ثقافة المقاومة : المقاومــة في الخطاب الفقهي السياسي لسماحة آية الله الشيخ محمد مهدي شمس الدين (عرض كتاب)
العدد 122
جاء بين دفتي هذا الكتاب مجموعة من خطابات وبيانات ونِداءات وأحاديث صحفية وخطب ألقاها سماحة الشيخ مهدي شمس الدين على مدى الربع الأخير من القرن العشرين تتعلق كلها بنشاطه وآرائه وأفكاره حول مقاومته للمشروع الصهيوني – الإسرائيلي في فلسطين ولبنان، وهو يقترح ضرورة المقاومة المدنية الشاملة.
ويعتمد على المقاومة كخيار وحالة شعبيـة رافضـة للاحتلال، وكخيار لا يحيد عنه عن طريق التحرير واستعادة الأرض المغتصبة. كما أنه يعتبر أن المقاومة ليست بندقية فقط إنما هي جميع الأشكال المتيسرة ضد المعتدي، ويرى أنها واجب شرعي وأخلاقي، كما أنها ليست لطائفة ما أو منطقة ما، فالواجب – المقاومة – يلحق الجميع بمختلف انتماءاتهم، وكل من يرفع شعارًا وطنيًّا في هذا الاتجاه أو ذاك.
كما يعتبر الإمام مهدي شمس الدين أن لا خيار للعرب أمام إسرائيل إلا الحرب الشاملة، فخيار السلام هو خديعة للنفس أو خيانة، كما أنه خيار لا تنتج عنه إلا الهزائم؛ ومن ثم فالحل هو المقاومة الشاملة.
وفي هذا الإطار طالب بأن يتم اعتبار قضية احتلال إسرائيل لأراضي عربية هي قضية إسلامية يجب إخراجها من دائرة الأنظمة العربية ووضعها في إطارها الإسلامي الصحيح، وطالب بأن توظف كل الجهود، وإنشاء مجتمع حرب، واعتماد حرب شعبية شاملة.
وقد أكد على أن هناك ثلاث خيارات لمواجهة العدوان الإسرائيلي الصهيوني المدعوم من القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، مع تجاهل المؤسسات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة للمارسات الإسرائيلية وغضها الطرف عن مذابح وجرائم هذا الكيان الصهيوني.
ورأى أن الحل هو في المقاومة الشاملة وهي مفروضة على جميع المواطنين بغض النظر عن الديانة أو المذهب؛ ومن ثم نجد أن الشيخ مهدي شمس الدين كثيرًا ما جاءت له نداءات وبيانات للمسيحيين يدعوهم للمقاومة والدفاع عن لبنان.
وانطلاقًا من الأزمة اللبنانية – العدوان الإسرائيلي على لبنان 1982م – وجد أن هناك عدد من المبادئ التي يمكن اعتبارها أن المقاومة المدنية تتأسس عليها:
أكد على أن التعامل مع إسرائيل بجميع وجوهه وأشكاله حرام شرعًا حرمة مطلقة لا رخصة فيه لأحد، وهو خيانة وطنية عظمى.
كما أكد على أن التشريع الإسلامي الملزم بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نبذ المتعاملين مع إسرائيل اجتماعيًّا ووطنيًّا.
وأكد على وجوب التشبث بوحدة الأرض والوطن ومقاومة كل أنواع التجزئة والتقسيم والتفتيت من أي جهة كانت وتحت أي شعار، وضرورة التصدي لكل ما يثير النعرات والفتن الطائفية.
كما طالب بوجوب التصدي لممارسات العدو الإسرائيلي وإحباط مخططاته بجميع الوسائل المتاحة.
وقد اعتبر أن هذه المبادئ والتي قد تزيد أو تقل باختلاف الحالة أو الوضع الخاضع للاحتلال هي الأسس التي تقوم عليها المقاومة المدنية، والتي اعتبرها بديل المقاومة على صعيد الأنظمة والحروب التقليدية التي أثبتت فشلها، فهو يرى أنها حالة عامة متعددة الوسائل والأساليب بالدرجة التي تتيح لكل المواطنين القيام بها، كما أنها تؤثر في كافة المستويات والمجالات بدءً من الاقتصادية والسياسية والسياحية وصولاً إلى عدم مشاهدة برامج التلفزيون الإسرائيلية.
ويعتبر أن جميع أنواع المقاومة المدنية ووسائلها ضرورية رغم أنها طويلة النفس وقد تستمر لسنوات عديدة.
ومن ثم، فهو يرى أن السبيل لمواجهة وإحباط المخطط الإسرائيلي هو المقاومة الشاملة، وحشد جميع القوى والطاقات لمواجهته، وكان يعتبر أن الكف عن المقاومة في انتظار أن يأتي الفرج من هنا أو من هناك، سواء إسرائيل بامتناعها عن جرائمها أو الولايات المتحدة الأمريكية بعدم مساعدتها لإسرائيل، أو حتى من الأمم المتحدة هو انتظار للأوهام، ولكن المقاومة بكل ما تعنيه وبكل شموليتها وبكل ما تتضمنه هي التعبير الصادق نحو الطريق المستقيم ونحو التعامل مع الواقع، والحقيقة الوحيدة في الحوار والتعاطي مع الاحتلال هي المقاومة الشاملة.
ويقسم المقاومة إلى مقاومة بشقيها العسكري القتالي، والتعبوي السياسي. وفي سياق ذلك يقدم تفسيره لصفتي الشمول والمدنية، فهو يعتبر أن الشمول يرجع إلى أن للمقاومة شقيها العسكري، والسياسي التعبوي هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن يشارك فيها جميع المواطنين المسلمين والمسيحيين، بمعنى أن تعني الشاملة الوطنية.
وكثيرًا ما وجّه ندائه للشعب اللبناني “إننا ندعو اللبنانيين جميعًا مسلمين ومسيحيين إلى أن يهبوا هبة رجل واحد في وجه إسرائيل …”.
فقد عرّف المقاومة المدنية بأنها اسم لخط سياسي مقاوم يتضمن هدفين:
أولاً: مقاومة إسرائيل بجميع أشكال المقاومة وذلك من خلال ثلاث أطر:
– المقاومة السياسية من خلال الموقف السياسي.
– المقاومة التعبوية من خلال الموقف الشعبي.
– المقاومة المسلحة من خلال الموقف القتالي.
ثانيًا: أما صفة المدنية فلا يعني أن المقاومة سلمية “ولكن لفظمدنية يعني أننا نبتعد بالمقاومة – سواء في المسألة الداخلية أو المسألة الإقليمية – عن منطق الميليشيات وعقليتها؛ ومن ثم نبين أن هذه المقاومة هي مقاومة المدنيين وغير قاصرة على العسكريين فقط”.
ويؤكد على أن خط المقاومة لا يمانع في استخدام الأساليب السياسية لتحقيق هدف التحرير الكامل بدون قيد أو شرط، وفي إطار ذلك يوضح أن هناك عدد من الثوابت لا يمكن تجاهلها:
1) أن العداء مع إسرائيل ليس عداءً سياسيًّا وإنما هو عداء مبدئي ووجودي.
2) أن مجرد الرضا بوجود إسرائيل – بنحو الرضا القلبي – معصية محرمة لأنه رضا بالظلم والاغتصاب.
3) أن الصلح مع إسرائيل محرم شرعًا.
4) أن إيجاد ترتيبات أمنية مع إسرائيل والتفاوض على ذلك والتعاقد عليه محرم شرعًا؛ لأنه يتضمن رضا بها واعترافًا بشرعيتها.
وقد دعا إلى حمل فكرة الحرب الشعبية في مواجهة العدو، كما اعتبر أن للمقاومة المسلحة أيديولوجية موحدة تقوم على دحر العدو.
وطالب بضرورة أن تُربَّى الأمة بعقيدة قتالية للجيوش والشعوب العربية.
وطالب بأن تكون العقيدة القتالية عقيدة هجومية على عكس ما هو سائد الآن حيث تربى الأمة على عقيدة دفاعية ورد فعل، كما طالب الأمة باعتماد صيغة الحرب الشعبية.
ويرى أن للمقاومة أبعاد تقوم عليها، منها:
البعد الأول: وهوموقف الممانعة السياسية والمقاومة السياسية، وشرطها الأساسي أن ترتكز على وحدة وطنية راسخة في الرؤية السياسية المبدئية لقضية الاحتلال. كما أن الوحدة الوطنية أساسية في استمرار هذا الموقف وفاعليته، وأن اندراج المقاومة في مشروع الوحدة الوطنية وبناء الدولة الواحدة هو الضمانة لإخراجها من احتمال وقوعها ضحية ميزان القوى المتحرك في المنطقة.
البعد الثاني للمقاومة هو الصمود الشعبي لجميع المواطنين والذي يجب الاستعداد له وتهيئة المواطنين للتعامل الصحيح بكافة أشكال المقاومة.
البعد الثالث: وهو العمل المسلح، وهو عنصر أساسي في اكتمال حركة المقاومة وفاعليتها.
ويؤكد على أن كل هذه الدعائم تسعى لجعل المقاومة وسيلة سياسية للضغط على العدو بإيذائه وإنزال الخسائر في صفوفه ومواقعه.
ويؤكد على أن وسائل وأساليب المقاومة متعددة، تبدأ من الاعتصامات وعدم التطبيع، والمقاطعة للمنتجات الإسرائيلية ولمن يتعامل مع إسرائيل، بالإضافة للسعي لخلق صوت إعلامي للمقاومة داخليًّا وخارجيًّا.
وفي إطار توضيحه للمقاومة وسبلها ووسائلها يعرض للنجاحات التي حققها الإسرائيليون، فهم قد نجحوا في تجزئة المشكلة وتفرقة الأمة، فبدلاً من أن تواجه إسرائيل الأمة العربية أو الأمة الإسلامية أصبحت تواجه دولاً ووفودًا عربية متعددة، وبدلاً من أن تطرح مشكلة واحدة أصبحت تطرح مشاكل جزئية خاصة بكل قطر عربي، واستغلت كل عوامل الضعف والخوف في كل قطر عربي لتعرض الصيغة المناسبة لها في المفاوضات.
ومن ثم، فهو يرى المقاومة هي مقاومة كل الشعوب لا فئة واحدة منه، وكل المناطق لا منطقة واحدة منها هي مقاومة الدولة والمجتمع والأهالي والأحزاب، وكل هؤلاء تحت سقف المشروع الوطني.
فالمقاومة ليست غاية في حد ذاتها وليست مشروعًا خاصًّا بحد ذاته، المقاومة هي أداة ضغط سياسية لها غاية تحريرية لاغير، ووظيفتها أن تخدم هدف التحرير الذي يقوم به المجتمع بجميع مؤسساته السياسية والأهلية ويعتبر أن هذه هي الرؤية الوطنية للمقاومة.
ويدعو الشيخ مهدي شمس الدين القوى الحية في المجتمعات العربية والإسلامية إلى بلورة مشروع مواجهة وممانعة في وجه المشروع الصهيوني الاستعماري الجديد، ويطالب بأن يبنى مشروع المواجهة على المهادنة بين القوى الحية في الأمة ومجتمعاتها بين قوى المعارضة وتلك الأنظمة؛ وهذا يقضي بضرورة تجنب المواجهات العنيفة بين قوى المعارضة وتلك الأنظمة بأن تكف الحكومات عن التعامل الأمني والقمعي مع القوى الشعبية، وأن تكف القوى الشعبية عن استخدام العنف للتعبير عن موقفها ورأيها في القضايا الوطنية والقومية.
ويطرح الشيخ مهدي شمس الدين رؤية كانت تناسب لبنان في ذلك الوقت وأرى أنها تناسب العراق بصورة ملحة وواضحة، حيث يطالب بالكف عن الاحتراب الداخلي والتناحر الطائفي لمواجهة مشاريع العدوان والتفتيت.
ويرى أن من شروط مجتمع المواجهة مقاومة محاولات فرض التطبيع والغزو الثقافي، ويكون ذلك بالإسهام في تكوين نظام قيم وقناعات صلبة لدى الناشئة والشبيبة؛ وذلك لمواجهة التزييف الأخلاقي في المجتمع المترف الاستهلاكي الخاضع لقيم الحضارة الغربية، ومحاولات إلغاء المناعة الأخلاقية، وتفكيك البنى الأسرية، والروابط الإنسانية بين الناس؛ ومن ثم يرى أن وقف الاحتراب الداخلي وبناء العمود الفكري والثقافي هما الشرطان اللازمان لنهوض مشروع حقيقي للمواجهة.
ويرى أن هناك ثوابت لهذا المشروع مثل:
– أنه لا توجد سلطة في العالم تستطيع أن تهود فلسطين أو الأرض العربية المحتلة وتنـزع عنها هويتها لتحولها إلى إسرائيلية وصهيونية.
– كما أن قضية القدس هي أكبر وأهم الثوابت في مشروع المواجهة الهادف للاحتفاظ بهويتها العربية السياسية والحضارية من دون أن يعني ذلك حرمان أحد من التواصل مع مقدساته فيها
– تطوير العلاقات العربية باتجاه إنشاء سوق عربية مشتركة تعبر عن التكامل الاقتصادي ومن ثم السياسي بين الدول العربية للحيلولة دون سيطرة المشروع الصهيوني على اقتصاديات الدول العربية.
– كما يرى أن للمقاومة ثوابت أيضًا تقف خلفها مثل الذخيرة الأخلاقية، وفضيلة الشجاعة في مواجهة العدوان، وفضيلة الثبات مقابل التخويف، وفضيلة التماسك والوحدة في مواجهة مشاريع التفكيك والتفتيت.
كما أن هناك مجموعة أخرى مثل التعاون والبر والتقوى في الشأن العام.
ويؤكد على أن نبدأ المقاومة ضد الاحتلال والعدوان الصهيوني من ضمن مشروع المجتمع في إعادة تكوين نفسه ودولته وليس ضمن مشاريع أخرى منفصلة.
– التضامن العربي هو إحدى الأجوبة الكبرى والتعابير الأخلاقية العظمى على المشروع الصهيوني الذي يريد أن يجتاحنا، ويجب أن نتعاون تعاونًا كاملاً على إنجاح وترسيخ النظام ومشروع الدولة العادلة.
نريد دولة تعي ذاتها ومسئولياتها وتمارسها بعدالة ووعي لا تسمح لأحد بتجاوزها، ولا تهمل مسئولياتها في رعاية وإدارة وتنمية شئون المواطنين، وفي نفس الوقت يجب أن تندمج كل فئات المجتمع في هذا المشروع.
ويصل في النهاية إلى أن المقاومة هي خيارنا، وهي تمثل هذا الشعب (الواقع تحت الاحتلال).
كما يؤكد على أن كفاءة المقاومة السياسية والعسكرية تتوقف على الوحدة الوطنية، وعلى التضامن بين الشعب والجيش والدولة في وجه الأخطار التي تهددنا في الحاضر والمستقبل.
خاتمة:
هكذا جاء كتاب العلامة محمد مهدي شمس الدين، والذي عبر من خلاله على امتداد زمني قارب من ربع القرن عن مسيرة الصراع العربي – الإسرائيلي في جانبه المقاوم على الصعيد اللبناني، والذي تطور في السنوات الست الأخيرة بدرجة كبيرة، فقد حدث انتصارين واجتياح إلا أن هذا الكتاب يقدم رؤية واضحة للعراق المحتل، ويقدم رؤية كانت تناسب لبنان ولا تزال بضرورة تغليب الوحدة الوطنية وعدم الاحتراب الداخلي؛ لأن العدو يسكن الجدار المجاور وينتظر للانقضاض، أيضًا حال العراق الآن وبقوة وبدرجة تطابق تقترب من أن تكون تامة، نجد أن حالته يستدعي علاجها هذا الكتاب الذي يطالب بوحدة الصف الوطني بين الفئات والطوائف المختلفة في الوطن، وكذلك بين المواطنين جميعًا والدولة من جانب آخر؛ حيث يطالب بألا تكون الدولة أقوى من المجتمع فيقع الاستبداد والطغيان، أو أن يكون المجتمع أقوى من الدولة فيؤدي إلى تهميشها وزيادة تفتتها وانهيارها.
كما أن استراتيجية المقاومة المدنية الشاملة التي ينادي بها الشيخ تقريبًا في كل صفحات كتابه القيم إنما تعد استراتيجية مثالية لوضع العراق الآن من أجل التغلب على الأوضاع الداخلية (الاحتراب الطائفي) والخارجية (العدوان الأمريكي).