مقدمة:
في العلاقة بين الدين والعلم، بصورة عامة، تمثل واحدة من أكثر الإشكاليات أصالة، وأقواها أثراً في تقدم الأمم وانحطاطها. وقد ظهرت هذه الإشكالية في ثقافتنا العربية الإسلامية بمسميات عدة ثنائيات متقابلة من قبيل: النقل والعقل، الإصالة والمعاصرة، الاتباع والإبداع، التراث والتجديد، وغيرها.ومن الطبيعي أن يتعدد مفهوم كل من الدين والعلم في هذه الصيغ يبعاً لمناهج المفكرين الذين تناولوه استناداً إلى مرجعيات فكرية متباينة في الشرق والغرب على حد سواء.
لهذا تباينت آراؤهم بدرجات متفاوتة حول طبيعة العلاقة التي تربط بين ادين والعلم، اتفاقاً وتآلفاً وإنسجاماً من ناحية، أو تعارضاً وخصومة وعداءً من ناحية اخرى، أو توفيقاً وتلفيقاً واحتواءً من ناحية ثالثة.
وقد أسهم الإمام محمد عبده، من خلال منهجه الإصلاحي ورسالته التنويرية، في تفنيد دعاوى الفصل بين الإسلام والعلم، ودافع – بحيدة وموضوعية- عن وحدة التفكير الإسلامي عن طريق التوفيق بين الحقائق افيمانية والعلمية لتلبية مكالب الحياة الحديثة، وسعى إلى التقريب بين ما ينبغي للمجتمع الإسلامي ان يكون عليه، وبين ما بات عليه في الواقع، متخذاً من ثنائية الإيمان والعلم اساساً لتفعيل الإصلاح واطراد التقدم. وفي يقينه أن العقائد غذا سلمت من البدع تبعتها سلامة الأعمال من الخلل والاضطراب، واستقامت أحوال الأفراد، واستضاءت بصائرهم بالعلوم الحقيقية، دينية ودنيوية، وتهذبت أخلاقهم بالملكات السليمة، وسرى الإصلاح منهم إلى الأمة”(1). وقد أقام الإمام منهجه في الإصلاح على الوسطية الإسلامية الجامعة، مخالفاً في الدعوة إليه ” رأى الفئتين العظميين اللتين يتركب منها جسم الأمة: طلاب علوم الدين ومن على شاكلتهم، وطلاب فنون هذا العصر ومن هو في ناصيتهم”(2). وكان يؤمن إيمان الدين المتين أن ” التقدم العصري” رهين بعلوم لنا أهملناها وهجرناها، وعلوم لغيرنا سبقونا إليها ولم نلحقهم في غير القليل منها، وهيمن لوازم حياتنا في هذه الأزمان، لابد لنا من اكتسابها، وبذل المجهود في طلابها، لأنها كافة عنا أيدي العدوان والهوان، وأساس لسعادتنا، ومعيار لثروتنا وقوتنا”(3) ، وأن تفوق الأمم على بعضها إنما يقاس بغلبة افكارها والمهارة في معارفها.
نبذه عن حياة الإمام محمد عبده وأهم آرائه:
ولد محمد عبده خير الله في بيت الماضي عمدة قرية “شنرا” مركز الجعفرية مديرية الغربية في عام 166هــ الموافق 1849م. وكان أبوه – رحمة الله – قد ولد في محلة نصر مركز شبراخيت محافة البحيرة في منطقة الدلتا، من أبوين مصريين: الأم مصرية من بني عدى والأب من أصول صقلية وقيل من أصل تركماني(4) . حفظ محمد عبده القرآن الكريم عند محفظ شنرا، ثم جوده في إحدى مقارىء القرآن الكريم بالجامع الأحمدي – جامع السيد البدوي – بطنطا . ولم يرق التعليم التقليدي للفتى الموهوب، فتركه بعد عام ونصف فقط من الدراسة، ولكن أحد أخوال أبيه ” الشيخ درويش خضر” أقنعة بالعودة لاستكمال عام آخر في طنطا قبل ان ينتقل إلى الجامع الأزهر بالقاهرة في سنة 1866 م لكنه لم يتجاوب مع المقررات الدراسية لصعوبة المتون العلمية عليه، فقرر أن يترك الدراسة ويتجه إلى الزراعة، لكن الأقدار سافت إليه الشيخ درويش الخضر مرة أخرى ليبسط له ما استعصى عليه من العلوم الأزهرية.
وفي عام 1872 قابل محمد عبده السيد جمال الدين الأفغاني (1839 – 1897) لأول مرة وانبهر به، وتتلمذ على يديه، ووجد عنده روحاً جديدة لم تكن ألوفة عند شيوخ الأزهر، كما وجد عنده منهجاً إصلاحياً واضحاً شجعه على أن يقبل على الحياة إقبال على دراسة العلوم المختلفة كالفلسفة والرياضيات والكلام والأخلاق والسياسة وغيرهامما لم يكن له مكان في مناهج الأزهر. وأخذ الأفغاني يبث تعاليمه الحرة التي لم يكن للناس عهد بها من قبل، وأخذ يقرأ لتلاميذه طائفة من الكتب العربية القديمة والكتب الاوروبية المعربة في الفلسفة والسياسة والاجتماع، فكان ذلك فتحاً جديداً في موضوعات التعليم . وفي عام 1877 م ظفر محمد عبده بشهادة العالمية الأزهرية، وأخذ يلقى في الأزهر وغيره دروساً في المنطق والكلام والأخلاق، وامتازت دروسه بمنهج جديد جمع حوله عدداً عظيماً من الطلاب. وفي سنة 1879 م عُين محمد عبده استاذاً للتاريخ في مدرسة دار العلوم وأستاذاً للأدب في مدرسة الألسن، وظل يشغل هاتين الوظيفتين غلى جانب مواصلته لدروسه بالأزهر(5).
وتعتبر رسالة التوحيد أهم مصنفات الإمام محمد عبده، وفيها دلل على وسطية الإسلام الجامعة، وعلى ان القرآن الكريم قد طرح قضايا الدين طرحاً عقلياً، مدعماً بالبراهين ومنفداً لآراء الخصوم. وفي ردوده على هانوتو أكد محمد عبده على ضرورة الفصل بين وضع المسلمين المتردى، والأثر الذي يمكن أن يستحدثه الإسلام في نعتنقيه وقال أن المسلمين الأوائل طبقوا الإسلام فكانت لهم النعة والعزة، فلما فارقوه من بعد انحطوا. وأكد محمد عبده على الوحدة العضوية في النرة الإسلامية إلى الكون، واعتبر هذه الوحدة دليلًا على تفوق الإسلام الذى لم يجعل شعاره إعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله لله، بل إخضاع قيصر لله ومحاسبته على كل ما يأتيه ن حسنات أو سيئات(6).
ويمكن تلخيص أهم الآراء الإصلاحية التي نادى بها الإمام محمد عبده في أربعة مراحل لعملية الإصلاح والانبعاث: ترتكز الأولى على ” تحرير العقل من قيود التقليد”، وتهدف الثانية إلى فهم سليم للدين، مع التشديد على فترة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين باعتبارها العصر الذهبي للعرب و المسلمين، حيث كان الإسلام على أصالته ولم يتعرض لشروحات وكتابات الفقهاء وعلماء الكلام، والمرحلة الثالثة تعتب أن السلطة النهائية فيما يتعلق بالعقيدة الدينية لا تكمن في المذاهب والشيع ورجال الدين ، بل في القرآن والسنة، والمرحلة الرابعة تركز على دراسة الحقائق الدينية على أسس عقلانية(7).
وقد كتب الإمام محمد عبده عن تميز مناهجه في الإصلاح بسمة الوسطية الإسلامية الجامعة، فقال:”هر الإسلام، لا روحياً مجرداً، ولا جسدياً جامداً، بل إنسانياً وسطاً بين ذلك، آخذاً من كلا القبيلتين بنصيب، فتوافر له من ملاءمة الفطرة البشرية ما لم يتوافر لغيره، ولذلك سمى نفسه ” دين الفطرة” ، وعرف له ذلك خصومه اليوم…”(8)، ثم قال: “جاء هذا الدين على الوجه الذي ذكرنا فهدى ضالاً، وألان قاسياً، وهذب خشناً، وعلم جاهلاً، ونبه خاملاً، واثار إلى العمل كسولاً، وأقدر عليه متواكلاً، وأصلح من الخلق فاسداً، وروج من الفضيلة كاسداً، ثم جمع متفرقاً، ورأب متصدعاً، وأصلح مختلاً، ومحا ظلماً، وأقام عدلاً، وجدد شرعاً، ومكن للأمم التي دخلت فيه نظاماً امتازت به عن سواها ممن لم يدخل فيه فكان الدين بذلك عند أهله كمالاً للشخص، والفة في البيت، ونظاماً للملك، وظهرت به آثار النعمة عليهم في جميع شؤونهم، ولم يفت العلم حظ من عنايته، بل كان قائده في جميع وجوه سيره، فإن شاء قائل أن يقول إن الدين لم يعلمهم التجارة ولا الصناعة، ولا تفصيل سياسة الملك، ولا طرق المعيشة البيت، لم يسعه أن يذكر أنه أوجب عليهم السعى إلى ما يقيمون حياتهم الشخصية والاجتماعية، وأوجب عليهم أن يحسنوا فيه، وأباح لهم الملك، وفرض عليهم أن يحسنوا الملكة…. هكذا كان الإسلام مهمازاً للمسلمين يحثهم إلى جلائل الأعمال، ومصاحباً لبصائرهم يسترشدون به استغراق الأحوال وتقويم الأفكار، وعاطفاً يعطف قلوبهم على الأمم بالعفو والمرحمة وحسن المعاملة، حتى رضيتهم الأرض سادة لها وقادة لسكانها، وكان من أمرهم وأمره ما هو معلوم” (9).
وكان الأمام محمد عبده قد انحاز إلى ثورة عرابي، فنفى من مصر وجاء إلى بيروت حيث عل في التدريس في الكلية الإسلامية التى أسسها الشيخ أحمد عباس الأزهري، ثم سافر إلى باريس للالتحاق بأستاذه جمال الدين الأفغاني حيث ساعده على تأسيس جمعية سرية أصدرت مجلة” العروة الوثقى”. ثم سافر الى لندن سنة 1884 .وبعد توقف “العروة الوثقى” عن الصدور ذهب إلى تونس ومنها إلى مصر متنكراً . ثم ما لبث أن عاد إلى بيروت حيث مكث ثلاث سنوات يعمل في التدريس في مدرسة انشأتها جمعية إسلامية خيرية حيث عمل على التقريب بين الأديان والدعوة إلى التفاهم، وكان يلقى المحاضرات، وكانت داره في بيروت، كما كانت في القاهرة، ملتقى للعلماء والادباء والمفكرين الشباب من مختلف الطوائف(10). وكان القس الإنجليزي إسحاق تايلور يرى أن شرح المسيحية كما يبسط الأستاذ الإمام يوشك أن يعينه على إقناع الأوربين بالتوحيد بين الديانتين على الجادة الوسطى التي يلتقى لديها المؤمن بالأناجيل والمؤمن بالقرآن(11).
وفي عام 1888م سمح الخديوي للإمام محمد عبده بالعودة إلى مصر، وفي سنة 1899 عين مفتياً لمصر مما مكنه من القيام ببعض الإصلاح في المحاكم الشرعية وإدارة الأوقاف ، كما ساعدت فتاويه في الشؤون العامة على تفسير الشريعة الإسلامية تفسيراً يتفق مع حاجات العصر. وفي عام 1905 توفى الإمام بالإسكندرية عن عمر بلغ ستة وخمسين عاماً، رحمة الله تعالى بقدر ما أعطى لدينه وأمته.
وكان من أبلغ ما قيل في رثائه قصيدة لشاعر النيل حافظ إبراهيم، مطلعها:
سلامُ على الإسلام بعد محمد
سلام على أيامه النضراتِ
وجاء فيها:
أبنت لنا التنزيل حكماً وحكمةً
وفرقت بين النور والظلمات
ووفقت بين الدين والعلم والحجا
فاطلعت نوراً من ثلاث جهاتِ
كما عبر يعقوب صروف عن شعور فضلاء المسيحيين يوم قال ساعة دفن الأستاذ الإمام لن حوله من تلاميذه: ” غنى اسمعكم تقولون فقيد الإسلام والمسلمين ولا تزيدون، إنه فقيد الفكر و العلم حيث كان… إنه فقيدنا أجمعين”(12).
واشتهر من تلاميذ الإمام محمد عبده السيد محمد رشيد رضا (1875-1935) الذي سار على درب أستاذه، فأصدر مجلة “المنار” التى أصبحت صوت الإمام وتلاميذه، وداعية المشروع الإصلاحى الأكثر تاثيراً في العالم الإسلامى. ولا تزال آراؤه الإصلاحية جاذبة لاهتمام المفكرين شرقاً وغرباً، مما يدل على علو مكانته وعمق أثره في حركة التنوير الإسلامى المعاصر، فقد كان صاحب رؤية تجديدية رشيدة تحقق التواصل مع قضايا عصره، وهي أيضاً قضايا عصرنا، بل إنها قضايا كل عصره.
حالة العلم وفلسفته في عصر الإمام محمد عبده:
كان للنتائج العلمية التي توصل إاليها أقطاب العلماء حتى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي في مجالات الرياضيات والفيزياء والكيمياء والكوزمولوجيا (علوم الأحياء) وعلم النفس وغيرها أكبر الأثر في بلور فلسفات علمية ذات نزعة مادية مناهضة للدين .
فالمادة – كما يصورها العلم آنذاك مكونة من ذرات دقيقة متحركة غير قابلة للانقسا إلى أجزاء اصغر منها، وطبيعة هذه الذرات وخواصها ثابتة غلى الأبد. وتقتصر التغيرات التي تطرأ على الأشياء المادية على مختلف عمليات انفصال هذه الذرات واتصالها أو أتحادها. والقوانين الطبيعية هى التى تنم حركة المادة في إطار الزمان و المكان المطلقين اللذين لا يتغيران ولا ينتهيان. ويصف اسحق نيوتن (1642- 1727) (*) الهدف المثالي لهذا النظام بأنه يمثل خطوه كبيرة في ميدان الفلسفة إستناداً إلى استنتاج المبادئ العامة للحركة من الظواهر الطبيعية، ثم إظهار كيفية انبثاق خوا جميع الأشياء المادية ونشاطها من هذه المبادئ، وليس للباحث العلمى من دور في هذا النظام يتجاوز دور المشاهد الحيادي.
ومن الجدير بالذكر ان نيوتن نفسه لم يكن من المؤمنين بالمذهب المادى، إذ لم يكن من المؤمنين بالمذهب المادى، إذ ل يكن يأمل أن يشرح عن طريق نظريته في الميكانيكا جميع الأشياء على إطلاقها، بل ” جميع الأشياء المادية فقط”، لكن نجاح نظريته في العديد من المجالات، ولا سيما في مجالى الفيزياء والكيمياء، بل هو الذى ولد في نفوس بعض الفلاسفة رغبة في تعميم النظام بحيث يشمل جميع حقول المعرفة، بما فيها علوم الحياء والنفس والتاريخ والأقتصاد. واعتقد العلماء والفلاسفة الطبيعيون على نحو يشبه الإجماع أن لا شيء في الوجود سوى المادة، وأن قضايا الكون جميعاً قابلة للتفسير بلغة المادة فحسب، وأن لا سبيل إلى العثور على حكمة وراء الأشياء الطبيعية. وتطلع هؤلاء العلماء والفلاسفة إلى تأكيد نظرتهم المادية بإظهار كيفية إنبثاق “العقل” من المادة، اعتقاداً منهم بأن العقل البشرى لا يستطيع أن يختار بحرية لأن المادة لا تتصرف إلا بضرورة ميكانيكية، ون ثم فإن آلية الدماغ والأعصاب هي المسؤولة عن الوحدة التي نحس بها في جميع أفعالنا وأفكارنا وأحاسيسنا وعواطفنا، وتصرفات الإنسان لا يمك تفسيرها إلا بلغة الغريزة والفسيولوجيا والكيمياء والفيزياء. وبشر سدنة هذه النزعة المادية بزعامة ” توماس هكسلى” ( 1825- 1895) (*) ، فيما يتعلق بانبثاق العقل من المادة، بأن البحث على النسق الفيزيائي أو الكيميائي يمكن أن يقدم صورة كاملة للعمليات النفسية والروحية والفكرية(13).
وبصورة عامة، كان لظهور الفلسفات العلمية في إطار المجتمع الليبرالي الغربي مواقف سلبية متفاوتة من العقيدة، وكانت اهمية هذه الفلسفات نابعة من سيطرتها بدرجة كبيرة على كافة أوجه الحياة والفكر في الدول الرأسمالية الغربية، وهي بالتالي تتبادل التأثير مع التوجيهات اليدلوجية وانماط السلوك والسياسات الداخلية والخارجية لتلك الدول. ورغم ذلك قد نصادف إيماناً دينياً عميقاً في المناطق الريفية في تلك الدول أو لدى بعض الأفراد والزعماء، لكن ذلك يظل استثناء لا يمكن القياس عليه.
ويكفى هنا – على سبيل المثال – أن نشير إلى إحدى هذه الفلسفات الأكثر انتشاراً وهي ” الفلسفة الوضعية” positivismالتي اسسها المفكر الفرنسي ” اوجست كونت” August Conte ( 1798- 1857) استناداً إلى فكرة أساسية هي ما يسمى ” بقانون الحالات الثلاثة” الذى أفترض فيه كونت ان البشرية مرت بمراحل ثلاث هي : الاهوتية والميتافيزيقية والوضعية: الولى هي نقطة الانطلاق الضرورية للفهم البشري، والثانية مجرد مرحلة انتقالية للحالة الثالثة التي يصبح الفهم البشرى عندها نهائياً وثابتاً. وقصد كونت بالمرحلة الثالثة، وهي ” الوضعية”، ذلك المنهج الذي يقدم تفسيراً علمياً لجميع الواهر الطبيعية والإنسانية مع استبعاد الفروض الخيالية والميتافيزيقية والإرادات العليا، واستبدالها بقوانين دقيقة ثابتة يت التوصل إليها عن طريق أسلوب الملاحظة الحية والوصف والقياس والتفسير وصياغة الفروض، أى ان العقل في هذه المرحلة الأخيرة يتخلى عن بحثه عن المفاهيم المطلقة وعن أصل الكون ومسيرة الظواهر وعللها، وينهمك بدلاً من ذلك في دراسة قوانين تلك الواهر بمعنى استقصاء علاقتها الثابتة في التعاقب والتماثل. ويدعى كونت ان هذه الحالة الاخيرة تمهد لوضع فلسفة علمية يمكن أن تتخذ اساساً للدين والأخلاق . ذلك انه كان يعتبر أن الوضعية هي خلاصة الحقائق التي تتوصل عليها العلوم، ومن ثم فإنه ظن إمكان اتخاذها كأساس لمذهب جديد يملأ الفراغ الروحى، واعتقد أن الانسجام الفكري التام لن يتحقق إلا بتطبيق المنهج الوضعي (وتسميه العلمى) فى جميع العلوم الطبيعية والاجتماعية. عندئذ يمكنه- من وجهة نظره- وضع فلسفة علمية تستبعد الفكر الاهوتي والميتافيزيقي. ويمكن إيجاز معنى ” الوضعية” عند أوجست كونت بأنها المذهب الذى يرى أن الفكر الإنساني لا يدرك سوى الظواهر الواقعية والمحسوسة وا بينهما من علاقات أو قوانين، وأن العلوم التجريبية هى المثل الأعلى لليقين، وعلى ذلك لا محل للبحث عن طبائع الاشياء ولا عن عللها الغائبة.
وعلى نفس المنوال تقريباً سار جون ستيوارت ميل (1806-1873) في انجلترا. وأرنست لاس (1837-1885) ويودل (1848- 1914) في ألمانيا. وقد رأى هؤلاء جميعاً أن الفلسفة ليست إلا تجميعاً لنتائج العلم بالمعنى الميكانيكي(14).
وواكب ذيوع هذه الفلسفات المادية آنذاك، وأيدها تأييداً عظيماً، وساعد على امتداد آثارها غرباً وشرقاً، ما قال به تشالز دارون (1809-1882) فيما يتعلق بتطور الأجناس الحية نتيجة عملية انتقاء طبيعى لصالح الأجناس الأكثر أهلية للبقاء، وذلك بعد انتشار أشهر أعماله ” في اصل الأنواع” الذي صدر في عام 1859م(15) .
واستقبلت الأوساط العلمية هذه النظرية الداروينية باهتمام بالغ، ودار حولها جدل عنيف، بين مؤيد ومعارض(16).
وظهر عقب ظهور كتاب ” أصل الأنواع” كتب ومقالات عديدة عن نظرية التطور وعلاقتهما بالدين، حيث كان الأهتمام بالعلم وفلسفته قد بدأ يطغى على كل ما عداه، وكان يظهر للناس وقتذاك أن الاتجاه التطورى والمادي والديناميكي سوف تكون له الغلبة في السيادة على الأفكار الفلسفية في الغرب. والسؤال الذي يفرض نفسه الآن هو : هل كان لهذه الإنجازات العلمية و الفلسفية صدى ما في العالم الإسلامي ؟. والجواب نعم. فلقد توجه العديد من المثقفين لتبني هذه الفكار الفلسفية ، وخاصة مذهب الفيلسوف الفرنسي “كونت” الذى كان يتوجه لهدم النظام اللاهوتى الذى يرد فيه العقل الإنساني الظواهر إلى علة أو علل مفارقة للأشياء.
وبالنسبة لنظرية التطور وفلسفة الداروينية ” فإن استقبالها جاء مبكراً في الملف التاريخي الموثق لمجلة المقتطف الدورية الشهرية التى أنشأها الدكتور يعقوب صروف والدكتور فارس نمر في بيروت عام 1876م، ثم انتقلت غلى القاهرة عام 1885م حيث دأبت على الظهور المنتظم حتى عام 1950م، ثم هر في عام 1879 كتاب عنوانه: ” تنوير الأذهان في علم حياه الحيوان والإنسان، وتفاوت الأمم في المدينة و العمران” للدكتور بشارة زلزل ( يقع الكتاب في 368 صفحة، طبع في الإسكندرية، وسجل في نظارة المعارف الجليلة في الآستانة العلية)، وقد أهدى المؤلف الكتاب إلى السلطان عبد الحميد، وحياه بستة أبيات، استهلها بالبيت الآتى:
مليكُ تسامى في الملوك بمجده
وأشرف في العلياء كوكبُ سعده
وهذا الكتاب متن مدرسى قدم له المؤلف بقوله: ” ولما كانت المدارس عماد الوطن فقد آثرتها بوضع هذا الكتاب على طريقة تسهل تدريسه فيها، مقتصراً على توضيح الأصول في موضوعات مباحثه المختلفة لتكون عوناً للتلميذ على التوسع في ما يؤمهمنها متى انفسح له مجال الطلب”.
وتجدر الإشارة إلى أن عام نشر هذا الكتاب في 1879 جاء بعد عشرين سنة فقط من نشر “أصل الأنواع” لداروين . وهذا رقم قياسى لوصول نظرية علمية جديدة غلى كتاب مدرسى.. ناهيك بنظرية ثار حولها جدل عنيف ، وقامت حولها شُبه دينية مرهوبة. وعلينا أن نذكر أيضاً أن عام 18تقدم ستاً وثلاثين سنة تاريخ 20 يوليو 1915 الذى عقدت فيه ” المحاكمة القردية” المشهورة في ديتون بتنيسى لمحاكمة جون توماس سكوبس، المدرس الشاب بالمدارس الثانوية، وذلك لاتهامه بتدريس التطور لتلاميذه(17).
وربما يكون من المفيد هنا أن نشير بإيجاز غلى آراء بعض المعاصرين للإمام محمد عبده في نظرية التطور وفلسفتها. فقد احتوى المجلد الأول لمجلة المقتطف ( سنة 1876) على ثلاث مقالات لجناب الفاضل المعلم رزق الله البربارى، عن اصل الإنسان ، يمدح فيها دارون، ولكنه يرفض مذهبه لأنه يعارض كل ما جاء في الكتب المنزلة من أعمال العناية الإلهية، ولأنه لا يمكن أن يقام برهان على صحته، ولو استقراءً وهو يقول أن دارون لا ينفى وجود الله، ولكن مذهبه يقضي بذلك. وظهر في المجلد الثاني(عا 1878) ثلاث مقالات أيضاً عن ” الإنسان” للدكتور بشارة افندي زلزل ( مؤلف الكتاب الذي اشرنا إليه)، كما ظهر تساؤل للدكتور شبلى شميل عن مسالة ” التولد الذاتي”، التى كان ن الواضح أنها تشغل بال المثقفين في ذلك الوقت ، كقضية فرعية من قضايا التطورن وذلك قبل ظهور كتابه ” فلسفة النشوء والارتقاء” في عام 1910م. وتصدر المجلد السابع لمجلة المقتطف ( عام 1882) مقل ضافٍ عن دارون قال فيه التحرير :”…ولا عتاب ولا ملامة إن أطنب العلماء في الثناء عليه، فإنه أهل لأطيب الثناء. نقول هذا ونحن على يقين أن قولنا هذا لا يرضى بعض القراء…” واستشهدوا بقول القس بارى، واعظ كنيسة وستمنستر: ” إن مبدأ الانتخاب ليس غريباً مخالفاً للديانة المسيحية على الغطلاق” وكذلك بكلام واعظ كنيسة القديس بولس، ثم استشهدوا بقول ماك كوش McCosh الفيلسوف اللاهوتى الامريكي:
“All this proves that evolution is a low of God as much as gravitation on chemical affinity or vital assimilation”.
وفي المجلد العاشر للمقتطف (عام 1885) كتب أمين شميل عن ” مذهب دارون عند الاقدمين”، فتحدث عن فكرة التطور عند ابن خلدون ، ثم قال:”… وعلى ذلك فما المعلم دارون وحزبه إلا مجددو آثار دَرَسَت، وقائلون بصحة قصص عبرت، والعالم يسير بقدرة مبدعة، تارة ينظر إلى تلك الاقوال كحقائق راهنة، كأراجيف وتحريف. وله وأخرى كأراجيف وتخريف. وله وحده سبحانه علم الحق وما كانوا عليه يختلفون. على أن ذلك كله لا يضر بالدين وما هم عليه الأنبياء والمرسلون…” . أما الدكتور بشارة زلزل فقد سبق هؤلاء وغيرهم، في بلدان العالم الإسلامي، إلى بيان فلسفته ووجهة نظره في عرض نظرية التطور في كتابه المدرسى الذى سبقت الإشارة إليه، فقال في ختام مقدمة الكتاب: ” … وحيث إن كثيراً من المسائل التى لابد من إيضاحها في سياق التأليف كانت، ولم تزلن موضوعاً للجدال والقيل والقال، كمسألة أصل التكوين والتولد الذاتى و تسلسل الإنسان من الحيوانات السافلة، لم أجد بداً من التصريح بادئ بدء بأن الشبهات التى ترد على العقائد الدينية من قبيل هذه المسائل وما ترمى إليه إنما هى، على ما أرى، أوهام نشات من تصوير الحقيقية بغير لونها، وحدسيات لم تمرع في وادى اليقين. والغلاة من الماديين يضيفون ذرعاً في التعليل عن أصل المادة وإمكانية وجوب وجودها لذاتها، والمتطرفون من الدهريين تفحمهم حجة القائلين بأن كل حىّ إنما يتولد من حىَ مثله. وأنصار دارون ما زالوا يهيمون في كل واد طلباً للحلقة الموهومة التى تربط بين الإنسان والقردة، وفي اعتقادى أن العلم إذا لم يقترن بالدين لا يٌنتفع منه في إصلاح الشبيبة وتهذيب الأخلاق ومحبة الفضيلة، وكبح جماح الأهواء الطبيعية والمطامع الشخصية. فلا يتوهمن الذين يشتمون رائحة الكفر من حرية البحث أن العلم من الدين في طرفى نقيض. ولكن عي النفوس الأمارة تقاد صاحبها إلى حيث تهوى، وتبقى الحقائق هى هى. وفوق كل ذى علم عليم”(18).
وكل من يطلع على الكتب والرسائل والمقالات التي تركها لنا الإمام محمد عبده، بالإضافة إلى سيرته الذاتية سوف يدرك تمام الإدراك أنه كان مستوعباً لثقافة عصره ومشاركاً في صنعها . ويظهر هذا واضحاً من مناظراته الفكرية وردوده على ” مسيو هانوتو” و”فرح أنطوان” و”رينان” و”سبنسر” وغيرهم. ورأى محمد عبده توجه العديد من المثقفين لتبنى آراء فيلسوف الوضعية الفرنسى ” أوجست كونت” التى كانت تتوجه لهدم ” النظام اللاهوتى” فواجه هذا الاقتحام التحديثي الأوروبي الذى انتشر في كل مكان: في المدارس العصرية، وفي الصحافة والفنون ووضع المرأة… الخ ، بحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى، واعتباره ضمن موازين العقل البشري التى وضعها الله لترد من شططه(19).
كذلك كان الإمام على دراية بالجدل الذي دار حول الفلسفة التطورية من خلال ترجمته لكتاب ” الرد على الدهريين” الذى ألفه أستاذه جمال الدين الافغاني حول عام 1890 ونشر في القاهرة عام 1925. وفي هذا الكتاب يقول الأفغاني :” وعلى زعم داروين هذا يمكن أن يصير البرغوث فيلاً بمرور القرون وكرّ الدهور، وأن ينقلب الفيل برغوثاً كذلك”. وذكر “منكوف” في كتابه عن التطور أن الأفغاني ” شجب الاستعمار البريطاني والفلسفة المادية وانحدار الإنسان من القردة ، شجبها جميعاً في نفس واحد “(20).
لكن الإمام محمد عبده يعبر عن رأيه في الفكر التطورى ويؤصل له من خلال شهادة لأحد الحكماء الغربييين- على حد تعبير الإمام- يقول فيها: ” تأخذنا الدهشة أحياناً عندما ننظر في كتب العرب فنجد آراء كنا نعتقد أنها لم تولد إلا في زماننا، كالرأى الجديد وتدرجها في كمال أنواعها، فإن هذا الرأى كان مما يعلمه العرب في مدارسهم، وكانوا يذهبون به إلى ابعد مما ذهبنا، فكان عندهم عاماً يشمل الكائنات غير العضوية والمعادن . والأصل الذى بنيت عليه الكيمياء عندهم هو ترقى المعادن في أشكالها . قال الخازنى: غذا سمع الشعب الجاهل ما يقال بين العلماء: إن الذهب قد تقلب في الأشكال المختلفة حتى صار ذهباً ظن من هذا أنه مرّ في صور معادن اخرى، فكان رصاصاً ثم قصديراً ثم صفراً ثم فضة، ثم صار بعد ذلك ذهباًن ولا يعلم أن الفلاسفة غذا قالوا ذلك فإنما يقصدون منه ما أرادوه من قولهم في الإنسان أنه وصل إل حالته الحاضرة بالتدرج، ومن طريق الترقى ، وهم لم يعنوا بقولهم هذا أنه تقلب في صور الأنواع المختلفة كأن كان ثوراً ثم حماراً ثم فرساً ثم قرداً ثم صار بعد ذلك إنساناً”(21) .
ولقد اتخذ الإمام محمد عبده من مفهوم “التطور” أسلوباً وآلية لمذهبه في الإصلاح التدريجي . ومن أقواله في هذا الصدد :
– ” إن السنة الإلهية في الترقى أن يبدأ الشيء صغيراً ثم يرتقى بالتدريج”(22).
– ” جاءت أديان والناس من فهم مصالحهم العامة، بل و الخاصة، في طور أشبه بطور الطفولة الناشىء حديث العهد بالوجود لا يألف منه إلا ما وقع تحت حسه.. فلم يكن من حكمه تلك الأديان أن تخاطب الناس بما يلطف في الوجدان أو الترقى إليه سلم البرهان، بل كان من عظيم الرحمة أن تسير بالأقوام وهم عيال الله… فأخذتهم بالأوامر الصادعة والزواجر الرادعة.. ثم مضت على ذلك أزمان .. فجاء دين يخاطب العواطف ويناجى المراحم ويستعطف الأهواء.. فشرع للناس من شرائع الزهاد ما يصرفهم عن الدنيا بجملتها ويوجه وجوههم نحو الملكوت الأعلى.. كانت سنن الاجتماع البشرى قد بلغت بالإنسان أشده، وأعادته الحوادث الماضية إلى رشده، فجاء الإسلام يخاطب العقل ويستصرخ الفهم واللب ويشركه مع العواطف والإحساس في إرشاد الإنسان إلى سعادته الدنيوية والأخروية”(23).
– ” إن الأمم في احوالها العمومية كالشخاص في أحوالها الخصوصية، وكما أنه لا يمكن لطفل ان يتعلم الأفكار العالية إلا بعد ان يتعلم القراءة ويتدرج في التعليم، وقياساً على هذا فمن الخطأ ، بل من الجهالة، أن تكلف المة بالسير على ما لا تعرف له حقيقة، او تطلب منها ما هو بعيد ن مداركها الكلية.. إنما الحكمة ان تحفظه لها عوائدها الكلية ثم تطلب بعض تحسينات فيها.. فإذا اعتادوا طلب منهم ما هو أرقى بالتدريج حتى لا يمضى زمن طويل إلا وقد انخلعوا عن عاداتهم وافكارهم المنحطة إلى ما هو أرقى وأعلى”(24).
– ” يظن بعض المطلعين على علم السنن في الاجتماع البشرى أن تنازع البقاء الذى يقولون انه سنة عامة هو من أثره الماديين في هذا العصر.. وأنه مخالف لهدى الدين، ولو عرف من يقولون هذا معنى الإنسان، أو لو عرفوا أنفسهم ، لما قالوا ما قالوا”(25).
– الإصلاح بواسطة التربية و التعليم : ” أعظم وسيلة لبحث التطور والإسراع به هو التربية والتعليم : ” اعظم وسيلة لبحث التطور والإسراع به هو التربية و التعليم: التربية الدينية الأخلاقية والتعليم الذى يهدف غلى الإلمام بما حققته العلوم الحديثة” ، أى المحافظة على الهوية من جانب والانفتاح على الغرب المتقدم من جانب ىخر مما يحاف على سلامة المجتمع من جهة ويحقق تقدمه من أخرى”(26).
ومن الجدير بالذكر ان التطور العلمى نفسه تولى دحض الدعاوى التي قامت عليها الفلسفة الوضعية والحتمية المادية بعد أن علق أنصارها من علماء القرن التاسع عشر آمالهم عليها في اتمال بناء هذه النظرية خلال القرن العشرين على أساس افتراض وجود المادة كحقيقة وحيده . فجاء القرن العشرون بما يخيب الآمال عندما ظهرت بشائر نظام جديد على أيدى “بلانك” و” أينشتين” و” هيزنبرج” وغيرهم، حيث أطاحت نظرية النسبية بفكرة الزمان والمكان المطلقين، واستعادت ميكانيكا الكم Quantum Mechanics دور الباحث المراقب ليصبح “مشاركاً” بعقله وخبرته . كذلك جاء القرن العشرون بكشوف علمية رائعة تؤكد أن العقل والغرادة ملكتان غير ماديتين، وأن العقل، لا آلية الدماغ والأعصاب، هو المسؤول عن الوحدة التي نحس بها في جميع أفعالنا وأفكارنا وأحاسيسنا وعواطفنا، ويؤكد هذه النظره الجديدة للخواص الذهنية والعقلية ما توصل إليه علماء فسيولوجية وجراحة الأعصاب المعاصرون من أن البحث لى النسق3 الفيزيائىأو الكيميائي لا يمكن أبداً أن يقدم صورة كاملة للعمليات النفسية والروحية والفكرية، وأن ما بشر به سدنة النظام القديم بزعامة ” توماس هكسلي” فيما يتعلق بانبثاق العقل من الادة لم يعد أمراً وارداً في المستقبل(27).
نصيب العلم وفلسفته من النسق الفكري للإمام :
(أ) ثنائية الإيمان والعلم أساسً لتفعل الإصلاح والتقدم:
إن العلاقة بين الدين والعلم في الفكر الإصلاحى للإمام محمد عبده هي علاقة توافق وانسجام لا علاقة تعارض وانفصام. وقد عبر عن ذلك بقوله: ” ….ارتفع صوتى بالدعوة إلى أمرين عظيمين: الأول تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى، واعتباره ضمن موازين العقل البشرى التى وضعها الله تعالى – لترد ن شططهن وتقلل من خلطه وخبطه…وانه- أى الدين- على هذا الوجه يعد صديقاً للعلم، باعثاً على البحث فى أسرار الكونن داعياً غلى أحترام الحقائق الثابتة، مطالباً بالتعويل عليها في أدب النفس وإصلاح العمل….
والأمر الثانى: إصلاح أساليب اللغة العربية في التحرير سواء كان في المخاطبات الرسمية أو المراسلات بين الناس….”(28).
ولهذا نجد الإمام قد اهتم اهتماماً كبيراً بنشر العلم لأنه أفضل وسيلة للنهوض والرقى على مستوى الفراد والجماعات والأمم، وحض على ذلك في ثنايا تفسيره لأول ما نزل من القرآن الكريم في قوله تعالى: }علم الإنسان ما لم يعلم{(العلق 1-5) فقال، مستحثاً الهمم ومستنهضاً العزائم: “إنه لا يوجد بيان أبرع، ولا دليل أقطع على فضل القراءة والكتابة والعلم بجميع أنواعه، من افتتاح الله تعالى كتابه وابتدائه الوحى بهذه الآيات الباهرات. فإن لم يهتد المسلمون بهذا الهدى، ولم يرشدهم النظر فيه إلى النهوض، وإلى تمزيق تلك الحجب التى حجبت عن أبصارهم نور العلم، وكسر تلك الأبواب التى غلقها عليهم رؤساؤهم وحبسوهم بها في ظلمات من الجهل، وإن لم يسترشدوا بفاتحة هذا التاب المبين، ولم يستضيئوا بهذا الضياء الساطع، فلا أرشدهم الله أبداً…..”(29).
والعلاقة التكاملية بين الدين الصحيح والعلم الصحيح تعنى عند الإمام أن ” العقل يجب أن يحكم كما يحكم الدين، فالدين عرف بالعقل، ولابد من اجتهاد يعتمد على الدين و العقل معاً حتى نستطيع أن نواجه المسائل الجديدة في المدينة الجديدة، ونقتبس منها ما يفيدنا، لأن المسلمين لا يستطيعون أن يعيشوا في عزلة ولابد أن يتسلحوا بما تسلح به غيرهم. وأكبر سلاح في الدنيا هو العلم، وأكبر عمدة في الأخلاق هو الدين. ومن حسن حظ المسلمين أن دينهم يشرح صدورهم للعلم ويحض عليه، وللعقل ويدعو إليه، وللأخلاق الفاضلة التى تدعو إليها المدنية الحاضرة”(30). وقد انبثق هذا الاتجاه العقلى الإيماني عند الإمام من حقيقة تآخى العلم والدين لأول مرة في كتاب مقدس- هو القرآن الكريم-، على لسان نبى مرسل- هو محمد عليه الصلاة والسلام-، بتصريح لا يقبل التأويل . وتقرر بين المسلمين كافة- إلا من لا ثقة بعقله ولا بدينه- أن من قضايا الدين ما لا يمكن للعقل الاعتقاد به من طريق العقل. كالعلم بوجود الله، وبقدرته على إرسال الرسل وعلمه بما يوحى به إليهم”(31).
نجد هذا واضحاً غاية الوضوح في العديد من مؤلفات الإمام التي دافع فيها عن العقل باعتباره أشرف ما في الإنسان وفي تأويله للنصوص الدينية تأويلاً معبراً عن الاجتهاد وسعه الإطلاع والرغب في اكتشاف الحقيقة. فهو يقول مثلاً في تفسيره لسورة العصر أن ” الحق هو ما تقرر من حقيقة ثابتة أو شريعة صحيحة، وهو ما ارشد إليه دليل قاطع أو عيان أو مشاهدة. فشرط النجاة من الخسران أن يعرف الناس الحق ويلزموه أنفسهم، ويكنوه من قلوبهم، ثم يحمل الناس بعضهم بعضاً عليه بأن يدعو كل صاحبه إلى الأعتقاد بالحقائق الثابتة التى لا ينازع فيها العقل ولا يختلف فيها النقل ، وأن يبعدوا بأنفسهم وبغيرهم عن الأوهام والخيالات التى لا قرار للنفوس عليها ولا دليل يهدى إليها، ولا يكون ذلك إلا بإعمال الفكر وإجادة النظر في الأكوان حتى تستطيع النفس دفع ما يرد عليها من باطل الأوهام. وهذا إطلاق للعقل من كل قيد، مع اشتراط التدقيق في النظر لا الذهاب مع الطيبة والانخداع للعادة والوهم…”.
ويرى الإمام ان سورة العصر قد شملت بحكمها جميع افراد المكلفين : سواء بَلَغَتهم دعوة نبى أم لم تبلغهم دعوة، كما أنها لم تدع شيئاً إلا أحرزته في عبارتها الموجزة، حتى قال الشافعى رحمة الله: لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهمن أو قال : لو لم ينزل من القرآن سواها لكلفت الناس(32).
ولقد انطلق الإمام محمد عبده في رؤيته الإصلاحية على أساس العلم والإيمان من التأكد على مبدأ التوحيد الذى يشكل جوهر الأعتقاد الإسلامى، باعتباره أول الثوابت الإيمانية في النسق الفكرى الإسلامى، طالبا الحق سبحانه وتعالى به أول ما نزل من آيات القرآن الكريم ليوجه رؤية الإنسان الصائبة لحقائق الحياة والفكر والوجود، ويساعده على فقه كلمات الله القرىنية في كتابه المسطور،
وكلماته الكونية في كتابه المنظور. واتخذ الإمام من هذا المبدأ الإيماني سلاحاً أكثر مضاء، وحجة أبلغ إقناعاً ، لمواجهة الأفكار المادية الجديدة بصورة عامة، للرد على دعاة الفصل التام بين العلم والدين وتقويض دور الدين في المجتمع، ولمحاربة التقليد الأعمى لكل فكر موروث أو وافد. ولقد ساعدته ثقافته المتعمقة على صياغة “رسالة التوحيد” وتأسيس مشروعه الإصلاحي، بحشد واسع للأدلة المستمدة من حقائق الدين والعلم على حد سواء لتفعيل “الاجتهاد” على كل مستوى ممكن من الشريعة باعتباره الطريق الوحيد للتجديد وإعادة البناء الذاتي لنهضة حضاية متوازنة، مثلما كان دوره في عصور الإزدهار الأولى للأمة الإسلامية.
وثنائية العلم والإيمان ليست في حقيقتها سوى جوهر نظرية المعرفة الإسلامية القائمة على التأليف بين ما أسماه الإمام محمد عبده “الهدايات الأربع”: العاقل والنقل والتجربة والوجدان… التي تزاملت وتكاملت في تحصيل المعرفة الإسلامية – الشرعية والمدنية- فأثمرت الحضارة الإسلامية المتوازنة (33) . ولقد أفاض الإمام محمد عبده في الحديث عن هذه النظرية – نظرية الهدايات الأربع- الممثلة للوسطية الإسلامية الجامعة في نظرية المعرفة، وذلك عندما وقف في تفسير لسورة الفاتحة أمام قوله تعالى: }اهدنا الصراط المستقيم{(سورة الفاتحة: 6).
من ناحية أخرى يؤكد الإمام في ثنايا مؤلفاته على ما يمكن أن نسميه “إسلامية” العلم والمنهج العلمي، باعتبارها من المقومات الفكرية والعملية في آن معاً لأي مشروع إصلاحي في المجتمع الإسلامي. فهو يقول – على سبيل المثال- في رسالة التوحيد:
“ومن أدلة ثبوت العلم للواجب ما نشاهده في نظام الممكنات من الأحكام والإتقان ووضع كل شئ في موضعه، وقرن كل ممكن بما يحتاج إليه في وجوده وبقائه، وذلك ظاهر لجليّ النظر بما يشاهد في الأعيان، كبيرها وصغيرها، علويها وسفليّها، فهذه الروابط بين الكواكب، والنسب الثابتة بينها، وتقدير حركاتها على قاعدة تكفل لها البقاء على الوضع الذي قدّر لها، وإلزام كل كوكب بمدار لو خرج منه لاختل نظام عالمه أو العالم بأسره، وغير ذلك مما فضَّل في علوم الهيئة الفلكية، كل ذلك يشهد بعلم صانعه وحكمة مدّبرهز
اعتبر بما تراه في جزئيات النباتات والحيوانات: من توفيتها قواها، وإتيانها ما تحتاج إليه في تقويم وجودها من الآلات والأعضاء، ووضع ذلك في مواضعه من أبدانها، وإيداع غير الحساس منها كالنبات قوة الميل إلى تناول ما يناسبه من الغذاء دون مالا يلائمه، فترى بذرة الحنظل تدفن بجوار حبة البطيخ في أرض واحدة، ولكن تلك تمتص من المواد ما يغذي المرّ الزعاق، وهذه تتناول ما يغدو حلو المذاق، وإرشاد الحساس منها إلى استعمال ما منح من تلك الأدوات والأعضاء، وسوق كل قوة من قواه إلى ما قدرت له، فهو الذي يعلم حالة الجنين وهو نطفة أو علقة، ويعلم حاجته متى تكامل خلقه، وأنشأه نشأة الحي المستقل في عمله، إلى الأيدي والأرجل والأعين والمشام والآذان وبقية المشاعر الباطنة ليستعمل ذلك فيما يقيم وجوده ويقيه من العوادي، وحاجته إلى المعدة والقلب والكبد والرئة ونحوها من الأعضاء التي لا غنى عنها في النمو والبقاء إلى الأجل المحدود للشخص أو للنوع، وهو الذي يعلم حالة الجروة من الكلاب، مثلا، وأنها متى كبرت تلد الجراء متعددة فيمنحها أطباء حلمات رضع في الثدي متكثرة، وغير ذلك مما لا يستطاع إحصاؤه، وقد فصل الكثير منه في كتب النباتات وحياة الحيوان وما يسمى التاريخ الطبيعي وفنون منافع الأعضاء والطب وما يتبعه. على أن الباحثين في كل ذلك بعد ما بذلوا من الجهد وما صرفوا من الهمم وما كشفوا من الأسرار لم يزالوا في أول البحث.
هذا الصنيع الذي إنما تتفاضل العقول في فهم أسراره، والوقوف على دقائق حكمه، أل يدل على أن مصدره هو العالم بكل شئ، الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى؟ هل يمكن لمجرد الاتفاق المسمى “بالصدفة” أن يكون ينبوعاً لهذا النظام، وواضعاً لتلك القواعد التي يقوم عليها وجود الأكوان، عظيمها وحقيرها؟ كلا بل مبدع ذلك كله هو من لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم”(34) .
أن التحليل الأمين لهذ النص المقتبس من “رسالة التوحيد” للإمام محمد عبده يوجهنا إلى ضرورة تصحيح ما أصاب نظرية المعرفة المادية من عوار وعور على أيدي الفلسفات الوضعية والتطورية الحديثة، ويوجه النظر إلى أن الحركة الدائبة والتحول المستمر هو الناموس الثابت المطرد لهذا الوجود الحادث الفاني، وهو بصفة خاصة قانون الحياة وقاعدتها، بكل تقلباتها وأطوارها. ونسبة هذا الناموس إلى مشيئة الله وقدره تساعد على الخروج من كل التناقضات التي تعانيها الفلسفات الوضعية الميكانيكية والتي لم تجد لها حلاً شاملاً. ذلك لأن الإيمان الخالص والسمو الروحي يأتيان في مقدمة الخصائص التي يتميز بها التصور الإسلامي للمعرفة، وإليهما تعزى كل القوى الدافعة لملكات الباحث العلمي على طريق الإبداع والابتكار. فالإيمان الخالص هو الذي يجعل العقل أقدر على كشف الحقائق، وأكثر تهيؤاً لاستقبالها وقبولها، والإيمان الخالص للخالق الواحد هو الذي يحفظ كرامة الإنسان ويحرره من سلطان العقائد الوثنية أو المذاهب الوضعية. فالله سبحانه وتعالى هو الحق المطلق، وهو مصدر كل الحقائق المعرفية التي أمرنا بالبحث عنها واستقرائها في وحدة النظام بين الظواهر الطبيعية والإنسانية، باعتبارها مصدراً للثقة واليقين، وليست ظلالاً أو أشباحاً أو مصدراً للمعرفة الظنية كما نظرت إليها الثقافة اليونانية قديماً.
ومن كانت عقيدته الدينية هي “التوحيد الخالص” فإنه يجد في نفسه دافعاً أقوى مما يجد سواه نحو أن يبحث دائماً عن الوحدة التي تؤلف بين الكثرة أياً كان الموضوع، فيبحث عن محور الوحدانية في الشخصية الإنسانية برغم اختلاف الجوانب الكثيرة في حياة الفرد الواحد، واختلاف العلوم الباحثة في تلك الجوانب، وكذلك يبحث عن محور الوحدانية في الكون بأجمعه مجتمعاً في وجود واحد، وما ذلك إلا لأن العلم بالنسبة للباحث المؤمن يكون دنيوياً بعلاقاته مع الأشياء، وتعبدياً في الوقت نفسه لصلته بالله الواحد جل وعلا.
إن تأكيد كل هذه المعاني في فكر الباحث العلمي ووجدانه يعتبر من أهم مقومات الشخصية العلمية التي يبدع العلماء على أساسها في اطمئنان وهدوء ونقاء. وهنا يتحقق الانسجام الكامل بين الفكر والعمل، بعيداً عن غيوم المذاهب الفلسفية الرديئة التي تشوه الوجه الناصع لكل حقيقة(35) . وإذا كان ماحدث في الغرب من إنزواء لعلوم الدين في أركان الكنيسة والعلماء، فإن من الخطأ أن يسود الاعتقاد بأن الانفصال بين العلم والدين شرط من شروط قيام الحضارة وأن العلم بفروعه المختلفة لا يمكن إلا أن يكون “علمانيًّا”. لقد أدى هذا الاعتقاد الخاطئ في بلاد المسلمين إلى حالة من الركود العلمي شلت في ظلها كل مقومات الإبداع والابتكار في مختلف مجالات النشاط الإنساني(36) ، ولم يعد أمامنا الآن سوى الأخذ بالمنهج العلمي الإسلامي الذي سبق لأسلافنا أن صنعوا به حضارة تزهو على كل الحضارات، فهو الأقدر على إذكاء روح النهضة الحضارية للأمة، وعندئذ سيكون له أجل الأثر في تصحيح وجهة العلوم وتقنياتها لدى عقلاء الغرب ومفكريه إذا ما درسوا الإسلام في حقائقه، واستفادوا من منهجه في إصلاح شؤون حياتهم(37) .
ولقد ذهب الإمام محمد عبده في دراسته لأصول الإسلام إلى القول بأن النظر والتفكير بعد أن أطلق العنان للعقل البشرى دون تقييد لحريته التى سنتها له الفطرة، ويقول : ” إنني لو أردت سرد الآيات القرآنية التى تدعو إلى النظر في آيات الكون لأتيت بأكثر من ثلث القرآن، بل نصفه”. وقد وجد تأييد ذلك في التفوق العلمى الذى أحرزه المسلمون(38) . وفى رساله التوحيد ” يوضح الإمام نصرة الإسلام ” للعقل” كى يهزم ” التقاليد” الذى قتل روح المبادرة والمخاطرة والأبداع في الأمة. فالإسلام قد حمل على التقليد حملةبددت فيالقه التغلبة على النفوس، واقتلعت أصوله الراسخة في المدارك، ونسفت ما كان له من دعائم وأركان في عقائد الأمم …صاح بالعقل صيحة أزعجته من سباته وهبت به نومه طال عليه الغيب فيها.. لقد علا صوت الإسلام وجهر بأن الإنسان لم يخلق ليقاد بالزمام، ولكنه فطر على أن يهتدى بالعلم والأعلام، أعلام الكون ودلائل الحواس، ولذا أطلق الإسلام سلطان العقل من كل ما قيده، وخلصه من كل تقليد كان استبعده، ورده إلى مملكته يقى فيها بحكمه وحكمته، مع الخضوع لله وحده”(39) .
والعلم في رأى الأستاذ الإمام سبب من أسباب الثروة والقوة، وسبب من أسباب المعرفة الذهنية التي تبصّر العقل بأدوات النجاح في أعمال المعيشة، وهو ما يحتاج إليه عالمنا الإسلامي، ولكن التربية الأخلاقية شئ آخر غير المعرفة الذهنية، ولا سيما المعرفة التي تتأدى الأمر إلى الإيمان بالمادة دون غيرها، وهو ما يسمونه بالفلسفة المادية في حضارة الغرب فأشفق من عواقبها على بني الإنسان وزادته اعتقاداً بضرورة الدين لصلاح النفوس البشرية وهداية الأمم في حياتها الاجتماعية. وأكدت له هذه الضرورة مناقشته للفيلسوف الأنجليزي هربرت سبنسر(سنة 1903) إذ قال له الفيلسوف الإنجليزي: إن الإنجليز يرجعون القهقري فهم الآن دون ما كانوا عليه منذ عشرين سنة. فسأله الأستاذ الإمام: وفيهم هذا القهقري؟ قال سبنسر: إنهم “يرجعون القهقري في الأخلاق والفضيلة، وسببه تقدم الأفكار المادية التي أفسدت أخلاق اللاتين من قبلنا، ثم سرت إلينا عدواها، فهي تفسد أخلاق قومنا وهكذا سائر شعوب أوربة”، ثم قال: “إنه لا أمل له في صد هذا التيار لأنه بد من أن يأخذ مدّه إلى غاية حدّه في أوربة. إن الحق عند أهل أوربة الآن للقوة”. وفارق الأستاذ الإمام دار الفيلسوف وهو يدير في خاطره عبارة “الحق للقوة” ويصف أثرها في نفسه ويحس أنها ما كانت لتحدث لديه هذا الأثر لو جاءت من ثرثار يهرف بما لا يعرف، ثم بدون هذه الخاطرة في مذكراته: “هؤلاء الفلاسفة والعلماء الذين اكتشفوا كثيراً مما يفيد في راحة الإنسان.. أعجزهم أن يكتشفوا طبيعة الإنسان ويعرضوها عليه حتى يعرفها ويعود إليها هؤلاء الذين صقلوا المعادن حتى كانت من الحديد اللامع المضئ، أفلا يتيسر لهم أن يجلوا ذلك الصدأ الذي غشى الفطرة الإنسانية ويصقلوا تلك النفوس حتى يعود لها لمعانها الروحاني؟. حار الفيلسوف في أوربة وأظهر عجزه مع قوة العلم فأين الدواء؟.. الرجوع إلى الدين. الدين هو الذي كشف الطبيعة الإنسانية وعرفها إلى أربابها في كل زمان، لكنهم يعودون فيجهلونها”(40). ثم يمضي الإمام في ربط هذه الرؤية بمنهجه الإصلاحي على أساس العلم والإيمان، فيقول: “فعلينا أن ننظر إلى أحوال جيراننا من الملل والدول وما الذي نقلهم عن حالهم الأول وأدى بهم إلى أن صاروا أغنياء أقوياء. فإذا حققنا السبب وجب أن نسارع إليه.. وها نحن بعد النظر لا نجد سبباً لترقيهم في الثروة والقوة إلا ارتقاء المعارف والعلوم، فإذن أول واجب علينا هو السعي بكل جد واجتهاد في نشر هذه العلوم في أوطاننا”(41).
أما التربية الأخلاقية وهي العامل الثاني لتحقيق الإصلاح، فهي مرتبطة بالعامل الأول، ولكنها يجب أن تكون إسلامية في جوهرها ومضامينها مع الإفادة من النظم الحديثة: إذا كان الدين كافلاً بتهذيب الأخلاق وصلاد الأعمال فلم العدول عنه إلى غيره”(42).
(ب)التأصيل الوضوعي للعلم ومؤسساه في الحضارة الإسلامية:
تاريخ العلم والتقنية جزء من التاريخ الإنساني العام الذي أسهمت في صنعه –بدرجات متفاوتة- جميع الأمم على مر العصور – إنه تاريخ الفكر الذي منحه الله تعالى للإنسان لكي يرتقي بعقله ويدرك أهمية المعرفة في صنع التقدم وفهم حقائق الأشياء.
ومن يستقرئ هذا التاريخ بحيدة وموضوعية، بعيداً عن مختلف ضروب الهوى والتحيز، يجد أنه وثيق ارتباط، الإنسان عبر آلاف السنين، ليصبح في النهاية تراثاً مشتركاً للإنسانية كلها، كما يجد فلسفة العلم والتقنية معنية في جانب كبير منها بتتبع نمو المفاهيم والأفكار العلمية والتقنية، ومهتمة بما قدمه العلماء والتقنيون من نظريات أو حلول لمختلف القضايا التي واجهتهم، وفق منهج تحليلي مقارن يهدف إلى وضع الحقائق في نصابها المقبول عقلاً والممكن تاريخياً ونطقياً(43).
من هنا فإن الأمانة في التأريخ لأي علم من العلوم تققتضي أن نتتبع مراحل تطوره منذ نشأته لكي نقف على كيفية نموه وتدرجه، ونتعرف على ما قام به علماؤه من اكتشافات أحدثت هذا النمو والتدرج، فذلك أدعى إلى حسن تصور الأفكار، فضلاً عن أنه الأسلوب الواجب لإيضاح التسلسل الطبيعي للخطوات التي أدت إلى الكشف عن الحقائق العلمية والإنجازات التقنية منسوبة إلى أصحابها الشرعيين(44).
ولقد قامت الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى، من الناحية المادية، على ما وصل إليها من إنجازات الحضارات القديمة، واعتمدت على الثروات الطبيعية التي امتلأت بها رقعتها الممتدة من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب، في موقع من الأرض يتوسط حضارات الهند والصين والفرس وروما واليونان ومصر. لكن هذه الموارد الطبيعية والثقافية الكثيرة لم تكن لتقيم حضارة زاهرة في ذلك الزمان، تحقق انتشاراً ودواما متلازمين لم تحققهما أي حضارة أخرى، لولا العمل بتعاليم الإسلام الحنيف التي أمتدت لتشمل شعوباً كثيرة دخلت الإسلام واعتنقته، كما شملت طوائف عدة غير المسلمين، بقوا على دياناتهم ومذاهبهم، ونعموا بعدل الإسلام وسماحته، وتفاعلوا مع العنصر العربي الأصيل الذي قامت عليه الفتوحات الإسلامية في بادئ الأمر.
وواكبت اللغة العربية حركة النهضة العلمية، وأصبحت لغة عالمية بفضل انتشار الإسلام، وفتحت صدرها لتراث الإنسانية، وحفظت ما تركه الأقدمون، حتى أن “روجر بيكون” الذي يعتبر من أعظم من درسوا علوم العرب وحملوها إلى الأجيال الأوروبية التالية، كان يعجب ممن يريد أن يبحث في الفلسفة وهو لا يعرف اللغة العربية، كما أنه اعترف بأن الكتب الإسلامية العربية كانت مصدر العلوم في عصره، واحتكرت المؤلفات العلمية كلغة عالمية فلا تكاد تنشر إلا بها، وأن كتابات أرسطو لم تفهم ولم تلق رواجاً في الغرب حتى أوضحتها كتابات ابن سينا وابن رشد والكندي وغيرهم (45).
ولقد كان الإمام محمد عبده على دراية واسعة بضوابط هذا المنهج التأصيلي للعلوم ومناهجها، فهو يقول عن علوم العرب واكتشافها : كان علم العرب في أول الأمر يونانيا، ولكنه لم يلبث كذلك إلا دون قرن واحد، ثم صار عربياً ، ولم يرض العربي أن يكون تلميذاً لأرسطو وأفلاطون أو إقليدس أو بطليموس زمناً طويلاً كما بقى الأوروبي كذلك عشرة قرون كاملة من التاريخ المسيحي. قالوا “فرنسيس باكون” هو أول من جعل التجربة والمشاهدة قاعدة للعلوم العصرية، وأطلق العلم من رق التقاليد. ذلك حق في أوروبا وأما عند العرب فقد وضعت هذه القاعدة عندهم لبناء العلم عليها في أواخر القرن الثاني من الهجرة (الثامن للميلاد). وأول شئ تميز به فلاسفة العرب عمن سواهم من فلاسفة الأمم بناء معارفهم على المشاهدات والتجربة، وألا يكتفوا بمجرد المقدمات العقلية في العلوم ما لم تؤيدها التجربة، حتى لقد نقل جوستاف لوبون “عن أحد فلاسفة الأوربيين أن القاعدة عند العرب جرّب وشاهد ولاحظ تكن عارفاً” وعند الأوربي إلى ما بعد القرن العاشر من التاريخ المسيحي “إقرأ في الكتب وكرر ما يقول الأساتذة تكن عالماً”. فلينظر المصريون وغيرهم من الشرقيين كيف انقلب الحال، وماذا أعقب من سوء المآل(46).
ويضرب الإمام بعض الأمثلة المنتقاة من العطاء العلمي والتقني الزاخر لعلماء الحضارة العربية الإسلامية فيقول: قال “ديلامير” في تاريخ علم الهيئة: إذا عددت في اليونانيين اثنين أو ثلاثة ن الراصدين أمكنك أن تعد في العرب عدداً كبيراً غير محصور، وأما في الكيمياء فلا يمكنك أن تعد مجرباً واحداً عند اليونانيين، ولكنك تعد من المجربين مئتين عند العرب، ولهذا عدت الكيمياء الحقيقية من اكتشاف العرب دون سواهم. وقد كانوا يعدون الهندسة والفنون والرياضة من الآلات المنطقية، يستعملونها في الاستدلال على القضايا النظرية، وهي من أصدق الأدلة في الإيصال إلى المجهولات كما هو معروف (47).
ويقول الإمام أيضاً: “والعرب أول من استعمل الساعات الدقاقة للدلالة على أقسام الزمن، وهم أول من أتقن استعمال الساعات الزوالية لهذا الغرض. وقد اكتشفوا قوانين الأجسام جامدها ومائعها حتى وضعوا لها جداول في غاية الدقة والصحة، كما وضعوا جداول للأرصاد الفلكية، وكانت تلك الجداول معروفة يطلع عليها الناظرون في سمرقند وبغداد وقرطبة، حتى لقد وصلوا بتلك القوانين إلى ما يقرب من اكتشاف الجاذبية”(48).
ويلفت الإمام انتباه أهل الاختصاص إلى أهمية إحياء هذا التراث العلمي الإسلامي باعتباره الرصيد الحضاري للأمة، فيقول: ولا يمكنني في مقالي هذا أن أعد ما اكتشف العرب ولا ما زادوه في العلوم على اختلاف أنواعها، فذلك يحتاج إلى سفر كبير، وقد أحصى ذلك أهل المعرفة والإنصاف من فلاسفة الأوربيين ومؤرخيهم، وربما يتيسر لأبناء الأمة العربية أن ينشروا ذلك لإخوانهم حتى يعرفوا ما كان عليه أسلافهم”(49).
ويحرص الإمام على أن يبين أن بناء القاعدة العلمية الأولى في المجتمع الإسلامي- أي بناء مجتمع إلى بعض ذلكك قائلاً: “ودالت الدولة لبني العباس واستقرت في نصابها من آل بيت النبي قرب نهاية الثلث الأول من القرن الثاني للهجرة (سنة 132)، ثم نقل المنصور عاصمة الملك إلى بغداد وكان قد جعل من زمنه ما ينفقه في تعلم العلوم الفلكية، وأكمل حفيده الرشيد ما شرع فيه وأمر بأن يلحق بكل مسجد مدرسة لتعليم العلوم بأنواعها، وجاء المأمون فوصلت به دولة العلم إلى أوج قوتها، ونالت به أكبر ثروتها، … وكان من شروط صلحه مع ميشيل الثالث أن يعطيه مكتبة من مكاتب الآستانة فوجد مما فيها من النفائس كتاب بطليموس في الرياضة السماوية، فأمر المأمون في الحال بترجمته وسمّوه “المجسطي”. ولا يسهل على كاتب إحصاء ما ترجم من كتب العلوم على اختلافها في دولة بني العباس أبناء عم الرسول صلى الله عليه وسلم”(50).
كذلك تحدث الإمام عن تشجيع العلم والعلماء وإنشاء المكتبات والمدارس للعلوم وإنشاء المكتبات والمدارس للعلوم، وأشاد بنظام العمل بها، وأشار إلى المراصد الفلكية التي أنشأها المسلمون في العواصم المختلفة. وأكد في نهاية هذا كله على المبدأ العام الذى صحت فيه هذه البيئة العلمية، وتكاملت على أساسه شروط إعداد ما نسميه ” مجتمع المعرفة الأول”، فقال : ” هذا النماء والذكاء العلمى لم يكن حاصاً بطائفة دون طائفة، بل كان الناس فى التمكن من تناوله سواء، وغنما كان التفاضل بالجد والعمل، والفضل في ذلك كله لحلم الخلفاء وأعمالهم وسماحة الدين ويسره وسهولته على أهله وأهل ذمته. قال بعض فلاسفة الغربييين قولاً يعرفه المحق وتثبته المشاهدة: غن شعوب الأرض لم تر قط فاتحاً بلغ من الحلم هذا المبلغ (يريد فاتحى الإسلام على أختلافهم)، ولا ديناً بلغ في لينه ولطفه هذا الحد”(51).
لم يتوقف الأستاذ الإمام عند أمجاد الماضي، ولم يترجم الواقع والحقيقة بلغة الوهم والخرافة، ولكنه وجد أمامه من يخاطبهم- وهو في عنفوان شبابه سنه 1293هــــ- بمثل ذلك المقال الذى كتبه في صحيفة الأهرام الأسبوعية وتحرى فيه أن يكتبه بأسلوبه المخضرم بين القديم والحديث، فقال: ” ليت شعرى إذا كان هذا حالنا بالنسبة إلى علوم قد أرضعت ثدى الإسلام وغذيت بلبانه وتربت في حجره وتقلدت في إيوانه منذ زمن يزيد على ألف سنة.. فما حالنا بالنسبة إلى علوم جديدة مفيدة هي من لوازم حياتنا في هذه الأزمان… لابد لنا من اكتسابها وبذل المجهود في طلبها؟… كنا نؤمل أن المبنج يفيق بشم روح النوشادر… في زمان جرى فيه سيل العلوم حتى عم أنحاء الكرة على العموم… وظهر فيه التوازن بينها وبين أحوالنا المهجنة، كثروتهم وفاقتنان وعزتهم وذلتنا، وقوتهم وضعفنا، وقدرتهم وعجزنا، وصولتهم وانهزامنا، وغير ذلك من المزايا والرزايا التى لا تعد … لكن صمت الآذان، وعميت الأبصار، ختم الله على قلوبهم وسمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم”(52).
لقد كان الشاب محمد عبده يدعو هذه الدعوة إلى الجمع بين الأصاله والمعاصرة وهو في الطليعة من أبناء جيله، ولكنه سجل بها “روشتة” الإصلاح الحقيقى لأحوال الأمة المتردية في عصره، وفي أيامنا هذه أيضاً بعد بداية القرن الواحد والعشرين، وكأنى به قد استشرق كذلك آفاق المستقبل بالنظر إلى البعيد، عندما عبر عن أهمية ” المعلومات” أو ” الأفكار” في حياة الأمم، وذلك بقوله:”إن الغالب في هذه الأوقات اصبح معظمه، إن لم أقل جميعه، تغالب الأفكار والآراء . فالأمة ذات البسطة في الأفكار، والمهارة في المعارف هى الأقوى سلطاناً، والأقوم سياسة، وهي الغالبة على من سواها”(53). إنها دعوة مبكرة إلى تأسيس ” مجتمع المعرفة و المهارة” الذى تتسابق إليه اليوم- في عصر المعلومات والاتصالات- دول كثيرة .
ويؤكد الإمام في دعوته الإصلاحية على أهمية دور المرأة كما قال في رده على هانوتو” ” إن النساء قد ضرب بينهن وبين العلم بما يجب عليهن في دينهن أو دنياهن بستار لا يدرى متى يرفع “”. وقد قال في إحدى خطب الجمعية الخيرية الإسلامية: ” نحن نتمنى تربية بناتنا، فإن الله تعالى يقول : ولهن مثل الذى عليهن بالمعروف… إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي تشرك الرجل والمرأة في التكاليف الدينية والدنيوية.. وترك البنات يفترسهن الجهل وتستهويهن الغباوة من الجرم العظيم”(54) .
(جــــ) الارشارات العلمية في تفسير الإمام محد عبده للقرآن الكريم:
علم تفسير القرآن الكربم، قد قيض الله – تعالى- له رجالاً قضوا معظم أيام حياتهم في خدمته وفي دراسة موضوعاته… فمنهم من كتب ى إعجازه وبلاغته، ومنهم من كتب في قصصه وأخباره، ومنهم من كتب في أسباب نزول بعض آياته، ومنهم من كتب في قراءته ورسمه، ومنهم من كتب في مكيه ومدنيه، ومنهم من اهتم بإبراز الجوانب الفقهية أو الاجتماعية أو النفسية أو السلوكية او اللغوية أو التربوية أو غير ذلك من الجوانب الإصلاحية. وما ذلك كله إلا لأن تقسير القرآن الكريم هو المفتاح الذى يكشف عن تلك الهدايات السامية والتوجيهات النافعة، والعظات الشافية، والكنوز الثمينة التى احتواها القرآن الكريم. ودون تفسير القرآن الكريم تفسيراً سليماً مستنيراً، لا يمكن الوصول إلى ما اشتمل عليه هذا الكتاب من هدايات وتوجيهات، مهما قرأها القارئون، وردد ألفاظه المرددون(55) .
ومصطلح ” التفسير” في أصله اللغوى راجع- فيما يقول الزركشى- إلى الإظهار والكشف، وأصله في اللغة من ” التفسرة”، وهى القليل من الماء الذى ينظر فيه الأطباء، فكما أن الطبيب بالنظر فيه يكشف عن علة المريض، فكذلك المفسر يكشف عن شأن الآية وقصصها ومعناها، والسبب الذى نزلت فيه(56) . ولما كان ذلك كذلك، فإنه يمكن استثمار هذا المعنى وتوجيهه لصالح المعنى الإصلاحى، كأن ينظر المفسر- مثلا- إلى الآية ليرى من خلالها أوضاع الأمة وعللها وأستقامهان ليرى أحوال واقعها وموقعها بين الأمم، ويرى كيف يكون القرآن هادياً ومرشداً لها فى جوانب الحياة المختلفة. فهى أمة الخلافة، وهو رسالة الحضارة إلى البشرية كلها. ومن ثم تصبح أولى مهمات التفسير في معناه الإصلاحى هى إظهار القرآن وإعجازة فى إطار وإعجازه فى إطار المواجهات الحضارية بين هذه الأمة والأمم الأخرى على مختلف الصعد، وفي إطار مفهوم الخلافة الذى أنيط تحقيقه بهذه الأمة. هذا فضلاً عن المهمة الأساسية لتفسير القرآن، وهى إظهار الحلول القرآنية للمشكلات التى تواجه أمة الرسالة ابتداءً، بل التى تواجه المجتمع البشرى عموماً(57) .
وقد انتقد الإمام محمد عبده التفسير حين يطغى عليه الصبغة اللغوية، ووصفه بأنه جاف مبعد عن الله وكتابه، وهو ما يقصد به حل الألفاظ وإعراب الجمل، وبيان ما ترمى إليه تلك العبارات والإرشادات من النكت الفنية، فقال: وهذا لا ينبغى أن يسمى تفسيراً، وإنما هو ضرب من التمرين في الفنون كالنحو والمعانى(58).
وصرح- رحمه الله- بالمراد الحقيقى من تفسير القرآن، فقال: ” التفسير الذى نطلبه هم فهم الكتاب ن حيث هو الدين، يرشد الناس ما فيه سعادتهم في حياتهم الدنيا وحياتهم الآخرة، وما وراء هذه من المباحث تابع له، وأداة أو وسيلة إلى تحصيله”. ” وإننا نعتقد أن المسلمين ما ضعفوا أو زال ما كان لهم من الملك الواسع إلا باعراضهم عن هداية القرآن، وأنه لا يعود إليهم شيء مما فقدوا من العز والسيادة و الكرامة إلا بالرجوع إلى هدايته والاعتصام بحبله”(59).
وانطلاقاًمن هذا المبدأ حاول الإمام أن يجعل الحقائق العلمية المتاحة في عصره خادمة لتفسير بعض آيات القرآن الكريم. والموضوع من هذه الناحية متعلق بقضية مفتعلة بين فريقين من العلماء بشأن ما يعرف بالإعجاز العلمى في القرآن الكريم: أولهما، يرى أن القرآن الكريم لا شأن له بالعلوم الطبيعية، ويعتقد أن الأعجاز العلمى فيه خروج بالقرآن عن الهدف الذى أنزل من أجله وإقحام له في مجال مروك للعقل البشرى، يجرب فيه ويخطىء ويصيب، فالقرآن ما هو إلا كتاب أنزل للناس للإرشاد والهداية وبيان التكاليف واحكام الآخرة. وهذا ولا شك قول حق، ولكنه ليس كل الحق، ذلك أن الله شاءت حكمته ان يكون إرشاد الناس وهدايتهم بوسائل متنوعة، وهو سبحانه وتعالى خبير بعباده، فهو تارة يخاطبهم بما يمس قلوبهم مساً رقيقاً، وهو تارة أخرى يقرع عقولهم قرعاً قوياً شديداً، وكان أبرز ما جلى به أبصارهم وأنار بصائرهم حضه إياهم على التدبير في ىيات خلقه. وهذا ما شجع الفريق الآخر من العلماء الذين يرون فى الإعجاز العلمى للقرآن الكريم لوناً من التفسير فيه فتح جديد وتجديد فى طريق الدعوة إلى الله وهداية الناس إلى دين الله. فلقد أنزل الله- سبحانه وتعالى- على رسوله الأمين محمد صلى الله عليه وسلم كتاباً مقروءاً يبلغه للناس، القرآن الكريم، وخلق لنا الكون كتاباً منظوراً يعبر بلسان الحال عما جاء فى الكتاب المسطور بألطف الإرشارات، وكلا الكتابين مصدران للحقائق الدينية والعلمية على حد سواء، وهما من عند الحق المطلق، فلا ينبغى طلب الحق إلا فيهما، أو على هديهما. وكم من آيه قرآنية كريمة إذا مستها يد العلم أبانت اسرارها وإعجازها. وما تكذيب الكفار بالقرآن وقت نزوله إلا لنهم اعتزوا بما علموا، فعدوا كذباً كل ما يخالف معارفهم البدائية، فعاب القرآن الكريم ذلك عليهم وشهر بجهلهم في قوله تعالى: } بل كذبوا بما لم يحطوا بعلمه ولما يأتيهم تأويله{(سورة يونس: 39). ون ثم، لا يمكن لعاقل أن يتصور وجود تصادم أو تعارض بين الدين الصحيح والعلم الصحيح، وهل يعقل أن يتصادم الحق ع نفسه؟ إن الحق لا يتعارض مع الحق، با يوافقه ويشهد له.(60)
وليس هناك شك فى أن ارتقاء العلوم الحديثة ونجاحها في استكشاف حقائق جديدة عن الكون يعتبر من العوامل التى ساعدت على الأجتهاد في تسخير العلم الكونى لتجليه معاني جديدة لآيات القرآن الكريم، شريطة أن يكون الاجتهاد في ذلك المجال وفق منهاج رصين محدد ينبغى الالتزام به لكى لا يساء إلى الهدف النبيل، على أن يراعى فقه استخدام المفردات اللغوية، وتراعى القواعد النحوية والبلاغية ودلالاتها، خصوصاً قاعدة ألا يخرج اللفظ من الحقيقة إلى المجاز إلا بقرينه كافية.
وقد عرض الإمام محمد عبده في حديثه عن الإسلام وأصوله لهذه القضية بصورة عامة، موضحاً ” أن القرآن يذكر إجمالاً من آثار الله في الأكوان تحريكاً للعبرة، وتذكيراً بالنعمة، وحفزاً للفكرة، لا تقريرا للقواعد الطبيعية ولا إلزاما باعتقاد خاص في الخليقة وأن الإسلام أطلق للعقل البشرى ان يجرى في سبيله الذى سنته له الفطرة بدون تقييد، وأن معجزة القرآن جامعة من القول والعلم، وكل منهما مما يتناوله العقل بالفهم…، وهو معجزة أعجزت كل طوق أن يأتى بمثلها، ولكنها دعت كل قدرة أن تتناول ما تشاء منها” (61).
ويمكن التعرف على بعض جوانب منهج الإمام محمد عبده في تفسيره للقرآن الكريم، بصورة عامة، من النماذج الثلاثة التالية:
اتجه الإمام إلى إبراز رأيه، ولو خالف رأى جمهور المفسرين، عند تفسيره لقوله تعالى:}ألو تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم غن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون{( سورة البقرة:243). فجمهور المفسرين – وربما جميعهم – يرون ان المراد بالإماتة والأحياء معناهما الحقيقى الحسى، وأن الموت كان موتاً حقيقياً حسياً لهم، وأن إعادتهم الى الحياة بعد ذلك كانت إعادة حقيقية حسية. وقد خالف الإمام محمد عبده – رحمة الله- إجماع المفسرين أو جمهورهم، فرأى أن المراد بالموت في الىيةن فالموت المعنوى، بمعنى أن موت الأمم إنما هو في جبنها وذلتها، وأن حياتها إنما تكون فى عزلتها وحريتها، فقال :” والمتبادر من السياق أن أولئك القوم قد خرجوا من ديارهم بسائق الخوف من عدو يهاجم، لا ن قتلهم فقد كانوا ألوفاًن وإنما هو الحذر من الموت يولده الجبن فى أنفس الجبناء…. لقد خرجوا فارين، فأماتهم الله بإمكان العدو من رقابهم، وأفنى قوتهم، وصاروا لا وجود لهم فى أنفسهمن وغنما وجودهم تابع من أذلهم وأزال استقلالهم. فلما غيروا ما بأنفسهم، فجمعوا كلتهم، وطردوا أعداءهم، عادت إلىهم الحياة، وعادت غليهم حريتهم وكرامتهم. وموت الأمم في جبنها وذلتها، وحياتها فى استقلالها وحريتها”، فهو – رحمة الله – يرى أن الموت والحياة فى الآية معنويان(62).
أفاد الإمام من المعرفة العلمية المتاحة فى عصره وجعلها في خدمة تفسير القرآن الكريم، على غرار ما جاء في تفسير قوله تعالى،}والسماء وما بناها{(سور الشمس :5)، يقول ” السماء لما علاك وارتفع فوق رأسك. وأنت غنما تتصور- عند سماعك لفظ الساء- هذا الكون الذى فوقك: فيه الشمس والقمر وسائر الكواكب تجرى فى مجاريها وتتحرك فى مداراتها، هذا هو السماء. وقد بناه الله أى رفعه، وجعل كل كوكب من الكواكب منه بمنزلة لبنة من باء سقف أو قبة أو جدران تحيط بك، وشد هذه الكواكب بعضها الى جانب بعض برباط الجاذبية العامة، كما تربط أجزاء البناء الواحد بما يوضع بينها مما تتماسك به”(63).
وفى تفسيره لقوله تعالى:}والسماء ذات البروج{(سورة البروج:1)، يستعين بما جاء فى علم الهيئة (الفلك) عن البروج الإثنى عشر التى ترى صورها فى الأشكال الحاصلة من اجتماع بعض الأجرام على نسب خاصة، وتنتقل فيها الشمس فى ظاهر الرؤية، ويوضح أنها ستة فى شمال خط الاستواء وستة أخرى في جنوبه، ثم يشرح ذلك تفصيلاً على ضوء ما هو معروف من تتابع الفصول الأربعة نتيجة تغير منازل الشمس(64).
وفى تفسيره لأول آيات سورة النازعات: }والنازعات غرقا(1) والناشطات نشطًا(2) والسابحات سبحًا(3) فالسابقات سبقًا(4) فالمدبرات امرًا{(الآيات: 1-5) لم يبق إنها الملائكة أو النجوم مثلما قال اكثر المفسرين، بل قال ك هى الكواكب والاقمار، وهى”المسابقات فى سبحها فى الأجواء، فتتمم دورتها حول ما تدور عليه فى مدة أسرع مما يتمم غيرها: كالقمر يتمم دورته فى شهر قمرى، وكالأرض تتمم دورتها فى سنة شمسية، ونحو ذلك من السيارات، ومنها ما لا يتمم دورته إلا فى سنتين، لكن السابقات هى التى انفردت بتدبير بعض الأمور الكونية فى عالمنا الأرضى كما قال }فالمدبرات أمرَا{وليس التدبير إلا ظهور الأثر، فسبق القمر علنا حساب شهوره ، وله من الأثر فى السحاب والمطر، وفى البحر من المد والجزر، ولضيائه أيام امتلائه من الفوائد فى تصريف منافع الناس والحيوان مالا يخفى على ذى بصيرة. وسبق الشمس فى أبراجها- على ما يرى للناظر- علمنا حساب شهورها، وسبقها إلى تتميم دورتها السنوية علمنا حساب السنين من جهة، وخالف بين فصول السنة من جهة أخرى. واختلاف الفصول من أسباب حياة النبات والحيوان، ونسبة التدبير إليها لأنها أسباب ما نستفيده منها والمدبر الحكيم هو الله جل شأنه”(65).
وفى تفسيره لسورة العاديات يقول: أقسم – جل شأنه – بالخيل متصفة بصفاتها التى ذكرها، آتية بالأعمال التى سردها، لينوه بشأنها ويعلى من قدرها فى نفوس المؤمنين أهل العمل والجد ليعنوا بقنيتها وتدريبها على الكر والفر، وليحملهم أنفسهم على العناية بالفروسية والتدرب على ركوب الخيل والإغارة بها ليكون كل واحد منهم مستعداً فى أى وقت كان لأن يكون جزءاً من قوة الأمة إذا اضطرت إلى صدّ عدو، أو بعثها باعث على كسر شوكته. وكان فى هذه الآيات القارعات، وفى تخصيص الخيل بالذكر فى قوله:}وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم{، وفيما ورد من الأحاديث- التى لا تكاد تحصر- ما يحمل كل فرد من رجال المسلمين على أن يكون فى مقدمة فرسان الأرض مهارة فى ركوب الخيل(66).
3- على الرغم مما يروى عن ألمعية الإمام محمد عبده وذكائه وجهوده النيرة التى خدمت النص القرآنى وكشفت عن جوانب عديدة فى هدايته وإعجازه، ومع نقد الإمام الشديد للجوانب السلبية فى العمل التفسيرى القديم، وحرصه- قبل أن يلقى درسه فى التفسير- على أن يطلع على خمسة وعشرين تفسيراً لكتاب الله، إلا أن بعض العلماء والمفسرين والباحثين يرون أن النزعة العقلية عند الأستاذ الإمام ، والتى كان فيها متأثراً بمذهب المعتزلة، قد تركت بصماتها على تفسيره للقرآن سلباً وإيجابياً، وكان الجانب السلبى متمثلاً فى تضيق مجال الغيبيات، وتفسير كثير منها تفسيراً مادياً، وأدت هذه النزعة غلى إنكار بعض الأحاديث الصحيحة، أو حمل فهمها على مذهبه العقلى، يسعفه فى ذلك تمكنه من علوم اللغة والبلاغة. فلقد فسر بعض آيات القرآن على غير وجهها وابتغى فيها غير سبيلها . مثال ذلك تفسيره للمعوذتين فى تفسير جزء عم. ويعزى البعض سبب هذه النظرة إلى الوضع المأساوى الذى وصلت إليه الأمة، إضافة إلى الهجمة العلمانية الشرسة على تعاليم هذا الدين فى زمن بدأ العلم فيه يقفز قفزات مذهلة، فكان على الإمام أن يغير هذا الوضع بتفسير ينسجم ورؤى العقل المعاصر، وهو- فى رأى البعض- أمر لا يسوغ مهما كانت الدوافع إليه(67).
خاتمة:
نخلص من هذه الدراسة المتواضعة إلى أن مرور مائة عام على رحيل الإمام محمد عبده لم يُغير
كثيراً من الأفكار التى كانت سائدة فى عصره، والتى دعته إلى قضاء جل ّعمره داعية للإصلاح والتنوير. فقضايا عصره لا تزال فى الأغلب قضايا عصرنا الحاضر أيضاً، ذلك أن الأمة الإسلامية تعانى اليوم من أزمة مستحكمة، ليس بسبب نقص فى قدراتها وإمكاناتها أو عجز فى مواردها وثرواتها التى حباها بها الله فى البر والبحر والجو، وإنما بسبب افتقادها لمنظومة منهجية متوازنة، تنطلق من مرجعية فكرية رشيدة توجهُ ألى حسن التعامل مع هذه الموارد والثروات من جهة، ومع الآخر من جهة أخرى، وتعين على إبصار الأولوياتن وتساعد على ضبط النسب المختلة، فى ضوء القراءة الدقيقة المتأنية لمتغيرات العصر المتلاحقة، مع بداية الألفية الثالثة الموسومة ” بألفية المعرفة” ، لتحدد صورة المجتمع الذى نريده فى المستقبل القريب و البعيد(68).
ومما يزيد من تفاقم هذه الأزمة التى تعيشها أمتنا العربية والإسلامية اليوم أن معظم المشاركين فى الحوار والتنظير لا يستطيعون الفكاك والتحرر من أسر أيديولوجياتهم الخاصة، ويتشبثون بنظريات وفلسفات وأنساق فكرية قديمة أو وافدة،سقط بعضها سقوطاً ذريعاً من حركة التاريخ، لنها خالفت طبيعة الوجود الإنسانى ذاته، وانحرفت عن قواعد الناموس الكونى العام، وهذا من شأنه أن يؤثر سلبياً على وضوح الرؤية ومعايير التقييم والمراجعة، فتضيع معه جهود التصويب والإصلاح التى غالباً ما تكون ردود أفعال سريعة للأحداث، فتنصرف إلى معالجات مؤقتة، أو تشغل بإعادة ترميم الأشياء، أكثر مما تنصرف إلى إصلاح جذرى للأعطاب التى تلحق بالنسق الفكرى، وتنعكس على الحياة والواقع … ويؤدى تراكمها بمرور الوقت إلى اتساع الخرق على الراقع(69).
وازمة الفكر على هذا النحو ذات أبعاد متعددة، يشارك فيها مؤسسات التعليم والأعلام والتربية بصورة مباشرة، وتتحكم فيها كل الموارد الفكرية والثقافية مجتمعة، ومن ثم فإن طريق الإصلاح بطبيعته سيكون طويلا وشاقاً، ولابد معه من الصبر والحكمة، بعد أن أصبح جدار التخلف سميكاً يحتاج إلى جهد جاهد لحث الهمم وإستثارة العزائم، وخاصة أن قضايا الإصلاحات الفكرية تستغرق الكثير من الوقت فى البحث والحوار قبل أن تتبلور الفكار الناضجة.
إن منهج الإصلاح والتنوير الذى خلفه الإمام محمد عبده يؤكد لنا اليوم أن مبدأ الاستخلاف الذى يطرحه الإسلام بحاجة ماسة غلى ترسيخ مفهومه الصحيح فى بؤرة اهتمام المسلمين باعتباره واحداً من المبادىء الإسلامية الحاكمة التى يرفدها العلم والعمل معاً ليمكنا لها فى الأرض ونظرة الإسلام الشاملة، بوسطيته الجامعة المحيطة لماهية الإنسان، وانافذة إلى أغوار طبيعته الإيمانية، تفسح له المجال للتعرف على حقيقة موقعه من الوجود، وتدفعه غلى الارتقاء المتوازن على طريق التقدم الحضارى بمعدلات أسرع من غيره اضعافاً مضاعفة، فيحرز بذلك ما يوفر له السعادة القصوى فى الدارين. ويتضح فى المقابل أن تخلف الأمة علمياً و تقنياً يعنى أنها تعطل اداء فريضة طلب العلم الواجبة، وأن غياب التحضر والعمران يعنى أن المجتمع لا يقوم بواجبات الاستخلاف ولا يحقق غايات الإسلام الذى ينتسب إليه.
وجماع القول فى مذهب الأستاذ الإمام – فيما يقول الأستاذ عباس محمود العقاد رحمة الله- أنه كان مذهب ” المصلح الإسلامى المفكر” الذى أعطى التفكير النظرى كل حقه ولكنه أخذ منه حق العمل على الإصلاح الرشيد المستنير، واستخلص منه العقيدة الإسلامية خالصة من عقبات الجمود والخرافة التى تصّدها عن التقد وتقعد بها عن مسايرة الزمن والتأهب للحياه بأهبة العقل البصير والضمير الحرّ والكفاية الخلقية والمادية لمناهضة القوة الستطلة عليها بسلاح العلم والمال- تلك القوة التى انزلت المسلمين فى العصر الحديث منزلة المغلوبين المستبعدين، ومن حقهم لو عرفوا دينهم حق معرفته أن يرتفعوا بأنفسهم عن مهانة الخنوع والاستبعاد(70).
إن الباحث المدقق فى المنهج الإصلاحى للإمام محمد عبده لا يجد صعوبة اليوم فى الإفادة منه بتحديد القضايا الكبرى للامة متمثلة فى عقيدة إيمانية يجب ان تبقى راسخة فى قلوب أبنائها وعقولهم، ولغة عربية يجب صونها من العجمة، ورصيد حضارى لحضارة مميزة يجب الحفاظ عليه بعد تنقيته، والإفادة منه، وتفوق علمى وتقنى ينبغى تحقيقه بمهارة لتوفير الأمن القومى الشامل. هذه هى روح ما نسميه ” ثقافة الإصلاح والتنمية بالعلم والإيمان”، وهى الثقافة التى نحتاج إلى نشرها بكل قوة ووعى فى جوانب الحياة كلها لبعث الأمة من مرقدها. ولعلها دعوة لأبناء هذه الأمة أن يرفعوا رؤوسهم فوق سطح الماء فى هذا المحيط العالمى الهادر، وأن يبصروا طريقهم بنور الله ويتبعوا صراطه المستقيم، وإنهم وأيم الله بذلك مطالبون ، وعليه محاسبون. والله المستعان من قبل ومن بعد.
الهوامش
(*) بحث مقدم في احتفالية مكتبة السكندرية بمئوية الإمام محمد عبده 4-5/12 /2005.
(**) استاذ بكلية العلوم، جامعة القاهرة.
1- محمد عبده،الإسلام دين العلم والمدنية، القاهرة ، دار الهلال، (د.ت).
2- الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده، دراسة وتحقيق د.محمد عمارة، القاهرة، دار الشروق، 1993م.
3- عباس محمود العقاد، عبقرى الإصلاح والتعليم: محمد عبده، القاهرة، نهضة مصر، (د.ت).
4- د.مجاهد توفيق الجندى، قراءة أولى فى وثائق مجهولة: أضواء جديدة على أوراق من ملف الإمام محمد عبده، مجلة الأزهر ، الجزء 9، السنة 78، رمضان 1426هــــ- أكتوبر 2005م.
5- عن المصدر السابق.
6- د.عبد المنعم حفنى، الموسوعة الفلسفية، بيروت: دار ابن زيون- مكتبة مدبولى القاهرة(د.ت).
7- د. محمد كامل ضاهر، الصراع بين التيارين الدينى والعلمانى فى الفكر العربى الحديث والمعاصر، بيروت : دار البيرونى للطباعة والنشر، 1994.
د.يوسف سلامة، النزعة العقلية عند محمد عبده، الفلسفة والعصر، العدد الأول، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة 1999.
8- الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده، مرجع سابق.
9- الشيخ الإمام محمد عبده، الإسلام دين العلم والمدنيةن تحقيق ودراسة : د.عاطف العراقى، مكتبة الأسرةن الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1998م.
10- ميشال جحا، ابن رشد بين فرح انطوان ومحمد عبده،مجلة الاجتهاد، العدد 30، بيروت 1416هـ-1996م.
ألبرت حورانى، الفكر العربى فى عصر النهضة ، بيروت: دار النهار للنشر، ط 4 (1986).
11- عباس محمود العقاد، عبقرى الإصلاح محمد عبده، القاهرة: نهضة مصر، (د.ت.)
12- عباس محمود العقاد، المرجع السابق.
(*) اسحق نيوتن رياضى وفيزيائى إنجليزى معروف باكتشافه قوانين الحركة والجاذبية، ووضع علم التفاضل والتكامل، وتفسيره لحركة الكواكب وتوابعها، وظاهرتى المد والجزر، وانتشار جسيمات الضوء في خطوط مستقيمة، وغيرها.
(*) توماس هكسلى عالم الأحياء الإنجليزى المعروف بتحمسه لنظرية داروين فى النشوء والارتقاء، وهو جد ” جوليان هكسلى” صاحب كتاب” الإنسان يقوم وحده” Man Stands Aloneالذى يدعو فيه غلى الإلحاد مستنداً إلى أدلة يحسبها علمية، فانبرى له ” كريسى موريسون” بكتاب ” الإنسان لا يقوم وحده” Man does not Stands Alone” الذى ترجمه محمود صالح الفلكى بعنوان ” العلم يدعو للإيمان”. كذلك قام وحيد الدين خان بالرد عليه فى كتابه المعروف بعنوان ” الإسلام يتحدى”.
13- روبرت م. أغروس وجورج ن. ستانسيون، العلم فى منظوره الجديد، الترجمة العربية، الكويت : عالم المعرفة، 1989.
14- د. عبد المنعم حفنى، الموسوعة الفلسفية، رجع سابق.
– د.محمد محمود ربيع، الإسلام فى مواجهة الأيديولوجيات والفلسفات العاصرة، مجلة مصر المعاصرة، العدد 386 (1981)، ص ص5-44.
– المعجم الفلسفى، مجمع اللغة العربية، القاهرة 1983م.
– أ.م. بوشنسكى، الفلسفة المعاصرة فى أوروبا، الترجمة العربية، الكويت : عالم المعرفة، 1992م.
15- تذكر بعض المراجع أن الفيلسوف الإنجليزى هربرت سبنسر H.Spencer(1820-1903م) هو الذى صك عبارة” البقاء للأصلح” التى تبناها دارون فى الطبعة الخامسة من كتاب “أصل الأنواع ” ثم جلبت إلى الداروينية متاعب جمة. بل إن سبنسر هو الذى أشاع كلمة ” التطور” Evoluationنفسها للتعبير عن نظرية داروين عن ” الأنحدار مع التحول” Decent with modification ودرج الناس على اعتبار ” الداروينية” مرادفاً للتطور مع أن الداروينية تشير إلى نظرية بعينها أعلنها تشارلز داروين وألفرد رسل ولاس عام 1858م تحدد ” الانتخاب الطبيعى” آلية لحدوث التطور. وقد حاول سبنسر وضع نظرية فلسفية كاملة، أو ” فلسفة تركيبية” كما كان يسميها تشرح كل العلوم العروفة فى ضوء التطور، فانبرى يؤلف سلسلة من الكتب فى علوم البيولوجيا والاجتماع والأخلاق التربوية وغيرها بين عامى 1860، 1896م.
16- نشرت أعمال وتعليقات عديدة لمناقشة المجادلات الداروينية بدأها آرثر شيلزنجر Arthur M.Schleisingerأستاذ التاريخ بجامعة هارفارد فى عام 1932 بمقاله الشهير بعنوان ” فترة حرجة فى الدين الأمريكى بين عامى 1875، 1900″ وأشار فيه إلى أن الدارونية تعتبر واحدة من ثلاثة أشياء تهدد الدين فى الربع الأخير للقرن التاسع عشر.
17- د. عبد الحافظ حلمى محمد، الاستقبال المبكر للداروينية فى بعض البلاد الإسلامية، محاضرة ألقيت فى لمركز الثقافى الفرنسى بالقاهرةفى 15/11/1994.
18- لمزيد ن التفصيل، انظر البحث القيم للأستاذ الدكتور عبد الحافظ حلمى محمد، مرجع سابق. انظر أيضا: د. يوسف عز الدين عيسى، الدارونية فى الميزان، مجلة عالم الفكر، المجلد 11، العدد الرابع، الكويت 1981.
19- د. على جمعه، الإمام محمد عبده مفتياً، مجلة الأزهر، الجزء (8)، السنة(78): شعبان 1426هــــ سبتمبر 2005م.
د.محمد البهى، الإمام محمد عبدة، سلسلة دراسات إسلامية (116)، القاهرة: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، 2005م.
20- د.عبد الحافظ حلمى محمد، مرجع سابق.
جمال الدين الأفغانى، الرد على الدهريين. ترجمة عن الفرنسية الشيخ محمد عبده، القاهرة: المطبعة الرحمانية، 1925.
21- الشيخ الإمام محمد عبده، الإسلام دين العلم والمدنية، مرجع سابق.
22- الاعمال الكاملة للإمام محمد عبده، مرجع سابق.
23- الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده: رسالة التوحيد- تعليق السيد رشيد رضا- الطبعة الثامنة، مصر: مطبعة عيسى البابى الحلبى(د.ت).
24- الأعمال الكاملة– مرجع سابق.
25- تفسير المنار، الجزء 483 نقلاً عن تشارلز آدمس: الإسلام والتجديد، نقله عباس محمود، القاهرة 1935 ص143.
26- د. زينب محمود الخضيرى، التطور والإصلاح عند محمد عبده، بحوث ودراسات، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 1995.
27- روبرت أغروس وجورج ستانسيو، مرجع سابق.
28- الأعمال الكاملة للشيخ محمد عبده، مرجع سابق.
29- الأستاذ محمد عبده، محمد عبده، تفسير جزء عم، القاهرة: كتاب الشعب (1)، مطابع الشعب (د.ت).
30- الأعمال الكاملة للشيخ محمد عبده، مرجع سابق.
31- رسالة التوحيد، ضمن الأعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده، المرجع السابق.
32- الأستاذ محمد عبده، تفسير جزء عم . مرجع سابق.
33- د. محمد عمارة، الإمام محمد عبده، مشروع حضارى للإصلاح بالإسلام، مجلة الأزهر، الجزء(8)، 2005، ومجلة وجهات نظر، العدد 78، يوليو 2005.
محمد محى الدين عبد الحميد، رسالة التوحيد لحكيم الإسلام الشيخ محمد عبده. القاهرة: مكتبة ومطبعة محمد على صبيح وأولاده، 1996.
34- د. أحمد فؤاد باشا، دراسات إسلامية فى الفكر العلمى، القاهرة: دار الهداية، 1987.
………، الإسلام والعولمة: مفاهيم وقضايا، القاهرة: كتاب الجمهورية، 2000.
………، فى فقه العلم والحضارة، القاهرة: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، 2003.
35- د. يحيى هاشم فرغل، حقيقة العلمانية بين الخرافة والتخريب، القاهرة: الأمانة العامة للجنة العليا للدعوة الإسلامية بالأزهر الشريف، 1989.
36- د. أحمد فؤاد باشا، دراسات إسلامية فى الفكر العلمى، مرجع سابق .
37- الشيخ الإمام محمد عبده، الإسلام دين العلم والمدنية، مرجع سابق.
38- د. محمد عمارة، رسالة التوحيد للإمام محمد عبده، السلسلة الإسلامية، مرجع سابق.
39- عباس محمود العقاد، مرجع سابق.
40- مقال للإمام محمد عبده، نشر عام 1876 نقلاً عن تشارلز آدمس: الإسلام والتجديد ص137.
41- د. زينب الخضيرى مرجع سابق.
راجع فى ذلك:
– د. أحمد فؤاد باشا، التراث العلمى للحضارة الإسلامية، القاهرة: دار المعارف 1983.
– دونالد ر.هيل، العلوم والهندسة فى الحضارة الإسلامية، ترجمة د. أحمد فؤاد باشا، الكويت: سلسلة عالم المعرفة 305)، ، يوليو 2004.
42- د. أحمد فؤاد باشا، فلسفة العلوم بنظرة إسلامية، القاهرة: دار المعارف 1984.
43- راجع فى ذلك :
د. أحمد فؤاد باشا، أساسيات العلو المعاصرة فى التراث الإسلامى: دراسات تأصيلية، القاهرة: دار الهداية، 1997م.
44- د. أحمد فؤاد باشا، التراث العلمى الإسلامى: شىء من الماضى أم زاد للآتى، القاهرة: دار الفكر العربى، 2004 م.
45- الشيخ الإمام محمد عبده، الإسلام دين العلم والمدنية، مرجع سابق.
46- المرجع السابق.
47- المرجع السابق.
48- المرجع السابق.
49- المرجع السابق.
50- المرجع السابق.
51- عباس محمود العقاد، مرجع سابق.
52- الأعمال الكاملة، مرجع سابق.
53- عباس محمود العقاد، مرجع سابق.
54- أ.د. محمد سيد طنطاوى، الإمام محمد عبده مفسراً، مجلة الأزهر، الجزء الثامن شعبان 1426هــــــ سبتمبر 2005 م.
55- بدر الدين محمد بن بهادر الزركشى، البرهان فى علوم القرآن، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ، القاهرة: مطبعة الحلبى، (1957)، ج 20، ص: 147.
56- د.زياد خليل محمد الدغامين، مجلة المسلم المعاصر، العدد: 81 ( 1417هـــ 1996م).
57- إبراهيم خورشيد، دائرة المعارف الإسلامية، القاهرة: دار الشعب، (د.ت).
58- محمد رشيد رضا، تفسير المنار، بيروت : دار الفكر، ( 1973م) ج:1 :ص 17-31 .
59- د. أحمد فؤاد باشا، رحيق العلم والإيمان، القاهرة: دار الفكر العربى، 2002 م.
د. عبد الحافظ حلمى محمد، العلوم البيولوجية فى خدمة تفسير القرآن الكريم، مجلة عالم الفكر، الكويت 1982.
د. محمد إبراهيم شريف، هداية القرآن فى الآفاق والأنفس وإعجازه العلمى، دعوة ضرورية ومنهج واجب، 1986.
60- الشيخ الإمام محمد عبده، الإسلام دين العلم والمدنية، مرجع سابق.
61- أ.د محمد سيد طنطاوى، مرجع سابق.
62- جزء عم، تفسير الأستاذ الإمام محمد عبده، مرجع سابق.
63- المرجع السابق.
64- المرجع السابق.
65- المرجع السابق.
66- راجع ذلك:
د. زياد خليل محمد الدغامين، مرجع سابق.
د.أحمد عمر هاشم، الإمام محمد عبده مجدداً، مجلة الأزهر، الجزء 9، رمضان 146هـــــ – اكتوبر2005 م.
جزء عم، تفسير الأستاذ الإمام محمد عبده، مرجع سابق.
67- د. أحمد فؤاد باشا، فى التنوير العلمى، القاهرة: دار الفكر العربى، 2005 م.
68- المرجع السابق
69- عباس محمود العقاد، عبقرى الإصلاح والتعليم: الإمام محمد عبده، مرجع سابق .