تقديم:
أصول الفقه هو: معرفة أدلة الفقه إجمالاً، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد(1). فهو مكوَّن من هذه الأجزاء الثلاثة: العلم بأدلة الفقه الإجمالية، والعلم بكيفية استثمار الأحكام التفصيلية منها، والعلم بحال المجتهد الذي يستنبط تلك الأحكام، وهو ما يمثل الأركان العامة لـ”المنهج العلمي” باعتباره يبحث عن: مصادر البحث، وطرق البحث، وشروط الباحث.
وموضوع علم أصول الفقه: هو الدليل الإجمالي من حيث إثباته للحكم الشرعي، فلابد أن نحافظ على هذا الموضوع أثناء عملية تجديد العلم، أو تجديد طرق تدريسه، أو تجديد عرضه وترتيب موضوعاته، ولابد أن نحافظ أيضا على فائدة ذلك العلم، وإلا فنحن ننشئ علماً جديداً. وفائدة علم أصول الفقه كانت – وينبغي أن تظل- التوصل إلى الحكم الشرعي من الدليل التفصيلي بطريقة منهجية، وإذا أضفنا إلى العلم شيئا ينبغي ألا يكرّ على تلك الفائدة بالبطلان، وإلا خرج العلم عن موضوعه؛ لأنه بذلك يكون قد خلط بين العلوم، فالعلوم تتمايز بموضوعاتها.
هذا، وقد بدأ التأليف في هذا العلم مبكرًا في مطلع مسيرة الحضارة الإسلامية، وكان من أوائل العلوم التي ولدتها القريحة المسلمة؛ منطلقة من الاستجابة للنص الرباني متوخية خدمته وحسن العمل به، ومتفاعلة مع سقف معرفي واسع في مجالات اللغة والعقيدة والأحكام الشرعية، ومع واقعها الحضاري ساعتها. فـ”الرسالة” التي صنفها الإمام الشافعي (ت: 204هـ) رضي الله عنه، أبرزت الأصول باعتبارها علمًا مستقلاً عن الفقه، متميزا بقواعده الكلية المجردة، ومنهاجه الاستدلالي العقلي المعتمد على استيعاب لمنطق الكتاب والسنة ولغتهما ولغة العرب بعامة.
وفي شرح جهود الشافعي أعد الشيخ مصطفى عبد الرازق تلميذ محمد عبده أطروحته للسوربون عن الإمام الشافعي في فاتحة القرن الميلادي الحالي بعد تخرجه من الأزهر سنة 1908، ثم أعلن فكره في الثلاثينيات من القرن حين تولى تدريس الفلسفة في جامعة القاهرة قبل أن يلي مشيخة الأزهر سنتي 1946 و1947، فلفت الأنظار إلى حقائق الفلسفة الإسلامية ومصدرها وواضع منهجها، كما ألف كتابه (الشافعي) وربما أوضحت ذلك بعضُ عباراته في كتابه الذي درَّسه آنذاك بالجامعة (تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية) قال ما خلاصته: ((إن المذاهب الفقهية اتجهت قبل الشافعي إلى جمع المسائل وترتيبها وردها إلى أدلتها التفصيلية خصوصًا عندما تكون أدلتها نصوصًا، أما أهل الحديث فلكثرة اعتمادهم على النص كانوا أكثر تعرضًا لفكرة الدلائل من أهل الرأي… وأتى الشافعي بمذهبه الجديد، وكان قد درس المذهبين وتبين له ما فيهما من نقص فعمل على أن يلافى هذا النقص وقدم إلينا فعلاً من النظام الاستنباطي في (الرسالة) فأخذ بنقض بعض التعريفات من ناحية خروجها عن نظام متحد في الاستنباط وهذه الطريقة فلسفية بحتة، وكان هذا الاتجاه من الشافعي هو اتجاه العقل العلمي الذي لا يعني بالجزئيات والفروع، وكان تفكيره تفكير من ليس يهتم بالجزئيات والتفاريع، بل كانت غايته ضبط الاستدلالات التفصيلية بأصول تجمعها وذلك هو النظر الفلسفي)) (2).
ثم يأتي تلميذ مصطفى عبد الرازق الدكتور علي سامي النشار سنة (1942) مؤلف كتابه الممتع (مناهج البحث عند مفكري الإسلام واكتشاف المنهج العلمي في العالم الإسلامي) ويتكلم بتوسع ومقارنة في الباب الثاني عن موقف الأصوليين من المنطق الأرسطاطاليسي حتى القرن الخامس.
وكأنما فتحت “الرسالة” في أواخر القرن الثاني الهجري الباب لاستخراج ما كان كامنًا في رءوس أهل العلم في مجال الأصول اللازمة لاستنباط الأحكام الفقهية استنباطًا منهجيًّا يشترك فيه الباحثون سواء داخل مذهب بعينه أو بعموم. فعبر مسيرة طويلة واصل العلماء التأليف في أصول الفقه على طرائق متعددة، اشتهر منها طريقة المتكلمين، وطريقة الفقهاء (الأحناف بالأساس) ثم منهج المتأخرين الجامع بين الطريقتين، بالإضافة إلى مداخل نوعية من قبيل طريقة تخريج الفروع على الأصول، ومدخل المقاصد الشرعية(3).
وقد مضى التأليف على أساس مصنف أول – في كل طريقة أومذهب على حدة- يعتمده اللاحقون ويسمونه “متنًا” ويبنون عليه: شرحًا وتلخيصًا للشرح، ثم شرحًا للتلخيص، ثم تؤلف حاشيةٌ على الشرح، فتقارير وتعليقات، تراوحت الكتابات فيها بين إطناب وإيجاز، وبين تيسير العبارة وجلائها أو إلغازها وتكثيفها؛ الأمر الذي أسهم في استغلاق أبواب هذا العلم أمام طبقة عريضة من المتعلمين على الطريقة غير الموروثة. من هنا لهجت بمطالب التجديد – بل التطوير والتغيير- ألسنة كثيرة، وتحركت إليه أقلام متنوعة؛ ما بين محافظة قانعة بالحال ومجددة آملة في التحسين، وما بين جزئية التجديد وأخرى تبغي تغييرًا كليًّا في مضمون العلم وبنيانه، الأمر الذي يحتاج إل نبذة تاريخية موجزة تبين معالم هذه الحالة المعاصرة من مطالبات التجديد ومحاولاته فيما يتعلق بأصول الفقه.
أولاً- معالم الحالة التجديدية المعاصرة:
بدأت الدعوة إلى تجديد أصول الفقه منذ زمن ليس بالقصير ضمن الدعوة إلى تجديد العلوم بصفة عامة، فقد رأينا كلمة “تجديد” تظهر عند رفاعة الطهطاوي في مقالاته (القول السديد في التجديد والتقليد) التي طبعت بمصر سنة 1287هـ في كتاب تحت عنوان “القول السديد في الاجتهاد والتقليد” مستبدلاً كلمة الاجتهاد بالتجديد(4). أما التجديد في أصول الفقه فقد قدمت فيه محاولات عبر القرن المنصرم على أنحاء يتعلق بعضها بأسلوب عرض العلم وتدريسه، ويتعلق بعضها بمسائله، ومنها ما يتعلق بهيكل العلم والكلام في إعادة هيكلته وبنائه. ونعرض بإيجاز لأطراف من هذه المحاولات التي استغرقت القرن الرابع عشر الهجري على ثلاثة أنحاء:
(1) تجديد أسلوب العرض:
برزت دعوة تجديد الأصول بخاصة في أوائل القرن العشرين على أيدي بعض العلماء المدرسين بمدرسة القضاء الشرعي ودار العلوم، وكان المعنيُّ بالتجديد هو تجديد الأسلوب وطريقة العرض؛ فألّف الشيخ محمد الخضري -من مدرسي القضاء الشرعي- كتاب (أصول الفقه) وطَبَعَه عام 1911م- 1329هـ (مطبعة الجمالية)، وكان قد درّسه بتلك المدرسة ابتداءً من سنة 1906م. وكان الشيخ الخضري نفسه قد أشار في آخر كتابه (تاريخ التشريع) إلى عدم جدوى التدريس بطريقة المتون والحواشي التي تجعل التلميذ وشيخه سواءً لا فرق بينهما إلا كثرة الفروع في رأس هذا عن ذلك(5).
هذا، على أنه قد أَلَّفَ -قبل ذلك ولنفس الغرض ولكن بصورة مختصرة- سلطان محمد علي المدرس بدار العلوم كتابه (خلاصة القول) والذي طبع بمطبعة الواعظ بالقاهرة، وكان يمثل محاولة مبكرة في هذا الاتجاه.
ثم توالت المجهودات في هذا الطريق فألَّفَ محمد بك إبراهيم والشيخ عبد الوهاب خلاَّف والشيخ محمد أبو زهرة وغيرهم في النصف الأول من القرن. ثم جاءت جهود مدرسي جامعة الأزهر خاصة بعد دعوة الشيخ محمد المدني لعلماء كلية الشريعة إلى التأليف، وعدم الركون إلى تدريس القديم من المتون والشروح. ومع قانون 103 لسنة 1961م الخاص بإعادة تنظيم الأزهر وإنشاء جامعته كثرت الرسائل العلمية والكتب المستقلة والميسرة من علماء الأزهر في هذا الفن بما يشكل مكتبة متكاملة في جميع موضوعاته الموروثة، كما ساهم “الحقوقيون” من تلامذة خلاّف وأبي زهرة وطبقتهم في ذلك مساهمة كبيرة.
وهذا النوع من التجديد لم يلقَ اعتراضًا قويًّا من المشتغلين بالأصول، على أن كثيرًا من العلماء شككوا في جدواه، ورأوا أن الدراسة والكتابة المرتبطة بالكتب الموروثة أكثر دقة وعلمًا، فسار اتجاه موازٍ لذلك الاتجاه الأول. ويلخص هذا الاتجاه ويزكيه الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور حيث يقول: “هذا الذي أقدمه على استحياء، لا أزعم فيه أني جئت بجديد، وهل في أصول الفقه اليوم بعد كتابات فحول الأقدمين من جديد؟ بل كل ما هو منّي في وجيزي هذا التبسيط مع التحقيق للمسائل العلمية، والرجوع في النقول إلى أمهات المصادر بقدر الوسع والطاقة، وفوق كل ذي علم عليم”. ثم يقول: “إن التجديد في الكتابة المعاصرة في هذا الفن ألا وهو أصول الفقه ينبغي أن يكون في التحقيق العلمي للمسائل وعرض القضايا الأصولية عرضًا موضوعيًا مبسطًا قريب المأخذ وهو ما سعيت إليه”(6).
هذا، وقد آل التجديد في هذه الناحية إلى إنتاج حالة من التدافع بين مصالح استبقاء الاتصال بالقديم من جهة ومصالح التجديد للتواصل مع العقلية المعاصرة من جهة أخرى؛ الأمر الذي تبرز فيه أهمية اتساع الصدور للجمع بين المصلحتين، والسماح للفكر الإبداعي والجهد الابتكاري أن يجرّب ويفيد ويستفيد.
(2) التجديد في مسائل الأصول:
هذا، ومما كان شائعًا بين علماء الأزهر أن القسمة العقلية للآراء الأصولية قد انتهت فلا مكان لمزيد ولا لرأي جديد في مسائل الأصول؛ حيث قد قيل كل ما يمكن أن يقال، فما من رأي يظنه صاحبه جديدًا وتكون له وجاهة إلا سنده عند الأقدمين. على أن هناك من ادّعى خلاف ذلك ونادى بالتجديد بأسلوب آخر؛ وهو أن يأتي في مسائل الأصول برأي لم يُسبق إليه أو على الأقل لم نره فيما بين أيدينا من كتب الأصول. ومثال ذلك ما ذهب إليه العلامة المحدِّث عبد الله الصديق الغماري في كتابه (سبيل التوفيق) (7). كذلك كان ممن تعرض لبعض مسائل أصول الفقه عبد العال الجابري في كتابه (لا نسخ في القرآن)؛ فأنكر النسخ كلَّه برمته، وهذا الإنكار التام لم يُنقل إلا عن أبي مسلم الأصبهاني المعتزلي، ومع ذلك فقد قيل إن مذهب أبي مسلم لم يخالف ما عليه أهل السُّنة؛ وعلى ذلك فرأيُ عبد العال جديد تمامًا.
وممن عالج أيضًا بعض مسائل علم الأصول بطريقة جديدة في التناول والتطبيق الدكتور أحمد حمد؛ حيث أثار سؤالاً: “.. هل دراسة الإجماع مجدية من الناحية العملية حيث يؤخذ به في تقرير الأحكام وإصدار التشريعات ووضع القوانين ويبقى مصدرًا من مصادر الشريعة يطبق كما كان يطبق في عهد الصحابة رضوان الله عليهم؟ أو تكون دراسته مجرد نظرية ظهرت وإنما تعذر الآن تطبيقها إلا أن فيها على كل حال غذاء عقليًا وثروة فكرية”؟(8).
وبطريقة ثالثة في التجديد نرى في الأربعينات دعوى الشيخ عبد الجليل عيسى؛ حيث تكلم عن أحد مباحث أصول الفقه المهمة؛ وهو “حُجّيّة السُّنة”، ودعا الشيخ إلى إعادة النظر في هذا الباب في كتابه (اجتهاد الرسول)، والذي كان له أثر كبير في الأوساط الدينية والأدبية. ثم في السبعينيات دخل على هذا الخط الشيخ عبد المنعم النمر في كتاب (السنة والتشريع). هذا وقد ردَّ على هذا الاتجاه كثيرون منهم الشيخ عبد الغني عبد الخالق في كتابه الماتع (حُجّية السُّنة)؛ حيث أثبت إجماع المسلمين بجميع فرقهم على حُجّيّة السُّنة(9).
ولقد رأينا بعد ذلك محاولات بعضها تنظيري وبعضها عملي لإنكار حجَّية السُّنة، وكانت النتائج من الخطورة بمكانٍ قوَّى جانب القائلين بالحجية لما رأوه من ضياع الدين بإضاعة السُّنة.
غير أنه قد ظهر مَن يشكك بثبوت السُّنة لا بحجّيتها، وهم درجات في ذلك؛ فمنهم أحد علماء الأزهر من غير المدرسين وهو محمود أبو رية في كتابه (أضواء على السُّنة المحمدية) والذي تعرض فيه لجرح سيدنا أبي هريرة (رضي الله عنه) واتهمه بالكذب، وقد رُدّ عليه في أكثر من عشرة كتب. وكذلك برز – بصورة أخف كثيرًا ومن مدخل مختلف- في الكلام عن ثبوت السنة أو عما أشار إليه المحدثون بالصحة من المرويات، الشيخُ محمد الغزالي بكتابه (السنة بين أهل الفقه وأهل الحديث). والدكتور يوسف القرضاوي في كتابه (كيف نتعامل مع السنة).
ويمكن القول إن التعامل مع ذلك المصدر قد دار حول القواعد الحاكمة على صحة الثبوت من عدمه: فمنهم من يقدح في الرواية الأصلية للصحابي، ومنهم من يعرض الأمر على القرآن، وثالث على المعقول، ورابع على مدى تحقيق المصالح من جراء الالتزام بالحديث.
فيرى الشيخ عبد الجليل عيسى أن اجتهادات الرسول غير ملزِمة، ويمكن مخالفتها، وهذا يعني من الناحية العملية أن مصدر السُّنة قد ضاق من جهة الاحتجاج به، وهذا أيضًا يتيح ساحة أكبر لإعمال القياس والفتوى بمقتضى الأصول العامة للشريعة والمقاصد الكلية، وهو الأمر الذي قد يشابه -من جهةٍ- ما كان عليه أصحاب الرأي حيث قلَّت مروياتهم وكثرت أقيستهم، وهذا في مقابلة أصحاب الحديث بمدرسة المدينة والذين كثرت مروياتهم فقل القول بالرأي عندهم، ولكن ما نحن بصدده الآن لا يتعلق بمسألة ثبوت السنة من عدمه كما كان عند الأوائل، بل يتعلق بما بعد ثبوتها: هل هي حُجَّة؟(10)
أما الشيخ أبو رية فقد شكَّك في ثبوت المرويّ ولكن لا من قبيل الأسانيد والمتون بنقص مَن بعد الصحابة ونقدهم أو بمخالفة النص الوارد لما هو أقوى منه نقلاً أو دلالةً، بل في الطعن في الصحابة أنفسهم مما صوره بصورة المعتدي على رجال الله (رضي الله عنهم) كما هو مستقر في ضمير عموم المسلمين، فأصبح كلامه علامة على غير الملتزم والمنتمي للاتجاه الإسلامي.
أما الشيخ محمد الغزالي فإنه نحا منحى آخر غيرهما؛ وهو تطبيق مساحة من علوم الحديث تُعَد مهجورة في العمل وإن كانت مقررة في النظر، فقام بالبحث في المتون لمعرفة الشاذ المردود من المتسق المقبول. وقد يختلف معه المختلفون في مدى صحة تطبيق تلك القواعد أو إقرار وجود تعارض من عدمه، ولكن سيظل كلام الشيخ في إطار القواعد المقررة الموروثة وتحت مظلتها. والتجديد هنا ليس تجديدًا بالمعنى المتبادر عند إطلاق ذلك اللفظ، حيث قد يصل الشيخ إلى أحكام جديدة لكن بالمنهج القديم وتحت سلطانه. ويقع هذا ضمن البحث بتأنٍّ وفهم(11).
أما الشيخ عبد المنعم النمر فيلخص رأيه في كتاب (السنة والتشريع) بعدما قدّم كلام القدماء في تقسيماتهم للسُّنة ومدى حُجّية كل قسم في التشريع العام للمسلمين حتى يصل إلى مقصود تلك المقدمة؛ وهو جانب المعاملات في الفقه الإسلامي. ويمكن أن نطلق على هذا الاتجاه: تضييق السنة؛ وهو اتجاه مرفوض تمامًا من جمهور علماء الشريعة اليوم، ويعتمد على الدعوة إليه كثير من المفكرين المسلمين ويقولون إن فيه كثيرًا من السعة وأسباب مرونة التشريع الإسلامي(12).
ويأتي د. يوسف القرضاوي ليلقي مزيدًا من الضوء على المسألة، ولكن بمعالم وضوابط كما ذكر في عنوان الكتاب (كيف نتعامل مع السنة النبوية: معالم وضوابط)، ولكن بطريقة لا تعدو -في الواقع ونهاية الأمر- إلا أن تكون من قبيل الدعوة إلى حسن تطبيق القواعد الموروثة(13).
(3) التجديد في هيكل العلم:
وهناك دعوى أخرى -على مستوى آخر لتجديد أصول الفقه- برزت في السبعينيات تدعو إلى إعادة هيكلة أصول الفقه مرة أخرى، نجد أطرافًا منها عند كتّاب مختلفين من أمثال: د. حسن الترابي، د. طه جابرالعلواني، د. جمال الدين عطية، د. محمد سليم العوا وغيرهم، وهؤلاء مختلفون تمامًا في تصور التجديد المراد.
ودعوة الدكتور حسن الترابي غير واضحة المعالم؛ وذلك أنه تكلم (عن) المسألة ولم يتكلم (في) المسألة.
أما د. محمد سليم العوا فقد خطا خطوة أخرى في مقالة نشرها بعنوان (السُّنة التشريعية وغير التشريعية) (14)؛ حيث تكلم فيها في صميم المسألة بالتفصيل. وقد بدا العوا هنا أقرب إلى الواقع (وإلى مدرسة أخرى سنتناولها لاحقًا) في مسألة التجديد من د. الترابي الذي يدل مردود كلامه وفحواه على أن علم الأصول الموروث يجب أن يتغير، فكلام العوَّا معناه أنه يجب أن ننظر فيه ونتخير ما قد تبين لنا مع مرور العصور أنه مراد الله تعالى. وعلى ذلك فتوصيف المشكلة مختلف بين هذين الاتجاهين فالترابي يرى وجوب تغيير هيكل ذلك العلم والعوا يرى وجوب إعادة النظر في تطبيقاته وهما جد مختلفان.
أما د. جمال الدين عطية فالتجديد في أصول الفقه عنده عميق وواسع لكن لا يتسع المجال لعرض آرائه المهمة فيه، والتي تمثل خريطة مهمة يمكن تلخيص معالمها في:
1- إعادة هيكلة العلم.
2- الاستفادة من المنهج الأصولي في العلوم الاجتماعية والإنسانية الحديثة.
3- الاستفادة من مناهج العلوم الاجتماعية في علم أصول الفقه.
وللدكتور جمال الدين عطية أيضًا جهود في بيان علاقة الفقه بالعلوم الاجتماعية ومدى إمكانية استفادة الأصول منها واستفادة هذه العلوم الاجتماعية من الأصول(15).
أما منهج د. طه جابر العلواني في الدعوة إلى تجديد أصول الفقه فهي مهمة أيضًا، ويمكن أن نلخصها فيما يلي:
1- إعادة النظر في شروط وكيفية الاجتهاد، وكذلك الإجماع.
2- استخدام الأصول لأدوات المنهج التجريبي المطبّق اليوم.
3- استخدام العلوم الاجتماعية والإنسانية لأدوات أصول الفقه الموروث.
وفي خلاصة هذا يقول د. طه ما يمكن أن يكون عنوانًا لكل القضية: “ولو توصلنا إلى هذا وأوجدنا نوعًا من التكامل بين المنهج الأصولي في مجال الوحي والمنهج العلمي التجريبي فربما يؤدي هذا إلى إصلاح وتغطية المساحات الخالية بما لم تتعرض منه العلوم الإنسانية والاجتماعية وإلى إصلاح قضيتنا الفقهية التي نعاني منها”(16).
إن محاولات د. طه جابر ود. جمال عطية خطت خطوة أخرى أبعد وأعمق؛ حيث لم يقتصر الأمر عندهما على مجرد الوصف أو الدعوة إلى اعتبار منهج الأصوليين واحترامه، بل إلى محاولة إدخاله في حلبة صراع المناهج في السوق الفكرية الراهنة.
وتجدر الإشارة إلى مسارين آخرين مختلفين عما سبق في دعواهما للتجديد في هذا المجال ولا يتسع المقام للتفصيل فيهما:
1- التجديد في الأصول عند الشيعة: وهو يأخذ صبغة خاصة؛ إذ اعتبر الشيعةُ “الواقع المتغير” جزءًا من أصولهم الفقهية؛ الأمر الذي جعل التجديد الأصولي لازمة تاريخية للفقه الشيعي وأصوله. وهي تجربة مهمة تحتاج إلى دراسة واسعة لها ولإمكانات الاستفادة منها في مسار التجديد الراهن(17).
2- التجديد الحداثي من مداخل وقراءات تتميز بإعمال أفكار ونظريات غربية؛ تتم بها إعادة قراءة التراث بل الدين الإسلامي، قراءات تتراوح بين العمق وبين الإغراب والتغريب، وتتسم في معظمها بالجرأة والخروج بنتائج يصعب التسليم بها للوهلة الأولى، بل قد تستفز بسبب أسلوبها غير التقليدي دواعي الحذر والخوف من إثارة أفكارٍ تغبش على الحالة التجديدية التي نرجو لها الاستمرار وتحقيق تراكم مفيد(18).
ومن الواضح أن هذه النبذة كانت تحتاج إلى الكثير من النقول والشواهد التي توضح حقائق تلك المحاولات المختلفة، وقد أشرنا إلى بعض منها في دراسات سابقة(19)، ونكتفي بهذا القدر إلماحًا إلى معالم الخارطة المتعلقة بالتجديد في الأصول عبر القرن.
ولكن الأمر ليس سيئًا أو مضرًّا بالضرورة ولا من كل جانب كما يمكن أن يراه بعضنا خاصة ممن يرتابون ويتخوفون من امتداد أيادٍ وأقلام غير محبة للتراث إلى عمليات التجديد. وكثيرًا ما ترى تشبيهات لهذه الحالة المتعلقة بالتجديد بالحالة التي كان عليها المسلمون حين أرادوا أن يأخذوا من منطق اليونان وفلسفتهم في مرقى حضارتنا، وما ثار حينها من الجدل حول أصول هذه العملية ومناهجها والتشكيك فيمن يأخذ عن الحضارات الأخرى وفيما يؤخذ.. الخ هذه القصة المعلومة.
لكن من ناحية أخرى، يمكن أن نرى أن هذه الحالة هي التي بنت الحضارة، وهي التي ولَّدت العلوم، وحركت الأذهان، خاصة في ظل التسامح الفكري بين كل المدارس، ومع سيادة الاحترام بين مختلف الآراء وأصحاب الآراء (طالما هي في مقام الرأي المشترك كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولا تتعدى على القطعيات). ولذلك اختلف عبر العصور موقف علماء المسلمين ومفكريهم من المنطق مثلا وتعلمه وتعليمه:
فـ”ابن الصلاح والنواوي حرّما
والبعض قال ينبغي أن يُعلما
والقولة الشهيرة الصحيحـهْ
جـوازه لكـامل القريحـهْ
ممـارس السـنة والكـتابِ
ليهـتدي به إلى الصـوابِ”.
إذن القضية أن هذه الحالة من التفكير ومن التثوير للأفكار التي يختلف فيها الناس وتتمخض في النهاية عن توليد العلوم هي التي تبني الحضارة وإن اشتملت على بعض من المخاوف المشروعة وتراءت على جنباتها مخاطرات ومغامرات. بل هكذا تمضي الحياة في أهم محطاتها. فالمرأة حين تحمل ثم تضع جنينها تمارس مخاطرةً ما، وهي مخاطرة تصل إلى تهديد حياتها، ولكنها في النهاية تسعد ويسعد الناس بالمولود الجديد وبالحياة الجديدة التي خرجت من أحشائها. هذا الحراك الفكري، وإن اشتمل على مخاطر ومزالق وغرائب؛ فإنه دائمًا يحمل في طياته بشرى للخير وللنتاج الفكري القويّ.
ومن الحقائق أيضًا أن هناك فرقًا بين الفقه والفكر، فالفقه موضوعه (فعل المكلف) ويهتم علم الفقه بوصف أفعال المكلفين بالإقدام عليها أو الإحجام عنها، وأن هذا حلال وهذا حرام بأحكام شرعية خمسة وهي الواجب، والمندوب، والحرام، والمكروه، والمباح. أما الفكر فموضوعه (الواقع المعيش النسبي المركب المتغير) وهذا الفكر يرتب فيه الإنسان أمورًا معلومة كمقدمات ليتوصل بها إلى شيء مجهول كنتيجة، والعملية الفكرية هي الجسر الذي بين الشرع والواقع، ولذلك تحتاج إلى علوم تجدد وتولد كل حين حيث إن طبيعة الواقع الذي نريد أن ندركه شديدة التعقيد والتغيير. كما أن هناك فارقًا بين الفكر الذي يتأسس على العلم، وبين التهويم الذي يقوم على الأهواء بلا منهجية ولا أصول مشتركة. والساحة التجديدية الآن تعج بأطياف أهل العلم وأهل الفكر والمهوِّمين، الأمر الذي يؤثر في نفسية التعامل مع التجديد والجديد.
ونحن – من خلال ما ينمو داخلنا من حسٍّ بمثل هذه المسائل ناجم عن معاركتها ردحًا من الزمن- نلمح مبشرات في جوف المخاوف؛ منها مثلاً اتجاه الحالة التجديدية نحو ساحة “المنهج” حتى إن كان اتجاها بالسلب في أوله، لكننا نجد في أنفسنا شعورًا بأن الجدال بالقرب من المنهج أفضل من الجدال في المسائل والجزئيات والثمار منقطعة عن الأصول والأساسات.
ولتوضيح ذلك نضرب مثلا بما يجري في الغرب من مراجعات ودراسات نقدية على أيدي مسلمين يعيشون هناك ويبحثون عن مناهج جديدة يعبرون فيها عن كونهم مسلمين من جهة وعن قدرات إسلامهم على العيش في هذه البيئات بأفكارها ونظمها وممارساتها من جهة أخرى؛ فيتجهون إلى التراث وعلومه وأفكاره بالنقد والمراجعة، وإن كان أكثرهم –للأسف- يعمَد إلى إبداء المؤاخذات على أكثر تراثنا والنعي على كاتبيه وتحميلهم مغبة ما وصلت إليه أمة الإسلام اليوم وحضارتها.
هذه الحالة مقلقة جدًّا لأكثر من يتابعونها، وتتضح في اتجاهات من قبيل حركات النسوية والجندر المتطرفة -على سبيل المثال- والتي لا تنفك ترمي تراثنا بالنقائص وتصمه بالبداوة الجافة والأبوية المتسلطة والذكورية المستبدة…الخ، وقد انتقلت في الآونة الأخيرة من مرحلة نقد الأفكار الجزئية المتناثرة إلى مرحلة نقد الأصول والمنهجيات التي بُني عليها هذا الفكر، وبدأت تظهر محاولات منهم لوضع ما يشبه “أصول فقه جديدة” يعتبرون فيها القرآن الكريم المصدر الأوحد للفقه والتشريع مع التشكيك الكبير في السُّنة والمرويات، ويرون أن طرق الفهم الأنسب للقرآن تأتي من النظريات الغربية في تحليل اللغة والخطاب والنص والمضمون(20). هذه الحالة التي تقلق أكثرنا تدخل -باقترابها من فضاء “المنهج”- في نفق أخير يجلي عوارها ويصفي طيبها من خبيثها؛ لأنه تتجلى فيها النوايا والطوايا، وتتكشف فيها السبل ومآلات السبل، ويسهل تطبيق الفرقان الذي يفصل في هذا الجدال.
الفاصل في ذلك هو: هل يكرّ هذا التجديد أو التوجه بالبطلان على الماضي ويؤول إلى قتل التراث، أم أنه يريد أن ينفض عنه الغبار وأن يُكمله وأن يجد له مكانًا في العالم المعاصر؟ إن استيعاب التراث شرط منهجي للتعامل معه، أما تجاوزه -بغير استيعاب وبمعنى إهماله لا إعماله-فهذا يعتبر انهيارًا من وجهة نظر علم المنهج (الميثودولوجي) في الشرق والغرب؛ وهو موقف أيديولوجي صرف لا علاقة له بـ”المنهج” اللهم إلا بالمناهج الثلاثة المرفوضة: القبول المطلق، والرفض المطلق، والانتقاء العشوائي. وكلها مناهج مرفوضة لم تبذل جهدًا حقيقيًّا في التعرف والتعلم والتأسيس ومبناها عدمي وصراعي يتجلى في عناوينها “التجديدية”(!!) من مثل: اللاتقليدية، اللاذكوري، اللادولة،.. ومن ثم تراجع الكثيرون عن تبنيها أو تشجيعها مما تبدى من مآلات الفوضى والاقتتال الفكري والحضاري التي تنذر بها. وهذه المناهج قد وقعت في قضية أخرى وهي التعميم قبل الاستقراء بل ربما قبل الاطلاع أو المعرفة الأولية بما عممت عليه أو رفضته؛ وهو ما يتفق مع أدنى حسٍّ علمي منهجي قديم أو حديث.
فالمنهج هو الذي يَقبل – أو تُقبل من خلاله- كافة أنواع العصف الذهني والحوار والمناقشة؛ وهو “منهج التأصيل”. والتأصيل يفترض القبول المنهجي، ولا يقف عند الزمانيات أو ما يتعلق بالسياق الزماني والمكاني المخصوص، ويسعى التأصيل إلى أن يستفيد – بنسق مفتوح- من كل الخبرات، ويتغيَّا الالتزام لا التفلت.
كل ذلك يبرز بوضوح أنه كلما اقتربنا من الحوار في المناهج والأصول فإن الكثير من إشكالات الحوار حول التجديد في التراث بعامة تكون أقرب إلى التوافق حولها، بشرط أن يكون حوارًا يبتغى به وجه الله تعالى وتطلب فيه الحقيقة وتتجرد فيه النفوس من الأهواء المطاعة وإعجاب كل ذي رأي برأيه.
الخلاصة: يتبين من ذلك العرض أن الدعوى إلى التجديد أخذت صورًا وهي:
1- إعادة صياغة القديم بأسلوب جديد.
2- إعادة النظر في مسائله، وفتح باب القول الجديد في مسائله الموروثة، والسماح بالرأي الجديد الذي لم يُقل من قبل، مع الحفاظ على هيكل ذلك العلم كما هو.
3- إعادة النظر في منهج تفعيل وتشغيل القواعد الموروثة لذلك العلم عند التطبيق، مع الاحتفاظ غالبًا بالجانب النظري للمسائل.
4- إعادة بناء هيكل ذلك العلم من جديد لعله أن تظهر لنا مسائل جديدة أو فهم أعمق أو طريقة أحسن في التعامل السريع مع الوقائع المحدثة المتطورة، وهذه الطريقة لم تقدم حتى الآن تصورًا متكاملاً للهيكل الجديد، بل هي دعوة إلى فعل ذلك مع ضرب بعض الأمثلة على استحياء ومع تفاوت بين الداعين إلى ذلك في مفهوم “إعادة الهيكلة” بل في فهم القضية برمّتها.
5- جعل التجديد من طبيعة ذلك العلم ؛ وهو ما عليه الشيعة الإمامية من القدم وهم على ذلك حتى الآن. والتجديد له معنى عندهم جعلنا نعده في زمرة مستقلة عن الزمر السابقة، كما أشرنا.
6- الدعوى لاستفادة متبادلة بين العلوم الاجتماعية بمناهجها وأصول الفقه بمناهجه؛ بحيث يأخذ كل من الآخر لإحداث التطوير الشامل.
7- كما أن هناك “اتجاه الرفض للأصول” وهو مرفوض لما يؤول إليه من انهيار الشريعة بالكلية أصولها وفروعها.
ثانيًا- كيف نرى معالم التجديد؟
لقد درستُ علم الأصول تفصيلاً وهو التخصص الدقيق لمجال درسي وأرى: أن علم الأصول الذي بين أيدينا يشتمل على تعريفات وقواعد ومسائل، وأن التجديد “في” أصول الفقه ينال هذه الأركان الثلاثة، والتي يمكن تناولها على النحو التالي:
(أ) التعريفات وإشكالية المفاهيم:
فمثلاً تعريف الكتاب بأنه “كلام الله المنـزَّل على نبيِّه محمَّد صلى الله عليه وسلم، المتحدى بأقصر سورة منه، المنقول إلينا بالتواتر بين دفتي المصحف”، أو أن العام: هو “اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بوضع واحد”، وأن القياس هو “إثبات مثل حكم معلوم في معلوم آخر لاشتراكهما في علة الحكم عند المثبت”.. إلخ ما هنالك من تعاريف وحدود لمفاهيم جارية في ذلك العلم.
هذه التعريفات ينبغي – في رأيي- ألا تُغيَّر أو تترك عرضة لمغامرات التلاعب بها كما حاول بعضهم باسم التحليل الفينومونولوجي أو ما شابه، وذلك للدقة المتناهية التي صيغت بها هذه التعريفات، ولما وصلت إليه صياغتها من شمول كل المسائل والمباحث التي يعالجها كل تعريف منها، وهي أيضًا ضابطة ضبطًا شديدًا لهيكل العلم ومتسقة مع بعضها البعض من أول العلم إلى آخره؛ مما يجعل تغييرها أمرًا بالغ الصعوبة إن لم يكن مستحيلاً، والمؤكد أن فيه بترًا لتواصل مفاهيم السلف مع مفاهيم الخلف. ولكن يمكن خدمة هذا القسم بمعاجم تبين تطور دلالاته، والمدارس المختلفة إزاء كل تعريف، مع تعريف المصطلحات غير الأصولية التي استعملت فيه لمزيد من الفهم العميق، وتوفير الوقت والجهد على القارئ المعاصر.
ونفصل بعض الشيء في هذه الجزئية بناء على ما أفرزته الحالة التجديدية من إشكالات في هذا الصدد.
فمما يثار في الذهن الآن أن مسألة تجديد أصول الفقه هي حالة نصفها في “الفكر” بما يتسم به من سيولة ونصفها الآخر في “العلم” المحدد المنضبط كما سبق أن أشرنا إلى الفارق بين العلم والفكر والفقه والتهويم. وكون نصف المسألة في الفكر قد أنتج من حولها مجموعة مما أضحى يسمى بـ”المفاهيم” وهي ليست من مصطلحات الفقهاء أو الأصوليين، حتى كلمة “التجديد” نفسها عوملت معاملة هذا “المفهوم”(!!) بالمعنى المترجم عن كلمة concept بالإنجليزية، والمفهوم هنا قريب من “المصطلح” لكن ليس هو هو بالمعنى المعهود عندنا، ومن ثم نجد أسئلة تطرح من قبيل: هل -في هذه المعمعة حول تجديد أصول الفقه- من المستحسن الاصطلاح أي الاتفاق حول بعض هذه “المفاهيم”؟ وما هي المنهجية التي يتم بها تحويل “المفاهيم” إلى مصطلحات؟ وهل هناك مصطلحات تراخت قوتها الاصطلاحية حتى صارت كالمفاهيم مثل مصطلح التجديد نفسه؟
والذي نراه أنه يجب أولاً تحرير دلالة كلمة “المفهوم” والتمييز بين معناها الذي درجنا عليه في الأصول وبين ما استجد وشاع اليوم في العلوم الاجتماعية والإنسانية.
فالتعريفات في أصول الفقه وفي علوم التراث تمثل مصطلحًا إزاء معنى. فالـ”مصطلح” كلمة لها معنى معين محدد يتم الاتفاق عليه ضمن علمٍ أو فنٍّ ما وعند جماعة علمية معينة، أما “المفهوم” (بالمعنى الأصولي وليس الكونسيبت(21) concept) فهو المعنى الموضوع أو الذي يمكن أن يُفهم من منطوق أو نصٍّ باتباع قواعد الفهم، وقد يقبل المفهوم بالمنطوق وقد يقابل بالـ”ماصدق” المتعلق به؛ أي الواقع.
وفي أصول الفقه يمكن أن تحصي أكثر من ثلاثمائة مصطلح علمي مثل: الخاص، والعام، والمطلق، والمقيد، والناسخ والمنسوخ، والكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس… وهكذا. ولكي نصل إلى الفهم العميق لهذه الثلاثمائة كلمة فإننا قد نحتاج إلى نحو خمسمائة مصطلح آخر من علوم أخرى خادمة، كعلم التوحيد وعلم المنطق، وعلم الحكمة العالي التي يقال عنها الفلسفة، وعلم الفقه وعلم اللغة. فالأصولي المتمكن يكون ملمًّا بالمصطلحات الثمانمائة: الأصولية الأساسية والخادمة لها.
وقد جُمع من المصطلحات الثلاثمائة الأساسية نحوٌ من (240) مصطلحًا في معجم أصدره مجمع اللغة العربية في مصر، تم فيها بيان معنى كل مصطلح منها عند الأصوليين. وبعد هذا المعجم جرت محاولات مشابهة تحت عناوين مثل (معجم مصطلحات الأصول) كلها صبَّ في ذات المقصود، ولكن كثيرًا منها خلط بين المصطلحات الأساسية في الأصول والمصطلحات الخادمة؛ ذلك لأن المصطلحات الخادمة شاعت في كتب الأصوليين -تأكيدًا من الأصوليين على الفهم العميق- لدرجة أنها خلطت بالمصطلح الأصولي خلطًا وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من المؤلَّف الأصولي. فينبغي التمييز الواعي في معجم مصطلحات الأصول بين المصطلحات الأصولية الأساسية وبين المصطلحات المستعارة من علوم أخرى والمذكورة في كتب الأصول على سبيل الخدمة فقط؛ وذلك تيسيرا على الدارسين.
وسواء تكلمنا عن ثلاثمائة مصطلح أو عن ثمانمائة، إلا أننا – لكي نحافظ على علم أصول الفقه- ينبغي أن نلتزم بهذه المصطلحات ونحافظ عليها؛ لأن الغرض من التجديد ليس هو هدم الماضي ولا إنشاء علم جديد بلا حاجة لذلك، إنما الغرض من التجديد هو أن يستفيد علم أصول الفقه من العلوم الأخرى التي شاعت وذاعت في عصرنا بعدما نتمكن منها، وخاصة العلوم التي تدرك الواقع كالعلوم الاجتماعية والإنسانية، هذا من ناحية، وأن يفيد علم أصول الفقه هذه العلوم بما عنده. فنحن نريد لعلم أصول الفقه أن ينمو ويزيد، لا أن نبدأه من جديد مبطلين لكل ما ورثناه بلا داعٍ اللهم إلا داعي الأهواء والظنون.
فهذا التراث الأصولي كنـز، وخبرة عملية عميقة واسعة قابلة لأن تفيد في مواضع عدة؛ منها على سبيل المثال الاستفادة من الأصول في إنشاء أداة لفهم النصوص؛ ليس فقط النصوص الشرعية ولكن أيضًا نصوص الناس – الخاصة والعامة – في إنشاءاتهم اللغوية؛ ولذلك فُسِّرت بالاستفادة من أصول الفقه حججُ الأوقاف والعقود الجارية بين الناس كعقود البيع والشراء والزواج والطلاق، ووثائق المعاملات والوصايا والرهون والهبات غيرها، بل حتى النصوص الأدبية والسياسية والفكرية والنصوص والخطابات العابرة للحضارات والثقافات، أمكن لعلم أصول الفقه – ولا يزال- أن يعمق التحليل فيها والفهم عنها.
أما بالنسبة لقضية “المفاهيم” بالمعنى الجاري اليوم والتي يقصد بها كلمات معينة تقع بين المصطلح المتفق على دلالته وبين الكلمة العادية التي يستعملها الناس ولا تفهم إلا بسياقاتها وتتسم بتعدد الدلالات والتأثر بالثقافات والمذاهب الفكرية ؛ وهي كلمات تفرز معظمها العلوم الاجتماعية والإنسانية الحديثة كعلوم السياسة والاجتماع والاقتصاد والتربية وعلم النفس والتاريخ، وأحيانا تكرسها ما تسمى بوسائل الإعلام من مثل مفاهيم: النظرية، والمقترب، والتحليل، والنموذج، والعقلانية، والحرية، والفردية، والأيديولوجية، وحقوق الإنسان، والعولمة، والثقافة والحضارة والمدنية، و..الخ عدد لا يحصى من هذه الكلمات المهمة، فهذه “المفاهيم” دخلَ الكثير منها إلى لغة الحالة التجديدية وخطاباتها، واستَعملَ عدد ممن يتكلم في تجديد أصول الفقه كلماتٍ منها استعمالاتٍ أساسية أسهمت في إضفاء مزيد من السيولة أو قل: الحراك الواسع، على خطابات التجديد في الأصول.
ويمكن أن نرى هذه المفاهيم على ضربين رئيسين:
أحدهما- مفاهيم لها جذور أو علاقة بمصطلحات الأصول أو مصطحات علوم التراث الراسخة؛ مثل العلم والفكر، والحق والواجب، والاجتهاد والتجديد، والدليل والاستدلال، والاستنباط والاستقراء، والقضية والمسألة، والفتوى والرأي، والعقل والحكم العقلي و.. ولكن بدأت تتبدى حالة من السيولة الدلالية في استعمالها اليوم بما يخرجها من توحّد حال “الاصطلاح” الأصولي إلى جدلية حال “الكونسيبت” متعدد الدلالات، وهذه المفاهيم تحتاج منا إلى آليتين أساسيتين للتعامل معها: الآلية الأولى- هي تثبيت الثابت من دلالات هذه المفاهيم في الأصول باعتبارها مصطلحات حفاظًا على التواصل مع الموروث، وذلك لا يكون إلا بالاطلاع الجيد على الأصول أولاً؛ (الأمر الذي يُبرز شرطًا مهمًّا لمن يريد أن يتعاطى مع قضية التجديد هذه؛ وهو أن يكون ملمًا بالأصول ومصطلحاتها إلمامًا جيِّدًا)، والآلية الثانية- هي التحرك الواعي مع المتحرك من دلالات هذه المفاهيم وما استجدَّ ويستجد عليها في الاستعمال الحديث، وردّ المتشابه منها إلى محكمه، واعتبار السياق والسباق واللحاق في فهمها والتفاهم حولها. كل ذلك من أجل حفظ الاتصال مع كل من التراث والعصر معًا وعلى حدٍّ سواء، ولعدم إحداث قطيعة مع أيٍّ منهما.
والضرب الآخر من المفاهيم هو ما استجدَّ تمامًا سواء مِن داخل المعين الفكري الإسلامي أو نتيجة تفاعله من دائرة الغرب الحضارية وعلومها السائدة؛ من قبيل مفاهيم: نظرية، ومدخل، ومنظور ونموذج معرفي، … هذه الكلمات بألفاظها ودلالاتها لم تكن مستعملة أو مشهورة في كتب أصول الفقه. ولا مانع من استعمالها بشروط وضوابط أهمها: الوعي بمضامينها وبظلال هذه المضامين، وألا يكرّ استعمالها على التعريفات الموروثة بإبطال أو لبْس، وأن تكون مفيدة ومساعدة لهذا العلم ويحتاج إليها دارسوه فلا تكون عارية من الفائدة، ولا تكون عبثًا ولا لغوًا.
أما أن تصل هذه “المفاهيم: الكونسيبت” إلى درجة الاصطلاح أي الاتفاق على دلالة محددة لها، فإن الاصطلاح له درجات أو خطوات: أولاها- الاستعمال؛ أي أن يستعمله أحد أعضاء الجماعة العلمية، ثانيتها- الاعتماد؛ أي أن يُعتمد المصطلح بدلالته، وثالثتها- الشيوع والنشر؛ أي أن يشيع في الأوساط المختصة.
ومؤشرات الاعتماد هي استعمال أكثر من واحد في الجماعة العلمية للمصطلح وقبولهم له وأن يتم تمريره في الكتابات والخطاب العلمي بدلالته التي حددها منشئ المصطلح.
وهذا هو الذي حدث في كل العلوم: يصدر لفظ جديد بمعنى محدد عن أحد المشتغلين بالعلم ثم يرضى به آخرون ويستعملونه بلا اعتراض جوهري، ثم يتناقله ويتوارثه الدارسون بدلالته المحددة. ولا يشترط أن تعتمده كافة الجماعة العلمية، فقد يجري عليه خلاف في الاعتماد ثم في الاستعمال بين مدرستين أو تيارين، كما حدث من خلافات بين المذاهب في استعمال عدد من المصطلحات؛ كالواجب، والفرض، والمكروه مثلاً، ولكن قبول فئة من الجماعة العلمية هو الذي يحقق الاعتماد.
فإذا شاع المصطلح أُدرج ضمن المدرسة العلمية، وإلا يصبح اصطلاحًا خاصًّا بصاحبه، ويقال: المصطلح الفلاني عند فلان، أو في مذهب كذا.
وهذه القضية يمكن أن تُدرج في القضايا اللغوية التي يمكن أن تُستفاد من علوم كالسيمانطيقا والهيرمونطيقا وسائر علوم الألسنيات. فقضية الحقول الدلالية وتقاطع الدوائر المفاهيمية وقضية المعنى المشترك، قضايا بعضها موجود في التراث وبعضها جديد. والتعامل مع هذه المستجدات يطرح علينا أسئلة مفيدة، ويدفعنا إلى عصف الأذهان واقتراح القرائح بهدف التجديد والتعميق والتحقيق والتدقيق.
مثلاً عندما نأتي بالتحليل اللغوي على كلمة “جرى”: فـ”جرى” معناها الانتقال من نقطة إلى أخرى بسرعة، إذن لابد من جسم، وانتقال، وسرعة. ولكن نلحظ أن الاستعمال قد أسقط شيئًا فشيئًا هذه العناصر، فعندما نقول مثلاً: “جرى القطار من الإسكندرية إلى القاهرة” تتحقق الثلاثة، وعندما نقول: “جرى المطر في الأرض” فإن السرعة غير موجودة، فالمطر جسم انتقل من نقطة إلى نقطة، وعندما نقول: “جرى الأمر على كذا” فإن الثلاثة تنعدم. فهل نقول إن هناك “حقيقة”؛ أي معنى حقيقي عندما تتوافر العناصر في الكلمة؟ وإن هناك “مجازات متتالية” بمقادير مختلفة عندما ينقص عنصر من الدلالة أو أكثر؟ فكرة “المجازات المتتالية” هذه لم يعرفها العرب وتعرضت لها علوم الدلالة الحديثة، فهل يمكن أن نستفيد من ذلك في فهم النصوص اللغوية ومنها النصوص الشرعية؟
من ناحيتي: لا أرى بأسًا في أن نستفيد من هذه الإجراءات اللغوية الجديدة إذا كانت (وهذا هو الشرط المهم هنا) موافقةً لطبيعة كلام العرب؛ لأن كثيرًا من الأبحاث اللغوية تتعلق وتنحصر في لغتها وخصائصها المخالفة لخصائص اللغة العربية، ومن هنا لا نستطيع أن نستفيد منها، ويمكن أن نستفيد بأن ننتج نحن نتاجًا موازيًا على وفق كلام العرب، وهذا يحتاج إلى إبداع وإلى عمل فكري عظيم من علماء العصر. فيجب أن ندرس هذه العلوم الجديدة ونطلع على ما يجري من حولنا، ثم نرى إذا ما كانت موافقة لخصائص العربية ولثقافتنا وثوابتنا أم لا، ثم يمكن لنا أن نثير ونعصف قرائحنا لإنشاء شيءٍ جديد يوافق أصولنا ولا يبطلها.
وهذا هو ما فعله المسلمون مع منطق أرسطو كما ذكرنا آنفًا: اطّلعوا عليه وفهموه جيدا أولاً بناءً على قاعدة (الاطلاع والفهم أولاً) التي نؤكد عليها في كل مقام، ثم قارنوا وأعملوا فكرهم: فحذفوا منه وأضافوا. ولا يمكن لأحد أن يقول إنهم نقلوه نقلاً أعمى، بل إنهم قاسوا صياغات هذا “اللوجيك الأرسطي” ومضامينه على منطق آخر كامن في اللغة العربية زادته الشرعة المحمدية عمقًا ومتانة(22)؛ فأنتجوا المنطق الصوري العربي الذي يخالف المنطق الصوري الأرسطي في جوانب كثيرة وإن حافظ على مراده من حفظ التفكير المستقيم بقواعد متسقة يتفق عليها العقلاء. ومن هنا فإن كثيرًا من العلماء الأوائل كانوا يستغنون باللغة في فلسفتها وحكمتها وقوة حجتها وترتيبها للذهن والفكر عن “المنطق – اللوجيك”، ويرون أننا لسنا في حاجة للمنطق لأن اللغة في حد ذاتها تحفظ الفكر عن الانحراف والزلل(23).
إذن ينبغي علينا في جانب التعريفات في أصول الفقه أن نقف بأناة وتروٍّ كبيرين.
ب- الجانب الآخر هو جانب القواعد:
(ب) أما قواعد الأصول: مثل أن “الأمر للوجوب ما لم تصرفه قرينة تدل على غير ذلك”، و”أن المشترك لا يعم”، و”هل يدخل المتكلم في عموم كلامه”؟.. إلخ تلك القواعد، فهي لا تزال تحتاج إلى خدمات كبيرة لم تتم حتى الآن:
* الخدمة الأولى للقواعد:
تتمثل هذه الخدمة في تسجيل “الاستقراء” الذي تم عبر التاريخ من أجل الوصول إلى هذه القواعد ولكنه لم يسجل. فكون “الأمر للوجوب” يعني أن الأصولي قد استقرأ وتتبع جميع صيغ الأمر، إما في النصوص العربية من شعر ونثر وإما في القرآن والسُّنة الصحيحة فوجد أغلبها للوجوب فحكم بتلك القاعدة، وأنها لا تنصرف إلى الندب أو الجواز إلا بزيادة تقترن بصيغة الأمر، وكذلك تخصيص العام أو تقييد المطلق.. كل ذلك لم يكن ليتم إلا باستقراءات واسعة كتلك التي قُعِّدت بها قواعد الإعراب والصرف في اللغة. لا شك أن هذه الأمور قام بها العلماء لكنهم لم يسجلوها في صورة “جداول” تحصي وتحصر صيغ الأمر في المصادر وتبين مفادها وهل هذا من قبيل الشرع أو من قبيل اللغة؟، إلى آخر ما هنالك من أبحاث تمت في أذهان علمائنا؛ ونريد أن نقف عليها حتى نصل إلى مقرر بعيد عن الهوى ودقيق في الحكم.
هذه العملية صعبة جدًّا؛ لأنها كانت تستدعي من كل مجتهد أن يكتب رحلة التفكر والتتبع، ويسجل كل العمليات التي مرَّ بها ذهنه، وهذا ما لم يتم بصورة صريحة، إنما تم في صور أخرى؛ وهي صورة التصديق والاعتماد للقاعدة النهائية ما دامت قد صدرت من ذلك المرجع، (الـ Reference أو الـAuthority بالإنجليزية)، الذي حقق دقة وحذقًا عاليًا في الوصول إلى النتائج فكان نتائج دراساته داخل الجماعة العلمية معتمدة أو معتبرة من ناحية واعتيد أن يكون صوابه أكثر من خطئه بكثير من ناحية أخرى دلالة على تشبعه بالمنهج العلمي.
لكن من ناحية أخرى فإن الأمر الذي يشبه المعجزة أن المكتوب الذي وصل إلينا أو ما كان في اللسان كان معبرًا بدقة متناهية عما كان في الأذهان، من عمليات استقراء حقيقي ومعنوي؛ فالمكتوب نتاج وملخص لما تم في الأذهان.
وهناك عنصر آخر في القضية قد يسهم في تهدئة “نفسية التجديد” الحالية: هو أن اللغة ظنية لا قطعية في دلالاتها، وهذه الصفة فيها هي من رحمة الله (سبحانه وتعالى)، ومن أجل ذلك فإننا نرى أن كل مجهود المجتهدين في التفكر في هذه القضايا والقواعد هو مجهود معتبر، وأن هذا المجهود لو حاولنا إعادته مرة أخرى مستعملين الكومبيوتر فإننا سنجد أن ما توصلوا إليه هو نفسه ما سوف يكون “احتمالاً” لهذه القضية، أي من المحتمل أن يكون نتاج البحث هذا أو ذاك وهم قد وصلوا لأحد الاحتمالات أو لأكثر من احتمال في القضية، وهذا يعني أننا سنكتب ما قد كتبوه هم مرة أخرى، وسنجد -بعد بحوث تستمر طويلاً- أن هذا التراث ليس خطئًا من كل وجه، وأنه صحيح من وجه أو أكثر إن لم يكن من كل وجه.
وفي هذا ننبه طلبة العلم من المهتمين بقضايا المنهج إلى أنه كان في تراثنا استقراء حتى في علوم النص والنقل (على خلاف ما يشيعه بادو النظر) وإن لم يدون على الورق ولكن دونت نتائجه، ولم تسجل مفرداته في صور إمبريقية empirical methods، فكان استقراءً ذهنيًّا. ولذا لا نستطيع أن نقول إن تراثنا كان خاليًا من المنهج الاستقرائي، بل هو مبني على الجمع بين المنهجين الاستنباطي والاستقرائي، حيث كانوا يتتبعون ويضمون الشبيه إلى شبيهه، والنظير إلى نظيره، وهكذا.
ثم إن الممارس لعلم الأصول وقواعده تحدث له هذه العمليات أيضًا، فعندما نمارس التعامل العلمي مع الكتاب والسُّنة والاجتهاد والفقه ثلاثين سنة مثلاً نجد فعلاً أن الأمر للوجوب إن لم تصرفه قرينة تدل على غير ذلك، وأن النهي للتحريم إن لم تصرفه قرينة تدل على غير ذلك،.. فيطمئن قلب الدارس الممارس دون القيام بأبحاث استقصائية أو طلب إبراز رحلات التفكر من خلال الثلاثين سنة. فإذا انضم إلى هذا الباحث الخبير طائفة كبيرة من البشر لم يلتقِ بهم، وكلهم – من الممارسة – تأكدت لهم هذه الحقيقة، ثم ينضم إليهم عدد كبير عبر التاريخ.. فباجتماع هذه القرائن، يصل إلى اليقين والجزم.
يزيد ذلك تأكيدًا أن الذي يطالب بهذه الاستقراءات مدونة ويشكك في القواعد هو غالبًا من خارج الجماعة العلمية، تمامًا مثل المستشرق الذي يبحث في هذه الأمور وهو لا يعرفها جيدًا. ولكننا نحن نعرفها عبر القرون وعبر الممارسة المعيشية، ونشعر أن القيام بمثل هذه الجداول قد يكون في رأينا إهدارًا للوقت.
لكن لو أن هذا الاستقراء تم من باب تحلة القسم والمثال الذي يوضح الحال ويريح البال فيتم على قاعدة واحدة فقط فلا بأس؛ لأن هذه القواعد تصل إلى ثلاثمائة قاعدة وإن اختلفت في الصياغات ونحن لسنا بحاجة إلى تتبع القواعد الثلاثمائة، اللهم إلا كنوع من أنواع التوثيق، ويكون العلم هنا علمًا توثيقيًّا وليس علمًا يستفاد به في شيء من التطوير للعلم؛ أي كأنه علم في تاريخ القاعدة أو القواعد.
وعلى كلٍّ، فإن خدمة قاعدة واحدة فقط بله سائر القواعد يساعد في تحقيق فهم منتظم ودقيق للنصوص، ويساعد على بلوغ الاجتهاد بوضوح ويسر، ويمكّن من تدريس علم الأصول التطبيقي، ويفتح أمام العلماء المزيد من الجديد.
* الخدمة الثانية للقواعد:
وهناك خدمة أخرى تتمثل في الاستفادة من الدراسات اللغوية الحديثة خاصة في علم (السيمانتيك) وما يشتمل عليه من تحليل للكلمات ومضمونها ومردودها، وعلاقة ذلك بالحقيقة والمجاز، ودرجات هذا المجاز، وما يمكن أن يؤديه ذلك الدرس من تيسير تحصيل علم الأصول من جهة وإلى فتح أبواب الفهم للمصادر الشرعية (من قرآن وسُنَّة) يتيح توصيفًا للواقع وإيقاع الحكم عليه بطريقة أدق بكثير مما هي عليه الآن. ولا يخفي ما في هذا من دقة الحِفاظ على مناهج السلف الصالح وعدم الوقوف في نفس الوقت عند المسائل المثارة عندهم. وقد ضربنا لذلك مثالاً قريبًا، ويمكن أن نطبق على المسائل الفقهية لنتبين أهمية هذا الأمر.
فإذا وجدنا حديثًا نبويًا يقول: “ولا تبع ما ليس عندك”(24) فإن كلمة (عند) تعني لغةً ظرف زمان، وظرف مكان، وتعني المِلك وتعني الحكم. فإذا قلتَ: جئتك عند الفجر فهي للزمان، أو عند الحديقة فللمكان، أو عندي مصحف فلِلملك، أو هذا عند أحمد أو الشافعي أي في حكمه. فإذا عدنا إلى الحديث الشريف وجعلنا الكاف في (عندك) موجَّهة إلى التاجر الفرد الذي تحكم تجاراتِه قواعدُ السوق البسيطة فإن (عند) هنا تكون ظرف مكان كما فهمها الفقهاء الأقدمون، أما إذا حكم السوق أعرافٌ أخرى لاختلاف طبائع الاتصال وطبائع أحجام الأعمال وقواعد الشخصية المعنوية وغير ذلك فلابد أن نفسر (عندك) بمعنى: في حكمك وتحت سيطرتك، وتخرج من ظرفية المكان وتبقى ظرفية المكان معمولاً بها إذا رجعت الكاف للتاجر الأول.. وهذا بحث كبير تضيق هذه الصفحات بالمزيد من عرضه.
(ج) أما مسائل الأصول: فلا بأس بإعادة هيكلة درسها، وإعادة فهرسة منظومتها لاستكشاف جديد أو تسهيل قديم كما هو وارد في افتراضات بعض المشاركين في الساحة التجديدية التي تعرضنا لها. وفي هذا المقام فإن من المقترحات:
* الالتفات إلى مصطلحات وتقسيمات الشيعة والاستفادة منها في العرض والتحليل. وهذا على سبيل المنهج لا المسائل التي نختلف معهم فيها.
* أن يصفي علم الأصول من المسائل التي ليست منه، وتصفى كل مسألة من الأقوال التي ليست لها حجة ولا برهان قوي، والخلافات التي ظهر أنها لفظية لا يترتب عليها أثر. ولقد بُذل في ذلك جهد مشكور يحتاج إلى تجميع واستقراء على مساحة مشتركة تكون نواة لتكوين المجتهد أو بناء عقلية المجتهد، حينئذٍ فإن أي جديد سيكون تحت مظلة منضبطة جادة صادرة عن وعي وفهم لا عن هروب أو عجز عن فهم التراث وما فيه.
* ثم يأتي بعد ذلك – في نظري- درس لذلك كله حتى نستخرج مناهج ذلك العلم ونرى إمكانية استفادة العلوم الاجتماعية بمناهجها منها، ومدى إمكانية استفادة معالجة القواعد والمسائل من مناهج العلوم الاجتماعية(25).
فالواقع قد تغير، والفتوى مبناها على إدراك النص وإدراك الواقع والوصل بينهما، ولذا يجب أن يتضمن علم الأصول -وهو علم يتكلم عن المجتهد- أداة فهم الواقع الجديد، تلك ضرورة علمية وعملية قصوى، وهذا ليس موجودًًا في أصول الفقه الموروث و الذي كان يتعامل مع واقع ثابت. في الغرب عندما تغير الواقع وتغير البرنامج اليومي نشأت مجموعة العلوم الاجتماعية والإنسانية باعتبارها أداة لإدراك الواقع، لكنها نشأت من نموذج معرفي مختلف عن النموذج المعرفي الإسلامي؛ ومن هنا أردنا أن نبني نموذجًا معرفيًّا إسلاميًّا يوجه العلوم الاجتماعية والإنسانية، ويعالج مسائلها ومواضيعها، ثم يستفيد الأصولي من هذه العلوم الاجتماعية المنبثقة من النموذج المعرفي الإسلامي، باعتبارها أداة في يده وشرطًا من شروطه لإدراك الواقع.
فأصول الفقه الآن قاصر على استنباط الحكم من النص، وهو أداة جيدة في ذلك، ولكن ليس له أداة لإدراك الواقع، وليس لديه أداة للوصل بين الحكم الذي توصل إليه وكيفية تنفيذه في الواقع المعيش. فهاتان النقطتان تحتاجان إلى أدوات (tools)، وهذه الأدوات هي عبارة عن مسائل العلوم الاجتماعية والإنسانية التي لا يمكن أن نأخذها على علاَّتها لأنها منبثقة من نموذج معرفي آخر غير النموذج المعرفي الذي نؤمن به.
ولكن هناك بعض المسائل تحتاج إلى عمل أكبر؛ لأنه مع اختلاف النموذج المعرفي سيكون هناك اختيار وانتقاء، وهذا لابد ألا يكون متعصبًا وألا يكون فيه تحيز غير منهجي. وأيضًا التفاصيل لابد أن ترتبط بالنموذج المعرفي الجديد، وها هنا مجال مزالقه أكثر من المزالق المنهاجية العادية.
وقد يتساءل البعض: أليس للأصولي قوالب جاهزة لإدراك الواقع أو تساعده في إدراك الوقائع بكليات وجزئيات؛ كأن يدرك منها المعتبر في النص والمؤثر في الأحكام؟ وألا يمكنه استعمال نظرية الحكم العامة وما يرتبط بها من مفاهيم الشرط والمانع والسبب والعلة .. إلى آخر هذه التركيبة ليدرك بها الواقع بل يمكن أيضًا أن يستفيد منها الباحث الاجتماعي؟
وهذا يجاب عنه من وجهين: أولهما- أن ذلك صحيح في حالة إدراك “الواقعة” الجزئية المفردة لا عموم الأحوال والأوضاع وسمات العصر، وثانيهما- أنه حتى آواخر القرن التاسع عشر الميلادي كان ذلك متصورًا وممكنًا، ولكن الواقع أصبح بثورات الاتصالات والمواصلات وما أحدثته التقنيات الحديثة أشد تعقدًا وتجاوز هذه الحالة بمراحل بعيدة بحيث لم يعد هذا المطالب به ممكنًا، وأصبحت دراسة الفقيه لأي واقعة منعزلة عن البيئة العامة المحيطة بدرجاتها المختلفة القريبة والبعيدة؛ الوطنية والإقليمية والعالمية يجعله يختلف في حكمه تمامًا.
ولذا أصبح الأمر مستحيلاً من وجهة نظري؛ لأن الدنيا تغيرت وما زالت تتغير تغيرًا شديدًا لم يعد معه هذا النوع من أنواع التمنيات مقبولاً، خاصة إذا كان يخفي وراءه تكاسلا عن القيام بواجب الوقت؛ بمعنى أن نكون مصرين على عدم فهم الواقع الحي حتى يكون ذلك أخف على عقولنا ونفوسنا، فنمسك بالحادثة ونقرأها ونفهمها بعيدًا عن دوائرها المختلفة المحيطة بها، إننا حينئذ نرتكب خطئًا كبيرًا حين نعطي هذه الحادثة حكمًا يخالف المصالح والمآلات والمقاصد الشرعية دون أن نشعر، وذلك بالغفلة عن دوائرها المؤثرة فيها.
إبراز المداخل الأصولية المهمة: فقه المقاصد نموذجًا:
نسمع اليوم ونقرأ كثيرًا عن فقه مقاصد وفقه أولويات وفقه موازنات وفقه ضرورات(26).. إلى آخر ما انتشر من عناوين تجري الدعوة إلى حسن الاستفادة منها في أصول الفقه، والكثير منها أجزاء من الأصول لكن الذي ينبغي اليوم هو إبرازها لمسيس الحاجة إلى ذلك لا سيما فيما يتعلق بالإفتاء. ونضرب على ذلك مثلا بالمقاصد.
المقاصد ذكرت مع المناسبة في باب القياس، ذكرها الغزالي لأنها نتجت من منهج اتخذه المسلمون يسمى بالأسئلة الممتدة:
* نسأل الفقيه عن حكم المسكِر، ما حكمه؟
* يقول: إنه حرام.
* لماذا هو حرام؟
* لأنه يُذهب العقل.
* لماذا كان إذهاب العقل حرامًا؟ فالإنسان ينام ويذهب عقله، فما الذي يمنع أن يذهب عقله بعض الوقت؟
* فيقول إن العقل مناط التكليف، وإن الإنسان أُمر بهذا التكليف من أجل العبادة والعمارة وتزكية النفس؛ وأنه بغياب عقله – بصورة غير طبيعية أي بصورة افتعالية – بشرب مسكر، فإنه يخرج من نطاق المخاطبة التي تأمر بالعبادة والعمارة والتزكية والتي هي مراد الله من خلقه. فيحرم ذلك، ويكون تعليل هذا التحريم أن “من مقاصد الشرع حفظ العقل”. فأصبح “حفظ العقل” إجابة عن سؤال من الأسئلة الممتدة.
وإذا سألت عن السبب النهائي لحرمة القتل ستجد الجواب: أن “من مقاصد هذا الشرع حفظ النفس”، وإذا سألت عن حرمة الارتداد تجد أن المقصد هو “حفظ الدين”، وإذا سألت عن حرمة السرقة تجد “حفظ المال”، أو مثلاً تعذيب الآخرين أو انتهاك حرماتهم تجد من أعلى مقاصد الإسلام “حفظ العرض” و”حفظ كرامة الإنسان”. فتكونت بذلك منظومة المقاصد الشرعية، وأشير إليها عند المناسب، أي إن هذا هو المناسب للحكم، فإن الأحكام مردها إلى هذه الخمسة بالاستقراء.
وهذه الخمسة في مفهومها ينبغي تمييزها عما يسمى بالقيم العليا من مثل: الرحمة والحرية والعدالة والمساواة، وما شابه.. فهذه القيم تسري في تلك الخمسة سريان الماء في الورد، وليست هي مقاصد في حد ذاتها، بل هي روح للمقاصد وللوسائل وتشتمل على أحكام كلية وتؤثر في فهم واستنباط الأحكام الجزئية.
المقاصد الشرعية بهذا المعنى –وكذلك القيم العليا- شكلت سقفًا معرفيًّا لهذا الدين وعلومه وحضارته وذلك بالإضافة إلى غيرها من العناصر: كصريح النص والإجماع والرؤية الكلية ومصالح الخلق واللغة العربية بدلالات ألفاظها. وهذه الأشياء هي التي تكون السقف الذي لا يجوز للمفتي أن يتعداه، فيجب عليه قبل إصداره فتوى أن يراجعها على هذه العناصر: هل تخالف نصًّا شرعيًّا؟ هل ستكر على مقصد بالبطلان؟ هل ستضيّع مصالح الناس؟ هل هي تخالف الإجماع؛ حتى لو كانت في ظنه أو وهمه أنها مستندة إلى نص وإلى فهمه لنص؟ هل هي تخالف اللغة العربية بحيث إنها تقضي على دلالات ألفاظها أو تجعلها بلا خصائص؟ فإذا كان جواب كل ذلك: لا، فإنه يصدر الفتوى.
وهذا التجديد ليس بدعًا من الأمر؛ ففي تراثنا جهود ومحاولات سامقة على هذه الشاكلة من مثل ما قام به الإسنوي مثلاً عندما ألف كتاب “التمهيد في تخريج الأصول على الفروع”(27)، حيث نستفيد منه التطبيق العملي للقواعد الأصولية على الفروع الفقهية، وهذا أمر نجده بصورة عكسية في كتب السادة الحنفية، فالمنشود هو أن نثري هذا الجانب حتى لا تكون هذه القواعد قواعد مجردة وقواعد نظرية، بل تكون مرتبطة بتطبيقاتها العملية وأمثلتها. أيضًا ألف الأصوليون في الفروق والأشباه والنظائر وقواعدها. فكل هذه الإفادات والإضافات إذا دمجت في الأصول -على سبيل التمثيل والتطبيق- لكان العلم أقرب إلى الطالب الحديث، وأمكن في فهمه للمسائل.
التجديد بالأصول:
وإذا كنا قد تعرضنا للتجديد في الأصول عبر ما سبق من الدراسة، فهذا مقام المقابل وهو التجديد بالأصول. فالتجديد بالأصول يعني أن يكون المثلث الأصولي: (المصادر، وطرق البحث، وشروط الباحث) أساسًا يستفيد منه الباحث الاجتماعي والإنساني.
وعلى هذا الصعيد كانت لنا أكثر من تجربة مع طلاب من جامعة القاهرة وآخرين من الجامعة الأمريكية وغيرهما من تخصصات اجتماعية وإنسانية متعددة، فدرسنا معهم كيفية التفكير المنهجي باستعمال أصول الفقه ومنهاجها العام ونظرياتها وجربنا ذلك على ظواهر وقضايا واقعية، فصاروا يطرحون على علومهم وأساتذتهم أسئلة الأصولي: أين المصدر؟ وهذا المصدر معتمد أم لا؟ وكيف نعتمد المصدر؟ وكيف نفهم المصدر؟ وما هي أسس هذا الفهم؟ ولماذا نفهم هذا الفهم؟ وهل يجوز لنا أن نفهم فهمًا آخر أم لا؟ ثم من الذي يفهم؟ وما هي شروطه؟ وما هي العلوم المساعدة لهذا الفهم؟… إلى آخره، فكانت لها نتائج مهمة أغلبها تمثل في محاولات أو مطالب للاستفادة المتبادلة بين الأصول ومناهج هذه العلوم.
ولقد عرفنا من هذه التجربة أنه من المفيد أن نمارس هذا العلم في الساحة المنهجية للعلوم الجديدة، بحيث يفيد بمنهجيته وليس بأفراد مسائله. بل إننا يمكن أن نوسع الدعوى فنقول: إننا لو أخذنا مسائل هذا العلم أيضًا بالإضافة إلى منهجيته، واعتبرنا – مثلاً- أن العبارة اللغوية لها دلالة، وأن هذه الدلالة لها درجات وتتعلق بالصياغات وبالسياق والسباق واللحاق، وأنه لابد أن نراعي الإطلاق والتقييد والتعميم والتخصيص في الصياغة وفي الفهم.. الخ، لأثر ذلك كثيرًا وأفاد في مجالات مثل دراسة القانون والاقتصاد والسياسة وعلم النفس.. وهكذا.
إذن نحن ندعو للاستفادة المتبادلة: أن يفيد علم الأصول من المناهج الجديدة، وأن تفيد العلوم الاجتماعية والإنسانية من منهج أصول الفقه نفسه باعتباره منهجًا يبحث عن مصادر البحث، وطرقه، وشروط الباحث بهذه العقلية التي تبحث عن الحجية، والتوثيق، والفهم مع مراعاة الظني والقطعي ومرتبة كل منهما، وكذلك المقاصد والمآلات والتعارض والترجيح وقضايا الإلحاق، وكيف يستفاد من كل ذلك في العلوم الاجتماعية والإنسانية، وهو أمر سينتج عنه تطوير ذلك العلم حين يكون قابلاً للهجرة إلى عقول علماء تلك العلوم.
وهذا يردنا إلى قضية توليد العلوم باعتبارها جزءًا لا ينفصل عما نحن فيه:
فحضارة المسلمين قامت على العلم، ووضع المسلمون الأوائل علوما خادمة لمحور حضارتهم وهو النص الشريف، التزموا بهذا المحور وخدموه وانطلقوا منه وجعلوه معيارًا للقبول والرد والتقويم، وأخذ المسلمون يخترعون العلوم اختراعًا، وينقلون منها عن الأمم السابقة ما يمكِّنهم من فهم الحقيقة، وإدراك الواقع ونفس الأمر، ويصنفونها ويبلغونها لمن بعدهم. ورأينا عصر الترجمة في عهد المأمون، فكان جابر بن حيان والرازي والخليل بن أحمد والبيروني، وكان مثلاً الحسن بن الهيثم في (المناظر) والخوارزمي في كتابه (مفتاح العلوم) الذي يرسم لنا الذهنية العلمية في التاريخ الإسلامي، وهو يرصد ذلك التنوع من ناحية، والتفاعل من ناحية أخرى، وهما الصفتان المجمع عليهما لكل من اطلع على التراث الإسلامي ونتاجه الفكري.
إن توليد العلوم والذي توقف في القرن الرابع الهجري، وتوليد الحضارة منها على مقتضيات العصر الذي نعيشه هذا الأصل في تجديد الخطاب الديني بعيدا عن الجهالة وعن الأماني وعن الآمال التي قد تخطر ببالنا مع كسل مريع عن تحصيل العلم.
خلاصة اقتراحنا في تجديد أصول الفقه:
ويمكن أن نضع أسس الاقتراح في صورة محددة في النقاط التالية :
أولاً- التجديد في الشكل وذلك بما يلي :
1) حذف المسائل المنطقية والكلامية التي حشرت في عرض علم الأصول وليست منه، إلا أنها عارية مردودة لتلك العلوم، ذكرت استطراداً، أو تمهيدا لاختيار رأي أو تهيئته للبناء عليها، أو كانت تجيب على سؤال ممتد يخرج بنا عن حرارة علم الأصول إلى علم آخر.
2) عرض المسائل بتقرير التعريفات بدقة؛ حيث إن التعريفات تجمع أحكام العلم، وتدخل حقائق مسائله، وتخرج ما يلتبس منها، وتبين الواقع المراد نقله إلى ذهن السامع، ثم شرحها شرحا وافيا، تجعل التعريف معياراً صحيحا للفهم، وتنقل الصورة الصحيحة له للقارئ أو المتعلم، وبيان محترزات التعريف، ثم بيان اختلاف الناس واتفاقهم فيها؛ لأن كل مدرسة قد راعت في تعريفاتها رأيها في الشيء المعرف، ويمكن هنا بيان التطور الدلالي للتعريف إذا كان المقصود واحداً والزيادة في التعريف أو تغيره ناتج من تجويده وتقليل الاعتراضات عليه، ثم دليل كل منهم (ومناقشته في بعض الكتب الأعلى وترجيح رأي راجح) بصورة خالية من التعقيد اللفظي، وبصورة تمكن من الفهم والمناقشة أثناء الدرس، وتمكن من الاطلاع على حقيقة ذلك الاختلاف وتربي ملكة الاختيار عن فهم عميق.
3) الاهتمام بضرب الأمثلة والفروع على كل مسألة تدريبا للطالب والقارئ، وزيادة هذه الأمثلة إلى حد تستقر معه المسألة في الذهن، وترشد إلى المشترك بين هذه الصور لدى طالب العلم، وتبين الجوامع المؤثرة والفوارق غير المؤثرة في هذا الشأن، ويمكن أيضا إضافة المناقشات حول ما توهمه بعضهم أنه يصلح لأن يكون مثالا لذلك وهو ليس كذلك لفارق مؤثر لم يلتفت إليه، وكتب الأشباه والنظائر مليئة بذلك وكتب الفروق وتخريج الفروع على الأصول، وهو معين يضاف إلى ما كتب في الأصول ويزيده جلاءً ويزيد القارئ دُربة على إنشاء ملكة الفهم والقدرة على التمييز والاستنباط.
4) إعادة ترتيب عرض المادة بحالها بناء على مراحل تفكير المجتهد والذي يمكن تسميته بنظريات الأصول السبعة وهي الأسئلة التي وردت في ذهن المجتهد إلى أن وضع علم الأصول وهي:
* ما الحجة التي يمكن الاعتماد عليها لأخذ الأحكام الشرعية منها بناء على إيماننا بالله ورسوله ؟ والإجابة تشمل الكلام على مصدري التشريع : القرآن والسنة، ويتم عرض مباحث الأصول المتعلقة بتعريف القرآن، وحجيته، وأقسامه، والسنة وتعريفها وأقسامها …الخ.
* ويأتي السؤال الثاني وهو كيف نوثق القرآن والسنة ؟ ويعرض فيه ما في أصول الفقه من قضايا الرواية.
* ويأتي السؤال الثالث وهو : كيف نفهم المنقول ؟ ويعرض فيه قضايا دلالات الألفاظ ومراتبها والمفهوم والمنطوق والحقيقة والمجاز والمجمل والمبين والأمر والنهي والناسخ والمنسوخ …الخ.
* ويأتي السؤال الرابع : وهو كيف نعالج مسالة القطعية والظنية في الرواية أو الفهم وتأتي مسألة الإجماع وحجيته ونقله و….الخ.
* ويأتي السؤال الخامس : كيف نلحق الفروع المستحدثة بالمسائل التي فيها نص ويأتي باب القياس بحاله.
* ويأتي السؤال السادس : عن كيفية حل التعارض والترجيح فنذكر فيه آليات ما ذكر في الأصول بهذا الشأن.
* ويأتي السؤال السابع : عن شروط المجتهد، وكيف يقوم بعملية الاجتهاد، وكيف يقوم بعملية الإفتاء؟ وهنا نعرض تلك الشروط مع بيان المقاصد الشرعية، وضوابط الاجتهاد، ونخلص منها إلى وجوب إدراك الواقع لأجل تمام عملية الإفتاء، ويمكن هنا أن نعرض للأدلة المختلف فيها باعتبارها استدلالاً يقوم به المجتهد وتساعده على اجتهاده.
* ونرى أن هذا العرض الذي قد يخالف ما درج عليه المصنفون يبين للطلاب والقارئين تسلسل مسائل أصول الفقه باعتباره مفتاحا لفهم النص بعد توثيقه وقيام حجيته(28).
5) عمل مقدمة تشتمل على تاريخ العلم، والألفاظ والمصطلحات التي استعملت فيه، وطرق الكتاب فيه ومسائل الحكم الشرعي مع الاهتمام بالمبادئ العشرة وبعض الأسس التي أخليت من العلم كمسائل المنطق والكلام واللغة، وكل ذلك بصورة مستقلة عن الكتاب الأساسي لعلم أصول الفقه يكون كالمقدمة التي تتكلم عن العلم، وليس في العلم.
6) إلحاق قائمة تشتمل على : التعريفات، القواعد الأصولية، الاصطلاحات ذات الصلة، ويجب هنا إدراك أن تجديد أصول الفقه قد يحتاج إلى إنشاء علوم أخرى تساعد على تطويره، وتزيد من الاستفادة منه، وفكرة توليد العلوم تعد في هذا المضمار جزء لا يتجزأ من فكرة تطوير العلم؛ لأن هذه العلوم المولدة ستكون هي الخلفية الفكرية لذلك العلم من ناحية، وتمثل أيضا امتدادا طبيعيا له، وفي نفس الوقت تقينا من جمود العلم بعد فترة وجيزة من مجهود تجديد بناءه على أنه معتمد على منهج واحد؛ حيث يرى بعضهم ومنهم (فوير آبند) أن الالتزام بمنهج واحد يؤدي إلى جمود العلم، ودعا إلى عدم الالتزام بمنهج أصلا، ولا يخفى ما في رأيه من تطرف يتناسب مع النسبية المطلقة التي تدعو إليها النماذج المعرفية الغربية، إلا أن ضمانة عدم الجمود قد نحصلها من توليد العلوم التي تمثل البيئة المحيطة الأبعد لعلم أصول الفقه.
ثانيًا- التجديد في المضمون؛ وذلك بما يلي:
1) إضافة أداة لإدراك الواقع تبين أن الواقع بعوالمه الخمسة : عالم الأشياء، عالم الأشخاص، عالم الأحداث، عالم الأفكار، عالم النظم يجب أن يدرس، وأن لكل عالم منهجاً في التعامل معه : كالمناهج التجريبية والمناهج الاستقرائية، والمناهج الوصفية …الخ. وأن مجموعة العلوم الاجتماعية والإنسانية قد قامت في عصرنا بمثل هذا التعامل مع الواقع المعيش، ولكنها قد انبثقت من نموذج معرفي غربي، وأنه يجب بناء علوم اجتماعية وإنسانية من نموذج معرفي إسلامي تكون أداة إجمالية بيد الأصولي لفهم الواقع، وفي هذا الصدد يجب أن نردك معنى النموذج المعرفي بالتفصيل؛ حيث سيساعد على تكوين المجتهد القادر على التفاعل مع العصر.
يبدو أننا في حاجة لصياغة النموذج المعرفي الذي يُكوّن عقل المسلم بناء على عقيدته ورؤيته الكلية للإنسان والكون والحياة وما قبل ذلك وما بعده، ذلك النموذج الذي يمثل الإطار المرجعي والمعيار المعتمد في عقل المسلم ونفسيته وهو المكون الأساسي لشخصية المسلم والضابط لفكره.
نريد أن نعيد صياغة ذلك النموذج حتى نجيب به على الأسئلة الكلية الكبرى في حياة الإنسان، ورؤيته لنفسه ولما حوله، وحتى نواجه به متطلبات العصر، وحتى يفهمنا الآخرون على أقل تقدير، إذا لم ينبهروا بهذا النموذج ويسعوا إلى اعتناقه والإيمان به وتبنيه. والنموذج المعرفي هذا نراه موجودا في وجداننا، ومصادر بنائه في عقائدنا وأحكامنا، ولكن إعادة الصياغة ستمكننا من تفعيله وجعله أساسًا للحياة.
2) إضافة أداة تبين كيف نربط بين فقه النصّ وفقه الواقع، وكيف نؤسس العلاقة بينهما على منهاج واضح ومحدّد؛ وهو تأسيس جديد يجب أن ينشأ ثم ينمو بكثرة الدرس والمناقشة كشأن العلوم الجديدة، وهو ما قد نرى مثاله فيما كتب حول فقه الأولويات وفقه الضرورة، وفقه الأقليات …الخ. ويتعلق هذا أيضا بفكرة واجب الوقت التي يجب إدراكها باعتبارها جزءًا آخر من عملية التجديد.
3) إن الفقه الموروث متعلق في صورته المدرسية بلغة الأفراد، أما فقه الأمة فقد كُتب فيه على مستويات كثيرة مثل الأحكام السلطانية، والسياسة الشرعية، والعلاقات الدولية في السير وغير ذلك، ولابد من الاهتمام بإبراز مفهوم الأمة والجماعة في أداة الاستنباط والنص عليها موضوع من منطلق مفهوم الأمة عند المسلمين.
1- إن من مقتضيات مفهوم الأمة في الإسلام ترتيب الأولويات، ومنهج التعامل مع الحياة الدنيا، وتحديد العلاقة مع الآخرين، ووضع برنامج عملي لعمارة الأرض، وعلى ذلك فإن إدراك مفهوم الأمة أمر أساسي إذا كان يمثل المنطلق لهذه القضايا وغيرها، وتفعيل ذلك الإدراك أمر أكثر أهمية من الإدراك المشار إليه.
2- فلابد علينا أن نتكلم بتوسع -وتحديد أيضا- عن مفهوم الأمة، ففي نظر المسلمين، الأمة ممتدة عبر الزمان فيما يمكن أن نسميه بالدين الإلهي، فالأمة تبدأ من آدم، وتشمل كل الرسل والأنبياء في موكبهم المقدس عبر التاريخ، والأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ممتدة عبر الزمان والمكان، وفي جميع الأحوال ولدى جميع الأشخاص، وهذا أمر غاية في الأهمية إذا اعتبرناه تأسيساً لما ندعو إليه من معاصرة وإصلاح وتجديد، فالمسلمون لا يعرفون الرابطة القومية أساسا للاجتماع البشري، وإن كانوا لا ينكرونها في سياقها، ولا يعترفون بالرابطة الوطنية إذا أدت إلى الشوفونية المتعصبة، وإن كانوا يعتبرون حب الوطن من الإيمان.
ثالثًا- وهناك مجموعة من المحددات التي يجب الاهتمام بها :
* أول هذه المحددات: هي تحويل الإجماع والاجتهاد والشورى إلى مؤسسات أو المأسسة إن صح هذا الاشتقاق. وفكرة المؤسسات واردة منذ القديم، فقد أنشئ بيت مال الزكاة والمسجد للصلاة والمحتسب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،ولكن الإجماع والاجتهاد والشورى لم تتحول إلى مؤسسات فافتقدنا بذلك في تاريخنا الطويل مؤسستان هامتان تمثلان السلطة السياسية والسلطة العلمية، وإن كانت هناك إرهاصات في عصر الرسالة والخلافة الراشدة.
* مسألة أخرى من مسائل التجديد في أصول الفقه تتمثل في اللجوء عند القياس إلى الحكمة من حكم الأصل لتطبيقه في الفرع إذا لم تحقق العلة الحكمة المقصودة، إذ من المعلوم أن العلة هي مجرد وسيلة منضبطة لإجراء عملية القياس وتحقيق مقصد الشارع من حكم الأصل في الفرع، وقد ذهب إلى جواز ذلك بعض الأصوليين ومنهم الرازي في المحصول. (الجزء الثاني القسم الثاني ص389 ـ 400). وهذه المسألة لم تكن ظاهرة الفائدة في البداية حيث كانت ظروف الحياة قريبة من ظروف عصر الرسالة بحيث يسهل وجود نص تقاس عليه الوقائع الجديدة، ولكن مع تطور الحياة وجدت وقائع بعيدة كل البعد عن الاشتراك في علة حكم الأصل، ومن هنا بدأ التفكير في صورة جديدة من القياس أطلق عليها أصحابها القياس الكلي، القياس المصلحي، القياس المرسل، القياس الواسع، القياس الإجمالي، قياس المصالح المرسلة إلى غير هذه الأسماء التي يجمعها جميعاً محاولة التحرر من الشروط التقليدية للقياس خاصة موضوع العلة وأن يستعاض عنها بالحكمة، ولكن دائماً مع البقاء في إطار نقل حكم الأصل الجزئي إلى الفرع الجزئي.
* مسألة ثالثة تتمثل في تطوير مباحث مقاصد الشريعة، فمنذ كتاب الموافقات للشاطبي الذي يعتبر قفزة في تاريخ المقاصد كتب في نفس الموضوع كل من الطاهر بن عاشور وعلال الفاسي في منتصف هذا القرن، ثم تجدد الاهتمام فصدرت خلال السنوات العشر الأخيرة عدة كتب وبحوث وما زال الاهتمام متواصلاً وهذا يشتمل على :
1) التفرقة بين مقاصد الخلق ومقاصد الشريعة ونتائج هذه التفرقة.
2) محاولة صياغة مقاصد الشريعة العالية.
3) اشتمال المقاصد على مجموع رتب الضروري والحاجي والتحسيني وتعلق هذه الرتب بالوسائل وليس بالمقاصد.
4) افتقاد الدراسات القانونية لمباحث المقاصد وافتقاد الدراسات الشرعية لمباحث وظيفة القانون في تنظيم المجتمع ومدى تدخل الدولة في حريات الأفراد.
5) محاولة تطوير الكتابة في المقاصد الخاصة المتعلقة بأقسام الشريعة أو بالعلوم الحديثة.
6) محاولة تحديد دور العقل في تحديد المقاصد.
7) تطوير فكرة حصر الكليات في خمس وإضافة المقاصد الاجتماعية.
8) بحث ترتيب المقاصد الكلية فيما بينها وإشكاليات هذا الترتيب.
9) محاولة البحث عن معيار اعتبار حكم معين أو وسيلة معينة من مرتبة الضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات، وملاحظات تطبيقية.
10) أن المراتب خمس لا ثلاث، إضافة ما دون الضروري وما وراء التحسيني وآثار ذلك.
11) نسبية تحديد الوسائل وتسكينها في المراتب بحسب الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، وأمثلة تطبيقية.
12) إزالة اللبس الخاص بالنسل والنسب والعرض، ووضع كل منها في موضعه المناسب.
13) تحديد المقاصد في إطار أربع مجالات تختص الكليات الخمس بمجال الفرد، وإضافة مقاصد لكل من الأسرة والأمة والإنسانية.
الهوامش
1 – عبد الله بن عمر البيضاوي، منهاج الوصول إلى علم الأصول، القاهرة: المكتبة التجارية الكبرى، د.ت .
2 – مصطفى عبد الرازق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، القاهرة: لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1966م، ط3.
3 – راجع عرضًا لذلك في: جميلة بو خاتم؛ التجديد في أصول الفقه: دراسة نقدية، رسالة دكتوراه، قسنطينة: جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، كلية أصول الدين والشريعة والحضارة الإسلامية، قسم الفقه وأصوله، 2006م، ص ص 39-45.
4 – رفاعة رافع الطهطاوي، القول السديد في الاجتهاد والتقليد، القاهرة: مطبعة وادي النيل، 1284هـ، ط1.
5 – محمد الخضري، تاريخ التشريع الإسلامي، القاهرة: دار الفكر، 1387هـ/ 1967م، ط8 .
6 -انظر: محمد عبد اللطيف الفرفور، الوجيز في أصول استنباط الأحكام الشرعية، بغداد: دار الإمام الأوزاعي، 1405هـ/ 1985م، ص ص 6-8. وقريب منه مع اختلاف ضئيل: عمر مختار القاضي: إحياء الاجتهاد في الثقافة الإسلامية، القاهرة: دار النهضة العربية، 1414هـ/1993م، ص 343.
7 – عبد الله بن الصديق الغماري، سبيل التوفيق في ترجمة ابن الصديق، القاهرة: الدار البيضاء للطباعة، 1990م. وانظر له أيضًا: ذوق الحلاوة في امتناع نسخ التلاوة، القاهرة: دار الأنصار، 1402هـ/1982م.
8 – أحمد حمد، الإجماع بين النظرية والتطبيق، الكويت: دار القلم، 1403هـ/1982، ص12.
9- عبد الغني عبد الخالق، حجية السنة، القاهرة: المعهد العالمي لفكر الإسلامي، 1407هـ/1987م، ص ص 245-246.
10 – عبد الجليل عيسى، اجتهاد الرسول (صلى الله عليه وسلم)، القاهرة: مطابع الأهرام التجارية، 1979م.
11- محمد الغزالي، السنة بين أهل الفقه وأهل الحديث.
12 – عبد المنعم النمر، السنة والتشريع.
13 – يوسف القرضاوي، كيف نتعامل مع السنة النبوية: معالم وضوابط، القاهرة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1989م. وصدرت منه طبعة مزيدة ومنقحة عن دار الشروق بعنوان: كيف نتعامل مع السنة النبوية، عام 1421هـ / 2000م.
14 – راجع: مجلة المسلم المعاصر في عددها الافتتاحي، (شوال 1394هـ/1974م)، ص ص29 -50.
15 – راجع: جمال الدين عطية،”كلمة التحرير”، المسلم المعاصر، العدد الافتتاحي، (شوال 1394هـ/1974م)، وله: تجديد الفكر الاجتهادي، المسلم المعاصر، العدد 96، (ربيع الأول 1421هـ/يونيه 2000م). وانظر له: النظرية العامة للشريعة الإسلامية، القاهرة: مطبعة المدينة، 1407هـ/ 1988م. وانظر له: نحو تفعيل مقاصد الشريعة، دمشق: دار الفكر، 1422هـ/2001م. و: علم أصول الفقه والعلوم الاجتماعية، ندوة كلية الشريعة والدراسات: قطر 17 نوفمبر 1988م.
16 – راجع للدكتور طه: أصول الفقه الإسلامي: منهج بحث ومعرفة (القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1408هـ/1988م. وندوة استراسبورج.
17 – من أهم الكتابات في ذلك تلك التي كتبها محمد باقر الصدر، انظر له: المعالم الجديدة للأصول، بيروت: دار التعارف للمطبوعات، 1401هـ/ 1981م. وله: الأسس المنطقية للاستقراء، بيروت: دار التعارف للمطبوعات، 1401هـ/ 1981م.
18 – انظر على سبيل المثال: حسن حنفي، التراث والتجديد، القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1987م؛ حيث حاول تطبيق ما يعرف بالأسلوب الفينومينولوجي لتحليل المادة الأصولية وتفسيرها باعتبار المنهج الأصولي بل التشريعي الإسلامي منهجًا شعوريًّا بحتًا. نصر حامد أبو زيد، الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية، القاهرة: مكتبة مدبولي، 1995م. أبو القاسم حاج حمد، بيروت: دار ابن حزم، 1996م. محمد شحرور، القرآن والكتاب: قراءة معاصرة، القاهرة: دار سينا للنشر، 1992م.
19 – راجع دراستنا: تجديد علم أصول الفقه؛ في: قضايا المنهجية في العلوم الإسلامية والاجتماعية، القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
20 – انظر: جيزيلا ويب (تحرير): دعونا نتكلم، مفكرات أمريكيات يفتحن نوافذ الإيمان على عالم متغيِّر، ترجمة: د. إبراهيم يحي الشهابي، مراجعة: د. نعمت حافظ برزنجي، دمشق، دار الفكر، ط1، صفر 1423هـ/ أبريل 2002م.
21 – سنستعمل كلمة الكونسيبت المنحوتة أحيانا للتمييز بين دلالتي كلمة المفهوم القديمة والحديثة.
22 – ومن هنا سموه “المنطق” لأن الـ Logic كانت يمكن أن تترجم بالحكمة أو التفكير، ولكنهم اختاروا “النطق” للإشارة إلى أن التفكير واللغة وجهان لعملة واحدة.
23 – راجع المجادلة التي وقعت بين أبي سعيد السيرافي و….. عند أبي الحيان التوحيدي في المقابسات، حيث يثبت فيها أن اللغة العربية تحفظ الفكر من الخطأ.
24- أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن حكيم بن حزام رضي الله عنه مرفوعًا. انظر (بذل المجهود 150/ 178 سنن النسائي 7/ 254 سنن ابن ماجة 2/ 727 عارضة الأحوذي 5/241 شرح السنة للبغوي 8/140).
25 – فبنظرة تاريخية على موضوع المنهج في أصول الفقه –ومقارنته بالمنهج العلمي ومقارنة المنهج العلمي به- نرى في كلام محمد عبده في رسالته عن “الإسلام والنصرانية بين العلم والمدينة” ص: قالوا أن بيكون هو أول من جعل التجربة والمشاهدة قاعدة العلوم العصرية ذلك حق في أوروبا. وأما عند الغرب فقد وضعت هذه القاعدة عندهم لبناء العلم عليها في أواخر القرن الثاني من الهجرة حتى نقل جوستاف لوبون عن أحد الفلاسفة الأوروبيين أن القاعدة عند العرب (جرب وشاهد تكن عارفًا) وعند الغربي إلى ما بعد القرن العاشر من التاريخ المسيحي (إقرأ الكتب وكرر ما يقوله الأساتذة تكن عالمًا).
26 – استعمال تعبير “فقه” عنوانًا لهذه وغيرها من الأمور هو استعمال لغوي بمعنى الفهم أو حسن الفهم، ولا مشاحة في الاصطلاح الجديد. ولكنني أفضل ألا تختلط الأوراق، ويُظن أن هناك تسلطًا بظلال شرعية على ساحة العلوم الاجتماعية والإنسانية خاصة ممن يعتقدون أن هذا الفقه سيكون مقيدًا للحرية ومانعًا للإبداع وعائقًا للدراسة. فهذه إلى الفكر القائم على أصول علمية أقرب منها إلى الفقه.
27- جمال الدين عبد الرحيم الإسنوي، تخريج الفروع على الأصول، تحقيق: محمد حسن هيتو، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1401هـ/ 1981م.
28 – راجع ذلك في كتابنا: الطريق إلى التراث الإسلامي: مقدمات معرفية ومداخل منهجية، (القاهرة: نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، 2004).