أبحاثملفات

ثقافة المقاومة : حرب العرب في لبنان سنة 2006 – نظرة من داخل الواقع المصري

العدد 122

لقد تكلمنا بما يكفي وزيادة، واستنفد الكلام غرضه بما وصل إليه من مقررات يكاد ينعقد عليها إجماع من تهمهم شئون بلادهم، ولم تبق الآن زيادة لمستزيد في هذا الشأن،
ولقد ذاع ذلك كله وتناولته الصحف والأحاديث بما صار به علما عاما، ولم تبق إلا الحركة، والمطلوب هو تلك الأفعال التي تفضي إلى الإزاحة العملية لما هو ضار ومخرب وظالم ومستبد وغير وطني لا يرعى مصالح الجماعة السياسية في يومها ولا في غدها ولا في مستقبلهــا، ويمكّن أعداءها فيها، ويجعلهم المسيطرين عليها، والحاكمين لها وأصحاب القرار النافذ فيها.

لقد علمنا رسول الله r أن من عمل بما يعلم أورثه الله علم ما لم يعلم، ونحن نستفيد من ذلك أن علمنا بواقعنا وبما يصلح له وينصلح به لن يزيد عن مجموع ما حصلناه الآن إلا إذا نشطنا وعملنا بما توافر لدينا الآن، وأنت ترى الطريق أمامك لمدى نظر معين، ولن ترى بعده إلا إذا مارسنا هذه المعارف في الواقع وفي التطبيق؛ ولذلك فقديما قال أحد الحكماء: “العلم كله بلاء حتى يُعمل به”، وقديما أيضا قال فريدريك إنجلز: إن خير وسلية لمعرفة “الفطيرة” هي أن تأكلها، بمعنى أن المعرفة لصيقة بالممارسة لا تنفك عنها، ومن هنا صرت أخشى من الكلام الذي لا تواكبه أفعال.

أفعال الإزاحة والتغيير:

وأنا لدي مشكلة في هذا الشأن؛ لأن عملي الذي عرفته واعتدت عليه وانحصرت فيه ممارساتي وتجاربي هو الكتابة، سواء كانت كتابة مهنية صرفة أو كانت في مجالات فكر عام تاريخي أو سياسي، وهذا بالضبط ما أظن أنه لم يعد هو المطلوب الآن في هذه الأيام على وجه التحديد.

إن تكرار الحديث في هذا الشأن المعروف المعاد يتراوح بين اللغو الذي لا ينفع ولا يضر، وبين ما يشارف الإضرار أو التوغل فيه؛ لأنه يكون صارفا للناس عما هو مطلوب الآن، وهو الأفعال المادية، أفعال الإزاحة والتغيير.

لو كنت أعرف كيف أنشئ أو أدير تنظيما سياسيا له القدرة على الوصول إلى التجمعات الشعبية بين عمال المصانع وطلبة الجامعات والمترددين على المساجد، لو كنت أعرف كيف أفعل ذلك لفعلته، بصرف النظر عن موافقة لجنة الأحزاب أو اعتراضها، إذا كان شيء من ذلك موجودا وأكون نافعا له ونشاطه العملي في الشوارع والتجمعات لانضممت إليه، لو كنت أعرف كيف أمسك بالعصا “أشوّح” بها في وجه ظالم مستبد أو عميل استعماري لفعلت، لو كنت أعرف كيف أنظم مظاهرة وأهتف فيها لفعلت، ولو كنت أملك حنجرة قوية وصوتا غير صوتي الخفيض الذي لا أملك سواه لصحت مع الصائحين، ولو كنت من عمال الدولة وأستطيع مع غيري أن نوجه آلتها إلى ما فيه صالح الأمة والوطن لفعلت، ولو كنت أعرف وجوه التغيير للمنكر باليد لشاركت في ذلك، ولو كانت لدي فسحة من عمر تمكّنني من التدريب على شيء من ذلك لما ترددت في سلوك طريق التعلم، ولكن مضى أكثر العمر، بل مضى كله إلا فضلة صغيرة لا يعرف مداها إلا الله سبحانه وتعالى، مضى وأنا لا أتعامل إلا بالكلمة المكتوبة والصوت الخفيض والعبارة المركزة، وهذا بالضبط هو ما بلغ غايته، وهو يسلم الأمور إلى ذوي السواعد وأهل الحركة الواقعية، ولن يرث أحد علم ما لا يعلم إلا أن يعمل العاملون بما يعلمون، وصدق رسول الله r.

ونحن أمام وضع عجيب، فليس الفكر فقط هو ما بلغ منتهاه فيما يفصح عنه من مهام مطلوبة في هذا الوقت في هذا البلد، هنا والآن، ولكن الدعوة السياسية والإذاعة الإعلامية والإشاعة.. كل ذلك تكاد تكون بلغت منتهاها أيضا في القدرة على الإسماع والانتشار، بل إن ألفاظ الهجوم والكشف والفضح لكل ما هو سيئ وضار وقبيح، أكاد أقول إنها بلغت من المنتهى ما لم تبلغه بهذه العبارات وبهذه اللهجة والحدة في التاريخ المرئي الذي لمسناه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ولا في التاريخ السابق الذي استطلعناه في الصحف والوثائق على مدى القرن العشرين وما سبقه من العقود. وهذا يذكرنا بما كنا ندرسه في كتب التاريخ المدرسية عن العصر الفرعوني، كانوا يقولون لنا إن عهدا معينا كان عهد تفكك وانهيار بدلالة أن الرسوم على الجدران كانت تظهر الفرعون بصورة هزلية، وكان هذا إيذانا بانتهاء عهود وبدء عهود أخرى.

ولم يعد المطلوب إلا تحقق الأفعال الواقعية التي تفضي إلى الإزاحة المادية لكل ما هو رديء وآسن وغير وطني وغير شريف من السياسات والأفعال والوقائع والأوضاع، ويؤكد هذا المعنى أن القائمين على الأمور لم يعد يهمهم ما يقال عنهم مهما بلغ من شناعته، ما دام الواقع المادي الملموس على حاله، وهذا أمر يبدو منطقيا عند التأمل فيه، فمن لا تهمه المعاني السامية من سمو وعلو ونحوه لا يهمه نقيضها من نقص ودناءة ونحوها، ولا يهتم إلا بالفعل المادي الملموس باليد والحس، وجودا أو عدما؛ ولذلك نلحظ أنه لا يوجد في الحسابات السياسية إلا الرضا الأمريكي وقوة الشرطة فقط. والرضا الأمريكي ذو إرادة آمرة، والشرطة جهاز لحفظ أمن الحاكم المنفذ لهذه الإرادة.

تحالفا إستراتيجي مع عدو إستراتيجي!

وحتى نفهم معنى الرضا الأمريكي وأثره فينا، ينبغي أن نعرف أن السياسة الرسمية الأمريكية هي العدو الإستراتيجي لمصر المستقلة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أي منذ أن قررت أن ترث الاستعمار الإنجليزي لمصر والاستعمار الفرنسي لسوريا ولبنان، ومنذ أن قررت أن ترث المشروع الصهيوني الإسرائيلي الداعم لوجودها، ونحن نعرف أن السياسة الأمريكية -على مدى نصف القرن الأخير- تغيرت وتعدلت في كل مسألة من مسائلها في علاقاتها بدول العالم، سواء الدول الأوروبية أو الاتحاد السوفيتي وروسيا أو الصين أو الهند وباكستان أو دول شرق أوروبا، وذلك إلا فيما يتعلق بتوثيق علاقتها بإسرائيل، وإلا فيما يتعلق بعدوانها علينا، وسواء حاربنا إسرائيل -مثل “مصر عبد الناصر”- أو سالمنا إسرائيل -مثل “مصر السادات”- أو بدأنا نتحالف مع إسرائيل -مثل “مصر مبارك”- فالموقف الأمريكي هو هو، وإسرائيل عنصر مؤسس في الموقف الأمريكي.

القصة في سطور قليلة، أن هذه المنطقة التي نعيش فيها ونكوّن جزءا منها عرفت من الحروب في نصف القرن الأخير ما يلي: حرب 1948 التي استمرت أشهرا حتى 1949 ثم أعقبتها هدنة، وحرب 1956 لثلاثة أشهر تقريبا وأعقبتها هدنة، وحرب 1967 لستة أيام احتلت إسرائيل بها كلا من فلسطين وسيناء من مصر والجولان من سوريا، وحرب استنزاف امتدت نحو 3 سنوات حتى 1970، وحرب 1973 في سيناء والجولان، ثم لما انسحبت “مصر السادات” من العمليات الحربية في 1979، انتقلت أرض المعارك، فكانت حرب 1982 باجتياح إسرائيل للبنان وبداية حرب المقاومة التي استمرت حتى عام 2000، وفي خلال ذلك قامت انتفاضة الشعب الفلسطيني في فلسطين عام 1987، ثم حدثت حرب العراق والكويت في 1991، ثم الانتفاضة الفلسطينية في سبتمبر 2000 والمستمرة حتى الآن، ثم حرب احتلال الأمريكيين لأفغانستان في 2001 وهي مستمرة، ثم الاحتلال الأمريكي للعراق في 2003 والمستمر حربا طاحنة حتى اليوم، ثم حرب لبنان في 2006، أي إنها إحدى عشرة حربا في ثمانية وخمسين عاما هي حرب أمريكية إسرائيلية ضد الشعب العربي في أقطاره كلها، وهي مستمرة بما يفيد أنها حرب واحدة ذات معارك متجددة تحدث كل سنوات محدودة وتنتقل أرضا ومحاربين؛ ومن هنا يظهر أن العداء عداء إستراتيجي ممتد وحاكم لأسس العلاقة بين الطرفين.

وعلينا بهذا المنطق أن نتفهم كيف أن حكومتنا المصرية لا تكف عن الحديث الجهير والصنيع المستمر بأن ما بينها وبين الحكومة الأمريكية هو تحالف إستراتيجي، وكيف لنا نفهم تحالفا إستراتيجيا مع العدو الإستراتيجي؟! وبماذا يسمى هذا في لغة السياسة الوطنية، لا سيما أهم بنوده التحالف مع إسرائيل؟!.

ظهر هذا الحلف الإستراتيجي مع العدو الإستراتيجي كأوضح ما يكون في حرب 2006 الجارية الآن، وظهر في معركة عدوان إسرائيلي أمريكي سافر على بلد عربي مستقل وهو لبنان، عدوان يدمر البلد ويهجر شعبه، ويحتل أرضه ويقتل رجاله، وظهر هذا الحلف مع الجانب الإسرائيلي الأمريكي بدعم سياسي يغطي الفعل العدواني، وبهجوم سياسي على المقاومة الوطنية اللبنانية، وبنعت لها بعدم المسئولية، وأنها سبب الحرب، فكان ذلك أوضح تحالف حكومي عربي صريح مع الجانب الأمريكي والإسرائيلي ضد بلد عربي وحركة مقاومة عربية وطنية، وكانت قواه تقودها الحكومة السعودية، وتقف معها حكومة مصر وحكومة الأردن. وحكومة الأردن معروفة، فهي لم تكد تنشأ في الإقليم العربي منذ أربعينيات القرن العشرين إلا بوصفها رديفا للمشروع الصهيوني، منذ الملك عبد الله الأول، وهذا ما تولته كتب التاريخ عن المسألة الفلسطينية. وحكومة مصر هي ما نتكلم عنه هنا، من قبل ومن بعد.

وإن الشيء الإيجابي الوحيد في السياسة المصرية الحالية أنها لم تعد ذات وزن ولا ثقل في الشأن العربي، وصارت دولة لا تتكافأ حتى مع دول الخليج الصغيرة الحديثة؛ ولذلك صار الضرر العربي من السياسة المصرية محدودا وغير ذي بال. أي إن المزية الوحيدة للسياسة المصرية أنها صارت لغوا لا يضر ولا ينفع.

كانت المملكة العربية السعودية هي رائدة الموقف الموالي للموقف الأمريكي الصهيوني ضد لبنان، وأعلنت ووجهت من أول يوم طعنتها لحزب الله المجسم للمقاومة الوطنية، متهمة إياه بالمقامرة، ومعلنة وجوب أن يقف وحده وأن يواجه وحده رد الفعل الإسرائيلي، وأن يلقى ما يلقى، بعبارات لم يكن لها من قبل سوابق في أدبيات التعبير السعودي عن المواقف السياسية، ثم تلت ذلك بما تواجهت به حملات الإعلام المنتمي إليها من الدعاية إلى الموقف المعادي ذاته، والمخاصم للمقاومة الوطنية اللبنانية، سواء في الصحف أو الفضائيات أو تصريحات المسئولين، ثم أتبعت ذلك بإثارة الخلاف المذهبي بين السنة والشيعة وإحياء فتاوى من شيوخها تحرم الوقوف مع الشيعة، كما لو أن الصهاينة أقرب للمسلمين من الشيعة الموحدين بالله والمؤمنين برسوله.

ثم إن الأهم من ذلك كله أن وسائل الإعلام نقلت خبرا خلال العمليات العسكرية للعدوان الإسرائيلي على لبنان، مفاده أن المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية عقدتا اتفاقيات شراء أسلحة من الولايات المتحدة مع تحديث أسلحة قيمتها 4.2 مليارات دولار، منها 2.9 مليار دولار تمثل نصيب السعودية في هذه الصفقات، وتركت وكالات الأخبار لنا أن نستنتج أن حكومة خادم الحرمين الشريفين تمد مصانع السلاح الأمريكي بمبلغ 2.9 مليار دولار في الوقت الذي تمد به هذه المصانع إسرائيل بالأسلحة والذخيرة لتدمير لبنان البلد المسلم ولتقتيل شعبه المسلم ولهزيمة حزب الله المقاوم للصهاينة وعدوانهم. وهكذا كان الدعم لإسرائيل بالموقف السياسي وبالفتاوى الشرعية وبالإذاعة الإعلامية، وفوق ذلك وقبل ذلك وبعده بتمويل السلاح. ونحن نعرف أن ما يسمى بالقنابل الذكية كانت تصدر من أمريكا لإسرائيل في هذه الفترة عن طريق إنجلترا والخليج، حسبما ذكرت الأخبار وقتها.

نستطرد في هذا السياق إلى ذكر أمر هام جدا لا نملك إلا أن نثيره؛ لعل الإثارة تنتج موقفا إيجابيا، الآن أو في مستقبل غير بعيد، ذلك أن الكثير من العاملين في مجال الإعلام عندنا لهم صلات عمل وثيقة بالمؤسسات الإعلامية في العديد من دول الخليج، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، وكذلك العدد العديد من المهنيين والمفكرين وأساتذة الجامعات وغير ذلك، وما أكثر الوطنيين من هؤلاء المهمومين بمشاكل بلادنا، والكثير من هؤلاء لا يؤثر عملهم بتلك المؤسسات في مواقفهم الوطنية، كما أنهم في بلادهم لا يتأثرون بأعمالهم في نقد مسلك حكوماتهم، ولكن الحذر يتأتى عندما ينتقد أي منهم سياسات معينة ومسماة لحكومة غير حكومة البلد الذي هو من رعاياه، ولكنه البلد الذي يعمل به؛ إذ يتصل اتصال عمل بمؤسساته الإعلانية والثقافية، وهذا أمر ملاحظ لأن نبرة النقد تخف كثيرا –إن لم تُتجنب كلية- عند الحديث المباشر عن سياسات حكومات يتعامل مع مؤسساتها.

إننا في معركة حادة وجادة جدا، وهي تقتضي من أي منا أقدارا متفاوتة من الاستغناء ومن التضحية، ولن يكون هذا كثيرا ونحن نشاهد تصاعد معارك يتقدم إليها استشهاديون ويذهب في معتركها قتلى ومصابون، ويفقد أطفال آباءهم وأمهاتهم، وما من حي فيهم إلا وهو ابن شهيد أو أخو شهيد أو قريب له.

حلف التبعية:

أمران يستحيل أن يكون ثمة اختلاف حولهما، وإلا نكون من الخاسرين، أولهما أننا في حالة تلقّ للعدوان الأمريكي الصهيوني علينا منذ نحو ستين سنة، وأن الحرب ناشبة بيننا وبينهم على هذا المدى الزمني الطويل الذي لم تظهر له نهاية بعد، وأنها حرب ممتدة ومستمرة. وثانيهما أن موجبات الأمن القومي والمصري تمتد خارج الحدود المصرية إلى أرض الشام، من فلسطين إلى سوريا شمال شرق، وإلى السودان حتى باب المندب جنوبا، وهذه ضرورة دفاعية عسكرية وبشرية.

إن الإنجليز أنفسهم عندما عملوا على الدفاع عن هذه المنطقة ضد التهديد النازي خلال الحرب العالمية الثانية (1939- 1945) أنشئوا ما يسمى مركز تموين الشرق الأوسط للتنسيق بين الاحتياجات المعيشية لهذه المنطقة، وعينوا وزيرا ينسق بين السياسات فيها كان هو اللورد موين الذي اغتالته العصابات الصهيونية وقتها في حي الزمالك بالقاهرة، وشجعوا إنشاء جامعة الدول العربية في سنتي 1943 و1944.

ومن قبل الإنجليز كان نابليون عندما احتل مصر في 1798 قاد حملة إلى عكا بفلسطين ليؤمن مصر من جانب أرض الشام، وفشل في ذلك وانهار حلمه في البقاء بمصر.

والأمريكيون الآن أنشأوا هذا التحالف الإسرائيلي المصري السعودي الأردني للدفاع عن بقائهم وهيمنتهم، ونحن على العكس نرنو إلى حلف الاستقلال لا إلى حلف التبعية.

وبعد كل ذلك يتبجّح الحكام في هذه الدول بأننا في حلف إستراتيجي مع عدونا الأمريكي الصهيوني، وينعقد المؤتمر الأول “للحزب الوطني” الحاكم في مصر منذ ثلاثين سنة ليضع برنامجا كان في صدر أهدافه في سنة 2003 عبارة “مركزية الهوية الوطنية المصرية التي حفظت للدولة تماسكها”، وهو ما يعني عزل مصر عن المحيط العربي الحاضن لها والمؤمّن لها، ثم بعد ذلك تُتخذ السياسات التي لا تعني إلا العزلة عن حركات التحرر والمقاومة العربية، ثم تُوثق الأواصر مع قوى العدوان الأمريكي الصهيوني عندما تظهر في الحكومة السعودية وحكومة الأردن، وتنسق مع السياسة الصهيونية لزعماء إسرائيل.

ومن هنا لم يحتج رأي العالم العربي إلى أحد ليشرح له أن معركة لبنان في يوليو وأغسطس 2006 هي معركتنا نحن، ولا أقول إننا تخلينا عنها أو غبنا عن معتركها، ولكن أقول إننا اكتفينا بالصياح والصراخ فقط في وجه حكومتنا عندما قدمت الدعم السياسي لإسرائيل في هجومها على لبنان وعلى حزب الله المقاوم للغزو الإسرائيلي الأمريكي، بما يعني أن حكومتنا في هذا الشأن إنما تعمل لصالح ما يهدد الأمن القومي المصري، كما قدمت من قبل البترول والغاز الطبيعي والإسمنت الإسرائيلي بأسعار معتدلة حسبما تردد كثيرا في صحافتنا الوطنية في الأسابيع الأخيرة.

والمشكل الذي يواجهنا أن تنظيم “الدولة” في التاريخ وفي أصول الفكر السياسي، لم تنشأ إلا لحاجة الجماعة السياسية له، ولم يقم إلا لتأمين هذه الجماعة ضد ما يواجهها أو ما يحتمل أن تواجهه من مخاطر الخارج عليها.

ثم أضيف إلى هذا الاحتياج وإلى وظائفها الأساسية أنها التنظيم ذو القدرة أيضا على حفظ التوازنات بين الجماعات الفرعية التي تتكون منها الجماعة السياسية الأشمل. هذا “تنظيم الدولة” الذي لم ينشأ إلا لهذا الهدف، قد صار اليوم في بعض دولنا في المرحلة الحاضرة هو الثغرة الخطيرة التي يجيء عن طريقها العدوان الخارجي، والتي تكبل الجماعة السياسية وتصرفها عن مقاومة العدوان الخارجي عليها، وصار من يقوم من شعوبنا ومنظماتها الأهلية لتكافح مخاطر الخارج، تواجه أول ما تواجه بأن دولها هي من يحول دون ذلك.

إن الأحداث الجارية منذ سنة 2000 قد أكدت ما سبقت ملاحظته من أن قوى العدوان العالمية ليس لها على مثل بلادنا وجماعاتنا السياسية سبيل، إلا بطريقين، أولهما الوقيعة بين الجماعات المختلفة في بلادنا، سواء أكانت جماعات دينية أو مذهبية أو قبلية أو إقليمية أو لغوية، مثل ما حدث ويحدث في العراق ولبنان والسودان وغير ذلك، قديما وحديثا، وثانيهما اتخاذ العملاء من بيننا ذوي النفوذ الفعال في أجهزة الدولة أو في غيرها من المؤسسات ذات النفوذ، وإذا استطعنا أن نقوى على أنفسنا في هذين الأمرين نكون قد ملكنا القدرة على الاستقلال، ولن يكون لمخاطر الخارج علينا من سبيل، لسبب واحد أساسي وهو أننا مع أي مواجهة مع عدوان الخارج يكون المعتدون يدافعون عن مصالحهم، وهي تأتي وتذهب وتتهاوى متى انقلبت المصلحة إلى مفسدة، بينما نحن ندافع عن وجودنا، فإما بقاء وإما فناء، وسنظل نذود عن هذا الوجود؛ لأننا لا نملك إلا الدفاع عنه ما دمنا أحياء عبر المعارك المتعددة والمراحل المتطاولة.

وفي مصر، لا يوجد مهدد لها بخطر ذي بال من أنواع الطريق الأول، وهو إثارة الوقيعة بين الجماعات المختلفة، ومحاولات هذه الإثارة لا ترد إلا بين المسلمين والأقباط، وهي بحمد الله نقدر على تفاديها وعلى حفظ وحدة الجماعة السياسية، فنحن بخلاف لبنان في هذا الشأن بالنسبة للتعدد الطائفي المذهبي، ونحن بخلاف العراق أيضا بالنسبة للتعدد المذهبي والقومي، ونحن بخلاف السعودية بالنسبة للتعدد القبلي، وبخلاف السودان بالنسبة للخلافات الإقليمية القبلية والدينية، ولكن مشكلتنا الحقيقية هي فيما يتعلق بالفريق الثاني بعدما اتجهت الدولة وأجهزتها إلى سيطرة فردية تصبح جهيرة بالتحالف الإستراتيجي مع العدو الإستراتيجي.

دولة بلا مشروع تنجزه :

نحن نعلم أن الدولة وجهازها هي من يقوم بواجب الدفاع عن الوطن ضد العدوان الآتي من الخارج، وأنها هي من يتعين أن يعبر عن الصالح الوطني العام للجماعة السياسية ويتخذ القرارات وينفذ ما يتراءى من سياسات محققة لهذا الصالح الوطني على المدى الإستراتيجي المتاح، ونعلم أيضا أنه إذا عجزت الدولة عن القيام بهذه الوظائف فهي تفقد وظيفتها التاريخية وتفقد شرعية قيامها بالسلطة إزاء شعبها، ويكون حقيقا بها أن تغير من تكويناتها بما ينصلح به حالها إن استطاعت أو أن تتيح للمبادرات الشعبية أن تقوم بما عجزت هي عن القيام به.

ولكننا نلحظ أن نظام الحكم في الدولة بما يعقد من حلف إستراتيجي مع العدو الإستراتيجي يكون قد سلم قيادة الدولة لهذا العدو الحليف، ويكون تنازلا عن سيادة الدولة وعن وظيفتها التاريخية، ويكون قد أفقد بلاده استقلالها، وأن فقدان الاستقلال إما أن يأتي من احتلال عسكري مباشر كما كان يحدث في القرون السابقة، أو بحصار وضغوط سياسية واقتصادية تفقد بها الدولة القدرة على اتخاذ القرارات المعبرة عن الصالح الوطني، أو يكون بهذه الطريقة الحادثة، طريقة عقد الحلف الإستراتيجي مع العدو الإستراتيجي، مما يجعل آلة الدولة تتحرك إلى ما يحقق الإضرار الوطني بدلا من الصالح الوطني، وبما يجعلها تحقق الصالح الأجنبي وتنصاع له وتعبر عنه وتحميه ضد معارضة شعبها ومقاومته.

على أنه يتعين هنا أن نفرق بين نظام الحكم الذي يتخذ هذه السياسات وبين أجهزة إدارة الدولة التي تتشكل من الفنيين وأصحاب التخصصات المهنية في كل من ميادين العمل والنشاط الحكومي والمؤسسي، سواء في المجال العسكري أو مجالات الإنتاج والخدمات وغيرها، وأقصد بنظام الحكم هذه القلة القليلة الممسكة بزمام الدولة في مراكزها العليا والتي ترسم السياسات وتتخذها وتجبر أجهزة التنفيذ عن تحقيقها. وأن التنظيم الاستبدادي قد أعطى هذه القلة صلاحيات مطلقة في التصرف وفي الإمساك بزمام أجهزة الدولة كلها وفي إخضاعها للنفوذ الشخصي لهذه القلة التي يعبر عنها شخص واحد هو رئيس الدولة وهذا أمر سبق وصفه في كتابات سابقة.

على أن ما أريد أن أوضحه هنا أن السعي للسيطرة الفردية على دولة مترامية الأطراف كأجهزة الدولة المصرية، قد اتبع فيما اتبع أساليب سيطرة عديدة، ومنها تفكيك أجهزة الدولة والإدارة وصرفها عن وجوه الأنشطة الموضوعية التي تكونت من أجل تحقيقها، ذلك لأن أي رئاسة لأي جهاز إدارة أو مؤسسة يمكن أن يسيطر عليها ويضغط عليها هذا الجهاز، ويمكنه أن يحاصرها ويجعلها أسيرة له، وقد عرف ذلك في أمثلة تاريخية وواقعية كثيرة، وذلك إذا كان هذا الجهاز ذا نشاط تخصصي فعال وذا علاقات نوعية قوية بغيره من الأجهزة وذا إرادة ذاتية تتراكم خبراتها وتجاربها عبر وجوه النشاط الفني المبذول، وذا استقلال نسبي للعاملين به من حيث أوضاعهم الوظيفية ومن حيث ضمانات بقائهم في عملهم والأسس الموضوعية المستقرة والتي يتعاملون بها، ويكون ضغط مثل هذه الأجهزة والمؤسسات على رئاساتها الفردية من خلال المؤدي العام للعمل؛ لأنها هي من يجمع المعلومات ويحللها ويصنِّفها ويقدمها لرئاسته؛ ولأنها هي من ينفذ القرارات الصادرة من الرئاسة ويضعها في التطبيق، ولأن الفشل والنجاح للعمل المؤدي معلق على كيفية اتخاذ القرار وتنفيذه بواسطتها، ويساعد على ذلك أيضا أن الرئاسات الفردية تكون متغيرة تتداول الرئاسة لفترة محدودة، فيكون التكوين القاعدي في الهرم الإداري هو الأكثر ثباتا واستقرارا.

كل ذلك تغير في مصر إلى النقيض خلال العقدين الماضيين. وتلك الكوابح المؤسسية التي تلجم انطلاق السيطرة الرئاسية الفردية على الأجهزة المؤسسة، ما لبثت أن ضعفت ثم ضمرت ثم كادت أن تتلاشى، فالرئاسة لم تعد مؤقتة لا بالتداول التنظيمي الدوري، ولا بالحدود القصوى للعمل سنوات معدودة أو لسن محدودة، ولا بأي قاعدة موضوعية تصدق على الناس بأوصافهم لا بذواتهم فصارت الرئاسة مؤبدة، والتأبيد لا يعني الدوام ولكنه يعني عدم تحدد المدة والبقاء لمدة لا يعرف المتعاملون لها نهاية. وهذا الأمر يعادله ويقوم إزاءه أن صاحب السلطة الرئاسية قد ملك بالواقع والقانون مكنة أن يخرج التالين له في العمل بإدارته الفردية وبمحض مشيئته الخاصة، ومن ثم اختل التوازن كليا وتغير من النقيض إلى النقيض في علاقة الرئاسة الفردية للمؤسسة بالجهاز القائم فيها، واختل التوازن بما لا يقاس بالنسبة لرئاسة الدولة التي صار رئيسها الأوحد يملك من السلطة على كل العاملين بهذا الجهاز الطويل العريض القديم الحديث، تملك من ذلك ما لم يملكه رئيس ولا ملك ولا أمير ولا والٍ فيما نعرف من تاريخ هذا البلد.

ومكن من ذلك طبعا أن الدولة خلال ربع القرن الأخير، لم يكن لها أي مشروع تقوم به أو تنجزه، ولا وجدت أن ثمة داعية لها لأن تستكمل ما كان بدأ بناؤه ولم يكن استكمل بعد، دولة لم يعد لها أي مشروع تقوم به، المصانع تتركها لتصدأ وتتعطل، العمال تتركهم ليكبروا في السن فيتقاعدوا دون بديل أو يخرجوا “بالمعاش المبكر”، الأرض الزراعية تتركها لتقام عليها الأبنية وتفقد صلاحيتها، والتعليم ترك ليفسد وليسوء مستوى المناهج ومستوى المدرسين ولتنمو بتلقائية الدروس الخصوصية، والجامعات تركت ليهرب أساتذتها من مصر للخليج فتفقد مصر جهودهم دون بديل ذي بال في الخليج، والصحافة تركت تتهاوى إلا من ذكر تأثير الرئيس وإثارة القضايا غير ذات الأهمية، وبث الفرقة بين المصريين في مسائل فكرية مجردة، ومدخرات المصريين من العمل بالخارج فتحت لها أبواب الإنفاق غير الاستثماري، وذلك في مشروعات المدن الجديدة، والساحل الشمالي وشواطئ الإسماعيلية.

والأخطر من ذلك والأهم أن أي جهاز مؤسسي إنما يتكون من تخصص معين ولمهام نوعية معينة توكل إليه، ويجمع رجاله من خلال تخصصهم المناسب وتتراكم خبراتهم بما يوكل إليهم تباعا من مهام نوعية، ونحن عندما لا نطلب منه عملا فهو يركد ويعلوه الصدأ وتفسد علاقات تكويناته بعضها مع بعض، وعندما نصرفه عن عمله إلى عمل آخر تتضارب وظائفه ويفقد رجاله قراراتهم، وتتفكك أوصاله وروابطه التنظيمية، كجيش مثلا نطلب منه مهام استثمارية، أو قضاء نحيل إليه مهام إدارة أموال محروسة، وهكذا.. ويزيد الأمر تفكيكا وعطبا، أن تجعل راتب العامل أو أجره  لا يكفي ضرورات معيشته، فيبحث عن مورد آخر، وعادة ما يجده ولكنه يكون خارج إطار عمله الأصلي، فتضعف علاقته بعمله الأصلي، وهو يجده بغير ضمانات الوظيفة والأجر الذي يوفره له عمله الأصلي، فيكون ما هو مضمون وقانوني غير كافٍ ولا عاد ذا أهمية، ويكون ما ليس قانونيا ولا مضمونا هو ما يسد الرمق ويشبع الاحتياجات ولكنه مؤقت، فلا يصير الإنسان منتجا في عمله الأول لعدم كفاية الدخل المتحقق منه، ولا يكون منتجا في عمله الآخر لتأقيته وعدم استغراقه لحياة الشخص، ثم يتوج ذلك كله أن يكون لرئيس العمل إمكانية إنهاء عمل العامل، وأن يكون له أن يجدد عمل الموظف الكبير كل سنة أو كل سنتين، أو ثلاث، كما حدث فعلا في القوانين التي صدرت من 1991 إلى 1994 و1998 بالنسبة للعاملين بالدولة والقطاع العام والجيش والشرطة، هنا تكمل السيطرة الفردية للرئيس ويتم التفكك في ذات الوقت ولم يبق إلا الشرطة جهازا ذا فاعلية في حمايته للحاكم، ولكنها تحت السيطرة الفردية القابضة.

تفكيك رسمي وشعبي :

لا أريد أن أطيل على القارئ، ولكنني أريد أن أوضح أن مصر اليوم مفككة على المستويين الرسمي والشعبي، ولكنه شتان بين المستويين؛ لأن المستوى الرسمي صار نظام الحكم أو القائمون عليه، على تحالف إستراتيجي يفصحون عنه، مع من نعتبرهم أعداء الوطن والأمة، وصار جهاز إدارة الدولة على تفكك تنظيمي أسلفت الإشارة إليه في الفقرات السابقة، وهو في تفككه غير قادر على القيام بوظائف الدولة التقليدية من ذود عن الوطن والاستجابة للاحتياجات الأساسية للجماعة السياسية. ولم يعد ذا فاعلية فيه إلا الشرطة الموكل إليها حماية أمن القائمين على الحكم. ولكن حتى هؤلاء في النهاية وفي غير ما يتعلق بأمن القائمين على النظام يلحقهم ما يلحق غيرهم في المدى الأطول نسبيا.

أما بالنسبة للمستوى الشعبي، فإن عوامل السخط والثورة تتجمع لدى النخب من المهنيين والمثقفين بقدر غير مسبوق في العقود الأخيرة، وهؤلاء هم من تتشكل منهم المؤسسات المختلفة، سواء في داخل هيئات الدولة أو في هيئات المجتمع المدني، وحركاتهم يمكن أن تظهر من خلال النقابات المهنية وغيرها من تشكيلات المجتمع المدني التي تضم جمعيات وأحزابا وصحافة وغير ذلك. والحركة بينهم تتسع نسبيا وتتصاعد ببطء ولكن في ثبات نسبي، بمراعاة ما جرى خلال السنة ونصف السنة الأخيرة؛ ولهذا التحرك أثر هام لا شك، ولكنه لم يبلغ حد الحسم، وليس من شأنه أن يبلغ حد الحسم إلا باتصال بالجموع الأوسع.. والجموع الأوسع والأكثف تتراءى في الأساس حيث يتجمع الناس.. والناس تتجمع على سبيل المداومة والاعتياد الضروري في المدن وهم في المدن يتجمعون عمالا في المصانع وطلبة في الجامعات والمدارس ومصلين مترددين على المساجد، وعلى هذه العتبات ينبغي أن يسعى رجال العمل.

وإذا كان التفكك حادثا في مجال الأنشطة الشعبية، فإن العزم على التجمع والتشكل المؤسسي من شأنه أن يوجد حركة توحيد وتقارب معاكسة لحركة التفكيك، لدينا نقابات مهنية على قدر من التماسك والتنظيم الحميد وقدرة على اتخاذ القرار الذاتي وحشد أعضائها في ضوئه، ولدينا النوادي المهنية ذات قدرات مشابهة، وأعضاء كل أولئك منتشرون في أجهزة الدولة وفي هيئات المجتمع الأهلي، ولدينا التنظيمات الحزبية، سواء ذات الوجود الشرعي وهي ضعيفة في صلتها بجماعات الرأي العام ولكنها موجودة، أو التنظيمات السياسية المحجوبة عن الشرعية. وهي ذات مكنات تنظيمية تتفاوت في الانتشار والوثوق ولكنها قابلة للنمو وللحركة على كل حال، والأضعف منها بشكل نوايات والنواة قادرة على بلورة جماعات وعلى النمو السريع في ظروف حراك اجتماعي وشعبي قوي.

ولدينا اتحادات للطلبة ابتكرت وجه نشاط جديد لما وجدت الحكومة تسد عليها وجه الانتخابات والاختيارات الحرة والنزيهة في الاتحادات الطلابية المعترف بها رسميا، قامت بإجرائها أهلية أو عرفية وأنشأت اتحادات موازية للاتحادات الحكومية، وكان هذا نوعا من العصيان المؤسسي الحميد والمبتكر في الساحة المصرية، وهو شبيه بفكرة “الأحزاب تحت التأسيس” وانتشار هذا الأسلوب في التكوين المؤسسي العرفي سيطلق إمكانات تنظيمية جديدة تماما وتكون مؤثرة بقدر انتشارها.

ولدينا نقابات عمالية ولكنها صارت واهية جدا ومسيطرا عليها من جانب الدولة، وذلك يرجع طبعا في واحد من أهم أسبابه إلى المتابعة الأمنية لهذه المؤسسات والتداخل فيها، وهي ظاهرة قديمة، وإن كانت استفحلت مع استفحال النفوذ الأمني في كل مقدرات الدولة وتنظيماتها وتعينياتها وتشكيلاتها، حتى في الإعلام وفي القضاء ناهيك عن رجال الأزهر والجامعات وناهيك عن تكوين الجمعيات الأقل خطرا من النقابات العمالية.

إنما ثمة سبب آخر يبدو هاما فيما ألاحظ وهو أن النظام الناصري في الستينيات عندما قرر تمثيل العمال في مجالس إدارة شركات القطاع العام، إنما كان يقصد من ذلك أن يكون العمال مشاركين في اتخاذ القرارات الخاصة بالشركات، وأن يكون صوتهم مسموعا لدى الفنيين من مديري هذه الشركات عندما يتخذون سياساتهم ويصدرون قراراتهم، فلما تحول النظام الاجتماعي الاقتصادي لمصر في عهدي السادات ومبارك إلى نقيض ما كان عليه في العهد السابق عليهما، انعكست الوظيفة المؤداة، وبدلا أن يكون العمال في مجالس الإدارة وسيلة وقناة لهم لدى أصحاب القرار، صار هؤلاء العمال وسيلة وقناة لأصحاب القرار لدى العمال ينفذون ما تراه الإدارة ويطوعون المجال العمالي للسياسات العليا المتخذة، وقد قاموا بدور مؤثر جدا وهام جدا لا في قمع الحركات العمالية، فهذه وظيفة الشرطة، ولكن في تدجين الحركة العمالية وإفسادها من الداخل ونقل عوراتها إلى الإدارة العليا وسلطات الدولة وهو ما أدى إلى هذا الهدوء الملحوظ في تطبيق سياسات تصفية شركات القطاع العام، وتوقف المصانع عن العمل وانتشار فكرة المعاش المبكرة للتخلص من العمالة في هذه الشركات.

والعنصر الثالث هو أن سياسة الحكومة الثابتة على مدى ربع القرن الأخير في التخلص من مصانع القطاع العام، وتصفيتها (بما يذكرنا بتدمير صناعات محمد علي على عهدي خلفيه عباس الأول وسعيد) قد هدّت من القاعدة الشعبية الأساسية للطبقة العاملة وهزتها هزا عنيفا جدا بحيث لم يعد تكوينها الإنساني العضوي على ذلك القدر من الثبات الاجتماعي والذي يولد التجمع والتحرك المنظم والفعال لصالح هذه الطبقة الاجتماعية.

والعنصر الرابع هو أن العمالة الجديدة التي نشأت في شركات القطاع الخاص المنشأة حديثا في هذا العهد الأخير، سواء كانت عمالة جديدة تماما أو عمالة منقولة من شركات القطاع العام التي جذبها القطاع الخاص الجديد، هذه العمالة لم تكن طبعا محمية بالضمانات القانونية التي كفلتها تشريعات القطاع العام للعمال، ويزيد على ذلك أن أصحاب الأعمال لجئوا -بالتآمر مع قيادات في الحركة النقابية العمالية وبالتآمر كذلك مع أجهزة الدولة الرقابية في هذا المجال- إلى حيل قانونية أفقدت العمال والعاملين في القطاع الخاص كل الضمانات التي كفلتها القوانين وسوابق القضاء لهم للعاملين في القطاع الخاص بموجب عقود العمل الفردية، وذلك بعد ما صار عقد العمل الموقع من العامل عند تعينيه لا تكون لدى العامل منه نسخة موقعة من صاحب العمل، وأن يوقع العامل على إقرار له غير مؤرخ بالاستقالة من العمل، يوقعه مع عقد العمل ذاته لدى صاحب العمل يفصل به صاحبُ العملِ العاملَ عندما يشاء بغير أي ضمانات، وهذه أسباب أراها ذات أثر فيما نلاحظه من خفوت الصوت ووهن المردود الاجتماعي والسياسي للعمال في هذه الأيام، والأمر هنا يحتاج للإنعاش بعمل صبور ودءوب لإعادة بناء حركة هي عزيزة جدا على المجتمع المصري وذات أثر يكون فعالا إن شاء الله. على أنه من جهة أخرى، فإننا نلاحظ في ظاهرة تفكك الدولة، أن مظاهر هذا التفكك قد لا يكون باديا للعيان بصورة جهيرة، وهذا طبيعي؛ لأن بَدْأَها بصورة جهيرة يكون هو في ذاته الإيذان الجهير بانتهاء نظام وبدء نظام آخر. إنما الملامح واضحة حسبما ظهرت في أضعف حلقات البناء الإداري والتنظيمي لجهاز الدولة، مما يتمتع باســتقلالية ذاتية نسبية أكثر من غيره، وهذا ما ظهر في حركة نادي القضاة، كما يظهر في حركات أساتذة الجامعات، ثم فيما نعايشه من أحداث ونعايش ردود فعله بين من يحيون في سائر أنحاء هذه الأجهزة، ثم في حركات النقابات المهنية، وأن حركة أجهزة الإدارة لا تبدو فيما تبدو به حركات المجتمع الأهلي ولا الوسائل ذاتها، إنما تبدو بآثارها أحيانا، إما في صورة تشدد يخرج القائمين على الأمر ويزيد الصــراخ من أفعالهم، وإما بتراخ في التنفيذ ونقل المعلومات يتيح لصاحب الحركة أن يتحرك بعض حركيته المنشودة. وعلينا أن نرقب هذه الأمور جيدا..

رعى الله مصر وألهمها الرشاد والسعي الفعال لما فيه الخير.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر