مدخل:
يهدف هذا المقال إلى أمرين: أحدهما رصد لأبرز الاتجاهات العامة المعاصرة للداعين إلى إعادة صياغة علم أصول الفقه، وتناولها بالتحليل والنقد لتقييم مضمونها وما يمكن أن تحققه في سبيل صياغة معاصرة لمباحث هذا العلم، وسوف يقتصر البحث على تصنيف الدعوات المعاصرة في اتجاهات عامة، واستعراض الملامح الأساسية لكل اتجاه دون استقصاء لجميع ما كتب في هذا الموضوع.
والثاني: رسم خطوط عريضة لما يراه الباحث الاتجاه الأقرب إلى طبيعة علم الأصول، والأرجى لتحقيق الغرض من إعادة صياغته.
ويستدعي البحث في هذين العنصرين التقديم لذلك بالحديث باختصار عن طبيعة علم الأصول والهدف من وضعه، والاعتراضات الموجهة إليه في الصورة التي استقر عليها فيما بعد عصر الازدهار العلمي في العلوم الشرعية، بما يعين فيما بعد على تحديد ملامح الاتجاه الأقرب إلى طبيعة هذا العلم.
طبيعة علم الأصول والهدف من وضعه:
لم يكن الرعيل الأول من المسلمين في عصري الصحابة والتابعين في حاجة إلى تدوين أصول الفقه على الرغم من تداول مبادئه الأساسية بينهم، فعلمهم باللغة العربية كان في قمَّته، وفقههم لمبادئ الشريعة ومقاصدها القائم على المنطق الفقهي المبني على ممارسة التَّفَقّه في الدين، وفِقْه المصالح والترجيح بينها، كانوا يتوارثونه عن بعضهم البعض، وفضلاً عن هذين العنصرين فإن العنصر الثالث المكمَّل لهما؛ وهو المنطق العقلي الذي وهبه الله تعالى للإنسان كان متوافرًا لديهم.
وقد ارتبط تدوين مبادئ علم أصول الفقه باتساع دائرة الاختلاف بسبب تعدّد مشارب الفقهاء واختلاف بيئاتهم واتساع دائرة المسائل الجديدة، كما ارتبط التدوين أيضًا باضطراب أصول الاستنباط وفساد اللسان العربي عند البعض(1)، هذا فضلاً عن توسُّع الثروة الحديثية بسبب التقدم في مرحلة الجمع والتدوين؛ حيث أدى ذلك التوسُّع إلى ظهور التّعارض بين بعض الأحاديث بعضها مع بعض أو مع عمومات القرآن الكريم، وظهرت الحاجة الماسة إلى وضع منهج للتعامل مع تلك الثروة بما يحلّ تلك الإشكالات.
وقد انضاف إلى هذه الدوافع فيما بعد دوافع أخرى دفعت أتباع المذاهب الفقهية إلى الخوض في هذا العلم، تمثلت في استخراج أصول الاستنباط التي اعتمدها أئمة المذاهب، والاحتجاج لتلك الأصول التي ارتضاها كل طرف لنفسه، وقد كان لهذا العامل أثر كبير في انتشار التأليف في علم أصول الفقه وتطوُّره(2)، ويظهر ذلك بجلاء في المناقشات والردود التي كانت بين فقهاء الاتجاهات الفقهية المختلفة(3)، كما تبدو واضحة عند أصوليي الحنفية في أسلوبهم الدفاعي الذي سلكوه في الدفاع عن أصول الاستنباط المعتمدة في مذهبهم، والحرص على مقارنتها بما هو عند الشافعية ومحاولة الرد عليها.
وقد كان للمستجدات في مجال الحياة الفقهية أثر مستمر في علم أصول الفقه والدفع به في طريق التطور؛ سواء من حيث إدخال موضوعات جديدة فيه، أو من حيث تطوير مضمون موضوعاته التي ظهرت منذ البداية ودوّنها الشافعي في الرسالة، أو من حيث الطريقة التي تمت صياغته بها.
فمن حيث المضمون، نجد أن أول مصنَّف في هذا العلم (الرسالة) اقتصر على الموضوعات الأساسية ذات الصلة المباشرة باستنباط الأحكام، وعلى الموضوعات التي كانت مثار خلاف بين أهل الرأي وأهل الحديث بهدف التقريب بينهما. ومعلوم أن الخلاف بين المدرستين كان أساسًا حول التوسّع في استخدام الرأي (خاصة القياس) في استنباط الحكام، وحول علاقة سنة الآحاد بالقرآن الكريم، والعمل ببعض أنواع خبر الواحد، ولذلك نجد أن كتاب الرسالة كان استجابة لمتطلبات بيئية من خلال تركيزه على تلك الموضوعات، ويتبين ذلك من استعراض المحاور الأساسية للكتاب؛ حيث افتتح الإمام الشافعي رسالته بمقدمة تُعدّ تأسيسًا لمصدرية القرآن والسنة في التشريع الإسلامي والحياة الإسلامية عمومًا. أما صلب الكتاب فقد بُني على كيفية وقوع البيان في الشرع، تحدث فيه عن أسلوب القرآن الكريم في تشريع الأحكام وبيانها، وعن علاقة السنة بالقرآن الكريم وكيفية بيانها للأحكام سواء منها الأحكام الواردة في القرآن الكريم أو الأحكام التي استقلت بتشريعها، كما تحدّث عن السبيل الذي يسلكه المجتهد في بيان الأحكام الشرعية واستنباطها. وتكلم عن الإجماع، والاجتهاد الذي كان أبرز صوره القياس، والاستحسان، وباب الاختلاف متى يكون محمودًا ومتى يكون مذمومًا، وحجية أقوال الصحابة.
وكما كان كتاب الرسالة استجابة لمتطلبات واقعه، فإن التأليف الأصولي فيما بعدها تطوّر حسب احتياجات كل عصر، حيث كان علماء كل عصر يتصدون لمعالجة القضايا التي كانت مثار نقاش وخلاف بينهم. ففي مباحث السنّة ثار النقاش حول حجية خبر الواحد، فاحتاج الأصوليون إلى مناقشته، وظهر بذلك مبحث واسع عن حجية خبر الواحد ولزوم العمل به؛ ومع انتشار رواية الحديث وتدوينه وظهور عامل الوضع في الأخبار احتاج العلماء إلى وضع قواعد لتمحيص الحديث الصحيح والمعمول به من غيرهما، ومع أن هذا العلم قد اضطلع به المحدثون أصالة، إلا أن الأصوليين وجدوا أنفسهم في حاجة إلى الخوض فيه أيضًا. كما أن ما ظهر من تعارض في السنة بعضها مع بعض، أو تعارضها مع بعض عمومات القرآن وظواهره احتاج إلى وضع ضوابط للجمع والترجيح بين تلك المتعارضات.
ومع بُعْدِ العهد عن زمن الصحابة وتوسُّع الخلاف ظهر الاختلاف حول بعض مسائل الإجماع، مثل إمكانية انعقاده بعد عصر الصحابة، وشروط العمل به، والإجماع السكوتي، وهي الأمور التي أدّت إلى تطور مباحث الإجماع وتوسّعها.
كما أن التوسّع في استخدام القياس أدى إلى ظهور الخلاف حول بعض صوره واستخداماته، ويظهر ذلك جليًا في مباحث ما يَثْبُتُ بالقياس وما لا يدخله القياس، وشروط العلة ونواقضها، وقد غذى توسع تلك المباحث دخول القياس المنطقي هذا الميدان، هذا فضلاً عن ظهور الاتجاه الظاهري الرافض لاستخدام القياس، وهو الأمر الذي أدى إلى ظهور مبحث خاص بإثبات حجية القياس والتعبّد به(4).
أما من حيث منهج البحث والتأليف، فإنه يظهر من النظر في مؤلفات الأصوليين في القرنين الثاني والثالث أن هدفهم الأساسي من تقعيد وتدوين قواعد هذا العلم هو ضبط الاجتهاد الفقهي، وبيان طرق الاستنباط، وتحديد الآليات التي يستخدمها المجتهد في اجتهاده، ولم يكن هدفهم وضع نظرية عامة للفقه الإسلامي؛ ولذلك كانت مباحث مدوناتهم الأصولية تقتصر على ذلك، ولم يهتموا بتحديد حدود هذا العلم ولا رسم مصطلحاته.
ولكن مع تطور العلوم واتساعها ودخول المتكلمين المتمرسين على البحث الفلسفي ميدان الأصول، شهد البحث في هذا العلم دفعة قوية في مسيرته نحو النضج بإدخاله مرحلة التنظير؛ فعملوا على صياغة مباحثه في شكل نظرية متكاملة، والخروج به إلى مرحلة التجريد التنظيري بعيدًا عن التأثّر بالفروع الفقهية الموروثة عن المذاهب. وقد تمت هذه النقلة النوعية من خلال إسهامات القاضي الباقلاني (403هـ) التي تمثلت أساسًا في كتابه التقريب والإرشاد، والقاضي عبد الجبار (415هـ) في كتابه العمد(5).
وتبرز الملامح التنظيرية للمتكلمين في الاهتمام بتعريف هذا العلم، وتحديد حدوده ومصطلحاته، وتوسيع ميدانه، حيث لم يعد قاصرًا على طرق الاستنباط ومسالك الاجتهاد، بل دخل ضمن موضوعاته البحث في المجتهد الذي يتولى عملية الاجتهاد، والبحث في المكلّف الذي تطبّق عليه الأحكام، والبحث في فلسفة التكليف التي نشأت بسببها مباحث: مصدر التكليف (الحاكم)، ومسألة التحسين والتقبيح، وخصائص التكليف (المحكوم فيه). وفي موضوع السنة دخلت مباحث نظرية لإثبات مرجعية السنة، وهي ما اصطُلِح عليه بمباحث الأخبار، حيث جرى بحث أقسام الخبر من حيث الصدق والكذب، ومن حيث إفادة القطع والظن.
ومع تطور الحركة العلمية وازدهارها وتنوُّع مناهج واجتهادات المساهمين فيها، شاع الخلاف وصارت تُعقَد مجالس للجدل والمناظرة، وهو ما أدى إلى إدخال مباحث كثيرة من الجدل ضمن موضوعات علم الأصول سواء تحت أبواب مستقلة كما فعل مثلاً ابن عقيل في كتابه الواضح، أو أُدرِجت ضمن مباحث قوادح العلة من القياس، بحكم أن أغلب الجدل والمناظرات كانت ذات صلة بالقياس.
والخلاصة أن علم أصول الفقه بدأ عملاً لتفسير النصوص وتحديد مناهج الاجتهاد وضبطها، واستقرّ في مرحلة نضجه بما يُشْبه نظرية عامة للفقه الإسلامي، لا تقتصر على أسس ومبادئ الاستنباط، ولكن تتشعّب إلى أربعة محاور – كما قسّمها الغزالي -: أولها الثَّمرة: وهي الأحكام الشرعية، وثانيها المُثْمِر: وهي الأدلة، وثالثها طرق الاستثمار: وهي وجوه دلالة الأدلة، ورابعها المُسْتَثْمر: وهو المجتهد والمفتي.
وأرى أن جهود إعادة صياغة هذا العلم يُفَضَّل أن تسير في اتجاه جعله نظرية عامة للفقه الإسلامي، حيث أن الهدف من هذا العلم لم يَعُد مقصورًا على رسم مناهج الاجتهاد وضوابطه، بل يتعدى ذلك إلى فهم طبيعة النظام القانوني الإسلامي، والطريقة التي يعمل بها هذا النظام، كما أنه ينبغي أن يتضمن التنظير لمنظومة الحقوق الأساسية للإنسان في الإسلام، وكيفية حمايتها، وأن يكون مصدرًا للتفقُّه في طبيعة الشريعة الإسلامية ومقاصدها، وأن يشتمل على القواعد الأساسية التي يهتدي بها القضاة والمفتون في تطبيق الأحكام الشرعية على الواقع، أو في تخريج الأحكام الفرعية على الأصول.
الانتقادات الموجهة لعلم أصول الفقه:
ليست عملية النقد لطرق التأليف في علم أصول الفقه وليدة هذا العصر، بل ظلت عملية مستمرة بين رجال هذا العلم منذ القرون الأولى، وإن كانت قد خفتت في عصر الجمود لتعود للظهور بقوة في بدايات القرن الرابع عشر الهجري/ القرن العشرين المسيحي(6). وربما كان أول عيب دخل على علم أصول الفقه هو تسرّب الدخيل إليه مع دخول علماء الكلام مجال التأليف فيه، وهي قضية اشتكى منها أبو الحسين البصري(7) (ت 436هـ) والغزالي(8) (ت 505هـ) وسعى كل منهما إلى التخلّص منها.
كما أن المنطق الصوري اليوناني دخل أيضًا إلى علم أصول الفقه مع دخول المتكلمين مجال التأليف فيه وازداد تمكُّنا فيما بعد في عصر الجمود والانحطاط، ومع المتكلمين أيضًا دخل التجريد والإلغاز، وقد اشتكى ابن عقيل الحنبلي (513هـ) من ذلك التجريد في كتابه الواضح في أصول الفقه(9)، وسعى الآمدي (631هـ) في كتابه الإحكام إلى تجنبُّ جميع تلك العيوب(10)، وإن كان مضمون كتابه يوحي بعدم توفيقه في جميع ذلك؛ إذ لم يكن كتابه في بعض مواضعه أقل إلغازًا وتجريدًا ممن سبقه.
وبعد المرحلة التي مال فيها علم الأصول إلى التوسّع والاستطراد، اتِّجه التأليف إلى الاختصار والإلغاز، وهو الأمر الذي انتقده الزركشي (794هـ) بشدّة في قوله: “… ثم جاءت أُخْرى من المتأخّرين، فحجَّروا ما كان واسعًا، وأبعدوا ما كان شائعًا، واقتصروا على بعض رؤوس المسائل، وكثّروا من الشّبه والدلائل، واقتصروا على نقل مذاهب المخالفين من الفِرق، وتركوا أقوال مَنْ لهذا الفنّ أصلّ، وإلى حقيقته وصلّ، فكاد يعود أمره إلى الأول، وتذهب عنه بهجة المعول”(11).
والمشكلة الأساسية هي أن طريقة التأليف التي انتقدها الزركشي صارت هي السائدة قبل عصره واستمرت بعد عصره، مع استثناءات نادرة كما هو الحال عند الإمام الشاطبي في كتابه الفريد الموافقات، وأصبحت تلك الكتب التي انتقدها الزركشي هي السائدة في التدريس، والمتداولة بين طلاب العلم، وكاد ينحصر التأليف في دوامة تدبيج مختصر ثم شرح ذلك المختصر ثم إعادة اختصاره، أو جمع مصنَّف ثم اختصاره ثم شرح ذلك المختصر مرة أخرى، وكل ذلك من طرف مؤلف واحد؛ فهو الجامع والمختصر والشارح، وإذا امتدّ التأليف فإنه يمتدّ إلى وضع الحواشي والتعليقات والتذييلات، وهذه هي المرحلة التي كاد يموت فيها حقًا علم الأصول، والمؤسف أنها استمرت زمنًا أطول من المراحل الأولى التي كانت هي مراحل النشأة والتطوّر والازدهار. ولم تنجح محاولات الشاطبي والزركشي في إعادة التأليف في علم الأصول إلى سكَّته السليمة والخروج به من دوامة الاختصار والشرح والإحشاء.
ومن الانتقادات المعاصرة لعلم أصول الفقه وصفه بالعقم عن إمداد الحياة التشريعية والعلمية الإسلامية بما هي في حاجة إليه من حلول للمشكلات المستجدة، وعجزه عن توليد المجتهدين، وفي ذلك يقول الدكتور حسن الترابي: “جاء عقيمًا منبتًا عن الواقع الخصب بالحياة، لا يكاد يؤهل الماهر فيه لأن يولِّد فقها أو يمارس اجتهادًا”(12). والناظر في مقال الترابي عن تجديد أصول الفقه يجده يدور في مجمله حول الدعوة إلى إيجاد اجتهاد فعّال وإحداث نهضة علمية تلبي حاجات المسلمين المعاصرة في مجالات الحياة العامة، مثل الحكم، والسياسة، والاقتصاد، والاجتماع، والتحرّر من جوانب الاحتياط الفقهي المبالّغ فيه الذي ساد في عصور الانحطاط العلمي والحضاري وحاول أصحابه صبغ علم أصول الفقه به.
وهنا يحتاج الأمر إلى مناقشة قضية ذات صلة بالهدف من وضع علم أصول الفقه وحدوده حتى لا نحمِّله مالا يحتمله. فما يتحدث عنه الترابي من قصور الاجتهاد الفقهي وضموره في مجالات الحكم والاقتصاد والسياسات العامة للدولة ليس المسؤول عنه بالدرجة الأولى هو علم أصول الفقه؛ فعلم أصول الفقه وإن كان له دور في ذلك إلا أن مهمته هي تقديم الأدوات المنهجية للاجتهاد وتنظيم سيره، وليس توليد المجتهدين الأكفاء من تلقاء نفسه. والنهضة التشريعية لا يكفي لقيامها وجود منهج مناسب، بل لابد من وجود أشخاص لهم كفاءة استخدام ذلك المنهج بطريقة سليمة وفعالة، هذا فضلاً عن أن القدرة على الاجتهاد ليست نتاجًا للتمكّن من علم أصول الفقه، بل هي نتاج التمكُّن من علوم كثيرة، زيادة على القدرات الذهنية والمواهب العقلية التي يتمتّع بها الشخص.
ومعلوم أن النصوص الشرعية في مجالات النظم الاقتصادية، والسياسية والاجتماعية ضابطة أكثر منها مؤسِّسة، فإرساء سياسات ناجحة في مجالات الاقتصاد والاجتماع والحكم يحتاج إلى إبداع بشري بالدرجة الأولى، أما دور النصوص والمبادئ الشرعية الواردة في تلك المجالات فهو الضبط والتوجيه أساسًا، أما تفاصيل تلك السياسات وخطواتها العملية وآليات تنفيذها فإنها تكون من إبداع العقل البشري وهي متروكة له، وليست هي مهمة الدين أو أصول الفقه.
ولا يمكن إنكار أن الجمود الذي أصاب علم أصول الفقه قد أسهم في حالة الضعف في مجال العلوم الشرعية والاجتهاد لقرون طويلة، ولكن السؤال: ما السبب في الجمود والتجريد الذي أصاب علم الأصول؟ ألا يمكن القول إن الذي قاد علم أصول الفقه إلى الجمود وعدم الفاعلية هي العقليات الجامدة أو الضعيفة؛ أي أن تلك العقليات هي التي تسبّبت في جمود علم أصول الفقه، وتغليب الجوانب الفرعية والجدلية فيه على جوهره؟ فربما كان الجمود الفكري والانحطاط العلمي هو الذي سبَّبَ جمودّ أصول الفقه، وليس العكس. ويمكن تأييد هذا القول ببعض الأعلام الذين عاشوا في المرحلة التي تُصنّف ضمن عصر الجمود والانحطاط العلمي ومع ذلك كان لهم إنتاج باهر في المجال العلمي، فابن تيمية – مثلاً – عاش في وقت كان كثير من فقهائه يشتغلون بالفرعيات ويشكِّكون في إمكانية الاجتهاد، ولكنه مع ذلك استطاع أن يحقِّق إنجازات عظيمة سواء على المستوى العلمي أو العملي، والأمر نفسه يقال عن الإمام الشاطبي الذي أبدع في كتابه الموافقات، وتقدّم بالتأليف في علم أصول الفقه خطوات عظيمة. كما يمكن تدعيم هذا الرأي بأن مادة علم أصول الفقه في صورتها التي كُتبت بها في عصر الازدهار لم تَغِبْ يومًا ما عن العالم الإسلامي، بل كانت في المتناول، ولكن نظام التدريس الذي نحا منحى الجمود والاجترار هو الذي أبْعَد تلك المصنَّفات عن دائرة التّداول، واستعاض عنها بتلك الملخّصات والشروح والحواشي.
وفي عصرنا الحاضر لا اعتقد أن هناك قصورًا كبيرًا في الاجتهاد الإسلامي لإعطاء إجابات للمسائل الجزئية التي تحتاج إلى حكم شرعي، ولكن القصور الواضح هو في تطوير أنظمة إسلامية متكاملة تحقّق النهضة الإسلامية في مجالات الحكم، والاقتصاد، والتنظيم الاجتماعي، والتطور العلمي. وهذه مشكلات معقّدة ذات أبعاد متعدّدة لم تتسبب فيها العلوم الشرعية لوحدها، ولا يمكن أن يقتصر حلُّها على تجديد علم أصول الفقه أو غيره من العلوم الشرعية. ولاشك أن النهضة في هذه العلوم سوف تُسْهم في النهضة العامة، ولكن تحميلها مسؤولية تلك النهضة أمر غير واقعي.
ولذلك فإن القول بأن “علم الأصول التقليدي الذي نلتمس فيه الهداية (لتأسيس النهضة الإسلامية) لم يعد مناسبًا للوفاء بحاجتنا المعاصرة حقّ الوفاء لأنه مطبوع بأثر الظروف التاريخية التي نشأ فيها، بل بطبيعة القضايا الفقهية التي كان يتوجه إليها البحث الفقهي”(13) قول يحتاج إلى تمحيص. فهل يمكن القول بأن ما حققته الأمة الإسلامية في عصور ازدهارها من نهضة شاملة كان علم أصول الفقه وراءها بشكل مباشر؟ أم أنها نهضة أسهمت فيها كل العلوم الإسلامية، وقامت بها عقليات تمثّلت مبادئ الإسلام وتعاليمه في حياتها العملية، وعلى رأسها الرفع من مكانة العلم وأهله، والتزام التفكير العلمي والبعد عن الفكر الخرافي، وحبّ الضرب في الأرض والبحث والاستكشاف.
ومن الانتقادات التي وجِّهت في هذا العصر لعلم الأصول كونه لا يعصم المجتهدين والمتفقهين من التفرُّق والاختلاف بسبب ظنِّية كثير من مسائله وكونها محلّ خلاف بين الأصوليين وأتباع المذاهب المختلفة(14)، ومن ثم فإنه لابد من البحث عن منهج جديد لأصول الفقه “يمنع من التفرق والتنازع، ويحصر الاختلاف في الرأي في دائرته المحمودة، ويحمي طاقات الأمة أن تُهْدر أو تُنفق فيما لا جدوى منه”(15). وقد اقترح ابن عاشور حلّ تلك المشكلة بتأسيس علم مقاصد الشريعة وفصله عن أصول الفقه ليكون “نبراسًا للمتفقهين في الدين، ومرجعًا بينهم عند اختلاف الأنظار وتبدل الأعصار، وتوسُّلاً إلى إقلال الاختلاف بين فقهاء الأمصار”(16). والواقع أن هذه المهمة ليس من السهل على علم أصول الفقه تحقيقها مهما بُذل من أجل ذلك، فإنه ليس من السهل تحقيق اتفاق على جميع جوانب المنهج وقواعده، وقد حاول الإمام الشافعي ذلك من قبل في رسالته، ولكن لم يتحقق ذلك على كماله، بل صار ما قدّمه منهجًا جديدًا في الاجتهاد صار أساسًا لمذهب فقهي انضاف إلى المذاهب التي كانت موجودة. ومن المعلوم أن الأصول الفكرية تعمل عادة على جهتين متقابلتين: فهي من جهة تحقق قسطًا كبيرًا من التوافق الفكري بين أتباع المنهج الواحد، ولكنها في المقابل تُأصِّل للاختلاف مع أصحاب المناهج الأخرى. وبقدر ما كان علم أصول الفقه عاملاً للوحدة الفكرية، بقدر ما كان أيضًا عاملاً لتأصيل الخلاف بين أتباع مدرسة الحنفية ومدرسة المتكلمين وترسيخه؛ حيث عمل أتباع كل طرف على ترسيخ أصوله وإثباتها بكل الوسائل والتفريع عليها، وصار الاختلاف له أصوله الراسخة. كما أن ما اقترحه الشيخ محمد الطاهر بن عاشور من تأسيس علم مقاصد الشريعة مفصولاً عن أصول الفقه ليقوم بدور التوحيد لن يكون مصيره أفضل من مصير أصول الفقه نفسه(17)، ولا أرى داعيًا إلى فصل المقاصد عن علم الأصول، بل الأولى دمجها فيه وجعلها الخيط الناظم له.
اتجاهات معاصرة في الدعوة إلى تجديد علم الأصول:
وُجِدت عبر تاريخ التأليف في علم أصول الفقه أعمال كثيرة لإعادة صياغته، ليس هذا مجال الحديث عنها(18). وسوف أقتصر هنا على عرض الاتجاهات المعاصرة لأن البحث إنما هو بصدد ما يمكن فعله في العصر الحاضر من أجل إعادة صياغة هذا العلم (تجديده)، ونظرًا لصعوبة الإحاطة بجميع ما كتب في هذا المجال فإني سوف اقتصر على بعض الأعمال مُصنِّفًا إيّاها في اتجاهات ثلاثة.
الاتجاه الأول: يرى أصحابه أن تجديد علم أصول الفقه ينصبّ أساسًا على إعادة صياغته بأسلوب منهجي، ولغة سهلة تسهّل على المعاصرين استيعابه، وتخليصه من الدخيل الذي تسرّب إليه من مختلف العلوم الأخرى خاصة علمي الكلام والمنطق، وتحرير وتحقيق بعض مسائله ومباحثه، مع الاستفادة من مستجدات العلوم والمعارف الإنسانية والاجتماعية. وقد كُتب الكثير مما يمكن تصنيفه ضمن هذا الاتجاه مثل كتب أصول الفقه المعاصرة، والدراسات التي كُتبت حول موضوعات جزئية من أصول الفقه مثل السنة، والإجماع، والقياس، ودلالات الألفاظ، وتفسير النصوص، وقد عمل أصحابها على جمع المتفرقات في تلك الموضوعات وصياغتها بأسلوب منهجي وتحقيق مباحثها وإشباعها بحثًا.
ويمكن أن نلخص معالم هذا الاتجاه في التصور الذي قدمه كل من الدكتور حسن الترابي(19) والدكتور محمد الدسوقي؛ وتتمثل معالمه فيما يأتي:
– الربط بين قضايا علم الأصول وعلم أصول القانون(20)، وكذلك بين قضايا علم الأصول ومناهج البحث(21).
– استفادته من علوم العقل التي تجددت وتطورت، ولم تكن متوفرة لدى السلف الذين وضعوا هذا العلم(22).
– إخراج المباحث التي لا تنتمي إلى علم أصول الفقه منه، وربط القواعد بالفروع التطبيقية ما أمكن(23).
– دراسة النص الشرعي دراسة أصولية، أي دراسة تكشف عن خصائص ذلك النص من حيث منهجه في تقرير الأحكام، لا دراسة تاريخية هي أقرب إلى الدراسات القرآنية وعلوم الحديث، كما هو واقع في كتب أصول الفقه المعاصرة عند الحديث عن الأدلة السمعية(24).
– توسيع دائرة القياس وتحريره من القيود التي دخلته من المنطق الصوري، والرجوع به إلى “القياس الفطري الحرّ من تلك الشرائط المعقدة”(25).
– الاعتماد على الاستصحاب في القضايا المتعلقة بالأمور الدنيوية(26).
– تطوير الأصول التفسيرية والاجتهادية الواسعة التي تناسب الاجتهاد في رسم السياسات العامة في مجالات الاقتصاد والاجتماع والحكم(27).
– تدريس المقاصد الشرعية بصورة وافية، وجعلها جزءًا من أصول الفقه وعدم فصلها عنه(28).
– تطوير مفاهيم بعض الأدلة من خلال توسيعها، أو ضبطها وجعلها أقرب إلى الواقع العملي، أو بتضييق دائرة الاختلاف حولها. ويتعلق الأمر هنا خصوصًا بالإجماع من خلال توجيهه وجهة عملية ليتمثل في المجامع الفقهية والخروج به من إطار التجريد والافتراض، وتوسيع نطاق عمل القياس وإخراجه من قيود المنطق القديم(29)، وتوسيع العمل بالاستحسان(30).
– ربط علم أصول الفقه بواقع الحياة(31).
وبالنظر في ما يدعو إليه أصحاب هذا الاتجاه، نلاحظ أن هذه الدعوة أصيلة، ومقبولة في الجملة، وهي الخطوة الأولى التي لا يمكن الاستغناء عنها في طريق إعادة صياغة هذا العلم. ولكنها قد لا تكون كافية لوحدها، بل ينبغي أن ينضم إليها إعادة هيكلته بشكل شامل، كما سيأتي بيانه.
الاتجاه الثاني: اتجاه يقترح تجديد علم أصول الفقه بصورة تجعله منهجًا إسلاميًا للبحث والمعرفة، ويمثل هذا الاتجاه الدكتور طه جابر العلواني، الذي نشر كتيّبًا بعنوان: أصول الفقه الإسلامي منهج بحث ومعرفة، ومع أن هذا البحث اقتصر على التعريف بعلم أصول الفقه، إلا أن صاحبه أراده لبنة أولى في مشروعه، متمنيًا تمكنه من إتباعه ببحوث أخرى. والذي يعنينا هنا من هذا البحث هو عنوانه الذي يشير إلى تصور الدكتور طه جابر لتجديد علم الأصول؛ المتمثل في تطويره بصورة تجعله منهجًا للبحث والمعرفة سواء للعلوم الشرعية أو العلوم الاجتماعية. ويشرح الدكتور طه جابر تصوره هذا في إحدى محاضراته في دورة استراسبورج عن إسلامية المعرفة على الشكل الآتي:
ينطلق الدكتور طه جابر في دعوته هذه من كون العلوم الاجتماعية والإنسانية “تعاني اليوم من قصور ومن محدودية، وأنها تتوقف أمام ظواهر كثيرة دون أن تتمكن من أن تعطي فيها جوابًا أو حلاً شافيًا(32)، وأن “هذه المحدودية التي يشكو منها المختصون بالعلوم الإنسانية والاجتماعية يمكن أن يسهم الإسلام في معالجتها من خلال المصدر الثاني”(33) للمعرفة، وهو الوحي، وما دمنا نحن المسلمين نؤمن باتخاذ الوحي “مصدرًا للمعرفة فلابد أن يكون لدينا منهج نتعامل به مع هذا الوحي الذي سيتناول ظواهر اجتماعية وظواهر إنسانية، ونحن لدينا شيء من هذا المنهج يجب أن نفحصه وندرسه، وعلينا أن نُُعْمِل عقولنا فيه وأن نجتهد بأن لا ندع دليلاً من هذه الأدلة إلا ونبحث ماذا قيل فيه ومتى؟ وما هي ظروفه؟ وهل ينطبق أو لا ينطبق؟”(34). “… فبافتراض أن أصول الفقه كمنهج قد استطاع أن ينجح في تقديم فقه وافر وغزير وأن ينجح في التعامل مع الوحي إلى حد بعيد، فإننا يمكن أن ننظر فيه ونعيد النظر في سائر قضاياه… فالذي أدعيه أن هذا التراث وهو مما لاشك فيه تراث شرعي وعقلي إسلامي … هائل، قد اتفق علماء الأمة أن العقل المسلم لم يبدع منهجًا علميًا أو معرفة أفضل من هذا، ويعتبر زبدة العقل المسلم لعصور كثيرة، ولكنه فيه وعليه. فترى لو أننا رجعنا إليه وأعدنا قراءته ودراسته وفحص مقولاته وقضاياه … والاستفادة مما هو قادر على مدِّنا بما نحتاج إليه خاصة في قضايا الوحي …”(35).
والخلاصة أنه يرى أن علم أصول الفقه هو المنهج الذي يمكن إعادة النظر فيه وتطويره بما يجعله منهج بحث ومعرفة يسهم في معالجة المشاكل المنهجية التي تعاني منها ليس العلوم الشرعية فقط، بل العلوم الإنسانية والاجتماعية أيضًا(36).
ولا يقدم الدكتور طه جابر مقترحات عملية واضحة لتطوير علم أصول الفقه بهذه الصورة، وإنما يكتفي بما اقتبسناه من كلامه، كما يدعو إلى الاستفادة من مناهج البحث الاجتماعي مثل الاستبيانات لتطوير “فقه الواقع”، وهو الفقه الذي يستفيد من الدراسات الاجتماعية والنفسية من أجل معرفة أفضلَ بالمحكوم عليه وحسن تنزيل الأحكام على الوقائع، وان يستفيد الأصولي من أدوات المنهج التجريبي في بعض المباحث الأصولية مثل العرف والمصلحة والضرر وغيرها. وفي المقابل يدعو إلى الاستفادة من المنهج الأصولي في مساحات قصور العلوم الاجتماعية والإنسانية. ويلخص ذلك في قوله: “ولو توصلنا إلى هذا وأوجدنا نوعًا من التكامل بين المنهج الأصولي في مجال الوحي والمنهج العلمي التجريبي فربما يؤدي هذا إلى إصلاح وتغطية المساحات الخالية مما لم تتعرض له العلوم الإنسانية والاجتماعية وإلى إصلاح قضيتنا الفقهية التي نعاني منها … لذلك فإنني اعتقد أن استخدام هذا المنهج وتطويره لن يخدم العلوم الإنسانية والاجتماعية وحدها، ولكن الفائدة متبادلة”(37).
وهذا التصور للدكتور طه نابع من مجال اهتمامه، وهو أسلمة المعرفة، فهو من جهة – بحكم تخصصه الأصولي – يدرك أهمية هذا العلم، كما يدرك جوانبه التي تحتاج إلى تحرير وتطوير، ومن جهة أخرى يحاول – بحكم اهتمامه بأسلمة العلوم الإنسانية والاجتماعية الغربية – إيجاد طريق تتم من خلاله تلك الأسلمة، وهو يرى أن علم أصول الفقه يمثل أفضل طريق لذلك بعد إدخال التطوير اللازم عليه.
وقبل أن أسجل ملحوظاتي على هذا الاتجاه ينبغي أن أشير إلى أن الدكتور جمال الدين عطية كان من أول المشكِّكين في جدوى هذا المسلك، حيث بدا في إحدى حواراته مع الدكتور طه جابر العلواني في تلك الدورة (دورة ستراسبورغ عن إسلامية المعرفة) معترضًا على الاتجاه الذي يدعو إليه؛ وهو جعل علم أصول الفقه منهجًا للبحث والمعرفة عمومًا، حيث يقول: “إن الذي أشعر به أن علم أصول الفقه قد وُضِع أصلاً لضبط التكاليف (افعل ولا تفعل)، واستنباط الأحكام المتعلقة بهذه التكاليف من النصوص. وبالتالي فهو لم يوضع أصلاً لتفسير الظواهر الاجتماعية وبيان العلاقات السببية بينها أو التوصل إلى القوانين التي تحكمها، ومن الظلم أن نحمّله مالا يحتمل”(38).
وبالنظر في تصور الدكتور طه جابر نرى أنه على الرغم من الطموح الكبير الذي يبديه صاحبه، وعلى الرغم من التسليم بضرورة دخول المسلمين بشكل فعّال في مجال البحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية، إلا أن إمكانية تحويل علم أصول الفقه إلى منهج للبحث والمعرفة في العلوم الشرعية والاجتماعية والإنسانية على السواء أمر لا يتيسر؛ ذلك أن هذه الوجهة التي يُراد لأصول الفقه أن يتوجه إليها تخالف طبيعته والهدف من وضعه؛ فعلم أصول الفقه يُعنى أساسًا بالجانب التشريعي، من خلال تحديد طرق الاجتهاد، وأدواته، من اجل تفسير النصوص الشرعية، وإعطاء الأحكام الشرعية لوقائع الحياة العملية، وليس من مهمته البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية. وأصول العلوم الإنسانية والاجتماعية ينبغي أن تكون مستقلة. نعم، يجب أن تكون تلك الأصول مبنيّة على مبادئ الإسلام وقواعده، ولكنها وإن كان لها علاقة ما بالعلوم الشرعية، إلا أنها علوم مستقلة لا يُنتظر من علماء أصول الفقه أن يضعوا لها أصولها ومناهج البحث فيها، وإنما المخوّل بوضع تلك الأصول والمناهج هم علماء الاجتماع والاقتصاد والسياسة الذين يَجمعون بين تخصصهم وبين التشبّع بالثقافة الإسلامية وسعة الإطلاع على نصوص القرآن والسنة النبوية، ويمكنهم في ذلك الاستعانة بمختلف العلوم الإسلامية بما فيها أصول الفقه.
ولنا في تاريخ علم أصول الفقه تجربة قام بها بعض المتكلمين سعوا من خلالها إلى صياغة نظرية إسلامية للمعرفة بالمزاوجة بين علمي الكلام وأصول الفقه. فعلم الكلام كان يمثل الشق الكوني من نظرية المسلمين في المعرفة، في حين كان علم أصول الفقه يمثل الجزء الأساسي من الشق الشرعي من تلك النظرية. ولما دخل كبار المتكلمين ميدان الأصول حاولوا الجمع بين الشقين لتكوين نظرية متكاملة، وقد بدت آثار تلك المحاولة في البعد الفلسفي الذي أعطاه المتكلمون لكثير من المباحث الأصولية وإدخال مباحث كثيرة ذات علاقة بوسائل المعرفة ومناهجها إلى موضوعات الأصول. ولكن هذا التوجُّه الذي قام به الجيل الأول من أصوليي المتكلمين من أمثال الباقلاني والقاضي عبد الجبار كان محلّ تحفّظ واعتراض من طرف الجيل الثاني منهم، حتى ضمن صفوف المعتزلة الذين يوصفون عادة بأنهم يمثلون المدرسة العقلية في التاريخ الإسلامي، فقد تحفَّظ أبو الحسين البصري على طريقة شيخه القاضي عبد الجبار، وألَّف كتابه “المعتمد” من أجل نقض تلك الطريقة، وفي المقابل كان عند الأشاعرة تحفُّظ الجويني والغزالي على تلك المحاولات. وعلى الرغم من عدم تحرُّر هذا الجيل في مؤلفاتهم من سطوة علم الكلام كليًا، إلا أن رفضهم المضي في خطة القاضيين، وإحجامهم عن إكمال ذلك البناء، وتفضيل إيقاف مسيرته – مع أنه كان من شأنهم في المسائل العلمية البناء على ما وضعه الشيوخ والعمل على تطويره وإكماله – يدلّ على اعتقادهم عدم جدوى تلك الطريقة، وهو مؤشر تاريخي على التشكيك في نجاحها.
أما ما يُقال عن الاستفادة من مباحث الأصول المتعلقة بالعلة والسبب في مناهج العلوم الاجتماعية والإنسانية، فإن القضية أصبحت مجرد تاريخ، فعلم أصول الفقه حقّق السبق المعرفي في هذه المجالات في القرون الهجرية الخمسة الأولى، وقد تمت الاستفادة من هذا في مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية والطبيعية من قبل علماء المسلمين الذين برعوا في تلك العلوم، كما استفادت منه النهضة الأوروبية في بداياتها، أما الآن فهذه القضايا صارت من المعلومات بالضرورة في تلك العلوم، ولم يعد أحد في حاجة إلى اقتباسها من علم أصول الفقه. أما الاستفادة من مقاصد الشريعة فإنما يكون للعلماء المسلمين في ضبط مناهجهم في مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية والطبيعية على السواء، حتى لا يخرجوا بها عن جادة الصواب، فعلم المقاصد علم موجِّه لتلك الدراسات وليس مؤسسًا لها، أما غير المسلم فلا يُتوقع منه الاهتداء بهذا العلم لأنه لا يؤمن بكثير من قيم هذه الشريعة فلا يُتوقع منه الالتزام بمقاصدها. وأما اعتماد الوحي مصدرًا للمعرفة – وهو أهم ما ينقص العلوم الاجتماعية والإنسانية الغربية – فهو ليس أمرًا خاصًا بأصول الفقه، وإنما هو أمر يتعلق أساسًا بالإيمان بذلك الوحي.
أما ما يدعو إليه الدكتور طه جابر وغيره من استفادة علم أصول الفقه من بعض أدوات البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية في تحديد العرف والمصلحة والضرر وغيرها، فهو أمر مطلوب، ولكنه في جوهره يُعدّ من باب استفادة المجتهد من تلك الأدوات في ممارسة الاجتهاد وتنزيل الأحكام على الوقائع، من خلال التعرّف على حقائق الأشياء، ومآلاتها، وجوانب المصلحة والضرر فيها، كما أن الإطلاع عليها والإلمام بها يوسّع مدارك المجتهد، ويربطه بالواقع الحقيقي للحياة ويحرره من حصر الذات في أجواء الماضي، ويجعل حكمه أقرب إلى الواقع والصواب. ولكن لا يُنتَظر من تلك الأدوات أن تكون فائدتها ذات بال في تحديد المبادئ النظرية لعلم أصول الفقه.
الاتجاه الثالث: يدعو أصحابه إلى إعادة صياغة علم أصول الفقه وتطويره بشكل يجعله يمثل النظرية العامة للفقه الإسلامي. ومن أصحاب هذه الدعوة الدكتور عمران احسن نيازي(39)، وهو يعايش تجربة في بلد متميّز إلى حدّ ما من الناحية القانونية عن واقع الدول الإسلامية الأخرى، حيث أن باكستان قطعت شوطًا في مجال أسلمة بعض القوانين التي تحكم البلاد. ويواجه كثير من رجال القانون (قضاة ومحاميين) في هذا البلد تحديّاً كبيرًا في التوفيق بين ثقافتهم القانونية ذات المشرب البريطاني والعمل في نظام قضائي مستمدّ من نظام القضاء البريطاني من جهة، واستيعاب وتطبيق تلك القوانين الإسلامية والتعامل مع الفقه الإسلامي وأصوله في صورتيهما ومصادرهما القديمة من جهة ثانية(40). وتمثل كتابات الدكتور عمران نيازي جهودًا كبيرة للاستجابة لتلك التحديات من خلال محاولة صياغة علم أصول الفقه وبعض النظريات الفقهية بصورة تمكّن رجال القانون في بلده من الاستفادة منها في مجال ممارساتهم القانونية.
اقترح عمران نيازي في مقدمة كتابه: “أصول الفقه” صياغة هذا العلم على شكل نظرية عامة للقانون الإسلامي تساعد على فهم أفضل لنظام القانون الإسلامي وتسهّل عملية تطوره المستمر. ويقسم عمران نيازي الإطار الذي يقترح أن يُدرس فيه علم أصول الفقه (النظرية العامة للقانون الإسلامي) إلى محورين: المحور الأول وهو الجانب المفاهيمي، ويشتمل على:
1- مفهوم القانون الإسلامي،
2- الحكم الشرعي: تقسيماته وطبيعته، وقواعده.
3- المحكوم فيه: ويشتمل على مباحث الحقوق والواجبات.
4- المحكوم عليه: ويشمل الأشخاص العاديين زيادة على الأشخاص القانونية والمعنوية.
5- الفقه: ويشمل جملة مفاهيم أساسية مثل الأهلية، والملكية، وغيرهما.
أما المحور الثاني فيمثل الجانب المعياري، ويشتمل هذا المحور على مجموعة من النظريات، هي:
1- نظرية الاجتهاد: وهي المنهجية التي يحوّل بها المجتهد النصوص والمبادئ العامة الموجودة في مصادر التشريع إلى قانون (أحكام شرعية عملية).
2- نظرية التخريج والقضاء: وهي المنهجية التي يتبعها رجل القانون أو الفقيه لتطبيق القانون الشرعي على الوقائع العملية، ومن ثَمّ يقوم بإثرائه وتوسيعه.
3- نظرية التكليف: وهي التي توضّح حدود التزام المكلَّف بالقوانين الشرعية، وشروط ذلك.
4- نظرية تطبيق القانون (السياسة الشرعية): وهي التي توضّح حدود السياسة العامة التي تتبعها الدولة في تطبيق القوانين الشرعية.
على أن يكون عمل هذه النظرية العامة للقانون الإسلامي في إطار مقاصد الشريعة التي تمثّل منظومة القيّم العليا للنظام الإسلامي، ويكون هدفها الأسمى هو المحافظة على الكليات الخمس من حيث الإيجاد، والإدامة، والحماية(41).
وفي كتابه عن “نظريات الاجتهاد في الفقه الإسلامي”، يرى عمران نيازي أن النظرية العامة للفقه الإسلامي (أصول الفقه) لا يمكن أن تكون ذات فائدة كبيرة في العصر الحاضر إلا إذا تضمنت مباحثها القضايا الآتية: المقصود بالقانون الإسلامي وحدوده ومجاله، بِنْيَة نظام القضاء الإسلامي بين الماضي والحاضر، كيفية استنباط الأحكام من مصادرها الشرعية بين الماضي والحاضر سواء من قِبَل المجتهدين أو من قِبَل رجال القانون، كيف يمكن اعتبار قانون ما إسلاميًا وما هي السلطة المخولة باتخاذ ذلك القرار؟ الحقوق الأساسية للإنسان في ظل القانون الإسلامي، كيف يمكن تأمين العدالة تحت سيادة هذا القانون؟(42).
ويمكن تصنيف عمل الدكتور جمال الدين عطية في كتابه النظرية العامة للشريعة الإسلامية ضمن هذا الاتجاه. فهو وإن لم يصرّح في ذلك الكتاب (الطبعة المتوفرة لدي) بأنه يرى ضرورة تطوير علم أصول الفقه ليصبح على شكل نظرية عامة للشريعة الإسلامية، إلا أن ذلك يمكن أن يُستنتج من تعريفه للنظرية العامة للشريعة وجعله مباحث أصول الفقه جزءًا منها، حيث يقول: “نقصد بالنظرية العامة للشريعة ذلك التصور العام الذي يوضح الخطوط العريضة للشريعة الإسلامية كنظام قانوني وحقوقي، وهي بهذا الاعتبار شاملة لأصول الفقه؛ إذ تحتل مباحثه – وهي تهتم أصلاً بقواعد استنباط الأحكام من الأدلة – مكانها ضمن المخطط العام للنظرية والتي لا تنحصر بمسألة الاستنباط”(43).
أما عن محاور هذه النظرية العامة للشريعة في تصوره فتتكون من: خصائص الشريعة، علاقة الشريعة بالعلوم الأخرى، مقاصد الشريعة، القواعد الكلية للشريعة، محل الحكم الشرعي، أنواع الحكم الشرعي ومجموعاته الرئيسية، مصادر الحكم الشرعي، منهج التوصل إلى الحكم الشرعي، تطبيق الحكم الشرعي ويدخل ضمنه: النطاق الشخصي والنطاق المكاني والنطاق الزماني لتطبيقه.
كما يمكن أن يُصنَّف ضمن هذا الاتجاه مُقْتَرح مخطوط للدكتور حسن الترابي(44)، حيث اقترح تقسيم المحاور الأساسية لعلم الأصول إلى أربعة:
1- الأصول التكليفية: وقسمها إلى قسمين أساسيين، هما الشرع (الوحي والسنة)، والوضع (الأحكام التي يسنها السلطان).
2- الأصول البيانية: وهي مناهج تفسير النصوص، ومناهج الاعتبار (القياس، والمصلحة وغيرها من مناهج الاعتبار).
3- الأصول الحكمية: القواعد الفقهية (مبادئ وقواعد إجمالية تتولد عنها الأحكام الفرعية).
4- الأصول المادية: وهي العلوم النظرية والواقعية التي تغذي صناعة الفقه، مثل علوم اللغة، والمنطق الفقهي، وعلوم الاجتماع البشري.
وبالنظر في طبيعة علم أصول الفقه والهدف من تدوينه، وحاجات المجتمعات الإسلامية المعاصرة، يبدو أن هذا الاتجاه الأخير يعدّ الأقرب إلى طبيعة هذا العلم والأجدر بتحقيق أهدافه، والأقدر على تلبية متطلبات العصر، كما أنه هو الأقرب إلى روح التطور الذي شهده هذا العلم في عصور الازدهار، مع مزاوجة هذا الاتجاه بالاتجاه الأول، حيث يتم تنقيح مباحث الأصول وتطويرها وعرضها بأسلوب سلس. ولاشك أن الأمر يحتاج إلى المشاركة على أوسع نطاق وتقديم مشاريع في هذا السبيل حتى تتبلور الأفكار وينضج المشروع، والأمر يحتاج إلى أن يأخذ مداه من الزمن.
مقترحات لتطوير علم أصول الفقه:
اعتقد أن المادة الأساسية المطلوبة في إعادة صياغة هذا العلم وتطويره متوفرة، وأن المطلوب أساسًا ليس هو إنتاج مادة جديدة، وإنما إعادة صياغة تلك المادة بشكل منهجي بعد غربلتها واستبعاد ما ينبغي استبعاده، وتطوير ما يحتاج إلى تطوير. وفيما يأتي تصور عام لإعادة صياغة هذا العلم، وهو تصوّر قد تكون بعض أجزائه – خاصة الجزء المتعلق بمصادر الأحكام الشرعية – مثار اعتراض وإنكار، وعلى أية حال فهي أفكار مطروحة للمناقشة، حيث أن الموضوع يحتاج إلى دراسات ومناقشات كثيرة من أجل بلورة تصوّر متكامل تتوفّر له شروط النجاح والاستمرار.
يقوم هذا المقترَح على أساس أن أفضل منهج لتحديد علم أصول الفقه هو المنهج الذي اتبعه الشاطبي، من حيث:
1- تأسيسه على فكرة مقاصد الشريعة، بحيث يتم بثّ روح المقاصد في جميع مباحثه، وتصير هي الخيط الناظم لجميع مباحثه، وليس مجرد تخصيص جزء منه لها. ومع التسليم بضرورة القيام بدراسات مستقلّة عن مقاصد الشريعة تنظيرًا وتطبيقًا لما في ذلك الإبراز من فوائد جمة، فلا أعتقد أن هناك داعيًا لفصل مباحث مقاصد الشريعة عن علم أصول الفقه – كما اقترح ابن عاشور – لأن ذلك إضعاف لعلم أصول الفقه وهو مناقض للدعوة إلى إعادة صياغته وتطويره، كما أن علم المقاصد – إن استطاع أن يكون علمًا مستقلاً – ليس بإمكانه أن يكون بديلاً عن علم أصول الفقه، ولا بإمكانه أن يرسم طريقًا متكاملاً للاجتهاد، بل قد يكون مطيّة يستغلُّها الباغون التحرُّر من الدين لهدمه وتشويهه تحت شعار الاجتهاد المقاصدي.
2- إشباعه بالبعد الخلقي الذي جاءت به الشريعة من أجله.
هذا من حيث الروح، أما من حيث الشكل فيقسَّم إلى أربعة محاور:
المحور الأول: نظرية الحكم الشرعي:
ويمثل هذا المحور أسس النظام القانوني الإسلامي وإطاره العام، فضلاً عن فلسفته في التشريع، حيث أن المقصود منه فهم الإطار العام للقانون الإسلامي وفلسفته التشريعية، من خلال المحاور الأربعة: الحكم الشرعي، والحاكم، والمحكوم فيه، والمحكوم عليه.
1- الحكم الشرعي: تعدّ طريقة الشاطبي في تناول مباحث الحكم الشرعي رائدة ومفيدة من خلال بنائها على مقاصد الشريعة، والتركيز على جوهر تلك المباحث وعلاقتها بالواقع العملي، بدلاً من التدقيق في التعريفات المنطقية والإطناب فيها. وفضلاً عن المباحث المعتادة في هذا الركن من بيان أقسام الحكم الشرعي الخمسة وتقسيماتها، والأحكام الوضعية، والرخصة والعزيمة، ينبغي أن تتضمن الصياغة الجديدة دراسة تأصيلية مركَّزة للنقاط الآتية:
– البحث في العلاقة بين الأحكام الشرعية من جهة ومراتب المصالح (الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات) من جهة أخرى بحثًا تأصيليًا؛ حيث يتم دراسة العلاقة بين الواجب والمحرم من جهة والضروريات والحاجيات من جهة أخرى، وبين المكروه والمندوب والمباح من جهة، والحاجيات والتحسينيات من جهة أخرى. والهدف من ذلك هو إبراز فلسفة التحليل والتحريم والإباحة في الإسلام، حيث أن ما حُرِّم عادة يكون لما ينتج عنه من إخلال بحقوق الإنسان الضرورية أو الحاجية، وما هو واجب جُعِل كذلك لأنه لابد منه لحفظ حقوق الإنسان الضرورية والحاجية، وكذلك الأمر بالنسبة لعلاقة ما دون الواجب والحرام بالحاجيات والتحسينيات. وهذه نقطة على أهميتها في فلسفة التشريع الإسلامي، لم تَنَلْ حظّها من البحث في كتب الأصول.
– تعميق البحث الذي بدأه الشاطبي في مسألة الكلية والجزئية في الأحكام الخمسة: متى تكون المندوبات بالجزءِ واجبات بالكلّ؟ وما ضوابط ذلك؟ ومتى تكون المكروهات بالجزءِ محرمات بالكلّ؟ وما ضوابط ذلك؟ ومتى يكون المباح بالجزءِ واجبًا أو مندوبًا أو محرمًا أو مكروهًا بالكلّ؟ وما ضوابط ذلك؟ وهذه مباحث عملية غاية في الأهمية، تفيد في حل كثير من الإشكالات التي تَرِد على بعض الأحكام الفقهية، كما تفيد في الترتيب بين الأولويات والترجيح بين المصالح والمفاسد.
– في موضوع السبب، ينبغي أن تُدرس علاقة الأسباب بقصد المكلَّف من جهة، وعلاقتها بقصد الشارع من جهة أخرى بشكل واف، بما يبرز أثر قصد المكلَّف في إبطال أسباب الأحكام الشرعية والتحايل عليها، وأثر قصد الشارع من وضع الأسباب في ترتيب نتائجها عليها بغض النظر عن قصد المكلَّف. ويمكن أن يكون عمل الشاطبي في هذا الموضوع نواة ذلك البحث.
– في موضوع الشروط، ينبغي دراسة العلاقة بين الشروط وقصد الشارع من شرع العبادات، والعلاقة بينها وبين قصد الشارع من شرع العقود، وهو الأمر الذي يقود إلى تحديد ضوابط ما يجوز اشتراطه من الشروط ومالا يجوز اشتراطه، وما يكون من الشروط مؤثرًا في آثار العقد فيقيّدها أو يلغي بعضها، ومالا يكون مؤثرًا بل يُلغى الشرط مع بقاء العقد صحيحًا، وكذلك ربط الشروط بقصد المكلَّف، وإبراز أثر قصد المكلَّف في تثبيت الشروط أو إسقاطها.
– في موضوع الرخصة، يتم بيان ضوابط الرخصة، وعلاقتها بمقاصد الشريعة من حيث أنها إنما شرعت أساسًا لحفظ الضروريات، كما أنها ترد لحفظ الحاجيات. كما يتم ربطها بخاصية التيسير في الشريعة الإسلامية.
2- الحاكم: ينبغي إعادة صياغة مباحث الحاكم بطريقة تخرج بها عن الإطار الضيّق لمسألة التحسين والتقبيح العقليين بين المعتزلة ومن خالفهم، والجدل الفلسفي المُصطَنَع حول التعارض بين العقل والنقل، وأيهما يقدّم على الآخر؟ حيث يتم التأصيل لمرجعية الوحي الإلهي وسنن الأنبياء، والتأصيل لوظيفة العقل في التشريع الإسلامي سواء من حيث كونه أداة التمييز التي منحها الله تعالى للإنسان للتمييز بين النفع والضرر، أو من حيث كونه الأداة التي بواسطتها يستطيع التعرف على صدق الرسل، أو من حيث كونه الأداة التي منحها الله له لفهم النصوص الشرعية وتفسيرها واستنباط الأحكام لما يستجد من قضايا الحياة، وتنزيلها على الواقع. كما يتم الحديث عن دور السلطتين التنفيذية والتشريعية في سنّ القوانين ووضع التكاليف: من حيث التأصيل لمشروعية ذلك العمل، وشروط كون تلك القوانين والتكاليف مُلزِمة، وحدود وضوابط ذلك، وذلك حتى يتسنى لعلم أصول الفقه أن يكون نظرية عامة للقانون الإسلامي تسير عليها دولة تتبنى تطبيق أحكام الإسلام.
3- المحكوم فيه: يتناول هذا المبحث الخصائص الأساسية للشريعة الإسلامية بأسلوب أصولي، ويمكن أن يكون ما كتبه ابن عاشور ضمن “مقاصد التشريع العامة”، وما كتبه الشاطبي في مباحث: “مقاصد الشارع من وضع الشريعة ابتداء”، و”مقاصد الشارع من وضع الشريعة للتكليف”، أساسًا لذلك، حيث يتضمن هذا الباب مباحث المصلحة وموقعها من الأحكام الشرعية، ومراعاة الشريعة للحقوق الأساسية للإنسان (وهو المصطلح عليه بالكليات الخمس)، وشروط التكليف بالأحكام الشرعية من كونها قابلة للفهم والالتزام، ومعها يتم الحديث عن اليسر، والمشقة: ما يستدعي منها التيسير ومالا يستدعي ذلك.
4- المحكوم عليه: ويتضمن فضلاً عن مباحث الأهلية التي اعتاد الأصوليون على بحثها ضمن هذا الموضوع، مباحث قصد الشارع من وضع الشريعة للامتثال؛ وهي التي تتناول العلاقة بين قصد المكلَّف وقصد الشارع، وأثر قصد المكلَّف في تطبيق الأحكام الشرعية، وضوابط كل ذلك. وهذا عنصر جدير بالمناقشة لما فيه من إظهار للبعد الأخلاقي في نظرية الحكم الشرعي.
المحور الثاني: مصادر الأحكام الشرعية:
تقسّم المصادر إلى أصلية وتبعية، والأصلية هي: القرآن، والسنة، أما التبعية فهي: الاستصحاب، والعرف. وعدُّ الاستصحاب والعرف من المصادر لأنهما يمكن أن يكون لهما وجود مستقلّ عن النص ويمكن تحكيمهما في كثير من المجالات، أما كونهما من المصادر التبعية فلأنهما استمدا مشروعيتهما من النصوص، حيث دلت النصوص الشرعية على الأخذ بهما.
وفي هذا المحور يتم التعريف بهذه المصادر، والتأسيس لمرجعيّتها، وبيان خصائصها التشريعية.
وأما العناصر الأخرى التي أُدخِلت عبر التطور التاريخي لمباحث علم الأصول – خاصة من طرف الكتّاب المعاصرين – ضمن مصادر الأحكام (أدلة الأحكام) فيجب إعادة النظر في تصنيفها. وليس معنى ذلك استبعادها أو التقليل من شأنها أو الطَّعْن في مصداقيتها، ولكن كل ما في الأمر هو إدراجها في مواضعها المناسبة ضمن مباحث هذا العلم، تجنُّبا لما قد يقع من خلط واضطراب منهجي بسبب عدم الدقة في تصنيف مصادر الأحكام الشرعية. ومن أمثلة ذلك ما ذهب إليه بعض المعاصرين من أن من مثالب علم الأصول على طريقة المتكلمين قتله لمبحث الاستحسان في مهده وعدم السماح بتطوره، والدعوة إلى إعادة الاعتبار للاستحسان ليصبح من المصادر المهمة في استنباط الأحكام لما استجد من الحوادث(45).
والواقع أن القول بكون الاستحسان دليلاً من الأدلة الإجمالية قد أدى إلى نقاش طويل حول حجيته والاعتداد بمصدريته، وقد كَتَب أصوليو الحنفية الكثير من أجل التأسيس له، وسار بعض المالكية على نهجهم ونسبه بعضهم إلى مالك، وإن كانت تلك النِّسبة مشكوك في ثبوتها. ولم تأت تلك الكتابات بكبير فائدة، حيث بقي مفهومه غامضًا حتى عند المنظِّرين له أنفسهم. والتحقيق في هذا الموضوع يشير إلى أن الاستحسان ليس دليلاً من الأدلة الإجمالية (لا الأصليّة ولا التبعيّة)، وإنما هو في حقيقته مجرّد تعبير كان يعبّر به أبو حنيفة عن فنِّ الجمع والترجيح بين النصوص الشرعية، أو فنِّ الترجيح بين الأقيسة، كما كان يستخدمه أسلوبًا لتدريب طلابه على كيفية التعامل مع الأدلة الجزئية واستنباط الأحكام. وجوهر الاستحسان إنما هو مفاهيم تدور حول التخصيص والترخيص، والترجيح بين الأدلة والأقيسة المحتَمَلة، وهي موضوعات ينبغي إدراجها ضمن مباحثها الخاصة من موضوعات علم الأصول، ولا حاجة لجعلها مصدرًا من مصادر التشريع وإعطائها مصطلحًا خاصًا؛ لأنها ليس لها قابلية الاستقلال ولا صلاحية المصدرية(46).
أما الإجماع فهو في حقيقته طريق من طرق الاجتهاد، وقد أسَّس له الخليفتان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما حين سارا في كثير المسائل على طريق الاجتهاد الجماعي الذي يكون على شكل مشاورة أهل العلم والفهم في الوصول إلى حكم حادثة من الحوادث. فالإجماع في أصله يبدأ اجتهادًا فرديًا من كلّ مؤهَّل لإبداء رأيه في مسألة، فإذا اتفقت اجتهادات أولئك المؤهلين على رأي، وتّمت تلك الموافقة صراحة بأن كانوا جميعًا حاضرين أو بلغ ذلك الاجتهاد من كان منهم غائبًا فأبدى موافقته صراحة، سُمِّي ذلك إجماعًا صريحًا وهو الذي يعدّ حجة قطعية. وقد يبدأ الإجماع اجتهادًا من فرد أو من عدد من الأفراد، ثم يسري ذلك الرأي ويمضي وقت دون أن يُعرَف له مخالف، فيسمى إجماعًا سكوتيًا. ولئن كان الأول متفقًا على حجيته إذا تحقق واستجمع شروطه، فإن النوع الثاني مختلّف في تحقّقه وحجيته.
وبغض النظر عن إمكان تحقّق الإجماع بعد عصر الصحابة، فإن وضعه ضمن المصادر الشرعية يستدعي النظر في إشكالية “مستَنَد الإجماع”: فإذا شرطنا للإجماع مُستَنَدًا، فإن ذلك المُستَنَد يصير هو الدليل، والمصدر الذي أُخذ منه ذلك الدليل هو مَصْدَر ذلك الحكم المُجْمَع عليه وليس الإجماع في ذاته، وإذا قلنا بعدم اشتراط مُسْتَنَدٍ للإجماع، فإن ذلك يكون بعيدًا وغير واقعي؛ إذ لا يُتصوَّر من مجتهد أن يُصدر حكمًا دون مستَنَد أو دليل كما أشار إلى ذلك ابن رشد في مقدمة “بداية المجتهد”(47). نعم، قد لا يُنقَل تصريح المجتهد بدليله، وقد لا يكون المستَنَد نصًا معيَّنًا، وإنما قاعدة عامة، أو مبدأ مُسْتَقْرَأً من النصوص والأحكام الشرعية، ولكن في النهاية لابد أن يكون رأي المجتهد صادرًا عن مُستَنَد. وفائدة الإجماع هي الارتقاء بالحكم المُجْمَع عليه إلى مرتبة القطع والإلزام إذا كان الإجماع صريحًا وتامًا حتى ولو كان الدليل المستَنَد إليه ظنيًا، أو الارتقاء به إلى مرتبة عالية من القوّة إذا كان الإجماع سكوتيًا أو ناقصًا، كما أن من فوائده تحقيق الوحدة الفكرية بين المسلمين في المسائل التي يتمّ حولها الإجماع.
ويبدو أن السبب الذي من أجله جُعِل الإجماع المصدر الثالث للأحكام الشرعية هو كونُ الرأي المُجْمَع عليه مُلزِمًا للمسلمين إذا توفرت في الإجماع شروطه، وهذا الأمر محلّ اتفاق بين علماء الأمة ولا مجال للنزاع حوله أو الطعن فيه، ولكن كون الإجماع مُلْزِمًا لا يستدعي بالضرورة وضْعَه ضمن مصادر الأحكام الشرعية، وإنما يمكن إدراجه ضمن مباحث الاجتهاد عند الحديث عن أنواع الاجتهاد، حيث يكون من أنواعه الاجتهاد الجماعي الملزم (الإجماع).
أما القياس فهو أيضًا ليس مصدرًا من المصادر التي تُستَمدّ منها الأحكام الشرعية، وإنما هو منهج لاستنباط تلك الأحكام، ولذلك نجد الشافعي تحدّث عنه ضمن الاجتهاد، والغزالي لم يدخله ضمن المصادر، بل جعله طريقًا من طرق استثمار الأحكام من النصوص(48).
أما المصلحة المرسلة، فينبغي بداية الإشارة إلى عدم دقة هذا الاصطلاح، حيث لا توجد مصالح ينطبق عليها هذا الاصطلاح بإطلاق، حيث أن الشارع تعمّد عدم التنصيص على جميع المصالح بأعيانها، فنصّ على بعضها بالعين، ووضع مبادئ عامة تعين المجتهد على تحديد البقية، وعند التحقيق نجد أن المصالح كلها تُرْجَع إما إلى جنس المصالح المعتبرة شرعًا أو إلى جنس المصالح الملغاة. وقد يقع الخلاف في إلحاق مصلحة ما بالمعتبرة أو بالملغاة، ولكنها لن تبقى أبدًا مرسلة؛ فإما أن يُلحقها المجتهد بالمصالح المعتبرة أو بالمصالح الملغاة. أما إدراج المصالح المرسلة ضمن الأدلة الشرعية أو مصادر الأحكام فقد أدى إلى خلط منهجي دفع بالبعض إلى محاولة فصل المصلحة عن النص الشرعي وجعلها قسيمًا له أو مصدرًا مستقلاً تُبنْى عليه الأحكام، وكأن النصوص الشرعية شيء والمصلحة شيء آخر فتُقدَّم المصلحة على النصّ أو يُعطَّل العمل بالنصّ من أجل المصلحة. وكل هذا مخالف لما هو ثابت في الشريعة؛ فالمصلحة التي يمكن اندراجها في المصالح الشرعية إنما هي روح الشريعة ومناط أحكامها، وليست شيئًا منفصلاً عنها أو مناقضًا لها حتى يجعل مصدرًا مستقلاً عن النصوص الشرعية.
ولذلك فإن المصلحة المرسلة يجب أن تُحذف من المصادر الشرعية (الأدلة الكلية)، وتكون دراستها في موضعين: أحدهما: عند الحديث عن خصائص الشريعة في مباحث المحكوم فيه، حيث يتمّ بحث فلسفة المصلحة ومكانتها في الشريعة الإسلامية، والثاني: عند الحديث عن مناهج الاجتهاد، حيث يُبَيَّن كيف أنه ينبغي على المجتهد مراعاة المصالح الشرعية ومآلات الأفعال عند تفسير النصوص، واستنباط الأحكام، والإفتاء.
وأما شرع من قبلنا فهو بحث نظري ليس له محصلة عملية كبيرة، والأولى إدراجه ضمن الحديث عن خصائص الشريعة الإسلامية (في مباحث المحكوم فيه)، حيث يتم الحديث عن العلاقة بين الشرائع السماوية المتعاقبة، وأوْجُه التشابه والاختلاف بينها، ومكانة الشريعة الإسلامية بوصفها شريعة عالمية وخاتمة.
وكذلك الأمر فيما فعله بعض المعاصرين من إدراج سدّ الذرائع ضمن مباحث الأدلة التبعية (المصادر التبعية)، فالنّظر في الذرائع سَدًّا أو فَتْحًا هو في الحقيقة من ضوابط الاجتهاد، فهي من باب النظر في مآلات الأفعال والأحكام التي ينبغي على المجتهد مراعاتها عند الاجتهاد والإفتاء، ولذلك فهي في الواقع جزء من مباحث الاجتهاد، وذاك هو موضعها الطبيعي، وليس لها علاقة بمصادر الأحكام.
المحور الثالث: الاجتهاد:
يتناول هذا المحور تعريف الاجتهاد، وشروط المجتهد، وأنواع الاجتهاد: سواء من حيث عدد القائمين به فُيقسَّم إلى اجتهاد فردي واجتهاد جماعي، وفي الاجتهاد الجماعي يتم بحث قضايا الإجماع، أو من حيث مؤهلات القائمين به، حيث يمكن أن يكون المجتهد مطلقًا، أو مجتهدًا في جزئية ما، أو مجتهدًا وفْق قواعد مذهب معين. كما يتم فيه تناول مناهج الاجتهاد، ويندرج ضمن هذا الجزء: مناهج تفسير النصوص (مباحث دلالات الألفاظ)، والجمع والترجيح بين النصوص، والقياس، ومراعاة المقاصد الشرعية (المصالح) والنظر في المآلات عند الاجتهاد والإفتاء، والاستقراء الذي هو منهج في غاية الأهمية استخدمه الفقهاء الأوائل في عصر الازدهار، ولكنه لم يلقَ عناية تنظيرية في الكتب الأصولية سوى عند الشاطبي في كتاب الموافقات، وهو الأمر الذي زاده ابن عاشور في كتابه “مقاصد الشريعة الإسلامية” عمقًا من حيث التنظير والتطبيق.
وفي موضوع الاجتهاد قد تُثار إشكالية منهجية، وهي: هل تتم دراسة منهجية الاجتهاد عند الأصوليين على أنها منهجية واحدة تجمع مختلف الاتجاهات الفقهية؟ أم تتم دراستها على أساس أنها مناهج مختلفة؟ يرى الدكتور عمران نيازي أنه ينبغي إتباع الاختيار الثاني، لأن ذلك هو الواقع التاريخي، ولأن مثل هذه الدراسة تكون أكثر دقة وإفادة؛ حيث أنه لا يمكن استيعاب تلك المناهج إلا بدراسة مستقلّة ومفصّلة لكل منها، ولأن الاجتهاد الفقهي والقضائي المعاصر يحتاج إلى استخدام أكثر من منهجية، ويمكن استخدام تلك المناهج لأغراض مختلفة وفي ظل المعطيات المناسبة(49)، وهو أمر في حاجة إلى نقاش وإثراء.
المحور الرابع: تطبيق الأحكام الشرعية:
ويشتمل هذا المحور على الموضوعات الآتية: الإفتاء: شروطه وضوابطه؛ لأن الإفتاء نوع من تطبيق الأحكام النظرية وتنزيل النصوص والمبادئ الشرعية على الوقائع العملية، والتقليد، والتلفيق، والتخريج، وهذه الثلاثة ينبغي دراستها ليس بوصفها ممارسات فردية فقط، بل يجب أن يتعدى بحثها إلى كونها مناهج يستخدمها القضاة والمفتون الذين لا تتوفر فيهم شروط الاجتهاد، فتُبحَث كيفية الاستفادة من هذه المبادئ وضوابط استخدامها. كما يتضمن التأصيل لموضوع تقنين الأحكام الشرعية، وبيان أسس نظرية التقاضي، والإطار الزماني والمكاني والشخصي لتطبيق الأحكام الشرعية.
خاتمة:
خلاصة هذا البحث أن علم أصول الفقه وضع في الأساس لبيان مناهج الاجتهاد وضبطها، وقطع الطريق على المتطفلين على الاجتهاد، والتقريب بين وجهات النظر المختلفة. ثم شهد بعد ذلك تطورًا مستمرًا من حيث المضمون والمنهج إلى أن استقر على شكل نظرية عامة للفقه الإسلامي. وذلك التطور التاريخي هو دليل مشروعية إعادة النظر في عصرنا بإعادة صياغة مباحثه وتنقيحها وتطوير ما يحتاج إلى تطوير ليستجيب للحاجات المتجددة.
وفي مشروع إعادة صياغته وتطويره ينبغي توخّي الواقعية، بأن لا نحمِّل هذا العلم مالا تحتمله طبيعته، ولا نبالغ في الأماني التي تحققها تلك الصياغة وذلك التطوير. وقد خلص الباحث إلى أن الأفضل من بين الخيارات المعروضة المزاوجة بين الاتجاهين الأول والثالث، حيث تكون صياغته على شكل نظرية عامة للفقه الإسلامي بعد تنقيح مباحثه وتطويرها وعرضها في أسلوب واضح وسلس.
الهوامش
(1) وقد أشار الإمام الشافعي إلى شيء من ذلك في رسالته، الرسالة، محمد بن إدريس الشافعي، تحقيق: أحمد شاكر (القاهرة: مكتبة دار التراث، ط2، 1399هـ/ 1979م) ص 41، 53.
(2) انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية، محمد الطاهر بن عاشور، تحقيق ودراسة: محمد الطاهر الميساوي (كوالالمبور/ عمان: دار الفجر/ دار النفائس، ط1، 1420هـ/ 1999م) ص 118. وانظر الأستاذ محمد مصطفى شلبي في قوله: “والأصول في نظري غالبها بحوث نظرية جاءت وليدة الزمن، اضطُرّ إلى وضعها أتباع المذاهب المقلدون، ضبطًا لمذاهب أئمتهم، ودفاعًا عنها في مجالس المناظرات…”. تعليل الأحكام، محمد مصطفى شلبي (بيروت: دار النهضة العربية، د.ت) ص4.
(3) انظر: الفكر الأصولي: دراسة تحليلية نقدية: عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان (جدة: دار الشروق للنشر والتوزيع والطباعة، د.ت) ص 102.
(4) انظر نماذج من المؤلفات الأصولية التي تبرز أثر البيئة العلمية في تطور البحث والتأليف في هذا العلم في: الفكر الأصولي، أبو سليمان، ص 96 – 120.
(5) يرى الإمام الزركشي أن من جاء بعد الإمام الشافعي تركز عملهم على البيان والشرح والتوضيح لِمَا جاء في الرسالة “حتى جاء القاضيان: قاضي السنة أبو بكر بن الطيب، وقاضي المعتزلة عبد الجبار، فوسّعا العبارات، وفكّا الإشارات، وبيّنا الإجمال، ورفعا الإشكال، واقتفى الناس آثارهم”. البحر المحيط في أصول الفقه، بدر الدين محمد بن بهادر الزركشي، ضبط محمد محمد تامر، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1421هـ/ 2000) ج1، ص3. وانظر أيضًا: أصول الفقه الإسلامي منهج بحث ومعرفة، طه جابر فياض العلواني (فرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط2، 1415هـ/ 1995) ص58 – 59. ويرى الدكتور طه جابر العلواني أن التطور الحقيقي لعلم أصول الفقه توقف في مطلع القرن الخامس الهجري عند وفاة القاضيين الباقلاني وعبد الجبار، وأصبح عمل الأصوليين مجرد تكرار منذ ذلك الوقت “لأن القاضي عبد الجبار والقاضي الباقلاني هما آخر علَمين قالا شيئًا إضافيًا على ما حدث… فقد كانت كل المحاولات التي جاءت بعد ذلك محاولات بسيطة لا تعتبر إنتاجًا متميزًا في هذا، وكانت بين جمع متفرق أو تفريق مجتمع ولم تتجاوز هذا”. إسلامية المعرفة (مستلّة)، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، من سلسلة محاضرات دورة استراسبورج بتاريخ 9 – 21/7/1988، ص 48 – 49.
(6) انظر عرضً لتلك الدعوات المعاصرة في بحث للدكتور علي جمعة محمد بعنوان: قضية تجديد أصول الفقه (القاهرة: دار الهداية، 1414هـ/ 1993م) ص4 وما بعدها؛ و”نحو منهج جديد لدراسة علم أصول الفقه”، محمد الدسوقي، إسلامية المعرفة، السنة الأولى، العدد الثالث، رمضان 1416هـ/ 1996م؛ وحسن الترابي، قضايا التجديد: نحو منهج أصولي، (الخرطوم: معهد البحوث والدراسات الاجتماعية، 141هـ/ 1990م) ص195 وما بعدها. وتتلخص انتقادات الترابي الأساسية لعلم أصول الفقه في النقاط الآتية: 1- ميل أصول الفقه في عصر الانحطاط العلمي إلى النظر التجريدي والمبالغة في التشعيب والتعقيد من غير طائل والتأثر بعيوب المنطق الهليني. 2- عدم تطور الاستحسان وأصول المصالح. 3- إفساد صفاء القياس والتقليل من فاعليته بتقييده بقيود المنطق الصوري.
(7) يقول أبو الحسين البصري في مقدمة كتاب المعتمد: “… ثم الذي دعاني إلى تأليف هذا الكتاب في أصول الفقه، بعد شرحي كتاب العهد (العمد) … أني سلكت في الشرح مسلك الكتاب في ترتيب أبوابه… وشرح أبواب لا تليق بأصول الفقه من دقيق الكلام… فأحببت أن أؤلف كتابًا مرتبة أبوابه غير مكررة، وأعدل فيه عن ذكر مالا يليق بأصول الفقه من دقيق الكلام؛ إذ كان ذلك من علم آخر لا يجوز خلطه بهذا العلم، وإن تعلق به من وجه بعيد”.7 ومن خلال هذا الكلام يتبين أن من أهداف هذا المؤلف تنقية مباحث الأصولي مما ليس من صميمها، وهو أمر يتعلق بجانب مضمون العلم، وترتيب مباحث الأصول ترتيبًا حسنًا وهو الأمر الذي يوحي بأنها لم تكن كذلك عند القاضي عبد الجبار، وهذا أمر يتعلق بالمنهج. كتاب المعتمد في أصول الفقه، أبو الحسين محمد بن علي بن عبد الطيب البصري، تحقيق محمد حميد الله وآخرون (دمشق: المعهد العلمي الفرنسي للدراسات العربية، 1384هـ/ 1964)، ج1، ص7.
(8) يقول الغزالي في معرض بيانه لسبب إدخال المتكلمين والفقهاء لما هو ليس من أصول الفقه ضمن مباحثه: “فشرعوا في بيان حدّ العلم والدليل والنظر ولم يقتصروا على تعريف صور هذه الأمور، ولكن انجرّ بهم إلى إقامة الدليل على إثبات العلم على منكريه من السوفسطائية، وإقامة الدليل على النظر على منكري النظر، وإلى جملة من أقسام العلوم وأقسام الأدلة، وذلك مجاوزة لحدّ هذا العلم، وخلط له بالكلام، وإنما أكثر فيه المتكلمون من الأصوليين لغلبة الكلام على طبائعهم، فحملهم حبّ صناعتهم على خلطه بهذه الصنعة، كما حمل حبّ اللغة والنحو بعض الأصوليين على مزج جملة من النحو بالأصول، فذكروا فيه من معاني الحروف ومعاني الإعراب جملاًَ هي من علم النحو خاصة، وكما حمل حبّ الفقه جماعة من فقهاء ما وراء النهر، كأبي زيد رحمه الله وأتباعه على مزج مسائل كثيرة من تفاريع الفقه بالأصول، فإنهم وإن أوردوها في معرض المثال وكيفية إجراء الأصل في الفروع، فقد أكثروا فيه…”. المستصفى من علم الأصول، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي، ضبط وترتيب محمد عبد السلام عبد الشافي (بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1413هـ/ 1993م) ص9.
ويفسرّ الشيخ محمد الطاهر بن عاشور ذلك العمل بقوله: “… حيث قصدوا منه أن يكون علم آلات الاجتهاد فأرادوا أن يضمّنوه كل ما يحتاج إليه المجتهد، فاختلط بالمنطق واللغة والنحو والكلام… وذكروا معاني الحروف والاشتقاق والوضع والترادف والدلالة والمنطق وغيرها، وذلك مما يمل متعاطي هذا العلم، وهو عمل غير محمود في الصناعة”. أليس الصبح بقريب، محمد الطاهر بن عاشور (تونس: الشركة التونسية للفنون والرسم، ط2، 1988) ص 204.
(9) ذكر ابن عقيل في مستهل كتابه أن ما دفعه إلى تأليف هذا الكتاب هو العمل على تبسيط علم أصول الفقه وتسهيل عباراته الغامضة في كتب المتقدمين، وإخراجه من التجريد الذي أدخله فيه المتكلمون “ليخرج بهذا الإيضاح عن طريق أهل الكلام وذوي الإعجام إلى الطريقة الفقهية والأساليب الفروعية”. الواضح في أصول الفقه، أبو الوفاء علي بن عقيل بن محمد بن عقيل، تحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط1، 1420هـ/ 1999، ص5.
(10) لخّص الآمدي الغرض من تأليفه كتاب الإحكام بقوله: “… أحببت أن أجمع فيها (معاني أصول الفقه) كتابًا حاويًا لجميع مقاصد قواعد الأصول، مشتملاً على حل ما انعقد من غوامضها على أرباب العقول، متجنبًا للأسهاب وغث الإطناب، مميطًا للقشر عن اللباب”. الإحكام في أصول الأحكام، سيف الدين أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد الآمدي، ضبطه وكتب حواشيه الشيخ إبراهيم العجوز (بيروت: دار الكتب العلمية، د.ت) ج1، ص6.
(11) البحر المحيط في أصول الفقه، الزركشي، ج1، ص4.
(12) قضايا التجديد، الترابي، ص 193.
(13) المرجع نفسه، ص 195.
(14) مقاصد الشريعة، ابن عاشور، ص 117 – 118.
(15) “نحو منهج جديد لدراسة علم أصول الفقه”، الدسوقي، ص 148.
(16) مقاصد الشريعة، ابن عاشور، ص 117.
(17) طرق الكشف عن مقاصد الشارع، نعمان جغيم (عمان: دار النفائس، ط1، 1422هـ/ 2002م) ص39 – 42.
(18) تعرّض الباحث لهذه النقطة في بحث بعنوان: تطور علم أصول الفقه بين الواقع والآفاق، أرسل إلى مجلة “تفكّر” بغرض النشر.
(19) يلخص الترابي جوهر دعوته إلى تجديد علم أصول الفقه في أنها “إحياء الأصول الواسعة التي عُطّلت في الفقه الإسلامي التقليدي”. قضايا التجديد، ص 210- 211.
(20) اعتقد أن التأليف في أصول الفقه يجب أن ينأى عن الإكثار من المقارنة بالقوانين الوضعية، بل يجب علينا صياغة نظرية قانونية خاصة بنا ليست في حاجة إلى مقارنتها بالنظريات الأخرى. ومع أنه من المحبّذ الاستفادة من الجانب المنهجي الذي توصلت إليه الدراسات القانونية، إلا أن الإكثار من المقارنة في المضمون قد يحمل في طياته الشعور بدونيّة الفقه الإسلامي ومرجعيّة القانون الوضعي، وإن كان المؤلف عادة ما يختم المقارنة بمحاولة إبراز تفوّق القانون الإسلامي وتميّزه، إلا أن المقارنة – التي تتّخذ أحيانًا القانون الوضعي معيارًا – في حدّ ذاتها قد توحي بخلاف ذلك. وهذا الكلام إنما ينطبق على الكتب الخاصة بأصول الفقه فقط، أما إجراء دراسات جزئية مقارنة بين القانون الإسلامي والقانون الوضعي فلا مانع منه، بل قد يكون أحيانًا ضروريًا.
(21) “نحو منهج جديد لدراسة علم أصول الفقه”، محمد الدسوقي، ص 123.
(22) قضايا التجديد، الترابي، ص 191.
(23) “نحو منهج جديد لدراسة علم أصول الفقه”، محمد الدسوقي، ص 130 – 131.
(24) المرجع نفسه، ص 131.
(25) قضايا التجديد، الترابي، ص 205.
(26) المرجع نفسه، ص 207 – 208.
(27) المرجع نفسه، ص 203 – 204.
(28) “نحو منهج جديد لدراسة علم أصول الفقه”، محمد الدسوقي، ص 132.
(29) المرجع نفسه، ص 137 وما بعدها.
(30) انتقاد الترابي للأصوليين بعدم الاعتناء بتطوير دليل الاستحسان، ودعوته إلى توسيعه وجعله من المصادر المهمة في هذا العصر، إنما هو انتقاد ناتج عما اكتنف الاستحسان من غموض قديمًا وحديثًا، والواقع أن ما اصطُلِح عليه بـ”الاستحسان” على أهميته في الاجتهاد لا يمكن أن تُبنى عليه عملية فقه متكاملة في مجال من المجالات فهو مجرد عامل يُستخدم لتصحيح ما يمكن أن يقع فيه القائس من وهم، أو لتخصيص واستثناء من قاعدة عامة، وليس في حقيقته دليلاً من الأدلة ولا مصدرًا من مصادر الأحكام.
(31) قضايا التجديد، الترابي، ص 189.
(32) إسلامية المعرفة (مستلّة)، ص 39 – 40.
(33) المرجع نفسه، ص 40.
(34) المرجع نفسه، ص 43.
(35) المرجع نفسه، ص 41 – 43.
(36) المرجع نفسه، ص 41 – 45.
(37) المرجع نفسه، ص 45 – 46.
(38) المرجع نفسه، ص 49.
(39) محامي، وأستاذ بكلية الشريعة والقانون بالجامعة الإسلامية العالمية بإسلام آباد، وهو صاحب محاولات جادة لإعادة صياغة علم أصول الفقه، وفقه المعاملات. وتتمثل أبرز أعماله
في كتابين في أصول الفقه، هما:
Theories of Islamic Law: The Methodology of Ijtihad و ، Islamic Jurisprudence.
وكتابين في فقه الشركات هما:
Islamic Low of business organization: Patuerships.
Islamic Low of business organization: Corporations. و
(40) Theories of Islamic Law: The Methodology of Ijtihad, Imran Ahsan Khan Nyazee, Islamabad: International Institute of Islamic Thought & Islamic Research Institute, n. d., pp. 1, 5.
(41) Islamic Jurisprudence, Imran Ahsan Khan Nyazee, Islamabad: International Institute of Islamic Thought & Islamic Research Institute, 2000, pp. 9- 12.
(42) Theories of Islamic Law, Nyazee, pp. 2- 3.
(43) النظرية العامة للشريعة الإسلامية، جمال الدين عطية، (د. م: د. ن، ط1، د. ت) ص7.
(44) بلغني أن هذه الخطوط العريضة خطها في إحدى فترات وجوده في السجن، ولكنها لم تجد طريقها بعد ذلك إلى المراجعة والتوسيع ولا إلى النشر.
(45) قضايا التجديد، حسن الترابي، ص 199 – 200.
(46) للباحث مقال بعنوان: “دراسة تحليلية لمفهوم الاستحسان في المذهب الحنفي بين مرحلتي التأسيس والتدوين” هو قيد النشر في مجلة الإسلام في آسيا، الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا.
(47) بداية المجتهد، ابن رشد، ج1، ص3.
(48) المستصفى، الغزالي، ج2، ص 96.
(49) Theories of Islamic Law, Imran Ahsan Nyazee, pp. 5, 10 – 12.