لم تكن الشريعة الإسلامية في أصولها العامة التي تنبثق عنها أحكامها المنبسطة على جميع شئون الحياة ومناحيها، لتستقي من حوادث محلية طرأت، أو ظروف أنية ووقتية حاقت بمجتمع ما في زمان معين، حتى تكون صدى لتلك الظروف، أو إنعكاسًا لتلك الأحداث، تتبدل بتبدلها، فتنهار أسسها الأولى لتحل أصول أخرى تقضي على البنيان التشريعي كله في أسسه وغاياته، أو بعبارة أخرى ليست أثرًا لأهواء الإنسانية بما يحرك تلك الإرادة والأهواء والرغبات من دوافع النفس أو انفعالاتها وغاية الشريعة من ناحية أخرى، لم تتمخض عن صراع بين مصلحة الفرد والمجتمع، حتى تحدد على ضوء افتئات أحدهما على الآخر(1).
والشريعة الإسلامية سماوية الأصول، تتصل بالفطرة الإنسانية التي فطر الناس عليها، وهي ما أنزلت إلا لتخرج عموم البشر عن دواعي أهوائهم، وتحد من شطط نزعاتهم، وهي – أي الشريعة – إذا أرست أصولها على مقتضى سنن الفطرة الثابتة في الكون (الجوهر الحقيقي المشترك بين بني الإنسان)، وأجرت ذلك بحيث يسود مع تطبيقها بالتي هي أحسن مقتضيات العدل الجامع، والاختيار الحر النافع، ومساواة مؤكدة تتمثل في وحدة الخلق، ولا تنفي تفاوتًا تفرضه طبيعة النفوس وملكاتها وتقسيم العمل وتنوع الوظائف وتعدد الأدوار، في سياق القاعدة التي تؤكد “أن كل ميسر لما خلُق له”، والشريعة تدور مع العدل أينما دار، ومع المصلحة المؤكدة المعتبرة أينما وجُدت وحُققت، فأينما كان العدل فثم وجه الشريعة، وإذا تأسست الشريعة على قواعد من كل ذلك، فإنها لا سيما إبان ممارسة الإنسان لما منحه الشارع من حقوق – لا تغفل ما يستدعيه سير الحياة بالناس وتطورها من أحكام لهذه الأوضاع المتجددة أبدًا، وما تتطلبه الحاجات الطارئة من وفاء تشريعي، لأن في وسع تلك الأصول الثابتة والقواعد المقررة ما يفي بذلك ما تغير الزمان وما امتد المكان، وما تبدل الإنسان، فهي شريعة ثابتة في أصولها متطورة في فروعها.
ومعنى هذا أن الشريعة ترتبط بما يمكن تسميته بـ “حق الاجتهاد التشريعي”، وهو أي هذا الحق وممارسته مستمرة أبدًا، إذ لولاه لفُقد العدل، ما يُعرفبه نظمًا، وما به يتحقق عملاً، لا طراد تغاير الظروف، التي يمدها التشريع الإسلامي من معين لا ينضب، بالأدلة والأحكام العملية بحكم مبادئه العامة ومقاصده الأساسية، وبحكم اعتماده “فقه المصالح” مصدرًا للتشريع وأساسًا لأحكامه العملية الاجتهادية، ولو لم يرؤد بخصوصها نصوص خاصة، شريطة ألا تخرج عن نطاق التشريع روحًا ومقصدًا، وبذلك كان هذا التشريع كفيلاً بالاستجابة لكل ما تتطلبه مصالح الأمة والدولة، مهما تحاورتها الظروف، ولابستها الأحوال من تشريع ونظام وتدبير، وذلك آية خلوده، وبذلك كان التشريع الاجتهادي، ضرورة حيوية وعقلية، فضلاً عن كونه ضرورة دينية أو أصلاً عتيدًا من أصول التشريع، لتوقف تبين العدل والمصلحة عليه، فضلاً عما يقتضيه ذلك من صدق قضية كماله وخلوده، وصلاحيته للزمان والمكان وعموم الإنسان، ومن أهم المصالح تلك التي ترتبط بحقوق الإنسان والتزاماته قبل نفسه أو غيره بما يرتبط بهم من علائق اجتماعية وثقافية وفكرية واقتصادية وسياسية، ومن المعلوم أن “المصالح” مصدر من مصادر التشريع الإسلامي، تبني عليها الأحكام الكفيلة بتحقيقها أيًا كان نوعها وطبيعتها، اجتماعية أم اقتصادية أم سياسية أم ثقافية، فضلاً عن المصالح الخلفية والدينية، والحقوق تشكل مجالاً لإعمال المصالح وحفظها في حق انفس والغير، والعدل الوسط غايتها بما يحفظ لها توازنها وتفاعلها وبما يمنع من تناقضها وتصارعها ونفيها بعضها بعضًا(2). فالشريعة على مايؤكد ابن القيم حكمة كلها،عدل كلها،رحمة كلها،مصلحة كلها.
الرؤي الغربية وحقوق الإنسان في الرؤية الإسلامية:
يصدر الدكتور حامد ربيع (رحمه الله) في بحث غير منشور له حول “الخبرة الإسلامية ونظرية حقوق الإنسان ودلالاتها المنهجية”، نقد التوجه حيال المفاهيم الغربية وتبنيها وتقليدها من دون دليل أو برهان، ومن دون تبين عناصرها ومقتضياتها ونقدها نقدًا علميًا ومنهجيًا “.. فكل من أرّخ للتراث الإنساني لم يكن إلا غربيًا، وانطلق من المفاهيم الغربية، والإنسانية المتقدمة فقط هي تلك النابعة من الحضارة الأوروبية، والتقدم السياسي هو أسلوب الحياة الديمقراطية في نموذجه الغربي، لا يتجزأ أي منهما عن الآخر، مجموعة من المفاهيم المشوهة أن لنا أن نعيد النظر في جوهرها، لا بمعنى أنها غير صادقة- ولكن على الأقل بمعنى أنها غير مطلقة، هذه المفاهيم المختلفة كان لابد وأن تفرض إطارًا معينًا في فهم التاريخ السياسي والخبرة الإنسانية، حيث التقاليد العلمية تعودت أن تنطلق في فهم أي خبرة سياسية من الإطار الفكري المجرد الذي رسبته لنا المفاهيم الغربية..”(3) هذا الذي يؤكد عليه الأستاذ الدكتور حامد ربيع يثير ثلاثة قضايا منهجية يحسن الإشارة إليها:
الأولى: قضية المفاهيم والتي تثير استخدام أو عدم استخدام المفاهيم والمصلحات الشائعة في العصر الراهن، ومنها لا شك مصطلح هذه الدراسة الذي يدور حول “حقوق الإنسان”(4).
الثانية: إذا اعتبرنا أن ما يتعلق بالإنسان من حقوق والتزامات ظاهرة، عرفتها كل التكوينات الحضارية على مر التاريخ فهل يمكننا اعتبار مفهوم “حقوق الإنسان” وخبرته غريبة فحسب، وهل صك المصطلح في الغرب، يستبعد المنظورات الأخرى للخبرات الحضارية المختلفة. ومن هنا كان تساؤل ريموندو باينكار مشروعًا حول “هل فكرة حقوق الإنسان من المفاهيم الغربية؟..”(5).
قضايا ثلاث مهمة تتساند وتتفاعل عند الإجابة عليها.
إن ما يؤكده بانيكار من صعوبة ذلك عند التصدي لمعالجة هذا الموضوع وما يرتبط به من قضايا أمر مقرر، ذلك أن حقوق الإنسان ليست من القضايا الأكاديمية والعلمية البحتة، بحيث يمكن يتها بعيدًا عن واقعها وسياقها، فهي تُداس بالأقدام في الشرق والغرب والشمال والجنوب على السواء، وإذا كان من المسلم به أن هذا العدوان العالمي على حقوق الإنسان يرجع إلى ما فطر عليه الإنسان وما رُكب فيه من نوازع تستهدف إلى حصيل المصالح والقوة إلى الحد الذي يجعل المصلحة أنانية واستئثارًا، والقوة بغيًا واستكبارًا، ناهيك عن أن هذه الحقوق بوضعها الراهن وعلى ما اكتسبته من رواج وانتشار لا تزال لا تمثل رمزًا عالميًا يبلغ من القوة بحيث يحمل الناس على فهمه والاتفاق عليه، وأن حقوق الإنسان ظاهرة وفكرة ومفهوم لابد أن تكون محلاً ومجالاً للحوار والاتصال بين الثقافات المختلفة، وبما يؤكد أن تلقيح الأفكار أمرًا ضروريًا.
ولكن شروط الحوار لا تتوافر أحيانًا لأن هناك شروطًا ضمنية لا تتوافر في معظم المشتركين فيه، ومن الأمور التي يسهل تلمسها أن الصياغة الحالية لحقوق الإنسان هي ثمرة حوار جزئي للغاية بين الثقافات العالمية. إن التساؤل السابق يدلنا على ضرورة البحث في مختلف الثقافات بغية الوصول إلى مفهوم شامل لحقوق الإنسان ومن الخطأ في منهج البحث أن نبدأ بهذا السؤال: هل توجد فكرة حقوق الإنسان في ثقافات أخرى، إذا أن هذه الفكرة لأزمة لزومًا مطلقًا لضمان كرامة الإنسان، يجب أن نبحث عن الظاهرة لا في الكلمات، بعبارة أخرى يجب أن نبحث في المقابل المشابه وهو في هذه الحالة حقوق الإنسان، ولا يقصد بالتشابه هنا المطابقة من كل الوجوه وإنما يقصد التشابه الوظيفي(6).
ولذا فنحن لا نهدف إلى ترجمة حقوق الإنسان إلى اللغات الثقافية الأخرى فقط، ولا نبحث عن مجرد أوجه الشبه بل نحاول أن نجد المقابل المشابه، فإذا رأينا – مثلاً- أن حقوق الإنسان هي أساس احترام كرامة الإنسان في إحدى الثقافات، وجب أن نبحث كيف تقوم ثقافة أخرى بهذه الوظيفة، وهذا لا يتحقق إلا إذا وجدت أرضية مشتركة بين الثقافتين، أو يجب أن نس|أل كيف تصاغ فكرة إيجاد نظام اجتماعي عادل في إحدى الثقافات، ونبحث هل مفهوم حقوق الإنسان وسيلة مناسبة للتعبير عن هذا النظام؟
ومن خلال هذا النهج ستظل مركزية المفهوم الغربي لحقوق الإنسان من جهة، وكذلك المعايير الظاهرة والكامنة فيه من جهة أخرى، وفي كل الأحوال سنجد مجموعة من الاتجاهات تتحيز حينما تدرس حقوق الإنسان في الظاهرة والرؤية الإسلامية، تتمثل هذه الاتجاهات المتحيزة في أربعة رؤى:
الأولى: تنفي وبشكل قاطع وجود أية رؤية لحقوق الإنسان في الإسلام، فهي أي تلك الرؤية تؤكد أن مفهوم حقوق الإنسان بنشأته التي ترتبط بحضارة الغرب ومع استحداث هذا المفهوم حقوق الإنسان كترجمة لـ”Human Rights”، تجعل كل الخبرات والثقافات والحضارات والأطر المرجعية والفكرية السابقة عليها لا تعرف هذا، وإذا عرفته فإن ذلك ليس إلا مجرد مأثورات شعبية (فولكلور) لا يمكن اعتبارها أو تعميمها، و؟أن المفهوم الغربي وخبرته هي الجديرة بالتعميم وإرساء قواعد عالميتها.
وهذه الرؤية تقوم على أساس من منهجية شكلية تعول على ورود لفظة “حقوق الإنسان” في المصادر والكتب الإسلامية، ولا تبحث عن جوهر الظاهرة كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وهذه الرؤية في مجملها إذ تبحث عن مجرد الورود اللفظي فإنها تبحث على نحو خاطئ، بل إنها لا تبحث في المصادر التي يجب البحث فيها عن هذه القضية وما يرتبط بها من أفكار، بل إن تسكين حقوق الإنسان والحقوق الفردية والمدنية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والاتصالية والحقوق الجمعية والجماعية ضمن دائرة علوم السياسة، والبحث من ثم في الكتب المشتهر عنها أنها تقع في دائرة السياسة من كتب التراث السياسي الإسلامي خاصة، وكتب التراث الإسلامي عامة جعل من الصعب على البعض إدراك حقيقة الرؤية الإسلامية لحقوق الإنسان(7).
الرؤية الثانية: التي تمثل الاتجاه الثاني تستقي رأيًا بعدم وجود حقوق للإنسان، وذلك من خلال البحث المتحيز في الخبرة التاريخية الإسلامية، فهي تدرس في كتابات عن حقب غلب عليها الانحطاط والتدهور السياسي والاجتماعي، ويضرب المثل بانتهاك كل حق للإنسان بكونه إنسانًا، مثل الحجاج بن يوسف الثقفي وما شابه هذه الفترة من تعسف واستبداد، ينتهك الحقوق انتهاكًا واضحًا، ووجه التحيز في هذا الاتجاه، إنه يبحث عن حقوق الإنسان في دائرة ظواحدة من المصادر وهي كتب التاريخ، وهو يركز على مظهر واحد من البحث عن جوهر ظاهرة حقوق الإنسان وهو الممارسات التاريخية، والواقع أن الدراسة المتكاملة لحقوق الإنسان يجب أن تمتد إلى الفكر والنظم والرموز فضلاً عن الممارسة والحركة.
ولم يكن ذلك مكمن التحيز في هذا الاتجاه فحسب، بل إن هذا الاتجاه نحو دراسة الخبرة التاريخية الإسلامية قد انتقى انتقاءًا معيبًا من الناحية المنهجية، وانتقل من هذا الانتقاء الجزئي المتحيز والمتعمد لرأي مسبق هنا أو هناك، بالنظر سلبيًا إلى كل ما ينتج من هذه الخبرة من فكر أو نظم أو ممارسة.
ويبدو لنا هذا الاتجاه معيبًا من الناحية المنهجية، إذ عليه أن يدرس هذه الرؤية في كل امتداداتها الفكرية والنظمية والحركية، غير مقتصر على الخبرة التاريخية وعدم الاقتصار على أجزاء من هذه الخبرة انتصارًا لرؤية أو وجهة نظر مسبقة.
ويمكننا من خلال فكرة النماذج التاريخية كفكرة منهجية أن ندرس مجموعة النماذج التاريخية السلبية والإيجابية، في محاولة للتعرف على مكامن القصور في النماذج السلبية، وعناصر البناء والتأصيل في النماذج الإيجابية. بل يمكننا دراسة النموذج التاريخي الواحد باعتباره يمثل نموذجًا إيجابيًا – سلبيًا في وقت واحد بما يمكن من الدراسة المنهجية، فضلاً عن دراسة كل ذلك في تفاعله مع عالم الأفكار والنظم وبما يحقق عناصر الرؤية الكلية الشاملة التي لا تسمح بالتجزيئ المعيب(8).
أما الرؤية الثالثة فهي تمثل الاتجاه الذي يرى في وجود رؤية لحقوق الإنسان في الإسلام إلا أنها قاصرة وغير كاملة، ولا شك أن هذا التوجه يرتبط بالاتجاه السابق وإن كان أقل منه حدة، إلا أنه على هذا التوجه من الناحية المنهجية أن نوضح مكامن القصور وعدم الاكتمال ورد ذلك إلى منطقته، فهل القصور في التنظيم أم في الممارسة؟، وهل ذلك على مستوى التأصيل والتنظير أم لا؟ فمن الناحية المنهجية يجب ألا تُحال أخطاء الممارسة في تاريخ المسلمين السياسي وخبراتهم المتعددة إلى رؤية الإسلام ذاتها المبثوثة في نصوص الوحي (القرآن والسنة الصحيحة)؟، وأن أي ممارسة لا تتفق مع هذه القواعد المقررة والمؤصلة في الرؤية الإسلامية، يجب أن تُسمى إنحرافًا بلا مواربة، وأي ممارسات تتفق معه فهي كذلك من صميم الرؤية الإسلامية تتفق وأصولها ومقاصدها. ومن هنا يجب التمييز بين المستويين بحيث يضمن للرؤية الأصيلة مقامها في أن تقوم الممارسات المتعددة والمتنوعة على أساس من معايير واضحة ومنضبطة، فمن الأمور المقررة ألا تضيع الفكرة في سبيل شخص أو ممارسة ما، وإن إدانة شخص مخطئ أو ممارسة منحرفة هو مما يسند الفكرة ويؤصلها ويؤكد صلاحيتها وأصالتها(9).
أما الرؤية الرابعة فإنها تمثل الاتجاه الذي لا يرى جديدًا في حقوق الإنسان في الرؤية الإسلامية سوى البحث عما يتفق مع الرؤي الغربية، ولا بأس في هذا المقام أن تدبج هذه الرؤية لإقرار تلك الحقوق الغربية بحذافيرها ورؤاها بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ويوضع ذلك جميعه تحت ذات العناوين المشتهرة في حقوق الإنسان.
وواقع الأمر أن هذه الرؤية على ما تتميز به من حسن المقصد في إثبات أن الرؤية الإسلامية لا تختلف عن الرؤية الغربية بل هي تؤكدها، إلا أنها لا تحاول أن ترى ذلك ضمن رؤية نظرية رؤية فلسفية متميزة، ولكن غاية أمرها أن تؤكد على مناطق التشابه بين الرؤيتين الغربية والإسلامية، لا تبحث في مناطق الفروق وذلك في إطار رؤية منهاجية مقارنة تسمح بإثبات العام المشترك في المفهوم، والخاص المتميز، ومن هنا يجب رؤية الحقوق في سياق مفهومها العام، والمصادر التي تستمد منها، والفلسفة التي تكمن خلفها وتشكل مبادئ تنطلق منها وتعود إليها في ضوء رؤية كلية شاملة تسمح بالتحفظ على بعض الحقوق التي تتعارض مع جوهر الرؤية الإسلامية، والتي تنبع من إطار ونسق للقيم الغربية تسمح ببعض هذه الحقوق وتقرها وتجعلها شرعية في سياق الحرية كقيمة عليا لهذه الحضارة، وبما ينتهك من حقوق أساسية أخرى من مثل مشروعية (حقوق الشواذ والإجهاض..)، فإنه على الرغم من القيم التي أضفاها الغرب على حقوق الإنسان وتوثيقها في مواثيق عالمية، إلا أنه تظل هناك مساحة مهمة للاختلاف والتميز يجب الإبقاء عليها بما يحقق النظم والأداب والحدود العامة التي ترتبط بالنماط المجتمعية المختلفة، وما تفرزه من قوانين وقيم أساسية وأعراف تحكمها، تمثل عناصر إتفاق عام من الخطر انتهاكها باسم عالمية حقوق الإنسان، ولا شك أن هذه الرؤية الواضحة والمميزة تسمح بفرز هؤلاء الذين يعللون عدم انضوائهم في حقوق الإنسان ومواثيقها إلى اختلافها مع منظومة القيم الأساسية في تلك المجتمعات، وهي تفعل ذلك لا بغرض المحافظة على القيم الأساسية كما تدعي، بل تسوغ بذلك ممارسات استبدادية وانتهاكها للحقوق الأساسية للإنسان، والتمييز بين المستويين أمر يسد الباب على هؤلاء الذين يتعللون بذلك (بعض الدول العربية والمسلمة)(10).
يتضح من هذه التوجهات جميعًا أنه يشوبها قدر من النقائص المنهجية لأنها إما تبحث في المصادر الخاطئة لتؤسس حقوق الإنسان في الرؤية الإسلامية، أو تنفي وتجزأ من غير معيار واضح، أو تحاول إقحام رؤية في رؤية أخرى من غير تدقيق قد يؤدي إلى جملة من الأخطاء في بناء الرؤية، أو صناعة التوجه حيالها.
وواقع الأمر أن القاعدة المقررة في هذا المقام تؤكد أن كل قضية أو ظاهرة في جوهرها تفتقر إلى نسق مهم من المعلومات توضح وتبين عناصر هذه الظاهرة تسهم في الوصف والرصد، كما تشير إلى المفهوم الذي يتكافأ أو يتلاءم مع هذه الظاهرة فيعتبره هو الآخر معلومة لها أهميتها في البنية المعرفية العامة، والمعلومة تفرض مصدرها، والمصدر يفرض منهجه، والمنهج يفرض أبجدياته، وأبجدياته تشير إلى فلسفة عامة يجب أن يستند إليها وينبثق عنها، بحيث يشكل كل ذلك نسق معرفي متكامل واضح المعالم متفاعل العنصر يكون رؤية كلية لاتنزلق إلى التجزؤ، أو التقليد، أو الانتقاء غير المنهجي، تؤكد على جوانب العموم كما تشير إلى جوانب التميز والخصوصية.
وعلينا ونحن نقوم بدراسة حقوق الإنسان في الرؤية الإسلامية أن نترجم هذه العناصر المنهجية إلى توجه نراه أدق وأعنق في النظر إلى هذه الرؤية على نحو يوثق عناصر هذه الرؤية ويجمع بين أجزائها في نسق كلي تنسجم مفرداته وأسسه وغاياته نحاول دراسة تميز هذه الرؤية من خلال مصادرها وكذلك في سياق فلسفتها.
الرؤية الفلسفية لحقوق الإنسان في الإسلام: الاستخلاف في الأرض وكرامة الإنسان: قاعدة للرؤية الإسلامية لحقوق الإنسان: من الأمور المقررة أن الرؤية العقيدية التي تتبنى تصورًا معينًا للإنسان والكون والحياة، فضلاً عن تصورها للألوهية، والعلاقات فيما بينها، يتأسس عليها نظرة معينة لحقوق الإنسان(11).
فمفهوم الإنسان لغة يرتبط بالاجتماع بالفعل أنس، وبما يؤكد أن الإنسان مدني واجتماعي بطبعه.
ولا شك أن خلق الإنسان واستخلافه في الأرض أصل عقيدي يقرر كرامته، واستخلف الله الإنسان في أرضه وهو عليم بطاقته وقدراته النفسية والعقلية والعملية التي خلقها، وارتبط الإنسان بحمل الأمانة، إلا أنه سبحانه أمده بالهداية وكذلك بعناصر التسخير التي تعينه للقيام بالأمانة المنوط بها، وأمده بالعقل الذي هو مناط التكليف.
وعقد الاستخلاف يقوم على أساس مراعاة حق النفس وحق الغير بحيث لا يفتئت أحدهما على الآخر، وإذا كان الإنسان مستخلفًا في هذه الأرض فعليه أن يتذكر المالك الأصيل، وهكذا جاء الإنسان إلى هذا الكون مستخلفًا فيه (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)(12) بهدف العمارة وحفظ الحياة.
(ومن ثم فإن النسق المعرفي التوحيدي) نظرة توحيدية متميزة لظاهرة الحقوق المتعلقة بالإنسان.
وفي هذا السياق لابد أن نرى تأثير هذه النظرة العقدية في الرؤية الإسلامية لحقوق الإنسان وواجباته التي تتلازم، بغرض تحقيق المقاصد العامة والكلية وتحقيق عمارة الأرض بما يؤكد مراعاة حق الغير وحق النفس، وحقوق الجماعة وبما يؤكد عناصر تكافل تحقق عناصر منظومة حقوق إنسان تجعل من التوحيد مركزها الذي يحرك الإنسان في رعاية حقوقه ومراعاة حقوق عيره في إطار حضارته وعلى امتداد الإنسانية بأسرها.
الله هو مصدر تقرير الحقوق والواجبات: من أهم القواعد الأساسية التي لا يمكن النظر إلى حقوق الإنسان في الرؤية الإسلامية بمعزل عنها وبتأسيسها عليها، أن تقرير الحقوق والواجبات في الإسلام مصدره الله عز وجل (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)(13)، (اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ)(14) وجعل ميزان الحق والواجب منصوبًا من قبل العدالة الإلهية يعطي تقرير الحق والواجب عمقًا عقيديًا، بحيث يكالب المرء بحقه في إصرار وثبات ويجاهد لأجله، لأنه من أمر الله الذي لا ينبغي أن يفرط فيه وإلا كان من ظالمي أنفسهم.
وارتباط ذلك بالتوحيد أمر مقرر لا مراء فيه، فالذي يؤمن بالله وحده يفرده بالكبرياء والاستعلاء، فهو سبحانه وحده ليس كمثله شيء، ولم يكن له كفوا أحد، والناس بعد ذلك كلهم أشباه وأنداد، كلهم مخلوقات وكلهم عباد، والتزام الإنسان بالشرعة يتحقق حين يحفظ إيمانه وعزته وكرامته في حق ذاته وحق غيره، ويحفظ مساواة البشر بعضهم من بعض، ويتحقق للحرية والمساواة كما تفترضهما حقيقة التوحيد أعماقًا أكبر وأرسخ وحفاظًا أكبر حين ترتبطان بالعقيدة، ويصبح الحرص على ممارستهما والنضال لأجلهما تلبية لأمر الله، فالإيمان بالله (عقيدة التوحيد) خير ضمان لحقوق الإنسان من ناحية تقريرًا وتوثيقها، ومن ناحية إنفاذها وتدعيمها والنضال لأجلها.
وتقرير الحقوق من قبل الله ليس معناه تخدير المشاعر وتبرير الاستسلام والخضوع والتواكل، بل إنه يرفع مرتبة حقوق الإنسان إذ يجعلها مستمدة من العقيدة، ويجعل الإيمان حارسًا عليها دافعًا إلى الحفاظ عليها والنضال لأجلها.
كما أن تقرير لحقوق بميزان الله تعالى لا يحيد ولا يظلم عرقًا ولافئة ولا طبقة ولا حزبًا، إنه ميزان يستقل بعدله عن رؤى البشر، وتنازع أهوائهم، وتناقض مصالحهم ورؤاهم، فاختلاف الألسنة والألوان من آيات الله في البشر لا مبرر إستعلاء وعصبية”، (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ)(15)، ومن هنا فإنه يضرب كل معاني التفرقة بسبب الخلق والثقافة، وهو يرفض كل أنواع العنصرية أيًا كانت مداخلها و أسبابها فإن الألوان لا مدخل لها في القيمة، ومن ثم هو ضد كل شعارات الاستعباد أو الاستعمار “عبء الرجل الأبيض” وما في حكمها(16).
كما يقرر القرآن القاعدة التي تقرر حرية الاقتناع والاعتقاد وما يترتب عليه من أمور (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)(17)، ولا يعارض الإسلام “وجود” الديانات الأخرى وإنما يدفع “العدوان” من جانب الديانات المخالفة (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (60/8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(18).
ولا مجال في دين الإسلام لأن تتسلط على الناس كهانة بعد أن استبعد استعلاء العرق والطبقة والحزب والسلطة، فلا يعرف الإسلام “رجال دين” تحوطهم القداسة والعصمة والأسرار، ويزعمون لأنفسهم صلة بالله غير سائر البشر أو سلطانًا على آياته وأحكامه إلا بمنهج ووفق شروط..، فارتباط الحق بالشارع (الله سبحانه وتعالى) في الإسلام لا يكون منفدًا لاستبداد سلطة ثيوقراطية، فليس في الإسلام “كهنوت” يملك أن يحل ويحرّم، وإنما الذي يحل ويحرم هو الله الذي ر يحابي ولا يتحامل، وارتباط الحق بالشارع يزيد من ضمانه وتوثيقه وتأكيده، فهو مقرر من قبل الله وحمايته واجب المؤمني فردًا وجماعة ودولة، وتفريط أي منهم في كفالة الحق الذي قرره الشارع وحراسته والدفاع عنه، يمس حقيقة الإيمان وأصل الاعتقاد. وأوامر الله تقريرًا للمعروف والمنكر، وتحقيقًا لصالح الفرد والجماعة وليس تحكمًا أو تعسفًا. وإذا تقرر هذه القاعدة (الله مصدر الحقوق والواجبات) على أساس من العقيدة التي نجد جوهرها في التوحيد، فإنها لا تزال تذكر الناس ألا يقنعوا بالتزام الحق بل لا بد من مجاوزة ذلك الحد إلى مراتب أعلى في الفضل والإحسان والإيثار. كذلك فإنه من المحال بالنسبة لعدالة الله وحكمته أن تتقرر حقوق الإنسان وحرياته الأساسية والمساواة بين البشر أجمعين دون أن يقترن ذلك بتقرير الواجبات فإن تلازم الحقوق والواجبات أمر مقرر يحفظ الفرد تجاه غيره، كما يجعله يستشعر مسئوليته تجاه الجماعة ككل(19).
فكل حق يتبعه ثلاثة واجبات، واجب معرفته، وواجب ممارسته والقيام به، وواجب حمايته والدفاع عنه، وبما يحفظ للحقوق كيانها واستمرارها ويوثقها ليس فقط في النظر بل في الممارسة والحركة. ويكمل تلك الواجبات المرتبطة بالحق واجب أساسي رابع يعني بمراعاة الحقوق في حق الغير وفق الأصول المرعية وبما تفرضه هذه الحقوق.
هذا كل ما تتركه هذه القاعدة الأساسية التي تتأسس عليها الحقوق والواجبات ويعطي لها إمكانات الفاعلية توثيقًا وإقرارًا وعدلاً وتوازنًا ومقصدًا وممارسة وحماية.
مفهوم الحق وطبيعته في الرؤية الإسلامية لحقوق الإنسان: حتى يمكننا تحديد معاني “الحق” فربما يجب علينا أن نعود إلى أكثر من مصدر، أولها كلمة الحق واستخدامها في المصادر الإسلامية ممثلة في القرآن والسنة، وكذلك معاني الكلمة في معاجم اللغة ومايشير إليه ذلك في تحديد معاني “الحق” المختلفة ومدى ترابطها، وكذلك البحث في مصادر الفقه الإسلامي، التي أشارت إلى معاني الحقوق المختلفة بشكل أو بآخر، وكذلك مصادر أصول الفقه التي عنيت بتقسيم الحقوق وتصنيفها.
ويبين تلازم الحق والواجب في معاجم اللغة أن المعنيين يُعبر عنها بالحق، فحق له أي اختص به، وحق عليه أي وجب عليه لمصلحة الغير(20).
وإذا كان الفقهاء لم يعنوا بتعريف الحق بمعناه العام في الشرع، فقد كان ذلك اعتمادًا منهم على المعنى اللغوي لكلمة الحق، ولعلهم رأوا أنه لا يحتاج إلى تعريف لوضوحه. إلا أن معظم الكتابات قد التقت حول الاختصاص الذي يعتبر جوهر كل حق، وهو عبارة عن علاقة أو رابطة بين شخصين وشيء أو بين شخص وشخص تمنح صاحبها اختصاصًا على موضوعها.
وقد عنى الأصوليون بتقسيم الحق في “باب المحكوم فيه”، وهو فعل المكلف، وقد قسموه إلى قسمين رئيسين: حق الله وهو “ما يتعلق به النفع العام للجميع فلا يختصر به واحد دون واحد،وإضافته إلى الله تعالى لعظم خطره وشمول نفعه، وحق العبد وهو ما يتعلق به مصلحة خاصة، وبذلك يكون الإصلاحان الأصوليان تعبيرًا عن حق الجماعة وحق الفرد، وما هو حق لأحد الطرفين هو واجب على الآخر، ويكون تقرير حق الله وحق العبد هو تقرير لحقوق الفرد وحقوق الجماعة أو تقرير للحقوق والواجبات يقول الأستاذ عبد الوهاب خلاف “أن أفعال المكلفين.. إن كان المقصود بها مصلحة المجتمع عامة فحكمها خالص لله وليس للمكلف فيه خيار وتنفيذه أولى الأمر، وإن كان المقصود بها مصلحة المكلف (الفرد) خاصة فحكمها حق خالص للمكلف وله في تنفيذه الخيار، وإن كان المقصود بها مصلحة المجتمع والمكلف معًا، ومصلحة المجتمع فيها أظهر فحق الله فيها الغالب وحكمها كحكم ما هو حق خالص لله، وإن كانت مصلحة المكلف فيها أظهر فحق المكلف فيها الغالب وحكمها كحكم ما هو خالص للمكلف(21).
وقد تناول د. عبد الرازق السنهوري في كتابه مصادر الحق في الفقه الإسلامي، حق الله وحق العبد وما اشترك بينهما كما ذكر الأصوليون(22). ومن فقهاء الإسلام المعاصرين من عرّف الحق بالمصلحة، فالحق وفق هذه الرؤية مصلحة ثابتة للفرد والمجتمع أولهما معًا، أو أنه وسيلة لمصلحة، وقيل أنه مصلحة مستحقة شرعًا، وتحدث البعض عن حقوق الإنسان بأنها ضرورات تفوق معنى الحقوق، أو أنها حُرمات مقدسة لا يجوز بأي حال كما يحرم انتهاكها، أو أنها فروض تشير إلى الحقوق والواجبات سواء أكانت فروضًا عينية أو فروضًا كفائية تتعلق بواجبات الجماعة بما ييسر استمرار وجودها وكيانها وعمرانها.
تتناسب هذه الرؤية مع ما يمكن تسميته بالرؤية الإسلامية لمنظومة القيم التي تتحفظ على جعل “الحرية” بلا حد قيمة عليا، أو المساواة العددية الحسابية في أعلى سلم القيم، ولكن تجعل من العدل القيمة العليا بحيث لا تفهم قيم مثل الحرية والمساواة إلا في إطارها وسياقاتها، العدل كقيمية يعتبر في أحد معاينه وأهمها الميزان الذي يجعل النظر إلى القيم الأخرى ومفرداتها تتعلق بالعدل ولا تفهم إلا من خلاله(23).
ضمن هذا السياق يمكن رؤية القيمة ضمن حركة وسط تعي للحرية حدودها وللمساواة شروطها، العدل هنا ميزان ومنهج للرؤية وإطار للفهم وقاعدة للحركة، الحرية من دون دجل إنقلاب وإباحية، وبه مسئولية واختيار والتزام، والمسـاواة من دون عـدل
حركة شكلية تعني بالحسابات العددية من دون رؤية حقيقة الاختلاف المفضية إلى عناصر تنوع، المساواة من دون عدل قد تمتهن الحرية وتفتقر إلى تقدير حقيقة التنوع المفضي إلى التمايز المحقق لعناصر التكامل والتكافل، وهي بالعدل تقدير لمعاني التساوي والاختلاف في آن، لكنها لا تجعل من المساواة إهدار لعناصر الحرية أو التنوعات والتمايزات ولكن توظفها ضمن حركة عدل، والمساواة العدل أيضًا تحقق الأصل في المساواة “أصل الخلقة” “عناصر الخصوصية” “أصول التعارف”،
وكل ما يعد أصلاً يحقق عناصر الاشتراك الإنساني في جوهره وحقيقة “الفطرة”، ومساواة والتكريم، وإمكانات وفاعليات التسخير، حمل أمانة ابتداء، عناصر الاستخلاف، والتفاوت يأتي في المنهج والتصور والحركة ضمن هذه المجالات والحركات والفاعليات، وضمن مجالات المقاصد الأصاسية المرتبطة بحركة الإنسان، إن حركة الحفظ هي حركة عدل تقوم على ساقين من الحرية العدل والمساواة العدل، في سياق ضبط العلاقات والرؤية والتفاعلات والتفعيلات.
مقاصد الشريعة العامة تأسيس للرؤية الكلية لحقوق الإنسان في الإسلام:
تعتبر مقاصد الشريعة من أهم عناصر تأسيس الرؤية الإسلامية لحقوق الإنسان فإنه من استقراء الأحكام الشرعية المتعددة خلص الإمام “أبو إسحاق الشاطبي” المتوفي سنة (790هـ) في كتابه الموافقات، إلى أن “.. تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام: أحدها أن تكون ضرورية، والثاني أن تكون حاجية، والثالث أن تكون تحسينية. فأما الضرورية فمعناها أنها لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج (فوضى) وفوت حياة (المصلحة).. والحفظ لها يكون بأمرين أحدهما ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود، والثاني ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم (أي ضرورة مراعاة ما يقيم ذلك ودفع ما يؤدي إلى الإضرار بها)(24).
ومجموع الضروريات خمسة وهي حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال، وقد قالوا أنها مراعاة في كل ملة، وأما الحاجيات فمعناها أنها مفتقرة إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تراع داخل الكلفين على الجملة الحرج والمشقة ولكن لا يبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة.. وأما التحسينيات فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات وتجنب الأحوال التي تأنفها العقول ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق..”.
وقد شرع الإسلام لكل واحد من الضروريات الخمسة للناس أحكامًا تكفل إيجاده وتكوينه وأحكامًا تكفل صيانته واستمراره وحفظه. وكفل حفظ الضروريات كلها بأن أباح المحظورات للضرورات، وجعل الحاجات مثل الضرورات في إباحة المحظورات وقد دل على قصده من التخفيف ورفع الحرج (مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ)، (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(25).
واقتضت حكمة الشريعة وما أراده من حفظ هذه المراتب الثلاث أن توجد من الأحكام التي تعتبر مكملة لها في تحقيق هذه المقاصد.
ومما تقدم يتبين أن الضروريات أهم المقاصد وتليها الحاجيات وتليها التحسينيات، وعلى هذا شرعت الأحكام الحافظة لحقوق وواجبات الإنسان لحفظ الدين ومقرراته، ومقدراته، وحدوده، وعقائده، وحفظ النفس وجودًا واستمرارًا وفاعلية، وحفظ النسل والعرض بمشتملاتهما.
وذلك حتى لا تختلط الأنساب وبما يحفظ التكوينات الاجتماعية الأساسية، التي تحفظ بدورها للمجتمع وجوده واستمراره، كما أنها تحمي المؤسسات الفاعلة في حفظ ذلك مثل “الأسرة” “الرحم” “التزاوج” وغيرها من أمور. أما حفظ العقل فهو يتلازم مهع نظرية التكليف، فالعقل كما تقول القاعدة مناط التكليف، فإن الحفظ يعني حماية العقل من كل ما يبدد إمكاناته وقدراته وهو يعظمها بما يحقق عناصر حرية التفكير والتعبير، وأن من حفظ العقل أن تحترم عقول الآخرين ووجهات نظرها، وكل ما يتصور من أساليب وطرائق حافظة للعقل وجودًا وفاعلية فهي من حقوق وواجبات صيانته وحمايته، وكذلك الأمر فيما يتعلق بحفظ المال الذي يقيم كيان الأمة والفرد على حد سواء وبما يؤكد العمارة والإنماء، والشريعة في أحكامها تقرر ذلك.
ومن الأمور المقررة أن هذه المقاصد وترتيبهـا تتعلـق بالفـرد والجماعة على حد سواء، كما تتعانق وتتفاعل مع بعضها البعض، بحيث تشتمل الواحدة على الأخرى وتتفاعل معها لتحقيق تمام الحفظ والرعاية والصيانة لها. فحفظ النفس كما هو بديهي أساسي لحفظ الدين، لأنه حفظ للكيان والوجود، وكذلك حفظ العقل والنسل والمال، فهذه الحقوق تتميز ما يمكن تسميته بحراك الحقوق والواجبات، وبالاعتمادية المتبادلة فيما بينها والتفاعل الشديد في علاقاتها ببعضها البعـض، وكلها
باعتبار أنها مقررة بالشرع وتتعدى إلى الجماعة ترتبط بحقوق الله.
ويرتبط بهذه القواعد وتفاعلها مجموعة من القواعد الفقهية التي تكتمل الفهم الصحيح لهذه المقاصد وتحدد لها سياجًا في الفهم(26) وكلها ترتبط بحقوق الإنسان وواجباته مثل (لا ضرر ولا ضرار) (أي مراعاة حقوق النفس والغير)، والضرورة تقدر بقدرها (فإن مراعاة الحق يكون بمقدار الضرورة مضبوطًا مقدرًا مؤقتًا بوقتها)، والحاجة تنزل منزلة الضرورة (فهي كالضرورة سواء بسواء في أحكامها وقواعدها)، ومن حيث حفظ الجوانب التي تتعلق بأصل وجودها فيقدم (دفع المضرة على جلب المنفعة) أهم الأحكام وأحقها بالمراعاة وتليها في المرتبة تلك التي شرعت لتوفير الحاجيات، ثم الأحكام التي شرعت للتحسين والتجميل ويمكن أن نضع هذه الأمور في جدول مبسط يعين على فهم هذه الحقائق من مراتب ومجالات. النموذج المقاصدي وحقوق الانسان وبناء ميزان المصالح.
حينما تحدثنا ضمن هذا السياق عند الإشارة إلى خصائص الشريعة، قلنا إن المصلحة والمصالح فكرة بنيانية ضمن نسق الشريعة وهى ترتبط بالحقوق تلازما؛ لأن البعض تحدث عن فكرة المصلحة باستحياء شديد، ظنًا منهم أن هذه الفكرة مما يسوغ به قاعدة ليست من النظام المعرفي الإسلامي، وهي أن “الغاية تبرر الوسيلة” وواقع الأمر أن هذا التفكير قد تكون له دوافعه كما أن له مبرراته والتي تتراوح بين سوء استخدام مفهوم المصلحة وبين سوء الحركة والعمل وفقًا لمبدأ المصلحة، وهي أمور لا شك ضيعت المفهوم نظرًا وتطبيقًا ضمن سياقات الأنانية وغطرسة ومعادلات القوة.
إلا أن المصلحة ليست فقط سمة بنيانية في نسق الشريعة، ولكنها فكرة منضبطة لا يطاولها الغموض الذي تتسم به الفكرة الوضعية في المصلحة (المصالح الفردية- الصالح العام- المصلحة القومية)، فهذه الأفكار على أهميتها لم تولِ الاهتمام الكافي في التأصيل والوضوح والضبط، وأهم عناصر ضبطها يتأتى من ضرورة ربط فكرة المصلحة بأصول فكرة الإصلاح من جانب، وبينها وبين فكرة الصلاحية من جانب ثان، والأمران يحققان أصول الاعتبار المنضبط لحقيقة المصلحة فتحقق مقاصد الإصلاح من ناحية وتفعل في النظر والتطبيق فكرة صلاحية الشرعية في الزمان والمكان والإنسان على اختلافهم جميعًا( 27).
ومن هنا فإذا قلنا أن الشاطبي قد استطاع أن يؤلف بين عناصر المقاصد مشيرًا إلى إمكانات تنظيرية ومنهجية عالية القيمة والدقة والوضوح والانضباط والتنظيم؛ فإن جهد العز بن عبد السلام ضمن كتابه القيم قواعد الأحكام في مصالح الأنام فضلاً عن جملة من التنويعات لابن تيمية وابن القيم والغزالي والجويني والأمدي وغيرهم إنما يشير ومن غير مبالغة إلى إمكانات تأصيل “المصلحة” كبناء منهجي قابل للتطبيق والتفعيل ضمن عمليات بحثية، وفي مختلف المجالات المعرفية وعلى الخصوص بصدد حقوق الانسان.
إن فكرة المصلحة في تعانقها الحيوي وتفاعلها الجوهري مع فكرة المقاصد “منهج التفكير المقاصدي” إنما تحققان فاعليات تأصيلية وتنظيرية ومنهجية وبحثية شديدة القيمة إذا ما أخذ الموضوع موضع الجد والجدية.
وهي في التحليل الأخير تشكل مفهوم منظومة “المصلحة والإصلاح والصلاحية”.
والمصلحة والمقاصد كمنظومتين حاكمتين لأفكار مثل العرف- العادة- الاستحسان- الضرورة، وفي سياق المجالات المعرفية المتواصلة والمتساندة؛ القانون- السياسة- الاقتصاد- الاجتماع…الخ.
يتناول الباحث في هذا المقام عدة نقاط أساسية تتمثل في:
تعريف المصلحة، وتحديد ضوابطها، وأخيرًا توظيف المصلحة في الدراسات السياسية والتعامل الدولي.
تعريف المصلحة: المصلحة هي المنفعة التي قصدها الشارع لعباده من حفظ دينهم، ونفوسهم، وعقولهم، ونسلهم، وأموالهم طبق ترتيب معين فيما بينها، ومراعاة الشريعة للمصالح أمر مقرر متفق عليه، ويعبر عن المصالح والمفاسد بالخير والشر والنفع والضر والحسنات والسيئات؛ لأن المصالح كلها خيور نافعات حسنات والمفاسد بأسرها شرور مضرات سيئات، وقد غلب في القرآن استعمال الحسنات في المصالح والسيئات في المفاسد والمصلحة تفرض على المجتهد ضرورة الاستنارة بذلك لمعرفة الحكم الشرعي فيما لا نص فيه.
وبين المصلحة والصلاح والاستصلاح تعلق يؤكد اعتبار الترابط بينها جمعيًا ومفهوم السياسة عامة والسياسة الشرعية على وجه الخصوص.
وللمصلحة واعتبارها أدلة من الكتاب والسنة ومن القواعد الشرعية المجمع عليها(28).
ضوابط المصلحة: تشكل هذه الضوابط حدودًا للفهم هي جوهر وظيفة (المنهاجية) حيث ترتب أصولاً ودعائم لمتطلب الصحة والصواب المنهجي، حيث إن ضبط المصلحة وارتباطها بقواعد عامة يجعل منها مدخلاً منهاجيًا مهمًا يشكل بالإضافة إلى مدخلي (الضرورة الشرعية) و(السياسة الشرعية) أساسًا لا غنى عنه في الدراسات الاجتماعية والإنسانية والسياسية منها بوجه خاص.
وضبط مفهوم المصلحة يرتبط لزومًا وتلازمًا بضابطين كليين في هذا المقام:
الأول: يرتبط بالمصدر، حيث يفترض فيه عدم معارضة المصلحة للكتاب والسنة والقياس الصحيح.
الثاني: يتعلق بالمقاصد الكلية من حيث اندراج المصلحة فيها وبيان مكانها في سلمها(29).
والاهتمام بضوابط المصلحة إنما يشكل في تكاملها محك الصحة المنهجية، بحيث يصير الخطأ ناتجًا عن تهاون في التقيد بها أو عدم التدقيق بالنظر في حقيقتها، ذلك أن الاكتفاء بمسمي المصلحة – لدي البعض– دون اعتبار الضوابط ليس إلا تهاونًا وتقصيرًا في بذل جهد لم يأخذوا أنفسهم به ولم يتمرسوا عليه، من هنا لزم التأكيد، بصورة قاطعة- على ارتباط المصلحة الشرعية بضوابطها– بحيث لا تكون معتبرة في التشريع إلا إذا كانت مقيدة بها، فالمصلحة بحد ذاتها ليست دليلاً مستقلاً للأدلة الشرعية شأنها شأن (الكتاب والسنة والإجماع)، حتى يصبح بناء الأحكام الجزئية عليها وحدها، وإنما هي معنى كلي استخلص من مجموع جزئيات الأحكام المأخوذة من أدلتها الشرعية.
وعلى هذا فتحقيق مصالح العباد معنى كلي، والأحكام التفصيلية المناطة بأدلتها الشرعية جزئيات له. ولما كان الكلي لا يتقدم إلا بجزئياته، فلا بد لاعتبار حقيقة المصلحة في التشريع من تقييدها بضوابط تحدد معناها الكلي من ناحية وتربطها بالأدلة التفصيلية للأحكام من ناحية أخرى حتى يتم التطابق بذلك بين الكلي وجزئياته.
وموقع الضوابط من المصلحة موقع كشف وتحديد لا موضع استثناء وتضييق أي أن ما وراء هذه الضوابط ليس داخلاً في حدود المصلحة وإن ظن البعض غير ذلك. ومن ثم؛ فلا يتصور التعارض بين المصلحة الحقيقية وأدلة الأحكام بحال.
وفي ضوء هذا التحديد فإنه لا يكون من المصلحة الحقيقية(30):
1. ما يخالف في جوهره المقاصد الخمسة (كالتحلل من قيود العبادات..) فذلك ومثيله وإن شابه المصلحة من حيث كونه مشتملاً على بعض مظاهر اللذات، إلا أنه في حقيقته داخل ضمن نطاق المفاسد إذ هو مناقض في التحليل الأخير للمقاصد الخمسة التي بها انضبطت كلية المصالح الشرعية.
2. ما لا يخالف في جوهره المقاصد الخمسة، ولكنه ينقلب بسبب من سوء القصد إلى وسيلة لهدم روح تلك المقاصد أو الإخلال بها، وهذا النوع لا يختص بأمور دون أخرى بل إن جميع ما هو مصلحة شرعية يمكن أن ينقلب بسبب سوء القصد إلى المفسدة، وفساد القصد وسوءه محكمان في اعتبار المصالح شرعية أو غير شرعية.
* ترتيب المصالح والمفاسد: لما كانت الشريعة تقوم على أساس تحقيق مصالح العباد، مستهدفة في ذلك تحقيق مقاصد خمسة على النحو السالف بيانه، فإن الواقع ووظيفة الضبط المنهجي يقتضيان ترتيب هذه المقاصد ومن ثم ترتيب المصالح والمفاسد، بما يعني تقديم الأهم منها على ما هو دونه، وبما يؤكد أن للشريعة ميزان محكم في مراعاة المصالح ونتائجها وفهم درجاتها في الأهمية وكذا المفاسد حتى لا يحيد الباحث المجتهد عن التمسك به لدى اجتهاده وبحثه في المصالح أو المفاسد وإن فقه هذا الميزان إنما يعد خطوة سابقة ولازمة لمعرفة الحكم في كثير مما تتجاذبه الاعتبارات والنتائج المختلفة، وثمة ثلاثة معايير أساسية تنضوي تحتها معايير فرعية، لترتيب المصالح المعتبرة شرعًا:
* المعيار الأول : النظر إلى قيمتها في ذاتها، فما به يكون حفظ الدين مقدم على ما يكون به حفظ النفس عند تعارضهما، ما به يكون حفظ النفس مقدم على ما يكون به حفظ العقل، هكذا… ثم إن رعاية كل من الكليات الخمس يكون بوسائل متدرجة حسب الأهمية في ثلاث مراتب: وهي الضروريات والحاجيات والتحسينات وتنضم إلى كل مرتبة منها ما هو مكمل لها، فهو مندرج معها في الرتبة…، ذلك أن الضروري مقدم على الحاجي عند تعارضهما والحاجي مقدم على التحسيني عند التعارض، وكل من هذه الثلاثة مقدم على ما هو مكمل له عند تعارضه معه، وسبب ذلك أن الضروري هو الأصل المقصود وإن ما سواه مبني عليه وأن اختلاله، اختلال لكل ما يترتب عليه ويتفرع منه، أما إذا كانت المصلحتان المتعارضتان في رتبة واحدة كما لو كانت كلتاهما من الضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات، فإن كان كل منهما متعلق بكلي على حدة مما يحدث التفاوت في متعلقاتها، فيقدم الضروري المتعلق بحفظ الدين على الضروري المتعلق بحفظ النفس وهكذا…
* أما إذا كانت المصلحتان المتعارضتان متعلقتين بكلي واحد كالدين أو النفس أو العقل… فعلى الباحث المجتهد أن ينتقل إلى الجانب الثاني من النظر؛ حيث ينظر إليهما من حيث مقدار شمولها(31)).
* المعيار الثاني: النظر إليها من حيث مقدار شمولها، ذلك أن المصالح وإن اتفقت فيما هي مصلحة له وفي مدى الحاجة إليها، ولكنها كثيرًا ما تختلف وتندرج في مقدار شمولها (للناس ومدى انتشار ثمراتها بينهم من حيث أثارها)؛ فيقدم حينئذ أعم المصلحتين شمولاً على أضيقها في ذلك، وفي ذلك ترجيح مصلحة حفظ عقول الناس من الزيغ، على مصلحة الفرد في ممارسة حرية الرأي عند تعارضهما ولأن الأولى أعم أثرًا وشمولاً من الثانية، ذلك أن المفسدة المترتبة على إهمال المصلحة الأولى أشد خطرًا من المفسدة المترتبة على إهمال الثانية لسعة انتشار ذلك دون هذه مع العلم بأن كلا المصلحتين في رتبة الحاجيات(32).
* المعيار الثالث: يتأسس بالنظر إلى مدى توقع حصول المصلحة في الخارج أو في الواقع المعاش، أي بالنظر إلى التأكد من محصلتها وآثارها من عدمه، ذلك أن الفعل إما يتصف بكونه مصلحة أو مفسدة حسبما ينتج عنه في الخارج وربما كانت نتيجة الفعل مؤكدة، وربما كانت مظنونة على اختلاف درجات الظن… وربما كانت محل شك أو متوهمة الوقوع مهما كانت قيمتها أو درجة شمولها، بل لا بد إلى جانب هذا أن تكون مقطوعة الحصول أو مظنونة، والمصلحة المقطوعة الحصول أمرها واضح بين، أما المظنونة فلأن الشارع قد نزل المظنة منـزلة في عامة الأحكام ما لم يفسخ الظن بيقين معارض(33).
* وخلاصة الأمر أنه يلزم للاعتداد بالمصلحة رجحان وقوعها مقصدًا كليًا من خلال وسيلة من الوسائل الثلاث لإحرازها (الضروريات والحاجيات والتحسينات)، ثم تتدرج بعد ذلك حسب درجة شمولها وسعة فائدتها، فعلى ضوء هذا الترتيب تصنف عند التعارض ويرجح البعض منها على الآخر. والنظر إلى ذلك فى مقام الحقوق التى تتعلق بالمجالات (الدين، النفس، النسل، العقل، المال)، والأولويات، وفقه الواقع والوسط، وموازين المصالح والضرر، ونظرية الحفظ، ونظرية المآلات، وأخيرا ارتباط الوسائل بالمقاصد.
* ويبين الجدول التالي سلم المصالح والمفاسد (ونظرية الحقوق التأسيسية) وفق الرؤية الإسلامية:
ويشير الجدول السابق إلى ميزان المصالح والمفاسد، والإمكانات المنهاجية لمقياس التصاعد في سلم المصالح، حيث يتضمن من خلال تحديد مقاصد الشريعة وبيان وسائلها وتدرجها، والتمييز بين توابعها من أصلي ومكمل لها، وتتبع أثرها ومالها من حيث شمولها (شامل/ جزئي)، ومن حيث عمومها (الجماعة- الفرد) ومن حيث أثارها الحالة الناجزة، وأثارها المؤجـلة التي يمكن
بلوغها فيما بعد، كل ذلك يمكن أن يوصلنا إلى (480) حالة قياسية، بحيث يمكن إدراج جزيئات الواقع والحادثات المتجددة وفق الوصف الشرعي السليم والمقارنة والترجيح فيما بينها في حالة التعارض، بحيث يمكن الخروج بنتائج أكثر انضباطًا، بفضل ضبط مفهوم المصلحة وكذلك المفسدة وما صدقاتهما، وضبط ميزان المصالح والمفاسد على أساس من قواعد مقررة ومنضبطة بدورها يمكن على أساسها الترجيح.ومايمكن أن يتركه ذلك على الحقوق التأسيسية للانسان فى الرؤية الاسلامية.
بل يمكن إذا اعتبرنا أن جلب المصلحة ودرء المفاسد يقترنان بمجالات ثلاثة (العقيدة – والفكر– والنظم والوسائل– والحركة والممارسة) وفق ترتيب معين فيما بينها أن يطور هذا المقياس بحيث يتضمن (1440) حالة قياسية تعكس إمكانات هذا المقياس في تحقيق عملية الضبط بعيدًا عن الأهواء والرغبات(34).
وعلى أساس من تقرير الحقوق والواجبات على قاعدة من هذه المراتب والمجالات فإن استخدام معنى “الحفظ” بما يشير إلى الحماية والرعاية والمعرفة والممارسة وبما يعني تلازم الحقوق مع الواجبات، فمن المقرر أن حفظ الدين على سبيل المثال ليس مقتصرًا على الفرد، بل أنه يمتد إلى دائرة الجماعة، كما أنه لا يختص به الإنسان المسلم دون غيره، وكذلك مختلف مجالات الحفظ الأخرى، فإن لغير المسلم الذمي نفس القواعد التي يجب من خلالها حفظ دينهم وأنفسهم ونسلهم وعقولهم وأموالهم (لهم مالنا وعليهم ما علينا)، وكذلك فإن حفظ النفس والذي ترتبط في التعبير المعاصر بمعاني حقوق الحياة الكريمة، ذلك أن حفظ النفس يرتبط بكل ما يقتضي حفظها وجودًا وتكريمها معاشًا، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ..)(35) وحفظ النفس من حفظ الدبين، وكذلك حفظ النسل، أي كل ما يقيم كيانًا من العلاقات الاجتماعية المنظمة ويرتبط ماإذا كان الأمر يتعلق بالضرر، من ضرورة ترتيب الأضرار في سلم، حتى يرتكب أخف الضررين، وبما يؤدي إلى حفظ الكيان والوجود والاستمرار. فإن الشارع (الله سبحانه وتعالى) قاصد بها أن تكون مصالح على الإطلاق، وهبي أبدية وكلية وعامة في جميع الأحوال في الزمان والمكان والإنسان وهذه من الأمور المقررة في نسق الشريعة حختى تحفظ الحقوق وتؤدي الواجبات جميعًا، بما يحفظ الكيانية الفردية والجماعية وبما يؤكد قداسة هذه الحقوق وتلك الواجبات وأبديتها.
حراك الحقوق والواجبات:
يعني بالحراك ذلك الانتقال الذي يؤكد التفاعل للحقوق والواجبات من طرف إلى آخر، أو من وصف إلى غيره، أو من حال إلى حال، ويتبين ذلك الحراك في معنى الحق الذي يشير إلى تلازم الحق والواجب (فهو حق له أو عليه)، بما يفيد أن الحقوق والواجبات ذمة واحدة تقع على عاتق الإنسان لا يمكن أن تكون هناك حقوق بلا التزامات، ولا يمكن أن تكون هناك أعباء من غير حقوق، فإن الأولى تعنى التفلت والإباحية، والثانية تعني الحرج والعسر والاستبداد. كما أن الحراك كذلك يشير إلى فكرة الفروض العينية والكفائية، أي تلك الفروض التي تتعلق بالفرد بأدائها، أما الفروض الكفائية فهي الفروض التضامينة والتكافلية وبما يشير إلى معنى مسئولية الفرد عن الجماعة ومسئولية الجماعة عن الفرد وبما يحفظ كيان الجماعة وعمرانها.
حفاظًا عليها كان من الضروري أن تتحول وتنتقل الحقوق الكفائية لأن تكون عينية لعظم خطرها وأهميتها ومن مثل ذلك (إذا انتهكت أرض الأمة بعدو فيصير الجهاد عينيا، كذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يصير عينيا خاصة إذا كان لا يقاوم المعروف أو ينهى عن المنكر إلا به لاختصاصه بذلك وغير ذلك كثير)، وتحرك الحقوق والواجبات وفقًا لحراك الفروض يعطي قيمة أكثر فاعلية لتلك الحقوق والواجبات في الممارسة والصيانة والحماية، وهي أمور تؤكد أن وصف الكفاية هنا تتعلق بكفاية تحقيق الغرض والمقصود أي الهدف، وكفاية أهلية، حيث يتصدر لها من هو أقدر على القيام بها، وتفاعل الجانبين يضمن الفاعلية في الوجود والاستمرار، ومن البدهي أن يرتبط هذا وذلك بما يحقق كفاية الفاعلية (عددًا وصفات وقصدًا)(36).
فكرة الحراك حقيقة بنائية ضمن النظر لفكرة حقوق الإنسان، تعبر عن انتقال المواقع وفقًا للحالات المتغيرة والمتجددة في الواقع الفعلي، وهي تتناسب مع طبيعة الأدوار الإنسانية للفرد أو للجماعة أو للأمة أو لهم جميعًا، وتعددها وتشابكها وتعقدها، إن الوقوف بفكرة الفروض مثلاً عند حد الفروض العينية قد يؤدي إلى سيطرة عناصر ومنهج تفكير يعينه فقط على تحقيق ما يمكن تسميته بعناصر الخلاص الفردي، وفي إطار من لسان حال يقول في كل موقف أو رأي أو عمل “نفسي..نفسي!!”، فالفروض العينية هي في حقيقة الأمر فروض تحاول “بناء الفرد الإنسان” وصياغته ليكون اللبنة الصالحة، ضمن حركة بنائية جماعية في دائرة أكبر، إن عملية الإصلاح تتضمن ليس فقط “الإنسان الصالح” بمنطق الخلاص الفردي، ولكن الإنسان المصلح بمنطق التكافل الكمتعدي إلى الغير ومن ثم كان من المظاهر التي أكدت عناصر الفروض العينية الإشارة إلى نمط التأدية التي وإن جوزت ذلك في شكل فردي لكنها جعلت الأداء في جماعة عملية تدريبية تفوق في الإحسان والدرجة ذلك الأداء الفردي وهي عملية تأهيلية من خلال وتلك الفروض العينية إلى التفكير بالجماعة وبنيانها، لا شك أن هذا التصور يؤهل الفرد إلى التفكير بعناصر الفروض المتعدية ضمن عناصر تحريك الحقوق والواجبات، وتصل في تدرجها لأن يكون الفرد مسئولاً عن الأمة بل والإنسانية، وترى المة مسئولة عن الفرد بل الإنسانية جميعها، حركة تؤكد ذلك الحراك الحيوي في فكرة الفروض “في إطار الأداء والتواصل فيما بينها”.
إن هذه المعاني جميعًا تعني أكثر من حقيقة بالنسبة لنظرية “حقوق الإنسان”.
الأولى: التلازم بين الحق والواجب في الأداء والرؤية.
الثانية: التلازم بين حقوق الذات الإنسانية، وحقوق الغير.
الثالثة: التلازم بين نهج التفكير في مسألة الحقوق الفردية والجماعية.
الرابعة: التلازم بين الحقوق المختلفة ضمن المجالات المتنوعة والمتعددة.
الخامسة: عناصر تحريك الحقوق في إطار القاعدة: لا ضرر ولا ضرار.
السادسة: مؤسسية “الحقوقية” و”الوجوبية”.
السابعة: ارتباط عناصر الحق والواجب بجوهر فكرة “حدود الله” “التعدي” “الاقتراب”، فكرة الحدود في أصولها حركة تأخذ في اعتبارها “التعدية” “مراعاة الذات والغير” “مراعاة الجماعة”، أى أن حدود الحق تنتهي عند الحدود الذي تبدأ فيه حقوق الآخرين(37).
الثامنة: أن الحقوق والواجبات قد تتخطى مساحات العدل وهي المفروضة إلى مساحات الفضل وهي الإحسان “للذين أحسنوا الحسنى وزيادة”.
ماذا تعني هذه المقدمات النظرية في إطار تأسيس نظرية لحقوق الانسان؟:
في هذا السياق لا يمكن فحسب الإكتفاء بعمليات التشغيل ضمن التفعيل النظري في بناء أصول نظرية لحقوق الإنسان تضبط عناصرها ومفهوماتها الأساسية، وتحرك مجالاتها البحثية والحركية، ففي الحقيقة نحن بحاجة لأن نتابع عملية التشغيل وحقائق التفعيل على مستويين:
العلمي والنظري والبحثي وهو جانب يجب ألا نغفله، والحركي والواقعي المتعلق بالممارسات الفعلية وإمكانات تفعيل المتسق منها، وتقويم المعوج عنها، والمنحرف فيها، وهذا التقسيم ما بين “العلمي” و”العملي” لا يوجد هكذا بعيدًا عن الأطر الواقعية والتفاعل بين المنطقين، فهو تقسيم وتصنيف يسهل لنا عمليات التشغيل وتحديد مجالاتها، من غير أن يتطرف إلى التفكيير أنهما عمليتان منفصلتان لا تتفاعلان أو تتقاطعان أو تتداخلان وتتواقفان في حركة فعلية على أرض الواقع.
وضمن هذا النسق في التفكير يبدو لنا أن المداخل المعرفية لهذه الرؤية هي مداخل في غاية الأهمية، إذا تحدد عناصر تحريك المدخل السباعي في بناء هذه الرؤية وتفعيلها، هل من الممكن مثلاً الحديث عن “حقوق” “الإنسان” دور الحديث عن مصادر هذه الحقوق ومرجعيتها، أو عن مفهوم الإنسان وتأصيلاته، إننا في هذا السياق لابد أن ننظر إلى حقيقة النظر للإنسان لا بكونه مفهومًا مفردًا، إن الشرعة ومنظومة المدخل القيمي، تعلمنا ألا ننظر للأمور ضمن مفردات أو تجزيئات، قد تفرضها علينا عناصر المنهاجية الدفاعية، أو منهاجيات المقاربة والمشابهة، أو عمليات المقارنة. ولكن الشرعة تعلمنا في ارتباط حميم أن ترتبط دائمًا بالمنهج، “الشرعة” المنهاج المنهاج ضمن عناصر التحريك المنهجي للرؤية والممارسة تعني ضرورة أن نفكر في المفاهيم ضمن شبكة فعالة ووشائج وروابط نظمية علاقات فاعلة وفعالة ومتفاعلة، فكرة المفهوم المنظومة تظل أحد عناصر مداخل التفكير، إن لم تكن أهمها على الإطلاق.
إنها تشير إلى عمليات مهمة فرعية، أشكال العلاقات وتنوعها، عمليات التفاعل وتعددها، عمليات التسكين “وضع كل شيء في موضعه”، وعمليات التحريك “إعطاء كل ذي حق حقه”، وعمليات تفعيل وتشغيل تحرك عناصر التسكين والتحريك ضمن مجالات متعددة، وأشكال متنوعة، وحادثات لا متناهية.
إن هذا الناظم المعرفي المؤكد لنظم تفكير ومناهج تغيير وتقويم، وعناصر للضابط المنهجي إنما تجعل حجية “التفكير المنظومي” ضمن هذا السياق وضمن شبكة علاقات لا تقتصر في الرؤية على علاقات تصاعد وتراتب عند التعارض أو التضارب أو التناقض سواء أكان ذلك حقيقيًا أم متوهمًا، مع وجود آليات إبتدائية قادرة ومنذ البداية على كشف كل عناصر (الزائف) و(المتوهم) و(التزييف) و(التأزيم) و(المصطنع) و(المتداخل) و(الغفلة) و(الاشتباه) و(التقليد) و(الاستبداد) و(المقاربات) و(المقارنات) و(الأشباه) و(النظائر)، إنها عناصر عقلية فارقة قادرة على التمييز، عقلية مدققة قادرة على التسكين والتصنيف والتقسيم والترتيب وعقلية ضابطة، تفهم العنصر في مجاله الحيوي، وفق عناصر الضبط المنهجي المنافي لكل حركة (عبثية) أو (خرافية) أو (تصادفية) أو (تشككية تشككًا مطلقًا) أو (عدمية) أو (إطلاقية النسبية) أو (نسبية المطلق من دون تحقيق أو ضبط)، الضابط المنهجي يحرك عناصر العقلية الكاشفة والتي ترى عمق العلاقات وتنوعها، لا تقف عند سطوح الظواهر ولكنها تملك آليات منهجية لتتعرف من خلاله على بعض مغيبات الظاهرة وفق عناصر منهاجية منضبطة، العقلية الكاشفة تملك إمكانات الوعي المنهجي بكل عناصره وبكل امتدادته.
في هذا السياق الجامع بين الناظم المعرفي والضابط المنهجي يمكن النظر إلى المداخل المتكاملة والمتفاعلة للإجابة على مثل هذه النوعية من التساؤلات التي قصدنا أن تكون عنوانًا لهذه النقطة الأخيرة: ماذا تعني هذه المقدمات النظرية والتنظيرية في إطار حقل العلاقات الدولية؟!.
أولاً: إمكانات التأصيل وعمليات التنظير: كثيرة هي “مفاهيم”: الموقف التي تفرضها عناصر ما يمكن تسميته “بمفاهيم الحضارة الغالبة”، المفاهيم ليست بعيدة إن لم يكن في قلبها عناصر معادلة “القوة- المصلحة”، المفاهيم تكون شبكة ومنظومة من الأفكار، مفهوم حقوق الإنسان، يمكن دراسته في إطار مستويات متعددة، تعي أولاً فكرة الحقوق، ومفهوماتها المختلفة وتقاطعاتها مع مفاهيم ضمن منظومة النظام المعرفي وفق عناصر مرجعية إسلامية.
وتحدد ثانيًا فكرة الإنسان وعناصرها المتعددة وبما تحمله من مفهوم “مركزي” ضمن منظومة مفاهيم، ومفهوم منظومة، حيث تجعل تحريك المفهوم في إطار جزء من كل، أو كل يستدعي من خلاله بقية تداعياته وأصوله.
وهي تحدد ثالثًا عناصر تركيب يمزج بين الفكرتين على سبيل الإضافة “مضاف ومضاف إليه” تعني أن الإضافة معينة بذاتها، والتركيب يشير إلى عناصر يبدو أنه أصبحت بالإضافة جزءًا من التعريف به أو الإصطلاح عليه، وهذا ما يعني ضرورة رؤية هذا المفهوم ضمن تركيبته، وضمن إدراكاته المختلفة وفقًا لخصائص الأنساق الحضارية ورؤيتها المرجعية ونظمها المعرفية، وما تولده من حقائق وعناصر وضوابط منهجية.
وهي تعي رابعًا بعناصر علم اجتماع المفهوم وعلم تاريخه، وفلسفته ضمن عمليات معرفية متكاملة، إن تاريخ المفهوم جزء من ذاكرته، وعلم اجتماعه يوضح العلاقات الكامنة حول زتفسيراته وتأويلاته، حول بروزه واختفائه، حول عملقته وتعظيمه مع تفاوت عناصر الزمان والمكان والإنسان واخلافها وفقًا لعلاقات المصلحة، القوة أو غيرها من علاقات، وعلم فلسفة يحاول أن يحاكي عالم الأفكار المرجعية المستند إليه ضمن مطلقات، ومسلمات، وبديهيات، ومعطيات، وافتراضات تشكل عناصر تأصيله وإمكانات تحريكه وإعطائه الوجهة وارتباطه بالقبلة، ونظمه ضمن منظومة كلية أو فهم، وهي تؤكد خامسًا أن هذه الرؤية الإسلامية تمتلك مساحة مهمة في البحث والمصادر بحيث تحقق لها إمكانات تأصيل وتنظير، تملك التمييز والاختصاص، ولا تهدر أية عناصر مكتسبة من خبرة إنسانية طالما اتفقت مع أصول الرؤية الإسلامية ومرجعيتها، إننا أمام جملة من الأدوار يمكن تفعيلها بدءًا من الرؤية العقدية ورؤيتها للعالم وأهم عناصر رؤيتها للإنسان في علاقته بالكون كمجال اهتمام، وبالحياة كفعل ممتد لذلك الإنسان استخلافًا وإنماءًا وعمرانًا، والرؤية التي تخص الشرعة هي تحريك لفاعليات الخصائص ونظريتي الحكم والتكليف والقواعد الكلية في آن، بحيث تحول عناصر التأصيل النظري إلى عمليات “الرد الجميل” لقواعد تأسيسية، هي في صياغتها تحمل كل ما يمكن أن يؤديه الشعار من عمل وحفز إيجابي فعال، إن القاعدة “ضرر ولا ضرار”، تحفز الإنسان المسلم إلى التفكير بمنطق هذه القاعدة الشعار، فتمد نظرتها إلى أكثر من مقولة متضمنة وكامنة فيها، فالإنسان بطبيعته مجبول على دفع الضرر عن نفسه، وأن الإنسان كما لا يرغب الضرر لنفسه عليه أن يراعى ذلك في حق غيره “فلا يضر غيره”، أن كل المعاملات لابد أن تتحرك ضمن سياق أنه لا ضرر للذات ولا ضرار للغير، ولا ضرر في مجال ولا ضرار في مجالات أخرى، وأن المنفعة أو المصلحة لا تحصل بالضرر، وأن دفع الضرر أولى ليس بالنسبة للذات فحسب بل بالنسبة للغير، وغير ذلك كثير، أنها وفق ذلك قاعدة ذهبية تحرك عناصر الوعي، والسعي الإدراك والحركة العلم والعمل وفق منطق ومنظور مهم.
أليست هذه القاعدة تعطي لمن يستمسك بها ويتمثلها قدرات بحثية ومنهجية بدءًا من الوصف والرصد وانتهاء بعملية التقويم ومرورا بقدرات التصنيف والتحليل والتفسير والتعميق، إن هذه القاعدة تحاول أن تؤسس منهجصا وصفيًا نظن أهميته بدلاً من البحث في المنافع الآنية والأنانية المقتصرة، على الذات دون أن تمتد إلى الغير.
وهذا الأمر كقاعدة عامة لا يستثنى من ذلك أي مجال، حتى لو كان العلاقات الدولية، والعلاقات بغير المسلمين، بل إن هذه العلاقة حينما تتخذ أقصى حالاتها على المتصل لتصل إلى علاقات الصدام الحرب أو حالة الحرب هي محكومة بإعمال هذه القاعدة، حتى لو بدأ أن القاعدة المتعارف عليها في ذلك المقام هو إحداث أكبر قدر من الدمار تحقيقصا للردع، ليس ذلك بهدف، وإن تفحص قواعد سير القتال، نرى فيها كيف أن القاعدة لا ضرر ولا ضرار قد تحولت في هذا السياق إلى أصول وقواعد مرعية في مجال الحرب، وتحولت إلى إجراء عملية تجب مراعاتها ضمن عناصر الفلسفة الكامنة فيها.
وهذه الرؤية معينة بمراعاة القيم في حق الغير، القيم لا تتعلق برؤية عنصرية أو بحدود حضارية تراعي داخلها، بينما تستباح خارجها (لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ)(38) إن من قواعد العدل والمساواة والاختيار، أن تتحقق هذه القيم وتفعل ضمن مجالات متعددة ومتنوعة مترسمة خطأ الشمول والعموم إلا بتقييد أو تخصيص يملك من النص أو القرائن الدلة عليه، وفهم عناصر التقييد أو التخصيص أو التفصيل بعد إجمال، لا يمكن بحال أن يكر على أصل العموم والشموال والكليات بالإبطال أو بالنسخ، وهذا ما يؤكد العموم والشمول في مجال القيم وغيرها.
وهذه الرؤية معنية “بالأمة” ورسالتها الحضارية ووظيفتها العقيدية والمعنوية التي تتمثل في “الشهادة” التي ليست تعبيرًا عن تميز عنصري، بل أهلية واعية بما تحققه من عناصر القدوة، إن الشهادة ليست صفة أبدية وكذا الخيرية والوسطية، بل هي جميعًا صفات تحصيل وسعي مشروطة، ليست هي “شعب الله المختار”. أو المهمة الأبدية على عاتق الأمة تجاه الإنسانية، بل هي استحقاق بالسعي والوعي والتحصيل والتواتر والتمكين لعناصر هذه الصفة، حتى تكون الأمة جديرة مستحقة لهذا الوصف، كذلك الأمة وفق هذا التحليل تعتبر علائقها بغيرها من هذا الباب الذي يحقق عناصر التكافؤ ما التزمت أصول الاستخلاف وحركة العمران.
والأمر كذلك في تعلقه “بالحضارة” التي اجتمعت عناصرها لتتأكد في فعل بني الإنسان (الأمانة – التكريم – التسخير – الاستخلاف – الابتلاء – التدافع – التغيير – التمكين – الابدال..)، كلها عناصر مفتوحة للإنسان من دون تحديد ليؤصل عناصر الفهم الحضاري لدى بني الإنسان جميعًا، ويحركه فيها ضمن إطار السعي الصريح للعمل الصالح الذي يؤسس عناصر حضارة، إنها هنا ليست رؤية للإنسان وحسب، بل رؤية لإنسان الحضارة في خلافته وحركة عمارته، إنها أصول تحدد الإمكانات الإنسانية، والقابليات البشرية والفاعليات الحقيقية، وكلها مقدمات للفعل الحضاري المتعلق بالإنسان حقوقًا وواجبًا سعيًا ومسيرة، فكرًا وحركة، وسائل وغايات، إنها تردف عمليات التنظير لتؤصل رؤية حضارية كلية شاملة لفكرة الحقوق الواجبات الإنسانية وتؤسس حركة لعلاقات دولية تحفظ لهذا الإنسان كيانه واستمراره وقيامه بوظيفته أو بمعنى أدق رسالته، وضمن هذا فإن العنصرية ضد هذه النظرية، والاستعلاء ضد هذه النظرة، وعلاقات الظلم والاستتباع الشائهة ضد هذه الرؤية، علاقات القوة القائمة على الغصب أو الإكراه أو الإذعان ضد هذه النظرة، فتحرك الحقوق ضمن علاقات توافق وتراحم وتعايش تحفظ للنوع الإنساني مصالحه جملة، من دون تفرقة، ومن دون محاباة، وتجعل عمليات التعارف الإنساني أهم العمليات التي تؤسس هذا الحركة الواعية والساعية، لتأصيل نظرية عامة لحقوق الإنسان وواجباته في حقل العلاقات الدولية.
أما المقاصد فهي لب عمليات التأصيل لنظرية حقوق الإنسان لمراعاة هذه الأصول في حق الناس جميعاً، أفراداً أو جماعات، ذواتاً أو أغيار، الذات والأخر، إن عناصر الحفظ المراعاة في حق الجميع وفي كافة المجالات، فهي عملية تستحق منا مزيد من التأمل حينما نتحدث عن حقوق الإنسان وواجباته، وعن أسس تحكم العلاقات الدولية من هذا المنظور، وهذه الأمور قد لا يكون هنا موضع التفصيل فيها وهذه جميعاً تؤسس هذه النظرة وتحركها وتفعلها، لتؤكد مرة أخرى على إمكانات التفعيل والتشغيل التي تحرك عناصر وصف ورصد، وعناصر تحليل وتفسير، وعناصر تعميم وتقويم، بما يحرك الدراسات في حقوق الإنسان ضمن منظور محدد، نظنه ليس خياليًا- أو مثاليًا بتعبير البعض، ولكنه منظور يحقق لفاعليات التنظير والحركة بمقتضاه أكثر الإمكانات والقابليات، ويحركها لمصلحة الكافة من دون حيف أو جور.
حقوق الإنسان: محاولة التعريف : يعتبر هذا المفهوم من المفاهيم الحضارية الكبرى، وهو تركيب يتكون من الجمع بين كلمتين ” حقوق”، ” الإنسان”، ولعل الأنساق المعرفية المختلفة تنظر للكلمتين بنظر قد يختلف ويتنوع، فالحق في الرؤية الإسلامية يرتبط بالواجب لزوماً وتلازماً في سياق نظرية التكليف، كما أن الحق من تلك الرؤية تتبعه أربعة واجبات أساسية واجب معرفته والوعي به، وواجب ممارسته والقيام به، وواجب حمايته والدفاع عنه، فضلاً عن واجب مراعاته في حق الغير في سياق نظرية الاستخلاف القائمة على مراعاة الحقوق في حق الذات والغير.
كما أن الرؤية للإنسان فد تختلف وتتمايز، فالإنسان ضمن هذه الرؤية مستخلف هادف إلى تأصيل كل عناصر العمارة الحضارية.
وعلى هذا فإن التلازم بين حقوق الإنسان وواجباته بغرض تحقيق المقاصد العامة والكلية (مجالات ومراتب)، وتحقيق عمارة الأرض مما يؤكد مراعاة حق الذات والغير وحقوق الجماعة، مما يؤكد عناصر تكافل تحقق منظومة حقوق إنسان تجعل من التوحيد مركزها، محركا الإنسان لرعاية حقوقه، ومراعاة حقوق غيره، عبر كل التكوينات الجماعية حتى تمتد للإنسانية بأسرها.
وحقوق الإنسان في الإسلام ذات مفهوم إنساني واجتماعي واقتصادي وسياسي بعضها من أعظم مقاصد التشريع قوة وأعلاها مرتبة كحق الحياة وهي من مستوى الضروريات وبعضها من المقاصد الحاجية، كحرية الرأي والعمل، وهي أصل مقطوع به في الشرع ومن النظام الشرعي العام الثابت مما لايجوز إلغاؤه أو مصادرته حقوق الإنسان في الإسلام جاءت في بعض منها على صورة حرمات لا يجوز انتهاكها وجاءت في يعض منها على صورة تكاليف ضماناً للإلزام بها وكفالة لتحقيقها وصوغها وتنميتها، ويعبر البعض عن تلك الحقوق بمسيات متمايزة مثل وصفها بالضرورات الواجبة يفرضها الإسلام فتصبح متمايزة من مثل وصفها بالضرورات الواجبة يفرضها الإسلام فتصبح ضرورات شرعية واجبة لتحقيق “الحياة الحقة” والإنسانية الحقيقية لهذا الإنسان على النحو الذي يليق به لخلافته عن الله سبحانه في هذا الوجود. ويحر البعض على استخدام لفظ الحرمات لوصفها وذلك للتعبير عن عظم آثارها وخطورة انتهاكها، وكل من هذه الاختيارات تضيف جانبًا مهمًا في بناء مفهوم حقوق الإنسان في الرؤية الإسلامية.
الحريات العامة في التشريع الإسلامي شرعت تحقيقاً للمقاصد الأساسية التي لابد منها لقيام كل مجتمع إنساني تتصل بها اتصال الوسيلة بالغاية، فكانت مصادرتها أو الافتئات عليها نقضاً لتلك المقاصد العليا.
أن اتصال الحريات العامة وحقوق الإنسان بمقاصد التشريع العامة على تنوعها وتدرجها من حيث قوة الأثر، واتصال الوسائل بالغايات يجعل تلك الحقوق شاملة لما هو مادي أو معنوي على السواء مما يتعلق بكافة جوانب الحياة الإنسانية ويستوعب تنوعاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
فهذه المقاصد الأساسية للمجتمع الإنساني من الشمول، بحيث يندرج في مضمونها كافة الحقـوق، ما كان منها ذا مضمون ديني أو خلقي أو سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي وما إلى ذلك، مما يتعلق بجميع نواحي الحياة ماديًا ومعنويًا، فإن فكرة المقاصد تتسع مساحتها لتستوعب الجديد من الحقوق فيما رسم من مقاصد وغايات وما شاع من بل عملية لتحقيقها وتنميتها وحفظها، ويمكن للمنهج المقاصدي أن يحرك عناصر بناء برنامج عمل بحثى متميز من القضايا والموضوعات المتعلقة بالحقوق والواجبات، وعناصر مهمة من الضوابط في عملية تنظيمهما أو ممارستهما.ومحاولة تطبيق المدخل المقاصدى على بناء مفهوم حقوق الإنسان كما هو موضح فى الشكل التالي:
تعذر تحميل الشكل
ليست تلك سوى اشارات مهمة في الإمكانات التي يتيحها النموذج المقاصدي(39) في تنظير حقوق الإنسان، والأمر لايزال في حاجة لمزيد من التفصيل لا يتسع المقام له.
الهوامش
(1) انظر فى هذه المعانى التى تحدد منهج النظر للشريعة: فتحى الدرينى،المناهج الأصولية فى الاجتهاد بالرأى فى التشريع، دمشق : دار الكتاب الحديث، 1975، ص 3-6.
(2) المرجع السابق، ص 20-26، انظر أيضًا: فتحي الدريني، دراسات وبحوث في الفكر الإسلامي المعاصر، بيروت: دار قتيبة للطباعة والنشر والتوزيع، م1، ص 9 وما بعدها (النظرية العامة للشريعة الإسلامية: تحدد ذاتيتها وظيفة هدفها العام).
(3) انظر د. حامد ربيع، حقوق الإنسان، والخبرة الإسلامية، بحث غير منشور، ص 1 وما بعدها.
(4) انظر في الاهتمام بقضية المفاهيم، وذلك في إطار مفاهيم الموقف، مدخل حقوق الإنسان انظر على سبيل المثال ما يشير إلى ذلك وغيرها من قضايا تتعلق بقضية حقوق الإنسان: زكي الميلاد: حقوق الإنسان في الخطاب الإسلامي المعاصر، مجلة الكلمة: منتدى الكلمة للدراسات والأبحاث، العدد 13، السنة الثالثة، خريف 1996، ص 9- 26.
(5) المفهوم والخبرة، والمفهوم ووصفه بالغربي عملية يجب التحري فيها، انظر: ريموند بانيكار، هل فكرة حقوق الإنسان من المفاهيم الغربية، مجلة ديوجين، اليونسكو، العدد 64، السنة 17، فبراير وأبريل 1984م، ص 43-44.
(6) المرجع السابق، ص 44-45، ص 48 وما بعدها.
(7) انظر في هذه القضية سيف الدين عبد الفتاح، محاضرات مادة حقوق الإنسان: رؤية إسلامية، محاضرات ألقيت على طلبة السنة الثانية، قسم العلوم السياسية، كلية الاقتصاد، جامعة القاهرة، 1994.
(8) هذا النهج ليس قاصرًا فحسب على دراسة حقوق الإنسان، فإن هذا النهج حاول غالبًا تتبع النقائص في التاريخ، وتعتبر فكرة النماذج التاريخية حلاً مهما لدراسة الامتداد التاريخي من جانب، والاستنادة من النماذج السلبية والإيجابية على حد سواء من جانب آخر: انظر في فكرة النماذج التاريخية: د. حامد ربيع، الدعاية الصهيونية، معهد الدراسات والبحوث العربية، القاهرة، د.ت، ص 216.
(9) أصول الدراسة المنهجية لخبرات المسلمين أمر مقدر لذا وجب إعمالها: انظر في هذا المقام الجزءالمنهجي الخاص بدراسة التاريخ السياسي والدولي للمسلمين: د. نادية مصطفى، مدخل منهاجي لدراسة التطور في وضع ودور العالم الإسلامي في النظام الدولي: مشكلات وضوابط التعامل مع التاريخ الإسلامي، القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ضمن مشروع العلاقات الدولية، تحرير (أ. د. نادية مصطفى)، حـ7، 1996.
(10) في إطار تطور الخبرة الغربية في حقوق الإنسان قارن إشكالية العلاقة بين الخصوصية والعالمية انظر على سبيل المثال: د. عبد الحفيظ نصار، الإعلان الإسلام العالمي لحقوق الإنسان ومقارنة بالإعلان العالمي لهيئة الأمم المتحدة، دار القاهرة دار الهدى للمطبوعات، 1997.
(11) في إطار ربط الرؤية العقدية بالرؤية لتفوق الإنسان راجع: د. محمد فتحي عثمان، حقوق الإنسان بين الشريعة الإسلامية والفكر القانوني الغربي، القاهرة، دار الشروق، 1982، ص 16، وما بعدها.
(12) الآية: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ) (هود/61).
(13) الآية: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحديد/ 25).
(14) الآية: (اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) (الشورى/17).
(15) الآية: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) (الروم/ 22).
(16) انظر ضمن هذه الشعارات المغلقة لرؤى عنصرية صاحبت الظاهرة الاستعمارية: حورية مجاهد، الاستعمار كظاهرة عالمية: حول الاستعمار والإمبريالية والتبعية، القاهرة، عالم الكتب، 1985، ص 63 وما بعدها.
(17) الآية: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة/ 256).
(18) الآية: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (60/8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة/ 8-9).
(19) انظر في هذه الخصائص التي تتعلق بالشريعة الإسلامية، الله كمصدر للحقوق في: محمد فتحي عثمان، مرجع سابق، ص 16، وما بعدها.
(20) انظر في مفهوم الحق وطبيعة والتلازم بين الحق والواجب:
انظر المعاجم اللغوية: مادة وجب، وحقق.
(21) انظر باب المكلف/ أو المحكوم فيه وتضمنه للحقوق، والواجبات: انظر ذلك ضمن نظرية الحكم التي أشرنا إليها آنفًا، وتصنيف الحقوق بين الله والعبد.
(22) عبد الرازق أحمد انظر: السنهوري، مصادر الحق في الفقه الإسلامي: دراسة مقارنة بالفقه الغربي، قسم الدراسات القانونية، جامعة الدول العربية، معهد الدراسات العربية العالمية، 1954، حـ1، ص 14 وما بعدها.
انظر: أيضًا: محمد صالح الجارم الحنفي، كتاب المجاني الزهرية على الفواكه البدرية، الأصل لابن الفرس، مصر: مطبعة النيل، د. ت انظر الفصل الثاني في المحكوم به، ص 24 وما بعدها.
ويقول القرافي “فحق الله تعالى أمره ونهيه، وحق العبد مصالحه، والتكاليف عى ثلاثة أقسام حق الله تعالى فقط كالإيمان، وحق للعبد فقط كالديون والأثمان، وحق اختلف فيه هل يغلب فيه حق الله تعالى أو حق العبد، كحد القذف؟، ومعنى حق العبد المحض أنه لو أسقطه لسقط، وإلا فما من حق للعبد إلا فيه حق له تعالى، وهو أمره بإيصال ذلك الحق إلى مستحقه..” أبو العباس أحمد بن إدريس القرافي، شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الأصول، تحقيق طه عبد الرؤوف سعد، القاهرة: منشورات مكتبة الكليات الأزهرية- دار الفكر، 1972، ص 95.
(23) انظر وراجع نظام القيم في الرؤية الإسلامية: د. حامد ربيع (تحقيق وتقديم)، سلوك المالك فى تدبير الممالك لابن أبى الربيع، القاهرة: دار الشعب،1980، حـ1، ص 142 هامش وما بعدها.
(24) انظر في ذلك الجزء الذي يتعلق بمقاصد الشريعة باعتبارها من أهم عناصر المدخل السباعي للقيم فى كتابنا حول مدخل القيم: إطار مرجعى لدراسة العلاقات الدولية فى الإسلام، القاهرة: المعهد العالمى للفكر الإسلامى،1999.
(25) الآيات: (مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ) (المائدة/ 6).
(يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة/ 185).
(26) راجع ما كتب حول القواعد الكلية والفقهية في هذا البحث ضمن الفصل الأول، انظر في إطار التعامل مع ميزان المصالح وارتباطه به بالمقاصد في إطار من القواعد الكلية: العز بن عبد السلام، القواعد الصغرى “الفوائد في مختصر القواعد”، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض، القاهرة: مكتبة السنة، 1994، ص 30 وما بعدها.
(27) في إطار فكرة المصلحة انظر: مصطفى أحمد الزرقا، الاستصلاح والمصالح المرسلة في الشريعة الإسلامية وأصول فقهها: دراسة مقارنة، دمشق: دار القلم، 1988، ص 35 وما بعدها.
(28) المصلحة تعود للجذر اللغوي صلح ولها معنيان، فقه ترد بمعنى الصلاح أو هي اسم للواحدة من المصالح، وكل ما كان فيه نفع سواء كان بالجلب والتحصيل كاستحصال الفوائد، أو بالدفع والاتقاء كاستبعاد المضار فهو جدير بأن يسمى مصلحة. المصلحة بذلك هي المنفعة سواء بسواء.
انظر المعاجم اللغوية: مادة صلح.
انظر أيضًا: د. محمد سعيد رمضان البوطي، ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية بيروت، مؤسسة الرسالة، طـ4، 1982، ص72.
د. عبد العزيز عبد الرحمان الربيعة، أدلة التشريع المختلف في الاحتجاج بها: بيروت، مؤسسة الرسالة، ط 3، 1982، ص 189- 190.
انظر في وصف المصالح والمفاسد: العز بن عبد السلام، قواعد الأحكام..، مرجع سابق، ح1، ص5.
محمود عبد الكريم حسن، المصالح المرسلة: دراسة تحليلية ومناقشة فقهية وأصولية مع أمثلة تطبيقية، بيروت: دار النهضة الإسلامية، 1995، ص 33 وما بعدها.
(29) البوطي، مرجع سابق، ص 117 وما بعدها د. محمد فتحي عثمان، حقوق الإنسان بين الشريعة الإسلامية والفكر القانوني الغربي، بيروت: دار الشروق، 1982، ص 41- 51.
(30) انظر البوطي، مرجع سابق، ص 248 وما بعدها.
الشاطبي، الموافقات..، مرجع سابق، حـ2، صـ8 وما بعدها.
(31) انظر الشاطبي، المرجع السابق، صـ 8- 25.
(32) المرجع السابق، نفس الصفحات.
(33) المرجع السابق، نفس الصفحات.
(34) أول عهدنا بهذا الجدول وبنائه كان ضمن رسالة الدكتوراه:
سيف الدين عبد الفتاح، التجديد السياسي، والخبرة الإسلامية: نظرة في الواقع العربي المعاصر، رسالة دكتوراه غير منشورة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 1988، صـ 289.
(35) الآية: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) ( الإسراء/ 70).
(36) انظر في الفروض الكفائية وحراك الحقوق بعض المناقشات حول هذه الأمور في: سيف الدين عبد الفتاح، الجانب السياسي..، ص 372- 376.
(37) انظر في إشارة لهذه الفكرة في: سيف الدين عبد الفتاح، محاضرات في حقوق الإنسان من منظور إسلامي، لطلبة السنة الثانية قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة: كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 1994.
(38) الآية (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) ( آل عمران /75 ).
وهذا الأمر قد يشير قضية التعامل الأيدلوجي والتبشيري بصدد حقوق الإنسان ويضع مقارنة عالمية حقوق الإنسان وخصوصيتها على المحك.
انظر في سياق التعامل مع حقوق الإنسان بالمعنى الأيدلوجي والتبشيري والتعامل معها في نطاق الشعارات: محسن سليم، الوجه السياسي لحقوق الإنسان ومحلها في العلاقات الدولية، الإنسان المعاصر: كتاب دوري يصدر عن: مركز البيان الثقافي، بيروت، العدد (2)، صيف 1995، ص ص 6- 9.
قارن أيضًا: منير شفيق، حول الأسس الفكرية لمفهوم حقوق الإنسان في الغرب، المرجع السابق، ص ص 10- 18.
قارن في هذا المقام Jack Donnelly،cultural relativism and universal human rights، human rights quarterly، vo.l 6، November، 1984، pp.400- 405.
وفى إطار مفهوم حقوق الإنسان كعناصر جامعه تؤكد على التنوعات في إطار الرؤية الكلية:fields belden A. & wolf dieter narr، human right as a holistic concept، human rights quarterly، no 1، 14، 1992، pp.1- 20.
(39) انظر فى هذا المقام جملة بحوثنا حول المدخل المقاصدى وتطبيقاته:
– د. سيف الدين عبد الفتاح، مدخل القيم: إطار مرجعي لدراسة العلاقات الدولية في الإسلام، الجزء الثاني من مشروع العلاقات الدولية في الإسلام (د. نادية مصطفى: مشرف عام)، (القاهرة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1419هـ/ 1999م)، أصول الفقه الحضاري 275-279، النموذج المقاصدي 447-547.
– د. سيف الدين عبد الفتاح، دراسة الظاهرة السياسية من منظور إسلامي (النموذج المقاصدي: حالة بحثية)؛ بحث مقدم إلى الندوة المصرية-الفرنسية التاسعة : “العلوم السياسية والاجتماعية: الآفاق والتوقعات”، (القاهرة: 19-21 فبراير 2000).
– د. سيف الدين عبد الفتاح، المدخل المقاصدي وفقه الواقع، في بحوث ومناقشات الندوة الدولية الافتتاحية لمركز الأمير عبد المحسن بن جلوي للبحوث والدراسات الإسلامية بعنوان (نحو فقه سديد لواقع أمتنا المعاصر)، الشارقة، أكتوبر 2002م/ شعبان 1423هـ.
– د. سيف الدين عبد الفتاح، مدخل لفهم “فتاوى الأمة”، حولية أمتي في العالم، العدد الخامس، الجزء الأول، (القاهرة: مركز الحضارة والدراسات السياسية، 1424هـ/ 2003م)، ص ص 535- 594.
– د. سيف الدين عبد الفتاح، مقاصد ومعايير التنمية: رؤية تأصيلية من المنظور المقاصدي: ورقة أولية، قدمت في مؤتمر “الأمة وأزمة الثقافة والتنمية”- كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، ديسمبر 2004.