضايا الرئيسية هى أى قضية تستطعين طرحها فى سياق الكلام وينتج عنها إجابتان أو ثلاثة أو أكثر فتتكون شبكة من الآراء تتعدد على أساسها الأحزاب والمذاهب فى الاقتصاد وفى الانفتاح على العالم أو الانكفاء على الذات وفي النظام السياسى وغيره من القضايا، أى تنتج اتجاهات وجدالات ينتج عنها أحزاب يكون لكل حزب منها برنامج يعبر عن الإجابات عن هذه الأسئلة.

أ/منال: هل ترون ضرورة ترك الأمور هكذا؟، أم علينا تكوين رؤية مشتركة بين المتعددين والمختلفين فى اتجاهاتهم؟

د/جمال:

أولاً علينا محاولة تكوين تفكير إيجابى للرد على الأسئلة التى تطرحها القضايا المعاصرة، من خلال إيجاد تفكير معاصر وليس مجرد الرجوع إلى آيات القتال وتفسيرها فى الكتب القديمة، أى أن الفقه المعاصر يكون بالتفكير فى القضية بعقلية معاصرة، لأن مفردات المشاكل المعاصرة لا وجود لها فى الفقه التقليدى، فعند حدوث هذا التجديد فى التفكير وما ينتج عنه من فقه وفهم نبدأ بالبحث عن المشترك، فليس هناك جدوى من البحث عن مشترك بين اتجاهات غير قائمة أصلاً فى الواقع.

أ/ منال: هناك اتجاهات قائمة بين الفقهاء والعلماء: التيارات السلفية والإصلاحية وربما الليبرالية.

د/ جمال:

ما نحن فيه هو شرذمة ناتجة عن حالة التخلف التى نعيشها، وأحد القضايا الكبرى التى أنتجت هذه الاتجاهات قضية الموقف من النصوص، فالاتجاه السلفي، الإصلاحي وغيرهما ليسوا إلا إجابات عن كيفية تفسير النصوص، درجة الاقتراب والابتعاد من النص، كيفية تطبيق النص… إلخ.وكل هذه أسئلة يجب أن تطرح للتفكير من خلال علم أصول الفقه. لكن حتى من يفكرون فى تجديد علم أصول الفقه حاليًا لا يفكرون فيه من منطلق أنه علم منهاجى أنشأه العلماء من أجل الاستعانة به على الفقه، وأن التمسك به وبمفرداته كما هي هو نوع من الجمود على المنهج فالمنهج ذاته يحتاج إلى تجديد.

أ/ منال: أى أنك ترى أن الاتجاهات القائمة ليست إلا تعبيرا عن حالة التشرذم الحضارى التى نعيشها وأنها أحد أعراض هذا الخلل.

د/جمال:

بالضبط هذا أصدق تعبير عنها.

أ/منال: في رأيكم، على من يقع العبء الأكبر فى مسائل النهوض الحضارى وإحياء الأمة وبث روح النهضة وتحقيقها؟.

د/ جمال:

على الجميع.

أ/منال: أى أنها ليست مسؤولية فئة بعينها لا العلماء ولا الفقهاء ولا التربويين ولا السياسيين؟!

د/ جمال:

فكرة تحديد المسؤولية على جهة معينة ستجعل الأمر فقط على المسوؤل فى حين أن النهوض مسؤولية جماعية.

أ/ منال: ولكن هناك طليعة تقود الأمة لتبدأ طريق النهوض.

د/ جمال:

كلمة (تبدأ) نفسها توحى بأننا فى حالة الصفر، هناك مجهودات كبيرة للنهوض، قد تكون ضعيفة أو غير مؤثرة أو ناقصة أو منحرفة بصورة أو بأخرى، ولكن المهم هو تنسيق هذه المجهودات لتأخذ الدافعية اللازمة للعمل.

أ/ منال: ولكن عمل كلٌ فى مجاله سيؤدى إلى عدم توحيد العمل وتشتت الجهود!

د/ جمال:

الوحدة المقصودة هى وحدة منسقة، فأنا لا أوافق على النظام الذى يخطط لكل فرد ولكل عمل ويسيطر على كل شيء. لندع كلا يجتهد فى عمله وينطلق، ثم ننسق الجهود ونتعاون ونخطط، أما العقلية الجماعية المركزية فهى الشيوعية. ويعتقد بعض الإسلاميين أنه إذا قام نظام إسلامى فعليه أن يخطط كل شئ حتى مشجعى كرة القدم.

أعنى، أن وحدة الهدف والتعاون لها صور مختلفة وليس معناها حزب واحد وأمر واحد وقائد واحد. اعتقد أن من يرى غير ذلك عليه أن يراجع منهاجيته فالواقع ليس كذلك.

أ/ منال: أقصد بتوحيد الهدف والرؤية الاتفاق على الأصول ولا أعني الحزب الواحد.

د/ جمال:

نعم، ولذلك أنا أهتم بالأصول والأساسيات، وهذا ما وجدته فى النظرة الكلية أكثر من الفروع، وهذا هو محور مشروع أقوم عليه مع مجموعة من الباحثين في جدة حول القواعد الفقهية الكلية التى تندرج تحتها عدة فروع.

أ/ منال: الاتفاق على الأصول سيعنى أننا قطعنا شوطاً كبيراَ.

د. جمال: بالطبع، بالإضافة إلى شيء آخر هو ضرورة التسلسل المنطقى فى التفكير، ولذا نجد اهتمام حالى أكثر بمسألة مقاصد الشريعة من اتجاهات متعددة مختلفة الأغراض، فالإسلاميون بدأوا فى اكتشاف علم المقاصد، وأعداء الاتجاه الإسلامى بدأوا فى الالتفات إليه. وهناك مثال في الجدال والمعركة حول المادة (2) من الدستور المصرى التى تنص على أن مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع، انحصرت المعركة حول حرفا (ال) هل هو مصدر رئيسى أم المصدر الرئيسى، أما واضعوا المادة أنفسهم فقد قالوا (مبادئ الشريعة) ولم يقولوا (الشريعة)، أى أن المصدرية هنا للمبادئ، والمبادئ فى المصطلح القانونى يقابلها القواعد فى المصطلح الشرعى، والأحكام القانونية يعبر عنها بالقواعد، وعندما يكون هناك اتجاه يجمع هذه القواعد فإنه يسمى مبدأً قانونياً، وهكذا فى الشريعة، فهناك أحكام جزئية وقواعد كلية. وما دون فى الدستور بقى فى هذه الصورة فقد قصد واضعو الدستور الكليات، وقد يكونوا فى هذا مخطئين. فقد يكونوا قد قصدوا الاهتمام بالجزئيات والاتجاه نحو مذهب محدد، وقد يكون قصدهم الابتعاد عن الجزئيات والاتجاه إلى عدم الالتزام بشيء معين، فالمبادئ المقصودة مثل العدالة، هل هناك من دين ينكر العدالة. أى أنهم إذا رموا إلى تمييع القضية فهذا شيء آخر.

ما أقدم له بهذا هو مسألة المقاصد، فهناك معركة دائرة ولكنها غير ظاهرة حول المقاصد. فهناك من ينكر على الإسلام المبادئ ويريد أن يحول الاهتمام كلياً إلى المقاصد، أى الارتفاع عن الكليات إلى المقاصد وهي أعم (حفظ النفس والدين والعقل والنسل والمال) وكلها مبادئ عامة فى كافة الأديان وعبر التاريخ، فمقاصد الشريعة بالنسبة إليهم ملجأ للهروب من المبادئ.

أ/ منال: مشروع جدة، ماذا عنه؟

د/ جمال:

لا أريد أن أحرقه، وهو عموماً عن المبادئ الكلية…. وقد وصلنا حاليا إلى رصد 3200 مبدأ كلها كليات، والجزئيات فى الشريعة قد تصل إلى 2 مليون جزئية، وقد تتصاعد الكليات لتصل إلى 3500 قاعدة كلية.

أ/ منال: هل يمكن الوصول إلى اتفاق فى ظل هذا العدد الهائل من المبادئ؟

د/ جمال:

لقد خططنا للمشروع على هذا الأساس، فالقاعدة لا تزيد عن 5-10 صفحات، ويكون لها صيغة واحدة أو أكثر من صيغة، ونقيم علاقات بين القواعد وبعضها البعض ويتم تصنيفها ثم شرحها ثم إقامة الدليل الشرعى عليها وفى النهاية يكون عليها تطبيقات فيها عنصر معاصر على الأقل.

أ/ منال: هذه القواعد لن تسمح بالشطط فى التفكير أو التطرف بعيدًا عنها، سبق أن قلت أن الاشتراكى والليبرالى قد يجد له أرضية فى الإسلام، فهل تسعى هذه القواعد لتحقيق قدر من التقارب والاتفاق بين هذه الاتجاهات؟

د/ جمال:

لا، ليس هناك اتفاق، أحيانًا تكون هناك قواعد لها قواعد مخالفة نقوم بتوضيحها من خلال الشريعة. ولكننا نحاول تضييق الخناق على الخلاف، والخلاف على القواعد أساسه الخلاف أو التعارض بين الأدلة الشرعية، وهناك قواعد تنظم عملية التوفيق فى حال التعارض. مثال قاعدة “العبرة فى العقود بالمقاصد والمعانى لا بالألفاظ والمبانى” قام عالم شيعى بإعادة تفسيرها بحيث أصبحت “العبرة فى العقود بالمقاصد والمعانى إلى جانب الألفاظ والمبانى”، المهم أنه قد يكون هناك خلاف عليه أدلة شرعية.

أ/ منال: ولكنكم تحدثتم على أن الخلاف يجب أن يكون فى الفروع لا فى الأصول.

د/ جمال:

الأصول نفسها درجات، والأصل الذى لا خلاف عليه هو “لا إله إلا الله، محمد رسول الله” هذه أعلى قاعدة، وقد فرضنا على الباحثين عند صياغة كل قاعدة من القواعد البحث فى المذاهب السنية الأربعة وبقية المذاهب الإسلامية، ليظهر مدى الوفاق والخلاف على هذه القاعدة.

أما المقاصد، فقد اهتممنا بها، وأدخلنا قراءتها فى المشروع بحيث تكون حاكمة على القواعد لأنها أعلى منها درجة، بل أضفنا ما أسماه د. على جمعة المبادئ، بحيث يكون الترتيب (المقاصد – المبادئ الشرعية- القواعد الشرعية) ولكل منها تطبيقات فى كل باب، وأخيرا أضفنا القواعد الأصولية المتعلقة بقواعد أصول الفقه التى تحكم عملية الاجتهاد.

مثلا: حكم شرب الخمر، هذا حكم جزئى، أما تحريم المسكر قاعدة كلية، أما إذا تحدثنا عن حفظ العقل فنحن نرتقى لمستوى المقاصد.

أ/ منال: عودةً إلى تعامل الفقه مع الواقع، تقولون أننا فى موقف رد الفعل، وليس هناك منهج فى التعامل مع الواقع كفقهاء وكعامة، وليس هناك رؤية متسقة. فى ظل هذا كله، كيف نتعامل مع الأمور إلى أن يتم الإصلاح؟.

د/ جمال:

الاهتمام يجب أن يتجه إلى سد الفراغات، كمن يهتم بالكتابة فى القيم السياسية فى الإسلام، أو القيم الإسلامية الاقتصادية وغيرها، ومثل هذه المباحث تسد الفراغ بحيث يصبح التركيب بعد ذلك سهل.. وشبكة العلاقات أسهل والكليات أوضح.

أ/ منال: إلى أن يتم هذا سنظل أسرى للجزئيات والمسلم يلجأ للفقيه التقليدى الذى يجيب إجابة جزئية من الكتب؟

د/ جمال:

نعم…

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر