“الشهيد”.. اسم من أسماء الله الحسنى؛ لأنه – سبحانه وتعالى – عالم الغيب والشهادة.
والغيب: هو ما بطن وخفى.. أما الشهادة: فهي ما ظهر.. فهو – سبحانه – الشاهد المشاهد.. والذي يشهد على خلقه يوم القيامة بما علم وشاهد منهم..
ولقد سمى المؤمن، الذي يقدم روحه فداء لله “ودينه” وأمة رسوله – e – ودار الإسلام، شهيدًا لأنه يشهد ويشاهد مكانته في الجنة في ذات اللحظة التي تنبثق من جسـده أول قطرة من الدماء! وفي الحديث النبوي الشريف، قال رسول الله- e – : “للشهيد عند الله ستة خصال: يغفر له أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويحلى حلة الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويشفع في سبعين إنسانًا من أقاربه” رواه ابن ماجة.
ولهذه الحقيقة، قرر القرآن الكريم أن الشهداء ليسوا أمواتًا وإنما هم أحياء عند ربهم يرزقون فرحون بهذه الحياة الخالدة التي صاروا إليها – بعد الحياة الفانية – لأن شهودهم وشهادتهم ومشاهدتهم لمكانتهم في الجنة لحظة انبثاق أول قطرة دم من أجسادهم، معناه أن حياتهم الخالدة قد بدأت في ذات اللحظة التي بدأوا فيها المغادرة لحياتهم الفانية والتحول عنها.. فحياتهم موصولة ليس فيها أي انقطاع ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 154].
﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 169-171].
لقد تفردوا بمشاهدة مكانتهم في الجنة – دار الخلد – قبل مغادرتهم دار الفناء.. ومن ثم تفردوا بتجاوز الموت، عندما أفضت حياتهم الدنيا – الفانية – إلى حياتهم الأخرى – الباقية – في جنات النعيم – ولأن الإسلام يريد الإنسان ربانيًّا، يتسامى على الجانب الطيني في خلقه وخلقته، ليصعد وينطلق من الجانب الروحي الذي نفخه الله فيه من روحه – سبحانه وتعالى – فلقد دعا الإسلام هذا الإنسان إلى الارتفاع والارتقاء بحياته وخلقه وسلوكه من درك الحيوانية إلى آفاق التخلق النسبي والممكن بأخلاق الله وصفاته – المطلقة – ومنها صفة الشهيد، فالتخلق بأخلاق الله بمعنى السعي على درب اكتساب الممكن من صفاته – سبحانه – هو سبيل التسامي بالإنسان.
وفي هذا المعنى يقول حجة الإسلام أبو حامد الغزالي [450– 505هـ = 1058-1111م]: “إن كمال العبد وسعادته [هي] في التخلق بأخلاق الله تعالى والتحلي بمعاني صفاته وأسمائه بقدر ما يتصور في حقه، ومن لم يكن له حظ من معاني أسماء الله تعالى إلا بأن يسمع لفظه ويفهم في اللغة تفسيره ووضعه، ويعتقد بالقلب وجود معناه في الله تعالى فهو مبخوس الحظ، ونازل، ليس يحسن به أن ينتجح بما ناله، فإن سماع اللفظ لا يستدعي إلا سلامة حاسة السمع التي يدرك بها الأصوات، وهذه رتبة يشارك البهيمة فيها، وأما فهم وضعه في اللغة فلا يستدعي إلا معرفته العربية وهذه رتبة يشارك فيها الأديب اللغوي، بل الغبي البدوي، وأما اعتقاد ثبوت معناه لله تعالى من غير كشف فلا يستدعي إلا فهم معاني هذه الألفاظ والتصديق بها وهذه رتبة يشارك فيها المحامي بل الصبي، فإنه بعد فهم الكلام إذا ألقى إليه هذه المعاني تلقاها وتلقنها واعتقدها بقلبه وصمم عليها.. ومن حظوظ المقربين من معاني أسماء الله الحسنى.. استعظامهم ما ينكشف لهم من صفات الجلال على وجه ينبعث من الاستعظام يشوقهم إلى الاتصاف بما يمكنهم من تلك الصفات ليقربوا بها من الحق قربًا بالصفة لا بالمكان، فيأخذوا من الاتصاف بها شبهًا من الملائكة المقربين عند الله تعالى، ولن يتصور أن يمتلئ القلب باستعظام صفة واستشراقها إلا ويتبعه شوق إلى تلك الصفة وعشق لذلك الجلال والجمال، وحرص على التحلي بذلك الوصف إن كان ذلك ممكنًا للمستعظم بكماله، فإن لم يكن بكماله فيبعث الشوق إلى القدر الممكن منه لا محالة.. فبالسعي في اكتساب الممكن من تلك الصفات والتخلق بها والتحلي بمحاسنها يصير العبد ربانيًّا أي قريبًا من الرب تعالى..”.
تلك هي ثقافة المسلم وتلك هي آفاق المثل الإسلامية، حيال التخلق بمعاني صفات الله وأسمائه الحسنى ومنها صفة الشهيد، فحتى يكون المسلم شاهدًا على الناس.. ومشاهدًا لمقعده من الجنة لابد أن يسعى لبذل جهده ووسعه بما في ذلك الروح والدم ليكون من الشهداء الأحياء الفرحين عند ربهم في جنات الخلود.
ولأن الإسلام دين ودنيا وآخرة وفرض وجماعة وأمة.. ودين ودولة ونظام واجتماع.. ولأن مقاصد الشريعة الإسلامية لم تقف فقط عند حفظ الدين.. وإنما أضافت إليه حفظ النفس.. والعقل.. والعرض.. والمال.. فلقد فتح الإسلام أمام المسلم أبوابًا كثيرة وواسعة للشهادة والاستشهاد.. فكل ميادين الحفاظ على الدين.. والنفس.. والعقل.. والعرض.. والمال.. هي ميادين للشهادة.. والمقبلون على بذل النفوس والأرواح فيها هم الشهداء الأحياء عند الله الفرحون بما أعد لهم مولاهم في دار الخلود وجنات النعيم”.
ولقد جاء في الحديث النبوي الشريف: “من قُتِل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتِل دون دينه فهو شهيد، ومن قُتِل دون دمه فهو شهيد، ومن قُتِل دون أهله فهو شهيد” (رواه الترمذي)، وأول الناس دخولاً في الجنة هم “الفقراء المهاجرون الذين تسد بهم الثغور ويتقى بهم المكاره” (رواه الإمام أحمد).
فالتضحية بالنفس في جميع ميادين الحفاظ على مقاصد الشريعة – الدينية والدنيوية هي أبواب للشهادة والاستشهاد، تقضي إلى الحياة الحقة الخالدة للشهداء في جنات النعيم..
بل إن هذه الميادين – ميادين الشهادة والاستشهاد – التي يحافظ بها المسلم على مقاصد الشريعة الإسلامية إنما تتسع وترحب بتعدد وتنوع لوازمها وضروراتها..
فالحفاظ على الدين لا يقف عند التمكن من الاعتقاد.. والعبادات.. وإنما يمتد ليكون النظام الحاكم والمحقق لسعادة الدنيا والآخرة..
والحفاظ على النفس لا يقف عند صيانة حياة الأفراد، وإنما يمتد ليشمل ما يحقق فاعلية الأنفس والأمم والشعوب وعزتها وكرامتها وحرياتها.
والحفاظ على العقل لا يقف عند صيانته من السكر والجنون، وإنما يمتد ليشمل كل الميادين والعلوم والفنون والآداب التي تصون العقل والقلب عن التدني والانحطاط.
والحفاظ على العرض لا يقف عند الحريم الفردي وإنما يمتد إلى صيانة جميع الأعراض من كل ما ينتهك حرماتها.. بل وحياءها.. مسلمة كانت تلك الأعراض أم على غير دين الإسلام من المعتقدات..
والحفاظ على المال لا يقف عند صيانة ما في الحوزة من الأموال والثروات وإنما يمتد إلى سائر الميادين التي يتحقق بها العدل الاجتماعي بين الناس.. كل الناس.. في ذلك يقول العلامة ابن حزم الأندلسي [384-456هـ = 994-1064م]: “وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم ويجبرهم السلطان على ذلك، وإن لم تقم الزكوات بهم، ولا فيء أموال المسلمين بهم فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لابد منه، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة.. ولا يحل لمسلم اضطر أن يأكل ميتة أو لحم خنزير وهو يجد طعامًا فيه فضل [زيادة] عن صاحبه لمسلم أو ذمي.. وله أن يقاتل عن ذلك فإن قتل فعلى قاتله القود [الدية] وإن فعل المانع فإلى لعنة الله لأنه مانع حقًّا، وهو طائفة باغية، قال تعالى: ﴿فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾ [الحجرات: 9].
ومانع الحق باغ على أخيه الذي له الحق وبهذا قاتل أبو بكر الصديق، t مانع الزكاة..”
فالاستشهاد في ميادين تحقيق العدل الاجتماعي داخل في ميدان صيانة النفس كمقصد من مقاصد شريعة الإسلام.
بل إن تكامل هذه الميادين – على اتساعها – ليبلغ الحد الذي جعل فيه الإسلام صيانة النفس بتحقيق ضروريات حياتها – الشرط لإقامة الدين وهو المقصد الأول لشريعة الإسلام! وفي ذلك يقول حجة الإسلام أبو حامد الغزالي: “إن نظام الدين لا يحصل إلا بنظام الدنيا.. فنظام الدين بالمعرفة والعبادة لا يتوصل إليها إلا:
– بصحة البدن.
– وبقاء الحياة.
– وسلامة قدر الحاجات من :
( أ ) الكسوة.
(ب) والمسكن.
(جـ) والأقوات.
(د ) والأمن.
ولعمري! إن من أصبح آمنًا في سربه، معافًى في بدنه، وله قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها، ولا ينتظم الدين إلا بتحقيق الأمن على هذه المهمات الضرورية وإلا فمن كان جميع أوقاته مستغرقًا بحراسة نفسه من سيوف الظلمة وطلب قوته من وجوه الغلبة متى يتفرغ للعلم والعمل وهما وسيلتاه إلى سعادة الآخرة؟! فإذن، بان أن نظام الدنيا، أعني مقادير الحاجة، شرط لنظام الدين..”.
فكل ميادين الصلاح الدنيوي هي ميادين لصلاح الدين، وجميعها مقاصد للشريعة الإسلامية والجهاد فيها أبوابه مشرعة للشهادة والاستشهاد”.
ولهذه الحقيقة ربط القرآن الكريم القتال المشروع، الذي هو ميدان للشهادة والاستشهاد بالحفاظ على حرية الدين والتدين كي لا يُفتن المؤمن في دينه ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [الأنفال: 39].
وبالحفاظ على حرية الوطن الذي هو الوعاء الضروري لإقامة الدين والشرط اللازم لكماله واكتماله.. والذي بدون حريته لا يتم الحفاظ على مقاصد الشريعة الأخرى – النفس.. والعقل.. والعرض.. والمال.. ولذلك بدأ “الإذن” في القتال زمن البعثة النبوية للحفاظ على حرية الدين.. وحرية الوطن، منعًا للفتنة في الدين.. وللإخراج من الديار ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 39، 40].
وكان “الأمر” بالقتال خاصًّا بذلك أيضًا: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [البقرة: 190-192].
وكذلك كان “فرض القتال وإيجابه” مقصورًا على هذه الأغراض: حماية الدين من الفتنة وحماية الوطن من العدوان – : ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ [البقرة: 216، 217].
فالإخراج من الديار، والفتنة في الدين هما سبب الأمر بالقتال والإيجاب لهذا القتال، وكذلك كانت معايير الموالاة والمعاداة مع الآخرين – كل الآخرين – : ﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الممتحنة: 8، 9].
هكذا وقفت مقاصد القتال عند حماية حرية الدين والتدين.. وحرية الوطن الذي هو الوعاء الضروري لإقامة كامل الدين.. واتسعت ميادين الشهادة والاستشهاد لتشمل كل ميادين الجهاد، الذي هو بذل الوسع واستفراغ الجهد في كل ميادين الصلاح والإصلاح..
ولهذه الحقيقة حقيقة أن حرية الوطن هي الشرط لحرية الدين والتدين – كانت صيانة الحرية لدار الإسلام بابًا عظيمًا وواسعًا من أبواب الشهادة والاستشهاد..
إن كثيرين من الجاهلين أو الغافلين – يقفون اليوم عاجزين عن استيعاب مكانة ثقافة الشهادة والاستشهاد في النسق الفكري الإسلامي، تلك التي جعلت وتجعل “ناشئة الليل” يذيقون الفرعونية الجديدة كئوس المنية في ساحات الجهاد الإسلامي على امتداد ديار الإسلام التي عَدَت عليها عاديات آلات الحرب الصليبية الصهيونية.. إنهم عاجزون عن فهم قول الشهيد سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً﴾ [المزمل: 6]، وعاجزون عن فهم مكانة الوطن في ثقافة الشهادة والاستشهاد الإسلامية.. فالوطن عندهم “تراب” بينما هو في الإسلام “الوعاء الضروري لإقامة الدين وكل مقاصد شريعة الإسلام”.
لقد جعل الإسلام حرية الوطن مرادفة ومساوية للحياة ﴿َلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ﴾ [النساء: 66].
﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال: 30].
﴿ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: 85].
فالإخراج من الديار، كالإخراج من الحياة: إعدام! تقابله الحياة المتمثلة في حرية المواطن، التي لا تتحقق إلا في وطن حر!
وإذا كان الإخراج القسري من الديار إعدامًا.. فإن التفريط في حرية الوطن هو موت لهؤلاء المفرطين حتى ولو ظل الجانب الحيواني منهم “حيًّا” يأكلون به ويشربون! ذلك أن ذهاب منعتهم، وذوبان ذاتيتهم وهويتهم في الغزاة هو موت حكمي، لا يعوضه بقاء الجانب الحيواني لهؤلاء الذين فرطوا في حرية الأوطان..
ولقد أبدع الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده ]1265-1323هـ = 1849-1905م] في تقرير هذه الحقيقة التي رفعت حرية الوطن إلى مرتبة الحياة.. وجعلت الخروج منه بالتفريط في حريته موتًا ومواتًا، فقال – في تفسيره قول الله – سبحانه وتعالى في سورة البقرة: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ * وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 243، 244].
فقال الأستاذ الإمام : “تلك سنة الله – تعالى – في الأمم التي تجبن فلا تدفع العادين عليها.. وحياة الأمم وموتها في عرف الناس جميعهم معروف، فمعنى موت أولئك القوم هو أن العدو نكل بهم فأفنى قوتهم، وأزال استقلال أمتهم، حتى صارت لا تعد أمة، بأن تفرق شملها وذهبت جامعتها فكل من بقوا من أفرادها خاضعون للغالبين ضائعون فيهم، مدغمون في غمارهم، لا وجود لهم في أنفسهم، وإنما وجودهم تابع لوجود غيرهم ومعنى حياتهم: هو عودة الاستقلال إليهم..
إن الجبن عن مدافعة الأعداء وتسليم الديار، بالهزيمة والفرار هو الموت المحفوف بالخزي والعار، وإن الحياة العزيزة الطيبة هي الحياة الملية المحفوظة من عدوان المعتدين..
والقتال في سبيل الله.. أعم من القتال لأجل الدين لأنه يشمل أيضًا الدفاع عن الحوزة إذا هَمّ الطامع المهاجم باغتصاب بلادنا والتمتع بخيرات أرضنا أو أراد العدو الباغي إذلالنا، والعدوان على استقلالنا، ولو لم يكن ذلك لأجل فتنتنا في ديننا.. فالقتال لحماية الحقيقة كالقتال لحماية الحق، كله جهاد في سبيل الله.. ولقد اتفق الفقهاء على أن العدو إذا دخل دار الإسلام يكون قتاله فرض عين على كل المسلمين..”.
فالحفاظ على حرية الوطن هو حفاظ على الوعاء الذي بدونه لا يمكن أن نقيم كامل دين الإسلام.. فانتهاك حوزة الوطن هو المعادل للفتنة في الدين كلاهما يوجب الجهاد القتالي لتحرير الضمير وتحرير الديار..
ولأن الإسلام هو الإحياء للقلوب.. وللأوطان ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال: 24].
كانت ثقافة المقاومة والشهادة والاستشهاد هي السبيل إلى حياة الفرد والأمة والحضارة.. وبهذه الحقيقة التي تجسدت منذ صدور الإسلام دينًا وأمة ووطنًا، حقوق المعلمون وسيظلون العزة الإسلامية التي شاء الله – سبحانه وتعالى – أن تكون من عزته.. ومن عزة رسوله e ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [المنافقون: 8].
وإذا كانت آلة الحرب الباغية والمدمرة للفرعونية الصليبية تحاول وأد اليقظة الإسلامية المعاصرة واغتيال حرية دار الإسلام، فإن ثقافة الشهادة والاستشهاد ثقافة [ناشئة الليل] هي التي تحقق الآن واحدة من أعظم معجزات الإسلام على امتداد أرض المواجهة بين أمة الإسلام وبين فراعنة القرن الواحد والعشـرين ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 40].